You also want an ePaper? Increase the reach of your titles
YUMPU automatically turns print PDFs into web optimized ePapers that Google loves.
تھذیب<br />
<strong>شرح</strong> العقیدة الطحاویة<br />
تھذیب وتعلیق<br />
عبد المنعم مصطفى حلیمة<br />
" أبو بصیر الطرطوسي "<br />
5
Π<br />
)<br />
إن َّ اللھَ لایغفرُ أن یُشرَك بھ ویَغفرُ مادون ذلك لمن یشاءُ)<br />
سورة النساء:<br />
6
)<br />
المقدمة :<br />
إن الحمدَ نحمدُه ونستعینھ ونستغفره، ونعوذُ باللھ من شرور أنفُسِنا،<br />
ومن سیئات أعمالنا، من یھده اللھ فلا مضل َّ لھ، ومن یُضلل فلا ھادي لھ.<br />
وأشھدُ أن لا إلھ إلا اللھ وحده لاشریك لھ، وأشھد أن محمداً عبدُه<br />
ورسُولھ.<br />
یا أیھا الذین آمنوا اتقوا اللھ حق َّ تقاتھ ولاتموتن َّ إلا وأنتم مسلمون)<br />
آل عمران:<br />
7
"<br />
كلھ یعود للخواء العقدي والإِیماني الذي یعاني منھ الناس، ولجھلھم الكبیر<br />
بمتطلبات ولوازم شھادة التوحید أن لا إلھ إلا اللھ، محمداً رسُول اللھ<br />
والمسلم بعقیدتھ وإیمانھ والإیمان تصدیق وقول وعمل، یزید<br />
بالطاعات، وینقص بالذنوب والمعاصي وارتكاب الموبقات فإن كمل<br />
إیمانھ اجتمع لھ كمال الخیر في الدنیا والآخرة، وإن شابھ نَقْصٌ تحقق لھ من<br />
الذل والشرود عن الحق بقدر ما تحقق من ثلمٍ ونقصٍ في عقیدتھ وتوحیده.<br />
وثَم َّةَ أمرٍ أیضاً لابد من الاتفاق علیھ والتسلیم بھ، وھو أن العقیدة<br />
الإسلامیة حتى تحقق ثمارھا المرجوة، یجب أن تُدَر َّ س الناسَ بلغة سھلة<br />
بسیطةٍ، وباسلوب بعید عن تعقیدات أھل الكلام وتعبیراتھم، لیتمك َّن الجمیع<br />
من دراستھا وفھمھا من غیر صعوبة أو حرج. كما یجب أن تكون ھذه<br />
العقیدة مستمدةً من نصوص الكتاب والسنة مع مراعاة فھم السلف الصالح<br />
رضوان اللھ علیھم لھذه العقیدة، وتقدیم أقوالھم على غیرھم ممن یخالفونھم<br />
الفھم والقول، فھم مما لاشك فیھ أفھم خلق اللھ بمراد الرسُول<br />
المنصوص على وجوب اتباعھم، واقتفاء آثارھم، كما في قولھ تعالى :<br />
[ومن یشاقق الرسولَ من بعد ما تبین لھ الھدى ویتبع غیرَ سبی ِل<br />
المؤمنین نولھ ما تولى ونُصلھ جھنمَ وساءت مصیرا]<br />
."<br />
ε، وھم<br />
-<br />
النساء :<br />
-<br />
8
-<br />
-<br />
-<br />
-<br />
-2<br />
-4<br />
-5<br />
1- سعة انتشار الكتاب في أمصار المسلمین، واعتماده بین المسلمین<br />
كمرجع عقدي حوى في صفحاتھ عقیدة أھل السنة والجماعة، لذا فالكتاب<br />
في نظري یحتاج لمزید من الخدمة والتبسیط، لیتحقق بھ أكبر قدر من النفع،<br />
ولیتمكن من قراءتھ وفھمھ الخاصة والعامة، فالتوحید فرض على الجمیع،<br />
ولیس لأناسٍ دون أناس.<br />
اطناب الشارح رحمھ اللھ في عرض شُبھ ومبادئ الفرق<br />
الضالة، والرد علیھا، وبخاصة أن أكثر ھذه الفرق لیس لھا أثر یُذكر بین<br />
المسلمین في ھذا العصر (1) ، مما جعل الكثیر من طلبة العلم فضلاً عن عامة<br />
المسلمین ینأون عن قراءة الكتاب وینفرون منھ.<br />
3- عرض مبادئ الفرق الضالة وشبھاتھم والرد علیھا، قد یؤدي إلى<br />
تشویش القارئ المسلم وبخاصة إذا كان من العامة، وإشغالھ عن الغایة<br />
الأساسیة التي لأجلھا یدرس العقیدة والتوحید، بل لربما یؤدي ذلك ببعض<br />
أصحاب القلوب المریضة إلى تبنّ ِي تلك الأفكار واعتقادھا، ومن ثم دعوة<br />
الناس إلیھا، فیكون قد حصل عكس المراد (2) .<br />
مرور الشارح على مسائل عقدیة ھامة في زماننا بشكلٍ مقتضب<br />
وموجزٍ تحتاج لمزیدٍ من التوضیح وال<strong>شرح</strong> والبیان.<br />
اھتمام الشارح بالجانب النظري الغیبي للعقیدة دون الجانب العملي<br />
الذي یتضمن الكفر بالطاغوت، والإشارة إلى جوانب الشرك المتعددة التي<br />
تُعتبر من نواقض الإیمان.<br />
9<br />
(1)<br />
ربما كان المؤلف-رحمھ اللھ-یوجد في عصره من الفرق الضالة مایبرر لھ<br />
ھذا الاطناب، بینما في زماننا قد استجدت مذاھب وفرق-لم یسمع بھا سلفنا من<br />
قبل-تھدد عقیدة الأمة بالردة والانتكاس إِلى جاھلیة ماقبل الإسلام، تتطلب جھداً<br />
مضاعفاً من العلماء لمواجھتھا وتعریتھا، حیث من العبث الانشغال بفتن انتھت<br />
واندرست-والخوض فیھا قد یحییھا من جدید-عن فتن العصر التي تنتظر من<br />
یتصدى لھا ویدحضھا.<br />
(2)<br />
قال الإمام أحمد بن حنبل للحارث بن أسد المحاسبي، بسبب تصنیفھ كتاباً في<br />
الرد على المبتدعة: ویحك ألست تحكي بدعتھم أولاً ثم ترد علیھم؟ ألست<br />
تحمل الناس بتصنیفك على مطالعة البدعة والتفكر بالشبھة، فیدعوھم ذلك إِلى<br />
الرأي والبحث والفتنة؟! عن <strong>شرح</strong> كتاب "الفقھ الأكبر" للشیخ الملا علي القاري<br />
<strong>الحنفي</strong>، ص 9.
-<br />
-<br />
-<br />
-<br />
-<br />
-6<br />
-7<br />
-1<br />
-3<br />
-4<br />
-5<br />
-6<br />
-7<br />
-8<br />
وجود بعض العبارات والكلمات یصعب فھمھا على العامة تحتاج<br />
إلى تعلیقٍ وتبسیطٍ و<strong>شرح</strong>ٍ.<br />
رغبة بعض الإخوان والزملاء بإِجراء تھذیب یسھل تدریسھ لطلبة<br />
العلم والعامة سواء.<br />
ھذه الأسباب مجتمعة كانت حافزاً لي وسبباً في أن أقوم بتھذیب ھذا<br />
ال<strong>شرح</strong> والتعلیق علیھ، راجیاً من اللھ تعالى التوفیق والقبول، إنھ قریب<br />
مجیب.<br />
ویتلخص عملي في النقاط التالیة:<br />
ھذبت ال<strong>شرح</strong> تھذیباً تفادیت فیھ كل مملّ یقل نفعھ، من دون إخلا ٍل<br />
بقیمة ال<strong>شرح</strong> العلمیة.<br />
2- علقت على ال<strong>شرح</strong>، و<strong>شرح</strong>ت الغامضَ منھ، ونبھت على أمورٍ رأیت<br />
من الواجب التنبیھ علیھا.<br />
أثبت متن الإمام الطحاوي رحمھ اللھ كما ھو في الأصل، وكذلك<br />
ال<strong>شرح</strong> لم أتدخل في عبارات الشارح إلا ما استلزمتھ ضرورة التھذیب،<br />
وجعلت كلامي وتعلیقاتي في الھامش من ال<strong>شرح</strong>.<br />
ترجمت لكل فقرة من الكتاب، بعنوان یعرف القارئ على موضوع<br />
وفكرة الفقرة.<br />
وكذلك قمت بتشكیل بعض الكلمات، لیسھُلَ قراءتُھا وفھمھا.<br />
ألحقت في نھایة الكتاب أسئلة شاملة للمادة، تمكن القارئ من اختبار<br />
نفسھ ومعرفة مدى استیعابھ وفھمھ لھذه العقیدة، وكذلك أشرت إلى موضع<br />
الإجابة في الكتاب.<br />
لم تكن غایتي من عملیة التھذیب تقلیل صفحات الكتاب، وتصغیر<br />
حجمھ، بل لربما التھذیب مع التعلیق یوازي الأصل من حیث الحجم.<br />
ومن حیث الأحادیث الواردة في ال<strong>شرح</strong>، فقد حذفت الضعیف منھا،<br />
وأثبت الحدیث الصحیح الذي بھ تقوم الحجة، واعتمدت في ذلك تخریج<br />
وتصحیح الشیخ المحدث محمد ناصر الدین الألباني - حفظھ اللھ ثقة مني<br />
بعلمھ ودرایتھ بالحدیث الصحیح من الضعیف، وفي التعلیق أیضاً اجتھدت<br />
في أن لاأثبت إلا الحدیث الصحیح معتمداً في ذلك على الصحیحین، وكتب<br />
الشیخ وتعلیقاتھ، وغیره من أھل العلم والاختصاص.<br />
9- ولضبط عملیة التھذیب، اعتمدت النسخ التالیة :<br />
10
"<br />
أ- <strong>نسخة</strong> مكتبة الریاض الحدیثة، حققھا الشیخ أحمد محمد شاكر.<br />
ب- <strong>نسخة</strong> المكتب الإسلامي، حققھا وراجعھا جماعة من العلماء، وخرج<br />
أحادیثھا الشیخ المحدث محمد ناصر الدین الألباني.<br />
ج- <strong>نسخة</strong> مؤسسة الرسالة، حققھا وعلق علیھا وخرج أحادیثھا، الدكتور<br />
عبد اللھ ابن عبد المحسن التركي، والشیخ شعیب الأرناؤوط.<br />
راجیاً من اللھ تعالى التوفیقَ والقبولَ، وأن ینفعني وجمیع المسلمین بھذا<br />
العمل ویجعلھ قرة عین للموحدین، وسبب ھدایة للضالین التائھین، إنھ تعالى<br />
سمیعٌ قریب مجیب.<br />
وصل َّى اللھ على محمد النبي الأُمي، وعلى آلھ وصحبھ وسل َّم.<br />
كتبھا<br />
عبد المنعم مصطفى عبدالقادر حلیمة<br />
أبو بصیر<br />
عفا اللھ عنھ وعن والدیھ بمنھ ورحمتھ<br />
الطرطوسي "<br />
11
الدین: "<br />
من مقدمة الشارح، الإمام ابن <strong>أبي</strong> <strong>العز</strong> <strong>الحنفي</strong><br />
Π<br />
وبھ نستعین<br />
الحمد نحمدُه، ونستعینھ ونستغفره، ونعوذ باللھ من شرور أنفسنا<br />
ومن سیئات أعمالنا، من یھده اللھ فلا مضل لھ، ومن یُضلل فلا ھادي لھ.<br />
وأشھد أن لا إلھ إلا اللھ وحده لاشریك لھ، وأشھد أن سیدنا محمداً عبده<br />
ورسُولھ، صلى اللھ علیھ وعلى آلھ وصحبھ، وسلم تسلیما كثیراً.<br />
إذْ شرفُ العلم<br />
أما بعد: فإنھ لما كان علم أصول الدین أشرف العلوم (1)<br />
بشرف المعلوم (2) ، وھو الفقھ الأكبر بالنسبة إلى فقھ الفروع، ولھذا سمى<br />
الإمام أبو حنیفة -رحمة اللھ علیھ- ما قالھ وجمعھ في أوراقٍ من أصول<br />
الفقھ الأكبر العباد إلیھ فوق كل حاجة،وضرورتھم إلیھ<br />
فوق كل ضرورة، لأنھ لاحیاة للقلوب، ولانعیم ولا طمأنینة، إلا بأن تعرف<br />
ربھا ومعبودھا وفاطرھا بأسمائھ وصفاتھ وأفعالھ، ویكون مع ذلك كلھ أح َّب<br />
إلیھا مما سواه ویكون سعیھا فیما یقربھا إلیھ دون غیره من سائر خلقھ.<br />
"، وحاجة<br />
12<br />
(1)<br />
(2)<br />
ھو علم التوحید، ومتطلباتھ ونواقضھ.<br />
أي علمٍ أشرف من علمٍ ِ یُعرّ ف العبد على خالقھ ومایجب لھ علیھ.
ومن المحال أن تستقل العقول بمعرفة ذلك وإدراكھ على التفصیل<br />
فاقتضت رحمة <strong>العز</strong>یز الرحیم أن بعث الرسل بھ معرفین (1) ،<br />
وإلیھ داعین، ولمن أجابھم مبشرین (2) ، ولمن خالفھم<br />
منذرین (3) ، وجعل مفتاح دعوتھم، وزبدة رسالتھم معرفة المعبود سبحانھ<br />
بأسمائھ وصفاتھ وأفعالھ، إذ على ھذه المعرفة تبنى مطالب الرسالة كلھا من<br />
أولھا إلى آخرھا.<br />
ثم یتبع ذلك أصلان عظیمان:<br />
أحدھما : تعریف الطریق الموصل إلیھ، وھي شریعتھ المتضمنة لأمره<br />
ونھیھ (4) .<br />
والثاني :<br />
تعریف السالكین مالھم بعد الوصول إلیھ من النعیم المقیم.<br />
فأعرفُ الناس باللھ Υ أتبعھم للطریق الموصل إلیھ (5) ، وأعرفھم بحال<br />
السالكین عند القدوم علیھ، ولھذا سمى اللھ ما أنزلھ على رسُولھ روحاً،<br />
لتوقف الحیاة الحقیقیة علیھ، ونوراً لتوقف الھدایة علیھ.<br />
فقال تعالى: [یُلقي الروحَ من أمره على من یشاءُ من عباده] غافر:<br />
13
لتھدي إلى صراطٍ مستقیم] الشورى:<br />
14
وأما مایجب على أعیانھم، فھذا یتنوع بتنوع قُدَرِ ھم، وحاجَتِھم ومعرفتھم،<br />
وما أُمِرَ بھ أعیانھم، ولایجب على العاجز عن سماع بعض العلم، أو فھم<br />
دقیقھ مایجب على القادر على ذلك (1) .<br />
ویجب على من سَمِعَ النصوص وفھمھا من علم التفصیل مالایجبُ على<br />
من لم یسمعھا، ویجب على المفتي والمحدّ ِث والحاكم مالایجب على من<br />
لیس كذلك.<br />
وعامة من ضل في ھذا الباب، أو عجز فیھ عن معرفة الحق، فإنما ھو<br />
في اتباع ماجاء بھ الرسول، فلما أعرضوا عن كتاب اللھ،<br />
لتفریطھ (2)<br />
ضل ُّوا، كما قال تعالى: [فإما یأتینكم مني ھدىً فمن اتبع ھُداي فلا یض ُّل<br />
ولایشقى، ومن أعرض عن ذكري فإن لھ معیشةً ضنكاً ونحشره یومَ<br />
القیامة أعمى، قال ربِّ لِمَ حشرتني أعمى وقد كنت بصیرا، قال كذلك أتتك<br />
آیاتنا فنسیتھا وكذلك الیوم تُنسى] طھ:<br />
15
وقد نز َّ هَ اللھُ تعالى نفسَھ عما یصفھ بھ العباد إلا ماوصفھ بھ المرسلون،<br />
بقولھ سبحانھ: [سبحان ربك ربِّ <strong>العز</strong>ة عما یصفون، وسلامٌ على<br />
المرسلین، والحمد رب العالمین] الصافات:<br />
16
فاحتاج المؤمنون بعد ذلك إلى إیضاح الأدلة، ودفع الش ُّبَھ الواردة<br />
علیھا، وكَثُرَ الكلامُ والشغب، وسبب ذلك إصغاؤھم إلى شبھ المبطلین،<br />
وخوضھم في الكلام المذموم الذي عابھ السلف، ونَھَوا عن النظر فیھ،<br />
والإشتغال بھ، والإصغاء إلیھ، امتثالاً لأمر ربھم، حیث قال: [وإذا رأیت<br />
الذین یخوضون في آیاتِنَا فأعرض عنھم حتى یخوضوا في حدیثٍ غیرِ ه]<br />
الأنعام:<br />
17
ε<br />
ومعصیتَھ معصیَةً لھ، وأقسم بنفسھ أنھم لایؤمنون حتى یحكموه فیما شجر<br />
بینھم (3) ، وأخبر أن المنافقین یریدون أن یتحاكموا إلى غیره (4) ، وأنھم إذا<br />
دعو إلى اللھ والرسول -وھو الدعاء إلى كتاب اللھ وسُن َّةِ رسُولھ- صَد ُّوا<br />
صُدوداً، وأنھم یَزعمون أنھم إنما أرادوا إحساناً وتوفیقاً(5) !<br />
كما یقولھ كثیر من المتملّ ِكَةِ والمتأمّ ِرة (6) : إنما نرید الإحسان بالسیاسة<br />
الحسنة (7) ، والتوفیق بینھما وبین الشریعة، ونحو ذلك.<br />
وكل من طلَب أن یُحَكّ ِمَ في شيءٍ من أمر الدین غیرَ ما جاء بھ الرسول،<br />
ویظن ُّ أن ذلك حسن، وأن ذلك جمعٌ بین ما جاء بھ الرسول وبین ما یُخالِفھ،<br />
بل ما جاء بھ الرسول كافٍ كامل، یدخل فیھ كل ُّ حقٍّ،<br />
فلھ نصیب من ذلك (8)<br />
كل الخیر یكون في الاقتداء بسُن َّةِ النبي ε، فمن الغباء كل الغباء طلب الھدایة من<br />
غیر سنتھ والتماس الحلول لمشاكل الأمة من غیر ھدیھ<br />
الخبر ھو ما یتعلق بالعقائد والغیبیات، والأمر ھو مایتعلق بالأحكام والشرائع<br />
أمراً ونھیاً.<br />
(2)<br />
أي طاعة النبي ε سبباً لطاعة اللھ Υ، ومعصیتھ ھي معصیة تعالى.<br />
إشارة إِلى قولھ تعالى: [فلا وربك لایؤمنون حتى یحكموك فیما شجر بینھم]<br />
النساء:<br />
.ε<br />
ε<br />
(1)<br />
(3)<br />
18
وإنما وقع التقصیر من كثیر من المنتسبین إلیھ، فلم یعلموا ما جاء بھ<br />
الرسولُ في كثیرٍ من الأمور الكلامیة الاعتقادیة، ولا في كثیر من الأحوال<br />
العبادی َّةِ، ولافي كثیر من الإمارة السیاسیّ ِة، أو نسبُوا إلى شریعة الرسول<br />
بظنھم وتقلیدھم مالیس منھا، وأخرجوا عنھا كثیراً مما ھو منھا.<br />
فبسبب جھل ھؤلاء وضلالھم وتفریطھم، وبسبب عدوان أولئك وجھلھم<br />
ونفاقھم، كثر النفاق، ودَرَ سَ كثیرٌ من علم الرسالة.<br />
بل یكون البحث التام، والنظر القوي، والإجتھاد الكامل، فیما جاء بھ<br />
الرسول ε، لیُعْلَم ویعتقد، ویُعمل بھ ظاھراً وباطناً، فیكون قد تُلي ح َّق<br />
تلاوتھ (2) ، وأن لایُھمَل منھ شیئاً.<br />
وإن كان العبد عاجزاً عن معرفة بعض ذلك، أو العمل بھ، فلاینھى عما<br />
عجز عنھ مما جاء بھ الرسول (3) ، بل حسبھ أن یسقط عنھ اللومُ لعجزهِ(4) ،<br />
19<br />
(1)<br />
فیمن ینحي شریعة اللھ كلیاً عن الحكم ویستحسن غیرھا من شرائع الطاغوت،<br />
ثم ھو یفرضھا على الأمة بالحدید والنار كما ھو شأن طواغیت الحكم في ھذا<br />
الزمان.. لاشك أنھ أولى بالنفاق والكفر مھما زعم بلسانھ أنھ من المسلمین<br />
المؤمنین.<br />
(1)<br />
(2)<br />
أي محي وخفي.<br />
أي أن تلاوة القرآن -الذي جاء بھ النبي ε- حق التلاوة، تكون بقراءتھ<br />
وتدبره، واعتقاده، والعمل بھ.<br />
(3)<br />
أي غایتھ أن یَظھر الإسلام، ویعم الخیر بین الناس، سواء تحقق ذلك عن<br />
طریقھ أو عن طریق غیره، ولاینبغي أن یصده الھوى أو التحزب أو العجز عن<br />
نصرة ذلك الحق لكونھ جاء عن طریق غیره، كما ھو حال كثیر من الأحزاب<br />
الیوم. ولكن قد یقال: من كان عنده علم صحیح لكنھ لایعمل بھ، ھل یتكلم بھ<br />
وینشره بین الناس، أم أنھ یلتزم الصمت حتى لایقع تحت طائلة النصوص التي<br />
تتوعد من یقول مالایفعل؟ الصحیح: أنھ یتكلم وینشر العلم الصحیح وإن كان<br />
لایعمل بھ، فلئن إجتمع علیھ وزر أن یقول مالایفعل، خیر لھ من أن یجتمع علیھ<br />
وزران: أن یقول مالایفعل، ووزر كتمان العلم، وبخاصة إن كان الناس بحاجة<br />
إِلى ھذا العلم الذي قد لا یوجد إلا عنده، واللھ أعلم.<br />
(4) لأن العجز الذي لایمكن دفعھ یسقط عن صاحبھ التكلیف، كما قال تعالى:<br />
[لایكلف اللھ نفساً إلا وسعھا]. البقرة: 286.<br />
وفي الصحیحین: "وما أمرتكم بھ فأتوا منھ ما استطعتم" والقاعدة تقول:<br />
(المیسور لا یسقط بالمعسور). وھذا أمر متفق علیھ بین الأمة.
لكن علیھ أن یَفرح بقیام غیره بھ، ویرضى بذلك، ویود َّ أن یكون قائماً بھ،<br />
وأن لایؤمنَ ببعضھ، بل یؤمن بالكتاب كلھ، وأن یُصان عن أن یُدخل فیھ ما<br />
لیس منھ (1) ، من روایةٍ أو رأيٍ، أو یتبع مالیس من عند اللھ اعتقاداً أو<br />
عملاً، كما قال تعالى: [ولاتلبسوا الحق بالباطل، وتكتموا الحق وأنتم<br />
تعلمون] البقرة:<br />
20
ذلك علمٌ نافع، أو أراد بھ الإعراض عنھ، وترك الإلتفات إلى اعتباره،<br />
فإن ذلك یصونُ عِلمَ الرجل وعقلَھ، فیكون علماً بھذا الاعتبار.<br />
وعنھ أیضاً أنھ قال: من طلب العلم بالكلام، تزندق (1) ، ومن طلب المالَ<br />
أفلسَ ، ومن طلب غریب الحدیث كَذَبَ .<br />
بالكیمیاء (2)<br />
وقال الإمام الشافعي رحمھ اللھ تعالى : حكمي في أھل الكلام أن<br />
یُضربوا بالجرید والنعال، ویُطاف بھم في العشائر والقبائل، ویُقال: ھذا<br />
جزاء من ترك الكتاب والسنة، وأقبل على الكلام.<br />
وقال أیضاً:<br />
كل ُّ العلومِ سوى القرآن مَشغلَةٌ إلا الحدیثَ وإلا الفقھَ في الدینِ<br />
العلمُ ما كان فیھ قال حدثنا وماسِوى ذاك وسْواسُ الشیاطینِ<br />
ولقد أحسن القائل:<br />
یاأیھا المغتدي لیطلُبَ عِلماً كل ُّ عِلمٍ عبدٌ(3)<br />
تطلُبُ الفَرْ عَ كي ِ تُصحّ حَ أصلاً<br />
لعلمِ الرسولِ<br />
كیف أغفلت عِلمَ أصلِ الأصُولِ<br />
لذلك الصحیح أن الزندیق یُقتل ولا یستتاب، لأن الاستتابة تكون من شيءٍ،<br />
وھذا لایعترف بشيءٍ رغم قیام البینة القاطعة التي تُدینھ.<br />
وعندما سُئل علي بن <strong>أبي</strong> طالب τ عن قتلھ للزنادقة من دون أن یستتیبھم،<br />
قال: جحدوني.<br />
قال ابن القیم في أعلام الموقعین 2/<br />
21
ε<br />
ونبی ُّنا أُوتي فواتحَ الكلمِ وخواتمھُ وجوامعَھ (1) ، فبُعِثَ بالعلوم الكلیة<br />
والعلوم الأولیة<br />
والأخرویة، على أتم الوجوه، ولكن كلما ابتدع شخص بدعة اتسعوا في<br />
جوابھا، فلذلك صار كلامُ المتأخرین كثیراً، قلیلَ البركة، بخلاف كلام<br />
المتقدمین، فإنھ قلیلٌ، كثیرُ البركة، لا كما یقولھ ضلال المتكلمین وجھلَتُھم:<br />
إن طریق القوم أسلم، وإن طریقتَنا أحكم وأعلم! وكما یقولھ من لم یقدّ ِرھم<br />
قدرھم من المنتسبین إلى الفقھ: إن َّھم لم یتفرغوا لاستنباط الفقھ وضبطِ<br />
قواعدهِ وأحكامِھ اشتغالاً منھم بغیره، والمتأخرون تفرغوا لذلك، فھم<br />
أفقھ (2) !!<br />
فكل ھؤلاء محجوبون عن معرفة مقادیر السلف، وعُمقِ علومھم، وقل َّة<br />
تكل ُّفِھم، وكمال بصائرھم. وتاللھ ما امتاز عنھم المتأخرون إلا بالتكلف<br />
والإشتغال بالأطراف التي كانت ھِم َّةُ القوم مراعاةَ أصولھا، وضبطَ<br />
قواعدِھا، وشد َّ معاقدِھا، وھمَمُھم مشم َّرةً إلى المطالب العالیة في كل شيء،<br />
فالمتأخرون في شأنٍ، والقومُ في شأنٍ آخر، وقد جعل اللھ لكل شيءٍ قَدراً.<br />
وقد <strong>شرح</strong> ھذه العقیدة غیرُ واحدٍ من العلماء، ولكن رأیت بعض<br />
الشارحین قد أصغى إلى أھل الكلام المذموم، واستمد منھم وتكلم بعباراتھم.<br />
وقد أحببت أن أ<strong>شرح</strong>َھا سالكاً طریق السلف في عباراتھم، وأنسُجَ على<br />
منوالِھم، متطفلاً علیھم، لعلي أن أنظم في سلكھم، وأدخل في عدادھم،<br />
وأحشر في زمرتھم [مع الذین أنعم اللھ علیھم من النبیین والصدیقین<br />
ε<br />
22<br />
(1)<br />
قیل في تأویل مجامع الكلم: أن النبي كان یتكلم بالقول الموجز القلیل اللفظ<br />
الكثیر المعاني. وقیل: المراد أنھ أوتي القرآن الكریم، والقرآن غایة في إیجاز<br />
اللفظ واتساع المعاني، وكلا القولین حق، ونبینا یتصف بھما.<br />
قولھم أن الخلف أفقھ وأحكم وأعلم من الس َّلَف فیھ رد للأحادیث النبویة<br />
الصحیحة، الدالة على أفضلیة القرون الثلاثة الأولى، وفضل الرعیل الأول على<br />
مَن بعده. وعندما أمرنا الرسول ε، باقتداء سنة الخلفاء الراشدین مِن بعده، ذلك<br />
لعلمھم بالسنة الذي لایتحصل لمن بعدھم إلا بفضلھم وبواسطتھم. ثم ھل یستوي<br />
الذین رضي اللھ عنھم بالنص الثابت وأمر بالترضي علیھم، والذین لایُعرف<br />
حالھم عند اللھ Υ، أھم من المرضیین المرحومین أم من المغضوب علیھم؟!<br />
لاشك أنھما لایستویان مثلا.<br />
ε<br />
(2)
والشھداء والصالحین وحسن أولئك رفیقاً] النساء:<br />
23
وقال تعالى: [ولقد بعثنا في كل أمةٍ رسولاً أن اعبدوا اللھَ واجتنبوا<br />
الطاغو َت (1) [ النحل:<br />
24
ε<br />
وقال ε: "أُمرت أن أقاتل الناس حتى یشھدوا أن لا إلھ إلا اللھ، وأن<br />
ولھذا كان الصحیح أن أولَ واجب على المكلف<br />
محمداً رسُول اللھ" (1)<br />
شھادة أن لا إلھ إلا اللھ (2) .<br />
وھنا مسائل تكلم فیھا الفقھاء: فمن صلى ولم یتكلم بالشھادتین (3) ، أو أتى<br />
بغیر ذلك من خصائص الإسلام، ولم یتكلم بھما: ھل یصیر مسلماً أم لا؟<br />
والصحیح أنھ یصیر مسلماً بكل ماھو من خصائص الإسلام (4) .<br />
فالتوحید أول ما یُدخَل بھ في الإسلام، وآخر ما یُخرج بھ من الدنیا، كما<br />
قال النبي "من كان آخر كلامھ لاإلھ إلا اللھ دخل الجنة" (5) . فھو أول<br />
فإن التوحیدَ یتضمن ثلاثةَ أنواع: الكلام في<br />
واجب وآخر واجب (6)<br />
وھمھم الأكبر، یجب أن توضع على رأس الأولویات عند كل عمل أو مشروع<br />
دعوي، وھي غایة تصب في خدمتھا جمیع الوسائل والإمكانیات، ولایجوز أن<br />
یكون العكس، ولما غفلت كثیر من الأحزاب والجماعات الإسلامیة المعاصرة<br />
عن ھذا الأصل الھام وانشغلت عنھ بالدون من الوسائل والفروع، قلّت بركتھا،<br />
وفقدت مبرر وجودھا، ولم تتمكن من تحقیق شيء من أھدافھا العامة.<br />
متفق علیھ.<br />
25<br />
(1)<br />
(2)<br />
الواجب ھنا یمتد لیشمل النطق بھا وفھما والعمل بمدلولاتھا ولوازمھا،<br />
وبغض نواقضھا والإمساك عن الوقوع فیھا.<br />
(3)<br />
الصلاة تتضمن الشھادتین، والشھادتان من فرائض الصلاة، من تعمد تركھما<br />
لاتقبل صلاتھ.<br />
(4)<br />
ھذا الكلام لایصح على إطلاقھ وھو كلام تعوزه البینة والدلیل، لأن الصیام<br />
والزكاة من خصائص الإسلام وأھم أركانھ ومع ذلك لایصح أن یُقال لمن صام<br />
أو زكى مالھ أنھ صار بذلك مسلماً من دون أن ینطق بشھادة التوحید.<br />
والذي علیھ أھل العلم ودلت علیھ السنة أن المرء لایصیر مسلماً إلا بنطقھ<br />
لشھادة التوحید، ولایجزئ عن الشھادة من الأعمال شيء سوى الصلاة، لقولھ ε<br />
: "من صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا وأكل ذبیحتنا، فذاك المسلم لھ ذمةَ اللھ وذمة<br />
رسولھ". ولأن الصلاة تتضمن الشھادتین كما تقدم.<br />
(5) حدیث صحیح، رواه الحاكم وغیره.<br />
(6) لأن من شروط التوحید الذي ینفع صاحبھ یوم القیامة الموافاة علیھ، فالعبرة<br />
بالخواتیم وبما یختم بھ على المرء مھما كان العمل قبل الموافاة مغایراً لما تمت<br />
الموافاة علیھ.
Ι<br />
الصفات (1) ، وتوحید الربوبیة، وبیان أن اللھ وحده خالق كل شيءٍ. وتوحید<br />
الإلھیة، وھو استحقاقھ أن یعبد وحده لاشریك لھ.<br />
-توحیدُ الربوبیة لم یذھبْ إلى نقیضھ طائفة مِن بني آدم-<br />
توحید الربوبیة، كالإقرار بأنھ خالق كلّ شيءٍ، وأنھ لیس للعالم صانعان<br />
متكافئان في الصفات والأفعال، وھذا التوحید حق ٌّ لاریب فیھ وھو الغایة<br />
عند كثیرٍ من أھل النظر والكلام وطائفةٍ من الصوفیة.<br />
وھذا التوحید لم یذھبْ إِلى نقیضھ طائفةٌ معروفة من بني آدم، بل القلوب<br />
مفطورة على الإقرار بھ أعظم من كونھا مفطورةً على الإقرار بغیره من<br />
الموجودات، كما قالت الرسل علیھم السلام فیما حكى اللھ عنھم: [قالت<br />
رسلھم أفي اللھ شك ٌّ فاطِرِ السماواتِ والأرض] إبراھیم:<br />
26
واحدٌ، كما أخبر تعالى عنھم بقولھ:[ولئن سألتھم من خلق السماوات<br />
والأرض لیقولُن َّ اللَھ].لقمان:<br />
27
ε<br />
ε<br />
علیھم الأمد، فعبدوھم (1) ، وأن ھذه الأصنام بعینھا صارت إلى قبائلِ<br />
العرب، ذكرھا ابن عباس قبیلةً قبیلةً(2) .<br />
وفي صحیح مسلم، عن <strong>أبي</strong> الھی َّاج الأَسْدِي، قال: قال لي علي بن <strong>أبي</strong><br />
طالب τ: ألا أبعثك على مابعثني رسُول اللھ ε؟ "أمرني أن لا أدع قبراً إلا<br />
سویتھ، ولاتمثالاً إلا طمستھ".<br />
وفي الصحیحین، عن النبي أنھ قال في مرض موتھ: "لعن اللھُ الیھودَ<br />
والنصارى، اتخذوا قبورَ أنبیائھم مساجد" یحذر ما فعلوا،قالت عائشة:<br />
ولولا ذلك لأُبرِ زَ قبرُ ه، ولكن كره أن یُت َّخذ مسجداً.<br />
وفي الصحیحین، أنھ ذُكِرَ لھ في مرض موتھ كنیسة بأرض الحبشة<br />
وذُكر لھ من حسنھا وتصاویرَ فیھا، فقال: "أولئك إذا مات فیھم الرجلُ بنَوا<br />
على قبره مسجداً، وصوروا فیھ تلك التصاویر، أولئك شرارُ الخلق عند<br />
اللھ یوم القیامة".<br />
وفي صحیح مسلم، عنھ أنھ قال: "إن من كان قبلكم كانوا یتخذون قبو َر<br />
أنبیائھم وصالحیھم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنھاكم عن<br />
ذلك" (3) .<br />
وھؤلاء كانوا مقرین بالصانع، وأنھ لیس للعالَم صانعان ولكن اتخذوا ھذه<br />
الوسائط شفعاء، كما أخبر عنھم تعالى بقولھ: [والذین اتخذوا من دونھِ<br />
أولیاءَ ما نعبدُھم إلا لیقربونا إلى اللھِ زُلفى] الزمر: 3. وقال تعالى:<br />
[ویعبدون من دون اللھ ما لا یضرھم ولا ینفعھم ویقولون ھؤلاء شُفعاؤنا<br />
عندَ اللھِ قل أتنبئون اللھَ بما لا یعلَمُ في السموات ولا في الأرض سبحانھ<br />
وتعالى عم َّا یُشركون] یونس:<br />
28
قال تعالى: [فأقم وجھكَ للدین حنیفاً فطرتَ اللھ التي فطر الناس<br />
لاتبدیلَ لخلق اللھِ ذلك الدینُ القیّ ِم ولكن أكثر الناس لایعلمون<br />
الروم:<br />
[<br />
علیھا (1)<br />
29
-توحیدُ الربوبیة یستلزمُ تَوحیدَ الألوھی َّةِ-<br />
من ذلك أن القرآن یقرر توحید الربوبیة، ویبین أنھ لاخالق إلا اللھ، وأن<br />
دلیلاً على الثاني، إذْ كانوا<br />
ذلك مستلزم أن لا یعبد إلا اللھ، فیجعل الأول (1)<br />
یُسلّ ِمون للأول ویُنازعون في الثاني فیبین لھم سبحانھ أنكم إذا كنتم تعلمون<br />
أنھ لاخالق إلا اللھ، وأنھ ھو الذي یأتي العباد بما ینفعھم، ویدفع عنھم<br />
مایضرھم، لاشریك لھ في ذلك، فلِمَ تعبدون غیره، وتجعلون معھ آلھةً<br />
أخرى ؟!<br />
كقولھ تعالى: [قُلِ الحمدُ ِ وسلامٌ على عباده الذین اصطفى ءآللھُ خیرٌ<br />
أَم َّا یُشركون، أم َّن خلَقَ السماواتِ والأرضَ وأنزل لكم من السماءِ ماءً<br />
فأنبتنا بھ حدائقَ ذات بھجةٍ ما كان لكم أن تُنبتوا شجرھا أءِ لھٌ مع اللھ بل<br />
ھم قومٌ یعدلون] النمل:<br />
30
وقال تعالى: [یا أیھا الناس اعبدوا رب َّكُم الذي خلقكُم والذین من قبلِكُم<br />
لعل َّكم تتقون] البقرة:<br />
31
-توحید الإِ لھیة یتضمّن توحیدَ الربوبیة-<br />
توحید الإِلھیة متضمنٌ لتوحید الربوبیة دون العكس (2) ، فمن لایقدر على أن<br />
یخلق یكون عاجزاً، والعاجز لایصلح أن یكون إلھاً.<br />
قال تعالى: [أیُشركون ما لا یخلق شیئاً وھم یُخلقون] الأعراف:<br />
32
-التوحید الذي دعت إِلیھ الرسل-<br />
التوحید الذي دعت إِلیھ رسل اللھ، ونزلت بھ كتبھ نوعان: توحید في<br />
الإِثبات والمعرفة، وتوحید في الطلب والقصد.<br />
فالأول: ھو إثبات حقیقة ذات الرب تعالى وصفاتھ وأفعالھ وأسمائھ، لیس<br />
كمثلھ شيء في ذلك كلھ، كما أخبر بھ عن نفسھ، وكما أخبر رسُولھ<br />
والثاني: وھو توحید الطلب والقصد (2) ، مثل ما تضمنتھ سورة [قل یا<br />
أیھا الكافرون] و [قل یا أھل الكتاب تعالوا إِلى كلمةٍ سواءٍ بیننا وبینكم]<br />
آل عمران:<br />
. (1)<br />
ε<br />
33
وإِما خبرٌ عن إِكرامھ لأھل توحیده، وما فعل بھم في الدنیا وما یكرمھم<br />
بھ في الآخرة، فھو جزاء توحیده.<br />
وإِما خبر عن أھل الشرك، وما فعل بھم في الدنیا من النكال، وما یح ّل<br />
بھم في العقبى من العذاب، فھو جزاء من خرج عن حكم التوحید.<br />
فالقرآن كلھ في التوحید وحقوقِھ وجزائِھ، وفي شأن الشرك وأھلھِ<br />
وجزائھم (1) .<br />
ف [الحمد للھ رب العالمین]<br />
الرحیم] [مالك یوم الدین]<br />
توحید (2) ،<br />
توحید (2) ،<br />
توحید (1) ،<br />
[الرحمن<br />
[إِیاك نعبد وإِیاك<br />
وشرب الخمر .. وغیرھا. لكن الإدمان على ارتكاب المحظورات، وإِھمال<br />
الواجبات قد تؤدّي بصاحبھا إِلى الإِستھانة بأحكام اللھ، واستحسان المنكر،<br />
وإِلى مؤاثرة الدنیا وزخرفھا على الآخرة ونعیمھا، وبالتالي إِلى الكفر المخرج<br />
عن الملة، فالاستھانة بالصغائر برید إِلى الكبائر، والإدمان على الكبائر برید إِلى<br />
الكفر والعیاذ باللھ.<br />
(1)<br />
مادام التوحید لھ ھذا القدر من الأھمیة، والقرآن الكریم كلھ یدور حول<br />
التوحید ومتطلباتھ ومكملاتھ ونبذ الشرك ومقدماتھ، إِنھ لحريّ بالمسلمین أن<br />
یھتموا بالتوحید، ویتعلموه ویعلّموه، وأن لا ینشغلوا عنھ بالمندوب والمباح،<br />
وبما ھو دونھ. فالتوحید أصل وما دونھ فروع تبنى علیھ، فإِن صح الأصل<br />
صح البناء، وآتى ثماره، ورُ جي عطاؤه، وإِن فسد الأصل فسد البناء وانھار<br />
على صاحبھ ولو بعد حین، وطول تحصیل، كما قال تعالى: [وقدمنا إِلى ما<br />
عملوا من عملٍ فجعلناه ھباءً منثورا].<br />
أما التوحید فأصلھ ثابت یؤتي أكلھ وثماره كل حین ووقت، كشجرةٍ طیبة<br />
أصلھا ثابت وفرعھا في السماء، تؤتي أكلھا كل حین، كما قال تعالى: [ألم تر<br />
كیف ضرب اللھُ مثلاً كلمة طیبةً كشجرةٍ طیبةٍ أصلُھا ثابت وفرعھا في<br />
السماء. تُؤتي أُكُلَھا كل حینٍ بإِذن ربھا ویضرب اللھُ الأمثالَ للناس لعل َّھم<br />
یتذكرون].<br />
وأما الشرك فمثلھ كما قال تعالى: [ومثل كلمةٍ خبیثة كشجرةٍ خبیثةٍ اجتُث َّت من<br />
فوق الأرض مالھا من قرار].<br />
(2)<br />
یشمل على نوعي التوحید: توحید الألوھیة وتوحید الربوبیة، أما توحید<br />
الألوھیة یكمن في التوجھ إِلى اللھ وحده بالحمد والثناء والشكر، وتوحید<br />
الربوبیة یكمن في توحید اللھ في ربوبیتھ على العالمین.<br />
34
توحید (3) ،<br />
نستعین] [اھدنا الصراط المستقیم] توحید، متضمن بسؤال<br />
الھدایة إِلى طریق أھل التوحید (4) ، [غیر المغضوب علیھم ولا الضالین]<br />
الذین فارقوا التوحید (5) .<br />
وكذلك شَھِدَ اللھُ لنفسھ بھذا التوحید، وشھدت لھ بھ ملائكتھ وأنبیاؤه<br />
ورسلُھ.<br />
قال تعالى: [شَھِدَ اللھُ أنھ لا إِلھ إِلا ھو والملائكَةُ وأولوا العلمِ قائماً<br />
بالقسط لا إِلھ إِلا ھو <strong>العز</strong>یزُ الحكیم] آل عمران:<br />
(6)<br />
35
وشھادَةُ الربِّ Υ وبیانُھ وإِعلامھ، یكون بقولھ تارةً، وبفعلھ أخرى،<br />
فالقول: ما أرسلَ بھ رسلَھ وأنزل بھ كُتُبَھ، وأما بیانُھ وإِعلامھ بفعلھ، فكما<br />
قال ابن كیسان: شھد اللھ بتدبیره العجیب وأموره المحكمة عند خلقھ: أنھ لا<br />
إِلھ إِلا ھو.<br />
وقال آخر:<br />
وفي ِ كُلّ شيءٍ لھ آیةٌ تدل ُّ على أنھ واحِ دُ.<br />
ومما یدل على أن الشھادة تكون بالفعل، قولُھ تعالى: [ما كان للمشركین<br />
أن یَعمروا مساجدَ اللھ شاھدین على أنفسھم بالكفر] التوبة:<br />
36
وأیضاً فالآیة دلت على أنھ وحدُه المستحِ ق ُّ للعبادة (1) ، فإِذا أخبر أنھ<br />
ھو وحده المستحق للعبادة، تضمن ھذا الإخبارُ أمر العباد وإلزامھم بأداء<br />
مایستحقھ الرب ُّ تعالى علیھم، وأن القیام بذلك ھو خالص حقھ علیھم (2) .<br />
163-162<br />
37<br />
-<br />
(1)<br />
العبادة بمعناھا العام الشامل لجمیع مایحبھ اللھ ویرضاه من الأقوال والأعمال<br />
الظاھرة منھا والباطنة، عبادة النسك والشعائر .. وعبادة الركوع والسجود<br />
والخضوع .. وعبادة التوكل والخوف والرجاء والدعاء .. وعبادة الجھاد<br />
والأمر بالمعروف والنھي عن المنكر .. وعبادة الطاعة والانقیاد والرضى<br />
والتسلیم .. وعبادة التحاكم والاتباع .. وعبادة الحب والولاء والبراء .. فجمیع<br />
أنواع ومجالات العبادة ھذه وغیرھا من الطاعات التي أمر اللھ بھا یجب أن<br />
تصرف وحده دون أحدٍ سواه.<br />
[قل إِن صلاتي ونسكي ومحیاي ومماتي رب العالمین. لاشریك لھ وبذلك<br />
أُمرت وأنا أولُ المسلمین] الأنعام: . فجمیع الحیاة وما یتخللھا من<br />
أعمال قد شرعھا اللھ للعباد كلھا یجب أن تُصرف ، وحتى الممات فإِنھ یجب<br />
أن یكون في سبیل اللھ وحده ولیس في سبیل الوطن أو القوم أو الإنسانیة أو<br />
الزعیم، أو الدیمقراطیة، وغیرھا من الطواغیت التي تھدر في سبیلھا الأرواح<br />
والحرمات، وتُقدم لھا القرابین!!<br />
ومن مظاھر انحطاط وتخلف المسلمین في ھذا الزمان انحسار كثیر من<br />
المفاھیم الشرعیة عن مدلولھا الشرعي الصحیح في أذھانھم وفي واقع<br />
حیاتھم، والذي كان من وراء ذلك العلمانیة الكافرة التي فصلت الدین عن<br />
الحیاة، والفكر الصوفي الإِرجائي الإِتكالي القائل: لایضر مع التصدیق كفر<br />
وذنب.. !<br />
من تلك المفاھیم: العبادة، حیث حُصرت في دائرة النسك والشعائر، وانحسرت<br />
مدلولاتھا الشرعیة الواسعة في أذھان الناس إِلى مجرد أداء للشعائر التعبدیة<br />
فقط، وبالتالي فھم إذا ما أُمروا أن یعبدوا اللھ فسرعان ما یحملون الأمر أو<br />
الخطاب على العبادة التي تعني الشعائر وحسب، لذلك فھم لایجدون حرجاً في<br />
أن یعبدوا غیر اللھ تعالى في المجالات الأخرى غیر الشعائر التعبدیة، ولایرون<br />
في ذلك تعارضاً مع كونھم لایجوز لھم أن یعبدوا غیر اللھ تعالى..!<br />
(2) حق اللھ على العباد، أن یعبدوه ولا یشركوا بھ شیئاً، كما في الحدیث<br />
الصحیح المتفق علیھ، عن معاذ بن جبل، قال: قال النبي : "یامعاذ أتدري<br />
ماحق اللھ على العباد؟" قال اللھ ورسُولھ أعلم. قال: "أن یعبدوه ولایشركوا بھ<br />
شیئاً، أتدري ماحقھم علیھ؟" قال: اللھ ورسُولھ أعلم. قال: "أن لایعذبھم".<br />
ε<br />
-
-اللھ تعالى بیّن التوحید بطرق ثلاث: السمعِ، والبصرِ ، والعقلِ-<br />
أما السمعُ: فبسمع آیاتھِ المتلوة المبینة لما عَر َّ فَنا إِی َّاهُ من صفات كمالِھ<br />
كلّ ِھا، الوحدانیة وغیرھا غایة البیان، لا كما یزعمھ الجھمیة ومن وافقھم<br />
من المعتزلة (2) ، ومعطلة بعض الصفات من دعوى احتمالات توقع في<br />
الحیرة، تُنافي البیان الذي وصف اللھ بھ كتابَھ <strong>العز</strong>یز ورسُولھ الكریم،<br />
كما قال تعالى: [حم، والكتاب المبین] الزخرف: [الر تلك ءایاتُ<br />
الكتاب وقرءان مبین] الحجر:<br />
وكذلك السن َّة تأتي مبینةً أو مقررةً لما دل علیھ القرآن، لم یُحوِجنا ربنا<br />
سبحانھ وتعالى إِلى رأي فلانٍ، ولا إِلى ذوق فلانٍ ووجده في أصول<br />
دیننا (3) .<br />
(1)<br />
،2-1<br />
.1<br />
(1)<br />
نسبةً إِلى الضال جھم بن صفوان، القائل بإنكار الصفات وتعطیلھا، ولھ كلام<br />
في الإیمان والوعد والوعید، مفاده أن الإیمان محصور في القلب والتصدیق،<br />
وبالتالي فإن الكفر عنده محصور في التكذیب القلبي لاغیر. وقد اشتد نكیر<br />
الس َّلَف على من یقول بھذا القول، ومع ذلك فكثیر من مرجئة العصر الذین<br />
استفحل شرھم في البلاد یقولون بھذا القول وإن لم یعترفوا بأنھم على قول جھم<br />
ومن تابعھ في الإیمان، وقد قتل جھماً سلم بن أحوز، لإِنكاره أن اللھ كلم<br />
موسى، وذلك سنة ھ. انظر سیر أعلام النبلاء:<br />
الطبري:<br />
المعتزلة فرقة ضالة، تجحد صفات اللھ Υ، وتنكر القدر وأن تكون أفعال<br />
العباد قد خلقھا اللھ، وقالوا : بأن كلام اللھ محدث مخلوق، وبالمنزلة بین<br />
المنزلتین؛ أي أن الفاسق لاھو مؤمن ولا كافر! وقیل أنھم سُموا بالمعتزلة نسبة<br />
إِلى واصل بن عطاء الغزال، الذي طرده الحسن البصري من مجلسھ بسبب<br />
مقولتھ في القدر، فاعتزل إِلى ساریة من سواري مسجد البصرة ومن حینھا سمي<br />
ھو وأتباعھ بالمعتزلة. انظر الفرق بین الفرق:<br />
27-26/6، وتاریخ<br />
128<br />
. 295-294/4<br />
(2)<br />
38
ولھذا نجد من خالف الكتابَ والسنة مختلفین مضطربین قال تعالى: [الیومَ<br />
أكملتُ لكم دینَكُم وأتممت علیكم نعمتي ورضیت لكمُ الإِ سلامَ دیناً] المائدة:<br />
. فلا یَحتاج في تكمیلھ إِلى أمرٍ خارجٍ عن الكتاب والسنة.<br />
وأما آیاتھ العیانیة الخلقیة: فالنظر فیھا، والاستدلال بھا یدل على ماتدل<br />
علیھ آیاتھ القولیة السمعیة، والعقل یجمع بین ھذه وھذه، فیجزم بصحة ما<br />
جاءت بھ الرسل (1) ، فتتفق شھادةُ السمعِ، والبصر، والعقل، والفِطرة.<br />
-ما من نبي إِلا ومعھ آیةٌ تدل ُّ على صدق نبوتھ-<br />
فھو سبحانھ لكمال عدلِھ ورحمتھ وإِحسانھ وحكمتھ ومحبتھ<br />
للعذر (2) ، وإِقامة الحُج َّة (3) ، لم یبعث نبیاً إِلا ومعھ آیةٌ تدل على صدقھ<br />
فیما أخبر بھ.<br />
39<br />
ε<br />
3<br />
( 2 )<br />
( 3 )<br />
(1) لایوجد تعارض بین العقل السلیم وبین النقل الصحیح، وفي حال ظھور<br />
التعارض، یكون لأحد الأسباب التالیة:<br />
أ- أن یكون العقل سلیماً، ولكن النقل غیر صحیح من حیث السند والمتن.<br />
ب- أن یكون النقل صحیحاً، ولكن العقل یكون قد تجاوز الحد المقدر لھ،<br />
وتطاول في البحث عن أمورٍ لاتخصھ ولاتعنیھ، فحینھا یظھر التعارض<br />
ویكون الخلل من العقل لامن النقل.<br />
ج- أن یكون النقل صحیحاً، والعقل سلیماً، لكن لجھلنا في التوفیق بینھما، یظھر<br />
لنا الأمر أنھما متعارضان، وفي الحقیقة أنھما غیر ذلك.<br />
قال رسول اللھ : "لاشخصَ أغیر من اللھ تعالى، ولاشخص أحب إِلیھ<br />
العذر من اللھ Υ، ومن أجل ذلك بعث الرسل مبشرین ومنذرین ولاشخص أحب<br />
إِلیھ المدح من اللھ تعالى، ومن أجل ذلك وعد الجنة". رواه ابن <strong>أبي</strong> عاصم في<br />
السنة، وصححھ الشیخ ناصر في التخریج.<br />
إِقامة الحجة تتعلق بثلاثة ضوابط، وھي: أولاً: أن الجاھل الذي یجب أن تقام<br />
علیھ الحجة قبل الحكم علیھ، ھو من كان جھلھ عن عجز لایمكن دفعھ، أما إِذا<br />
كان جھلھ لسبب غیر العجز أو عن عجز یمكن دفعھ لكنھ لایفعل، فھو ملام<br />
ومسؤول عن تقصیره ولایعذر بالجھل. ثانیاً: الحجة تقوم على الجاھل ببلوغھ<br />
الخطاب الشرعي عبر أي وسیلة كانت، شریطة أن تصلھ بلغة یفھما وبطریقة<br />
ترفع عنھ العجز بمعرفة مراد الشارع فیما قد خالف فیھ، ولایشترط ھنا حصول<br />
الاقتناع أو الاستجابة، فھذا أمر مرده إِلى اللھ، فھو سبحانھ یھدي من یشاء<br />
ویضل من یشاء. ثالثاً: یشترط فیمن یقیم الحجة أن یكون ملماً بالمسألة التي یرید<br />
أن یقیم فیھا الحجة على المخالف، لأن فاقد الشيء وجاھلھ لایعطیھ، ولایشترط<br />
-
قال تعالى: [لقد أرسلنا رسُلَنا بالبینات وأنزلنا معھم الكتابَ<br />
لیقومَ الناسُ بالقسط] الحدید:<br />
والمیزان (1)<br />
40
ِ<br />
-<br />
ویُعادون علیھا (1) ، ویَبذلون دماءھم وأموالھم في نصرتھم لھا، ثم أك َّد ذلك<br />
علیھم بالإِ ستھانة بھم، واحتقارھم وازدرائھم، ولو یجتمعون كل ُّھم على كیده<br />
وشفاء غیظھم منھ، ثم یعاجلُونَھ ولایمھلونَھ لم یقدروا على ذلك إِلا ما كتبھ<br />
اللھ علیھ (2) .<br />
فأي آیةٍ وبرھانٍ أحسنُ من آیات الأنبیاء علیھم السلام وبراھینِھم<br />
وأَدل َّتِھم؟ وھي شھادةٌ من اللھ سبحانھ لھم، بینھا لعباده غایة البیان.<br />
من أسمائھ تعالى الحُسْنَى (3) ، المؤمِنُ والش َّھیدُ(4) -<br />
ومن أسمائھ تعالى "المؤمنُ"، وھو في أحد التفسیرین: المصدّقُ الذي<br />
فإِنھ لابد أن یُرِ ي العبادَ<br />
یُصدق الصادقین بما یُقیم لھم من شواھد صدقِھم (5)<br />
من الآیات الأُفقیة والنفسیة ما یُبیّ ِن لھم أن الوحي الذي بل َّغتھ رسُلُھ حق ٌّ،<br />
قال تعالى: [سنُریھم ءایاتِنا في الآفاق وفي أنفُسھم حتى یتبی َّنَ لھم أنھ<br />
الح ُّق] فصلت:<br />
41
أن یُرِ يَ العبادَ من آیاتھ الفعلی َّة الخَلْقیة ما یَشھد بذلك أیضاً(1) ، ثم ذكَر ما ھو<br />
أعظَم من ذلك كلّ ِھ وأجل، وھو شھادتھ سبحانھ على كل شيءٍ، فإِن من<br />
أسمائھ الشھیدَ(2) الذي لا یغیبُ عنھ شيءٌ، ولا یَعزُ بُ عنھ (3) ، بل ھو مطلع<br />
على كل شيءٍ مُشاھد لھ، علیم بتفاصیلھ.<br />
-الاستدلال بأسماء اللھ تعالى وصفاتھ، على وِحدانیتھ وعلى<br />
بُطلان الشركِ -<br />
قد أودع اللھ في الفطرة التي لم تتنج َّس بالجحود والتعطیل ولا بالتشبیھ<br />
والتمثیل (4) ، أنھ سبحانھ الكامِلُ في أسمائھ وصفاتھ وأنھ الموصوفُ بما<br />
وصف بھ نفسَھ ووصفھ بھ رُ سُلھ (5) ، وما خَفِي عن الخلق من كمالھ أعظم<br />
وأعظم مما عرفوه منھ .<br />
ومن كمالھ المقد َّسِ شھادتھ على كل شيءٍ واطلاعُھ علیھ بحیث لایغیبُ عنھ<br />
ذَر َّ ة في السماوات ولا في الأرض باطناً وظاھراً، ومَن ھذا شأنھُ كیف یلیق<br />
بالعباد أن یُشركوا بھ وأن یعبدوا غیره ویجعلوا معھ إلھاً آخر؟ وكیف یلیق<br />
بكمالِھ أن یُقِر َّ من یَكذِبُ علیھ أعظمَ الكذب، ویُخبُر عنھ بخلاف ما الأمرُ<br />
علیھ، ثم ینصره على ذلك ویؤیده ویُعلي شأنھ ویجیب دعوتھ، ویُھلك عدو َّ ه،<br />
(1 ( من ذلك صعود الإنسان إِلى القمر، وصناعتھ التلسكوبات الضخمة التي مكنتھ<br />
من رؤیة كثیر من أسرار ھذا الكون العظیم الذي یدل على خالقٍ عظیم، وربٍّ<br />
یستحق أن یُعبد ویُفرد بالعبادة [وَ عْدَ اللھِ حقّا ومَن أصدق من اللھِ قیلاً]<br />
النساء:<br />
42
ویُظھر على یدیھ من الآیات والبراھین ما یَعجِ زُ عن مثلھ قوى البشر وھو<br />
مع ذلك كاذب علیھ مُفترٍ<br />
قال تعالى: [ولو تقو َّ لَ علینا بعض الأقاویل، لأخذنا منھ بالیمین ثم<br />
لقطعنا منھ الوتین (2) ، فما منكم من أحدٍ عنھ حاجزین] الحاقة:<br />
(1) ؟!<br />
43
قلیلٌ سالكھا، لایھتدي إِلیھا إِلا الخوا ُّص (2) ، وطریقة<br />
وھذه الطریق (1)<br />
بالآیات المشاھدة، لأنھا أسھل تناولاً وأوسع،<br />
واللھ سبحانھ یُفضل بعضَ خلقھ على بعض.<br />
-أكملُ الناس توحیداً الأنبیاءُ والمرسلون، وھم یتفاضلون فیھ-<br />
منھم<br />
إِن َّ أكمل الناس توحیداً الأنبیاءُ صلواتُ اللھ علیھم، والمرسلون (5)<br />
الاستدلال (4)<br />
الجمھور (3)<br />
أكمل في ذلك (6) .<br />
وأُولُوا <strong>العز</strong>م من الر ُّ سل أكملُھم توحیداً(7)<br />
وعیسى، ومحمد، صلى اللھ علیھم أجمعین.<br />
وھم: نو ٌح، وإِبراھیمُ، وموسى،<br />
وأكملھم توحیداً الخلیلان: محمدٌ وإِبراھی ُم صلوات اللھ علیھما وسلامھ،<br />
فإِنھما قاما من التوحید بما لم یقم بھ غیرھما علماً ومعرفة وحالاً ودعوةً<br />
للخلق وجھاداً، فلا توحید أكمل من الذي قامت بھ الرسل، ودَعوا إلیھ،<br />
44<br />
( 1 )<br />
( 4 )<br />
( 5 )<br />
أي طریق الإِستدلال على توحید اللھ Υ، بصفاتھ وأسمائھ، إذ أن المألوه<br />
المستحق لكمال العبادة ھو الإلھ المتصف بھذه الأسماء الحسنى والصفات العلیا،<br />
أما ماسواه -أی َّاً كان- فإنھ مجبول على الضعف والحاجة والنقص والعجز، ومن<br />
كان كذلك لایستحق أن یُعبد، ولایجوز أن یُعبد، أو یُھتدى لعبادتھ.<br />
(2 ( ھم أَھْل العلم والتوحید الخالص، أَھْل الاتباع لا الابتداع.<br />
(3 ( ھم العامة من المسلمین.<br />
أي الإستدلال على وحدانیة اللھ Υ.<br />
الفرق بین النبي والرسول: أن النبي یُوحى إِلیھ لكنھ لم یؤمر بتبلیغ الناس بما<br />
أوحي إِلیھ. بینما الرسول یُوحى إِلیھ ویرسل إِلى أناس معینین لیبلغھم بما أوحي<br />
إِلیھ، ولذلك قالوا: كل رسول نبي ولیس العكس.<br />
( 6 )<br />
المرسلون ھم أكمل إِیماناً وتوحیداً، لأنھم الأكثر جھاداً وتضحیة ومعاناة من<br />
أجل إظھار التوحید وإبطال عبادة الطواغیت، فالمرء كلما كمل جھاده ونصره<br />
للتوحید كلما كمل توحیده وإیمانھ، وأعطاه اللھ القبول في الأرض وفي السماء.<br />
ومن یتأمل سیر الس َّلَف الصالح وسبب تفاوت مراتبھم یُدرك حقیقة ذلك.<br />
( 7 )<br />
فیھ أن التوحید یتفاضل بین الناس كالإیمان، وھذا یستدعي من طالبھ أن<br />
لایقتنع بحد یقف عنده، فالمرء كلما كمل توحیده كلما كان أقرب في الإِقتداء<br />
والتأسي بأولي <strong>العز</strong>م من الرسل وكان أحسن حالاً، وأسلم دیناً، وأرضى <br />
تعالى.
وجاھدوا الأممَ علیھ ولھذا أمر سبحانھ نبی َّھ ε<br />
الذین ھدى اللھ فبھداھم اقتده] الأنعام:<br />
أن یقتدي بھم فیھ:<br />
[أولئك<br />
45
قَولُھُ : " ولاشَيءَ مِثْلُھُ ".<br />
ش: اتفق أھلُ السنة على أن اللھَ لیس كمثلھ شيءٌ لا في ذاتھ، ولا في<br />
صفاتھ، ولا في أفعالھ، وأن خصائصَ الربِّ تعالى لایُوصف بھا شيءٌ من<br />
المخلوقات، ولا یُماثلھ شيء من المخلوقات في شيءٍ من صفاتھ: [لیس<br />
كمثلھ شي ٌء] الشورى:<br />
46
قدیراً، رؤوفاً، رحیماً، عزیزاً، حكیماً، سمیعاً، بصیراً، ملكاً، مؤمناً، جباراً،<br />
متكبراً. وقد سمى بعض عباده بھذه الأسماء، فقال : [یُخرج الحي َّ من<br />
المیت] الأنعام:<br />
47
]<br />
وإِذا اتفقنا في مُسمى الوجودِ والعلم والقُدْرةِ، فھذا المشتركُ<br />
مطلقٌ كُلّ ِي یوجد في الأذھان لا في الأعیان (1) . والموجود في الأعیان<br />
مختصٌ لا اشتراك فیھ (2) ، وأصل الخطأ والغلط توھمھم أن ھذه الأشیاء<br />
العامة الكلیة، یكون مُسم َّاھا المُطلق ھو بعینھ ثابتاً في ھذا لمعین وھذا<br />
المعین، ولیس كذلك، وھذه الأسماءُ إِذا سُمّ ِيَ اللھُ بھا، كان مُسم َّاھا مُعی َّناً<br />
مختصاً بھ، فإِذا سُمي بھا العبدُ كان مُسَم َّاھا مختصاً بھ، فوجودُ اللھِ وحیاتُھ<br />
لایشارِ كُھ فیھا غیرُ ه، بل وجود ھذا الموجود المعین لایشركھ فیھ غیره،<br />
فكیف بوجود الخالق؟! ألا ترى أنك تقول: ھذا، ھو ذاك، فالمشارُ إِلیھ واحد<br />
ولكن بوجھین مختلفین.<br />
وبھذا ومثلِھ یتبی َّنُ لك أن المشبھة أخذوا ھذا المعنى (3) ، وزادوا فیھ على<br />
الحقِّ فضلوا، وأن المعطلة أخذوا نفي المماثَلة بوجھ من الوجوه، وزادوا فیھ<br />
على الحق حتى ضَل ٌّوا، وأن كتابَ اللھ دل َّ على الحقِّ المحض الذي تعقِلُھ<br />
العقول السلیمةُ الصحیحةُ، وھو الحق المعتدل الذي لا انحراف فیھ (4) .<br />
ولا شيءَ یُعْجِ زُهُ ".<br />
ش: لكمالِ قدرتھ، قال تعالى: إِن اللھَ على ِ كلّ شيءٍ قدیر البقرة:<br />
[<br />
قولُھ: "<br />
48
كقولھ تعالى:<br />
[ولا یظلم رب ُّكَ أحداً] الكھف:<br />
49
أحد من رعیتك، أنت أعلى منھم وأشرف وأجل ُّ، فإذا أجملت في النفي،<br />
أجملت في الأدب (1) .<br />
-التعبیرُ عن الحق بالألفاظ الواردة في الكتاب والسنة مذھبُ<br />
أھل السن َّة والجماعة-<br />
والتعبیر عن الحق بالألفاظ الشرعیة النبویة الإلھیة، ھو سبیل أھل السنة<br />
والجماعة، والمعطّ ِلَة یُعرِ ضون عم َّا قالھ الشارع من الأسماء والصفات،<br />
ولا یتدبرون معانیھا، ویجعلون ما ابتدعوه من المعاني والألفاظ ھو المحكم<br />
الذي یجب اعتقاده واعتماده.<br />
وأما أھلُ الحق والسنة والإیمان، فیجعلون ما قالَھ اللھُ ورسُولھ ھو الحق<br />
الذي یجب اعتقادهُ واعتماده، والذي قالھ ھؤلاء إما أن یُعرضوا عنھ<br />
إِعراضاً جُملیّاً(2) ، أو یبینوا حالَھ تفصیلاً، ویُحكم علیھ بالكتاب والسنة، ولا<br />
یُحكم بھ على الكتاب والسنة.<br />
ولیس قول الشیخ رحمھ اللھ تعالى: " ولا شيء یعجزه " من النفي<br />
المذموم، فإن اللھ تعالى قال: [وما كان اللھُ لیُعجِ زَهُ من شيء في<br />
السماوات ولا في الأرض إِنھ كان علیماً قدیراً] فاطر:<br />
50
ش: ھذه كلمة التوحید التي دعت إلیھا الرسلُ كُل ُّھم، وإثباتُ التوحید بھذه<br />
والإثبات المقتضي للحصر (2) ، فإن الإثباتَ المجرد<br />
الكلمة باعتبار النفي (1)<br />
51<br />
( 1 )<br />
أي نفي الإلھیة عن غیر اللھ Υ. ومنھ تعلم أن من أتى بجانب الإثبات لشھادة<br />
التوحید من دون جانب النفي المتضمن الكفر بالطواغیت، لایكون قد شھد أن لا<br />
إلھ إلا اللھ الشھادة التي تنجیھ وتنفعھ یوم القیامة.<br />
( 2 )<br />
أي إثبات الإلھیة وحصر جمیع معانیھا وخصائصھا باللھ Υ من دون شریك.<br />
ومعنى (لا إلھ إلا اللھ)، أي لا معبود في الوجود بحق إلا اللھ تعالى. ولشھادة<br />
التوحید شروط لایصح توحید المرء إلا بھا دلت علیھا نصوص الكتاب<br />
والسنة - لابدّ من استیفائھا جمیعاً لمن أراد أن ینتفع بھا یوم القیامة، وھي<br />
شروط عشر، نجملھا في النقاط التالیة:<br />
1- شرط النطق: حیث أن الإیمان لایصح ولایُقبل من صاحبھ إلا بعد أن<br />
ینطق بشھادتي التوحید: أن لا إلھ إلا اللھ، وأن محمداً عبده ورسُولھ.<br />
كما في الحدیث، عن سعید بن المسیب، عن أبیھ قال: لما حضرت أبا<br />
طالب الوفاة، جاءه رسول اللھ ε، فوجد عنده أبا جھل، وعبد اللھ بن <strong>أبي</strong><br />
أمیة بن المغیرة، فقال رسول اللھ : "یا عم قل لا إِلھ إِلا اللھ، كلمة<br />
أشھد لك بھا عند اللھ"، فقال أبو جھل وعبد اللھ بن <strong>أبي</strong> أمیة: یا أباطالب<br />
أترغب عن ملّة عبد المطلب، فلم یزل رسولُ اللھ یعرضھا علیھ ویعید<br />
لھ تلك المقالة، حتى قال أبو طالب آخر ما كلمھم: ھو على ملة عبد<br />
المطلب، وأبى أن یقول: لا إِلھ إِلا اللھ، فقال رسول اللھ ε: "أما واللھ<br />
لأستغفرن َّ لك ما لم أُنھ عنك"، فأنزل اللھ Υ: [ما كان للنبي والذین آمنوا<br />
أن یستغفروا للمشركین ولو كانوا أولي قُربى من بعد ما تبین لھم أنھم<br />
أصحاب الجحیم].<br />
وفي صحیح مسلم من حدیث <strong>أبي</strong> ھریرة، قال: قال رسول اللھ لعمھ:<br />
"قل لا إِلھ إِلا اللھ أشھد لك بھا یوم القیامة"، قال: لولا أن تعیرني قریش<br />
یقولون إنما حملھ على ذلك الجزع لأقررت بھا عینك! فأنزل اللھ :<br />
[إنك لا تھدي من أحببت ولكن اللھ یھدي من یشاء].<br />
وفي الحدیث المتفق علیھ، قال رسُول اللھ ε: "أُمرت أن أقاتل الناس<br />
حتى یشھدوا أن لا إِلھ إِلا اللھ وأن محمداً رسُول اللھ، ویقیموا الصلاة،<br />
ویؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءَھم وأموالھم إِلا بحق<br />
الإسلام وحسابُھم على اللھ".<br />
ε<br />
ε<br />
-<br />
ε
-<br />
قال النووي في ال<strong>شرح</strong> (212/1): فیھ أن َّ الإیمان شرطھ الإقرار<br />
بالشھادتین مع اعتقادھما واعتقاد جمیع ما أتى بھ رسُول اللھ ε. ا ھ.<br />
وقال ابن تیمیة في الفتاوى (609/7): الشھادتان إذا لم یتكلم بھما مع<br />
القدرة فھو كافرٌ باتفاق المسلمین، وھو كافر باطناً وظاھراً عند سلف الأمة<br />
وأئمتھا وجماھیر علمائھا ا ھ.<br />
2- شرط الكفر بالطاغوت: إذ لا یصح الإیمان إلا بعد الكفر بالطاغوت: وھو<br />
كل ما یعبد -ولو في مجال من مجالات العبادة- من دون اللھ تعالى.<br />
وھو المراد من قولھ تعالى: [فمن یكفر بالطاغوت ویؤمن باللھ فقد<br />
استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لھا واللھ سمیع علیم] البقرة:<br />
والعروة الوثقى كما قال أھل العلم والتفسیر ھي " لا إلھ إلا اللھ ".<br />
مفھوم الآیة الذي دلّ علیھ منطوق النصوص الشرعیة أن من آمن باللھ<br />
لكنھ لم یكفر بالطاغوت لایكون قد استمسك بالعروة الوثقى، ولا شھد أن لا<br />
إلھ إلا اللھ الشھادة التي تنفعھ أو تنجیھ.<br />
وھذا یوضحھ قولھ في صحیح مسلم: "من قال لا إلھ إلا اللھ وكفر بما<br />
یعبد من دون اللھ حرم مالھ ودمھ وحسابھ على اللھ".<br />
قال الشیخ محمد بن عبد الوھاب: فقولھ: "وكفر بما یعبد من دون اللھ"<br />
تأكید للنفي، فلا یكون معصوم الدم والمال إلا بذلك، فلو شك أو تردد لم<br />
یعصم دمھ ومالھ ا-ھ (مجموعة التوحید:<br />
قلت: وكونھ مھدور الدم والمال، فإنھ یدل أن شھادة أن لا إلھ إلا اللھ ما<br />
نفعتھ مع عدم الكفر بالطاغوت، لأن مثلھ مثل من یقول بالشيء وضده في<br />
آن معاً، وبالتوحید والشرك.. !!<br />
والكفر بالطاغوت -المنجي لصاحبھ- لھ صفات وأحوال وعلامات<br />
لایتحقق الكفر بالطاغوت إلا بعد استیفائھا والقیام بھا، أما دعوى الكفر<br />
بالطاغوت بحركة اللسان ثم یتبع ذلك ما یضاده من استحسان وموالاة<br />
وركون للطواغیت، فھو زعم بلا حقیقة أو برھان، ویكذبھ واقع الحال<br />
والعمل.<br />
3- شرط العلم: لقولھ تعالى: [فاعلم أنھ لا إلھ إلا اللھ] محمد:<br />
في الحدیث الذي یرویھ مسلم: " من مات وھو یعلم أنھ لا إلھ إلا اللھ<br />
دخل الجنة ".<br />
. 256<br />
. 19 ولقولھ<br />
.(35<br />
52<br />
ε<br />
ε
مفھوم الحدیث أن من مات وھو لایعلم أنھ لا إلھ إلا اللھ لایدخل الجنة<br />
وإن كان یتلفظ بھا في لسانھ وعلى عدد حبات مسبحتھ؛ لأن الجھل بالشيء<br />
من لوازمھ عدم اعتقاده في القلب، وعدم اعتقاده التوحید كفر بلا خلاف.<br />
ثم كم ھؤلاء الذین یصرحون بشھادة أن لا إلھ إلا اللھ في لسانھم<br />
ویفسرونھا أن لا خالق ولا رازق ولا ضار إلا اللھ لذلك لا غرابة لو<br />
رأیتھم -مع نطقھم لشھادة أن لا إلھ إلا اللھ- یعبدون غیر اللھ تعالى في<br />
الطلب والدعاء والنذر والتحاكم والطاعة وغیر ذلك من مجالات العبادة،<br />
ثم لا یرون في ذلك تعارضاً مع نطقھم لشھادة التوحید !!.<br />
فمثل ھذا لا ینفعھ مجرد النطق لشھادة التوحید وھو یجھل متطلباتھا<br />
ولوازمھا ونواقضھا، ویفسرھا التفسیر المطابق لتفسیر وتوحید كفار<br />
قریش.<br />
قال الشیخ محمد بن عبد الوھاب رحمھ اللھ : دین النبي التوحید؛ وھو<br />
معرفة لا إلھ إلا اللھ محمد رسُول اللھ، والعمل بمقتضاھا، فإن قیل: كل<br />
الناس یقولونھا: قیل: منھم من یقولھا ویحسب معناھا أنھ لا یخلق إلا اللھ<br />
ولا یرزق إلا اللھ وأشباه ذلك، ومنھم لایفھم معناھا، ومنھم من لا یعمل<br />
بمقتضاھا، ومنھم من لایعقل حقیقتھا.وأعجب من ذلك من عرفھا من وجھ<br />
وعاداھا وأھلھا من وجھ ! وأعجب منھ من أحبھا وانتسب إِلى أھلھا ولم<br />
یفرق بین أولیائھا وأعدائھا !! یا سبحان اللھ العظیم أتكون طائفتان<br />
مختلفتین في دین واحد وكلھم على الحق؟! كلا واللھ، فماذا بعد الحق إلا<br />
الضلال ا-ھ (الرسائل الشخصیة:<br />
4- شرط الصدق والإخلاص: لقولھ في الحدیث الذي یرویھ البخاري: "ما<br />
من أحدٍ یشھد أن لا إلھ إلا اللھ وأن محمداً رسُول اللھ صدقاً من قلبھ إلا<br />
حر َّ مھ اللھ على النار".<br />
ولقولھ: "أبشروا، وبشروا من وراءكم، أنھ من شھد أن لا إلھ إلا اللھ<br />
صادقاً بھا دخل الجنة".<br />
مفھوم الحدیث أن من یشھد أن لا إلھ إلا اللھ كذباً ونفاقاً، لاستقطاب<br />
الجماھیر وإقناعھم بھ كزعیم، أو لركوب موجة التدیّن تضلیلاً للناس عن<br />
حقیقتھ ونفاقھ وكفره، كما ھو شأن كثیر من طواغیت الحكم حیث تراھم<br />
یتظاھرون بشيء من التدیّن ویصرحون بالشھادتین سیاسةً وتكتیكاً<br />
لتضلیل شعوبھم وتمریر كفرھم على الناس..<br />
فمن كان كذلك فإن مفھوم الحدیث یقتضي أنھ لا یدخل الجنة، بل ھو من<br />
المنافقین الذین ھم في الدرك الأسفل من النار.<br />
ε<br />
.(182<br />
ε<br />
53
ε<br />
ε<br />
5- شرط انتفاء الشك: لقولھ في الحدیث الذي یرویھ مسلم: "أشھد أن لا إلھ<br />
إلا اللھ وأني رسُول اللھ، لایلقى اللھ بھما عبد غیر شاك فیھما إلا دخل<br />
الجنة".<br />
مفھوم الحدیث أن من لقي اللھ بشھادتي التوحید وھو شاك فیھما أو<br />
بشيء من لوازمھما ومقتضیاتھما لا یدخل الجنة ولا یكون من أھلھا الذین<br />
یشھدون الحق بحق.<br />
6- شرط حصول الیقین: وھو الذي ینتفي معھ أدنى ریب في أن اللھ واحد<br />
أحد في خصائصھ وإلھیتھ وربوبیتھ، وأسمائھ وصفاتھ، لا شریك لھ في<br />
شيء من ذلك.<br />
لقولھ في الحدیث الذي یرویھ مسلم: "من یشھد أن لا إلھ إلا َّ اللھ مستیقناً<br />
بھا قلبھ فبشره بالجنة".<br />
مفھوم الحدیث أن من یشھد أن لا إلھ إلا َّ اللھ وھو غیر مستیقن بھا<br />
وبمدلولاتھا ومتطلباتھا لا یبشر بالجنة فضلاً أن یكون من أھلھا.<br />
7- شرط الحب: حیث لایصح إیمان، ولا ینفع توحید إلا َّ بعد أن یكون اللھ<br />
ورسُولھ أحب إلیھ مما سواھما، قال تعالى: [ومن الناس من یتخذ من<br />
دون اللھ أنداداً یحبونھم كحب اللھ والذین آمنوا أشد حباً ] البقرة:<br />
. 24<br />
ε<br />
54<br />
. 165<br />
وقال تعالى: [قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم<br />
وعشیرتكم وأموال اقترفتموھا وتجارة تخشون كسادھا ومساكن<br />
ترضونھا أحب إلیكم من اللھ ورسُولھ وجھادٍ في سبیلھ فتربصوا حتى<br />
یأتي اللھ بأمره واللھ لا یھدي القوم الفاسقین] التوبة:<br />
قال ابن القیم في مدارج السالكین (100/1): فكل من قدم طاعة أحد من<br />
ھؤلاء على طاعة اللھ ورسُولھ، أو خوف أحد منھم ورجاءه والتوكل علیھ<br />
على خوف اللھ ورجائھ والتوكل علیھ، أو معاملة أحدھم على معاملة<br />
اللھ، فھو ممن لیس اللھ ورسُولھ أحب إلیھ مما سواھما وإن قالھ بلسانھ<br />
فھو كذب منھ، وإخبار بخلاف ماھو علیھ،وكذلك من قد َّم حكم أحد على<br />
حكم اللھ ورسُولھ، فذلك المقد َّم عنده أحب إلیھ من اللھ ورسُولھ ا-ھ.<br />
وفي الحدیث فقد صح عن النبي أنھ قال: "لایؤمن عبد حتى أكون أحب<br />
إلیھ من أھلھ ومالھ والناس أجمعین".
قال أبو سلیمان الخطابي في <strong>شرح</strong>ھ للحدیث: فمعناه لا تصدق في حبي<br />
حتى تُفني في طاعتي نَفْسَك، وتؤثر رضاي على ھواك وإن كان فیھ<br />
ھلاكك ا-ھ (<strong>شرح</strong> صحیح مسلم:<br />
قلت: ومصداق ذلك في كتاب اللھ، قولھ تعالى: [قل إن كنتم تحبون اللھ<br />
فاتبعوني یحببكم اللھ] آل عمران: . فانتفاء المتابعة دلیل على انتفاء<br />
الحب، وعلى قدر الانقیاد والمتابعة یكون الحب في القلب، ومن زعم<br />
الحب من غیر متابعة فھو كذاب أشر بدلالة النص.<br />
وكذلك فإن انتفاء الحب وحصول ضده من الكره لما أنزل اللھ، ھو من<br />
نواقض الإیمان وداعٍ لحبوط جمیع الأعمال الظاھرة والباطنة، كما قال<br />
تعالى: [والذین كفروا فتعساً لھم وأضلّ أعمالھم. ذلك بأنھم كرھوا ما<br />
أنزل اللھ فأحبط أعمالھم] محمد:<br />
فعلل كفرھم وحبوط أعمالھم بأنھم كرھوا ما أنزل اللھ، وأعظم ما أنزل<br />
اللھ شھادة التوحید أن لا إلھ إلا اللھ، فمن كرھھا أو عاداھا، أو عادى<br />
أھلھا ووالى أعداءھا، فھو من الكافرین الذین كرھوا ما أنزل اللھ، ولا<br />
ینفعھ حینئذ مجرد النطق أو التلفظ بلا إلھ إلا اللھ.<br />
8- شرط الرضى والتسلیم والانقیاد التام: لقولھ تعالى: [فلا وربك لا یؤمنون<br />
حتى یحكموك فیما شجر بینھم ثم لایجدوا في أنفسھم حرجاً مما قضیت<br />
ویسلموا تسلیماً] النساء: . وقولھ تعالى: [یا أیھا الذین آمنوا لاتقدموا<br />
بین یدي اللھ ورسُولھ واتقوا اللھ إن اللھ سمیع علیم. یأیھا الذین<br />
آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجھروا لھ بالقول كجھر<br />
بعضكم لبعضٍ أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون] الحجرات:<br />
وقولھ تعالى: [وما كان لمؤمنٍ ولا مؤمنةٍ إذا قضى اللھ ورسُولھ أمراً<br />
أن یكون لھم الخیرة من أمرھم] الأحزاب: . وقولھ تعالى: [فلیحذر<br />
الذین یخالفون عن أمره أن تصیبھم فتنة أو یصیبھم عذاب ألیم] النور:<br />
. 2-1<br />
36<br />
.(15/3<br />
31<br />
. 9-8<br />
55<br />
65<br />
. 63<br />
وقد فسر الإمام أحمد وغیره من أھل العلم الفتنة بالشرك، قال تعالى:<br />
[والفتنة أكبر من القتل] أي الشرك والكفر.<br />
ومنھ یعلم أن من یتلفظ بشھادة أن لا إلھ إلا اللھ لكنھ لا یرضاھا منھجاً<br />
لحیاتھ، ولا یسلم وینقاد لھا ولمعانیھا، فھو لیس ممن یشھدون أن لا إلھ إلا<br />
اللھ الشھادة التي تنفعھم یوم القیامة.
9- شرط العمل بھا وبلوازمھا: فیعمل بالتوحید ویجتنب الشرك في الظاھر<br />
والباطن، وھو المراد من قولھ تعالى: [وما أمروا إلا لیعبدوا اللھ<br />
مخلصین لھ الدین حنفاء ویقیموا الصلاة ویؤتوا الزكاة وذلك دین<br />
القیمة] البینة: . وقولھ تعلى: [وما خلقت الجن والإنس إلا لیعبدون]<br />
الذاریات:<br />
فمن أبطل العمل بالتوحید كشرط لصحتھ، فقد أبطل الغایة التي لأجلھا<br />
خلق اللھ الخلق، وأنزل الكتب، وأرسل الرسل، قال تعالى: [وما أرسلنا<br />
من قبلك من رسُول إلا َّ نوحي إلیھ أنھ لا إلھ إلا أنا فاعبدون] الأنبیاء:<br />
. وقال تعالى: [ولقد بعثنا في<br />
كل أمةٍ رسولاً أن اعبدوا اللھ واجتنبوا الطاغوت] النحل:<br />
فالآیات تفید حصر غایات الرسل والرسالات في ھذا الأصل العظیم<br />
اعبدوا اللھ واجتنبوا الطاغوت]، وكأن لیس لھم مھمة سوى تحقیق ذلك،<br />
كما قال الصحابي ربعي بن عامر لطاغوت فارس وملكھا: لقد ابتعثنا اللھ<br />
لنخرج العباد من عبادة العباد إِلى عبادة رب العباد، ومن جور الأدیان إِلى<br />
عدل الإسلام.<br />
وبالتالي فإننا نقول: من اكتفى بمجرد النطق بشھادة التوحید من غیر<br />
عمل بمضمونھا ومتطلباتھا، وھو في واقع حیاتھ وعملھ لم یعبد اللھ قط،<br />
ولم یقل یوماً ربي اغفر لي خطیئتي یوم الدین، ولم یجتنب الطواغیت<br />
وعبادتھا وموالاتھا، فھو كافر مشرك، ومناقض ومكذب لشھادة أن لا إلھ<br />
إلا اللھ التي یتلفظ بھا.<br />
قال الشیخ محمد بن عبد الوھاب: لاخلاف أن التوحید لابد أن یكون<br />
بالقلب واللسان والعمل، فإن اختلف شيء من ھذا لم یكن الرجل مسلماً،<br />
فإن عرف التوحید ولم یعمل بھ فھو كافر معاند كفرعون وإبلیس<br />
وأمثالھما ا-ھ.<br />
10- شرط الموافاة علیھا: فمن مات وھو على ضدھا من الشرك، لم تنفعھ<br />
شھادة أن لا إلھ إلا اللھ التي كان یتلفظ بھا طیلة حیاتھ، لقولھ في<br />
الحدیث الذي یرویھ مسلم في صحیحھ: "ما من عبد قال لا إلھ إلا اللھ ثم<br />
مات على ذلك إلا دخل الجنة".<br />
مفھوم الحدیث أن من قال لا إلھ إلا اللھ، لكنھ لم یمت علیھا ومات وھو<br />
على ضدھا لا یدخل الجنة ولا یكون من أھلھا. ولأن العبرة بالخواتیم وبما<br />
] نأ<br />
ε<br />
. 36<br />
56<br />
5<br />
. 56<br />
25
قد یتطرق إلیھ الإحتمال ولھذا لما قال تعالى:<br />
[لا إلھ إلا ھو الرحمنُ الرحیم] البقرة:<br />
[وإلھكم إلھ واحد]<br />
قال بعده:<br />
57
والعلم بثبوت ھذین الوصفین مستقرٌ في الفطر، فإن الموجودات لابد أن<br />
تنتھي إِلى واجبِ الوجود لذاتھ، قطعاً للتسلسلِ.<br />
-اسم القدیم لیس من أسماء اللھ الحُسنى-<br />
أدخل المتكلمون في أسماء اللھ تعالى (القدیم)، ولیس ھو من الأسماء<br />
الحسنى، فإن (القدیم) في لغة العرب التي نزل بھا القرآن: ھو المتقدم<br />
على غیره، فیقال: ھذا قدیم<br />
للعتیق، وھذا حدیث للجدید، ولم یستعملوا ھذا الاسم إلا فیما لم یسبِقْھُ عدَمٌ.<br />
قال تعالى: [حتى عادَ كالعرجونِ القدیم] یس: 39.والعرجون القدیم:<br />
الذي یبقى إِلى حین وجود العرجون الثاني، فإذا وجد الجدید قیل للأول قدیم<br />
وقال تعالى: [أفرءَیتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدَمُون] الشعراء:<br />
76-75. فالأقدم مبالغة في القدیم.<br />
والتقدم في اللغة مطلق لا یختص بالتقدم على الحوادث كلّ ِھا<br />
من الأسماء الحسنى، وجاء الشرع باسمھ (الأو َّ ل) وھو أحسن من القدیم،<br />
لأنھ یُشعر بأن َّ ما بعده آیل إلیھ، وتابع لھ، بخلاف (القدیم)، واللھ تعالى لھ<br />
الأسماء الحسنى لا الحَسَنَة.<br />
قولُھ: "لایَفْنَى ولا یَبیدُ".<br />
ش: إِقرار بدوام بقائھ سبحانھ وتعالى ، قال عَز َّ من قائل: [كل مَن علیھا<br />
فان ویبقى وجھُ ربك ذُو الجلالِ والإِ كرام] الرحمن:<br />
والبیدُ متقاربان في المعنى، والجمع بینھما في الذّ ِكْرِ للتأكید.<br />
قولُھ: "ولا یكونُ إلا َّ ما یُری ُد" .<br />
(1) ، فلا یكون<br />
. 27-26 والفناء<br />
58<br />
( 1 )<br />
أي لو أطلقت كلمة (التقدم أو القدیم) فھي لا تعني ولا تستلزم التقدم على جمیع<br />
الحوادث والمخلوقات، لذلك كره الس َّلَف استخدامھا كاسم من أسماء اللھ<br />
الحسنى. قال الشیخ ابن باز: قولھ "قدیم بلا ابتداء". ھذا اللفظ لم یرد في أسماء<br />
اللھ الحسنى كما نبھ علیھ الشارح رحمھ اللھ وغیره، وإنما ذكره كثیر من<br />
علماء الكلام لیثبتوا بھ وجوده قبل كل شيء، وأسماء اللھ توقیفیة لا یجوز إثبات<br />
شيء منھا إلا بالنص من الكتاب <strong>العز</strong>یز أو السنة الصحیحة، ولا یجوز إثبات<br />
شيء منھا بالرأي كما نص على ذلك أئمة الس َّلَف الصالح ا-ھ.
ش: ھذا رد ٌّ لقول القدریة والمعتزلة، فإِنھم زعموا أن اللھ أراد الإِیمان<br />
من الناس كلھم، والكافر أرادَ الكفرَ (1) ، وقولُھم فاسدٌ مردود لمخالفتھ الكتاب<br />
والس ُّن َّة، والمعقولَ الصحیح.<br />
وسُم ُّوا قدری َّةً لإِنكارھم القدَرَ (2) ، وكذلك تُسمى الجبریة (3) المحتجون<br />
بالقدر قدریةً أیضاً، والتسمیة على الطائفة الأولى أغلب.<br />
-عقیدةُ أھْلِ السن َّة في القدَر-<br />
أما أھْلُ الس ُّن َّة فیقولون: إِن اللھ وإِن كان یرید المعاصي قدَراً(4) ، فھو لا<br />
یُحبھا ولا یرضاھا، ولا یأمر بھا، بل یبغضُھا، ویسخطُھا، ویكرھھا وینھى<br />
عنھا، وھذا قول الس َّلَف قاطبةً، فیقولون: ما شاء اللھ كان، وما لم یشَأْ لم<br />
یكن.<br />
والمحققون من أھل الس ُّن َّة یقولون: الإرادة في كتاب اللھ نوعان: إرادةٌ<br />
قدری َّةٌ كونیة خلقی َّة (5) ، وإرادة دینیة أمری َّة شرعیة (1) .<br />
59<br />
( 1 )<br />
( 3 )<br />
أي أن الكافر -بزعمھم- أراد شیئاً لا یریده اللھ ولم یقدره علیھ، فاستدلوا<br />
بقولھم الفاسد ھذا على جحود القدر، وقالوا: إِن الإنسان ھو خالق فعلھ ! وھذا<br />
القول منھم یقتضي أن للإنسان سلطة خارجة عن سلطة اللھ وإرادتھ وعلمھ، إ ْذ<br />
أنھ یفعل ما لا یریده اللھ ولا یحیط بھ علماً من قبل، وھذا كفر لما فیھ من<br />
وصف اللھ تعالى بالعجز والنقص تعالى اللھ عن ذلك علواً كبیراً.<br />
( 2 )<br />
أي إِنكارھم بأن أفعال العباد قد خلقھا اللھ، وھي مكتوبة علیھم في اللوح<br />
المحفوظ قبل أن یُخلقوا، وأن ما كتبھ اللھ وقدّره كائن لا محال.<br />
الذین یقولون: إِن الإِنسان مسلوب الإِرادة، وأنھ مجبور على كل ما قدّره اللھ،<br />
ولا مجال لھ للإختیار، وھذا أیضاً باطل.<br />
( 4 )<br />
أي أن المعاصي ھي من جملة ما كتبھ اللھ وقدره وأراده أن یكون.<br />
القدریة لا تتخلف وھي واقعة شاء الإنسان أم أبى، كمولده،<br />
وصفاتھ الخلقیة، وماذا یحصل لھ غداً، وساعة موتھ، وأین یموت .. فھذا النوع<br />
من القدر واقع لا محال ولیس للإنسان إختیار في قبولھ أو رده. وعلى العموم<br />
فإن كل أمر یجري على الإنسان لا إختیار لھ فیھ فھو یعتبر من الإرادة القدریة<br />
الكونیة التي لا تتخلف أبداً، وھذا الجانب لا یُحاسب علیھ المرء، وھو المراد من<br />
قولھ ε: "وما أصابك لم یكن لیخطئك، وما أخطأك لم یكن لیصیبك". أما ما<br />
یخضع للإرادة الكونیة في جانب الھدایة والضلال فإن الجزاء والحساب یجرى<br />
علیھ.<br />
(5 ( ھذه الإرادة
-الإِ رادة الشرعی َّة والكونیة-<br />
الإرادة الشرعیة: ھي المتضمنةُ للمحبة والرضى.<br />
والكونیة: ھي المشیئةُ الشامِلَةُ لجمیع الحوادث، وھذا كقولھ: [فمن یُرد<br />
اللھُ أن یھدِیَھ ی<strong>شرح</strong> صدرَهُ للإِسلام ومن یرد أن یُضل َّھ یجعل صدره ضیقاً<br />
حرجاً كأنما یَص َّع َّدُ في السماء] الأنعام: . وقولھ تعالى عن نوح: [ولا<br />
ینفعكم نُصحي إِن أردت ُّ أن أنصحَ لكم إِن كان اللھ یرید أن یغویَكُم] ھود:<br />
. وقولھ تعالى: [ولكن اللھ یفعل ما یرید] البقرة:<br />
وأما الإرادة الدینیة الشرعیة الأمریة، فكقولھ تعالى: [یریدُ اللھ بكم<br />
الیسر ولا یرید بكم العُسْرَ] البقرة: [یرید اللھ لیبیّ ِن لكم ویھدیكم<br />
سُنَنَ الذین من قبلكم ویتوبَ علیكم واللھ علیم حكیم] النساء:<br />
[واللھ یریدُ أن یتوب علیكم ویرید الذین یتبعون الشھوات أن تمیلوا میلاً<br />
عظیماً. یریدُ اللھُ أن یُخفّ ِفَ عنكم وخُلِقَ الإِ نسانُ ضعیفاً النساء:<br />
. 26<br />
-27<br />
[<br />
. 253<br />
125<br />
. 185<br />
34<br />
. 28<br />
فھذه الإِرادة ھي المذكورة في مثل قول الناس بمن یفعل القبائح: ھذا<br />
یفعل ما لا یریده اللھ، أي: لا یحبھ، ولا یرضاه، ولا یأمر بھ. وأما الإِرادة<br />
(1 ( ھذا النوع من الإرادة، قضت حكمة اللھ تعالى أن تتخلف أحیاناً ولكن<br />
بإِذنھ وعلمھ وإِرادتھ، فاللھ تعالى یرید لعباده الیسر، والإِیمان والھدى،<br />
ویرید منھم أن یجتنبوا المعاصي والمحرمات ویقوموا بالواجبات والطاعات،<br />
والإنسان مخیّر في ذلك وھو محاسب ومسؤول عن اختیاره، سواء اختار<br />
الخیر والإیمان أو اختار الشر والكفر. ولكن رغم أن الإنسان ھومخیر في ھذا<br />
الجانب من القدر إلا أن خیرتھ تقع بإِذن اللھ وعلمھ وإرادتھ، ولیس جبراً عن<br />
اللھ كما یقول القدریة والمعتزلة قاتلھم اللھ أنى یؤفكون. فلو شاء اللھ غیر ما<br />
یشاء العباد، فلن یكون إِلا ما شاء اللھ Ι، كما قال تعالى: [وما تشاؤون إلا أن<br />
یشاء اللھ].<br />
ومنھ یُعلم أن الإنسان أحیاناً یكون مسیراً، وأحیاناً یكون مخیراً، وأن الجزاء<br />
والحساب یكون على الجانب الإختیاري ولیس الجانب الآخر، فإن اختار الخیر<br />
فھذا ما یریده اللھ ویرضاه ویُحبھ، وإِن اختار الشر فیكون قد اختار ما یبغضھ<br />
اللھ ومالا یحبھ ویرضاه، وكلا الاختیارین یجب أن نسلم أنھما وقعا بإذن اللھ<br />
وعلمھ وإِرادتھ مع التفریق بین ما یحب اللھ وما لا یحب.<br />
60
. (1)<br />
الكونیة، فھي الإِرادة المذكورة في قول المسلمین: ما شاء اللھ كان، وما<br />
لم یشأ لم یكُنْ<br />
قولُھ: " لاتَبْلُغُھ الأوھامُ، ولا تُدرِ كُھ الأَفْھَا ُم" .<br />
(1 ( وفي قولھ تعالى: [إذا قضى أمراً فإِنما یقول لھ كن فیكون] البقرة: . 117<br />
وقولھ: [إِنما أمره إِذا أراد شیئاً أن یقول لھ كن فیكون] یس:<br />
أقول: لعقیدة القضاء والقدر غایتان عظیمتان لا ینبغي للمرء أن یسھو عنھما<br />
وھو في غمار الجدال مع الفرق الضالة، أولھما تتعلق بذات اللھ سبحانھ<br />
وبصفاتھ العظیمة التي یستحقھا من غیر أن یشركھ فیھا أحد من خلقھ، فعقیدة<br />
القضاء والقدر تعني أن ما من شيء في ھذا الكون الفسیح -مھما دق َّ أو كبر-<br />
إلا بقدر، وتعني أن اللھ قادر على كل شيء وأنھ تعالى قاھر لعباده على ما<br />
یرید ویشاء، وتعني أنھ لایُسبق في شيء ولا یكون في سلطانھ ومملكتھ إلا ما<br />
یرید وھذا من تمام وكمال ربوبیتھ وإلھیتھ وعظمتھ وجبروتھ.<br />
فعقیدة القضاء والقدر من ھذا الجانب إثبات لما یستحقھ اللھ تعالى من صفات<br />
الكمال، وما یستحقھ من التعظیم والتوقیر والإِجلال والتنزیھ لجلال أسمائھ<br />
وكمال صفاتھ<br />
أما الغایة الثانیة، فھي تتعلق بالعبد ذاتھ، إذ أن من ثمار عقیدة القضاء والقدر<br />
أن تھب المرء الأمن والإطمئنان، والرضى والقناعة والزھد بما في أیدي<br />
الناس، والتفسیر الصحیح لكل ما یحدث لھ أو حولھ من غیر خوف أو جزع أو<br />
قلق أو انتحار ...<br />
فعلام الخوف والجزع، والضر ُّ كلھ بید اللھ تعالى لا یصیبك یاعبد اللھ-<br />
شيء منھ ولو اجتمع على ذلك جمیع الإنس والجن إِلا ما شاء اللھ وأراد أن<br />
یصیبك بھ ..؟! فعلام القلق على العیش والإِستشراف بما في أیدي الناس،<br />
والخیر كلھ بید اللھ تعالى لایصیبك منھ شيء إِلا بإِذن اللھ وإرادتھ .. ؟!<br />
ثم علام القنوط والأسى الشدید على نزول المصاب أو فقدان <strong>العز</strong>یز، وأنت<br />
تعلم أن خیرة اللھ لك ھي خیر من خیرتك لنفسك كما في الحدیث: "ولو اطلعتم<br />
على الغیب لرضیتم بالواقع" .. ؟!<br />
ھذا كلھ یستلزم من العبد أن یزداد حباً وتعلقاً وانقیاداً لخالقھ، وأن لا<br />
یخشى إِلا اللھ ولا یقصد إِلا اللھ، ولا یرجو إِلا اللھ، فللھ وحده الأمر من<br />
قبل ومن بعد، بیده الخیر والضر، والھدى والضلال، یھدي من یشاء ویضل<br />
من یشاء، ویعزّ من یشاء ویذل من یشاء.<br />
. 82<br />
-<br />
61<br />
.Ι
ش: قال اللھ تعالى: [ولا یُحیطون بھ علماً] طھ: . قال في 110<br />
(الصحاح): توھمت الشيء: ظننتُھ، وفَھمتُ الشيءَ: علمتَھ. فمراد الشیخ<br />
رحمھ اللھ: أنھ لا ینتھي إِلیھ وھمٌ، ولا یُحیط بھ علم، واللھ تعالى لایعلم<br />
كیف ھو إِلا ھو سبحانھ وتعالى (1) ، وإِنما نعرفُھ سبحانھ بصفاتھ، وھو أنھ<br />
أحدٌ، صَمَدٌ لم یلد ولم یُولد ولم یكن لھ كُفُواً أحد.<br />
قولُھ: "ولا یُشْبھھُ الأنامُ" .<br />
ش: ھذا رد لقول المشبّ ِھَةِ الذین یُشبھون الخالقَ بالمخلو ِق<br />
وتعالى، قال تعالى: [لیس كمثلھ شيءٌ وھو السمیع البصیر] الشورى:<br />
، ولیس المراد نفي الصفات كما یقول أھل البدع.<br />
أقوالُ أھلِ العلم في المشبّ ِھةِ، وفیمن یجحد الصفات بحجة عدم<br />
الوقوعِ في التشبیھ-<br />
فمن كلام <strong>أبي</strong> حنیفة رحمھ اللھ في (الفقھ الأكبر): لا یُشبھ شیئاً من<br />
خلقھ، ولا یُشبھھ شيءٌ من خلقھ، ثم قال بعد ذلك: وصفاتھ كل ُّھا خلا َف<br />
صفات المخلوقین، یعلمُ لا كعلمنا ویقدر لا كقدرتنا ویرى لا كرؤیتنا.<br />
وقال نُعیم بن حم َّاد (1) : من شب َّھ اللھَ بشيء من خلقھ فقد كَفَر، ومن أنكر<br />
ما وصف اللھُ بھ نفسَھ فقد كفر، ولیس فیما وصف اللھُ بھ نفسھ ولا رسولُھ<br />
تشبیھٌ.<br />
(2) ، سبحانھ<br />
11<br />
62<br />
Ι<br />
-<br />
(1 ( وما دام المرء مھما حاول لا یحیط بماھیة اللھ تعالى وكیفیة صفاتھ علماً،<br />
فمن التھلكة وعدم السلامة أن یكلف نفسھ عناء البحث والتأمل في ھذا الجانب<br />
من الغیب، الذي لا یعلمھ أحد إِلا اللھ Ι. ومن یتأمل سبب ھلاك وضلال<br />
المتفلسفة والمتكلمة یجد ذلك في انشغالھم في كیفیة ذات اللھ وصفاتھ وبما ھو<br />
لیس من خصوصیاتھم، وفوق طاقتھم وإمكانیاتھم.<br />
) 2 وھو رد أیضاً على من یشبھ المخلوق<br />
-أیّاً كانت صفتھ بشراً كان أم حجراً-<br />
بصفات وخصائص الخالق Ι، الذین یشركون مع اللھ في العبودیة، حیث<br />
ینسبون للمخلوق ما یستحقھ اللھ من خصائص الإلھیة، فیطیعون ھذا المخلوق<br />
لذاتھ، ویجعلون أمره وحكمھ فوق التعقیب أو المساءلة، وھم كذلك یعقدون<br />
الولاء والبراء علیھ، فیوالون ویعادون فیھ .. وغیر ذلك من الخصائص التي<br />
تُعتبر من ضروب تشبیھ المخلوق بالخالق في أخص خصائصھ، وھذا النوع<br />
من الشرك رغم استفحالھ وانتشاره بین الناس قل َّ من ینتبھ أو یشیر إلیھ.<br />
Ι
وقال إسحاق بن راھَوَ یھ (2) : من وصفَ اللھَ، فشبھ صفاتھ بصفات أحدٍ<br />
من خلق اللھ فھو كافرٌ باللھ العظیم. وقال: علامة جھم وأصحابھ: دعواھم<br />
على أھل الس ُّن َّة والجماعة ما أولعوا بھ من الكذب أنھم مُشَبّ ِھة<br />
المعطّ ِلَةِ.<br />
وكذلك قال خلق كثیر من أئِمة الس َّلَف: علامة الجھمی َّة تسمیتُھم أھلَ الس ُّن َّة<br />
مُشبھة، فإِنھ ما من أحد من نُفاة شيء من الأسماء والصفات إِلا یسمي<br />
المثبتَ لھا مُشبّ ِھاً.<br />
ولكن المشھورَ من استعمال ھذا اللفظ عند علماءِ الس ُّن َّة المشھورین: أنھم<br />
لا یریدون بنفي التشبیھ نفي الصفات، ولا یصفون بھ كل من أثب َت<br />
الصفات، بل مُرادھم أنھ لا یُشبھ المخلوقَ في أسمائھ وصفاتھ وأفعالھ، كما<br />
تقدم من كلام <strong>أبي</strong> حنیفة: أنھ تعالى یعلمُ لا كعلمنا، ویقدِرُ لا كقُدرتنا، ویرى<br />
لا كرؤیتنا، وھذا معنى قولھ تعالى: [لیس كمثلھ شيء وھو السمیع<br />
البصیر] . فنفى المِثْلَ وأثبتَ الوصفَ .<br />
ونفيُ مشابھة شيءٍ من مخلوقاتھ لھ، مستلزم لنفي مشابھتھ لشيء من<br />
مخلوقاتھ، فلذلك اكتفى الشیخ رحمھ اللھ بقولھ: ولا یشبھھ الأنامُ، والأنام:<br />
الناسُ ، وقِیل: الخلق كل ُّھم، وقیل: كل َّ ذي روحٍ، وقیل الثقلان، وظاھرُ قولھ<br />
(3) ، بل ھم<br />
(1 ( ھو نعیم بن حماد الخزاعي المروزي، أبو عبد اللھ، أول من جمع المسند في<br />
الحدیث، كان من أعلم الناس بالفرائض، أقام مدة في العراق والحجاز یطلب<br />
الحدیث، ثم سكن مصر، مات سنة ثمان وعشرین ومائتین. انظر (سیر أعلام<br />
النبلاء:<br />
(2 ( ھو إِسحاق بن إِبراھیم التمیمي المروزي أبو یعقوب، عالم خراسان في<br />
عصره، قال فیھ الخطیب البغدادي: اجتمع لھ الحدیث والفقھ والحفظ والصدق<br />
والورع والزھد. روى عنھ البخارى ومسلم والترمذي وغیرھم.<br />
وقال الإمام أحمد: لم یعبر الجسر إِلى خراسان مثل إسحاق وإن كان یخالفنا في<br />
أشیاء، فإن الناس لم یزل یُخالف بعضھم بعضاً. انظر (سیر أعلام النبلاء:<br />
.(383-358/11<br />
(3 ( ومن علامتھم أیضاً وصفھم لأھل الس ُّن َّة والتوحید بأنھم في الإیمان والوعد<br />
63<br />
.(595/10<br />
والوعید خوارج وغلاة.
.<br />
. 111<br />
10<br />
. 58<br />
(2)<br />
.3-1<br />
]<br />
تعالى: [والأرض وضعھا للأنام] الرحمن: . یشھد للأول أكثر من<br />
الباقي (1) . واللھ أعلم.<br />
قولُھ: "حِ ي ٌّ لا یموتُ ، قَی ُّوٌ م لا ینامُ" .<br />
ش: قال تعالى: اللھُ لا إِلھ إِلا ھو الحي ُّ القی ُّومُ لا تأخذُهُ سِنَةٌ ولا<br />
نوم] البقرة: . فنفيُ السّ ِنَةِ والنوم دلیل على كمال حیاتھ وقیومی َّتِھ،<br />
وقال تعالى: [الم. اللھُ لا إلھ إلا ھو الحي ُّ القیوم. نز َّل علیك الكتابَ<br />
بالحق] آل عمران:<br />
وقال تعالى: [وعنت الوجوه للحيّ ِ القیوم] طھ: [وتوكل على<br />
الحيّ ِ الذي لایموت وسبح بحمده] الفرقان: [ھو الحي لا إِلھ إِلا ھو]<br />
غافر: ε: "إِن اللھ لاینام، ولا ینبغي لھ أن ینام" (3)<br />
لم َّا نفى الشیخُ رحمھ اللھ التشبیھ، أشارَ إِلى ما تقعُ بھ التفرقةُ بینَھُ وبین<br />
خلقھ، بما یتصف بھ تعالى دون خلقھ، فمن ذلك: أنھ حي ٌّ لا یموت، لأن<br />
صفة الحیاة الباقیة مختصة بھ تعالى دون خلقھ، فإِنھم یموتون ومنھ أنھ قیومٌ<br />
لا ینامُ، إِذ ھو مُختص ٌّ بعدم النوم والسّ ِنَة دون خلقھ، فإِنھم ینامون، وفي<br />
ذلك إِشارة إِلى أن نفي التشبیھ لیس المرادُ بھ نفي الصفات، بل ھو<br />
سبحانھ موصوفٌ بصفات الكمال، لكمال ذاتھ.<br />
-ھذان الاسمانِ من أعظمِ أسماء اللھِ الحسنى-<br />
255<br />
. 65 وقال<br />
واعلم أَن َّ ھذین الاسمین، أعني: الحي َّ القیومَ، ھما من أعظم أسماءِ الل ِھ<br />
الحسنى، حتى قیل: إن َّھما الاسمُ الأعظم (4) ، فإنھما یتضم َّنا إثباتَ صفاتِ<br />
(1 ( كونھ یشھد للأول لایفھم منھ ولا یستلزم أن یكون غیر الأنام من الخلق یشبھ<br />
اللھ تعالى في شيء من صفاتھ.<br />
( 2 )<br />
السنة: النعاس، وھو النوم الخفیف.<br />
(3 ( رواه مسلم، وابن ماجھ، والدارمي.<br />
(4 ( عن أنس أنھ كان مع رسولِ اللھ إني<br />
ε جالساً، ورجلٌ یُصلي، ثم دعا: اللھم َّ<br />
أسألك بأن لك الحمد، لا إلھ إلاّ أنت المنان بدیع السماوات والأرض، یا ذا<br />
الجلال والإكرام، یاحي یاقیوم. فقال النبي "لقد دعا اللھ باسمھ العظیم الذي<br />
إذا دُعي بھ أجاب، وإذا سُئل بھ أعطى". صحیح سنن <strong>أبي</strong> داود:<br />
. 1326<br />
ε<br />
64
الكمال أكمل تضمّنٍ وأصدَقَھُ، ویدل ُّ القیومُ على معنى الأزلیة والأبدیة مالا<br />
یَدُل ُّ علیھ لفظُ القدیم، ویدُل ُّ أیضاً على كونھ موجوداً بنفسھ وھو معنى كونھ<br />
واجبَ الوجود، والقیومُ أبلغُ من (القی َّام)، لأن َّ الواو أقوى من الألف، ویُفیدُ<br />
قیامَھ بنفسھ وإقامتھ لغیره وقیامھ علیھ، وھو یُفیدُ دوامَ قیامھ وكمالَ قیامھ،<br />
بما فیھ من المبالغة، فھو سبحانھ لا یزولُ ولا یأفكُ؛ فإن َّ الآفِكَ قد زال<br />
قطعاً، أي: لایغیبُ ، ولا یَنْقُصُ ، ولا یفنى، ولا یَعْدَمُ، بل ھو الدائِمُ الباقي<br />
الذي لم یزَ لْ ولا یزالُ موصوفاً بصفات الكمال.<br />
واقترانُھ بالحيّ ِ، یستلزمُ سائر صفاتِ الكمال، ویدل ُّ على بقائھا ودوامھا،<br />
وانتفاءِ النقصِ والعدَم عنھا أزلاً وأبداً، ولھذا كانَ قولُھ: [اللھُ لا إلھَ إلا َّ ھ َو<br />
الحي ُّ القیومُ]، أعظمَ آیة في القرآنِ ، كما ثبتَ ذلك في الصحیحِ عن النبيّ ِ<br />
. (1) ε<br />
وعن أسماء بنت یزید: أن النبي قال: "اسم اللھ الأعظم في ھاتین الآیتین<br />
[وإلھكم إلھٌ واحدٌ لا إلھَ إلا ھو الرحمن الرحیم] وفاتحة آل عمران: [الم. اللھُ<br />
لا إلھَ إلاّ ھو الحي ُّ القیومُ]". صحیح سنن <strong>أبي</strong> داود:<br />
وكان النب ُّي ε، إذا حزبھ أمرٌ قال: " یا حي ُّ یاقی ُّومُ برحمتِكَ أستغیثُ ". صحیح<br />
الكلم الطیب:<br />
(1 ( رواه مسلم وغیره، وتمام الحدیث، أن َّ النب َّي ε سأل أُبي بن كعب، فقال:<br />
"یا أبا المنذر أتدري أي ُّ آیةٍ من كتابِ اللھِ معكَ أعظمُ ؟" قال: قلت: [اللھ لا<br />
إلھ إلا َّ ھو الحي ُّ القیومُ]، قال: فضربَ في صدري وقال: "واللھِ لیَھْنِكَ العِلْمُ<br />
یاأبا المنذر". أي لیسھل لك طلب العلم وفھمھ.<br />
ومعنى قولھ تعالى: [اللھ لا إلھ إلا ھو الحي القیوم]، أي لا معبود بحق في<br />
الوجود إلا اللھ تعالى، الذي من أسمائھ وصفاتھ أنھ الحي القیوم، وفي الآیة دلالة<br />
أن المستحق للعبادة ھو الذي تتوفر فیھ صفات الكمال كلھا التي تنفي كل ما<br />
یضادھا من صفات الضعف والنقص، والتي لأجلھا یجب أن یُعبد، أما من<br />
یعتریھ النقص والضعف ولا یتصف بصفات الكمال -وھو شأن كل مخلوق- لا<br />
یجوز أن یدعي الإلھیة أو شیئاً من خصائصھا، كما لا یجوز أن یُخص بالعبادة<br />
ولو في وجھ أو مجال من مجالاتھا، وعجباً لأناس كیف یضلوا عن عبادة الخالق<br />
العظیم الذي لھ الأسماء الحسنى، ویھتدوا إِلى عبادة العبد المخلوق الضعیف<br />
الذي یموت وینتابھ النقص والعجز من كل وجھ ؟!!<br />
. 1327<br />
65<br />
ε<br />
. 101
فعلى ھذین الإسمین مدَارُ الأسماء الحُسنى كُلّ ِھا، وإلیھما یرجِ عُ معانیھا،<br />
فإن َّ الحیاةَ مستلزِ مةٌ لجمیعِ صفاتِ الكمالِ، فلا یتخل َّفُ عنھا صِ فَةٌ منھا إلا َّ<br />
لِضعفِ الحیاةِ، فإذا كانت حیاتُھ تعالى أكملَ حیاة وأتم َّھا، استلزَ مَ إثباتھا<br />
إثباتَ كل كمالٍ یُضاد ُّ نفیُھ كمالَ الحیاة. وأم َّا القیّومُ، فھو متضمّ ِنٌ كمالَ<br />
غناه وكمالَ قُدرتھ، فإن َّھُ القائِمُ بنفسھِ، فلا یحتاجُ إِلى غیرهِ بوجھٍ من الوجوهِ،<br />
المقیمُ لغیرهِ، فلا قِیامَ لغیرهِ إلا َّ بإقامتھ.<br />
قولُھ: "خالِقٌ بِلاَ حاجَةٍ، رازقٌ بِلا مؤُونَة".<br />
ش: قال تعالى: [وما خلقتُ الجن َّ والإنسَ إِلا لیعبدون (1) . ما أُریدُ منھم<br />
من رزقٍ وما أُرید أن یُطعمون إِن اللھَ ھو الرز َّاقُ ذُو القو َّ ة المتین]<br />
(1 ( معنى قولھ تعالى: إلا َّ لیعبدون]، أي أن الغایة من<br />
[وما خلقت الجِ ن َّ والإِ نسَ<br />
خلق الخلق، وإِرسال الرسل، وإِنزال الكتب ھو إِفراد اللھ تعالى وحده بالعبادة<br />
دون أحد سواه، والآیة تتضمن النفي البات التام، واستثناء یتبعھ إِثبات كامل،<br />
وھذا في اللغة یعتبر من أقوى صور الحصر والقصر، "ومعناھما النفي البات<br />
من جھة، والحصر الكامل من الجھة الأخرى، نفي أي غایة للوجود البشري<br />
غیر عبادة اللھ، وحصر غایة ھذا الوجود كلھ في عبادة اللھ" (مفاھیم ینبغي<br />
أن تصحح لمحمد قطب).<br />
والعبادة تعني: التذلل والخضوع، والطاعة، والدینونة، ومنھ الطریق المعبد<br />
إِذا كان مذللاً بكثرة الوطء.<br />
وشرعاً تعني كما یقول أَھْل العلم: فھي اسم جامع لكل ما یحبھ اللھ ویرضاه<br />
من الأقوال والأعمال الظاھرة والباطنة.<br />
وقالوا: فھي تتضمن كمال الخضوع والطاعة والانقیاد مع كمال الحب <br />
تعالى؛ فمن أتى بالطاعة والانقیاد لظاھر الشریعة من غیر حب تعالى فھو<br />
منافق مبغض، ومن زعم حب اللھ تعالى من غیر طاعة ولا انقیاد لظاھر<br />
الشریعة فھو زندیق كذاب، یجب اجتنابھ والحذر منھ، كما قال تعالى: [قل إن<br />
كنتم تحبون اللھ فاتبعوني یحببكم اللھ] آل عمران:<br />
قال ابن كثیر: ھذه الآیة حاكمة على من ادعى محبة اللھ ولیس ھو على<br />
الطریقة المحمدیة، فإنھ كاذب في دعواه في نفس الأمر حتى یتبع الشرع<br />
المحمدي والدین النبوي في جمیع أقوالھ وأفعالھ ا-ھ.<br />
وبالتالي فإن َّ العبد عندما یُطالَب بعبادة اللھ تعالى وحده، فھو یُراد منھ ھذا<br />
المعنى العام الشامل للعبادة: عبادتھ تعالى وحده في الركوع والسجود<br />
والخضوع، وعبادتھ وحده في الصوم والحج والنذر والنسك، وعبادتھ في الحب<br />
.31<br />
66
. 58-56<br />
. 15<br />
الذاریات: [یا أیھا الناسُ أنتم الفقراءُ إِلى اللھ، واللھ ھو الغني<br />
الحمید] فاطر: [قل أغیرَ اللھ أتخذُ ولیّاً فاطر السماوات والأرض<br />
وھو یُطعِمُ ولا یُطعَمُ] الأنعام: في الحدیث القدسي: “یاعبادي لو<br />
أن َّ أولَكُم وآخِ رَ كُم وإنسَكُم وجِ ن َّكُم كانوا على أتقى قلب رجلٍ واحدٍ منكم ما<br />
زاد ذلك في ملكي شیئاً، یاعبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا<br />
على أفجرِ قلبِ رجلٍ واحدٍ منكم ما نقص ذلك من ملكي شیئاً، یاعبادي لو<br />
أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعیدٍ واحدٍ، فسألوني،<br />
فأعطیت كل إنسان مسألتھ ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ینق ُص<br />
المِخْیَطُ(1) إذا أُدخِ لَ البحرَ<br />
وقولٌھ: بِلا مؤونةٍ: بلا ثِقَلٍ و لا كُلْفَةٍ.<br />
مُمیتٌ بِلا مخافةٍ، باعِثٌ بِلا مَشَق َّةٍ<br />
ش: الموتُ صفةٌ وجودی َّةٌ، قال تعالى: [الذي خلقَ الموتَ والحیاةَ<br />
لیبلوكم أیكم أحسنُ عملاً] الملك: 2. والعدم لا یُوصف بكونھ مخلوقاً، وفي<br />
الحدیث: " إنھ یُؤتى بالموت یوم القیامة على صورة كَبْشٍ أملحٍ، فیُذبح بین<br />
الجنة والنار" (4) ، وھو وإن كان عرَ ضاً فاللھ تعالى یقلبھ عیناً(5) .<br />
. "<br />
. 14 قال ε<br />
. (3) " (2)<br />
قولُھ: "<br />
67<br />
.163-162<br />
( 1 )<br />
( 2 )<br />
والكره والموالاة والمعاداة، وفي الجھاد والتضحیة والأمر بالمعروف والنھي<br />
عن المنكر، وعبادتھ وحده في الخشیة والتوكل، وغیرھا من الأمور الواجبة<br />
والمستحبة شرعاً، والتي تتخلل جمیع حیاة الإنسان، كما قال تعالى: [قل إن<br />
صلاتي ونسكي ومحیاي ومماتي رب العالمین لا شریك لھ وبذلك أمرت وأنا<br />
أول المسلمین] الأنعام:<br />
تقدیره: ینقص المخیط ماءَ البحر إذا أدخل فیھ.<br />
أقول: إلھ ھذه ھي قدرتھ وصفاتھ، وھذا ھو ملكھ واستغناؤه، لجدیرٌ بأن یُعبد<br />
وحده، ولا یشرك بھ شیئاً.<br />
(3 ( رواه مسلم، وأحمد.<br />
(4 ( متفق علیھ. والحدیث فیھ دلالة على الحیاة الأبدیة یوم القیامة، حیث حیاة لا<br />
یتبعھا موت، فھنیئاً لمن كانت حیاتھ الأبدیة في الجنان یتنعم بخیراتھا، وخاب<br />
وخسر من آلت حیاتھ الأبدیة إِلى جھنم تتلمظھ حی َّاتھا...<br />
( 5 )<br />
أي جسماً یُدرك بالحواس كصورة الكبش الحقیقي.
ما زال بصفاتھ قدیماً(1) قبل خلقھ ولم یزدَدْ بكونِھم<br />
شیئاً لم یكن قبلھم من صِ فَتھ، وكما كان بصفاتھ أزلیاً، كذلك لا<br />
یزال علیھا أبدیاً " .<br />
ش: أي أن اللھَ سبحانھ وتعالى لم یزل متصفاً بصفات الكمال:<br />
صفات الذات، وصفات الفعل، ولا یجوز أن یعتقد أن اللھ وُ صِ فَ بصف ٍة<br />
بعد أن لم یكن متصفاً بھا. لأن صفاتھ سبحانھ صفاتُ كمال، وفقدھا صِ فةُ<br />
نقصٍ ، ولا یجوز أن یكون قد حصلَ لھ الكمال بعد أن كان متصفاً<br />
بضِ دّ ِه.<br />
-مباشرة اللھِ عز وجل لفعل في وقتٍ دون وقت، لایستلزمُ بحال<br />
أن اللھَ لم یكنْ متصفاً بھذا الفعل قبل فعلھ-<br />
ھذه الأحوال: صفات الفعل، والصفات الإختیاریّ ِة، كالخلق، والتصویر،<br />
والإحیاء، والإماتة، والقبضِ ، والبسط، والإستواء، والإتیان، والمجيء،<br />
والنزول، والغضب، ونحو ذلك مما وصف بھ نفسُھ ووصفھ بھ رسولُھ،<br />
وإن كانت تحدث في وقت دون وقت، كما في حدیث الشفاعة: "إن ربي<br />
غَضِ بَ الیومَ غضباً لم یغضب قبلَھُ مثلھ، ولن یغضب بعده مثلھ" (2) . ھذا<br />
الحدوث بھذا الإعتبار غیر مُمتنع، ولا یُطلق علیھ أنھ حدث بعد أن لم یكُن،<br />
ألا ترى أن من تكلم الیومَ وكان مُتكلماً بالأمس لا یُقال: إِنھ حدث لھ الكلامُ،<br />
ولو كان غیر متكلم -لآفةٍ كالصغر والخرس- ثم تكلم، یُقال: حدثَ لھ<br />
الكلامُ، فالساكتُ لغیر آفةٍ یُسم َّى متكلماً بالقوة، بمعنى أنھ یتكلمُ إذا شاءَ.<br />
وفي حال تكلمھ یُسمى متكلماً بالفعل، وكذلك الكاتب في حال الكتابة ھو<br />
كاتب بالفعلِ، ولا یخْرجُ عن كونھ كاتباً في حال عدم مباشرتھ للكتابة (3) .<br />
-ھل الصفةُ زائدةٌ على الذاتِ أم لا؟-<br />
68<br />
قولُھ: "<br />
1)<br />
قد تقدم أن اسم "القدیم" لایصح ولم یثبت بالدلیل الشرعي أنھ اسم من أسماء<br />
اللھ الحسنى، وأنھ كذلك لا یفید الكمال كاسم "الأول" الثابت في النصوص<br />
الشرعیة، وھو من إطلاقات أھل الكلام ومصطلحاتھم.<br />
(2 ( متفق علیھ.<br />
(3 ( جاء في الحدیث الصحیح أن اللھ تعالى أول ما خلق القلم، فأمره أن یكتب ما<br />
ھو كائن إِلى یوم القیامة. فكون القلم أول خلق خلقھ اللھ تعالى لا یستلزم أن اللھ<br />
قبل خلقھ للقلم لم یكن خالقاً، بل كان خالقاً یخلق ما یشاء لو شاء ولكن قضت<br />
حكمتھ وشاءت أن لا یخلق شیئاً قبل القلم.
كان أئمةُ الس ُّن َّة رحمھم اللھ تعالى لا یُطلِقون على صفات اللھ وكلامھ<br />
أنھ غیره، ولا<br />
(1)<br />
أنھ لیس غیرُ ه، لأن إطلاقَ الإِثبات قد یُشعِرُ أن ذلك مباینٌ لھ، وإطلاق<br />
النفي قد یُشعر بأنھ ھو ھو (2) .<br />
ولفظ (الغیر) فیھ إِجمالٌ، فلا یُطلق إِلا مع البیان والتفصیل، فإن أُریدَ بھ<br />
أن ھناك ذاتاً مجردةً منفصلةً عن الصفات الزائدة علیھا، فھذا حق ٌّ، ولكن<br />
لیس في الخارج ذات مجردة عن الصفات، بل الذاتُ الموصوفةُ بصفات<br />
الكمال الثابتة لھا لا تنفصلُ عنھا.<br />
وقد یقول بعضُھم: الصفة لا عینْ الموصوف ولا غیرُ ه. وھذا لھ معنى<br />
صحیح، وھو: أن الصفةَ لیست عینَ ذاتِ الموصوف التي یفرضھا الذھن<br />
مجردة بل ھي غیرھا، ولیست غیر الموصوف، بل الموصوف بصفاتھ<br />
شيء واحدٌ غیر مُتعدّ ِد.<br />
-الفرق بین الصفاتُ غیرُ الذات وبین صفاتُ اللھ غیرُ اللھ-<br />
والتحقیق أن یُفر َّ ق بین قول القائل: الصفاتُ غیرُ الذات وبین قولِھ:<br />
صفاتُ اللھِ غیرُ اللھ، فإِن الثاني باطلٌ، لأن مسم َّى اللھ یَدخل فیھ صفاتُھ<br />
بخلاف مسمى الذات، فإنھ لایدخل فیھ الصفات. ولھذا قال الشیخ رحمھ<br />
اللھ: "لا زال بصفات" ولم یقل لازال وصفاتھ (3) ، لأن العطف یؤذنُ<br />
بالمغایرة (4) . وكذلك قال الإمام أحمد في مناظرتھ الجھمیة، لانقول: اللھ<br />
وعلمھ، اللھ وقدرتھ، اللھ ونوره، ولكن نقول: اللھ بعلمھ وقدرتھ ونوره<br />
ھو إِلھ واحد سبحانھ وتعالى.<br />
فإذا قلت: أعوذ باللھ، فقد عذت بالذات المقدسة الموصوفة بصفات<br />
الكمال المقدس الثابتة التي لاتقبل الإنفصال بوجھ من الوجوه.<br />
وإذا قلتُ : أعوذُ بعزةِ اللھ فقد عذتُ بصفةٍ من صفاتِ اللھ تعالى، ولم<br />
أعُذْ بغیرِ اللھ.<br />
-الصفاتُ لا یصح ُّ تصو ُّ رُھا منفصلةً عن الذات-<br />
69<br />
( 1 )<br />
( 2 )<br />
أي إثبات أن الصفات غیر اللھ تعالى.<br />
أي أن الصفات ھي نفسھا ذات اللھ تعالى.<br />
(3 ( لأن ھذا التعبیر یفید الإنفصال والمواكبة، وأن الصفات شيء آخر غیر اللھ<br />
Ι، وھذا لا یصح.<br />
( 4 )<br />
أي بالمخالفة، وأن الصفات شيء آخر غیر اللھ تعالى.
ε<br />
فعُلِمَ أن الذات لا یُتصور انفصال الصفات عنھا بوجھ من الوجوه. وقد<br />
قال : "أعوذُ ِ بعزّ ة اللھ وقدرَ تِھ من ِ شرّ ما أجد وأُحاذِر"<br />
بكلمات اللھِ التامات من ِ شرّ ما خلَق" بغیر اللھ .<br />
من صفاتھ تعالى، أنھ یفعلُ ما یشاءُ وقت یشاء، وكل ُّ ما سواه<br />
فھو مُحدَثٌ كائنٌ بعد أن لم یكُنْ<br />
والمستقبل، كما یقولھ أئمة الحدیث،<br />
والحوادِثُ یُمكن دوامھا في الماضي (3)<br />
فإن الرب َّ سبحانھ وتعالى لم یَزل ولا یزالُ یفعل ما یشاء، ویتكل َّمُ إذا یشاء،<br />
قال تعالى: [قال كذلكَ اللھُ یفعل ما یشاء] آل عمران: [ولكن َّ اللھَ<br />
یفعل ما یُرید] البقرة: [ذو العرش المجید. فعالٌ لما یُرید] البروج:<br />
.[ولو أنما في الأرض من شجَرةٍ أقلامٌ والبحرُ یمده من بعده<br />
سبعة أبحرٍ ما نفِدَت كلماتُ اللھ] لقمان: [قُل لو كان البحرُ مداداً<br />
لكلماتِ ربي لنفِدَ البحرُ قبل أن تنفدَ كلماتُ ربي ولو جئنا بمثلھ مَدداً]<br />
الكھف: 109. وقال غیر واحد من الس َّلَف: الحي ُّ الفع َّالُ. وقال عثمان بن<br />
(1) . وقال :ε "أعوذ<br />
.40<br />
-<br />
(2) . ولا یعوذُ ε<br />
.28<br />
.253<br />
-<br />
16-15<br />
(1 ( رواه مسلم، وغیره. وتمام الحدیث: عن عثمان بن <strong>أبي</strong> العاص الثقفي، أنھ شكا<br />
إِلى رسول اللھ وجعاً في جسده منذ أسلم. فقال رسول اللھ ε: "ضع یدك على<br />
الذي تألم من جسدك وقل: بسم اللھ ثلاثاً، وقل سبع مرات: أعوذ باللھ وقدرتھ<br />
من شر ما أجد وأُحاذر". وجاء في روایة الترمذي بلفظ: "أعوذ بعزة اللھ<br />
وقدرتھ من شر ما أجد" دون لفظة (وأحاذر). ومعنى وأحاذر: أي احترز وألوذ<br />
باللھ من شر ما أجد.<br />
(2 ( رواه مسلم، وأبو داود وغیره، وسنده صحیح. وتمام الحدیث: عن خولة بن<br />
حكیم السلمیة قالت: سمعت رسول اللھ یقول: "من نزل منزلاً، ثم قال: أعوذ<br />
بكلمات اللھ التامات من شر ما خلق، لم یضره شيء حتى یرتحل من منزلھ<br />
ذلك".<br />
(3 ( جاء في الحدیث الذي یرویھ ابن عباس عن النبي أنھ قال: "إن أول شيء<br />
خلقھ اللھ تعالى القلم، وأمره أن یكتب كل شيء یكون". السلسلة الصحیحة:<br />
(133). ففي الحدیث دلالة صریحة أن للحوادث بدایة، كما یقول الشارح.<br />
ε<br />
ε<br />
70<br />
ε
سعید (1) : كل حي فعال، ولم یكن رب ُّنا تعالى قط في وقتٍ من الأوقات مُعطلاً<br />
عن كمالھ من الكلام والإرادة والفعل (2) .<br />
ولا شك أن جمھورَ العالَم من جمیع الطوائف، یقولون: إن كُل َّ ما سوى<br />
اللھ تعالى مخلوقٌ، وكائن بعد أن لم یكن، وھذا قول الرسل وأتباعھم من<br />
المسلمین والیھود والنصارى وغیرھم.<br />
- خلاصَةُ القولِ<br />
والمقصودُ: أن الذي دل علیھ الشرعُ والعقل، أن كل َّ ما سوى اللھ تعالى<br />
مُحدثٌ كائنٌ بعد أن لم یكن. أما كونُ الربِّ تعالى لم یَزلْ معط َّلا عن<br />
ثم فعلَ، فلیس في الشرعِ ولا في العقل ما یُثبتھ، بل كلا ھما یدل<br />
الفعل (3)<br />
على نقیضھ.<br />
قولُھ: "لیس منذُ خلَقَ الخلْقَ استفادَ اسمَ الخالق، ولا بإحداثِ ِھ<br />
البری َّةَ استفادَ اسمَ الباري" .<br />
ش: ظاھر كلام الشیخ رحمھ اللھ تعالى أنھ یَمنع تسلسُ َل<br />
الحوادث في الماضي (4) ، ویأتي في كلامھ ما یدل على أنھ لا یمنعھ في<br />
المستقبل، وھو قولھ: "والجنةُ والنار مخلوقتان لا تفنیان أبداً ولا تبیدان"،<br />
وھذا مذھب الجمھور كما تقدم.<br />
-<br />
(1 ( وھو الإمام أبو سعید عثمان بن سعید الدارمي، صاحب المسند الكبیر، توفي<br />
ھ). مترجم لھ في (سیر أعلام النبلاء:<br />
(2 ( لا یستلزم كلامھ أن الحوادث متسلسلة إِلى ما لا نھایة، بل یفھم من كلامھ<br />
إثبات صفات الكمال ، ونفي التعطیل عنھا أو النقص، فربنا كما أنھ یخلق ما<br />
یشاء وقت یشاء كذلك لا یخلق وقت یشاء، فاللھ تعالى لایُكرھھ شيء على أن<br />
یخلق كما أنھ لا یمنعھ شيء من أن یخلق لو شاء، وھذا لا یستلزم التعطیل بل<br />
ھو من كمال التنزیھ والتوحید.<br />
أول ما خلق القلم كما جاء في الحدیث الصحیح، لا یستلزم منھ أن<br />
قبل خلق القلم لم یكن خالقاً بل كان خالقاً یخلق ما یشاء لو شاء، ولكن قضت<br />
حكمتھ سبحانھ أن لا یخلق قبل القلم شیئاً، فاللھ تعالى لا یُكره على شيء، ولا<br />
نقول یجب على اللھ أن یستمر في الخلق -تعالى اللھ- حتى لا تتعطل صفتھ<br />
(الخالق)، بل یكفینا أن نقف عند قول النبي من دون تقدیم أو تأخیر.<br />
(4 ( ھذا ھو الحق الذي لا ریب فیھ، لحدیث النبي ε: "أول شيء خلقھ اللھ تعالى<br />
القلم".<br />
Ι<br />
.(319/13<br />
ε<br />
71<br />
سنة (280<br />
) 3 كون الرب<br />
Ι
وقولُ من قال بجوازِ حوادث لا أولَ لھا، من القائلین بحوادث لا آخر<br />
لھا، أظھر في الصحة من قول من فرق بینھما (1) ، فإنھ سبحانھ لم یزل حیاً،<br />
فلم یزل فاعلاً لما یُرید كما وصف بذلك نفسھ، حیث یقول: [ذو العرش<br />
المجید، فع َّال لما یُرید] البروج:<br />
والقولُ بأن الحوادث لھا أو َّ لُ: یلزمُ منھ التعطیل قبل ذلك، وأن اللھَ<br />
سبحانھ وتعالى لم یزلْ غیرَ فاعلٍ، ثم صارَ فاعلاً(2) !!<br />
وقولُھ: "لھ معنى الربوبی َّةِ ولا مربوبَ ، ومعنى الخالِق ولا<br />
مخلوقَ"<br />
ش: یعني أن اللھَ تعالى موصوفٌ بأنھُ "الرب ُّ " قبل أن یوجد مربوبٌ ،<br />
وموصوفٌ بأنھ "خالقٌ" قبل أن یوجد مخلوقٌ(3) .<br />
.16-15<br />
72<br />
( 1 )<br />
باعتبار أن الحوادث لھا أول، بینما لا آخر لھا، للنصوص الدالة على أن الجنة<br />
والنار لا تفنیان وھما باقیتان أبداً. ولا شك أن ھذا القول ھو الأصوب والأصح<br />
لدلالة النصوص علیھ، ولیس كما قال الشارح أن الصواب في عكسھ مخالفاً في<br />
ذلك مذھب الجمھور وصاحب المتن كما ھو مثبت أعلاه!<br />
(2 ( ذكرنا من قبل أن اللھ تعالى إذا قضت حكمتھ أن لا یخلق في وقت من<br />
الأوقات لا یستلزم ذلك أن اللھ لم یعد خالقاً في ھذا الوقت وأن صفتھ قد<br />
تعطلت! بل اللھ یخلق ما یشاء وقت یشاء، فإن شاء خلق وإن لم یشأ أن یخلق<br />
لا یخلق، فلا مُكره لھ على شيء Ι، وھو في كلا الحالتین خالق فعال لما یرید.<br />
ثم لیس من السلامة التكلف وأن نعمل العقل من غیر دلیل صحیح صریح فیما<br />
یخص صفات اللھ Υ، بدعوى التنزیھ ونفي التعطیل، وإنما السلامة كل<br />
السلامة أن نثبت ما أثبتتھ الس ُّن َّة الصحیحة، وننفي ما نفتھ من دون تقدیم أو<br />
تعقیب أو تكل ُّف أو تكییف.<br />
یقول الشیخ محمد ناصر الدین الألباني، في تعلیقھ على حدیث "إن أول شيء<br />
خلقھ اللھ تعالى القلم": من فوائد الحدیث: فیھ رد على من یقول بحوادث لا أول<br />
لھا، وأنھ ما من مخلوق إلا ومسبوق بمخلوق قبلھ، وھكذا إِلى ما لا بدایة لھ،<br />
بحیث لا یمكن أن یقال: ھذا أول مخلوق. فالحدیث یبطل ھذا القول ویعین أن<br />
القلم ھو أول مخلوق، فلیس قبلھ قطعاً أي مخلوق. (السلسلة الصحیحة:<br />
.(208/1<br />
( 3 )<br />
فدل أن عدم وجود المخلوق لا یستلزم أن لا یوصف اللھ تعالى بأنھ خالق، بل<br />
إن اللھ تعالى خالق فعال لما یرید قبل أن یخلق وقبل أن یوجد مخلوق في<br />
الوجود. فانتفاء وجود المخلوق لا یستلزم انتفاء وتعطیل صفات الخالق Ι، كما
قولُھ: "وكما أنھ مُحي الموتى بعدَ ما أحیا، استحق َّ ھذا الاسم<br />
قبلَ إحیائِھم، كذلك استحق اسمَ الخالِق قبل إنشائِھم".<br />
ش: یعني أنھ سبحانھ وتعالى موصوفٌ بأنھ مُحیي الموتى قبل إحیائھم،<br />
فكذلك یُوصفُ بأنھ خالقٌ قبل خلقھم.<br />
قولُھ: "ذلك بأنھ على ِ كُلّ شيءٍ قدیر، وكل ُّ شيءٍ إلیھ فقیرٌ،<br />
وكل ُّ أمرٍ علیھ یسیرٌ، لا یحتاج إِلى شيءٍ ، لیس كمثلھ شيءٌ، وھو<br />
السمیعُ البصیرُ".<br />
ش: لا یؤمن بأنھ رب ُّ كل ُّ شيء إلا من آمن أنھ قادرٌ على تلك الأشیاء،<br />
ولا یؤمن بتمام ربوبیتھ وكمالِھا إلا من آمن بأنھ على ِ كلّ شيءٍ قدیر.<br />
وقولُھ: "لیس كمثلھ شيءٌ". رد ٌّ على المشبھة (1) ، وقولھ: "ھُو السمیع<br />
البصیر". رد ٌّ على المعَطّ ِلة، فھو سبحانھ وتعالى موصوفٌ بصفات الكمال<br />
ولیس لھ فیھا شبیھٌ، فالمخلوق وإن كان یوصف بأنھ سمیع بصیر، فلیس<br />
سمعھ وبصره كسمع الرب وبصره، إذْ صفات المخلوقِ كما یلیقُ بھ،<br />
وصفاتُ الخالق كما یلیقُ بھ.<br />
-ما یلزمُ على العبدِ تجاهَ ربھ-<br />
لاتنفِ عن اللھ ما وصفَ بھ نفسھ، وما وصفَھُ بھ أعرَ فُ الخلقِ بربھ<br />
وما یجبُ لھ وما یمتنعُ علیھ، وأنصَحُھم لأمتھ وأفصحُھم وأقدَرُ ھم على<br />
البیان، فإنك إن نفیت شیئاً من ذلك كنت كافراً(2) بما أُنزِ ل على محمد<br />
،ε<br />
.ε<br />
یفترض الشارح ذلك بقولھ: "والقول بأن الحوادث لھا أول یلزم منھ التعطیل قبل<br />
ذلك"!!.<br />
(1 ( وھو كذلك رد على المشبھة من جھة تشبیھ المخلوق بالخالق وخصائصھ، وما<br />
أكثر ھؤلاء في زماننا، فكل من شبھ مخلوقاً بالخالق أو نسب إلیھ شیئاً من<br />
خصائص الإلھیة التي تفرد اللھ بھا دون سائر خلقھ، فقد وقع في التشبیھ<br />
والشرك واتخذ من ذلك المخلوق نداً وشریكاً تعالى في خصائصھ سبحانھ.<br />
( 2 )<br />
التكفیر ھنا لیس على إطلاقھ فإنھ لا بد من التفریق بین نفي ونفي، فالنفي الذي<br />
یكون مؤداه إِلى نسب الضعف والعجز أو النقص Υ، كنفي العلم والقدرة،<br />
والحیاة، وأنھ سمیع بصیر وغیر ذلك، فھذا النفي كفر وصاحبھ كافر خارج من<br />
الملة وإن ادعى أن نفیھ ناتج عن تأویل!<br />
أما من نفى صفة من صفات اللھ الفعلیة وصرفھا عن ظاھرھا متأولاً،<br />
كالنزول والمجيء، والإتیان، والإستواء وغیر ذلك مما لا یستفاد من نفیھ نسب<br />
73
وإذا وصفتَھ بما وصف بھ نفسھ، فلا تُشَبّ ِھْھُ بخلقِھ، فلیس كمثلھ شيءٌ،<br />
فإذا شبھتھ بخلقھ، كنت كافراً بھ (1) ، قال نعیم بن حماد شیخ البخاري: من<br />
شبھ اللھَ بخلقھ فقد كَفَر، ومن جحدَ ما وصف اللھُ بھ نفسَھ فقد كَفَر، ولیس<br />
ما وصف اللھُ بھ نفسھ، ولا ما وصفھ بھ رسولُھ تشبیھاً.<br />
- المَثلُ الأعلَى-<br />
وصف اللھُ تعالى نفسَھ بأن لھ المثَل الأعلى، فقال تعالى: [للذین لا<br />
یؤمنون بالآخرة<br />
مثَلُ الس َّوءِ و المَثلُ الأعلى] النحل:<br />
74
."<br />
الثاني: عِلمُ العالَمین بھا ووجودھا في العِلْم والشعور، وھذا معنى قول<br />
من قال من الس َّلَف: إنھ ما في قلوبِ عابدیھ وذاكریھ، من معرفتھ، وذكره<br />
ومحبتھ، وإجلالھ وتعظیمھ، وخوفھ ورجائھ، والتوكل علیھ والإنابة إلیھ.<br />
وھذا الذي في قلوبھم من المثَلِ الأعلى لا یَشْرَ كھ فیھ غیرُ ه.<br />
الثالث: ذِكر صفاتھ، والخبر عنھا وتنزیھھا من العیوبِ والنقائص<br />
والتمثیل.<br />
الرابع: محبةُ الموصوفِ بھا وتوحیده، والإخلاصُ لھ والتوكلُ علیھ،<br />
والإنابةُ إلیھ، وكلما كان الإیمانُ بالصفات أكمل، كان ھذا الحب والإخلاص<br />
أقوى (1) .<br />
قولُھ: " خَلَق الخلْق بعلمھِ<br />
ش: خَلَقَ: أي أوجد و أنشأَ وأبدَعَ وقد َّر، وقولھ: "بعلمھ" في محل نصب<br />
على الحال، أي: خلقھم عالماً بھم، قال تعالى: یعلمُ من خلَقَ وھو<br />
اللطیفُ الخبیر] الملك: [وعندَه مفاتِحُ الغیبِ(2) لا یعلمُھا إلا ھو<br />
] لاأ<br />
. 14<br />
75<br />
( 1 )<br />
إذ أن من طبائع القلوب النقیة الخالیة من الشرك، أن تزداد تعلقاً وحباً<br />
وخضوعاً وانقیاد اً لمن لھ صفات الكمال الذي لھ المثل الأعلى في ذاتھ<br />
وصفاتھ وأفعالھ سبحانھ، المنزه عن النقص والعیوب. ومن جھة فھي تزدري<br />
عبادة -ولو في وجھ أو مجال من مجالات العبادة- من لھ مثل الس ُّوء، ویتخللھ<br />
وصفاتھ الضعف والنقص والعیوب والآفات.<br />
[ءأرباب متفرقون] ضعفاء متشرذمون، لا یملكون لأنفسھم ضراً ولا نفعاً إلا ما<br />
شاء اللھ، [خیرٌ أم اللھُ الواحدُ القھار] الذي لھ الأسماء الحسنى، والصفات<br />
العلیا، لا یماثلھ شيء في صفاتھ وخصائصھ، وھو القاھر فوق عباده، السمیع<br />
البصیر ؟! Ι عما یشركون.<br />
(2 ( روى البخارى بسنده، أن رسول اللھ لا یعلمھا إلا<br />
قال: "مفاتح الغیب خمسٌ<br />
اللھ: [إن اللھ عنده علم الساعة، وینزل الغیث، ویعلم ما في الأرحام، وما<br />
تدري نفس ماذا تكسب غداً، وما تدري نفس بأي أرض تموت، إن اللھ علیم<br />
خبیر]". وبالتالي فمن یدعي علم الغیب من دون اللھ أو بغیر سلطان من اللھ<br />
وھذا لیس لأحد بعد الأنبیاء- كالسحرة، والعرافین، والمنجمین، وضاربي<br />
الفنجان وغیرھم من المشعوذین فھو یدعي خاصیة من خصائص اللھ التي تفرد<br />
بھا دون أحد من خلقھ، وھو بذلك مشرك مرتد بلا خلاف، قال تعالى: [قل لا<br />
یعلم من في السماوات والأرضِ الغیبَ إلا اللھ] النحل:<br />
-<br />
. 65<br />
ε
ویعلَمُ ما في ِ البرّ والبحر وما تسقطُ من ورقةٍ إلا یعلَمُھا ولا حب َّة في<br />
ظُلماتِ الأرض ولا رطبٍ ولا یابسٍ إلا في كتابٍ مُبین. وھو الذي یتوفاكم<br />
باللیل ویعلَمُ ما جرحتُم بالنھار] الأنعام:<br />
قولُھ: " وقد َّرَ لھم أقداراً".<br />
ش: قال تعالى: [وخلق كل َّ شيء فقد َّره تقدیراً] الفرقان:<br />
القمر: [الذي خلق فسوى والذي قد َّر<br />
[إنا كُ َّل شيءٍ خلقناهُ بقدَر] (2)<br />
فھدَى] الأعلى:<br />
.2<br />
(1)<br />
. 60-59<br />
. 49<br />
. 3-2<br />
وفي صحیح مسلم عن عبد اللھ بن عمر، عن النبي ε، أنھ قال: "قد َّر<br />
اللھُ مقادیرَ الخلقِ قبل أن یَخلُق السماواتِ والأرضَ بخمسین ألف سنةٍ،<br />
وكان عرشُھُ على الماء".<br />
قولُھ: "وضرَبَ لَھُم آجالاً" .<br />
ش: یعني أن اللھَ سبحانھ وتعالى قَد َّر آجالَ الخلائق، بحیثُ إذا جاء<br />
أجلُھم لا یستأخرون ساعة ولا یستقدمون، قال تعالى: [إذا جاء أجلُھم لا<br />
یستأخرون ساعةً ولا یستقدمون] النحل: [وما كان لنفسٍ أن تموت<br />
إلا بإذن اللھ كتاباً مؤج َّلاً] آل عمران: . وفي صحیح مسلم عن عبد<br />
اللھ بن مسعود، قال: قالت أم ُّ حبیبةَ زوجُ النبي ε: اللھم أمتعني بزوجي<br />
رسولِ اللھ، وبأبي <strong>أبي</strong> سفیان، وبأخي معاویة، قال: فقال النبي<br />
سألتِ اللھَ لآجالٍ مضروبةٍ، وأیام معدودةٍ، وأرزاقٍ مقسومةٍ، لن ِ یُعَجّ لَ شیئاً<br />
قبل حِ لّ ِھ (3) ، ولن یُؤخر شیئاً عن حِ لھ، ولو كُنتِ سألتِ اللھَ أن یعیذك من<br />
عذاب في النار وعذاب في القبر، كان خیراً وأفضل".<br />
ε: "قد<br />
. 61<br />
145<br />
76<br />
1) ( وقولھ:<br />
[فقدره تقدیراً]، قال البغوي: فسواه وھیأه لما یصلح لھ لا خلل فیھ ولا<br />
تفاوت، وقیل: قدر لكل شيء تقدیراً من الأجل والرزق، فجرت المقادیر على ما<br />
خلق ا-ھ.<br />
[بقدَر]، قال البغوي: أي ما خلقناه فمقدور ومكتوب في اللوح المحفوظ<br />
ا-ھ.<br />
( 3 )<br />
أي قبل حینھ وأوانھ. وما دام الأمر كذلك، فإنھ لحري بالمسلم أن لا یخشى إلا<br />
اللھ، وأن لایخاف المخلوق أیاً كان، فإن خوف المخلوق مضیعة للوقت،<br />
وإرھاق للأعصاب، وھو بنفس الوقت لایقدم أجلاً ولا یؤخر، ولا یمنع من رزق<br />
2) ( وقولھ:
فالمقتول میتٌ بأجلھ، فعلِمَ اللھُ تعالى وقد َّرَ وقضى أن ھذا یموت بسبب<br />
المرضِ ، وھذا بسبب القتل، وھذا بسبب الھدمِ ، إِلى غیر ذلك من الأسباب،<br />
واللھ سبحانھ خلق الموت والحیاة، وخلقَ سببَ الموتِ والحیاة.<br />
-تأثیرُ صلةِ الرحم في زیادة العُمُرِ ونقصانِھ-<br />
قال رسولُ اللھ ε: "صِ لَةُ الرحمِ تزیدُ في العمرِ " (1) . أي: سببُ طولِ<br />
العمر، وقد قد َّر أن ھذا یصِ لُ رحمھ، فیعیش بھذا السبب إِلى الغایة، ولولا<br />
ذلك السببُ لم یصل إِلى ھذه الغایة، ولكن قدر ھذا السبب وقضاه.<br />
-ھل للدعاء أثرٌ في زیادةِ العمر ونقصانھ ؟-<br />
الجواب: أن الدعاء لیس لھ أثر في زیادة العمر ونقصانھ، لقولھ<br />
حبیبة رضي اللھ عنھا: "قد سألتِ اللھَ لآجالٍ مضروبة"، كما تقدم.<br />
فعُلِمَ أن الأعمارَ مقدرةٌ، لم یُشرَ عُ الدعاءُ بتغییرھا (2) ، أما إن كان<br />
ε لأم<br />
ε<br />
مقدور. وقد جاء في الحدیث عن النبي أنھ قال: "لا یمنعن َّ رجلاً ھیبة الناس أن<br />
یقول بحق إذا علمھ، فإنھ لا یقرب من أجل ولا یبعد من رزق".<br />
(1 ( صحیح. وفي حدیث آخر، عن <strong>أبي</strong> ھریرة، قال: قال رسول اللھ ε: "من سره<br />
أن یُعظِم اللھ رزقھ، وأن یمد في أجلھ، فلیصل رحمھ" متفق علیھ.ومن حدیث<br />
أنس، عن النبي أنھ قال: "من سره أن یُبسط لھ في رزقھ، ویُنسأ في أثره،<br />
فلیصل رحمھ". صحیح سنن <strong>أبي</strong> داود: (1485). فإنْ قیلَ: إذا كانت الأرزاق<br />
مقسومة والآجال مضروبة لا تتأخر ولا تتقدم، فكیف تكون صلة الرحم سبباً في<br />
زیادة الرزق وطول العمر؟ فالجواب: أن اللھ تعالى یعلم من عبده -قبل خلقھ<br />
وقبل كتابة القلم- أنھ سیصل رحمھ، ویبر والدیھ وأقاربھ من ذوي الحقوق علیھ،<br />
وبناء على علمھ المتقدم ھذا یقدر لھ الزیادة في الرزق والعمر، وكون صلة<br />
الأرحام سبباً في زیادة الرزق والعمر لا یخرج ذلك عن كونھ بقضاء وقدر من<br />
خالق علیم قدیر.<br />
(2 ( ھذا الكلام لا یصح على إطلاقھ، وبخاصة أن الس ُّن َّة دلت على خلافھ، حیث أن<br />
النبي دعا لأنس بن مالك بطول العمر، كما في الحدیث عنھ قال: دعا لي<br />
رسول اللھ فقال: "اللھم أكثر مالھ وولده وأطل حیاتھ"، فاللھ أكثر مالي حتى<br />
إن كرماً لي لتحمل في السنة مرتین، وولد لصلبي مئة وستة. وقد عم َّرَ مئة<br />
وثلاث سنین، وقیل: مئة وسبع سنین .. وكذلك لما أصیب سعد بن معاذ یوم<br />
الخندق، قال: اللھم إن كنت أبقیت من حرب قریش شیئاً، فأبقني لھا. وكذلك<br />
دعوة سعد بن <strong>أبي</strong> وقاص على الرجل الذي قال في سعد: فإنھ كان لا یعدل في<br />
τ<br />
77<br />
ε<br />
ε
الدعاءُ بتغییر العمر یتضمن النفع الأخروي، فھو مشروع، كما قال<br />
ε: "اللھم بعلمك الغیب، وقدرتك على الخلق أحیني ما كانت الحیاة<br />
خیراً لي، وتوفني إذا كانت الوفاةُ خیراً لي" (1) . وكان الإمام أحمد<br />
رحمھ اللھ یكره أن یُدعى لھ بطول العمر، ویقول: ھذا أمر قد فُرِ غَ<br />
منھ.<br />
قولُھ: "ولم یَخْفَ علیھ شيءٌ قبل أن یخلُقَھُم وعَلِمَ ما ھم<br />
عاملون قبل أن یَخلُقَھم".<br />
ش: یعلم سبحانھ ما كان، وما یكون، وما لم یكن أن لو كان<br />
كیف یكون، كما قال تعالى: [ولو رُد ُّوا لعادوا لِمَا نُھوا عنھ]<br />
الأنعام: [ولو عَلِمَ اللھُ فیھم خیراً لأسمعَھم ولو أسمعھم لتول َّوا<br />
وھم مُعرضون] الأنفال: 23. وفي ذلك رد ٌّ على الرافضة<br />
78<br />
.28<br />
القضیة، ولا یقسم بالسویة، ولا یسیر بالسریة، فقال سعد: اللھم إن كان كاذباً،<br />
فأعم بصره، وأطل عمره، وعرضھ للفتن. قال عبد الملك بن عمیر: فأنا رأیتھ<br />
بعدُ یتعرض للإماء في السكك. فإذا سُئل كیف أنت؟ قال: كبیر مفتون، أصابتني<br />
دعوة سعد. والقصة متفق على صحتھا فقد رواھا البخاري ومسلم. فدل أن<br />
الدعاء لھ تأثیر في زیادة العمر ونقصانھ، وقد صح عن النبي أنھ قال: "لا<br />
یرد القدر إلا الدعاء"، ولا شك أن الموت والحیاة، والأعمار ھي من القدر،<br />
كما قال تعالى: [وإن من شيء إلا بقدر] ، وما استدل بھ الشارح -رحمھ اللھ-<br />
على منع تأثیر الدعاء في الأعمار لاحجة فیھ، حیث أن النبي لم ینكر على أم<br />
حبیبة رضي اللھ عنھا دعاءھا بأن یمتعھا اللھ بزوجھا النبي<br />
وأخیھا، وإنما بین لھا أن ما سألتھ فھو مقدور وكائن لا محال، ثم بین لھا<br />
الدعاء الأفضل، فقال لھا: "ولو كنت سألت اللھ أن یعیذك من عذاب في النار<br />
وعذاب في القبر، كان خیراً وأفضل". فمفھوم الحدیث أن سؤالھا بأن یمتعھا<br />
اللھ تعالى بالنبي ε، وبأبیھا وبأخیھا فضیل، ولكن الأفضل لو سألت اللھ أن<br />
یعیذھا من عذاب في النار، وعذاب في القبر.<br />
فإن قیل الآجال محدودة فیكف یكون الدعاء سبباً في إطالتھا؟<br />
فالجواب: یقال ما قیل في تأثیر صلة الرحم على إطالة العمر، حیث أن اللھ<br />
تعالى یعلم أن ھذا العبد سیُدعى لھ بطول العمر، وینال الدعاء عند اللھ تعالى<br />
القبول، فیطیل أجلھ وعمره بناء على علمھ السابق في ذلك قبل خلقھ.<br />
(1 ( صحیح، رواه النسائي، والحاكم وصححھ، ووافقھ الذھبي.<br />
ε، وبأبیھا<br />
ε<br />
ε
والقدریة الذین قالوا: إنھ لایعلمُ الشيءَ قبل أن یخلُقَھ<br />
ویوجِ دَه (1) !!<br />
قولُھ: "وأمرَھُم بطاعتھ (2) ، ونھاھم عن معصیتھ (3) ".<br />
ش: ذكر الشیخ رحمھ اللھ الأمرَ والنھي، بعد ذكره الخلقَ والقَدَر، إشارة<br />
إِلى أن اللھ تعالى خلق الخلْقَ لعبادتھ (4) ، كما قال تعالى: [وما خلقت الجن<br />
(1 ( وھذا كفر، لتضمنھ الشتم ووصف اللھ تعالى بالعجز والضعف، وبما لا یلیق<br />
بأسمائھ الحسنى وصفاتھ العلیا. واعلم أن أي إطلاق أو تعبیر بحق اللھ تعالى<br />
مفاده وصف اللھ تعالى بصفات تتضمن الضعف والنقص والعجز، فھو كفر<br />
یوقع صاحبھ بالكفر والردة.<br />
( 2 )<br />
الطاعة منھا ما یعتبر من لوازم الإیمان ومتطلباتھ؛ وھو العمل بالتوحید قلباً<br />
وقالباً واجتناب الشرك، وكذلك إقامة الصلاة، فھذا جانب ینتفي الإیمان بانتفائھ،<br />
وما دون ذلك من الطاعات تعتبر من مكملات الإیمان، یزداد الإیمان بإتیانھا<br />
والقیام بھا، وینقص بتركھا، ولا ینتفي مطلقاً بانتفائھا.<br />
(3 ( من المعاصي ما تخرج صاحبھا من الملة وتوقعھ في الكفر والردة، وذلك<br />
عندما تصل إِلى درجة الشرك أو الكفر باللھ تعالى، كالتوجھ بالعبادة أو بشيء<br />
من مجالاتھا لغیر اللھ تعالى فھو كفر یخرج صاحبھ من الملة، وكذلك مظاھرة<br />
المشركین على المسلمین وغیرھا من المعاصي والممارسات التي تعتبر من<br />
نواقض الإیمان.<br />
وما سوى ذلك من المعاصي كارتكاب الكبائر وما دونھا من الذنوب، فھي توجب<br />
على صاحبھا الوعید والعذاب، ولكن لا تنفي عنھ مطلق الإیمان الذي ینفع<br />
صاحبھ یوم القیامة. والمعصیة تطلق في القرآن والسنة على الكفر، وعلى ما ھو<br />
79<br />
دون الكفر.<br />
( 4 )<br />
اعلم أن غایة الغایات التي لأجلھا خلق الإنس والجن عبادة اللھ Υ، فحیثما<br />
تتحقق سلامة العبادة -بمفھومھا الشامل- وجب على المسلم أن یقیم ویشد إلیھ<br />
الرحال، وحیثما تنعدم<br />
سلامة العبادة والدین یتعین على المسلم الفرار بدینھ من ذلك المكان إِلى حیث<br />
تتحقق سلامة العبادة، والشح بالوطن والدیار والأموال لا یبرر لصاحبھ قط أن<br />
یتخلف عن عبادة اللھ كما أُمِر، والھجرة ما شرعت إلا لتحقیق ھذا المطلب<br />
الھام.
والإنس إلا لیعبدون] الذاریات: [الذي خلق الموت والحیاة لیبلوكم<br />
أیكُم أحسنُ عملاً] الملك:<br />
قولُھ: "وكُ َّل شيءٍ یجري بتقدیره ومشیئتِھِ، ومشیئَتُھ تنفذُ، لا<br />
مشیئةَ للعبادِ إلا ما شاءَ لھم، فما شاء لھم كان، وما لم یشَأْ لم<br />
80<br />
.56<br />
. 2<br />
یكُنْ " .<br />
ش: قال تعالى: [وما تشاءون إلا أن یشاءَ اللھُ إن اللھَ كان علیماً حكیماً]<br />
الدھر: [وما تشاؤون إلا أن یشاء اللھُ رب ُّ العالمین] التكویر:<br />
[ولو أننا نز َّلنا إلیھم الملائِكةَ وك َّلمھم الموتى وحشرنا علیھم كُل َّ شيءٍ<br />
قُبُلاً ما كانوا لیؤمنوا إلا أن یشاءَ اللھ] الأنعام:111. [ولو شاء رب ُّكَ لآمن<br />
من في الأرض كُل ُّھم جمیعاً] یونس: . وقال تعالى حكایة عن نوح υ إذ<br />
قال لقومھ: [لا ینفعكم نُصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان اللھُ یریدُ أن<br />
یغویَكُم] ھود: . إِلى غیر ذلك من الأدلة على أنھ ما شاء اللھُ كان وما<br />
لم یشَأْ لم یكن. وكیف یكون في ملكھِ ما لا یشاؤه! ومَن أضل ُّ سبیلاً وأكفر<br />
ممن یزعم أن اللھَ شاءَ الإیمان من الكافر، والكافرُ شاءَ الكفر، فغلبت<br />
مشیئةُ الكافر مشیئةَ اللھ ! تعالى اللھ عما یقولون علواً كبیراً.<br />
-شبھةٌ ور ٌّد-<br />
فإن قیل: یُشكِلُ على ھذا قولھ تعالى: [سیقول الذین أشركوا لو شاء<br />
اللھُ ما أشركنا ولا آباؤنا] الأنعام: [وقال الذین أشركوا لو<br />
شاء اللھ ما عبدنا من دونھ من شيء] النحل: [وقالوا لو شاء<br />
الرحمن ما عبدناھم مالھم بذلك من علم إن ھم إلا یخرصون] الزخرف:<br />
. فقد ذمھم اللھُ تعالى حیثُ جعلوا الشرك كائناً منھم بمشیئة اللھ ؟<br />
فقد أجیب على ھذا بأجوبة، منھا:<br />
أنھ أنكر علیھم ذلك، لأنھم احتجوا بمشیئتھ على رضاه ومحبتھ، وقالوا:<br />
لو كره ذلك وسَخِ طَھ، لما شاءه فجعلوا مشیئتھ دلیل رضاه، فرد اللھ<br />
علیھم ذلك. أو أنھ أنكر علیھم اعتقادھم أن مشیئة اللھ دلیلٌ على أمره.<br />
فجعلوا المشیئة العامة دافعة للأمر، فلم یذكروا المشیئة على جھة<br />
التوحید (1) ، وإنما ذكروھا معارضین بھا لأمره، دافعین بھا لشرعھ، كفعل<br />
. 29<br />
99<br />
148. وقولھ:<br />
35. وقولھ:<br />
34<br />
Ι<br />
. 30<br />
20<br />
( 1 )<br />
أي توحید اللھ في مشیئتھ النافذة في شؤون خلقھ، القاھرة لجمیع المشیئات<br />
والتي لاتعلوھا ولا تشركھا مشیئة مخلوق أیاً كانت صفتھ ونوعھ.
الزنادقة، والجھال، إذا أمروا أو نھوا احتجوا بالقدر، وقد احتج َّ سارق على<br />
عمر بالقدر، فقال: وأنا أقطع یدك بقضاء اللھ وقدره، یشھد لذلك قولھ<br />
تعالى: [كذلك كذب الذین من قبلھم] الأنعام: . فعلم أن مرادھم<br />
التكذیب.<br />
- حدیثُ احتجاجِ آدم على موسى<br />
فإن قیل: فما تقولون في احتجاج آدم على موسى بالقدَر، إذْ قال لھ<br />
أتلومني على أمرٍ قد كتبھ اللھ علي َّ قبل أن أُخلق بأربعین عاماً؟ وشھد النبي<br />
أن آدم حج َّ موسى، أي: غلبھ بالحُج َّة (1) .<br />
قیل: نتلقاه بالقبول والسمع والطاعة، لصحتھ عن رسول اللھ<br />
والصحیح أن آدم لم یحتج بالقضاء والقدر على الذنب، وھو كان أعلم بربھ<br />
وذنبھ، بل آحادُ بنیھ من المؤمنین لایحتج ُّ بالقدَر (2) ، فإنھ باطل، وموسى υ<br />
كان أعلم بأبیھ وبذنبھ من أن یلوم آدمَ υ على ذنبٍ قد تاب منھ وتاب اللھُ<br />
علیھ، وإنما وقع اللومُ على المصیبة التي أخرجت أولاده من الجنة فاحتج<br />
بالقدر على المصیبة، لا على الخطیئة، فإن القدر یُحتج بھ عند<br />
المصائب (3) ، لا عند المعایب.<br />
،ε<br />
-<br />
148<br />
ε<br />
آدم υ<br />
81<br />
( 1 )<br />
( 2 )<br />
الحدیث متفق علیھ.<br />
أي على المعصیة، كما ھو شأن الفساق والكفرة حیث تراھم یحتجون بالقدر<br />
على ارتكاب الذنوب والشرك، وھو قول أقرب ما یكون إِلى مذھب الجبریة في<br />
القدر.<br />
(3 ( لأن الاستشھاد بالقدر عند المصائب من شأنھ أن یخفف من وطأة المصیبة<br />
على المصاب المبتلى، ویكسیھ ثوب الرضى بقضاء اللھ وقدره، ویرفع عنھ<br />
الآسى الشدید الذي غالباً ما یؤدي بصاحبھ إِلى المرض أو الموت .. وحالات<br />
الانتحار التي نشھدھا في العالم الغربي الكافر ما ھي إلا بسبب فقدانھم لنعمة<br />
عقیدة القضاء والقدر كما بینھا الإسلام.<br />
فالإنسان عندما یؤمن أن ما أصابھ لم یكن لیخطئھ، وأن خیرة اللھ لعبده خیر لھ<br />
من خیرة العبد لنفسھ، وأنھ مأجور على ما أصابھ من بلاء إن شكر وصبر، فإنھ<br />
لا یحصل لھ شيء من القلق والجزع والخوف والأسى جراء نزول المصائب<br />
كما یحصل لمن لا یؤمن باللھ تعالى ولا بقضائھ وقدره. إذاً فالقضاء والقدر من<br />
ثماره أنھ یھب المرء التفسیر الصحیح لكل ما یجري حولھ من أحداث وأمور<br />
وبخاصة الغامضة منھا- من غیر مرض أو قلق أو جنون.<br />
-
وأما قول إبلیس: [ربِّ بما أغویتني لأُزینن َّ لھم في الأرضِ ولأغوین َّھم<br />
أجمعین] الحجر: 39. إِنما ذُم َّ على احتجاجھ بالقدر (1) ، لا على اعترافھ<br />
بالقدر وإثباتھ لھ، ألم تسمع قول نوح υ [ولا ینفعكم نُصحي إن أردت أن<br />
أنصحَ لكم إن كان اللھُ یریدُ أن یغویَكُم ھو رب ُّكم وإلیھ تُرجعون] ھود:<br />
34<br />
:<br />
.<br />
وعن وھب بن مُنبّ ِھ أنھ قال: نظرت في القدر فتحیرت، ثم نظرت فیھ<br />
فتحیرت، ووجدت أعلَمَ الناسِ بالقدر أكف َّھُم عنھ، وأجھلَ الناس بالقدر<br />
أنطقَھُم فیھ (2) .<br />
قولُھ: "یھدي من یشاء، ویَعصِ مُ ویُعافي فضلاً، ویُضِ ل ُّ من<br />
یشاءُ ویخذُلُ ویبتلي عدلاً" .<br />
ش: قال تعالى: [إنك لا تھدي من أحببت ولكن اللھ یھدي من یشاء] (3)<br />
القصص: [ولو شئنا لآتینا كل نفسٍ ھداھا] السجدة: [یُضِ ُّل<br />
اللھُ من یشاء ویھدي من یشاء] المدثر:<br />
قولُھ: "وكُل ُّھم یتقلبون في مشیئتھِ، بین فضلِھ وعدلھ".<br />
ش: قال تعالى: [ھو الذي خلقكم فمنكم كافرٌ ومنكم مؤمن] التغابن:<br />
فمن ھداه إِلى الإیمان، فبفضلِھ ولھ الحمد، ومن أضل َّھُ فبعدلِھ ولھ الحمد (4) .<br />
.2<br />
13. وقال:<br />
. 31<br />
.56<br />
(1 ( ذم على احتجاجھ بالقدر على فعل الذنب والإغواء والتزیین.<br />
(2 ( صح عن النبي أنھ قال: "إذا ذُكر القدر فأمسكوا". أي لا تسترسلوا في<br />
الحدیث عن القدر، فتخوضوا فیما لا یعنیكم، فتضلوا، لأن الخوض فیما ھو فوق<br />
المقدور وحدود المعقول، مآلھ غالباً إِلى الھلاك والضلال، والسلامة تقتضي<br />
الإقتصار على المشروع والمعقول.<br />
الھدایة المنفیة عن نبینا ε، ھي ھدایة الإعانة والتوفیق أو المشیئة النافذة فیما<br />
شاء أو أحب، وھذه الھدایة لیست لأحد سوى اللھ تعالى، أما الھدایة بمعنى<br />
التبیین والنصح والإرشاد فھي المثبتة لنبینا ومن كان على نھجھ من العلماء<br />
الصالحین. وھذا من لوازمھ تعلق القلب بخالقھ، ونشدان الھدایة ممن بیده<br />
القدرة على الھدایة والاضلال دون أحد سواه.<br />
( 4 )<br />
فبعدلھ، لأن اللھ تعالى منزه عن الظلم، فلا یصدر عنھ إلا العدل المطلق، كما<br />
قال تعالى: [ولایظلم ربك أحداً]، وھو یبغض الظلم من عباده، كما في الحدیث<br />
القدسي الصحیح: "یاعبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلتھ بینكم محرماً<br />
ε<br />
82<br />
ε<br />
( 3 )
قولُھ: "وھو مُتَعالٍ عن الأضدادِ والأندادِ" .<br />
ش: الضد: المخالف، والند: المثل، فھو سبحانھ لا معارض لھ (1) ، ولا<br />
الإخلاص:<br />
مثل، كما قال تعالى: [ولم یكن لھ كُفُواً أحد] (2)<br />
الشیخ بنفي الضد والند إِلى الرد على المعتزلة في زعمھم أن العبد یخلق<br />
فعلھ (3) .<br />
4. ویشیر<br />
83<br />
( 2 )<br />
فلا تظالموا"، ومن الأخطاء الشائعة الجاریة على لسان عوام الناس، إذا ظُلِمَ<br />
أحدھم تراه یقول لظالمھ: اللھ یظلمك مثل ما ظلمتني!! وھذا لا یجوز.<br />
(1 ( من لوازم صحة التوحید وشروطھ الإنقیاد والرضى، وأن یسلم العبد بأن اللھ<br />
تعالى لا معارض لقولھ وحكمھ، والتسلیم بأن إرادة الشعب أو للأكثریة الحق في<br />
أن تعارض حكم اللھ، أو أن تعقب علیھ، وأن حكمھا ھو الذي یجب أن ینفذ<br />
ویطبق وإن كان باطلاً شرعاً، كما تنص على ذلك الدیمقراطیة، لھو صریح<br />
الكفر والإرتداد عن الدین. ومع ذلك ما أكثر أولئك الذین یتشدقون بالدیمقراطیة<br />
ویطالبون بھا، صدق اللھ: [وما یؤمن أكثرھم باللھ إلا وھم مشركون].<br />
فكما أن اللھ تعالى لا مثل لھ في ذاتھ وصفاتھ وأفعالھ، فكذلك لا مثل لھ في<br />
شيء من خصائصھ تعالى التي تفرد بھا دون خلقھ، والتي منھا أنھ المعبود بحق<br />
المستحق لكمال العبادة، وأنھ تعالى لھ الحكم والتشریع وخاصیة التحلیل<br />
والتحریم، وأنھ تعالى یحكم ما یرید من غیر أن یعقب علیھ أحد، وأنھ تعالى فوق<br />
المساءلة لا یُسأل عما یفعل وما سواه من الخلق یسألون، ومنھا أنھ تعالى<br />
المحبوب لذاتھ وما سواه یُحب لھ سبحانھ، وأنھ كذلك المطاع لذاتھ وما سواه<br />
یطاع لأجلھ وفي الحق الذي یحبھ تعالى، وأنھ تعالى وحده الضار النافع بیده<br />
الخیر والشر، یعلم ما كان وما سیكون .. فھذه خصائص تفرد بھا اللھ وحده فمن<br />
ادعى شیئاً منھا لنفسھ فقد ادعى الإلھیة وجعل من نفسھ نداً تعالى، ومن أقر لھ<br />
بھذه الخصائص أو بشيء منھا، فقد اتخذه معبوداً من دون اللھ وأقر لھ بالإلھیة<br />
وخصائصھا.<br />
(3 ( لأن ھذا القول من المعتزلة یستلزم منھم أن یجعلوا العبد المخلوق نداً Υ في<br />
خاصیة الخلق، حیث أضافوا إلیھ صفة الخلق، فھو خالق لفعلھ كما أن اللھ تعالى<br />
خالق!! أقول: أیضاً في كلام الشیخ رحمھ اللھ رد على من یدعي لنفسھ حقوق<br />
وخصائص ھي من خصائص الإلھیة، كحق الحكم والتشریع، وسن القوانین،<br />
وحق الطاعة من دون اللھ، وغیرھا من الخصائص التي تقدم ذكرھا، فمن ادعى<br />
لنفسھ شیئاً من ھذا فقد ادعى الألوھیة، وجعل من نفسھ نداً Υ، ومن كانت ھذه<br />
صفتھ ودعواه فمن الإرجاء أن یناقش كفره، ویحصل تردد في تكفیره.
قولُھ: "لا راد َّ لقضائھ، ولا مُعقّ ِب لحُكْمِھ، ولا غالِبَ لأمرِ ه".<br />
(1)<br />
ش: أي لا یرد ُّ قضاءَ اللھِ راد ٌّ ، ولایعقبُ ، أي: لا ِ یؤخّر حكمَھ<br />
مؤخرٌ (2) ، ولا یغلبُ أمره غالبٌ بل ھو اللھُ الواحد القھار.<br />
قولُھ: "آمنا بذلك كُل ُّھ، وأیقَن َّا أن َّ كُلا من عنده" .<br />
ش: أما الإیمان، فسیأتي الكلام علیھ إن شاء اللھ تعالى، في موضعھ.<br />
وقولھ كُلا: أي كل كائن مُحدَثٍ من عند اللھ، بقضائھ وقدره وإرادتھ<br />
ومشیئتھ وتكوینھ.<br />
قولُھ: "وإن محمداً عبدُه المصطفى، ونبی ُّھُ المجتبى، ورسولُھ<br />
المُرتَضى" .<br />
ش: الإصطفاءُ والإجتباء والإرتضاء: متقار ُب المعنى.<br />
-كمال المخلوق في تحقیق عبودیتھ تعالى وحده-<br />
84<br />
( 1 )<br />
أي مھما اتخذ الإنسان من أسباب المنعة والحیطة، فإنھ لا یستطیع أن یرد<br />
قضاء اللھ تعالى، فقضاؤه تعالى واقع لا محالة، ومنھ یفھم قولھ تعالى: [أینما<br />
تكونوا یدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشیدة] النساء:<br />
العبد لا یبلغ حقیقة الإیمان حتى یعلم أن ما أصابھ لم یكن لیخطئھ، وما أخطأه لم<br />
یكن لیصیبھ". وقولھ ε <strong>لابن</strong> عباس: "اعلم بأن الخلائق لو أرادوك بشيء لم<br />
یردك اللھ بھ لم یقدروا علیھ". ولا شك أن ھذه العقیدة -عقیدة القضاء والقدر-<br />
من ثمارھا أنھا تكسب المرء الرضى والفھم الصحیح لما یطرأ علیھ من<br />
الأحداث، وكذلك تكسبھ السكینة، والتوكل على اللھ وحده، وعدم الخوف من<br />
المخلوق أیاً كان.<br />
قال تعالى: [واللھ یحكم لا معقب لحكمھ] الرعد: 41. قال الشوكاني في<br />
التفسیر:<br />
المعقب:الذي یكر على الشيء فیبطلھ وحقیقتھ الذي یقفیھ بالرد والإبطال. قال<br />
الفراء: معناه لا راد لحكمھ، والمعقب الذي یتبع الشيء فیستدركھ، والمراد من<br />
الآیة: أنھ لا یتعقب أحدكم اللھ سبحانھ بنقص ولا تغییر. وأخرج ابن <strong>أبي</strong> حاتم<br />
عن ابن زید: لیس أحد یتعقب حكمھ فیرده كما یتعقب أھل الدنیا بعضھم حكم<br />
بعض فیرده. ا-ھ.<br />
أقول: مما تقدم یعلم أن معنى كلمة "یعقب" لایصح أن تحمل على معنى التأخیر،<br />
واللھ تعالى أعلم.<br />
78. وقولھ ε: "إن<br />
( 2 )
ε<br />
اعلم أن كمالَ المخلوق في تحقیق عبودیتھ تعالى، وكلما ازدادَ العبدُ<br />
تحقیقاً للعبودیة ازدادَ كمالُھ، وعلت درجتھ، ومن توھم أن المخلوق یخرج<br />
عن العبودیة بوجھٍ من الوجوه (1) ، وأن الخروجَ عنھا أكملُ، فھو من أجھل<br />
الخلق وأضلّ ِھم، قال تعالى: [وقالوا اتخذ الرحمن ولداً سبحانھ بل عبادٌ<br />
مكرمون] الأنبیاء: 26. وذكر نبیھ باسم العبد في أشرف المقامات، قال<br />
تعالى: [سبحان الذي أسرى بعبده] الإسراء: [وأنھ لما قام عبدُ اللھ<br />
یدعوه] الجن: [فأوحى إِلى عبده ما أوحى] النجم: 10. وبذلك استحق<br />
التقدیم على الناس في الدنیا والآخرة، ولذلك یقول المسیح υ یوم القیامة إذ<br />
طلبوا منھ الشفاعة: "اذھبوا إِلى محمدٍ، عبدٌ غُفر لھ ما تقدم من ذنبھ<br />
فحصلت لھ تلك المرتبةُ بتكمیل عبودیتھ تعالى.<br />
وما تأخر" (2)<br />
-صِ دْقُ الأنبیاء دلیلٌ على صدقِ نبو َّ تِھم-<br />
فإن النبوة إنما یدعیھا أصدقُ الصادقین، أو أكذب الكاذبین، ولا یلتبس<br />
ھذا بھذا إلا على أجھل الجاھلین، بل قرائنُ أحوالھما تُعربُ عنھما وتُعرّ<br />
بھما، والتمییز بین الصادق والكاذب لھ طرق كثیرة، فیما دون دعوى<br />
النبوة، فكیف بدعوى النبوة؟!<br />
وما من أحدٍ ادعى النبو َّ ةَ من الكذابین، إلا وقد ظھر علیھ من الجھل<br />
والكذبِ والفجور واستحواذِ الشیاطین علیھ، إذ الصدق مستلزم للبّ ِر،<br />
والكذب مستلزم للفجور، كما في الصحیحین عن النبي أنھ قال: "علیكم<br />
بالصدقِ فإن الصدقَ یھدي إِلى ِ البرّ ، وإن البِر َّ یھدي إِلى الجنة، ولا یزال<br />
ِ ف<br />
ε<br />
.1<br />
.19<br />
85<br />
( 1 )<br />
الإنسان محتاج ضعیف فُطر على النقص، وبالتالي فھو مفطور على العبودیة<br />
یسعى دائماً لیسد حاجتھ ونقصھ في ھذا المجال، فمن لم یعبد اللھ الغني الرزاق<br />
بحق، فھو لا شك یعبد عبداً ضعیفاً محتاجاً مثلھ، فھو عابدٌ على كل الأحوال فمن<br />
لم یكن عبداً فھو عبد لغیره، ومن لم یدعو ویرجو اللھ فھو یدعو غیره، ومن<br />
لم یعلق قلبھ رجاءً واتكالاً على اللھ یعلق قلبھ بغیره من خلقھ، ومن لا یتحاكم<br />
إِلى اللھ یتحاكم إِلى غیره، ومن لا یطیع اللھ ویحبھ، یطع غیره من خلقھ، ومن<br />
لم یضح في سبیل اللھ سیضحي في سبیل الطاغوت، ومن فر َّ من العبودیة <br />
تعالى فھو واقع في عبادة غیره لا محالة. وشتان شتان بین من یكون عبداً <br />
الواحد الأحد الفعال لما یرید الذي بیده كل الأمر، ومن یكون عبداً للطاغوت<br />
الذي لایملك نفعاً ولا ضراً بكل ما تعني ھذه الكلمة من معنى.<br />
(2 ( متفق علیھ.
الرجل یصدق ویتحرى الصدق حتى یُكتب عند اللھ صِ دّ ِیقاً، وإیاكم والكذب<br />
فإن الكذبَ یھدي إِلى الفجور، وإن الفجور یھدي إِلى النار، ولا یزالُ الرجلُ<br />
یكذب ویتحرى الكذب حتى یُكتبَ عند اللھ كذ َّاباً".<br />
ولھذا قال تعالى: [ھل أنبئكُم على من تنز َّلُ الشیاطین. تنز َّلُ على كل<br />
أف َّاكٍ أثیم یُلقُونَ السمعَ وأكثرھم كاذبون. والشعراءُ یت َّبِعُھُم الغاوون. ألم<br />
تر أن َّھم في ِ كلّ وادٍ یھیمون. وأن َّھم یقولون ما لا یفعلون الشعراء:<br />
-221<br />
[<br />
86<br />
.226<br />
فالكھّان ونحوھم، وإن كانوا أحیاناً یخبرون بشيء من الغیبیات، ویكون<br />
صدقاً، فمعھم من الكذب والفجور ما یبین أن الذي یخبرون بھ لیس عن ملَ ٍك<br />
ولیسوا بأنبیاء.<br />
فمن عرف الرسولَ وصدقھ ووفاءَهُ ومطابقة قولھ لعملھ، عَلِمَ علماً یقینیاً<br />
أنھ لیس بشاعرٍ ولا كاھن. والنبوة مشتملة على علوم وأعمال لا بد أن<br />
یتصف الرسولُ بھا، وھي أشرفُ العلومِ وأشرف الأعمال. فكیف یشتبھ<br />
الصادق فیھا بالكاذب؟! وكیف لا یتمیز الصادق في ذلك من الكاذب بوجوه<br />
من الأدلة؟!<br />
ولھذا لما كانت خدیجة رضي اللھ عنھا تعلم من النبي أنھ الصادق<br />
البار، قال لھا لما جاءه الوحي: " إني قد خشیت على نفسي"، فقالت: كلا<br />
واللھ لا یخزیك اللھُ أبداً، إنك لتَصلُ الرحم، وتصدُقُ الحدیثَ ، وتحم ُل<br />
الكَل َّ، وتَقرِ ي الضیفَ ، وتكسبُ المعدومَ، وتُعینُ على نوائب الحقِّ(1) .<br />
وكذلك قال النجاشي ُّ لما استخبرھم عما یُخبرُ بھ، واستقرأھم القرآن<br />
فقرؤوه علیھ: إن ھذا والذي جاء بھ موسى لیخرجُ من مشكاةٍ واحدة (2) .<br />
وكذلك ورقة بن نوفل لما أخبره النبي بما رآه، فقال: ھذا ھو<br />
الذي كان یأتي موسى (4) .<br />
وكذلك ھِرَ قْلُ ملك الروم، فإن النب َّي لما كتب إلیھ كتاباً یدعوه فیھ إِلى<br />
الإسلام، طلب من كان ھناك من العرب، وكان أبو سفیان قد قدم في طائفة<br />
من قریش في تجارةٍ إِلى الشام، وسألَھم عن أحوال النبي ε، فسأل أبا<br />
ε<br />
ε<br />
ε<br />
الناموس (3)<br />
( 2 )<br />
( 3 )<br />
( 4 )<br />
(1 ( صحیح أخرجھ البخاري وغیره من حدیث عائشة.<br />
أخرجھ ابن اسحق في السیرة، وسنده حسن.<br />
المراد بھ جبریل υ.<br />
أخرجھ البخاري، وھو جزء من حدیث عائشة الذي تقدم.
سفیان، وأمر الباقین إن كذب أن یكذبوه، فصاروا بسكوتھم موافقین لھ في<br />
الإخبار، وكان مما سألھم: ھل كنتم تتھمونھ بالكذب قبل أن یقول ما قال؟<br />
فقالوا: لا، ما جربنا علیھ كذباً. فقال: قد علمت أنھ لم یكن لیدع الكذب على<br />
الناس، ثم یذھب فیكذب على اللھ. قال: وسألتكم ھل یغدر؟ فقلتم: لا، وكذلك<br />
الرسل لا تغدِرُ (1) .<br />
-یُعْلَمُ صدق الرسل من وجوهٍ متعددة-<br />
منھا: أنھم أخبروا الأمم بما سیكون من انتصارھم وخذلان أولئك وبقاء<br />
العاقبة لھم (2) .ومنھا: ما أحدثھ اللھُ لھم من نصرھِم، وإھلاكِ عدوھم، كغرق<br />
فرعون، وغرقِ قوم نوحٍ، وبقیة أحوالھم ...<br />
ومنھا: أن من عرف ما جاء بھ الرسل من الشرائع وتفاصیل أحوالھا،<br />
تبین لھ أنھم أعلم الخلق، وأنھ لا یحصل مثل ذلك من كذاب جاھل، وأنھ لا<br />
یصدر إلا عن راحم ٍ بَرّ یَقصِ دُ غایةَ الخیر والمنفعة للخلق.<br />
87<br />
( 1 )<br />
( 2 )<br />
أخرجھ البخاري.<br />
أخرج مسلم في صحیحھ من حدیث حذیفة أنھ قال: "قام فینا رسول اللھ<br />
εمقاماً ما ترك شیئاً یكون في مقامھ ذلك إِلى قیام الساعة إلا حد َّث بھ، حفظھ<br />
من حفظھ، ونسیھ من نسیھ".<br />
وأخرج مسلم أیضاً عن عمر بن الخطاب أنھ قال:"صلى بنا رسول اللھ<br />
الفجر وصعد المنبر فخطبنا حتى حضرت الظھر، فنزل فصلى ثم صعد المنبر<br />
فخطبنا حتى حضرت العصر، ثم نزل فصلى ثم صعد المنبر فخطبنا حتى<br />
غربت الشمس فأخبرنا بما كان وبما ھو كائن فأعلمنا أحفظنا".<br />
وقد أخبر النبي ε عن ظھور الخوارج، وعلامتھم أن فیھم رجلاً لھ عضد<br />
لیس لھ ذراع، على عضده مثل حلمة الثدي، علیھ شعرات بیض، وقد تحقق<br />
ذلك في عھد علي بن <strong>أبي</strong> طالب<br />
وفي صحیح مسلم عن <strong>أبي</strong> ھریرة أن النبي قال: "ھلك كسرى ثم لایكون<br />
كسرى بعده، وقیصر لیھلكن ثم لا یكون قیصر بعده، ولتقسمن َّ كنوزھما في<br />
سبیل اللھ". وقد تحقق ذلك بفضل اللھ تعالى ومنّھ. والأخبار التي أخبر بھا<br />
النبي ثم تحققت ھي أكثر من أن تحصر في ھذا الموضع، ومن أراد أن یستزید<br />
فعلیھ بمراجعة أبواب الفتن والملاحم وأشراط الساعة من كتب السنن، فسیجد ما<br />
تقر ُّ بھ العین، ویھدأ لھ بال كل مرتاب أو متشكك، على نبینا أفضل الصلاة<br />
والسلام.<br />
ε<br />
ε<br />
τ<br />
.τ<br />
ε
-إنكارُ رسالة النبيّ ε ِ طعنٌ في الربِّ تبارك وتعالى-<br />
إنكار رسالتھ ε طعن في الرب تبارك وتعالى، ونسبتھ إِلى الظ ُّلم والس َّفَھِ،<br />
تعالى اللھ عن ذلك علواً كبیراً، بل جَحدٌ للربِّ بالكلیة وإنكارٌ .<br />
وبیان ذلك: أنھ إذا كان محمدٌ عندھم لیس بنبي صادق، بل ملِكٌ ظالم، فقد<br />
تھی َّأ لھ أن یفتري على اللھ، ویتقول علیھ، ویستمر حتى یُحلل ویحرم،<br />
ویَفرضَ الفرائض، ِ ویُشَرّ ع الشرائع، وینسخ الملل، ویضرب الرقاب،<br />
ویقتل أتباع الرسل وھم أھل الحق، ویسبي نساءھم، ویغنم أموالھم<br />
ودیارھم، وینسب ذلك كلھ إِلى أمر اللھ لھ بھ، ومحبتھ لھ، والرب ُّ تعالى<br />
یشاھده وھو یفعل بأھل الحق، وھو مستمر في الإفتراء علیھ ثلاثاً وعشرین<br />
سنة، وھو مع ذلك كلھ یؤیده وینصره، ویعلي أمره، ویمكن لھ من أسباب<br />
النصر الخارجة عن عادة البشر، وأبلغ من ذلك أنھ یجیب دعواتھ، ویُھلك<br />
أعداءه، ویرفع لھ ذكره، ھذا وھو عندھم في غایة الكذب والافتراء والظلم.<br />
فیل زَ مُھم أن یقولوا: لا صانع للعالَم، ولا مدبّ ِر، ولو كان لھ مدبرٌ قدیر<br />
حكیم، لأخذ على یدیھ، ولقابلھ أعظم مقابلة، وجعلھ نكالاً للصالحین، إذ لا<br />
یلیق بالملوك غیرُ ذلك، فكیف بملك الملوك وأحكم الحاكمین؟<br />
قال تعالى: [أم یقولون افترى على اللھ كَذِباً فإن یشَاءِ اللھُ یختِمْ على<br />
قلبك] الشورى:<br />
88
ذكروا فروقاً بین النبي والرسول، وأحسنھا: أن من نبأه اللھ بخبر السماء<br />
وأن یبلغ غیره، فھو نبي رسول، وإن لم یأمره أن یبلغ غیرَ ه، فھو نبي<br />
ولیس برسول، فكل رسول نبي، ولیس كل نبي رسولاً(1) .<br />
قولُھ: "وأنھ خاتَمُ الأنبیاءِ " .<br />
ش: قال تعالى: [ولكن رسولَ اللھِ وخاتمَ النبیین] الأحزاب:<br />
89
قولُھ: "وإمامُ الأتقیاء" .<br />
ش: الإمام الذي یُؤتَم ُّ بھ، أي: یقتدون بھ، والنبي إنما بُعث للإقتداء<br />
آل<br />
بھ، لقولھ تعالى: [قل إن كنتم تحبون اللھ فاتبعوني یحببكم اللھ] (2)<br />
عمران:<br />
ε<br />
90
قولُھ: "وسیّ ِدُ المُرسلین".<br />
ش: قال ε: "أنا سیدُ ولَدِ آدم یوم القیامة، وأولُ من ینشق َّ عنھ القبرُ ،<br />
وأولُ شافع وأول مُشَف َّعٍ" (1) . وفي حدیث الشفاعة: "أنا سیدُ الناسِ یوم<br />
القیامة" (2) . وقال: "أنا سید ولد آدم ولا فخرَ " (3) .<br />
-التوفیق بین ھذه الأحادیث والأحادیث التي تنھى عن التفضیل<br />
بین الأنبیاء-<br />
فإن قیل: یُشكِلُ على ھذا قولھ ε: "لاتفضلوني على موسى، فإن الناسَ<br />
یُصعَقُون یومَ القیامة، فأكون أو َّ لَ من یفیق، فأجد موسىَ باطِشاً بسا ِق<br />
وقولُھ:<br />
العرش، فلا أدري ھل أفاقَ قبلي، أو كان ممن استثنى اللھ ؟" (4)<br />
ِ "لاتفضّلوا بینَ الأنبیاء" (5) . فكیف یُجمعُ بین ھذا وبین قولھ: "أنا سیدُ ولَدِ<br />
آدم ولا فخر".<br />
،ε<br />
ε<br />
الإتباع والاقتداء وفي أھل الاتباع والاقتداء، والمرء كلما كمل اقتداؤه بالنبي<br />
كلما كمل تقواه Υ، ومن یخرج عن الاتباع والاقتداء لا یكون مؤمناً فضلاً<br />
عن أن یكون تقیاً، ومنھ یعلم فساد قول من یعتبر المجانین والمھابیل الداشرة في<br />
الأسواق الذین تعلو ثیابھم النجاسات والأوساخ أنھم أتقیاء ومن أولیاء اللھ تعالى<br />
المقربین!! كبرت كلمة تخرج من أفواھھم إن یقولون إلا كذبا.<br />
(1 ( صحیح أخرجھ مسلم وغیره.<br />
متفق علیھ.<br />
(3 ( صحیح أخرجھ الترمذي، وابن ماجھ وأحمد.<br />
(4 ( متفق علیھ. وقولھ: "ممن استثنى اللھ" أي ممن استثناه اللھ من الصعق.<br />
(5 ( متفق علیھ. وتمام الحدیث: عن عبد الرحمن الأعرج قال: بینما یھودي یعرض<br />
سلعة لھ أُعطي بھا شیئاً كرھھ أو لم یرضھ، قال: لا والذي اصطفى موسى υ<br />
على البشر، فسمعھ رجل من الأنصار، فلطم وجھھ، قال: تقول: والذي اصطفى<br />
موسى υ على البشر، ورسول اللھ بین أظھرنا! قال: فذھب الیھودي إِلى<br />
رسول اللھ ε، فقال: یا أبا القاسم إن لي ذمة وعھداً، وقال: فلان لطم وجھي،<br />
فقال رسول اللھ ε: "لم لطمت وجھھ ؟" قال: قال یارسول اللھ الذي اصطفى<br />
موسى υ على البشر وأنت بین أظھرنا، قال: فغضب رسول اللھ ε حتى عرف<br />
الغضب في وجھھ، ثم قال: "لا تفضلوا بین أنبیاء اللھ، فإنھ ینفخ في الصور<br />
فیصعق من في السماوات ومن في الأرض، إلا من شاء اللھ، قال: ثم ینفخ فیھ<br />
أُخرى فأكون أول من بُعث، أو في أول من بعث، فإذا موسى υ آخذ بالعرش،<br />
91<br />
( 2 )
فالجواب: أن ھذا كان لھ سببٌ ، فإنھ كان قد قال یھودي: لا والذي<br />
اصطفى موسى على البشر، فلطمھ مسلمٌ وقال: أتقولُ ھذا ورسولُ اللھ<br />
بین أظھرنا: فجاء الیھودي ُّ فاشتكى من المسلم الذي لطمھ، فقال النبي<br />
ھذا، لأن التفضیل إذا كان على وجھ الحمی َّة والعصبیة وھوى النفس، كان<br />
مذموماً(1) ، فإن اللھ حرم الفخر، كما في صحیح مسلم عن النبي أنھ قال:<br />
"أُوحي إِلي أن تواضَعوا، حتى لا یَفخرَ أحدٌ على أحدٍ، ولا یبغي أحدٌ على<br />
أحدٍ". فعُلِمَ أن المذموم إنما ھو التفضیل على وجھ الفخر، أو على وجھ<br />
الإنتقاص بالمفضول (2) ، وعلى ھذا یُحمل أیضاً قولھ ِ لوا بین<br />
الأنبیاء".<br />
وقد أجاب بعضھم بجوابٍ آخر، وھو أن قولَھ ε: "لاتفضلوني على<br />
موسى"، وقولَھ: "ولا تُفضلوا بین الأنبیاء"، نھي عن التفضیل الخاص:<br />
ε<br />
ε<br />
ε<br />
: ε "لاتفضّ<br />
فلا أدري أحوسب بصعقتھ یوم الطور، أو بعث قبلي، ولا أقول: إن َّ أحداً أفضل<br />
من یونس بن متى υ. ومن حدیث <strong>أبي</strong> سعید الخدري مرفوعاً بلفظ: "لا تخی َّروا<br />
92<br />
بین الأنبیاء".<br />
( 1 )<br />
یستبعد أن یكون الصحابي لطم الیھودي عن عصبیة وھوى النفس، بل<br />
الذي یلیق بالصحابي -وھو الذي یفھم من النص- أنھ لطم الیھودي لما رأى في<br />
مقولتھ من انتقاص لقدر نبینا ε، والغضب للذود عن حرمات النبي ε ح ٌّق<br />
وواجب على كل مسلم، ولا یصح أن یعتبر ذلك من قبیل العصبیة وھوى النفس،<br />
فقد جاء في السنن أن رجلاً أعمى قتل أم أولاده بسبب نیلھا من جناب النبي<br />
وشتمھا لھ، وأن النبي قد أھدر دمھا. كذلك قتل خالد ابن الولید τ، لمن كان<br />
یقول مشیراً للنبي ε: "ھذا الرجل أو عند صاحبكم" من دون أن یضیف إلیھ<br />
نسبة النبوه، لما رأى في مقولتھ من انتقاص لقدر النبي ε. ثم لو كان فعل<br />
الصحابي فیھ عصبیة وھوى للنفس لبین لھ النبي ذلك ولنھاه عنھ، لأن النبي<br />
لا یجوز الإفتراض فیھ أنھ یسكت على منكر یراه أو یسمعھ، فعلم أن غضب<br />
النبي كان لمجرد المفاضلة بین الأنبیاء بأعیانھم، واللھ تعالى أعلم.<br />
إن مجرد إجراء المفاضلة بین الأنبیاء بأعیانھم، سوف یحصل الشعور<br />
بانتقاص المفضول، لذا فالسلامة في اجتنابھا.<br />
ε<br />
ε<br />
ε<br />
ε<br />
ε<br />
( 2 )
ε<br />
ε<br />
أي: لا یفضل بعض الرسل على بعض بعینھ، بخلاف قولھ "أنا سیدُ ولد آدم<br />
ولا فخر"، فإنھ تفضیل عام، فلا یُمنَعُ منھ (1) .<br />
قولُھ: "وحبیبُ ربِّ العالمین" .<br />
ش: ثبت لھ أعلى مراتب المحبة، وھي الخُل َّة (2) ، كما صح عنھ أنھ<br />
قال: " إن َّ اللھ اتخذني خلیلاً كما اتخذ إبراھیم خلیلاً" (3) . وقال: "ولو كنتُ<br />
متخذاً من أھل الأرض خلیلاً، لاتخذتُ أبا بكرٍ خلیلاً، ولكن صاحِ بَكُم خلیلُ<br />
الرحمنِ" (4) .<br />
-الخُل َّة خاصةٌ بإبراھیم ونبینا محمدٍ صلوات اللھ علیھما، أما<br />
المحبةُ فھي عام َّةٌ لجمیع المؤمنین-<br />
المحب َّةُ ثبتت لغیرِ ه ε، قال تعالى: [واللھ یحب المحسنین] آل عمران:<br />
93
-لایصح أن یُوصف العبد بالعِشقِ في محبتھ لربھ-<br />
العشِقُ: ھو الحب ُّ المُفرِ ط الذي یُخاف على صاحبھ منھ، ولكن لا<br />
یُوصَفُ بھ الرب ُّ تعالى، ولا العبدُ في محبة ربھ، واختُلِفَ في سبب المنع،<br />
فقیل: عدمُ التوقیف (1) ، وقیل غیر ذلك، ولعل َّ امتناعَ اطلاقھ أن العشقَ محبةٌ<br />
مع شھوةٍ.<br />
خلیلي، ومثل ھذا كثیر في الس ُّن َّة. وكذلك قولھ ε: "المرء على دین خلیلھ،<br />
فلینظر أحدكم من یخالل". وأي خلیل أفضل دیناً من نبینا فدل أن الخلة من<br />
الأعلى إِلى الأدنى غیر واردة باستثناء خلة اللھ تعالى لمحمد وإبراھیم علیھما<br />
أفضل الصلاة والسلام، لورود النص، بینما الخلة من الأدنى إِلى الأعلى فھي<br />
جائزة، بل واجبة واللھ تعالى أعلم. ولا یقال -كما سمعت مرة من واعظ ی<strong>شرح</strong><br />
الطحاویة!!- إن الخلة لاتجوز منا للنبي ε، ولا بین المؤمنین بعضھم لبعض،<br />
لأن ھذا یستلزم أن لا یبقى شيء من الحب تعالى لأن الخلة منتھى الحب<br />
وذروتھ، وعلى ھذه الشبھة نرد من وجھین:<br />
أولھما، وجود النصوص الشرعیة الدالة على ثبوت ھذا النوع من الخلة،<br />
كقولھ تعالى: [الأخلاء یومئذٍ بعضھم لبعضھم عدو إلا المتقین]، ولقولھ<br />
"فلینظر أحدكم من یخالل".<br />
أما الثاني، أن ھذه الخلة في حقیقتھا ھي معقودة في اللھ و ولیس لذات<br />
الخلیل وإلا لكانت شركاً والعیاذ باللھ، والدلیل على ذلك أن المحبوب المتخَذ<br />
خلیلاً لو تغیر حالھ من الاستقامة والتقوى إِلى الفجور والكفر لسرعان ما تنقلب<br />
ھذه الخلة إِلى عداوة وبغضاء من الطرف الآخر، فدل أن ھذا الحب ھو من<br />
محبة اللھ وطاعتھ ولیس لذات المحبوب، حیث لا یحب لذاتھ إلا اللھ وما<br />
سواه یحب لھ ولأجلھ.<br />
ومن الإطلاقات الخاطئة التي ینبغي التحذیر منھا، إطلاق بعض الوعاظ<br />
المتحمسین -في خطب الجمعة- لیستثیروا حماس الحضور: (یا أحباب محمد<br />
ε!!) ویكون في الحضور الكافر والفاسق والمؤمن، ومن لا یصلي إلا َّ الجمعة،<br />
ومن یعتقد عقائد الكفر والضلال كالعلمانیة وغیرھا، والشاھد كیف یطلق على<br />
ھؤلاء كلھم أنھم أحباب محمد ε، وقد ثبت أن أحباب محمد وأولیاءه ھم<br />
المؤمنون المتقون فقط مھما كانوا وأین كانوا.<br />
( 1 )<br />
أي: لعدم ورود النص من الكتاب والسنة على مشروعیة ھذا الاطلاق أو<br />
المصطلح.<br />
:ε<br />
Ι<br />
ε<br />
ε<br />
94
قولُھ: "وكل ُّ دعوى النبو َّ ةِ بعدَهُ فغي ٌّ وھوى (1) ".<br />
ش: لما ثبت أنھ خاتمُ النبیین، عُلِمَ أن من ادعى بعده النبوة، فھو كاذب،<br />
والغي ُّ: ضد الرشاد، والھوى: عبارة عن شھوة النفس، أي: أن تلك الدعوة<br />
بسبب ھوى النفس.<br />
قولُھ: "وھو المبعوثُ إِلى عامة الجِ ِ نّ وكاف َّة الورى، بالحقِّ<br />
والھدى، وبالنورِ والضیاء" .<br />
ε<br />
ε<br />
95<br />
ε<br />
( 1 )<br />
قلت: حكم الغي والھوى لا یستفاد منھ الحكم الصحیح الذي یستحقھ مدعي<br />
النبوة بعد النبي وھو الكفر والزندقة، لأن لیس كل غي وھوى یعتبر كفراً،<br />
بینما كل كفر ھو غي وھوى، لذا فالأصح أن یقال: "وكل دعوى النبوة بعده<br />
فكفر وزندقة" واللھ تعالى أعلم.<br />
قال الشیخ ناصر في تعلیقھ على الطحاویة: قد أخبر النبي أمتھ نصحاً لھم<br />
وتحذیراً في أحادیث كثیرة أنھ سیكون بعده دجالون كثیرون، وقال في بعضھا:<br />
"كلھم یزعم أنھ نبي، وأنا خاتم النبیین لا نبي بعدي" رواه مسلم. ومن ھؤلاء<br />
الدجالین (میرزا غلام أحمد القادیاني) الذي ادعى النبوة، ولھ أتباع منتشرون<br />
في الھند وألمانیا وإنكلترا وأمیركا، لھم فیھا مساجد یضلون بھا المسلمین،<br />
وكان منھم في سوریة أفراد، استأصل اللھ شأفتھم وقطع دابرھم، ولھم عقائد<br />
كثیرة غیر اعتقادھم بقاء النبوة بعده ε. وھم بلا شك ممن عناھم رسول اللھ<br />
في الحدیث الصحیح عنھ: "یكون في آخر الزمان دجالون كذابون یأتونكم من<br />
الأحادیث بما لم تسمعوا أنتم وآباؤكم فإیاكم وإیاھم، لا یضلونكم ولا یفتنونكم"<br />
رواه مسلم.<br />
وإن من أبرز علاماتھم أنھم حین یبدأون بالتحدث عن دعوتھم إنما یبتدئون<br />
قبل كل شيء بإثبات موت عیسى علیھ الصلاة والسلام، فإذا تمكنوا من ذلك<br />
بزعمھم انتقلوا إِلى مرحلة ثانیة وھي ذكر الأحادیث الواردة بنزول عیسى<br />
علیھ الصلاة والسلام ویتظاھرون بالإیمان بھا، ثم سرعان ما یتأولونھا، ما دام<br />
أنھم أثبتوا بزعمھم موتھ، بأن المقصود نزول مثیل عیسى! وأنھ ھو غلام أحمد<br />
القادیاني! ولھم من مثل ھذا التأویل الشيء الكثیر والكثیر جداً، مما جعلنا نقطع<br />
بأنھم طائفة من الباطنیة الملحدة.<br />
ومن ضلالات القادیانیة إنكارھم للجن كخلق غیر الإنس، ویتأولون كل الآیات<br />
والأحادیث المصرحة بوجودھم ومباینتھم للإنس في الخلق بما یعود إِلى أنھم<br />
الإنس أنفسھم أو طائفة منھم حتى إبلیس نفسھ یقولون إنھ إنسي شریر!! ا-ھ.
ش: أما كونھ مبعوثاً إِلى عامة الجنّ ِ، فقد قال تعالى حكایة عن قول<br />
الجن: [یاقومَنا أجیبوا داعي اللھ] سورة الأحقاف:<br />
96
ε<br />
ھذه أوصاف ما جاء بھ من الدین والشرع، المؤی َّد بالبراھین الباھرة،<br />
من القرآن وسائر الأدلة.<br />
قولُھ: "وإن َّ القرآن كلامُ اللھِ، منھ بدا بلا كیفی َّةٍ قولاً، وأنزلَھُ على<br />
رسُولھ وحیاً، وصد َّقھ المؤمنون على ذلك حقاً، وأیقنوا أنھ كلامُ<br />
اللھ تعالى بالحقیقة، لیس بمخلوقٍ ككلامِ البریّ ِةِ، فمن سمعھ<br />
فزعم أنھ كلام البشر فقد كفر، وقد ذَم َّھُ اللھُ وعابھ، وأوعدَهُ<br />
بسقَر حیثُ قال تعالى: [سأُصلیھ سقر] المدثر:<br />
97
لقد قال بعضھم لأبي عمرو بن العلاء أحد القراء السبعة: أرید أن تقرأ:<br />
وكل َّم اللھَ موسى، بنصب اسم اللھ، لیكون موسى ھو المتكلم لا اللھ !! فقال<br />
لھ أبو عمرو: ھَبْ أني قرأت ھذه الآیة كذا، فكیف تصنع بقولھ تعالى: [ولما<br />
جاء موسى لمیقاتنا وكل َّمَھُ رب ُّھ] الأعراف:<br />
98
]<br />
فإضافةُ الأعیان إِلى اللھ للتشریف، وھي مخلوقة لھ، كبیت اللھ، وناقة<br />
اللھ، بخلاف إضافة المعاني، كعِلْمِ اللھ، وقدرَ تِھ، وعِز َّ تھ، وجلالھ،<br />
وكبریائھ، وكلامھ، وحیاتھ، وعلوه، وقھره، فإن ھذا كُل َّھ من صفاتھ، لا<br />
یمكن أن یكون شيءٌ من ذلك مخلوقاً.<br />
-الوصف بالتكل ُّم من أوصاف الكمال-<br />
الوصف بالتكلم من أوصاف الكمال، وضده من أوصاف النقص، قال<br />
تعالى: واتخذَ قومُ موسى من بعده من حُلیّ ِھم عِجلاً جسَداً لھ خوَ ار ألم<br />
یروا أنھ لا یكلّ ِمُھم ولا یھدیھم سبیلاً الأعراف:<br />
[<br />
99
-شبھة ورد-<br />
فإن قیل: فقد قال تعالى:<br />
[إنھ لقولُ رسولٍ كریم] الحاقة:<br />
100
الإنس والجن على أن یأتوا بمثل ھذا القرآن لا یأتون بمثلھ] الإسراء:<br />
101
]<br />
قولُھ: "ومن وصف اللھَ بمعنى من معاني البشر، فقد كفَ َر (1) ،<br />
فَمن أبصرَ ھذا اعتبر، وعن مثل قول الكفار انزَجَرَ، وعَلِمَ أن<br />
اللھَ بصفاتھ لیس كالبشر" .<br />
ش: نفیاً للتشبیھ عَقِبَ الإثبات، یعني: أنھ تعالى وإن وُ صِ فَ بأنھ مُتكلم،<br />
لكن لا یوصف بمعنى من معاني البشر التي یكون الإنسان بھا متكلماً، فإن<br />
اللھ لیس كمثلھ شيءٌ، وھو السمیعٌ البصیر.<br />
(2)<br />
وقولُھ: "فمن أبصر ھذا اعتبر". أي من نظر بعین بصیرتھ فیما قالھ<br />
من إثبات الوصف، ونفي التشبیھ، ووعید المشبّ ِھة، اعتبر وانزجر عن مثل<br />
قولِ الكفار.<br />
قولُھ: "<br />
والرؤیةُ حقٌ لأھل الجَن َّةِ، بغیر إحاطةٍ ولا كیفی َّةٍ، كما<br />
نطق بھ كتابُ ربنا: وجوهٌ یومئذٍ ناضِ رَةٌ إِلى ربّ ِھا ناظرة<br />
القیامة:<br />
[<br />
102
-الأدلة على الرؤیة وأقوال الس َّلَف-<br />
عن ابن عباس: [إِلى ربھا ناظرة] قال: تنظر إِلى وجھ ربھا عز وجل.<br />
وقال عكرمة:<br />
[وجوه یومئذ ناضرة]، قال: من النعیم، [إِلى ربھا ناظرة] قال: تنظر إِلى<br />
ربھا نظراً. وھذا قول كل مفسر من أھل الس ُّن َّة والحدیث. وقال تعالى: [لھم<br />
ما یشاؤون فیھا ولدینا مزید] ق:<br />
103
وكذلك فسرھا الصحابة ψ، روى ابن جریر عن جماعة، منھم: أبو بكر<br />
الصدیق، وحذیفة، وأبو موسى الأشعري، وابن عباس.<br />
قال تعالى: [كلا إنھم عن ربھم یومئذٍ لمحجوبون] المطففین:<br />
104
على الرؤیة، كما قال تعالى: [فلما تراءا الجمعان قال أصحاب موسى إنا<br />
لمدركون قال كلا] الشعراء:<br />
105
ε<br />
وعن <strong>أبي</strong> ذر قال: سألت رسولَ اللھ ھل رأیتَ رب َّك؟ فقال: "نورٌ أنى<br />
وفي روایة: "رأیت نوراً".<br />
وعن <strong>أبي</strong> موسى الأشعري، قال: قام فینا رسول اللھ بخمس كلمات<br />
فقال: "إن اللھ لا ینام، ولا ینبغي لھ أن ینام، یخفض القسط ویرفعھ (2) ،<br />
یُرفَع إلیھ عملُ اللیل قبل عمل النھار، وعمل النھار قبل عمل اللیل، حجابھ<br />
النور- وفي روایة: النار- لو كشفھ، لأحرقت سُبحاتُ وجھھ ما انتھى إلیھ<br />
فیكون معنى قولھ لأبي ذر: "رأیت نوراً" أنھ رأى<br />
بصره من خلقھ" (3)<br />
الحجاب، ومعنى قولھ: "نور أن َّى أراه" النور الذي ھو الحجاب یمنع من<br />
رؤیتھ فأن َّى أراه؟! أي فكیف أراه والنورُ حجابٌ بیني وبینھ یمنعني من<br />
رؤیتھ، فھذا صریحٌ في نفي الرؤیة، واللھ أعلم. وحكى عثمان بن سعید<br />
الدارمي اتفاق الصحابة على ذلك.<br />
ε<br />
أراه" (1)<br />
-إثبات الرؤیة القلبیة لنبینا ε-<br />
عن عطاءٍ، عن ابن عباس رآه بقلبھ (4) .<br />
( 1 )<br />
أخرجھ مسلم وغیره، قال الشیخ ناصر: ویشھد لھ حدیث ابن عمر مرفوعاً<br />
بلفظ: "یوم القیامة أول یوم نظرت فیھ عینٌ إِلى اللھ Υ". رواه الدار قطني كما<br />
في "الدر" (6/<br />
106
وقولھ: "بغیر إحاطة ولا كیفیة" ھذا لكمال عظمتھ وبھائھ، سبحانھ<br />
تعالى، لا تدركھ الأبصار، ولا تُحیطُ بھ، كما یُعلَمُ ولا یُحاط بھ عِلماً، قال<br />
تعالى: [لا تدركھ الأبصار] الأنعام:<br />
107
-لا تعارض بین العقل السلیم والنقل الصحیح-<br />
وقولھ: "فإنھ ما سَلِمَ في دینھ إلا من سَل َّم عز وجل ولرسولھ ε، ور َّد<br />
عِلْمَ ما اشتُبھ علیھ إِلى عالمِھ" أي: سَل َّم لنصوص الكتاب والسنة، ولم<br />
یعترض علیھا بالشكوك والشبھ والتأویلات الفاسدة (1) ، أو یقول: العقلُ یشھد<br />
ε<br />
ε<br />
108<br />
ε<br />
.56<br />
( 1 )<br />
المكفر المخرج من الملة من غیر أدنى تأویل، وبھذا الضابط یتمیز الكفر الأكبر<br />
عن الكفر الأصغر، والمسألة قد أوفیناھا بحثاً في كتابنا "قواعد في التكفیر" عند<br />
الحدیث عن قاعدة "الكفر العملي الأصغر لایقال بھ إلا بقرینة شرعیة تدل<br />
علیھ"، فلتراجع.<br />
قال تعالى: [فلیحذر الذین یُخالفون عن أمره أن تصیبھم فتنة أو یصیبھم<br />
عذابٌ ألیم] النور: 63. قال الإمام أحمد رحمھ اللھ: نظرت في المصحف<br />
فوجدت طاعة الر َّ سُول في ثلاثة وثلاثین موضعاً. ثم جعل یتلو: [فلیحذر<br />
الذین یخالفون عن أمره أن تصیبھم فتنة]، وجعل یكررھا ویقول: وما الفتنة؟<br />
الشرك، لعلھ إذا رد َّ بعض قولھ أن یقع في قلبھ شيء من الزیغ فیزیغ قلبھ<br />
فیھلكھ.<br />
وقیل لھ: إن قوماً یدَعون الحدیث، ویذھبون إِلى رأي سفیان! فقال: أعجب<br />
لقوم سمعوا الحدیث وعرفوا الإسناد وصحتھ یدَعونھ ویذھبون إِلى رأي سفیان<br />
وغیره! قال اللھ تعالى: [فلیحذر الذین یُخالفون عن أمره أن تصیبھم فتنة]<br />
وتدري ما الفتنة؟ الكفر. قال اللھ تعالى: [والفتنة أكبر من القتل]، فیدَعون<br />
الحدیث عن رسولِ اللھ ε، وتغلبھم أھواؤھم إِلى الرأي؟! ا-ھ. عن الصارم<br />
المسلول <strong>لابن</strong> تیمیة:<br />
قلت: إذا كان ھذا حال من یدَع قول النبي إِلى قول سفیان وغیره من علماء<br />
الأمة، فما یكون القول والحكم فیمن یدع قولھ إِلى قول الطواغیت وأئمة<br />
الكفر والفجور .. ؟!<br />
قال تعالى: [فلا وربك لا یؤمنون حتى یحكموك فیما شجَر بینھم ثم لا یجدوا<br />
في أنفسھم حرجاً مما قضیت ویُسلموا تسلیماً] النساء: 65. قال ابن القیم:<br />
أقسم سبحانھ بنفسھ المقد َّسة قسماً مؤكداً بالنفي قبلھ عدم إیمان الخلق حتى<br />
یحكموا رسُولھ في كل ما شجر بینھم من الأصول والفروع، وأحكام الشرع،<br />
وأحكام المعاد وسائر الصفات وغیرھا، ولم یثبت لھم الإیمان بمجرد ھذا<br />
التحكیم حتى ینتفي عنھم الحرج، وھو ضیق الصدر، وتن<strong>شرح</strong> صدورھم<br />
لحكمھ كل الانشراح وتنفسح لھ كل الانفساح، وتقبلھ كل القبول، ولم یثبت لھم
بضد ما دل علیھ النقل!! والعقل أصل النقل!! فإذا عارضھ قدمنا العقل!!<br />
وھذا لا یكون قط ُّ، لكن إذا جاء ما یوھم مثل ذلك، فإن كان النقلُ صحیحاً،<br />
فذلك الذي یُد َّعى أنھ معقول إنما ھو مجھول، ولو حُقّ ِق النظر لظھر ذلك،<br />
وإن كان النقلُ غیرَ صحیح، فلا یصلح للمعارضة، فلا یتصور أن یتعارض<br />
عقل صریح، ونقلٌ صحیحٌ أبداً.<br />
-من لوازم الإیمان وشروطھ التسلیم للرسول والانقیاد لأمره-<br />
فالواجبُ كمال التسلیم للرسول ε، والانقیادُ لأمره، وتلقي خبره بالقبول<br />
والتصدیق، دونَ أن یعارضَھ بخیالٍ باطلٍ یسمیھ معقولاً، أو یُحَمّ ِلَھ شبھةً أو<br />
شكاً، أو یُقدّ ِمَ علیھ آراءَ الرجال، وزبالَة أذھانھم، ِ فیوحّده بالتحكیم والتسلیم<br />
والانقیاد والاذعان، كما وح َّد المُرسِلَ بالعبادة والخضوع والذل والإنابة<br />
والتوكل. فھما توحیدان لا نجاة للعبد من عذاب اللھ إلا بھما: توحیدُ المُرسِل<br />
وتوحیدُ متابعةِ الر َّ سُول، فلا یُحاكِم إِلى غیره، ولا یرضى بحكم غیره، ولا<br />
یَقِفُ تنفیذُ أمره وتصدیق خبره على عرضھ على قول شیخھ وإمامھ وذوي<br />
مذھبھ وطائفتھ ومن یُعظمھ، فإن أذنوا لھ، نفذه وَ قبِلَ خبرَ ه!! وإلا فو َّ ضَھ<br />
وأعرض عن أمره وخبره، وحَر َّ فھ عن مواضِ عھ وسم َّى تحریفھ<br />
ε<br />
إلیھم (1)<br />
الإیمان بذلك أیضاً حتى ینضاف إلیھ مقابلة حكمھ بالرضى والتسلیم وعدم<br />
المنازعة وانتفاء المعارضة والاعتراض ا-ھ.<br />
وقال تعالى: [یا أیھا الذین آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا<br />
تجھروا لھ بالقول كجھر بعضكم لبعضٍ أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون]<br />
الحجرات: 2-1. قال ابن تیمیة في تفسیر الآیة: أي حذَرَ أن تحبط أعمالكم، أو<br />
خشیة أن تحبط أعمالكم، أو كراھة أن تحبط أعمالكم، ولا یحبط الأعمال غیر<br />
الكفر، لأن من مات على الإیمان فإنھ لابد أن یدخل الجنة ویخرج من النار إن<br />
دخلھا، ولو حبط عملھ كلھ لم یدخل الجنة قط، ولأن الأعمال إنما یحبطھا ما<br />
ینافیھا، ولا ینافي الأعمال مطلقاً إلا َّ الكفر ا-ھ.<br />
قلت: إذا كان مجرد رفع الصوت فوق صوت النبي مظنة لحبوط العمل<br />
وحصول الكفر، فما یكون القول فیمن یرفع حكمھ على حكم الر َّ سُول<br />
علیھ، ویجعلھ النافذ دونھ.. لاشك أنھ أولى بالكفر والارتداد، وبأن تحبط أعمالھ.<br />
(1 ( جاء في الأصل: "وإلا فإن طلَبَ السلامَةَ فو َّ ضھ إلیھم، وأعرض عن أمره..<br />
فالمعنى في ھذه الحالة لایستقیم ولا یصح؛ لأنھ لا یصح أن یقال لمن یعرض عن<br />
ε، ویقدمھ<br />
"<br />
ε<br />
109
تأویلاً وحملاً! فقال: نُؤوِّلھ ونحمِلُھ. فلأَن یلقى العبدُ ربھ بكل ذنبٍ -ما خلا<br />
الإشراك باللھ- خیرٌ لھ من أن یلقاه بھذه الحال (1) .<br />
بل إذا بَلَغَھُ الحدیثُ الصحیح یعد ُّنفسھ كأنھ سمعھ من رسول اللھ<br />
یسوغ لھ أن یؤخر قبولَھ والعمل بھ حتى یعرضھ على رأي فلان وكلامِھ<br />
ومذھبھ! بل كان الفرض المبادرة إِلى امتثالھ، من غیر التفات إِلى سواه،<br />
ولا یُستَشكَلُ قولُھ لمخالفتھ رأي فلان (2) ، بل تُستشكل الآراءُ لقولھ، ولا<br />
یُعارَ ض نص ُّھ بقیاس، بل تُھدر الأقیسة وتُلغى لنُصوصھ، ولا یُحر َّ ف كلامُھ<br />
عن حقیقتھ، لخیالٍ یسمیھ أصحابھ معقولاً، ولا یوقَفُ قبولُ قولھ على<br />
موافقتھ فلان دون فلان، كائناً من كان (3) .<br />
عن عمرو بن شعیبٍ، عن أبیھ، عن جده -عبد اللھ بن عمرو بن<br />
العاص-، قال:<br />
أقبلت أنا وأخي، وإذا مشیخَةٌ من أصحاب رسول اللھ ε جلوس عند باب<br />
من أبوابھ، فكرھنا أن ِ نفرّ ق بینھم، فجلسنا حَجْرَ ةً، إذ ذكروا آیة من القرآن،<br />
ε، فھل<br />
110<br />
ε<br />
أمر النبي إِلى أمر غیره أنھ طالب للسلامة، بل من كان ھذا وصفھ فھو طالب<br />
للكفر والغضب والعذاب.<br />
(1 ( لأن ھذا النوع من التأویل غالباً ما یؤدي إِلى إباحة المحظورات، وتعطیل<br />
الصفات وغیرھا من الغیبیات المثبتة في الكتاب والسنة، وھو باب واسع یؤدي<br />
بصاحبھ إِلى الشرك والزندقة.<br />
( 2 )<br />
أي لا ینبغي أن یستشكل قول النبي ε على الأذھان، لمعارضتھ لأقوال الغیر،<br />
مھما سمت مرتبة ھذا الغیر العلمیة والدینیة والاجتماعیة، لأن الأصل الذي یجب<br />
أن یتبع من دون التفات أو تردد ھو قول النبي ε، وما سواه إن جاء قولھ مخالفاً<br />
لقول النبي ε، فھو مردود ولا یُشتغل بھ. ومما یلاحظ على كثیر من الأحزاب<br />
والجماعات المعاصرة -من باب التعصب للحزب أو الشیخ- فإن الحق لا یؤخذ<br />
بھ إلا إذا جاء عن طریق الحزب أو الشیخ، ولو جاء عن غیر طریق الحزب<br />
وأشیاخھ فھو یقابل بالفتور والتردد، إذا لم یقابل بالرد والإعراض، والاستھانة<br />
والاستخفاف، وھذا من أشنع ما یؤخذ على كثیر من الأحزاب والتجمعات<br />
المعاصرة.<br />
( 3 )<br />
ε<br />
المتأمل لواقع المسلمین في ھذا الزمان، یجد أن كثیراً منھم یردون قول النبي<br />
لقول المذھب الذي یتمذھبون بھ، أو لقول شیخ من مشایخ المذھب! كما وأنك<br />
تجد في قلوبھم رھبة لقول المذھب والشیخ أو الطریقة أكثر من قول الر َّ سُول<br />
!!ε
فتمادوا فیھا، حتى ارتفعت أصواتھم، فخرج رسول اللھ مغضَباً، قد ε<br />
أحمر َّ وجھھ، یرمیھم بالتراب ویقول:"مھلاً یاقوم، بھذا أُھلِكت الأمم من<br />
قبلكم، باختلافھم على أنبیائھم، وضربھم الكُتُبَ بعضھا ببعض، إن القرآن لم<br />
ینزل یكذب بعضُھ بعضاً، وإنما نزل یصدق بعضُھ بعضاً، فما عرفتم منھ<br />
فاعملوا بھ، وما جھلتُم منھ فردوه إِلى عالِمِھ" (1) .<br />
قولُھ: "ولا تَثبتُ قدَمُ الإِ سلام إِلا على ظَھْرِ التسلیم<br />
والاستسلام".<br />
أي: لا یثبت إسلام من لم یسلم لنصوص الوحیین، وینقادُ إلیھما، ولا<br />
یعترض علیھما، ولا یُعارِ ضُھا برأیھ ومعقولھ وقیاسھ (2) . روى البخاري<br />
عن الإمام محمد شھاب الزھیري رحمھ اللھ أنھ قال: من اللھِ الرسالةُ،<br />
وعلى الر َّ سُول البلاغُ، وعلینا التسلیم. وھذا كلام جامعٌ نافع.<br />
(1 ( صحیح، أخرجھ أحمد، والبغوي في <strong>شرح</strong> الس ُّن َّة.<br />
(2 ( عن <strong>أبي</strong> سلمة أن أبا ھریرة قال لرجل: یا ابن أخي، إذا حدثتك عن رسول<br />
اللھ فلا تضرب لھ الأمثال.<br />
وقال عبادة بن الصامت لمعاویة -وكان لھ إمرة علیھ-: أحدثك عن رسول<br />
اللھ وتحدثني عن رأیك! لئن أخرجني اللھ لا أساكنك بأرض لك علي فیھا<br />
إمرة.<br />
وعن ابن عمر أن رسول اللھ قال: "لا تمنعوا إماء اللھ أن یصلین في<br />
المسجد". فقال ابن لھ: إنا لنمنعھ َّن!! فقال: فغضب غضباً شدیداً، وقال أحدثك<br />
عن رسول اللھ وتقول إنا لنمنعھن؟!!.<br />
وكان ابن عباس یقول: یوشك أن تنزل علیكم حجارة من السماء، أقول: قال<br />
رسول اللھ، وتقولون قال أبو بكر وعمر!!.<br />
قلت: فكیف بمن یعارض قول النبي -كما ھو حال كثیر من الن َّاس في ھذا<br />
الزمان -بقول أناسٍ ھم أقل شأناً ومكانة ودیناً من <strong>أبي</strong> بكر وعمر؟!<br />
ومن نماذج الاقتداء والانقیاد التي جعلت من جیل الصحابة جیلاً فریداً لا یوازیھ<br />
جیل، ما أخرجھ أبو داود في سننھ، عن جابر قال: لما استوى رسُول اللھ<br />
یوم الجمعة قال: "اجلسوا" فسمع ذلك ابن مسعود، فجلس على باب المسجد،<br />
فرآه رسُول اللھ فقال: "تعال یا عبد اللھ بنَ مسعود" فتأمل أین نحن منھم..؟!<br />
ε<br />
111<br />
ε<br />
τ<br />
ε<br />
τ<br />
ε<br />
ε<br />
ε<br />
ε
قولُھ: "فمن رَامَ(1) عِلْمَ ما حُظِرَ عنھ عِلمُھُ، ولم یقنع بالتسلیم<br />
فَھْمُھُ، حَجَبَھُ مُرامُھ عن خالِص التوحید، وصافي المَعرِ فَة،<br />
وصحیحِ الإیمان".<br />
ش: ھذا تحذیر أن یُتكل َّم في أصول الدین وغیرھا بغیر علم، قال تعالى:<br />
[ولا تَقْفُ ما لیس لك بھ علم إن السمعَ والبصر والفؤاد كل ُّ أولئك كان عنھ<br />
مسؤولاً] الإسراء:<br />
112
-أصلُ الفسادِ في العالَمِ من ثلاثِ فِرَقٍ-<br />
قال عبد اللھ بن المبارك رحمة اللھ علیھ:<br />
رأیتُ الذنوبَ تُمیتُ القلوبَ وقد یُورِ ثُ الذ َّل إدمانُھا<br />
وتَركُ الذنوبِ حیاةُ القلوبِ وخیرٌ لنفس عِصیانُھا<br />
وھل أفسدَ الدینَ إلا الملُوكُ وأحبارُ سُوءٍ ورُ ھبانُھَا<br />
فالملوك الجائرة یعترضون على الشریعة بالسیاسات الجائرة،<br />
ویعارضونھا بھا، ویقدمونھا على حكم اللھ ورسولھ (1) !!<br />
ھواه وكان أمره فرطا] وقولھ: [ولا تتبع أھواء الذین كذبوا بآیاتنا] وقولھ:<br />
[ولو اتبع الحق أھواءھم لفسدت السماوات والأرض ومن فیھن] وقولھ:<br />
[أرأیت من اتخذ إلھھ ھواه أفأنت تكون علیھ وكیلا]، فالھوى الوارد في ھذه<br />
الآیات یراد بھ الكفر الأكبر. ونوع یكون فسقاً ومعصیة دون الكفر، وذلك حین<br />
یُطاع عن ضعف في معصیة لا تخرج صاحبھا من الملة، كارتكاب الزنى،<br />
وشرب الخمر وغیر ذلك من المعاصي التي ھي دون الكفر الأكبر، كما في<br />
قولھ تعالى: [فلا تتبعوا الھوى أن تعدلوا] وقولھ: [وأما من خاف مقام ربھ<br />
ونھى النفس عن الھوى فإن الجنة ھي المأوى]. أي: نھاھا عن المحارم التي<br />
تشتھیھا. ومنھ یعلم أن صاحب الھوى لیس كافراً على الإطلاق، فأحیاناً یكون<br />
كافراً، وأحیاناً یكون فاسقاً عاصیاً بحسب الھوى المتبع، وفیما قد اتبع.<br />
قال ابن تیمیة في صفة الھوى المكفر (الفتاوى: 359/8): فمن كان یعبد ما یھواه<br />
فقد اتخذ إلھھ ھواه، فھو لا یتألھ من یستحق التألھ، بل یتألھ ما یھواه، وھذا المتخذ<br />
إلھھ ھواه لھ محبة كمحبة المشركین لآلھتھم، ومحبة عباد العجل لھ، وھذه محبة<br />
مع اللھ لا محبة ، وھذه محبة أھل الشرك، والنفوس قد تدعي محبة اللھ،<br />
وتكون في نفس الأمر محبة شرك تحب ما تھواه وقد أشركتھ في الحب مع اللھ<br />
ا-ھ. وھذا النوع من الشرك قل َّ من یسلم منھ في ھذا الزمان.<br />
( 1 )<br />
أقول: بل الأمر لم یقف عند الملوك والحكام وحسب، بل تعداھم إِلى خاصة<br />
المسلمین وعامتھم في ھذا الزمان!! فیُرى أحدھم یمارس السیاسة وھو لا یبالي<br />
لو وقع في مخالفات ومزالق شرعیة وعقدیة صریحة!! وإذا ما سئل عن سبب<br />
مخالفاتھ فسرعان ما یجیب: ھذه السیاسة ومتطلباتھا، فالسیاسة من الدین،<br />
والوقوع في المخالفات الشرعیة من لوازم السیاسة المعاصرة!!<br />
فالسیاسة عندھم غایة یبرر لأجلھا الوسائل!! بل إن كلمة السیاسة أصبحت<br />
مبرراً لممارسة الكفر عند كثیر من خاصة المسلمین وعامتھم!! من ذلك تنادیھم<br />
بالدیمقراطیة، وبحكم الشعب والأكثریة، وبالانتخابات، والدخول في المجالس<br />
113
وأحبار الس ُّوءِ، وھم العلماء الخارجون عن الشریعة بآرائھم وأقیستھم<br />
الفاسدة، والمتضمنة تحلیلَ ما حرم اللھ ورسولھ، وتحریمَ ما أباحھ،<br />
واعتبار ما ألغاهُ، وإلغاء ما اعتبره، وإطلاقَ ما قیده، وتقیید ما أطلقھ (1) .<br />
والرھبان وھم جھالُ المتصوفة، والمعترضون على حقائق الإیمان<br />
والشرع، بالأذواق والمواجید والخیالات والكشوفات الباطلة الشیطانیة<br />
المتضمنة شرع دین لم یأذن بھ اللھ، وإبطالَ دینھ الذي شرَ عَھُ على لسان<br />
نبیھ ε، والتعویض عن حقائق الإیمان بِخِ دَعِ الشیطان، وحظوظِ النفس.<br />
وقالوا: إذا تعارض الذوق وظاھر الشرع، قدمنا الذوقَ والكشف!!<br />
وكل ُّ من قال برأیھ أو ذوقھ أو سیاستھ -مع وجود النص، أو عارض<br />
النص بالمعقولِ- فقد ضاه إبلیس، حیث لم یُسَلّ ِم لأمر ربھ، بل قال: [أنا خیر<br />
منھ خلقتني من نار وخلقتھ من طین] الأعراف:<br />
114
(1)<br />
یُطع الرسولَ فقد أطاعَ اللھَ ومن تول َّى فما أرسلناك علیھم حفیظاً]<br />
النساء:<br />
115
قال ابنُ رشد، وھو من أعلم الناس بمذھب الفلاسفة ومقالاتھم، في كتابھ<br />
(تھافت التھافت) (1) : (وَ مَن الذي قال في الإلھیات شیئاً یُعتد بھ؟). وكذلك<br />
الغزالي رحمھ اللھ، انتھى آخرُ أمرهِ إِلى الوقفِ والحیرة في المسائل<br />
الكلامیة، ثم أعرض عن تلك الطرق، وأقبل على أحادیث الر َّ سُول<br />
وصحیح البخاري على صدره. وكذلك أبو عبد اللھ محمد بن عمر الرازي،<br />
قال في كتابھ الذي صنفھ في أقسام الل َّذات:<br />
وأرواحُنا في وحشةٍ من جسُومِنَا وحاصِ لُ دُنیانا أذَى ووبال<br />
ولم نَسْتَفِدْ من بحثنا طولَ عُمْرِ نا سِوى أن جمعنا فیھ: قِیلَ وقالوا<br />
ولقد تأملت الطرق الكلامیة، والمناھج الفلسفیة، فما رأیتھا تشفي علیلاً،<br />
ولا تروي غلیلاً، ورأیتُ أقرب الط ُّرقِ طریقة القرآن، اقرأ في الإثبات:<br />
فاطر:<br />
[الرحمن على العرش استوى] طھ: [إلیھ یصعد الكَلِمُ الطیبُ [ (2)<br />
ε، فمات<br />
.5<br />
116
لا تشتغلوا بالكلام، فلو عَرَ فتُ أن الكلامَ یبلغ بي إِلى ما بلغ ما اشتغلت بھ.<br />
وقال عند موتھ: لقد خضتُ البحرَ الخضم َّ، وخل َّیتُ أھل الإسلام وعلومَھم،<br />
ودخلت في الذي نھَوني عنھ، والآن فإن لم یتداركني ربي برحمتھ، فالویل<br />
<strong>لابن</strong> الجویني، وھا أنا ذا أموت على عقیدةِ أمي، أو قال: على عقیدة عجائز<br />
نیسابُور (1) !<br />
وكذلك قال شمس الدین الخسروشاھي (2) ، لبعض الفضلاء: ما تعتقدُ؟<br />
قال: ما یعتقده المسلمون، فقال: وأنت من<strong>شرح</strong> الصدر لذلك مستیقنٌ بھ؟<br />
فقال: نعم، فقال: أُشكُرِ اللھ على ھذه النعمة، لكني واللھ ما أدري ما أعتقدُ،<br />
واللھ ما أدري ما أعتقد، وبكى حتى أخضل َّت لحیتَھُ!.<br />
وقال آخر (3) : أضطجِ عُ على فراشي، وأضع الملحفَةَ على وجھي، وأقابل<br />
بین حجج ھؤلاء وھؤلاء حتى یطلُعَ الفجرُ ، ولم یترج َّح عندي منھا شيء!!<br />
-حكمُ أَھْلِ العلم في أَھْلِ الكلام-<br />
لطلب العلم أن یصرف عزمھ وھمتھ لطلب العلم من منبعھ الصافي الأصیل؛<br />
الكتاب والسنة، ویحرص على أن لا یشغلھ عنھما شاغل، أو یصرفھ عنھما<br />
صارف، وإنھا واللھ لمصیبة عظیمة أن یجد المرء نفسھ في نھایة عمره العلمي<br />
فارغاً من العلم الصحیح لا یحمل منھ إلا اسمھ ورسمھ، والعاقل من یعتبر<br />
بغیره.<br />
(1 ( لأن عقائد العجائز والعامة من المسلمین لم تلوث بشبھات وأباطیل علم الكلام،<br />
وھم على بساطة علمھم، أسلم وأحكم إیماناً وعقیدة من علماء الكلام. وھذا<br />
یتطلب منا أن نشیر إِلى أمر، وھو أن كثیراً من الناس في ھذا العصر یعرضون<br />
عن التفقھ بالتوحید ومتطلباتھ كما جاء في الكتاب والسنة متذرعین بمقولة: "أنھم<br />
على إیمان العجائز!! " مستدلین بما نقل عن ھؤلاء المتكلمین، وھذا لا یجوز،<br />
ولا یصح أن یكون عذراً لجھل التوحید، فأولئك عندما نشدوا إیمان العجائز<br />
نشدوه لیبینوا سوء علم الكلام وما أوصلھم إلیھ، ولیس حتى یجتنب الناس التفقھ<br />
بالتوحید من مصادره الصحیحة، ویطلبوا إیمان العجائز والعوام!!.<br />
(2 ( ھو عبد الحمید بن عیسى الخسر وشاھي، نسبة إِلى خسر وشاه، قریة بمرو،<br />
قال السبكي في "الطبقات" : كان فقیھاً أصولیاً متكلماً محققاً بارعاً في<br />
المعقولات، قرأ على الإمام فخر الدین الرازي، وأكثر الأخذ عنھ.<br />
(3 ( ھو محمد بن سالم بن واصل الحموي، كما في درء تعارض العقل والنقل<br />
117<br />
161/8<br />
."165/1"
ومن یَصل إِلى مثل ھذه الحال إن لم یتداركھ اللھُ برحمتھ وإلا تزندق،<br />
كما قال أبو یوسف رحمھ اللھ: من طلب الدین بالكلام تزندق. وقال<br />
أن یُضربوا بالجرید<br />
الشافعي رحمھ اللھ تعالى: حُكمي في أھل الكلام (1)<br />
والنعال، ویُطاف بھم في القبائل والعشائر، ویقال: ھذا جزاء من ترك<br />
الكتابَ والسنةَ، وأقبل على الكلام. وقال: لقد اطلعتُ من أھل الكلام على<br />
شيء ما ظننت مسلماً یقولُھ، ولأن یُبتلى العبد بكل ما نھى اللھُ عنھ<br />
-ما خلا الشركَ باللھ -خیر لھ من أن یُبتلى بالكلام. ا-ھ.<br />
وتجدُ أحد ھؤلاء عند الموت یرجع إِلى مذھب العجائز، فیكونون في<br />
نھایاتھم -إذا سَلِمُوا من العذاب- بمنزلة أتباع أھلِ العلم من الصبیان والنساءِ<br />
والأعراب (2) .<br />
والدواء النافعُ لمثل ھذا المرض، یكمن في دعاء النبي ε: "اللھم َّ ر َّب<br />
جبریلَ ومیكائیل وإسرافیل، فاطِرَ السماوات والأرض عالِمَ الغیب<br />
والشھادة، أنت تحكمُ بین عبادك فیما كانوا فیھ یختلفون، اھدِني لما اختُلِف<br />
فیھ من الحق بإذنك، إنك تھدي من تشاءُ إِلى صراطٍ مستقیم" (3) .<br />
118<br />
( 1 )<br />
( 2 )<br />
المراد بأھل الكلام: ھم كل من تكلم في الإلھیات والغیبیات وما یتعلق باللھ<br />
تعالى من خصائص وصفات، معتمدین على العقل، والمنطق، والفلسفة، بعیداً<br />
عن ھدي الكتاب والسنة وفھم الس َّلَف الصالح.<br />
فدل أن إیمان العجائز لا یصح أن یكون غایة ینشده الناس، أو أن یكون عذراً<br />
لجھل التوحید.<br />
(3 ( صحیح، أخرجھ مسلم وغیره. قال الشیخ حافظ الحكمي في كتابھ "اعتقاد<br />
الطائفة الناجیة المنصورة" یبین صفة الصراط المستقیم الذي أُمرنا بسلوكھ من<br />
غیر التفات إِلى السبل الأخرى: الصراط المستقیم ھو دین الإسلام الذي أرسل<br />
اللھ بھ رسلھ، وأنزل بھ كتبھ، ولم یقبل من أحدٍ سواه، ولا ینجو إلا من سلكھ،<br />
ومن سلك غیره تشعبت علیھ الطرق، وتفرقت بھ السبل، قال اللھ تعالى: [وأن<br />
ھذا صراطي مستقیماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبیلھ].<br />
وخط النب ُّي ε خطاً ثم قال: "ھذا سبیل اللھ مستقیماً"، وخط َّ خطوطاً عن یمینھ<br />
وشمالھ، ثم قال: "ھذه السُبل لیس منھ سبیل إلا علیھ شیطان یدعو إلیھ"، ثم<br />
قرأ: [وأن ھذا صراطي مستقیماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن<br />
سبیلھ].
قولُھ: "ولا یصح ُّ الإیمانُ بالرؤیة لأھل دار السلام لمن<br />
منھم بوھمٍ ، أو تأو َّ لھا بفَھمٍ ، إذا كان تأویل كُلّ<br />
یُضافُ إِلى الربوبیة، تَرْ كَ التأویل (2) ، ولزومَ التسلیمِ ، وعلیھ دینُ<br />
المسلمین (3) ، ومَن لم یتوق َّ النفيَ والتشبیھ، زَل َّ ولم یُصِ بِ<br />
التنزیھَ".<br />
ِ معنى<br />
(1)<br />
اعتبرھا<br />
،Ι<br />
119<br />
:ε<br />
( 2 )<br />
وقال ε: "ضرب اللھ مثلاً صراطاً مستقیماً، وعلى جنبتي الصراط سوران<br />
فیھما أبواب مفتحة وعلى الأبواب ستور مرخاة، وعلى باب الصراط داعٍ یقول:<br />
یا أیھا الناس ادخلوا الصراط المستقیم جمیعاً ولا تفرقوا، وداعٍ یدعو من فوق<br />
الصراط، فإذا أراد الإنسان أن یفتح شیئاً من تلك الأبواب قال: ویحك لا تفتحھ<br />
فإنك إن تفتحھ تلجھ، فالصراط الإسلام، والسوران حدود اللھ، والأبواب المفتحة<br />
محارم اللھ، وذلك الداعي على رأس الصراط كتاب اللھ، والداعي من فوق<br />
الصراط واعظ اللھ في قلب كل مسلم". رواه أحمد، والحاكم، وقال: صحیح<br />
على شرط مسلم، ووافقھ الذھبي.<br />
ولا یتأتى سلوكھ والسلامة من الإنحراف عنھ إلا بالتمسك بالكتاب والسنة،<br />
والسیر بسیرھما والوقوف عند حدودھما، وبذلك یحصل تجرید التوحید <br />
وتجرید المتابعة للرسول [من یطع اللھ والر َّسُول فأولئك مع الذین أنعم اللھ<br />
علیھم من النبیین والصدیقین والشھداء والصالحین وحسن أولئك رفیقاً].<br />
وھؤلاء المنعم علیھم المذكورون ھھنا تفصیلاً ھم الذین أضاف الصراط إلیھم<br />
في فاتحة الكتاب بقولھ تعالى: [إھدنا الصراط المستقیم. صراط الذین أنعمت<br />
علیھم غیر المغضوب علیھم ولا الضالین]، ولا أعظم نعمة على العبد من<br />
ھدایتھ إِلى ھذا الصراط المستقیم، وتجنبھ السبل المضلة ا-ھ.<br />
قلت: ومنھ تعلم خطأ من یستبطئ طریق الإسلام وھدي الأنبیاء، ویستعجل<br />
الطرق القصیرة الملتویة للوصول إِلى الغایة؛ كطریق الدیمقراطیة وما تفرزه<br />
من سبل شركیة باطلة التي راجت في البلاد وعلى العباد، والتي على رأس كل<br />
سبیل منھا شیاطین الإنس والجن مجتمعة یزینون للعباد الولوج منھ..!!<br />
( 1 )<br />
أي اعتبر الرؤیة تشبیھاً بوھم منھ.<br />
أي التأویل الصحیح للرؤیة وغیرھا من المعاني التي تضاف إِلى الرب<br />
یكون بترك التأویل الفاسد المخالف للكتاب والسنة وما كان علیھ سلف الأمة.<br />
( 3 )<br />
أي التسلیم المنافي للنفي والتشبیھ، والذي بھ یدین المسلمون.
ش: فیھ رد ٌّ على من یقول بنفي الرؤیة، وعلى من یشَبّ ِھ اللھَ بشيء من<br />
مخلوقاتھ.<br />
وقولُھ: "لمن اعتبرھا منھم بوھم"، أي توھم أن اللھ تعالى یُرى على<br />
صفة كذا، فیتوھم تشبیھاً، ثم بعد ھذا التوھم إن أثبت ما توھمھ من<br />
الوصف، فھو مشبھ، وإن نفى الرؤیةَ من أصلھا لأجل ذلك التوھم، فھو<br />
جاحد مُعطّ ِل، بل الواجبُ دفع ذلك الوھم وحده، وإثباتُ الحق.<br />
وإلى ھذا المعنى أشار الشیخُ رحمھ اللھ تعالى بقولھ: "ومَن لم یتو َّق<br />
النفي والتشبیھ، زل َّ ولم یصب التنزیھ" فإن ھؤلاء المعتزلة یزعمون أنھم<br />
ینزھون اللھ بھذا النفي! فإن نفيَ الرؤیة لیس بصفة كمال، إذ المعدوم لا<br />
یُرى (1) ، وإنما الكمالُ في إثبات الرؤیة ونفي إدراك الر َّ ائي لھ إدراك<br />
إحاطةٍ، كما في العلم، فإن نفي العلم بھ لیس بكمالٍ، وإنما الكمال في إثبات<br />
العلم ونفي الإحاطة بھ علماً، فھو سبحانھ لا یُحاطُ رؤیةً، كما لا یُحاط بھ<br />
علماً.<br />
وقولُھ: "أو تأولھا بفھم" أي: أدعى أنھ فھم لھا تأویلاً یُخالف ظاھرھا،<br />
وما یفھمھ كل ُّ عربي ٌّ من معناھا، فإنھ قد صار اصطلاح المتأخرین في<br />
معنى التأویل: أنھ صَرْ فُ اللفظ عن ظاھِره، وبھذا تَسَل َّط ِ المحرّ فون على<br />
النصوص، وقالوا: نحن نؤوِّلُ ما یخالف قولَنا، فسموا التحریفَ : تأویلاً،<br />
تزییناً لھ، وزخرفة لیقبل، وقد ذم اللھ الذین زخرفوا الباطل، قال تعالى:<br />
[وكذلك جعلنا لكل نبيّ ٍ عدواً شیاطین الإنس والجن یوحي بعضُھم إِلى<br />
بعضٍ زُخرُفَ القولِ غروراً] الأنعام:<br />
120
-2<br />
-3<br />
رسُولھ ε: ھو الحقیقةُ التي یؤولُ إلیھا الكلام، فتأویل الخبر: ھو عین<br />
المخبر بھ، وتأویل الأمر: نفس المأمور بھ. وأما ما كان خبراً عن اللھ<br />
والیوم الآخر، فھذا قد لا یُعلَمُ تأویلھ، الذي ھو حقیقتھ، إذْ كانت لا تُعلَم<br />
بمجرد الإخبار، فإن َّ المُخْبَرَ إن لم یكن قد تصور المخْبَرَ بھ، أو ما یعرفھ<br />
قبل ذلك، لم یعرف حقیقتھ (1) ، التي ھي تأویلُھ بمجرد الإخبار. وھذا ھو<br />
التأویل الذي لا یعلمھ إلا اللھ، لكن لا یلزَ مُ من نفي العلم بالتأویل نفي العلم<br />
بالمعنى الذي قصدَ المخاطِبُ إفھامَ المخاطَبِ إیاه، فھذا معنى التأویل من<br />
الكتابِ والسنة وكلام الس َّلَفِ ، وسواءٌ كان ھذا التأویل موافقاً للظاھِرِ أو<br />
مخالفاً لھ.<br />
التأویل عند كثیر من المفسرین: كابن جریر ونحوه یریدون بھ<br />
التفسیر وبیان معناه، سواءٌ وافق ظاھِرَ هُ أو خالف، وھذا التأویل كالتفسیر،<br />
یُحمَدُ حَق ُّھ، ویُرد ُّ باطِلُھ.<br />
التأویل في كلام المتأخرین من الفقھاء والمتكلمین: ھو صرف<br />
اللفظ عن الإحتمال الراجح إِلى الإحتمال المرجوح لدلالةٍ تُوجب ذلك.<br />
فالتأویل الصحیح منھ: الذي<br />
(1 ( مثال ذلك: جھنم وعذابھا، فنحن نعلم معنى ھذه الكلمة ومدلولاتھا، ولكن لا<br />
نعلم حقیقة جھنم لأنھ لم یسبق لنا رؤیتھا ولا یوجد في دنیانا مثلھا، لذا جاء في<br />
وصفھا أن نار الدنیا جزء من سبعین جزء من نار جھنم، وأن َّى لنا أن ندرك<br />
حقیقة نارٍ تزید سبعین ضعفاً عن مجموع نار الدنیا، وكذلك الجنة فإن فیھا ما لا<br />
أذن سمعت، ولا عین رأت، ولا خطر على قلب بشر، كما جاء ذلك في الحدیث،<br />
وجنة ھذا وصفھا یعجز الإنسان عن معرفة حقیقتھا وإن كان معنى الجنة<br />
ونعیمھا الموصوف في القرآن الكریم معلوماً لدینا. وما یقال في المخلوق من ھذا<br />
الوجھ، فمن باب أولى أن یقال في الخالق Ι، فإن أسماء اللھ تعالى وصفاتھ<br />
معلومة لدینا معناھا، لكن حقیقتھا التي لھا علاقة "بالكیف" فإننا نجھلھا ولا<br />
یجوز الخوض أو حتى مجرد حدیث النفس فیھا، وإذا ثبت عجزنا وضعفنا عن<br />
معرفة حقیقة وكیفیة المخلوق، فمن باب أولى أن نمسك عن الخوض في كیفیة<br />
وحقیقة صفات اللھ تعالى، وھذا لا یمنع من إثبات المعنى الذي أراده اللھ تعالى<br />
من ذكر أسمائھ وصفاتھ، فھناك فرق بین معرفة حقیقة الصفة وبین إثبات معنى<br />
الصفة، ولا یخلط بینھما إلا جاھل متشبھ، أو متأول معطل.<br />
121
یوافق ما دلت علیھ نصوص الكتاب والسنة (1) ، وما خالف ذلك فھو التأویل<br />
الفاسد.<br />
-ما یترتب على التأویل الفاسد من مزالق ومحاذیر-<br />
فیُقال لھم: ھذا الباب الذي فتحتموه، فتحتم بھ علیكم باباً لأنواع المشركین<br />
والمبتدعین، ولا تقدرون على سده، فإنكم إذا سوغتم صرف القرآن عن<br />
دلالتھ المفھومَةِ بغیر دلیلٍ شرعيٍ، فما الضابِطُ فیما یَسوغُ تأویلُھ وما لا<br />
یَسوغُ؟! فإن قلتم: ما دل َّ القاطِعُ العقلي ُّ على استحالتھ تأولناه، وإلا أقررناه!<br />
یزعم<br />
قیل لكم: وبأي عقل نزنُ القاطِعَ العقلي؟! فإن القرمطي الباطني (2)<br />
قیام القواطع على بطلانِ ظواھرِ الشرع! ویَزعُمُ الفیلسوفُ قیامَ القواطِعِ<br />
على بُطلان حشرِ الأجسادِ! ویَزْ عمُ المُعتزلي ُّ قیام القواطعِ على امتناع رؤیة<br />
اللھ تعالى، وعلى امتناع قیام عِلمٍ أو كلامٍ أو رحمةٍ بھ تعالى!! وباب<br />
التأویلات التي یَد َّعي أصحابُھا وجوبَھا بالمعقولات أعظم من أن تنحصر<br />
في ھذا المقام ویلزم حینئذ محذوران عظیمان:<br />
أحدھما: أن لا نقر بشيء من معاني الكتاب والسنة حتى نبحث قبل ذلك<br />
بحوثاً طویلة عریضة في إمكان ذلك بالعقل، وكل طائفة من المختلفین في<br />
الكتاب ید َّعون أن<br />
العقل یدل على ما ذھبوا إلیھ، فیؤولُ الأمرُ إِلى الحیرة.<br />
الثاني: أن القلوب تتخلى عن الجزم بشيء تعتقده مما أخبر بھ الر َّ سُول،<br />
إذ لا یُوثَقُ بأن الظاھِر ھو المراد والتأویلاتُ مضطربة، فیلزم عزل الكتاب<br />
122<br />
( 1 )<br />
الكتاب والسنة یدلان دائماً على الإحتمال الراجح للفظ ولیس المرجوح، لذا<br />
فھذا النوع من التأویل لا یوافق الكتاب والسنة في أي وجھ من الوجوه، وإن كان<br />
صاحبھ قد یكون لھ أجر لاجتھاده.<br />
( 2 )<br />
القرامطة: نسبة إِلى حمدان القرمط أحد دعاتھم الأوائل، من أصولھم تحریف<br />
الدین وتأویل ظواھر الشرع وصرفھا إِلى رموز باطنیة، غایتھا إسقاط التكالیف<br />
عن العباد وإباحة المحرمات والمحظورات، وھدفھم من ذلك ھدم أركان الدین،<br />
قال عنھم ابن تیمیة في منھاج الس ُّن َّة (258/8): ھم ملاحدة في الباطن، خارجون<br />
عن جمیع الملل، أكفر من الغالیة، ومذھبھم مركب من مذھب المجوس والصابئة<br />
والفلاسفة، مع إظھار التشیع، وجدھم رجل یھودي كان ربیباً لرجلٍ مجوسي،<br />
وقد كانت لھم دولة وأتباع ا-ھ. وانظر "فضائح الباطنیة" لأبي حامد الغزالي،<br />
فستجد من فضائحھم ومخازیھم وأخبارھم العجب العجاب.
والسنة عن الدلالة والإرشاد إِلى ما أنبأ اللھُ بھ العباد. ولھذا نجد أھل<br />
التأویل إنما یذكرون نصوص الكتاب والسنة للاعتضاد لا للاعتماد (1) ، إن<br />
وافقت ما ادّعوا أن العقل دل علیھ، وإن خالفتھ أو َّ لوه (2) ! وھذا فتحُ باب<br />
الزندقة والإنحلال.<br />
-مرض الش ُّبھةِ أشد ُّ خطراً من مرض الشھوة-<br />
أمراضُ القلوب نوعان: مرضُ شُبھةٍ، ومرض شھوة، وكلاھما مذكور<br />
في القرآن، قال تعالى: [فلا تخضَعْنَ بالقول فیطمعَ الذي في قلبھ مرضٌ<br />
الأحزاب:<br />
[<br />
123
-التشبیھ نوعان-<br />
فإن التشبیھ نوعان: تشبیھُ الخالق بالمخلوق، وھذا الذي یتعبُ أھلُ الكلام<br />
في ردّ ِه وإبطالھ، وأھلُھ في الناس أقل ُّ من النوع الثاني الذین ھم أھلُ تشبیھ<br />
المخلوق بالخالق (1) ، كعُب َّادِ المسیح، وعُزیر، والشمس والقمر، والأصنام،<br />
تقر َّ أ فدخل في التشیع، فسمعت حبیب بن <strong>أبي</strong> ثابت وھو یقول: لأنت یوم كنت<br />
تقاتل وتفعل ما تفعل خیر منك الیوم.<br />
وعن <strong>أبي</strong> إدریس الخولاني أنھ كان یقول: لأن أسمع بناحیة المسجد بنارٍ تحترق<br />
أحب إلي َّ من أن أسمع فیھ ببدعة لیس لھا مغیر، وما أحدثت أمة في دینھا بدعة<br />
إلا رفع اللھ بھا عنھم سنة.<br />
(1 ( وھو كما قال المصنف رحمھ اللھ، فإن القوم ینشغلون إِلى حد المبالغة بشرك<br />
تشبیھ الخالق بالمخلوق مع انعدامھ، ویتوسعون في ذلك إِلى أن یقعوا في شر<br />
التعطیل المنافي لاثبات الصفات، بینما تراھم یغضون الطرف -رھبة أو<br />
رغبة- عن شرك تشبیھ المخلوق بخصائص الخالق سبحانھ، رغم وجوده،<br />
وسعة انتشاره، وتعدد الطواغیت التي تستشرف خصائص الإلھیة وتُقر علیھا<br />
من قبل جماھیر الناس، وكأن ھذا النوع من الشرك لا یعنیھم، ونصوص<br />
الشریعة لا تطالھ ولا تشملھ!<br />
فكم من إلھٍ أصبحت ألوھیتھ مألوفة لدى جماھیر الناس، والویل كل الویل لمن<br />
ینكر علیھا أو یعادیھا، فھي في نظر دعاتھا ومروجیھا ثوابت لا یمكن تجاوزھا<br />
أو التعقیب علیھا، فالوطن عندھم إلھ یُعبد من دون اللھ، وعلى أساس الانتماء<br />
إلیھ تقسم الحقوق والواجبات، ویعقد الولاء والبراء، والقوم والقومیة إلھ،<br />
والعشیرة إلھ، والإنسانیة إلھ، والإنسان إلھ، والشعب إلھ، والأكثریة في عرف<br />
الدیمقراطیة والدیمقراطیین إلھ، والمجالس التشریعیة النیابیة إلھ، والدساتیر<br />
الوضعیة إلھ، والثورة إلھ، والأحزاب في بعض صورھا إلھ، والطاغوت الحاكم<br />
إلھ، ومجلس الأمم إلھ، والجندي المجھول إلھ، والعَلَم إلھ... فھذه وغیرھا كثیر<br />
من الآلھة التي تُعبد من دون اللھ ولو في وجھ أو مجال من مجالات العبادة،<br />
ومع ذلك فھي لا تلفت نظر القوم -الدعاة!!- وكأن الأمر لا یعنیھم ولا یخصھم<br />
وھم یتحركون نحو التغییر والبناء. علماً أن دعوة الأنبیاء والرسل جمیعھم<br />
اجتمعت على تحقیق إخلاص العبادة تعالى، والكفر بكل طاغوت مألوه یدعي<br />
لنفسھ شیئاً من خصائص اللھ تعالى، كما قال تعالى: [ولقد بعثنا في كل أمة<br />
رسولاً أنِ اعبدوا اللھ واجتنبوا الطاغوت] النحل: 36. وقال تعالى: [وما<br />
124
والملائكة، والنار، والماء، والعِجْلِ، والقبورِ ، والجن، وغیر ذلك. وھؤلاء<br />
ھمُ الذین أُرسلت إلیھم الر ُّ سلُ یدعونھم إِلى عبادة اللھ وحدَه لا شریك لھ.<br />
قولُھ: "فإن رب َّنا جل َّ وعَلا موصُوف بصفاتِ الوحدانی َّةِ منعو ٌت<br />
بنعوت الفردانی َّةِ، لیس في معناهُ أحد في البری َّةِ" (1) .<br />
ش: فقولُھ: "موصوف بصفات الوحدانیة" مأخوذ من قولھ تعالى: [قل<br />
ھو اللھ أحد] وقولھ: "منعوت بنعوت الفردانیة" من قولھ: [اللھ الصمد<br />
لم یلد ولم یولد]. وقولھ: "لیس في معناه أحد من البریة" من قولھ تعالى:<br />
[ولم یكن لھ كفواً أحد]. والوصف والنعت مترادفان، وقیل: فالوصف<br />
للذات، والنعت للفعل، وكذلك الوحدانیة والفردانیة. وقیل الفرق بینھما: إن<br />
الوحدانیة للذات، والفردانیة للصفات، فھو تعالى مُوح َّدٌ في ذاتھ، مُنفردٌ<br />
بصفاتھ. و[لیس كمثلھ شيء] الشورى:<br />
125
ش: للناس في إطلاق مثل ھذه الألفاظ ثلاثَة أقوال: فطائفةٌ تنفیھا،<br />
وطائفةٌ تثبتھا، وطائفةٌ تفصل، وھم المتبعون للسلف، لأن المتأخرین قد<br />
صارت ھذه الألفاظ في اصطلاحھم فیھا إجمالٌ وإبھام، فلیس كُل ُّھم یستعمِلھا<br />
في نفس المعنى اللغوي، ولھذا كان النُفاةُ ینفون بھا حقاً وباطلاً، وبعض<br />
المثبتین لھا یُدخِ لُ فیھا معنى باطلاً مخالفاً لقول الس َّلَف.<br />
-الإعتصام بالألفاظ الواردة في الكتاب والسنة-<br />
لیس لنا أن نصِ فَ اللھَ تعالى بما لم یصفْ بھ نفسَھُ، ولا وصفَھ بھ رسولُھ<br />
نفیاً ولا إثباتاً، وإنما نحن متبعون لا مبتدعون. فما أثبتھ اللھ ورسولُھ<br />
أثبتناه، وما نفاه اللھُ نفیناه، والألفاظ التي ورد بھا النص ُّ یُعتصم بھا في<br />
الإثبات والنفي. وأما الألفاظ التي لم یرد نفیھا ولا إثباتھا، فلا تُطلَقُ حتى<br />
یُنظرَ في مقصود قائلھا، فإن كان معنى صحیحاً قُبِلَ، لكن ینبغي التعبیرُ<br />
عنھ بألفاظ النصوص دونَ الألفاظِ المجملَةِ إلا عند الحاجة، مع قرائن تبین<br />
المرادَ والحاجَةَ.<br />
والشیخُ رحمھ اللھ أراد الرد بھذا الكلام على المشبّ ِھة، القائلین: إن اللھَ<br />
جسمٌ، وإنھ جُثةٌ وأعضاء، وغیر ذلك! تعالى اللھ عما یقولون علواً كبیراً.<br />
اللھ سبحانھ، ولا یعلمھ العباد. وأما "الغایات والأركان والأعضاء والأدوات"،<br />
فمراده رحمھ اللھ تنزیھھ عن مشابھة المخلوقات في حكمتھ وصفاتھ الذاتیة من<br />
الوجھ والید والقدم ونحو ذلك، فھو سبحانھ موصوف بذلك لكن لیست صفاتھ مثل<br />
صفات الخلق، ولا یعلم كیفیتھا إلا ھو سبحانھ، وأھل البدع یطلقون مثل ھذه<br />
الألفاظ لینفوا بھا الصفات بغیر الألفاظ التي تكلم اللھ بھا وأثبتھا لنفسھ حتى لا<br />
یفتضحوا وحتى لا یشنع علیھم أھل الحق. والمؤلف الطحاوي رحمھ اللھ لم<br />
یقصد ھذا المقصد؛ لكونھ من أھل الس ُّن َّة المثبتین لصفات اللھ، وكلامھ في ھذه<br />
العقیدة یفسر بعضھ بعضاً، ویصدق بعضھ بعضاً، ویفسر مشتبھھ بمحكمھ،<br />
وھكذا قولھ "لا تحویھ الجھات الست كسائر المبتدعات" مراده الجھات الست<br />
المخلوقة، ولیس مراده نفي علو اللھ واستواءه على عرشھ؛ لأن ذلك لیس داخلاً<br />
في الجھات الست بل ھو فوق العالم ومحیط بھ، وقد فطر اللھ عباده على<br />
الإیمان بعلوه سبحانھ وأنھ في جھة العلو، وأجمع أھل الس ُّن َّة والجماعة من<br />
أصحاب النبي وأتباعھم بإحسان على ذلك، والأدلة من الكتاب والسنة<br />
الصحیحة المتواترة كلھا تدل على أنھ في العلو سبحانھ ا-ھ.<br />
126<br />
ε
τ<br />
فالمعنى الذي أراده الشیخ من النفي الذي ذكره ھنا حق، ولكن حدث بعده<br />
من أدخل في عموم نفیھ حقاً وباطلاً فیحتاج إِلى بیان ذلك.<br />
-اللھ تعالى لا تُحَد ُّ صفاتُھ بشيءٍ ، وھو بائنٌ عن خلقھ-<br />
السلفُ متفقون على أن البشرَ لا یعلمون حداً، وأن َّھم لا یَحدّ ِون شیئاً<br />
من صفاتھ. قال أبو داود الطیالسي: كان سفیان، وشعبة، وحمادُ بن یزید،<br />
وحماد بن سلمھ، وشریك، وأبو عوانھ، لا یَحدّ ِون ولا یُشبّ ِھون ولا یمثلون،<br />
یروون الحدیث، ولا یقولون: كیف، إذا سُئلوا قالوا بالأثر. فعُلِمَ أن مُراده (1) :<br />
أن اللھ یتعالى عن أن یُحیطَ أحدٌ بحده، لا أنھ غیر متمیزٍ عن خلقھ، منفصل<br />
عنھم، مباینٌ لھم. سُئل عبد اللھ بن المبارك: بما نعرف ربنا؟ قال: بأنھ على<br />
العرش، بائنٌ من خلقھ، قیل: بحد؟ قال: بحد (2) . ومن المعلوم أن الحد َّ یُقال<br />
على ما ینفصل بھ الشيء ویتمیز بھ غیره، واللھ تعالى غیر ٍ حالّ في خلقھ،<br />
ولا قائم بھم، بل ھو القیوم بنفسھ، المقیم لما سواه. فالحد بھذا المعنى لیس<br />
وراء نفیھ إلا نفي وجوب الرب، ونفي حقیقتھ (3) .<br />
وأما الحد ُّ بمعنى العِلْمُ والقول، وھو أن یحد َّه العبادُ، فھذا منتفٍ بلا<br />
منازعة بین أھل الس ُّن َّة.<br />
-لفظُ الأركان والأعضاء والأدوات-<br />
أما لفظُ الأركانِ والأعضاء والأدوات، فیستدل ُّ بھا النُفاة على نفي بعض<br />
الصفات الثابتة بالأدلة القطعیة، كالید والوجھ قال أبو حنیفة في (الفقھ<br />
الأكبر): لھ یدٌ ووجھٌ ونفسٌ ، كما ذكر تعالى في القرآن من ذكر الید والوجھ<br />
والنفس، فھو لھ صفة بلا كیف، ولا یُقال: إن یده قدرتھ ونعمتھ، لأن فیھ<br />
إبطال الصفة. ا-ھ.<br />
وھذا الذي قالھ الإمام ثابتٌ بالأدلة القاطعة. قال تعالى: [ما منعك أن<br />
تسجد لما خلقتُ بیدي] ص:<br />
127
ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك] المائدة<br />
128
الثاني: أن قولھ: "كسائر المبتدعات" یُفھم منھ أنھ ما من مُبتدَعٍ إلا وھو<br />
محوي ٌّ وفي ھذا نظر (1) .<br />
قولُھ: "والمعراجُ حق ٌّ، وقد أُسرِ يَ بالنبي وعُرِ جَ بشخصھ في<br />
الیقظة، إِلى السماء، ثم إِلى حیثُ شاء اللھُ من العُلاَ، وأكرمَھُ اللھُ<br />
بما یشاء، وأوحى إلیھ ما أوحى، ما كذَبَ الفؤادُ ما رأى. فصلى<br />
اللھ علیھ في الآخرةِ والأولى".<br />
ش: "المعراج" مفعال، من العروج، أي: الآلة التي یُعرج فیھا، أي<br />
یصعد، لكن لا نعلم كیف ھو، وحكمھ كحكم غیره من المغیبات، نؤمن بھ<br />
ولا نشتغل بكیفیتھ.<br />
ε<br />
-ثبوتُ الإسراء والمعراج لنبینا ε، بالیقظة بروحھ وجسده،<br />
ومرة واحدة-<br />
اختلف الناس في الإسراء، فقیل: كان الإسراء بروحھ، ولمْ یُفْقَد جَسَدُه.<br />
وقیل: كان الإسراء مرتین، مرة یقظةً، ومرة مناماً. وقیل: مرة قبل الوحي<br />
ومرة بعده! ومنھم من قال: بل ثلاثَ مرات: مرةً قبل الوحي، ومرتین<br />
بعده!!<br />
والذي علیھ أئمة النقل: أن الإسراء كان مرة واحدة بمكة بعد البعثة، قبل<br />
الھجرة بسنةٍ، وقیل: بسنةٍ وشھرین، ذكره ابن عبد البر. قال ابن القیم:<br />
یاعجباً لھؤلاء الذین زعموا أنھ كان مراراً! وكیف ساغ لھم أن یظنوا أنھ<br />
في كل مرة تفرض علیھم الصلوات خمسین، ثم یتردد بین ربھ وبین موسى<br />
حتى تصیر خمساً، فیقول: "أمضیتُ فریضتي، وخففت عن عبادي"، ثم<br />
ا-ھ.<br />
یعیدھا في المرة الثانیة إِلى خمسین، ثم یَحط ُّھا إِلى خمس؟! (2)<br />
129<br />
( 1 )<br />
أي لا یصح على إطلاقھ، لأنھ یستلزم التسلسل إِلى ما لا نھایة، بمعنى أن ما<br />
من مخلوق إلا وھو محاط بمخلوق آخر إِلى ما لا نھایة! وھذا لا یجوز التسلیم<br />
بھ.<br />
( 2 )<br />
أقول: بل أكثر كلام الشارح عن الإسراء والمعراج، ھو من كلام ابن القیم،<br />
وحتى حدیث الإسراء فقد نقلھ الشارح عن ابن القیم من كتابھ زاد المعاد )<br />
.(42-34/3
ε<br />
ومن حدیث الإسراء: "أنھ أُسرِ يَ بجسده في الیقظة على الصحیح، من<br />
المسجد الحرام إِلى المسجد الأقصى راكباً على البراق، صحبھ جبریل υ،<br />
فنزل ھناك وصلى بالأنبیاء إماماً، وربط البراق بحلقة باب المسجد. ثم<br />
عُرِ جَ بھ من بیت المقدس تلك اللیلة إِلى السماء الدنیا، فاستفتح لھ جبریل،<br />
ففتح لھ، فرأى ھناك آدم أبا البشر، فسلم علیھ، فرحب بھ ورد علیھ السلام،<br />
وأقر بنبوتھ، ثم عُرج بھ إِلى السماء الثانیة، فاستفتح لھ، فرأى فیھا یحي بن<br />
زكریا، وعیسى ابنَ مریم، فلقیھما فسلم علیھما فردا علیھ السلام، ورحبا<br />
بھ، وأقرا بنبوتھ، ثم عُرج بھ إِلى السماء الثالثة، فرأى فیھا یوسف، فسلم<br />
علیھ فرد علیھ السلام ورحب بھ، وأقر بنبوتھ، ثم عُرج بھ إِلى السماء<br />
الرابعة، فرأى فیھا إدریس فسلم علیھ، ورحب بھ، وأقر بنبوتھ، ثم عرج بھ<br />
إِلى السماء الخامسة فرأى فیھا ھارون بن عمران، فسلم علیھ ورحب بھ،<br />
وأقر بنبوتھ، ثم عُرج بھ إِلى السماء السادسة، فلقي فیھا موسى، فقیل لھ: ما<br />
یبكیك؟ قال: أبكي لأن غلاماً بعث بعدي یدخل الجنة من أمتھ أكثر مما<br />
یدخلھا من أمتي، ثم عرج بھ إِلى السماء السابعة، فلقي فیھا إبراھیم فسلم<br />
علیھ، ورحب بھ، وأقر بنبوتھ، ثم رُ فع إِلى سدرة المنتھى، ثم رُ فِعَ لھ البی ُت<br />
المعمورُ ، ثم عُرِ ج بھ إِلى الجبار جل َّ جلالھ وتقدست أسماؤه، فدنا منھ حتى<br />
كان قاب قوسین أو أدنى (1) ، فأوحى إِلى عبده ما أوحى، وفرض علیھ<br />
خمسین صلاة، فرجع حتى مر على موسى، فقال: بما أُمرت؟ قال: بخمسین<br />
صلاة، فقال: إن أُمّتك لا تطیق ذلك، إرجع إِلى ربّ ك، فاسْأَلھ التخفیف<br />
لأمّتك، فالتفتَ إِلى جبریل كأنھ یستشیره في ذلك، فأشار أن: نعم، إن شئت،<br />
فعلا بھ جبریل حتى أتى بھ الجبار تبارك وتعالى وھو في مكانھ -ھذا لفظ<br />
البخاري في صحیحھ، وفي بعض الطرق- فوضع عنھ عشراً، ثم نزل حتى<br />
مَر َّ بموسى فأخبره، فقال: إِرجع إِلى ربك فاسألْھ التخفیف، فلم یزل یتردد<br />
بین موسى وبین اللھ تبارك وتعالى، حتى جعلھا خمساً، فأمره موسى<br />
ِ<br />
130<br />
( 1 )<br />
قال الشیخ ناصر: إن الدنو المذكور في ھذا السیاق، ھو من روایة شریك بن<br />
عبد اللھ ابن <strong>أبي</strong> نمر الذي غل َّطھ الحفاظ في ألفاظ من حدیث الإسراء كما ذكر<br />
المؤلف آنفاً، ومن ذلك ھذا اللفظ كما بینھ الحافظ ابن كثیر في تفسیر (الإسراء).<br />
ومن قبلھ البیھقي في "الأسماء والصفات" (ص 442-440). ا-ھ.
.1<br />
ε<br />
بالرجوع وسؤال التخفیف، فقال: قد استحییت من ربي ولكن أرضَ وأسلم،<br />
فلما نَفَذَ، نادى منادٍ: قد أمضیتُ فریضتي وخَف َّفْتُ عن عبادِي" (1) .<br />
ومما یدل على أن الإسراء بجسده في الیقظة، قولھ تعالى: [سبحان الذي<br />
أسرى بعبده لیلاً من المسجد الحرام إِلى المسجد الأقصى] الإسراء:<br />
والعبد عبارة عن مجموعة الجسد والروح، كما أن الإنسان اسم لمجموع<br />
الجسد والروح، ھذا ھو المعروف عند الإطلاق، وھو الصحیح.<br />
-ترجیحُ رؤیةِ النبي لربھ بقلبھ، دونَ عینھ-<br />
قد تقدم ذِكرُ اختلاف الصحابة في رؤیتھ رب َّھ عز وجل بعین رأسھ،<br />
وأن الصحیح أنھ رآه بقلبھ، ولم یره بعین رأسھ، وقولُھ: [ما كذب الفؤاد ما<br />
رأى] النجم:<br />
ε<br />
131
من أمتي، فیقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك" (1) . وقال ε: "أنا فَرطُكم<br />
وقال: "إني فَرطُكم على الحوض، من مر َّ علي َّ، شَرِ بَ<br />
على الحوض" (2)<br />
ومن شرب لم یظمأ أبداً، لیردَن َّ علي َّ أقوامٌ، أعرِ فُھم ویعرفوني، ثم یُحال<br />
بیني وبینھم" (3) . والفَرط: الذي یسبق إِلى الماء.<br />
والراجح أن الحوض في العَرَ صَات قبل الصراط، لأنھ یُختلَجُ عنھ،<br />
ویُمنع منھ أقوام قد ارتدوا على أعقابھم، ومثل ھؤلاء لا یجاوزون الصراط.<br />
-صفات الحوض ملخصة من الأحادیث الواردة-<br />
132<br />
ε<br />
( 1 )<br />
یتلخص من الأحادیث الواردة في صفة الحوض: انھ حوضٌ عظیم<br />
ومورِ دٌ كریم، یُمَد ُّ من شراب الجنة، من نھر الكوثر الذي ھو أشد بیاضاً من<br />
اللبن، وأبرَ دُ من الثلج، وأحلى من العسل، وأطیبُ ریحاً من المسك، وھو<br />
في غایة الإتساع، عَرْ ضُھ وطولُھ سواء كل زاویة من زوایاه مسیرة شھر،<br />
فسبحان الخالق الذي لا یُعجزه شيء. وقد ورَ دَ في أحادیث: "إن لكل نبيّ ٍ<br />
حوضاً وإن حوضَ نبینا أعظمُھا وأجلھا وأكثرھا وارِ داً" (4) . جعلنا اللھ<br />
منھم بفضلھ وكرمھ.<br />
قولُھ: "والشفاعةُ التي اد َّخرھا لھم حق، كما رُوي في<br />
الأخبار".<br />
ش: عن <strong>أبي</strong> ھریرة τ، قال: قال رسولُ اللھ ε: "أنا سیدُ الناسِ یومَ<br />
القیامة، وھل تدرون مم ذاك؟ یجمع اللھ الأولین والآخرین في صعید<br />
واحدٍ، فیقول بعض الناس لبعض: ألا ترون ما أنتم فیھ؟ ألا ترون ما قد<br />
بلغكم؟ ألا تنظرون من یشفع لكم إِلى ربكم؟ فیقول بعضُ الناس لبعضٍ :<br />
أبوكُم آدمُ، فیأتون آدَمَ، فیقولون: یا آدم، أنت أبو البشر، خلقكَ اللھُ بیده،<br />
ونفخَ فیك من رُ وحھ، وأمر الملائكةَ فسجدوا لك، فاشفع لنا إِلى ربك، ألا<br />
ترى ما نحن فیھ؟ ألا ترى ما قد بَلَغنا؟ فیقول آدم: إن ربي قد غَضِ بَ الیوم<br />
غضباً لم یغضب قبلھ مِثْلَھُ، ولن یغضب بعده مثلَھُ، وإنھ نھاني عن الشجرة<br />
فعصیتُ ، نفسي نفسي نفسي، اذھبوا إِلى غیري، اذھبوا إِلى نوحٍ، فیأتون<br />
أخرجھ أحمد، ومسلم.<br />
(2 ( متفق علیھ.<br />
(3 ( متفق علیھ.<br />
(4 ( حسن، أخرجھ الترمذي، انظره في السلسلة الصحیحة: (1589).
نوحاً، فیقولون: یانوح، أنت أولُ الرسُلِ إِلى أھل الأرض، وسماك اللھُ عبداً<br />
شكوراً فاشفع لنا إِلى ربك، ألا ترى ما نحن فیھ؟ ألا ترى ما قد بلَغنا؟ فیقول<br />
نوح: إن ربي قد غضب الیومَ غضباً لم یغضب قبلھ مِثلَھ، ولن یغضب بعده<br />
مِثلَھ، وإنھ كانت لي دعوةٌ دعوتُ بھا على قومي، نفسي نفسي نفسي، اذھبوا<br />
إِلى غیري، اذھبوا إِلى إبراھیم، فیأتون إبراھیم، فیقولون: یا إبراھیم، أنت<br />
نبي اللھ وخلیلھ من أھل الأرض، ألا ترى ما نحن فیھ؟ ألا ترى ما قد<br />
بلغنا؟ فیقول: إن ربي قد غضب الیومَ غضباً لم یغضب قبلھ مثلَھ، ولن<br />
یغضب بعده مثلھ، وذكر كذباتھ (1) ، نفسي نفسي نفسي، اذھبوا إِلى موسى،<br />
فیأتون موسى، فیقولون: یاموسى، أنت رسولُ اللھ، اصطفاك اللھ<br />
برسالاتھ وبتكلیمھ على الناس، اشفع لنا إِلى ربك، ألا ترى ما نحن فیھ؟ ألا<br />
ترى ما قد بلغنا؟ فیقول لھم موسى: إن ربي قد غضب الیومَ غضباً لم<br />
یغضب قبلھ مثلَھ ولن یغضب بعده مثلھ، وإني قتلت نفساً لم أؤمر بقتلھا،<br />
نفسي نفسي نفسي، اذھبوا إِلى غیري، اذھبوا إِلى عیسى، فیأتون عیسى،<br />
فیقولون: یا عیسى أنت رسول اللھ وكلمتھ ألقاھا إِلى مریمَ وروحٌ منھ -قال:<br />
ھكذا ھو- وكلمتَ الناس في المھد، فاشفع لنا إِلى ربك، ألا ترى ما نحن<br />
فیھ؟! ألا ترى ما قد بلغنا؟ فیقول لھم عیسى: إن ربي قد غَضِ بَ الیوم غَضباً<br />
لم یغضب قبلَھ مِثلَھ، ولن یغضب بعده مثلھ، اذھبوا إِلى غیري، اذھبوا إِلى<br />
محمد ε، فیأتوني، فیقولون: یامحمدُ، أنت رسول اللھ، وخاتم الأنبیاء، غفر<br />
اللھ لك ما تقدم من ذنبك، وما تأخر، فاشفع لنا إِلى ربك، ألا ترى ما نحن<br />
فیھ؟ ألا ترى ما قد بَلغنا؟ فأقومُ فآتي تحت العرش، فأقع ساجداً لربي Υ، ثم<br />
یفتح اللھ علي، ویلھمني من محامده، وحسن الثناء علیھ ما لم یفتحھ على<br />
أحد قبلي، فیقال: یامحمد، ارفع رأسك، سل تُعَطَھ، اشفَعْ تُشف َّع، فأقول:<br />
یارب أمتي أمتي، یارب أمتي أمتي، یارب أمتي أمتي، فیقال: أدخل من<br />
أمتك من لا حساب علیھ من الباب الأیمن من أبواب الجنة، وھم شركاء<br />
الناس فیما سواه من الأبواب" (2) .<br />
(1 ( ھي ثلاث كذبات: قولھ: (إني سقیم)، وقولھ: (فعلھ كبیرھم)، وقولھ: لجبار من<br />
الجبابرة عن سارة أنھا أختھ.<br />
(2 ( متفق علیھ.<br />
133
وممن یشفع لھم النبي یوم القیامة، شفاعَتُھ في أھل الكبائر من أمتھ،<br />
ممن دخل النارَ ، فیخرجون منھا، وھذه الشفاعة تشاركھ فیھا الملائكة<br />
والنبیون والمؤمنون (1) .<br />
ε<br />
134<br />
ε<br />
τ<br />
( 1 )<br />
الشفاعة ھي ملك وحده، ولا تكون إلا بإذنھ، ولمن یأذن لھم بالشفاعة<br />
ورضي لھم قولاً، والذي یعتقد في الشفیع أن لھ سلطة مستقلة تمكنھ من<br />
مشاركة اللھ تعالى في الشفاعة، فیشفع من غیر إذن ولمن یرید فھو كافر<br />
مشرك، وقد اعتقد عقیدة أھل الشرك في الصالحین والأنبیاء، حیث ظنوا فیھم<br />
سلطة تقربھم إِلى اللھ زلفا، وتمكنھم من الشفاعة لھم.<br />
قال الشیخ حافظ الحكمي في كتابھ أعلام السنة: قد أثبت اللھ Υ الشفاعة في<br />
كتابھ في مواضع كثیرة بقیود ثقیلة وأخبرنا تعالى أنھا ملك لھ، لیس لأحد فیھا<br />
شيء فقال تعالى: [قل الشفاعة جمیعاً]، فأما متى تكون، فأخبرنا Υ أنھا لا<br />
تكون إلا بإذنھ، كما قال تعالى: [من ذا الذي یشفع عنده إلا بإذنھ]، [ما من<br />
شفیع إلا من بعد إذنھ]، [وكم من ملك في السماوات لا تغني شفاعتھم شیئاً<br />
إلا من بعد أن یأذن اللھ لمن یشاء ویرضى]، [ولا تنفع الشفاعة عنده إلا<br />
لمن أذن لھ]. وأما ممن تكون فكما أخبرنا تعالى أنھا لا تكون إلا من بعد إذنھ،<br />
أخبرنا أیضاً أنھ لا یأذن إلا لأولیائھ المرتضین الأخیار كما قال تعالى: [لا<br />
یتكلمون إلا من أذن لھ الرحمن وقال صوابا] وقال: [لا یملكون الشفاعة إلا<br />
من اتخذ عند الرحمن عھدا] وأما لمن تكون فأخبرنا أنھ لا یأذن أن یُشفع إلا<br />
لمن ارتضى، كما قال تعالى: [ولا یشفعون إلا لمن ارتضى]، [یومئذٍ لا تنفع<br />
الشفاعة إلا من أذن لھ الرحمن ورضي لھ قولاً]، وھو سبحانھ لا یرتضي إلا<br />
أھل التوحید والإخلاص، وأما غیرھم فقال تعالى: [ما للظالمین من حمیم ولا<br />
شفیع یُطاع] وقال تعالى عنھم: [فما لنا من شافعین ولا صدیق حمیم]، وقال<br />
تعالى فیھم: [فما تنفعھم شفاعة الشافعین]. وقد أخبرنا النبي أنھ أوتي<br />
الشفاعة، ثم أخبرنا أنھ یأتي فیسجد تحت العرش، ویحمد ربھ بمحامد یعلمھ<br />
إیاھا لا یبدأ بالشفاعة أولاً حتى یقال لھ: "ارفع رأسك وقل یُسمع لك وسل تُعط<br />
واشفع تُشف َّع" الحدیث.<br />
ثم أخبر أنھ لا یشفع في جمیع العصاة من أھل التوحید دفعة واحدة بل قال:<br />
"فیُحد لي حداً فأدخلھم الجنة"، ثم یرجع فیسجد وكذلك فیحد لھ حداً إِلى آخر<br />
حدیث الشفاعة.<br />
وقال لھ أبو ھریرة مَن أسعد الناس بشفاعتك؟ قال: "من قال لا إلھ إلا اللھ<br />
خالصاً من قلبھ". ا-ھ.
عن أنس قال: قال رسول اللھ ε: "شفاعتي لأھل الكبائر من أمتي" (1) .<br />
ومن حدیث أنس أیضاً: "فیُقال: یامحمد، ارفع رأسك، وقل یُسمَع لك،<br />
واشفع تشف َّع، وسلْ تُعطَھ، فأقول: یارب، أمتي أمتي، فیقال: إنطلق فأخرج<br />
من كان في قلبھ مثقالُ شعیرةٍ من إیمان، فأنطلق فأفعل، ثم أعود فأحمده<br />
بتلك المحامد، ثم أخِ ر ُّ لھ ساجداً، فیُقال: یامحمد، ارفع رأسك، وقل یُسمع<br />
لك، واشفع تشفع، وسلْ تُعطھ، فأقول: یارب، أمتي أمتي، فیقال: إنطلق<br />
فأخرج من كان في قلبھ مثقالُ ذرةٍ، أو خردَلةٍ من إیمان، فأنطلق فأفعل (2) ،<br />
ثم أعود فأحمده بتلك المحامد، ثم أخِ ر ُّ لھ ساجداً، فیقول: یامحمد، ارفع<br />
رأسك وقل یُسمع لك، وسلْ تُعطھ، واشفع تشفع، فأقول یارب أمتي أمتي،<br />
فیقول: إنطلق فأخرج من كان في قلبھ أدنى مثقال حبة خردل من إیمان،<br />
(1 ( صحیح، ولھ شواھد، "المشكاة" (5599-5598). أقول: یستثنى من أھل<br />
الكبائر اثنان فلا تنالھما شفاعة الرسول ε: الإمام الظلوم الغشوم، والغالي في<br />
الدین المارق منھ، كما جاء ذلك في قولھ ε: "رجلان ما تنالھما شفاعتي: إمام<br />
ظلوم غشومٌ وآخر غالٍ في الدین مارق منھ". الحدیث: رواه ابن <strong>أبي</strong> عاصم في<br />
السنة، وصححھ الشیخ ناصر في التخریج: (141) ثم من كان من أھل الكبائر،<br />
یشترط فیھ أن یكون من أھل التوحید، وأن لا یكون قد ختم لھ بالكفر والشرك،<br />
فإن شفاعة نبینا ھي نائلة لأھل الكبائر من أھل التوحید، كما في قولھ<br />
"أُعطیت الشفاعة وھي نائلة من لا یشرك باللھ شیئاً" وقولھ: "أسعد الناس<br />
بشفاعتي یوم القیامة من قال: لا إلھ إلا اللھ مخلصاً من نفسھ". أما من مات على<br />
الشرك فھو لا تنفعھ شفاعة الشافعین، وھو خالد في نار جھنم أبداً، كما قال<br />
تعالى: [إن اللھ لا یغفر أن یشرك بھ ویغفر ما دون ذلك لمن یشاء] النساء:<br />
.48<br />
( 2 )<br />
إنھ رسول اللھ الذي عُرف في الدنیا بشدة قلقھ وحرصھ على سلامة أمتھ،<br />
وھدایة الناس، وشدة ھمھ وحزنھ إذا ما أصاب المسلمین مكروه، وھو كذلك<br />
شأنھ في الآخرة فلا یستریح حتى تستریح أمتھ، ولا یطیب لھ المقام في نعیم<br />
الجنة العظیم حتى تدخل جمیع أمتھ الجنة! وھا ھو لا یھدأ لھ بال ما دام واحد من<br />
أمتھ في النار .. ویكفي نبینا صلوات ربي وسلامھ علیھ، وصف ربھ لھ: [لقد<br />
جاءكم رسول من أنفسكم عزیز علیھ ما عنتم حریص علیكم بالمؤمنین رؤوف<br />
رحیم] التوبة: 128. اللھم صل على سیدنا وحبیبنا وأسوتنا وعبدك ورسولك<br />
محمد، عدد خلقك ورضى نفسك، وزِ نَةَ عرشك، ومِداد كلماتك، وسلم تسلیماً<br />
كثیراً.<br />
:ε<br />
135<br />
ε
فأخرجھ من النار، فأنطلق فأفعل، ثم أعود الرابعة، فأحمده بتلك المحامد،<br />
ثم أخرّ لھ ساجداً، فیقال: یامحمد، ارفع رأسك، وقل یسمع لك، وسل تُعْطَھ،<br />
واشفع تشفع، فأقول: یارب ائذن لي فیمن قال: لا إلھ إلا اللھ، فیقال:<br />
وعزتي وجلالي، وكبریائي وعظمتي، لأُخرِ جَن َّ منھا من قال: لا إلھ<br />
إلا اللھ (1) " رواه البخاري.<br />
ومن حدیث <strong>أبي</strong> سعید مرفوعاً، قال: "فیقول اللھ تعالى: شفعت الملائكة،<br />
وشفَعَ النبی ُّون، وشَفَعَ المسلمون، ولم یبق إلا أرحم الراحمین، فیقبض<br />
قبضة من النار، فیُخرِ جُ منھا قوماً لم یعملوا خیراً ق َّط (2) " (3) .<br />
-حكم التوسل بالأنبیاء والصالحین إِلى اللھ تعالى-<br />
فإن الداعي تارة یقول: بحق نبیك؛ أو بحق فلان، یقسم على اللھ بأحدٍ<br />
من مخلوقاتھ، فھذا محذورٌ من وجھین: أحدھما: أنھ أقسم بغیر اللھ.<br />
والثاني: اعتقاده أن لأحد على اللھ حق َّاً. ولا یجوز الحلف بغیر اللھ، ولیس<br />
لأحد على اللھ حق إلا ما أحق َّھُ على نفسھ، كقولھ تعالى: [وكان حقاً علینا<br />
نصرُ المؤمنین] الروم:<br />
136
ε<br />
اللھ على عباده؟ قال: قلت: اللھ ورسولھ أعلم، قال: حق َّھ علیھم أن یعبدوه<br />
ولا یشركوا بھ شیئاً، أتدري ما حق ُّ العبادِ على اللھ إذا فعلوا ذلك؟ قلت:<br />
اللھ ورسولھ أعلم ، قال: حَق َّھم علیھ أن لا یعذّ ِبَھَم" (1) . فھذا حق ٌّ وجب<br />
بكلماتھ التامة ووعده الصادق، لا أن العبد نفسھ یستحق على اللھ شیئاً كما<br />
یكون للمخلوق على المخلوق.<br />
وإن كان مُرادُه الإقسام على اللھ بحق فلان، فذلك محذور أیضاً، لأن<br />
الإقسام بالمخلوق لا یجوز، فكیف على الخالق؟! وقد قال ε: "من حلف<br />
أن یقول<br />
بغیر اللھ فقد أشرك" (2) . ولھذا قال أبو حنیفة وصاحباه ψ: یُكره (3)<br />
الداعي: أسألك بحق فلان، أو بحق أنبیائك ورسلك، وبحق البیت الحرام،<br />
ونحو ذلك. وھذا ونحوه من الأدعیة المبتدعة، لم ینقل عن النبي ε، ولا عن<br />
الصحابة، ولا عن التابعین، ولا عن أحد من الأئمة ψ. والدعاء من أفضل<br />
العبادات، والعبادات مبناھا على السنة والاتباع، لا على الھوى والابتداع.<br />
وتارة یقول: بجاه فلان عندك، أو یقول: نتوسل إلیك بأنبیائك ورسلك<br />
وأولیائك، ومراده: لأن فلاناً عندك ذو وجاھة وشرف ومنزلة، فأجب<br />
دعاءنا، وھذا أیضاً محذور، فإنھ لو كان ھذا ھو التوسل الذي كان الصحابة<br />
یفعلونھ في حیاة النبي لفعلوه بعد موتھ، وإنما كانوا یتوسلون في حیاتھ<br />
بدعائھ، یطلبون منھ أن یدعو لھم، وھم یُؤمّ ِنُون على دعائھ<br />
(4) ، كما في<br />
(1 ( متفق علیھ. قلت: حق اللھ على العباد أن یعبدوه العبادة بمعناھا العام والشامل<br />
لجمیع ما یحبھ اللھ من الأعمال الظاھرة والباطنة، والبراءة من كل ما ینافیھا،<br />
والعبادة بھذا المعنى والشمولیة قل َّ من یوفیھا حقھا وبخاصة في زمان تزاحم<br />
الآلھة المزعومة التي تستشرف خصائص الإلھیة والربوبیة.<br />
(2 ( صحیح، رواه أحمد، والحاكم وصححھ. قلت: الحلف بغیر اللھ تعالى نوعان:<br />
عادة، وعبادة، فما كان منھ عادة كحلف المرء بأبیھ، أو قولھ وحیاتك ونحو ذلك<br />
مما اعتاده الناس فھو شرك أصغر. وما كان منھ یطلق على وجھ العبادة<br />
والتعظیم للمحلوف بھ فھو شرك أكبر یخرج صاحبھ من الملة، وكلا النوعین قد<br />
دلت علیھما النصوص الشرعیة.<br />
( 3 )<br />
الكراھة ھنا تحمل على التحریم.<br />
(4 ( عن عثمان بن حنیف أن رجلاً ضریر البصر، أتى النب َّي ε، فقال: ادع اللھ أن<br />
یعافیني، قال: "إن شئت دعوت، وإن شئت صبرت فھو خیرٌ لك". قال: فادعھ،<br />
قال: فأمره أن یتوضأ، فیحسن وضوءه، ویدعو بھذا الدعاء: "اللھم إني أسألك<br />
137
τ<br />
الاستسقاء وغیره، فلما مات ε، قال عمر -لما خرجوا یستسقون-: "اللھم<br />
إنا كنا إذا أُجدبنا نتوسل إلیك بنبینا فتسقیَنا، وإنا نتوسل إلیك بعمّ<br />
معناه بدعائھ ھو رب َّھُ وشفاعتِھ وسؤالھ، لیس المراد أن نقسم علیك بھ، أو<br />
نسألك بجاھھ عندك، إذ لو كان ذلك مراداً لكان جاه النبي أعظم وأعظم<br />
من جاه العباس.<br />
-التوس ُّل المشروع-<br />
وتارة یقول: باتباعي لرسولك ومحبتي لھ، وإیماني بھ وبسائر أنبیائك<br />
ورسلك وتصدیقي لھم، ونحو ذلك، فھذا من أحسن ما یكون من الدعاء<br />
والتوسل والإستشفاع. كما في حدیث الثلاثة الذین أَوَ وْ ا إِلى الغار، فإن<br />
الصخرة انطبقت علیھم فتوسلوا إِلى اللھ بذكر أعمالھم الصالحة، وكل<br />
واحد منھم یقول: فإن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجھك، فافرُ ج عن َّا ما نحن فیھ،<br />
فانفرجت الصخرةُ فخرجوا یمشون (2) . فھؤلاء دعَوا اللھَ بصالح الأعمال،<br />
(1)<br />
ِ نبینا"<br />
ε<br />
138<br />
ε<br />
وأتوجھ إلیك بنبیك محمد نبي الرحمة، إني توجھت بك إِلى ربي في حاجتي ھذه<br />
لتقضى لي، اللھم فشفعھ في َّ" وفي المسند للإمام أحمد زیادة: "وشفعني فیھ"،<br />
قال: ففعل الرجل فبرأ، الحدیث رواه الترمذي وغیره، وھو صحیح. وقولھ:<br />
"فشفعني فیھ" لھو دلیل أن المراد بالشفاعة ھو طلب الدعاء ولیس التشفع<br />
بالذات، وإلا كیف یكون الرجل الضریر شفیعاً للنبي ε؟! فعلم أن المراد ھو<br />
الدعاء، أي: اللھم اقبل دعاء النبي في َّ، واقبل دعائي فیھ. وھذا المعنى یدل<br />
علیھ أول الحدیث وھو قولھ ε: "إن شئتَ دعوتُ ، وإن شئتَ صبرتَ ". وھذا<br />
الحدیث رغم وضوح دلالاتھ ومعانیھ إلا أنھ استغل استغلالاً سیئاً من قبل أھل<br />
الأھواء والبدع، حیث اعتبروه دلیلاً على صحة كثیر من إطلاقاتھم وتعبیراتھم<br />
ε<br />
ε<br />
الشركیة والبدعیة!!.<br />
( 1 )<br />
ε<br />
لو كان المراد بالتوسل بالذات، لما حاد الصحابة عن النبي بعد مماتھ<br />
وتوسلوا بغیره، لأن ذات النبي -حیاً ومیتاً- لا یفضلھا ذات مخلوق، ومنھ نعلم<br />
أن التوسل كان بالدعاء.<br />
(2 ( متفق علیھ. وتمام الحدیث كما في صحیح البخاري، عن ابن عمر، عن النبيِّ<br />
قال: "خرجَ ثلاثةُ نفَرٍ یمشون فأصابھم المطرُ ، فدخلوا في جبلٍ، فانحط َّتْ<br />
علیھم صخرةٌ، فقال بعضُھم لبعضٍ ادعو اللھَ بأفضلِ عملٍ عَمِلْتُمُوه. فقال<br />
أحدُھم: اللھم َّ إني كان لي أبوانِ شیخان كبیران، فكنت أخرجُ فأرعى، ثم َّ أجی ُئ<br />
فأحلُبُ ، فأجيءُ بالحِ لابِ فآتي بھ أبوَ ي َّ فیشرَ بان، ثم َّ أسقي الصبیَةَ وأھلي
لأن الأعمال الصالحة ھي أعظم ما یتوسل بھ العبد إِلى اللھ، ویتوجھ بھ<br />
إلیھ، ویسألھ بھ.<br />
-الشفاعَةُ عند اللھ لیست كالشفاعة عند البشر-<br />
فإن الشفیعَ عند البشر كما أنھ شافِعٌ للطالب شفَعَھُ في الطلب، بمعنى أنھ<br />
صار بھ شَفْعَاً فیھ بعد أن كانَ وِتْراً، فھو أیضاً قد شَفَعَ المشفُوعَ إلیھ (1) ،<br />
فبشفاعتھ بعد أن كان وِتْراً، فھو أیضاً قد شَفَعَ الطالِبَ والمطلوبَ منھ، واللھ<br />
تعالى وِتْرٌ ، لا یشفَعُھُ أحدٌ(2) ، فلا یشفَع عنده أحدٌ إلا بإذنھ، فالأمر كلھ ،<br />
كما قال تعالى: [قل إن الأمرَ كلھ ] آل عمران:<br />
139
یاعباس عم َّ رسول اللھ، لا أملِكُ لك من اللھ شيء" (1) . فإذا كان سید الخلق<br />
وأفضل الشفعاء یقول لأخص الناس بھ: "لا أملك لكم من اللھ من شيء"<br />
فما الظن بغیره (2) ؟!<br />
قولُھ: "والمیثاقُ الذي أخذَهُ اللھُ تعالى من آدَمَ ِ وذرّی َّتِھِ حَق ٌّ".<br />
ش: قال تعالى: [وإذ أخذ رب ُّكَ من بني آدَمَ من ظھورھم ذری َّتَھُم<br />
وأشھدَھُم على أنفسھم ألستُ بربكم قالوا بلى شھدنا أن تقولوا یومَ القیامة<br />
إنا كنا عن ھذا غافلین] (3) . یخبر سبحانھ أنھ استخرج ذری َّةَ بني آدم من<br />
أصلابھم شاھدین على أنفسھم أن اللھَ رب َّھم وملیكُھم، وأنھ لا إلھ إلا ھو.<br />
وعن ابن عباس، عن النبي ε، قال: "إن اللھ أخذ المیثاق من ظھر آدم υ<br />
بنعمان -یعني عرفھ- فأخرج من صلبھ كل ذریة ذرَ أَھا، فنثرھا بین یدَیھ،<br />
ثم كل َّمَھُم قُبُلاً، قال: [ألستُ بربكم قالوا بلى شھدنا] إِلى قولھ:<br />
140<br />
[المبطلون] (4) .<br />
وعن أنس بن مالك، عن النبي ε، قال: "یُقال للرجل من أھل النار یوم<br />
القیامة: أرأیت لو كان لك ما على الأرض من شيء، أكنت مفتدیاً بھ؟ قال:<br />
(1 ( متفق علیھ.<br />
( 2 )<br />
( 3 )<br />
في ذلك موعظة للصوفیین وغیرھم، الذي یتجھون إِلى المخلوق من دون اللھ<br />
تعالى، ویطلبون منھ المدد والعون، ویستغیثون بھ في الملمات!! قال تعالى: [ولا<br />
تدع من دون اللھ ما لا ینفعك ولا یضرك فإن فعلت فإنك إذاً من الظالمین، وإن<br />
یمسسك اللھُ ٍ بضرّ فلا كاشف لھ إلا ھو وإن یردك بخیر فلا راد لفضلھ یصیب<br />
بھ من یشاء من عباده وھو الغفور الرحیم] یونس 107-106. وقولھ تعالى:<br />
[فإنك إذاً من الظالمین] أي من المشركین، فالظلم یطلق أحیاناً ویراد منھ الشرك<br />
الأكبر كما ھو في ھذه الآیة.<br />
إِلى قولھ تعالى: [أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل، وكنا ذریةً من بعدھم<br />
أفتھلكنا بما فعل المبطلون] الأعراف: 173-172. وھاتان الآیتان دلیل على أن<br />
اللھ أشھد بني آدم على توحید الربوبیة والألوھیة، ولیس على توحید الربوبیة<br />
فقط كما یشیر البعض، وأن ھذا المیثاق حجة علیھم یوم القیامة، یحسم أعذارھم،<br />
ولكن قضت حكمة اللھ تعالى ورحمتھ أن لا یعذب أحداً إلا بعد قیام حجة الأنبیاء<br />
والرسل علیھ.<br />
(4 ( رواه النسائي، وأحمد، وابن جریر، والحاكم في المستدرك. قال الشیخ ناصر:<br />
صحیح، لطرقھ وشواھده.
فیقول: نعم، قال: فیقول: قد أردت منك أھونَ من ذلك، قد أخذت علیك في<br />
ظھر آدم أن لا تُشرك بي شیئاً، فأبیتَ إلا أن تُشرك بي (1) " متفق علیھ.<br />
-التوحید أمرٌ فطري، والشرك مكتسبٌ طارئ-<br />
ولا شك أن الإقرارَ بالربوبیة أمرٌ فطري، والشركَ حادثٌ طارئ،<br />
والأبناء تقل َّدوه عن الآباءِ (2) ، فإذا احتج ُّوا یومَ القیامة بأن الآباءَ أشركوا،<br />
(1 ( واضح أن ھذا المیثاق حجة على بني آدم یوم القیامة، ممن قارَ ف منھم الشرك<br />
ولا عذر لھم بتقلید الآباء ومواكبة العادات السائدة في المجتمع، أو أنھم كانوا<br />
عن ھذا المیثاق غافلین. فإن قیل كیف التوفیق بین ھذا وبین كون المرء لا<br />
یعذب إلا بعد بلوغ نذارة الرسل؟ أقول: المیثاق حجة من حجج اللھ تعالى على<br />
عباده، كحجة الفطرة، وحجة الآیات التي أودعھا اللھ تعالى في النفس البشریة<br />
وفي الكون، وھم یحاجون بھا یوم القیامة ویُفاتشون، ولكن العذاب فإن حكمة<br />
اللھ ورحمتھ قضت أن لا یكون إلا بعد بلوغ نذارة الرسل وجحدھا ومعاندتھا<br />
والإعراض عنھا، زیادة في قیام الحجة وتبكیتاً لأعذارھم. كما قال تعالى: [وما<br />
كنا معذبین حتى نبعث رسولاً].<br />
وقولھ تعالى لأھون أھل النار عذاباً: "قد أردت منك أھون من ھذا وأنت في<br />
صلب آدم أن لا تُشرك بي شیئاً ولا أدخلك النار فأبیت إلا الشرك، فیؤمر بھ إِلى<br />
النار". لایفھم منھ أن أھون أھل النار عذاباً أمر بھ إِلى النار لمجرد مخالفتھ<br />
لحجة المیثاق قبل أو من دون قیام حجة الرسل علیھ، وبخاصة أن أھون أھل<br />
النار عذاباً ھو "أبو طالب" كما في صحیح مسلم: "أھون أھل النار عذاباً أبو<br />
طالب". وأبو طالب لاشك أنھ قد بلغتھ نذارة الرسل، وأقام علیھ الحجةَ شخصُ<br />
النبي ε، فأبى إلا الشرك. فإذا كان ھذا الذي ھو أھون أھل النار عذاباً، قد بلغتھ<br />
نذارة الرسل، فمن باب أولى من كان أشد منھ عذاباً، أن تكون نذارة الرسل قد<br />
بلغتھ فقابلھا بالجحود والعناد. ولكن فھم إضافة إِلى حجة الرسل -الذي یُعقد<br />
العذاب والحساب على أساسھا- محجوجون بحجة المیثاق وغیره من الحجج،<br />
والمسألة قد أوفیناھا بحثاً في كتابي: (العذر بالجھل وقیام الحجة) فلیراجع.<br />
(2 ( كما في قولھ ε: "ما من مولود إلا ویولد على الفطرة. فأبواه یھودانھ أو<br />
ینصرانھ أو یمجسانھ". وفي روایة: "كل مولود یولد على الملة، فأبواه یھودانھ،<br />
وینصرانھ، ویشركانھ". وفي الحدیث القدسي: "إني خلقت عبادي حنفاء كلھم،<br />
وأنھم أتتھم الشیاطین فاجتالتھم عن دینھم ..." وقولھ: "حنفاء"، قال النووي في<br />
ال<strong>شرح</strong>: أي مسلمین ا-ھ. بقي أن نشیر إِلى أمر، وھو أن المیثاق الذي أخذ اللھ<br />
141
ونحن جرینا على عادتھم، كما یجري الناس على عادة آبائھم في المطاعم<br />
والملابس والمساكن، یُقال لھم: أنتم كنتم مُعترفین بالص َّانع، مقرین بأن اللھَ<br />
رب ُّكم لا شریك لھ، وقد شھدتم بذلك على أنفسكم فلِمَ عدلتم عن ھذه المعرفة<br />
والإقرار الذي شھدتم بھ على أنفسكم إِلى الشرك؟! بل عدَلْتُم عن المعلو ِم<br />
المتیق َّن إِلى ما لا یعلم لھ حقیقة، تقلیداً لمن لا حُج َّة معھ.<br />
-اتباع الرسل في الدین دون الآباء-<br />
إن كان الآباءُ مخالفین للرسل، كان علیھ أن یَتبعَ الرسلَ، كما قال تعالى:<br />
[ووصینا الإنسان بوالدیھ حُسْناً وإن جاھداك لتُشرِ كَ بي ما لیس لك بھ<br />
علم فلا تُطعھما] العنكبوت: 8. فمن اتبع دین آبائِھ بغیر بصیرةٍ وعِلم، بل<br />
یعدل عن الحقِّ المعلوم إلیھ، فھذا اتبعَ ھواهُ، كما قال تعالى: [وإذا قیل لھم<br />
اتبعوا ما أنزل اللھ قالوا بل نتبع ما ألفینا علیھ آباءَنا أو لو كان آباؤھم لا<br />
یعقلون شیئاً ولا یھتدون] البقرة:<br />
142
فنك َّس رأسَھُ، فجعل ینكُتُ<br />
اللھ ε، فقعد وقعدنا حولَھ، ومعھ مَخْصَرَ ةٌ(1)<br />
بمخصرتھ، ثم قال: ما من نفْسٍ منفوسَةٍ إلا قد كتب اللھ مكانھا من الجنة<br />
والنار، وإلا وقد كُتِبَت شقی َّةً أو سعیدةً، قال: فقال رجل: یارسول اللھ، أفلا<br />
نمكث على كتابنا وندَعُ العمل؟ فقال: من كان من أھل السعادة فسیصیرُ إِلى<br />
عمل أھل السعادة، ومن كان من أھل الشقاوة فسیصیر إِلى عمل أھل<br />
الشقاوة، ثم قال: اعملوا فكل ٌّ مُیس َّرٌ لما خُلِقَ لھ، أما أھل السعادة فییسرون<br />
لعمل أھل السعادة، وأما أھل الشقاوة فییسرون لعمل أھل الشقاوة" ثم قرأ:<br />
[فأما من أعطى واتقى، وصدق بالحُسنى، فسنیسّ ِرُه للیُسرى، وأما من<br />
بَخِ ل واستغنى، وكذ َّبَ بالحسنى، فسنیسره للعُسرى] اللیل:<br />
-5<br />
143
خرجاه في الصحیحین، وزاد البخاري: "وإنما الأعمال بالخواتیم (1) ".<br />
وقال ε: "إن أحدَكُم یُجمعُ خلقُھ في بطن أمھ أربعین یوماً نُطفةً، ثم علقةً<br />
مثل ذلك، ثم یكن مضغة مثل ذلك، ثم یرسل إلیھ الملك فینفخ فیھ الروح،<br />
ویؤمر باربع كلمات: یُكتب رزقھ، وأجلھ، وعملھ، وشقي ٌّ أم سعید، فوالذي<br />
لا إلھ غیرُ ه، إن أحدَكم لیعمل بعمل أھل الجنة حتى ما یكون بینھ وبینھا إلا<br />
ذراع فیسبقُ علیھ الكتاب (2) ، فیعملُ بعمل أھل النار فیدخُلُھا، وإن أحدَكُم<br />
لیعملُ بعمل أھل النار حتى ما یكون بینھ وبینھا إلا َّ ذراع، فیسبقُ علیھ<br />
الكتابَ ، فیعمل بعمل أھل الجنة فیدخلھا" (3) .<br />
قولُھ: "وأصلُ القدرِ سر ُّ اللھ تعالى في خلقھِ، لم یَ َّطلِعْ على<br />
ذلك ملكٌ مقربٌ ، ولا نبي ٌّ مرسل، والتعم ُّقُ والنظرُ في ذلك ذریعةُ<br />
كما قال تعالى: [فلا تزكوا أنفسكم ھو أعلم بمن اتقى] وقال: [ألم تر إِلى الذین<br />
یزكون أنفسھم بل اللھ یزكي من یشاء ولا یظلمون فتیلا].<br />
وإذا كان المرء لا یستطیع أن یزكي نفسھ على اللھ، وھو أدرى الخلق بھا،<br />
فمن باب أولى أن لا یستطیع تزكیة الآخرین بأعیانھم، لذا صح عن النبي<br />
أنھ قال: "من كان منكم مادحاً أخاه ولا محالة، فلیقل: أحسب فلاناً، واللھ<br />
حسیبھ، ولا أزكي على اللھ أحداً، أحسبھ كذا وكذا، إن كان یعلم ذلك منھ". فإذا<br />
كان مدحھ لأخیھ في الدنیا -بما یعلم- یجب علیھ أن یتوخى ھذه الدقة، وأن لا<br />
یزكیھ على اللھ، فكیف بھ لو أراد أن یتألى على اللھ، ویحكم على الغیب الذي<br />
لا یعلمھ إلا اللھ، بأن صاحبھ من أھل الجنة؟!<br />
وھل یقال لفلان شھید، أو یحكم لمعین بالجنة؟! فالراجح أنھ لا یشھد لمعین<br />
بالجنة إلا لمن جاء فیھ نص كالعشرة المبشرین بالجنة وغیرھم، والمسألة قد<br />
استوفیناھا بحثا واستدلالاً في كتابي "قواعد في التكفیر" فالیراجع.<br />
( 1 )<br />
أي بما یُختم بھ على المرء من عمل، فإن ختم لھ بعمل صالح فقد فاز، وإن<br />
ε<br />
ختم لھ بعمل طالح فقد ھلك وخسر مھما تقدمھ من عمل صالح. ومن فقھ الحدیث<br />
التوقف عن الخوض في مصیر أحد بعینھ یوم القیامة، قبل العلم بما ختم لھ من<br />
عمل، وعلى أي عمل أدركتھ المنیة، لذا یحسن بالمرء، دائماً أن یسأل اللھ تعالى<br />
لنفسھ ولإخوانھ الثبات على الحق وحسن الختام، ولا یغرنھ عملھ الصالح،<br />
وتاریخھ الحافل بالمواقف والجھاد، وفي قصة "بلعام" عبرة لمن أراد أن یعتبر.<br />
( 2 )<br />
أي یسبق المقدور المكتوب في الكتاب، الذي ھو اللوح المحفوظ.<br />
(3 ( متفق علیھ.<br />
144
الخِ ذْلان، وسُل َّم الحِ رمان، ودرجَةُ الطغیان، فالحذَرَ كُل َّ الحذر من<br />
ذلك نظراً وفكراً ووَ سْوسَةً، فإن اللھ تعالى طوى علم القدر عن<br />
أنامِھ، ونھاھم عن مَرامھ، كما قال تعالى في كتابھ: [لا یُسأَلُ عما<br />
یفعلُ وھم یُسألُون (1) [ الأنبیاء:<br />
145
وخالف في ذلك القدریة المعتزلة، وزعموا أن اللھ شاء الإیمان من<br />
الكافر، ولكن الكافرَ شاء الكفرَ فر ُّ وا إِلى ھذا، لئلا َّ یقولوا: شاء الكفرَ من<br />
الكافر، وعذبھ علیھ! فإنھم ھربوا من شيء فوقعوا فیما ھو شر ٌّ منھ، فإنھ<br />
یلزمھم أن مشیئةَ الكافر غلبت مشیئةَ اللھ تعالى، فإن اللھ قد شاء الإیمان<br />
منھ -على قولھم- والكافر شاء الكفر، فوقعت مشیئة الكافر دون مشیئة اللھ<br />
تعالى! وھذا من أقبح الاعتقاد، وھو قولٌ لا دلیلَ علیھ (2) .<br />
روى عمرُ بن الھیثم، قال: خرجنا في سفینةٍ، وصحبنا فیھا قدر ٌّي<br />
ومجوسي ُّ، فقال القدري للمجوسي: أسلم، قال المجوسي: حتى یریدَ اللھ،<br />
فقال القدري ُّ: إن اللھ یرید، ولكن الشیطان لا یرید، قال المجوسي: أراد<br />
اللھ، وأراد الشیطان، فكان ما أراد الشیطان! فأنا مع أقواھما!!<br />
ووقف أعرابي على حلقةٍ فیھا عمرو بن عبید (3) ، فقال: یا ھؤلاء، إن<br />
ناقتي سُرقت، فادعوا اللھَ أن یردھا علي َّ، فقال عمرو بن عُبید: اللھم َّ إنك لم<br />
تُرِ د أن تُسرق ناقَتُھ فسرقت، فاردُدْھا علیھ، فقال الأعرابي ُّ: لا حاجة لي في<br />
دعائك. قال: ولِمَ؟ قال: أخاف -كما أراد أن لا تُسرق فسرقت- أن یرید رد َّھا<br />
فلا تُرَ د ُّ (4) !!<br />
فمنشأ الضلال من التسویة بین المشیئة والإرادة، وبین المحب َّة والرضى.<br />
-الدلیلُ من الكتاب والسنة على الفَرْ قِ بین المشیئة والمحبة-<br />
أما نصوص المشیئة والإرادة من الكتاب، فقد قال تعالى: [ولو شئنا<br />
لآتینا كل َّ نفسٍ ھداھا] السجدة:<br />
146
وأما نصوصُ المحب َّةِ والرضى،<br />
البقرة:<br />
فقال تعالى:<br />
[واللھُ لا یُحب َّ الفساد]<br />
147
ِ ، لتعط َّلَ الخیرُ<br />
Ι<br />
ε<br />
. ِ<br />
كمال قدرتھ وعزتھ وملكھ وسُلطانھ. فخلُو ُّ الوجود عن بعضھا بالكلیة<br />
تعطیلٌ لحكمتھ، وكمالِ تصر ُّ فھِ، وتدبیر مملكتھ.<br />
ومنھا: ظھورُ آثار أسمائھ القھریة، مثلُ: القھ َّار، المنتقم، والعدل،<br />
والض َّارِ ، والشدید العقاب، والسریعِ الحساب، وذي البطشِ الشدید،<br />
والخافض، والمُذلّ ِ، فإن ھذه الأسماء والأفعال كمالٌ، لا بد من وجو ِد<br />
متعل َّقِھَا ولو كان الجن ُّ والإنسُ على طبیعة الملائكة لم یظھرْ أثرُ ھذه<br />
الأسماء.<br />
ومنھا: ظھورُ آثارِ أسمائِھ المُتَضَمّ ِنَةِ لِحلْمھِ وعَفوهِ ومَغْفرَ تھِ وسَتْرِ ه<br />
وتجاوزهِ عَن حَقّ ِھِ وعَتْقِھ لِمَنْ شاءَ مِنْ عبیدِه، فلولا خَلْقُ ما یكرھھُ مِ َن<br />
الأسبابِ المُفضیَةِ إِلى ظھورِ آثارِ ھذه الأسماء، لتعط َّلتْ ھذه الحِ كَمُ<br />
والفوائِدُ، وقد أشارَ النب ُّي إِلى ھذا بقولِھ: "لَوْ لَمْ تُذنبوا، لَذَھبَ اللھُ بكم،<br />
ولَجَاءَ بقومٍ یُذنبونَ، ویستغفرونَ فیغفِرُ لَھُم" رواه مسلم.<br />
ومنھا: ظھورُ آثارِ أسماءِ الحكمةِ والخبرَ ةِ، فإن َّھ الحكیمُ الخبیر، الذي<br />
یضَعُ الأشیاءَ مواضِ عَھا ویُنزِ لُھا منازِ لَھا اللائِقَةِ بھا، فھو أعلم حیثُ یجعلْ<br />
رسالاتِھ، وأعلَمُ بمن یَصلُحُ لِقبولِھا ویشكرُ هُ على انتھائھا إلیھ، وأَعْلَمُ بمن لا<br />
یَصلُحُ لذلك. فلو قُدّ ِرَ عَدَمُ الأسبابِ المكروھَةِ، لتعط َّلَتْ حِ كَمٌ كثیرَ ةُ، ولَفاتَ ْت<br />
مصالِحُ عدیدَةٌ، ولو عُطّ ِلَتْ تلكَ الأسبابُ لِما فیھا مِن الشَرّ<br />
الذي ھو أعظمُ مِن ِ الش َّرّ الذي في تلك الأسبابِ، وھذا كالشمسِ والمطرِ<br />
ِ والرّ یاحِ، التي فیھا مِن المصالحِ ما ھو أضعافُ أضعافُ ما یحصلُ بھا مِن<br />
الشرّ<br />
ومنھا: حُصولُ العبودیة المتنوعة التي لولا خَلْقُ إبلیسَ لَمَا حصَلَتْ ، فإ َّن<br />
عبودی َّةَ الجھاد مِن أحبِّ أنواعِ العبودی َّةِ إلیھ سبحانھ، ولو كان الناسُ كُل ُّھُم<br />
مؤمنین لتعط َّلَتْ ھذه العبودی َّةُ وتوابِعُھا من الموالاة والمعاداة فیھ،<br />
وعبودی َّةُ الأمرِ بالمعروفِ والنھي عن المنكَرِ ، وعبودیةُ الصبرِ ، ومخالَفَةِ<br />
الھوى، وإیثارِ محَابِّ اللھِ تعالى، وعبودیةُ التوبةِ والاستغفارِ ، وعبودیةُ<br />
الاستعاذَةِ باللھ أن یُجیرَ هُ مِنْ عدوِّهِ، ویعصِ مَھُ مِنْ كیدِهِ وأذاه. إِلى غیرِ ذلك<br />
مِن الحِ كَمِ التي تعجزُ العقولُ عن إدراكِھا.<br />
فإن قیل: فھَلْ كان یُمْكِنُ وجودَ تلكَ الحِ كَم بدونِ ھذه الأسباب؟<br />
فھذا سؤالٌ فاسِدٌ! وھو فرضُ وجود الملزوم بدونِ لازمھِ، كفرضِ وجودِ<br />
ا<strong>لابن</strong>ِ بدونِ الأبِ، والحرَ كَةِ بدونِ المتحرّ وبَةِ بدون التائب.<br />
ِ كِ ، والت<br />
148
فإن قیلَ: كیفَ یرضى لعبدهِ شیئاً ولا یُعِینُھ علیھ؟ قیل: لأن َّ إعانَتَھُ علیھ<br />
قد تستلزِ مُ فواتَ محبوبٍ لھ أعظمَ مِنْ حُصولِ تلكَ الطاعَةِ التي رضیھا لھ،<br />
وقد یكونُ وقوعُ تلكَ الطاعةِ منھ یتَضَم َّنُ مَفْسدَةً ھي أكرَ ه إلیھ سبحانھ مِنْ<br />
محبتھِ لتلكَ الطاعَةِ. وقد أشارَ تعالى إِلى ذلك في قولھ: [ولو أرادُوا الخروجَ<br />
لأعَد ُّوا لھ عُد َّةً ولكن كَرِ هَ اللھُ انبعاثَھُم فثب َّطَھُم] التوبة:<br />
149
. (3)<br />
فإنْ قیلَ: إذا كانَ الكُفْرُ بقضاءِ اللھِ وقَدَرِ هِ(1) ، ونحنُ مأمورونَ أنْ<br />
نرضى بقضاءِ اللھِ، فكیفَ نُنكِرُ هُ ونكرَ ھُھ (2) ؟!<br />
فالجوابُ : أن یُقالَ أو َّ لاً: نحنُ غَیْرُ مأمورین ِ بالرّ ضى ِ بكُلّ مایقضیھ اللھُ<br />
ویُقدّ ِرُ هُ، ولم یَرِ دْ بذلك كتابٌ ولاسُن َّةٌ، بل مِن المقضيّ ما یُرضَى بھ، ومنھ<br />
ما یُسْخَطُ ویُمْقَتُ<br />
ویُقالُ ثانیاً: ھنا أمرانِ: قضاءُ اللھِ وھو فعلٌ قائِمٌ بذات اللھِ تعالى،<br />
ومقضي ٌّ: وھو المفعولُ المنفصِ لُ عنھ، فالقضاءُ كلھ خیرٌ وعَدْلٌ وحِ كمةٌ،<br />
فیُرضى بھ كُلّ ِھ، والمقضي ُّ قسمان: منھُ مایُرضَى بھِ، ومنھ ما لا یُرضى بھ.<br />
ویُقالُ ثالثاً: القضاءُ لھ وجھان: أحدُھما تعَل ُّقُھُ بالر َّ بِّ تعالى ونسبتھ إلیھ،<br />
فمن ھذا الوجھ یُرضَى بھ. والوجھ الثاني: تعَل ُّقھُ بالعبدِ ونسبتھ إلیھِ، فمن ھذا<br />
الوجھ ینقسِمُ إِلى ما یُرْ ضَى بھِ، وإلى ما لا یُرْ ضَى بھ. مثالُ ذلك: قَتْلُ<br />
النفسِ ، لھ اعتباران: فمن حیث قد َّرَ هُ اللھُ وقضاهُ وكَتَبَھُ وشاءَهُ، وجَعَلَھُ أجلاً<br />
للمقتولِ ونھایة لعمرِ ه، نرضى بھِ، ومِن حیثُ صَدَرَ مِن القاتِل وباشرَ هُ<br />
وكسَبَھُ، وأقدَمَ علیھ باختیارِ ه، وعصى اللھَ بفعلھِ، نسخَطُھ ولا نرضى بھ.<br />
-المبالَغةُ في الكلام في القضاء والقدر وسیلَةٌ إِلى الخِ ذلانِ-<br />
وأحیاناً ینزل البلاء لرفع المقامات والدرجات في الجنان یوم القیامة، كما في<br />
الحدیث: "أشد الناس بلاءً الأنبیاء ثم الأمثل فالأمثل، یُبتلى الرجل على حسب<br />
دینھ، فإنْ كان في دینھ صُلباً اشتد َّ بلاؤه؛ وإن كان في دینھ رقةٌ ابتلي على قدر<br />
دینھ". وقال ε: "یقول اللھ Υ: مَنْ أذھبتُ حبیبتیھ فصبر واحتسب، لم أرضَ لھ<br />
ثواباً دون الجنة". وقال ε: "یَود ُّ أھلُ العافیة یوم القیامة حین یُعطى أھل البلاءِ<br />
الثوابَ لو أن جلودھم كانت قُرضت في الدنیا بالمقاریض". وھذه الأحادیث كلھا<br />
150<br />
صحیحة و الحمد.<br />
( 1 )<br />
( 2 )<br />
أي أن الكفر یكون بقضاء مِن اللھ وقدره ..<br />
القاريء المؤمن بغنى عن ذكر ھذه التساؤلات والشبھات، ولكن لما كان<br />
أعداء الإیمان ومن في قلوبھم مرض وزیغ یتعرضون أھل الإیمان بھذه الأسئلة،<br />
رأینا إثباتھا وإثبات الجواب علیھا...<br />
(3 ( كل ما یدخل في معنى المعاصي مِنْ كفر وظلم وفسق وغیر ذلك مِن الذنوب<br />
التي تُغضِ ب اللھ تعالى ھو مِن القضاء الذي یجب أن یُسخط ویُمقت، وكل ما<br />
یرضي اللھ فھو مِن القضاء الذي یجب أن یرضى بھ العباد ویحبوه.
وقولُھ: "والتعَم ُّقُ والن َّظَرُ في ذلكَ ذریعَةُ الخِ ذْلا ِن".<br />
المعنى: أن َّ المبالغة في طلبِ القَدَرِ والغوصِ في الكلامِ فیھ، ذریعَةُ<br />
الخذلان (1) . الذریعةُ: الوسیلة، والذریعةُ والدرَ جةُ والس ُّل َّمُ، متقارب المعنى.<br />
وقولُھ: "فالحذَرَ كُل َّ الحذَرِ مِنْ ذلك نَظَراً وفِكْراً ووسْوَ سَةً".<br />
151<br />
( 1 )<br />
لیست الغایة مِنْ دراسة عقیدة القضاء والقدر، المعرفة النظریة المجر َّ دة،<br />
لمواجھة شبھات وتساؤلات جاحدي القضاء والقدر -فھذا یحصل مِنْ دون أن<br />
یكون ھو المقصود- وإنما الغایة مِنْ دراسة عقیدة القضاء والقدر، تكمن في<br />
أمرین:<br />
أولھما: یتعلق بمعرفة العبد لصفات الربِّ Ι، وھو أن عقیدة القضاء والقدر<br />
ِ تُعرّ ف المسلم على عظمة الخالق سبحانھ، وكمال قدرتھ وعلمھ، فھو عندما<br />
یعلم أن َّ اللھ تعالى قد َّرَ الأشیاءَ قبل خلقھا، وأحاط بھا علماً، وأنھ لا یحصل في<br />
سلطانھ شيء -مھما عظم أو صغر- إلا بإذنھ وإرادتھ ومشیئتھ، وأنھ لا یكون<br />
إلا ما یرید، یُدرك بالمقابل أن الإلھ الذي یستحق أن تتوجھ إلیھ العباد بالعبادة<br />
بمعناھا العام الشامل، ھو اللھ وحده Ι، ثم أن ھذه العقیدة تورث المرء كمال<br />
التنزیھ للرب Ι، وھذا مطلب مِنْ مطالب الشریعة.<br />
الثاني: وھو ما یتعلق بجانب العبد، فإن َّ عقیدة القضاء والقدر تورثھ<br />
الشجاعة، وعدم الخوف مِن المخلوق أو فوات الرزق، وھو كذلك یعلق قلبھ<br />
باللھ وحده ولا یرجو إلا اللھ، وكیف لا ما دام كل شيء بقدر، والضر والنفع<br />
كلھ بید اللھ، ولا یكون إلا ما شاء اللھ لھ أن یكون، وھي كذلك تورثھ<br />
الإطمئنان وراحة النفس والفھم الصحیح لما یجري حولھ ویطرأ علیھ، وتعینھ<br />
على الصبر واحتساب الأجر عند اللھ إذا ما حل َّ بھ بلاء.. وھذا أیضاً مطلب<br />
مِنْ مطالب الشریعة.<br />
وإلى جانب ما تقدم فإن َّ الغایة مِنْ دراسة عقیدة القضاء والقدر تحقیق الإیمان بھ<br />
إذ یعتبر مِنْ أھم أركان الإیمان، حیث لا یصح إیمان ولا یكتمل إلا بالإیمان<br />
بالقضاء والقدر خیره وشره، كما جاء في الحدیث: "ولو كان لرجل أُحد أو مثل<br />
أُحد ذھباً ینفقھ في سبیل اللھ، لا یقبلھ اللھ Υ منھ حتى یؤمن بالقدر خیره وشره،<br />
ویعلم أن ما أصابھ لم یكن لیخطئھ، وما أخطأه لم یكن لیصیبھ، وإنك إن مت<br />
على غیر ھذا أدخلت النار". وقال: "إن العبد لا یبلغ حقیقة الإیمان حتى یعلم أن<br />
ما أصابھ لم یكن لیخطئھ، وما أخطأه لم یكن لیصیبھ". رواه ابن <strong>أبي</strong> عاصم في<br />
السنة وصححھ الشیخ ناصر في التخریج.
عن <strong>أبي</strong> ھریرة، قال: جاءَ ناسٌ مِنْ أصحابِ النبيّ ε ِ إِلى رسولِ اللھ ε،<br />
فسألوه: إنا نَجِ دُ في أنفسنا ما یتعاظَمُ أحدُنا أن یتكلم بھ؟ قال: "وقد<br />
وجدتُموُ ه؟" قالُوا: نعَمْ، قال: "ذاكَ صریحُ الإیمان". رواه مسلم.<br />
الإشارَ ةُ بقولھ: "ذاك صریحُ الإیمان" إِلى تعاظمھم أن یتكل َّموا بھ.<br />
فمدافعَةُ الوَ سْوسَةِ الشیطانیةِ، واستعظامُھا صریحُ الإیمانِ، ومحضُ الإیمان.<br />
ھذه طریقةُ الصحابة ψ، والتابعین لھم بإحسانٍ، ثم َّ خلَفَ مِنْ بَعْدِھم<br />
خَلْفٌ ، سَو َّ دُوا الأوراقَ بتلكَ الوساوس، التي ھي شكوكٌ وشُبَھٌ، بل وسَو َّ دُوا<br />
القلوبَ ، وجادَلُوا بالباطِلِ لیُدحِ ضُوا بھ الحق َّ.<br />
-اتباع سنن الیھود والنصارى، والخوض بما خاضوا!-<br />
عن عمرو بن شعیب، عن أبیھ عن جَدّ ِهِ، قال: خرجَ رسولُ اللھِ ذاتَ<br />
یومٍ والن َّاس یتكلمونَ في القدَرِ ، قال: فكأن َّما تَفَق َّأَ في وَ جھھِ حَب ُّ ال ُّرمان مِن<br />
الغضبِ، قال: فقال: "ما لَكُمْ تضرِ بونَ كِتابَ اللھِ بَعْضَھُ ببعضٍ ؟! بھذا ھلَكَ<br />
مَنْ كانَ قبلَكم" (1) .<br />
وقال تعالى: [فاستمتعتم بخلاقِكُم كما استمتَعَ الذینَ مِنْ قَبْلِكُمْ بخلاقِھِم<br />
وخُضْتُم كال َّذِي خاضُوا]التوبة:<br />
ε<br />
152
وعن عبد اللھ بن عمرو، قال: قال رسولُ اللھ ε: "لیأتیَن َّ على أُم َّتي ما أَتَى<br />
على بَني إسرائیل حَذْوَ الن َّعْلِ بالن َّعْلِ، حتى إنْ كانَ مِنْھُمْ مَنْ أتَى أُم َّھُ علانی َّةً،<br />
كان في أُم َّتي مَنْ یصنعُ ذلك، وإن َّ بني إسرائیلَ تفر َّ قُوا على اثنتینِ وسبعینَ<br />
مِل َّةً، وتَفترِ ق أُم َّتي على ثلاثٍ وسبعینَ مِل َّةً، كُل ُّھُمْ في النارِ إلا َّ مِل َّةً واحِ دَةً"<br />
قالوا: مَنْ ھي یارسُولَ اللھِ؟ قال: ما أنا علیھ وأصحابي" (1) .<br />
وعن <strong>أبي</strong> ھُریرة، أن َّ رسولَ اللھِ قال: "تَفَر َّ قَتِ الیھودُ على إِحْدَى<br />
وسبعینَ فِرْ قَةً أو اثنتَیْن وسبعینَ فِرْ قَةً، والنصَارَ ى مِثْلَ ذلك، وتفترقُ أُم َّتِي<br />
على ثلاثٍ وسبعینَ فِرْ قَةً" (2) .<br />
وعن معاویة بن <strong>أبي</strong> سفیان، قال: قال رسولُ اللھ ε: "إن َّ أَھْلَ الكتابَیْنِ<br />
افترَ قُوا في دینِھمُ على ثِنَتَیْنِ وسبعینَ مِل َّةً، وإن َّ ھذه الأُم َّةَ ستفتَرِ قُ على ثلاثٍ<br />
وسبعین مِل َّةً -یعني الأھواءَ- كُل ُّھا في الن َّارِ إلا َّ واحِ دَةً، وھي الجماعَةُ" (3) .<br />
ε<br />
تابعوا الیھود والنصارى في جمیع شؤون الحیاة ومجالاتھا، فما مِنْ صوت یُرفع<br />
في الغرب الصلیبي إلا َّ ویوجد صداه في أخلاق وسلوك وعقائد الأمة..<br />
( 1 )<br />
قال الشیخ ناصر: ضعیف بھذا السیاق، وقد حسنھ الترمذي في بعض النسخ،<br />
وھو ممكن باعتبار شواھده، ولذلك أوردتھ في "صحیح الجامع" (5219)،<br />
153<br />
"الصحیحة" (1348).<br />
( 2 )<br />
رواه أبو داود، وابن ماجھ، والترمذي، وقال: حدیث حسن صحیح. قال الشیخ<br />
ناصر: صحیح، وھو مخرج في "الصحیحة" (203).<br />
(3 ( رواه أحمد، وأبو داود، وھو صحیح. في الحدیث والذي قبلھ أن َّ الفرقة الناجیة<br />
الْمَرْ ضِ یة، ھي الجماعة التي تكون على ما كان علیھ النبي وصحبھ الكرام،<br />
فالدین الأمجد دینھم، وما سواه لیس بدین. ومنھ یُعلم فساد القول القائل: بأ َّن<br />
الخلف أحكم من الس َّلف!!! ساء ما یقولون. وفیھ كذلك أن الجماعة ھي التي<br />
تكون على ما كان علیھ النبي وأصحابھ وإن قل عددھا، فالجماعة تعرف<br />
بالاتباع والاقتداء لا بالكم الھائل الشارد عن الحق والمتابعة لھدي النبوة.<br />
وھنا تُثار مسألة -كثر كلام الناس حولھا- ھل الفرقة الناجیة ھي الطائفة<br />
المنصورة الظاھرة الوارد ذكرھا في الأحادیث، أم أنھ یوجد فارق بینھما من<br />
بعض الوجوه؟<br />
والجواب على ھذه المسألة: أن الفرقة الناجیة تشتمل على الطائفة المنصورة<br />
الظاھرة، فكل فرد من الطائفة المنصورة ھو من الفرقة الناجیة ولا یستلزم ذلك<br />
العكس، والذي حدد ھذا الفارق بین الفرقة والطائفة ھي النصوص الشرعیة،<br />
وصفة كل من الفرقة والطائفة كما بینتھا الأدلة الشرعیة.<br />
ε<br />
ε
1- دلالة النصوص الشرعیة على الفارق بین الفرقة الناجیة والطائفة<br />
المنصورة:<br />
قال تعالى: [ولتكن منكم أمةٌ یدعون إِلى الخیر ویأمرون بالمعروف وینھون<br />
عن المنكر وأولئك ھم المفلحون] آل عمران:<br />
فھذا خطاب موجھ لمجموع الأمة المتمثلة في "الفرقة الناجیة" بأن تنفر منھم<br />
طائفةٌ -وھو المراد بالأمة- تتخصص وتتفرغ للدعوة إِلى الخیر والأمر<br />
بالمعروف والنھي عن المنكر. فالنص فر َّ ق بین "الفرقة الناجیة" وھي المعنیة<br />
من الخطاب، وبین الطائفة المنصورة وھم النفر الذین یقومون بواجب الأمر<br />
بالمعروف والنھي عن المنكر.<br />
قال ابن كثیر في التفسیر (398/1): یقول تعالى: ولتكن منكم أمة منتصبة<br />
للقیام بأمر اللھ في الدعوة إِلى الخیر والأمر بالمعروف والنھي عن المنكر<br />
وأولئك ھم المفلحون. قال الضحاك: ھم خاصة الصحابة وخاصة الرواة یعني<br />
المجاھدین والعلماء، والمقصود من ھذه الآیة أن تكون فرقة من ھذه الأمة<br />
متصدیة لھذا الشأن ا-ھ.<br />
قلت: واضح أن الطائفة المنصورة ھم صفوة الفرقة الناجیة، إذ یستحیل أن<br />
یكون كل فردٍ من الفرقة الناجیة عالماً ومجاھداً.<br />
وكذلك قولھ تعالى: [وكأین من نبي قاتل معھ ربیون كثیر فما وھنوا لما<br />
أصابھم في سبیل اللھ وما ضعفوا وما استكانوا واللھ یحب الصابرین] آل<br />
عمران:<br />
فالربیون ھنا ھم الطائفة المنصورة الذین یجاھدون في سبیل اللھ ولا<br />
یخشون في اللھ لومة لائم، ومن قال أن الربیین الوارد ذكرھم في الآیة یراد<br />
بھم الفرقة الناجیة بما فیھم العوام من الشی َّب والنساء فقد أخطأ وأبعد.<br />
وكذلك قولھ تعالى: [لا یستوي القاعدون من المؤمنین غیرُ أولي الضررِ<br />
والمجاھدون في سبیل اللھ بأموالھم وأنفسھم فضل اللھ المجاھدین<br />
بأموالھم وأنفسھم على القاعدین درجةً وكُلا وعدَ اللھ الحسنى وفضل اللھُ<br />
المجاھدین على القاعدین أجراً عظیماً] النساء: 95. ففرق اللھ تعالى بین<br />
القاعدین الذین یدخلون في الفرقة الناجیة، وبین المجاھدین في سبیل اللھ<br />
بأموالھم وأنفسھم الذین یدخلون في الطائفة المنصورة الظاھرة، فھما لا<br />
یستویان صفة ومھمة ولا من حیث الأجر والدرجات یوم القیامة، وإن كانا<br />
یشتركان بصفة النجاة من العذاب بدلیل قولھ تعالى: [وكُلا وعدَ اللھُ<br />
الحسنى] ولكن [فضل اللھ المجاھدین على القاعدین أجراً عظیماً].<br />
.104<br />
154<br />
.146
ε<br />
-2<br />
وفي الحدیث فقد صح عن النبي ε أنھ قال: "لاتزال طائفة من أمتي ظاھرین<br />
على الحق لا یضرھم مَنْ خذلَھم حتى یأتي أمر اللھ وھم كذلك" وقال: "لن<br />
یزال قوم مِنْ أمتي ظاھرین على الناس حتى یأتیھم أمر اللھ وھم ظاھرون"<br />
وقال: "لن یبرح ھذا الدین قائماً یقاتل علیھ عصابة من المسلمین حتى تقوم<br />
الساعة" وقال: "لا تزال طائفة من أمتي منصورین لا یضرھم من خذلھم حتى<br />
تقوم الساعة". وھذه أحادیث كلھا صحیحة وللھ الحمد بعضھا مخرج في<br />
الصحیحین، والشاھد منھا قولھ ε: "لا تزال طائفة مِنْ أمتي .. لا یزال قوم مِنْ<br />
أمتي .. عصابة من المسلمین" حیث أن مِنْ ھنا تفید التبعیض، فالمسلمون من<br />
أمة محمد ھم الفرقة الناجیة، والطائفة أو العصابة منھم الوارد ذكرھا في<br />
الأحادیث أعلاه ھم الطائفة المنصورة خواص الفرقة الناجیة، ھذا من حیث<br />
دلالة النصوص الشرعیة.<br />
أما من حیث دلالة الصفات، فقد میزت النصوص الشرعیة بین صفات<br />
الفرقة وصفات الطائفة المنصورة، فالفرقة الناجیة تتصف بسلامة الاعتقاد<br />
وحسن الإتباع، لذلك عندما سُئل النبي ε عنھا فأجاب بأنھا ھي التي تكون على<br />
"ما أنا علیھ وأصحابي".<br />
بینما الطائفة المنصورة -بدلالة النصوص المتقدم ذكرھا- فھي إضافة إِلى<br />
صفة سلامة الاعتقاد وحسن الاتباع، فھي تجاھد في سبیل اللھ، وھي ظاھرة<br />
على عدوھا بحجة السنان والبیان لا تخشى في اللھ لومة لائم، تأمر<br />
بالمعروف وتنھى عن المنكر..<br />
قال النووي عنھم في <strong>شرح</strong>ھ لصحیح مسلم (67/13): یحتمل أن ھذه الطائفة<br />
مفرقة بین أنواع المؤمنین، منھم شجعان مقاتلون، ومنھم فقھاء، ومنھم<br />
محدثون، ومنھم زھاد وآمرون بالمعروف وناھون عن المنكر ا-ھ. وھذه<br />
صفات مستحیل أن تتوفر في كل فرد من أفراد الفرقة الناجیة، حیث أن الفرقة<br />
الناجیة تضم ھؤلاء وغیرھم من العجزة والشیوخ والنساء وغیرھم من العوام<br />
الذین یتوفر فیھم سلامة الاعتقاد والاتباع.<br />
ومما تقدم نستخلص النقاط التالیة:<br />
ا- أن كل فرد من الطائفة المنصورة ھو من الفرقة الناجیة ولیس العكس..<br />
ب- أن صفات الطائفة المنصورة الظاھرة المجاھدة یستحیل أن تتوفر في كل<br />
فرد من أفراد الفرقة الناجیة، فلزم التفریق بینھا وبین الفرقة الناجیة..<br />
ج- الطائفة المنصورة بالنسبة للفرقة الناجیة تعتبر الطلیعة أو الصفوة التي<br />
توكل إلیھا المھام العظام، والتي تقود الأمة إِلى الخیر والفلاح والجھاد..<br />
155
-مَنْ رَد َّ حُكْمَ الكتابِ من غیر شُبھةٍ أو تأویلٍ، فقد كفَرَ-<br />
وقولُھ: "فمن سألَ: لِمَ فَعَل؟ فقَدْ رَد َّ حُكْمَ الكتابِ، ومَنْ رَد َّ حُكْمَ<br />
الكتابِ، كانَ مِنَ الكافرین".<br />
اعلم أن َّ مبنى العبودی َّةِ والإیمان باللھِ وكُتُبھِ ورُ سلھِ، على التسلیمِ وعدَ ِم<br />
الأسئلةِ عن تفاصیلِ الحكمةِ في الأوامرِ والن َّواھي والش َّرَ ائعِ، ولھذا كانَ<br />
سلفُ ھذهِ الأم َّةِ، التي ھي أكملُ الأُمَمِ عقولاً ومعارِ فَ وعلوماً، لا تَسأَلُ<br />
نبی َّھا: لِمَ أمرَ اللھُ بكذا؟ ولِمَ نھى عن كذا؟ ولِمَ قَد َّرَ كذا؟ ولِمَ فعَلَ كذا؟<br />
لعلمھم أن َّ ذلكَ مُضادٌ للإیمانِ والاستسلامِ ، وأن َّ قدَمَ الإسلامِ لا تَثْبُتُ إلا َّ على<br />
درَ جَةِ التسلیم (1) .<br />
156<br />
-<br />
د- الفرقة الناجیة والطائفة المنصورة یشتركان في صفة سلامة الاعتقاد<br />
وحسن المتابعة والاقتداء، ویفترقان في بقیة الصفات..<br />
ھذا -باختصار- أبرز ما یمیز الطائفة المنصورة عن الفرقة الناجیة، ولصفات<br />
الطائفة المنصورة أفردنا مصنفاً مستقلاً أسمیناه "صفة الطائفة المنصورة التي<br />
یجب أن تكثر سوادھا" فلیراجعھ من أراد أن یستزید.<br />
الفائدة من ھذا التفریق بین الفرقة الناجیة والطائفة المنصورة:<br />
توجد فوائد عدیدة من ھذا التفریق، منھا: إنزال الناس منازلھم، ومعرفة كل امر ٍء<br />
قدره وأین ھو من دین اللھ، وقد وجدنا أناساً ممن یتشبعون بما لم یُعطوا،<br />
ویحبون أن یُحمدوا بما لم یفعلوا، یزكون أنفسھم على اللھ ویدعون أنھم ھم<br />
الطائفة المنصورة!، وفي حقیقتھم لا یتعدون أن یكونوا من الفرقة الناجیة، ولقد<br />
وجدنا بعضھم یعادي بغیر علم ھذا التفریق -الذي دلّت علیھ نصوص الشریعة-<br />
بین الفرقة الناجیة والطائفة المنصورة، وذلك لما رأوا بُعد الشقة بینھم وبین<br />
صفات وخصال الطائفة المنصورة الظاھرة بالجھاد والأمر بالمعروف والنھي<br />
عن المنكر، وحتى لا یخرجوا من دائرة الطائفة المنصورة قالوا: الفرقة الناجیة<br />
ھي الطائفة المنصورة ولا فرق بینھما، فأدخلوا العجایز مع العلماء العاملین<br />
المجاھدین، وسووا بینھما!!.<br />
( 1 )<br />
التسلیم الذي یلازمھ الرضى وانتفاء الحرج في النفس، أم َّا التعقیب على حكم<br />
اللھ وعرضھ للتصویت والإختیار، فما تختاره الأكثریة ھو المختار وإن ضاد<br />
حكم اللھ -كما ھو شأن الدیمقراطیة ودعاتھا- فإن َّ ذلك من أوضح ما یُنقض بھ<br />
الإیمان. ومما یشتد لھ العجب أن أولئك الذین استھوتھم عقولھم وغر َّ تھم<br />
الدیمقراطیة، الذین لا یرون حرجاً في التعقیب على حكم اللھ، ھم أنفسھم<br />
یُسلمون للقوانین الوضعیة والدساتیر الطاغوتیة من دون تعقیب أو اعتراض -
فأو َّ لُ مراتبِ تعظیمِ الأمرِ : التصدیقُ بھِ، ثم َّ العَزْ مُ الجازمُ على امتثالِھ، ث َّم<br />
المسارَ عةُ إلیھ والمبادَرَ ةُ بھ القواطِعَ الموانِعَ، ثم َّ بذلُ الجھدِ والنصحِ في<br />
الإتیانِ بھ على أكملِ الوجوهِ، ثم َّ فِعْلُھ لِكونِھِ مأموراً بھ، بحیث لا یتوق َّفُ<br />
الإتیانُ بھ على معرفة حِ كمتھِ، فإنْ ظھرتْ لھ، فَعَلَھُ وإلا َّ عط َّلَھُ، فإن َّ ھذا<br />
یُنافي الانقیادَ، ویقدَحُ في الإمتثالِ.<br />
ولا شَك َّ في تكفیرِ مَنْ رَ د َّ حُكْمَ الكتا ِب (1) ، ولكِنْ مَنْ تأو َّ لَ حُكمَ الكتابِ<br />
لِشُبھةٍ عَرَ ضَتْ لھ، یُبی َّن لھ الصوابُ لیرجعَ إلیھ (2) .<br />
قولُھ: "فھذا جُملَةُ ما یحتاجُ إلیھِ مَن ھو مُنَو َّ رٌ قلبُھُ مِن أولیاءِ<br />
اللھ تعالى، وھي درَجَةُ الر َّاسخینَ في العِلْمِ ، لأن َّ العِلْمَ عِلْمانِ:<br />
عِلْمٌ في الخَلْقِ موجودٌ، وعِلْمٌ في الخَلْقِ مفقودٌ، فإنكارُ العِلْمِ<br />
الموجود كُفرٌ، وادعاءُ العِلْمِ المفقودِ كُفْرٌ، ولا یثبُتُ (3) الإیمانُ إلا َّ<br />
بقبولِ العلمِ الموجودِ، وتَرْ ك طَلَبِ العِلْمِ المفقودِ".<br />
ش: الإشارَ ةُ بقولِھ: "فھذا" إِلى ما تقد َّمَ ذِكْرُ ه، مِم َّا یجبُ اعتقادُهُ والعم ُل<br />
بھ، مما جاءَت بھ الشریعَةُ. ویعني بالعلمِ المفقود: عِلْمَ القدَرِ الذي طواهُ اللھُ<br />
عن أنامھِ(4) ، ونھاھم عن مرامھِ(5) ، ویعني بالعلمِ الموجودِ: عِلْمَ الشریعَةِ،<br />
.136<br />
157<br />
."<br />
( 1 )<br />
( 4 )<br />
( 5 )<br />
فالتسلیم لحكم اللھ عبودیة وتخلّف، والتسلیم لحكم الطاغوت دیمقراطیة<br />
وحریة!!- ویحتكمون إلیھا على أنھا "فوق الجمیع" وغیر قابلة للرد، علماً أ َّن<br />
أكثر ھذه الدساتیر تضمن لواضعھا "أنّھ لا یُسأل عم َّا یفعل أو أن َّھ فوق<br />
المساءلة!! [فما كان لشركائھم فلا یصلُ إِلى اللھ وما كان فھو یصلُ إِلى<br />
شركائھم ساءَ ما یحكمون] الأنعام:<br />
من رد َّ حكم الكتاب والسنة جحوداً، أو تكذیباً، أو عناداً وكبراً، أو بغضاً<br />
وكرھاً، أو استھانة بقدره ظناً منھ أنھ یمكنھ الخروج عن حكم اللھ إِلى أي حكم<br />
شاء فھو كافر مرتد، ومن شك َّ في كفره فھو كافر لجعلھ الكفر إیماناً وإسلاماً.<br />
(2 ( ولكن من رد َّ حكم الكتاب والسنة تأویلاً لشبھةٍ معتبرة، فمثل ھذا لا یحكم<br />
بكفره، إلا َّ بعد قیام الحجة الشرعیة علیھ التي تدفع عنصر الجھل عنده، فإنْ<br />
رَ د َّھا وأصر َّ على قولھ الكفري، حینھا یُكَف َّرُ بعینھ. ومسائل التكفیر قد استوفیتھا<br />
بحثاً في كتابي "قواعد في التكفیر"، فلیراجع.<br />
( 3 )<br />
أي لایصح ولا یُقبل ..<br />
أي خلقھ.<br />
أي نھاھم عن التطلع إلیھ والبحث عنھ.
أُصولَھا وفروعَھا، فمن أنكرَ شیئاً مِم َّا جاءَ بھ الر َّسولُ كان مِ َن<br />
الكافرینَ (1) ، ومن اد َّعى عِلْمَ الغیبِ كان من الكافرینَ، قال تعالى:<br />
[عالِمُ الغیبِ فلا یُظھِرُ على غیبھِ أحَداً إلا َّ مَنِ ارتضَى مِن رسولٍ] الجن:<br />
158
قال تعالى: ش:<br />
[بَلْ ھو قُرءانٌ مجیدٌ. في لوحٍ محفوظٍ] البروج:<br />
159
-أَی ُّھما خُلِقَ أَو َّ لاً القلَمُ أَمِ العَرْ ش؟-<br />
اختلفَ العلماءُ: ھَلِ القلَمُ أو َّ لُ المخلوقاتِ أو العرش؟ على قولین<br />
أصح ُّھُما: أن َّ العَرْ شَ قبلَ القلَمِ (1) ، مِم َّا ثبتَ في (الصحیح) من حدیث عبد<br />
اللھ بن عمرو، قال: قالَ رسولُ اللھ ε: "قَد َّرَ اللھُ مقادِیرَ الخلْقِ قبل أنْ<br />
یخلُقَ الس َّماواتِ والأرضَ بخمسینَ ألفَ سَنَة. وعرْ شُھُ على الماءِ" (2) . فھذا<br />
صریحٌ أن َّ التقدیرَ وقعَ بَعْدَ خَلْقِ العرشِ ، والتقدیرُ وقع عند أو َّ لِ خَلْقِ<br />
القلم (3) ، بحدیث عبادَة ھذا.<br />
-وجودُ أقلامٍ غیرَ القلَمِ الذي كُتِبَ بھ اللوح المحفوظ-<br />
فھذا القلم -الذي خُط َّ بھ اللوح المحفوظ- أو َّ ل الأَقْلامِ وأفضَلُھا وأجَل ُّھا،<br />
وقالَ غیرُ واحدٍ من أھل التفسیر: إن َّھُ القلَمُ الذي أقسمَ اللھُ بھ في قولِھ تعالى:<br />
[ن. والقلَمِ وما یَسطُرونَ] القلم:<br />
.2-1<br />
160<br />
( 1 )<br />
تعالى القلم، ثم خلق العرش، ثم َّ قد َّر المقادیر وأمر القلم بأن یكتب كل شيء<br />
یكون، وعلى ھذا الإعتبار یكون العرش مستثنى مِم َّا كتبھ القلم، لحصول خلقھ<br />
قبل حصول الكتابة، واللھ أعلم. والأحادیث التي استشھد بھا الشیخ ناصر، تدل<br />
على أن القلم كان أو َّ ل مخلوق، ولیس على أن َّ الكتابة حصلت قبل خلق العرش،<br />
وبخاصة أن "ثم َّ" -التي بسببھا حصل الإشكال والخلاف- تفید أ َّن الكتابة حصلت<br />
بعد زمن- اللھ یعلمھ- من خلق القلم..<br />
بل الذي دل َّت علیھ السنة أن أول المخلوقات كان القلم، لقولھ ε: "إن َّ أو َّ لَ شيء<br />
خلقھ اللھ تعالى القلمُ، وأمره أن یكتب كل شيء یكون". (السلسلة الصحیحة:<br />
(133)). وما استدل بھ الشارح لیس فیھ دلیلٌ على أسبقیة العرش للقلم، وإنما<br />
فیھ أن خلق العرش متقدم على كتابة المقادیر، وھناك فرق بین خلق القلم<br />
وكتابة المقادیر كما تقدم بیان ذلك.<br />
وفي قول الش َّارح : ھل القلم أول المخلوقات أو العرش..؟ تسلیم منھ بأن َّ المحدَث<br />
لھ بدایة ولھ أو َّ ل، وأولھ العرش -على قولھ- وھذا مغایر لما قالھ من قبل: أ َّن<br />
الحوادث متسلسلة إِلى ما لا بدایة، ولیس لھا أول، وأن َّ ما من مخلوق إلا َّ وقبلھ<br />
مخلوق إِلى ما لا نھایة!! فتأمل.<br />
(2 ( صحیح وتقدم تخریجھ.<br />
(3 ( ھذا على إفتراض صحة الكلمة: "فقال" أم َّا أنھا لا تصح كما تقدم، لا یصح<br />
بالمقابل أن تكون دلیلاً یُرد ُّ بھ الصحیح الثابت وھو: "ثم قال".
ε<br />
والقلم الثاني: قلَمُ الوحي وھو الذي یُكتبُ بھ وحي ُّ اللھِ إِلى أنبیائِھ ورُ سُلِھ،<br />
وقد رُ فعَ النب ُّي لیلَةَ أُسريَ بھ إِلى مستوىً یَسْمَعُ منھ صَریفَ الأقلامِ ، فھذه<br />
الأقلامُ ھي التي تَكتُبُ ما یوحیھ اللھ تباركَ وتعالى من الأمورِ التي یُدَبّ ِرُ<br />
بھا أمرَ العالَمِ العُلوي والس ُّفلي.<br />
قولُھ: "فَلَوِ اجتَمعَ الخَلْقُ كُل َّھُمْ على شيءٍ كتَبَھُ اللھُ تعالى أَن َّھُ<br />
كائِنٌ، لیَجْعَلُوهُ غیرَ كائِنٍ، لَمْ یَقْدِرُوا علیھ، ولو اجتمَعُوا كُل ُّھُم على<br />
شيءٍ كَتبَھُ اللھُ تعالى فیھِ أن َّھُ غیرُ كائِنٍ لیجعَلُوهُ كائِناً، لم یَقْدِرُوا<br />
علیھِ. جف َّ القَلَمُ بما ھو كائِنٌ إِلى یومِ القِیامَةِ".<br />
ش: تَقد َّمَ حدیثُ جاب ٍر عن رسولِ اللھ ε، قال: جاء سُرَ اقَةُ بنُ مالكِ بن<br />
جُعْشُمْ، فقال: یارسولَ اللھِ بَیّ ِن لنا دیننا كأن َّا خُلِقْنا الآنَ، فیمَ العملُ الیومَ؟<br />
أفیما جَف َّتْ بھ الأقلامُ، وجَرَ تْ بھ المقادیرُ ؟ أَمْ فیما یُستَقْبَلُ؟ قال: "لا، بل فیما<br />
جَف َّتْ بھ الأقلامُ، وجَرَ تْ بھ المقادیرُ " (1)<br />
وعن ابن عباس، قال: كنتُ خَلْفَ النبيّ ε ِ یوماً، فقال لي: "یاغُلامُ أَلا<br />
أُعلّ ِمُكَ كلماتٍ: احْفظِ اللھَ یَحْفَظْكَ ، احفَظِ اللھَ تجِ دْهُ تُجاھَكَ ، إذا سألتَ فَاسألِ<br />
اللھَ، وإذا اسْتَعَنْتَ فاستَعِنْ باللھِ، واعلَمْ أن َّ الأم َّةَ لو اجتمعَت على أ ْن<br />
ینفعوكَ بشيءٍ لَمْ ینفعُوكَ إلا َّ بشيءٍ قَدْ كتبَھُ اللھُ لكَ ، وإن اجتمعوا على أَنْ<br />
یَضر ُّ وكَ بشيءٍ لم یضر ُّ وكَ إلا َّ بشيءٍ قد كَتَبَھُ اللھ علیكَ ، رُ فِعَتِ الأقلامُ،<br />
وجَف َّتِ الص ُّحُفُ ". رواه الترمذي، وقال: حدیث حسن صحیح (2) .<br />
( 1 )<br />
أي أن العمل یكون فیما قد كُتب وقدر، فالمرء یعمل ویتحرك في المكتوب<br />
والمقدور علیھ لا یستطیع أن یتخلف عن شيء منھ، كما صح عن النبي<br />
"اعملوا فكل ٌّ میس َّرٌ لما خُلِقَ لھ".<br />
( 2 )<br />
قال الشیخ ناصر: صحیح لغیره، وقد خر َّ جتھ في "السنة" <strong>لابن</strong> <strong>أبي</strong><br />
عاصم )<br />
:ε<br />
161
وفي روایة غیر الترمذي: "احفظِ اللھَ تجدْهُ أمَامَكَ ، تعَر َّ ف إِلى اللھِ في<br />
الر َّ خاءِ یَعْرِ فْكَ في الشّ ِد َّةِ، واعلَمْ أن َّ ما أخطَأَكَ لم یكن لیُصِ یبَكَ ، وما أصابكَ<br />
لم یَكُن لیُخطِئَكَ ، واعلَمْ أن َّ الن َّصْرَ معَ الصبرِ ، وأن َّ الفَرَ جَ معَ الكرْ بِ، وأ َّن<br />
معَ العُسْرِ یُسْراً".<br />
-الأقلامُ أَربَعَةٌ-<br />
الذي دَل َّت علیھ الس ُّن َّة أن َّ الأقلامَ أربعةٌ:<br />
القلَمُ الأو َّ ل: العَام ُّ الش َّامِلُ لجمیعِ المخلوقاتِ، وھو الذي تقد َّم ذِكْرُ هُ م َع<br />
اللوحِ.<br />
القلم الثاني: حینَ خُلِقَ آدَمُ علیھ السلام، وھو قلمٌ عامٌ أیضاً، لكن لبني<br />
آدم، ورَ دَ في ھذا آیاتٌ تدُل ُّ على أن َّ اللھَ قَد َّرَ أعمال بني آدَمَ وأرزاقَھُم<br />
وآجالَھُم وسعادَتَھم عقیبَ خَلْقِ أبیھم.<br />
القلمُ الثالث: حین یُرْ سَلُ الملَكُ إِلى الجنینِ في بطنِ أُم َّھِ، فَیَنْفُخُ فی ِھ<br />
الر ُّ وحَ، ویُؤمَرُ بأربع كلماتٍ: یَكتبُ رزقَھُ، وأَجَلَھ، وعملَھُ، وشَقي ٌّ أو<br />
سعید (1) .<br />
فیعود لتلقیھم العقیدة من غیر الكتاب والسنة، وانشغالھم بكتب یغلب علیھا طابع<br />
الفلسفة وعلم الكلام، لاتمت إِلى الحق بصلة..<br />
لذا نقول: كما یجب تلقین الأبناء العقیدة والتوحید، یجب اعتماد الكتاب والسنة<br />
في ھذا التلقین. فجریمة أیما جریمة أن یبلغ المرء سن َّ الحلم وھو یعرف<br />
الصلاة، لكنھ لا یعرف لِمن یُصلي!! وما ھي صفات وخصوصیات من یصلي<br />
لھ.<br />
وكان الس َّلف یتعلمون أولاً الإیمان والتوحید ثم ینصرفون إِلى غیره من العلوم<br />
الشرعیة بحسب الحاجة والأھمیة، كما في الحدیث الذي یرویھ جندب بن عبد<br />
اللھ، قال: كنا مع النبيِّ ε ونحن فتیان فتعلمنا الإیمان قبل أن نتعلمَ القرآن، ثم<br />
تعلمنا القرآن فازدَدْنا بھ إیماناً. صحیح سنن ابن ماجھ: "<br />
162
القلمُ الر َّابعُ: الموضوع على العبدِ عندَ بلوغھِ، الذي بأیدي الكرا ِم<br />
الكاتبینَ، الذین یكتبونَ ما یفعَلُھ بنو آدَمَ(1) .<br />
-إذا كانَ الخیرُ والش َّر ُّ بیدِ اللھِ Υ، وأَن َّھُ لا یكونُ إلا َّ ما یُریدُ،<br />
فالواجبُ إِفْرادُهُ سبحانھ بالخَشْیَةِ والتقوى-<br />
إذا عَلِمَ العبدُ أَن َّ كُلا مِنْ عِنْدِ اللھِ، فالواجِ بُ إفْرادُهُ سبحانھ بالخشیة<br />
والتقوى. قال تعالى: [فلا تخشَوا الناسَ واخشَون] المائدة:<br />
163
(1)<br />
تُدْرَ كُ، فعلیكَ بالأمرِ الذي یُصلِحُكَ فالْزَ مْھُ، ودَعْ ما سواهُ، فلا تُعَانِھِ،<br />
فإرضاءُ الخَلْقِ لا مَقدُورٌ ولا مَأمورٌ (2) ، وإرضاءُ الخالِقِ مَقْدورٌ ومأمورٌ<br />
-ثِمارُ تَقْوَ ى اللھ-<br />
فإذا ات َّقى العبدُ رب َّھُ، كفاهُ مَؤُونَةَ الن َّاسِ ، كما كتبت عائشةُ إِلى معاویة،<br />
روي عنھا مرفوعاً وموقوفاً: "مَنْ أرضَى اللهَ بِسُخْطِ الن َّاسِ ، رضيَ اللھُ<br />
عَنھُ وأرضَى عنھ الن َّاسَ . ومَنْ أرضَى الن َّاسَ بِسُخْطِ اللھِ، عادَ حامِدُهُ مِنَ<br />
الناسِ ذاماً" (4) . فَمَنْ أرضى اللھَ، كَفاهُ مؤْ نةَ الن َّاسِ ورضيَ عنھ، ثم َّ فیما<br />
بعد یَرضَوْ نَ، إذ العاقِبَةُ للتقوى، ویُحِ ب ُّھُ اللھُ، فیُحِ ب ُّھُ الناسُ ، كما في<br />
(الصحیحین) عن النبي ε، أَن َّھُ قالَ: "إذا أَحَب َّ اللھُ العبدَ، نادَى: یاجبریل،<br />
إني أُحِ ب ُّ فلاناً فَأَحِ ب َّھُ، فیُحِ ب ُّھُ جبریلُ، ثم َّ ینادي جبریل في السماءِ: إن َّ اللھَ<br />
یُحِ ب ُّ فُلاناً فَأحِ ب ُّوه، فیُحِ ب ُّھُ أھلُ الس َّماءِ ثم َّ یُوضَعُ لھ القَبُولُ في الأرضِ "،<br />
وقالَ في البغض مثل ذلك.<br />
قالَ بَعْضُ الس َّلَفِ : ما احتاجَ تقي ٌّ قَط ُّ، لقولِھ تعالى: [ومَن یَت َّقِ اللھَ یَجْعَل<br />
لھُ مَخْرَجاً. ویَرزُقْھُ مِن حیثُ لا یَحْتَسِبُ [ الطلاق: 3-2. فقد ضَمِنَ اللھُ<br />
للمتقین أنْ یجعلَ لھم مخرجاً مِم َّا یضیقُ على الناسِ ، وأن یَرْ زُ قَھم مِن حیثُ<br />
لا یحتسِبُونَ، فإذا لم یَحْصُلْ ذلك، دَل َّ على أن َّ في التقوى خَلَلاً، فلیستغفر<br />
اللھ ولیَتُبْ إلیھ، ثم َّ قال تعالى: [ومَن یَتَوَ ك َّلْ على اللھِ فھو حَسْبُھُ] الطلاق:<br />
3. أي: فھو كافیھ، لا یُحْوِجُھ إِلى غیره (5) .<br />
. (3)<br />
(1 ( وھو كل أمرٍ فعلھ أو تركھ یرضي اللھ تعالى.<br />
أي: غیر مُستطاع، ولم یأمر بھ الشرع.<br />
أي: مُستطاع، والشرع قد أَمَرَ بھ.<br />
(4 ( صحیحٌ، رواه الترمذي وغیره. وفي روایة حسنة الإسناد: "من التمسَ رِ ضى<br />
اللھ بسخط الناس رضي اللھ عنھ، وأرضى عنھ الناس، ومن التمس رضى<br />
الناس بسخط اللھ، سخط اللھ علیھ وأسخط علیھ الناس".<br />
(5 ( كان الس َّلف رضوان اللھ علیھم أخوف ما یخافونھ على أنفسھم، معاصیھم،<br />
لما یعلمون ما للمعاصي من آثار سیئة تجلب الذل والدمار على الأنفس والأھل<br />
والدیار، وروي عن بعضھم قولھ: إني لأرى أثر معصیتي في خلقِ دابتي<br />
وامرأتي، فتأم َّل حتى الدواب فھي لا تسلم من آثار معاصي بني آدم. لذا نقول:<br />
لا شيء أفضل لرفع المصائب والكروب، من تقوى اللھ والإستغفار، ویتأمل<br />
معاصیھ التي بسببھا وقع الكرب والضیق، فیقلع عنھا ویتوب إِلى اللھ.. ثم<br />
164<br />
( 2 )<br />
( 3 )
ینظر كیف تنجلي عنھ ھمومھ ومصائبھ، وكیف یفتح اللھ علیھ بركات السماء<br />
والأرض، كما قال تعالى: [ولو أن َّ أھل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا علیھم<br />
بركاتٍ من السماء والأرض، ولكن كذبوا فأخذناھم بما كانوا یكسبون]. أي<br />
أخذناھم بالعذاب بما كذ َّبوا وكانوا یكسبون من الذنوب والمعاصي.<br />
وفي الحدیث القدسي: "وعز َّ تي وعظمتي، لا یعتصم بِيَ عبدٌ من عبادي دو َن<br />
خلقي، أعرف ذلك من نیتھِ، فتكیده السماوات السبعِ ومن فیھن، والأرضون<br />
السبع ومن فیھن، إلا َّ جعلتُ لھ من بینھن َّ مخرجاً..".<br />
وعن البراء بن عازب، مرفوعاً: "ما اختلَجَ عِرْ قٌ ولا عَینٌ، إلا َّ بذنبٍ، وما<br />
یدفعُ اللھ عنھ أكثر". السلسلة الصحیحة: "<br />
165
-تعاطي الأسبابَ والإكتسابَ لا یُنافي التوكل-<br />
ظن َّ بَعْضُ الناس أن َّ التوكل یُنافي الإكتسابَ ، وتعاطي الأسباب (1) ، وأ َّن<br />
الأمورَ إذا كانت مُقد َّرةً، فلا حاجَةَ إِلى الأسباب! وھذا فاسِدٌ، فإن َّ الإكتسابَ :<br />
منھ فَرْ ضٌ ، ومنھ مُسْتحَب ٌّ ، ومنھ مُباحٌ، ومنھ مكروه، ومنھ حرام (2) . وقد<br />
كانَ النب ُّي أفضَلَ المتوكلین، یَلْبَسُ لأْمَةَ الحَرْ بِ(3) ، ویمشي في الأسواقِ<br />
166<br />
ε<br />
ε<br />
كتابھ القیم "الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي". وللذنوب آثار سلبیة<br />
أخرى على صاحبھا فلیراجعھا من یشاء في الكتاب المذكور.<br />
(1 ( ولكن الذي یمكن قولھ: أن َّ التوكل یُنافي تعلق القلب بالأسباب ونسیان خالق<br />
ومیسر ھذه الأسباب، كما یُنافي القلق على العیش، والإستشراف لما في أیدي<br />
الناس..<br />
قال رسول اللھ ε: "لو أن َّ ابن آدم ھرب من رزقھ كما یھرب من الموت،<br />
لأدركھ رزقھ كما یدركھ الموت". السلسلة الصحیحة.<br />
وقال: "إن َّ الرزق لیطلب العبد كما یطلبھ أجلھ". رواه ابن <strong>أبي</strong> عاصم في<br />
السنة، وحسنھ الشیخ ناصر في التخریج. وقال ε: "من تكفل لي أن لایسأل<br />
الناس شیئاً أتكفل لھ بالجنة". صحیح الترغیب والترھیب: "807".<br />
أتى النب َّي رجلٌ، فقال: یارسول اللھ أوصني وأوجِ زْ ! فقال النبي<br />
بالإیاس مم َّا في أیدي الن َّاس، وإیاكَ وما یُعتذر منھ". صحیح الترغیب :<br />
(2 ( وذلك عندما یكون المرء في غنى، فیسعى مكاثراً لمالھ، مُنشغلاً بھ عن<br />
فرائض الإسلام : كالجھاد، والصلاة، والحج..<br />
ε: "علیك<br />
."852"<br />
قال رسول اللھ ε: "وما سبیلُ اللھِ إلا َّ مَن قُتِلَ؟! مَن سعى على والدیھ ففي<br />
سبیل اللھ، ومَن سعى على عیالھ ففي سبیلِ اللھِ، ومَن سعى على نفسھ لیَعِف َّھا<br />
فھو في سبیل اللھ، ومَن سعى مُكاثِراً ففي سبیل الطاغوت، وفي روایة: سبیل<br />
الشیطان". السلسلة الصحیحة: "2232".<br />
وقال ε: "إن َّ اللھ قال: إن َّا أنزلنا المالَ لإقام الصلاة، وإیتاء الزكاة. ولو كان<br />
<strong>لابن</strong> آدم وادٍ لأحب َّ أن یكون لھ ثانٍ ، ولو كان لھ وادیان لأحب َّ أن یكون لھما<br />
ثالث، ولا یملأ جوف ابن آدم إلا َّ التراب، ثم یتوبُ اللھ على من تاب" صحیح<br />
الجامع: "1781".<br />
(3 ( كان النبي<br />
ε، یُرزق بالجھاد في سبیل اللھ -أنعم بھا من حرفة- كما جاء ذلك<br />
في الحدیث، قال رسول اللھ بالسیفِ حتى یُعبَدَ اللھُ لا شریكَ لھ،<br />
وجُعِلَ رزقي تحت ظل َّ رمحي، وجُعِلَ الذّ ِل َّةُ والص َّغَارُ على مَن خالف أمري،<br />
ε: "بُعثتُ
.7<br />
للاكتسابِ، حتى قال الكافرون: [مالِ ھذا الر َّسُولِ یأكُلُ الطعامَ ویَمشِي<br />
في الأسواقِ] الفرقان:<br />
قولُھ: "ومَا أخطأَ العَبْدَ لَمْ یَكُنْ لیُصیبَھُ، ومَا أَصَابَھُ لَمْ یَكُنْ<br />
لیُخطِئَھُ".<br />
ش: ھذا بِناءٌ على ما تَقَد َّمَ مِنْ أن َّ المقْدُورَ كائِنٌ لا مَحَالَةَ(1) .<br />
قولُھ: "وعلى العَبْدِ أَنْ یعْلَمَ أَن َّ اللھَ قَدْ سَبَقَ عِلْمُھُ في ِ كُلّ كائِ ٍن<br />
مِنْ خَلْقِھِ، فقَد َّرَ ذلك تَقْدیرَاً مُحكَمَاً مُبْرَماً، لیسَ فیھِ ناقِضٌ<br />
مُعَقّ ِبٌ ، ولا مُزِ یلٌ ولا مُغَیّ ِرٌ، ولا مُحَوِّلٌ ولا ناقِصٌ ، ولا زَائِدٌ مِنْ<br />
خلْقِھِ في سَماواتھِ وأرْ ضِ ِھ (4) ".<br />
ش: ھذا بناءٌ على ما تَقَد َّمَ، مِن أن َّ اللھَ تعالى قّدْ سَبَقَ علمُھُ بالكائناتِ،<br />
وأن َّھ قَد َّرَ مَقادیرَ ھا قبلَ خَلْقِھا، كما قالَ ε: "قَد َّرَ اللھُ مَقادِیرَ الخَلْقِ قبلَ أَنْ<br />
یَخْلُقَ الس َّماواتِ والأرضَ بخمسینَ ألفَ سَنَةٍ، وعَرْ شُھُ على الماءِ". فإ َّن<br />
حصولَ المخلوقاتِ على ما فیھا مِن غرَ ائبِ الحِ كَمِ ، لا یُتَصَو َّ رُ إِیجَادُھا إلا َّ<br />
(2) ، ولا<br />
(3)<br />
ومن تشب َّھ بقوم فھو منھم". رواه أحمد وغیره. قال الشیخ شاكر: إسناده صحیح:<br />
167<br />
ε<br />
."5114"<br />
( 3 )<br />
( 4 )<br />
(1 ( صح َّ عن النبي أن َّھ قال: "إن َّ العبدَ لا یبلغُ حقیقةَ الإیمان حتى یعلم أن َّ ما<br />
أصابَھ لم یكن لیُخطئھ، وما أخطَأَهُ لم یكن لیصیبَھ". رواه ابن <strong>أبي</strong> عاصم في<br />
"السنة"، وصححھ الشیخ ناصر في التخریج.<br />
( 2 )<br />
أي باطلٌ یُبطلُ ما قَد َّرَ ه اللھُ في خَلْقِھ وأراده، فا تعالى أعلى وأجل من أن<br />
یكون لھ ند ٌّ في خَلْقِھ لھ أدنى تصرف فیھ.<br />
كما أن َّ اللھَ لا مُعقّ ِبَ لحكمھِ وتشریعھ، كذلك لا مُعقّ ِبَ لقضائھ وقدره، وإسلام<br />
المرء لا یتحقق إلا َّ بعد الإستسلام الكامل لتشریعھ، ولِقضائھ وقدَره، فاللھ تعالى<br />
أعلى وأجل من أن یُسأل عما یفعل ویُقَدّ ِر، كما قال تعالى: [لایُسأل عما یفعل<br />
وھم یُسألون] وھذا من أخص خصائصھ وصفاتھ.<br />
انتفاء المعارض والمعقب من خلقھ، لدلیل على وحدانیتھ، وعظمتھ وكمال<br />
قدرتھ وعلمھ، سبحانھ وتعالى.
مِن عالِمٍ قَدْ سَبَقَ علمُھ على إیجادِھا، قالَ تعالى:<br />
الملك:<br />
اللطِیفُ الخبیرُ] (1)<br />
[ألا یَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وھو<br />
168
وقولُھ: "والاعترافُ بتوحیدِ اللھِ ورُبُوبی َّتِھِ" أي: لایتِم ُّ التوحیدُ<br />
والاعترافُ بالر ُّ بوبیةِ إلا َّ بالإیمانِ بصفاتِھِ تعالى، فإن َّ مَنْ زَ عَمَ خالِقاً غَیْ َر<br />
اللھِ، فَقَد أشركَ ، فكیفَ بِمَن یَزْ عُمَ أن َّ كُل َّ أحَدٍ یَخْلُقُ فِعْلَھُ(1) ؟! ولھذا كانت<br />
القَدَری َّةُ مجوس ھذهِ الأم َّةِ.<br />
روى أبو داود عن ابن عمَرَ ، عن النبيّ ε، ِ قال: "القَدَرِ ی َّةُ مجوسُ ھذهِ<br />
الأُم َّةِ، إِنْ مَرِ ضُوا، فلا تَعودُوھُم، وإِنْ ماتُوا فلا تَشْھَدُوھُم" (2) .<br />
قولُھ: "فَوَ یْلٌ لِمَنْ صارَ ِ تعالى في القدَرِ خَصیماً، وأحضَرَ<br />
للن َّظَرِ فیھِ قَلْباً سقیماً، لَقدِ التَمسَ بوَ ھمِھِ في فَحْصِ الغیبِ سِر َّاً<br />
كتیماً، وعَادَ بِمَا قالَ فیھِ أَف َّاكاً أَثِیْمَاً".<br />
ش: اعلَمْ أن َّ القَلْبَ لھ حیاةٌ وموتٌ ، ومرضٌ وشِفَاءٌ، وذلكَ أَعْظَمُ مِم َّا<br />
للبدَنِ، قال تعالى: [أَوَ مَنْ كانَ میتاً فأحییناهُ وجعلنا لَھُ نوراً یمشي بھِ في<br />
الن َّاسِ كمن مَثَلُھ في الظ ُّلُماتِ لیسَ بخارِ جٍ منھا] الأنعام:<br />
169
-مَرَضُ القَلْبِ نوعا ِن-<br />
قلبھ المعروف وینكر المنكر. قال الھیثمي في "المجمع" 275/7: رواه<br />
الطبراني، ورجالھ رجال الصحیح. وعنھ قال: إذا رأیتَ الفاجر فلم تستطع أن<br />
تغیر علیھ، فاكفھر في وجھھ. قال الھیثمي في "المجمع"<br />
الطبراني باسنادین في أحدھما شریك وھو حسن الحدیث، وبقیة رجالھ رجال<br />
الصحیح. ومن علامات إیمان المرء أن تسره حسنتھ، وتسیئھ سیئتھ، كما جاء<br />
في الحدیث: "مَنْ سَر َّ تھ حسنتھ وساءتھ سیئتھ فھو مؤمن". لذا كان من نواقض<br />
الإیمان، عدم إنكار القلب للمنكر؛ لأنھ لیس بعد إنكار القلب سوى الرضى،<br />
والرضى بالكفر كفر، كما ھو منصوص علیھ.<br />
قال تعالى: [وقد نزل علیكم في الكتاب أن إذا سمعتم آیات اللھ یُكفر بھا<br />
ویُستھزأ بھا فلا تقعدوا معھم حتى یخوضوا في حدیث غیره إنكم إذاً مثلھم].<br />
فھو مثلھم لأن َّ جلوسھ معھم من غیرِ إكراهٍ أو إنكارٍ ، قرینة دالة على الرضى<br />
بحالھم وكفرھم، ولو كان صادقاً أنھ غیر راضٍ بصنیعھم لخرج من عندھم وما<br />
جلس معھم.<br />
وقال ε عن تغییر المنكر: "فإنْ لم یستطع فبقلبھ وذلك أضعف الإیمان". وقال:<br />
"ولیس وراء ذلك من الإیمان حبة خردَل". لأنھ لیس وراء ذلك سوى الإقرار<br />
والرضى.<br />
وقیل <strong>لابن</strong> مسعود من میت الأحیاء؟ فقال: الذي لایعرف معروفاً ولا یُنكِرُ<br />
منكراً.<br />
قال ابن تیمیة في "الفتاوى" 41/7: فإنْ لم یكن مبغضاً لشيءٍ من المحرمات<br />
أصلاً، لم یكن معھ إیمان أصلاً ا-ھ.<br />
وقد دل َّت السن َّةُ أن َّ الراضي بالمنكر كان كفاعلھ وإن لم یشھده، قال رسول اللھ<br />
ε: "إذا عُملت الخطیئة في الأرض، كان مَن شھدھا فكرھھا كمن غاب عنھا،<br />
ومَن غاب عنھا فرضیھا كان كمن شھدھا". صحیح الجامع الصغیر: "689".<br />
لذا من الممكن القول: أن َّ من فعل المنكر عن ضعفٍ وھو كاره، غیر مستحل لھ،<br />
أخف ُّ جرماً وأھون بكثیر ممن یرضى بالمنكر وإن لم یأتھ، والرضى غالباً ما<br />
یكون لھ قرائن عملیة ظاھرة تدل ُّ علیھ، والمسألة قد استوفیتھا بحثاً في كتابي<br />
"قواعد في التكفیر" فلیراجع.<br />
276/7: رواه<br />
170
ومرَ ضُ القلبِ نوعانِ: مرَ ضُ شَھْوَ ةٍ، ومرَ ضُ شُبْھَةٍ، وأَرْ دَؤُھُما مرضُ<br />
الش ُّبھَةِ(1) ، وأَردأُ الش ُّبَھِ ما كانَ مِنْ أمرِ القَدَرِ . وقَدْ یَمْرَ ضُ القلْبُ ، ویشتد ُّ<br />
مرضُھُ، ولا یَعْرِ فُ بھ صاحِ بُھ، لاشتغالِھِ وانصرافھِ عَن مَعْرِ فَةِ ص َّحتِھ<br />
وأسبابِھا، بَلْ قد یموتُ وصاحِ بُھُ لا یشعرُ بموتھِ، وعلامَةُ ذلك أَن َّھُ لا تؤلِمُھُ<br />
جِ راحاتُ القبائحِ، ولا یُوجِ عُھُ جَھْلُھُ بالحَقِّ وعقائِدُهُ الباطِلَةِ. فإن َّ القلبَ إذا<br />
كان فیھ حیاةٌ، تأَل َّم بورودِ القبیح علیھ، وتأل َّمَ بجَھْلِھِ بالحقِّ بحَسْبِ حیاتِھِ.<br />
وقد یشعرُ بمرضھِ، ولكن یشتَد ُّ علیھ تحَم ُّلُ مرارَ ةِ الدواءِ والصَبْرِ علیھا،<br />
فیُؤثِرُ بقاءَ ألَمِھِ على مَشَق َّةِ الد َّواء، فإن َّ دواءَهُ في مخالفةِ الھوى (2) ، وذلك<br />
أصْعَبُ شيءٍ على الن َّفسِ ، ولیس لھُ أنفَعُ منھ.<br />
171<br />
( 1 )<br />
ھو أردؤھما لأن صاحبھ في الغالب لا یحس بمرضھ، وبالتالي فلا ینھض<br />
لمعالجتھ بالدواء النافع، وھو من الذین ضل سعیھم وھم یحسبون أنھم یحسنون<br />
صنعاً.<br />
( 2 )<br />
اعلم أن من الھوى ما یكون طاغوتاً ومعبوداً من دون اللھ تعالى، وذلك عندما<br />
یُطاع ویُت َّبع في معصیة اللھ تعالى، بحیث یجعل مصدراً للحكم على الأشیاء<br />
من غیر سلطان من اللھ، فما یراه ھواه حقاً فھو الحق عنده. وما یراه باطلاً<br />
فھو الباطل عنده وإن جاء حكمھ مخالفاً لشرع اللھ تعالى.<br />
ومن صور طغیان الھوى والعبودیة لھ أن تعقد الموالاة والمعاداة فیھ وعلیھ،<br />
ولیس على أساس ھدي اللھ ووحیھ، فھو یوالي ما یھواه لا ما یجب علیھ أن<br />
یوالیھ، ویعادي من یھوى معاداتھ وإن كان الواجب الشرعي یقضي بموالاتھ<br />
ونصرتھ. فالھوى في ھذه الصورة یكون إلھاً معبوداً من دون اللھ، وصاحبھ<br />
في حقیقة أمره یتألھ ما یھواه لا ما یجب علیھ أن یتألھھ ویعبده، وقد جعل من<br />
ھواه طاغوتاً ونداً تعالى في كثیر من خصائصھ، كما قال تعالى: [ولا تُطِعْ<br />
من أغفلنا قلبَھ عن ذكرنا واتبع ھواه وكان أمره فرطا]، وقال: [أرأیت من<br />
اتخذ إلھھ ھواه وأضل َّھ اللھُ على علم]. وقال: [أرأیت من اتخذ إلھھ ھواه<br />
أفأنت تكون علیھ وكیلا].<br />
قال ابن تیمیة في الفتاوى "359/8": فمن كان یعبد ما یھواه فقد اتخذ إلھھ ھواه،<br />
فما ھویھ إِلھھ فھو لا یتأل َّھ من یستحق التألیھ، بل یتألھ ما یھواه، وھذا المتخذ إلھھ<br />
ھواه لھ محبة كمحبة المشركین لآلھتھم، ومحبة عباد العجل لھ، وھذه محبة مع<br />
اللھ لا محبة ، وھذه محبة أھل الشرك. والنفوس قد تد َّعي محبة اللھ، وتكون<br />
في نفس الأمر محبة شرك تحب ما تھواه وقد أشركتھ في الحب مع اللھ ا-ھ.<br />
نعوذ باللھ من الشرك واتباع الھوى، أو نضل بعد إذ ھدانا اللھ.
-علامَةُ مرضِ القَلْبِ عُدُولُھ عنِ الأغْذِیَةِ الن َّافِعَةِ إِلى الأغذی ِة<br />
الض َّار َّةِ-<br />
وعلامَةُ مَرضِ القلبِ عُدُولُھ عنِ الأغذیَةِ الن َّافِعَةِ المُوافِقَةِ لھ إِلى الأغذیَةِ<br />
الض َّار َّ ةِ، وعُدولُھ عن دوائھِ الن َّافعِ(1) إِلى دوائِھِ الض َّار. فالقلبُ الصحیحُ یؤثِرُ<br />
الن َّافِعَ الش َّافي على ِ الض َّارّ المُؤْ ذي، والقلبُ المریضُ بِضدّ<br />
-أَنْفَعُ الأَغذِیَةِ والأَدْوِیَةِ الإیمانُ والقرآنُ-<br />
أنفَعُ الأغذیَةِ غِذاءُ الإیمانِ، وأنفعُ الأدویةِ دواءُ القرآنِ، وكل ٌّ منھما فیھ<br />
الغِذاءُ والد َّواءُ.<br />
قال تعالى: [قل ھو للذین آمنُوا ھُدىً وشِفَاءً] فصلت:<br />
ِ ذلك.<br />
172
قالَ عبدُ الرحمن بنُ إسماعیل المعروف بأبي شَامَة في كتابِ (الحوادث<br />
والبدع): “حیث جاء الأمر بلزومِ الجماعةِ، فالمُرادُ لُزُ ومُ الحَقِّ واتباعُھُ،<br />
وإنْ كان المتمَسّ ِكُ بھ قلیلاً، والمُخالِفُ لھ كثیراً، لأن َّ الحَق َّ ھو الذي كانت<br />
علیھ الجماعةُ الأولى من عھدِ النبيّ ε ِ ولا نَظَرَ إِلى كثرَ ةِ أھلِ<br />
وأصحابھِ ψ<br />
173<br />
ε<br />
الباطِلِ بعدَھم (1) ”.<br />
( 1 )<br />
( 2 )<br />
وعن الحسن البصري رحمھ اللھ أن َّھ قال: “والس ُّن َّةُ -والذي لا إلھ إلا َّ ھو-<br />
بینَ الغالي والجافِي، فاصبِروا علیھا رَ حِ مَكُمُ اللھ، فإن َّ أھلَ الس ُّن َّة كانوا<br />
أقَل َّ الن َّاسِ فیما مضى وھم أقل الناس فیما بَقيَ(2) ، الذین لم یذھبوا مع أَھْلِ<br />
الإترافِ في إترافِھم، ولا معَ أَھْلِ البدَعِ في بدَعِھِمْ، وصبَرُ وا على سُن َّتِھِ ْم<br />
حتى لَقُوا رَ ب َّھُم، فكونوا كذلك" (3) .<br />
قال عبد اللھ بن مسعود رضي اللھ عنھ، لعمرو بن میمون: جمھور الجماعة<br />
ھم الذین فارَ قُوا الجماعَة، والجماعة ما وافق الحق وإن كنت وحدك.<br />
وقال نعیم بن حماد: إذا فسدت الجماعة فعلیك بما كانت علیھ الجماعة قبل أن<br />
تفسد الجماعة وإن كنت وحدك فإنك أَنت الجماعَةَ حینئذٍ.<br />
قال ابن القیم في (أعلام الموقعین): اعلم أَن َّ الإجماعَ والحجة والسواد الأعظم<br />
ھو العالم صاحب الحق وإن كان وحده، وإن خالفھ أھل الأرض ا-ھ.<br />
أقول: مِم َّا تقد َّم یُعلم بطلان مذھب الدیمقراطیین، حیث یعتبرون الحق الذي یجب<br />
اتباعھ یكون دائماً مع الأكثریة، ولو اجتمعوا على الباطل!! ولا شك أن الأكثریة<br />
بھذا الاعتبار طاغوت یُعبَدُ من دون اللھ.<br />
یصدق ذلك قولھ في (صحیح مسلم): "بدأ الإسلام غریباً وسیعود كما بدأ<br />
غریباً، فطوبى للغرباء". وفي روایة: "طوبى للغرباء"، قیلَ: ومَن الغرباء<br />
یارسول اللھ؟ قال: "ناسٌ صالحون قلیل في ناسِ سوءٍ كثیر، ومَن یعصیھم أكثر<br />
ممن یطیعھم". وفي روایة: "طوبى للغرباء الذین یمسكون بكتاب اللھ حین<br />
یُترَ ك، ویعملون بالسنة حین تُطفأ".<br />
( 3 )<br />
قال ابن مسعود: اتبعوا ولا تبتدعوا، فقد كُفیتم كل َّ ضلالة. وقال: علیكم بالعلم،<br />
وإیاكم والتبدع والتنطع والتعمق، وعلیكم بالعتیق. وعن ابن عباس قال: علیكم<br />
بالإستقامَةِ والأثر وإیاكم والتبدّع. وعن عبد اللھ بن المبارك، قال: أَعلم أَ َّن<br />
الموت الیوم كرامة لكل مسلم لقي اللھ على الس ُّن َّة، فإنا وإنا إلیھ راجعون،<br />
فإلى اللھ نشكو وحشتنا وذَھاب الإخوان، وقِلّة الأعوان، وظھورِ البدع، وإِلى<br />
اللھ نشكو عظیم ما حل َّ بھذه الأمة مِن ذھاب العلماء وأھل الس ُّن َّة، وظھور<br />
البدع.
وقولُھ: "لقد التمسَ بوھمھِ في فَحْصِ الغیبِ سِر َّاً كتیماً" أي طلبَ<br />
بوھمھ في البحث عن الغیبِ سِراً مكتوماً، إذِ القَدَرُ سِر ُّ اللھِ في خَلْقِھِ. فھو<br />
یَرومُ ببحثھِ الاطلاعَ على الغیبِ، وقَدْ قال تعالى: [عالِمُ الغیبِ فلا یُظھِ ُر<br />
على غیبھِ أحداً] الجن:<br />
174
ش: قال تعالى:<br />
[ذُو العَرْ شِ المَجیدُ] البروج:<br />
175
وفي الحدیث: "ما الكرسي في العرشِ إلا َّ كَحَلْقَةٍ مِن حَدیدٍ أُلقِیَتْ بینَ<br />
ظَھْرَ ي فلاةٍ من الأرض" (1) .<br />
وقال غیرُ واحدٍ مِن الس َّلَفِ : الكرسي ُّ بین یديّ العرشِ كالمِرْ قاةِ(2) إلیھ.<br />
قولُھ: "وھو مُسْتَغْنٍ عِنِ العَرْ شِ وما دُونَھ، مُحِ یطٌ ِ بكُلّ شي ٍء<br />
وفَوْ قَھُ، وقَدْ أَعْجَزَ عنِ الإحاطَةِ خَلْقَھُ".<br />
ش: قال تعالى: [فإن َّ اللھَ غني ٌّ عَنِ العالمین] آل عمران:<br />
176
ولیس المُرادُ مِن إحاطتھِ بخلقھ أن َّھ كالفلك، وأ َّن المخلوقاتِ داخِ لُ ذات ِھ<br />
المُقد َّسةِ، تعالى اللھ عن ذلك عُلُو َّ اً كبیراً، وإن َّما المرادُ: إحاطةُ عظَمَةٍ<br />
وسَعَةٍ وعِلْمٍ وقُدْرَ ةٍ(1) ، وأنھا بالنسبة إِلى عظمتھ كالخردلةِ، كما رُ وي عن<br />
(1 ( مثل ھذا النوع من التأویل صحیح، ومطلوب حتى لانقع في المحظور ونرد<br />
المحكم بالمتشابھ، والمحكم ھنا: أن َّ اللھ بائن عن خلقھ غیر حالٍ فیھ أو العكس،<br />
وكل لفظ أو عبارة مغایرة لھذا المعنى -ظاھراً- فھو متشابھ لا بُد َّ من رَ دّ ِه إِلى<br />
المحكم. وھو كقولھ تعالى: [وھو معكم أینما كنتم] فالمعیة ھنا معیة علم وقدرة<br />
وإرادة كما یقول ابن عباس وغیره من الس َّلف، وھذا التأویل لا بد منھ لأن<br />
المحكم الذي دلت علیھ النصوص الشرعیة أن اللھ تعالى في السماء بائن عن<br />
خلقھ، ومستوىٍ على عرشھ استواءً یلیق بكمال جلالھ وصفاتھ. والشاھد أنھ<br />
عندما تأتي ألفاظ المتشابھ متعارضة في وجھ من الوجوه مع المحكم فلا بد من<br />
تقدیم المحكم وجعلھ حكماً على المتشابھ، وھذا لا یعتبر من التأویل الذي<br />
یفضي إِلى التعطیل والجحود، كما لو قدم المتشابھ على المحكم فإنھ یؤدي إِلى<br />
التعطیل والجحود، كما قال تعالى: [ھو الذي أنزل علیك الكتاب منھ آیات<br />
محكمات ھن أم ُّ الكتاب وأخَرُ متشابھات فأما الذین في قلوبھم زیغٌ فیتبعون ما<br />
تشابھ منھ ابتغاءَ الفتنة وابتغاء تأویلھ] آل عمران:<br />
قال ابن كثیر في التفسیر: یخبر تعالى أن في القرآن آیات محكمات ھن أم<br />
الكتاب أي بینات واضحات الدلالة لا التباس فیھا على أحد، ومنھ آیات أخر فیھا<br />
اشتباه في الدلالة على كثیر من الن َّاس أو بعضھم، فمن رد ما اشتبھ إِلى الواضح<br />
منھ وحَك َّمَ محكمھ على متشابھھ عنده فقد اھتدى، ومن عكس انعكس، [وأُخر<br />
متشابھات] أي تحتمل دلالتھا موافقة المحكم وقد تحتمل شیئاً آخر من حیث اللفظ<br />
والتركیب لا من حیث المراد، وقولھ: [ابتغاء الفتنة] أي الإضلال لأتباعھم<br />
إیھاماً لھم أنھم یحتجون على بدعتھم بالقرآن وھو حجة علیھم لا لھم، وقولھ<br />
تعالى: [وابتغاء تأویلھ] أي تحریفھ على ما یریدون ا-ھ.<br />
ومن صور التحریف الباطل المحدث في ھذا الزمان، تسمیة دعاة الضلالة<br />
تحریفاتھم الباطلة، وتأویلاتھم الفاسدة بالتجدید، أو فقھ التجدید، أو تطویر الفقھ<br />
والدین لمواكبة حاجیات العصر.. وغیر ذلك من الألقاب البراقة المزخرفة<br />
الخداعة، وذلك لتمریر باطلھم وضلالھم على الأمة!!.<br />
.7<br />
177
ابن عباس أنھ قال: ما الس َّماواتُ الس َّبعُ، والأرضونَ الس َّبعُ وما فیھن َّ وما<br />
بینَھُن َّ في یَدِ الرحمنِ، إلا َّ كَخَرْ دَلَةٍ في یَدِ أحدكم (1) .<br />
-إثباتُ صِ فَةِ العلُوِّ والفَوْ قِی َّةِ Υ-<br />
وأم َّا كونھُ فوقَ المخلوقات، فقال تعالى: [وھو القاھِرُ فوقَ عبادِهِ]<br />
الأنعام:<br />
178
وعرشُھُ فوقَ سبعِ سماواتٍ، قلتُ : فإنْ قالَ: إن َّھُ على العرشِ ،<br />
ولكن یقول: لا أدري العرشُ في الس َّماءِ أَم في الأرضِ ؟ قال: ھو كافِ ٌر، لأنھ<br />
أنكرَ أن َّھُ في الس َّماءِ، فَمَن أَنكَرَ أَن َّھ في الس َّماءِ، فقد كَفَر. وزادَ غَیْرُ ه: لأ َّن<br />
اللھَ في أعلى علیین، وھو یُدْعى مِن أَعْلَى، لا مِنْ أسْفَل (2) .<br />
استوى]. (1)<br />
-إثباتُ صِ فَةِ العُلُوِّ بالفطرةِ-<br />
وأم َّا ثبوتُھ بالفطرة، فإن َّ الخَلْقَ جمیعاً بطباعِھم وقلوبِھم الس َّلیمَةِ یرفعونَ<br />
أَیْدِیَھم عندَ الد ُّعاءِ، ویَقْصِ دُونَ جِ ھَةَ العُلُوِّ بقلوبھم عندَ التضر ُّ عِ إِلى الل ِھ<br />
تعالى، وذكرَ محمد بن طاھر المقدسي، أن َّ الشیخَ أبا جعفر الھمذَاني حضرَ<br />
مجلسَ الأستاذ <strong>أبي</strong> المعالي الجویني المعروف بإمام الحرمین (3) ، وھو یتكلمُ<br />
في نفي صِ فَةِ العُلُوِّ، ویقول: كانَ اللھُ ولا عَرْ شَ وھو الآن على ما كان!<br />
فقال الشیخ أبو جعفر: أَخْبِرْ نَا یاأُستاذُ عن ھذه الضرورة التي نجِ دُھا في<br />
قلوبنا؟ فإن َّھُ ما قال عارفٌ قَط ُّ: یا اللھ، إلا َّ وجدَ في قلبھِ ضرورةً تطلُبُ<br />
العُلُ َّو (4) ، لا یَلْتفتُ یَمْنَھً ولا یَسْرَ ةً، فكیفَ ندفَعُ ھذهِ الضرورةَ عَن أنْفُسِنا؟<br />
قال: فلَطَمَ أبو المعالي على رأسھِ ونزَ لَ! وأَظُن ُّھُ قال: وبكى، وقال: حَی َّرَ ني<br />
الھَمَذاني ُّ حَی َّرني الھمذاني!<br />
179<br />
( 1 )<br />
( 2 )<br />
قال الشیخ عبد الرحمن السعدي رحمھ اللھ في مقدمة التفسیر في معنى<br />
الاستواء: لفظ"استوى" في القرآن على ثلاثة أوجھ: إن عُدّ ِيَ ب"على" كان<br />
معناه العلو والإرتفاع كقولھ تعالى: [ثم َّ استوى على العرش]. وإن عُدّ ِيَ ب"إِلى"<br />
فمعناه قصد، كقولھ: [ثم َّ استوى إِلى السماء فسواھن سبع سماوات]. وإن لم<br />
یُعَد َّ بشيءٍ، فمعناه "كمل"، كقولھ تعالى: [ولما بلغ أشده واستوى] ا-ھ.<br />
أین أحناف ھذا الزمان من عقیدة الإمام <strong>أبي</strong> حنیفة رحمھ اللھ في الصفات،<br />
تراھم یتعصبون لذكره ومذھبھ في العبادات والمعاملات، بینما في (الاعتقاد)<br />
الفقھ الأكبر، فھم یُحایدونھ ویتبعون غیره؟!!<br />
(3 ( ھو صاحب كتاب (غیاث الأمم في التیاث الظ ُّلَم).<br />
(4 ( من العادات الحسنة التي لفتت نظري في الیمن أن عوام الن َّاس عندما یأتیھم<br />
سائل یسألھم حاجتھ، تراھم یرفعون إصبعھم إِلى السماء؛ تعبیراً على أن الرازق<br />
ھو اللھ الذي في السماء.
قولُھ: "ونقولُ: إن َّ اللھَ ات َّخَذَ إبراھیمَ خلیلاً، وكَل َّمَ موسى<br />
تكلیماً، إیماناً وتَصدیقاً وتَسلیماً(1) ".<br />
ش: قال تعالى: [وات َّخَذَ اللھُ إبراھیمَ خَلیلاً] النساء:<br />
180
الجَھمی َّةُ حقیقَةَ المحب َّة مِنَ الجانبینِ، وكذلك أَنكَروا حقیقةَ التكلیم، وكانَ أو َّ لُ<br />
مَن ابتدَعَ ھذا في الإسلام ھو الجَعْدُ بنُ دِرھَم، في أوائلِ المئةِ الثانیةِ،<br />
فَضَح َّى بھ خالِدُ بنُ عَبْدِ اللھِ القَسْرِ ي أمیرُ العراقِ والمشرق بواسط، خطبَ<br />
الن َّاسَ یومَ الأضحى فقالَ: أَی ُّھا الن َّاسُ ضَح ُّوا، تَقَب َّلَ اللھُ ضَحایاكُم، فإن َّي<br />
مُضَحٍّ بالجعد بنِ دِرْ ھَم، إن َّھ زعَمَ أن َّ اللھَ لم یتخِ ذْ إبراھیمَ خلیلاً، ولم یُكَلّ ِم<br />
موسَى تكلیماً، ثم َّ نزَ لَ فذبحَھُ. وكان ذلك بفَتْوَ ى أَھل زَ مانھِ مِنْ عُلماءِ<br />
الت َّابعین ψ، فجزاهُ اللھُ عنِ الدینِ وأھلھ خیراً(1) .<br />
وأخذَ ھذا المذھب عن الجعد الجَھْمُ بن صَفْوان (2) ، فأظھره وناظرَ علیھ،<br />
وإلیھِ أُضیفَ قوْ لُ: (الجھمیة). فقتَلَھُ مسلمُ بنُ أحوز أمیرُ خُراسان بھا، ث َّم<br />
انتقلَ ذلك إِلى المعتزلَةِ أتباع عمرو بنِ عُبید، وظَھرَ قَولُھم في أثناءِ خلافَةِ<br />
المأمونِ، حتى امتُحِ نَ أَئم َّةُ الإسلامِ ، ودَعَوْ ھُم إِلى الموافَقَةِ لھم على ذلك.<br />
181<br />
( 1 )<br />
تأم َّل كیف أن َّ الجعد بن درھم قُتِل، لقولھ: أن اللھَ لم یتخذ إبراھیم خلیلاً، ولم<br />
یكلم موسى تكلیماً، وكان ذلك بفتوى من عُلماء التابعین. فكیفَ بمن یقول: أ َّن<br />
شریعة الإسلام لا تصلح لكل زمان، وھي متخلفة عن متطلبات العصر! أو<br />
بفصل الدین عن الدولة والحیاة، ویستحل الحكم بغیر ما أنزلَ اللھ، أو بمن یشتم<br />
اللھ والدین، وغیر ذلك من العبارات الكفریة -التي توقع صاحبھا في الكفر<br />
البواح- التي تكاد أن تكون مألوفة على الأسماع في مجتمعاتنا المعاصرة، التي<br />
تُسمى إسلامیة!! وما من منكر، بل كل الإنكار یكون على مَن ینكر ھذا الكفر<br />
والمجون، تحت ذریعة التطاول على الحریات الشخصیة التي تضمن للمرء<br />
ممارسة الكفر من أوسع أبوابھ!!<br />
( 2 )<br />
قال الذھبي عنھ في میزان الاعتدال 426/1: الضال المبتدع رأس الجھمیة،<br />
ھلك في زمان صغار التابعین وما علمتھ روى شیئاً، لكنھ زرع شراً عظیماً ا-<br />
ھ.<br />
ولھ كلام في الإیمان غریب عجیب، مفاده أن الإیمان ھو تصدیق القلب ومعرفتھ<br />
وإن جاء مجر َّ داً عن النطق والعمل، وھذا لزمھ أن یحصر الكفر في التكذیب<br />
القلبي المضاد للتصدیق القلبي، ورغم بطلان ھذا المذھب وتكفیر الس َّلَف للقائلین<br />
بھ، فإنھ یوجد كثیر ممن یتصدرون مجالس الدعوة والافتاء في زماننا المعاصر<br />
الذین یقولون بھذا القول، وإن لم یُسَم ُّوا أنفسھم جھمیین، فالعبرة بالتحلي ولیس<br />
بالتسمي.
قولُھ: "ونُؤْمِنُ بالملائكَةِ والن َّبیینَ، والكُتُبِ المُنْزَلَةِ على<br />
المُرسَلیَنَ، ونَشْھَدُ أَن َّھُم كانُوا على الحَقِّ المُبینِ".<br />
ش: ھذه الأمور مِن أركانِ الإیمان، قال تعالى: [آمنَ الر َّسولُ بما أُنْزِ لَ<br />
إلیھِ مِنْ ر َّبّ ِھِ والمؤمنونَ كُل ٌّ آمَنَ باللھ وملائكتھِ وكُتُبھِ ورُسُلِھ البقرة:<br />
[<br />
182
[ومَنْ یكفُرْ باللھِ وملائكتھِ ورُسُلِھِ والیومِ الآخِ رِ فقَدْ ضَل َّ ضلالاً بعیدَاً]<br />
النساء:<br />
183
(1) [<br />
]<br />
قال تعالى: فالمُدَبّ ِراتِ أَمْرَاً النازعات: فالمُقَسّ ِماتِ أَمْرَاً<br />
الذاریات: 4. وھم الملائكةُ عندَ أھلِ الإیمان وأتباعِ ال ُّرسُلِ.<br />
فالملائكةُ أَعظَمُ جنودِ اللھ، ومِنْھُم: المُرْ سَلاتُ عُرْ فاً(3) ، والن َّاشِراتُ<br />
نَشْرَ اً(4) ، والفارِ قاتُ فَرْ قاً(5) ، والمُلْقیاتُ ذِكْراً(6) .<br />
وَ منھُمْ: الن َّازِ عات غَرْ قاً(7) ، والن َّاشِطات نَشْطاً(8) ، والسّابِحَات سَبْحَاً(9) ،<br />
فال َّسابقات سَبْقاً(10) .<br />
ومنھم: الص َّافات صف َّاً(11) ، فالز َّ اجِ رات زجْراً(1) ، فالتالیات ذِكْراً(2) .<br />
(2) [<br />
] .5<br />
184<br />
( 1 )<br />
( 2 )<br />
( 3 )<br />
قال ابن عباس: ھم الملائكة وُ كّ ِلُو بأمورٍ عَر َّ فھم اللھ Υ العمل بھا.<br />
قال البغوي: ھي الملائكة یقسمون الأمور بین الخلقِ على ما أُمِروا بھ.<br />
قال البغوي: یعني الریاح أُرسلت متتابعة كعرف الفرس. وقیل عرفاً أي<br />
كثیراً، ھذا معنى قول مجاھد وقتادة.<br />
( 4 )<br />
قال البغوي: یعني الریاح اللینة. وقال الحسن: ھي الریاح التي یرسلھا اللھ<br />
بشراً بین یدي رحمتھ. وقال مقاتل: ھي الملائكة ینشرون الكتب.<br />
( 5 )<br />
قال ابن عباس ومجاھد والضحاك: یعني الملائكة تأتي بما یفرقُ بین الحق<br />
والباطل.<br />
( 6 )<br />
( 7 )<br />
قال البغوي: یعني الملائكة تُلقي الذكر إِلى الأنبیاء.<br />
قال البغوي: یعني الملائكة تنزع أرواح الكفار من أجسادھم. والمراد<br />
بالإغراق المبالغة في المد.<br />
( 8 )<br />
قال البغوي: ھي الملائكة تنشطُ نفس المؤمن، أي تحل حلاً رفیقاً فتقبضھا،<br />
كما ینشط العقال من ید البعیر. قال ابن عباس: ھي نفس المؤمن تنشط للخروج<br />
عند الموت، لما یرى من الكرامة.<br />
( 9 )<br />
قال البغوي: ھم الملائكة یقبضون أرواح المؤمنین یسلونھا سلاً رفیقاً، ث َّم<br />
یدعونھا حتى تستریح كالسابح بالشيء في الماء یرفق بھ. وقال مجاھد<br />
وأبوصالح: ھم الملائكة ینزلون من السماء مسرعین كالفرس الجواد یُقال لھ<br />
سابح إذا أسرع في جریھ.<br />
( 10 )<br />
قال مجاھد: ھي الملائكة سبقت ابن آدم بالخیر والعمل الصالح. وقال مقاتل:<br />
ھي الملائكة تسبق بأرواح المؤمنین إِلى الجنة.<br />
( 11 )<br />
قال ابن عباس: والحسن وقتادة: ھم الملائكة في السماء یصفون كصفوف<br />
الخلق في الدنیا للصلاة .
ومنھم ملائكةُ الر َّ حمةِ، وملائكةُ العذابِ، وملائكةٌ قَدْ وُ كّ ِلُوا بِحملِ<br />
العرْ شِ ، وملائكةٌ قد وُ كّ ِلُوا بِعمارَ ةِ السماوات بالصلاةِ والتسبیح والتقدیس،<br />
فھُم رُ سُلُ اللھِ في خَلْقِھِ وأَمْرِ ه، وسُفراؤهُ بینَھُ وبینَ عبادِهِ، ینزِ لُونَ بالأم ِر<br />
مِنْ عندِهِ في أقطارِ العالَم، ویصعدونَ إلیھ بالأمر.<br />
-الملائِكَةُ عِبَادُ اللھِ وَ جُندهُ یَفعلُونَ ما یُؤمَرونَ-<br />
الملَك رسولٌ مُنَفّ ِذٌ لأَمرِ مُرسِلِھ، فلیسَ لھم من الأمر شيءٌ، بل الأم ُر<br />
كُل ُّھُ ِ الواحدِ<br />
القَھ َّار، وھم یُنفّ ِذونَ أَمرَ ه: [لا یسبِقُونَھُ بالقَوْ لِ وھم بأمرِ هِ یعمَلُون. یَعْلَمُ ما<br />
بینَ أَیْدیِھمِ وما خَلْفَھُم ولا یشفعُونَ إلا َّ لِمَنِ ارتضى وَ ھُمْ من خَشیَتِھِ<br />
مُشفِقُونَ] الأنبیاء:<br />
185
-في المُفاضَلَةِ بینَ الملائِكَةِ وصَالِحي البَشَ ِر-<br />
وقد تكَل َّمَ الن َّاسُ في المفاضَلَةِ بینَ الملائِكَةِ وصالِحي البَشَرِ ، ویُنسَبُ إِلى<br />
أھلِ الس ُّن َّةِ تفضیلُ صالحي البَشَرِ أو الأنبیاء فقط على الملائِكَة. والشیخُ<br />
رحمھ اللھ لَمْ یتعَر َّ ضْ إِلى ھذه المسألةِ بنفيٍ ولا إثباتٍ، ولَعَل َّھُ یكونُ قد<br />
تَرَ كَ الكلامَ فیھا قَصْداً، فإن َّ الإمامَ أبا حنیفة رحمھ اللھ وقَفَ في الجوابِ<br />
عنھا، على ما ذكره في (مآل الفتاوى) (1) ، فإن َّھُ ذكرَ مسائِلَ لم یَقطَعْ أبو<br />
حنیفةَ فیھا بجوابٍ، وعَد َّ منھا: التفضیل بینَ الملائِكَة والأنبیاء. وھذا ھو<br />
الحَق فإن َّ الواجِ بَ علینا الإیمانُ بالملائكةِ والنبیین، ولیسَ علینا أنْ نَعتقِدَ أ ُّي<br />
الفریقینِ أفْضَلُ، فإن َّ ھذا لو كان من الواجِ بِ لَبُیّ ِنَ لنا نَص َّاً، وقد قال تعالى:<br />
[الیومَ أكملتُ لَكُم دینَكُم] المائدة: [وما كانَ رَب ُّكَ نَسیّاً] مریم:<br />
.3<br />
186
وحاصِ لُ الكلامِ : أن َّ ھذه المسأَلَةَ مِن فضولِ المسائِلِ، ولھذا لم یتعَر َّ ضْ<br />
لھا كثیرٌ مَن أھلِ الأصولِ، واللھ أعلم بالصواب.<br />
-وُ جوبُ الإیمانِ بجمیعِ الأَنبیاءِ والر ُّسُلِ-<br />
وأَم َّا الأنبیاءُ والمرسَلونَ، فعلینا الإیمانُ بِمَنْ سَم َّى اللھُ تعالى في<br />
كتابِھِ من رسلھ، والإیمانُ بأن َّ اللھَ تعالى أرسلَ رُ سُلاً سواھم وأنبیاء لا<br />
یَعلَمُ أَسماءَھُم وعدَدَھم إلا َّ اللھُ تعالى الذي أرسلھم. فعلینا الإیمانُ بھم جُملَةً،<br />
لأن َّھ لم یأتِ في عددھم نَص ٌّ .<br />
قال تعالى: [ولقد أرسَلْنَا رُسُلاً مِن قبلِكَ مِنھم م َّنْ قَصَصْنا علیكَ ومِنْھُمْ<br />
م َّنْ لم نَقْصُصْ علَیْكَ [ غافر:<br />
187
تعالى:<br />
[فَھَلْ على الر ُّسُلِ إلا َّ البلاغُ المُبینُ] النحل:<br />
188
ε<br />
اللھِ، وأن َّھا حق ٌّ وھُدى ونورٌ وبیانٌ وشفاءٌ. وأم َّا الإیمانُ بالقرآنِ، فالإقرارُ<br />
بھِ، واتباعُ ما فیھِ، وذلك أمرٌ زائدٌ على الإیمان بغیرهِ من الكت ِب (2) .<br />
قولُھ: "ونُسَمّ ِي أَھْلَ قبلَتنَا مُسلمین مؤمنینَ، ما داموا بما جاءَ<br />
بھِ النب ُّي مُعتَرِ فینَ، ولَھُ ِ بِكُلّ ما قالَھُ وأخبرَ مُصَدّ ِقینَ".<br />
ش: قالَ رسُولُ الل ِھ ε: "مَن صَل َّى صَلاتَنا، واستقبلَ قبلَتَنا، وأكَلَ ذَبیحَتَنا<br />
فھو المُسْلِمُ، لھ ما لَنا وعلیھ ما علینا" (3) .<br />
(1 ( مع الإنتباه أن َّ الأناجیل الموجودة الآن في أیدي النصارى والیھود، قد<br />
اعتراھا التحریف والتغییر والتبدیل من قبل أحبارھم ورھبانھم، وبالتالي لا<br />
یجوز نسبتھا إِلى اللھ تعالى.<br />
(2 ( لأن القرآن جاء خاتماً للكتب السماویة، ومھیمناً علیھا، وناسخاً لھا، وبالتالي<br />
فھو الكتاب الذي یجب على البشریة أن تدین بھ وتعمل بجمیع ما جاء فیھ،<br />
ومھما التمست الھدایة من غیر طریق القرآن، فقد ضل َّت ووقعت في الھلاك<br />
والخسران.<br />
قال رسُول اللھ ε: "القرآن حجة لك أو علیك".<br />
وقال: "أبشروا فإن َّ ھذا القرآن طرفھ بید اللھ، وطرفھ بأیدیكم، فتمسكوا بھ،<br />
فإنكم لن تھلكوا، ولن تضلوا بعده أبداً". رواه الطبراني، صحیح الجامع الصغیر:<br />
.(34)<br />
(3 ( رواه البخاري وغیره. فیھ أن من كانت ھذه صفتھ لا یجوز الإقدام على<br />
تكفیره، ما لم یظھر منھ ما ینقض الإیمان، وكذلك من كانت ھذه صفتھ یُحكم<br />
علیھ بالإسلام ومن دون أن یُسأل عن عقیدَتھ، أو یُجرى لھ اختبار في التوحید،<br />
فمثل ھذا الصنیع لم یؤثر عن الس َّلَف الصالح، بل ھو من خلق الخوارج الغلاة.<br />
وكذلك فیھ: أن َّ تارك الصلاة، أو من انتفت عنھ ھذه الصفات فھو غیر مسلم،<br />
ھذا ما یقتضیھ مفھوم المخالفة للحدیث واللھ تعالى أعلم. قال حنبل: حدثنا<br />
الحمیدي قال: وأخبرت أن ناساً یقولون: من أقر بالصلاة والزكاة والصوم<br />
والحج ولم یفعل من ذلك شیئاً حتى یموت، ویصلي مستدبر القبلة حتى یموت،<br />
فھو مؤمن ما لم یكن جاحداً. إذا علم أن تركھ ذلك فیھ إیمانھ إذا كان مقراً<br />
بالفرائض واستقبال القبلة، فقلت: ھذا الكفر الصراح، وخلاف كتاب اللھ وسنة<br />
رسُولھ وعلماء المسلمین، قال تعالى: [وما أُمروا إلا َّ لیعبدوا اللھ مخلصین لھ<br />
الدین].<br />
189
یشیر الشیخُ أن َّ المسلمَ لا یَخْرُ جُ مِنَ الإسلامِ بارتكابِ الذنبِ(1)<br />
یَستحِ ل ُّھ، أو یُكذّ ِبْ بشيءٍ مِم َّا جاءَ بھ الر َّ سُول<br />
ما لم<br />
. (2) ε<br />
قولُھ: "ولا نَخُوضُ في اللھِ، ولا نُماري في دینِ اللھِ".<br />
ش: یُشیرُ الشیخُ إِلى الكفِّ عَن كلامِ المتكلمین الباطلِ، ِ وذَمّ علمھم، فإنھم<br />
یتكل َّمونَ في الإلھ بغیرِ عِلْمٍ وغیرِ سُلطانٍ أتاھم: [إنْ یَت َّبِعونَ إلا َّ الظن َّ وما<br />
تَھوى الأَنْفُسُ ولَقدْ جاءَھُمْ مِن ر َّبّ ِھمُ الھُدى النجم:<br />
[<br />
190
قولُھ: "وَ لا نُجَادِلُ في القرآنِ، ونَشْھَدُ أَن َّھُ كَلامُ رَبِّ العالَمینَ،<br />
نَزَلَ بھِ الر ُّوحُ الأمینُ، فعَل َّمَھُ سَیّ ِدَ المرسلین مُحَم َّدَاً صلى اللھ<br />
علیھ وعلى آلِھِ أجمعینَ. وھو كَلامُ اللھ تعالى لا یُساویھ شيءٌ مِ ْن<br />
كلامِ المَخْلُوقینَ، ولا نقولُ بخَلْقِھِ، ولا نُخالِفُ جماعَةَ<br />
المُسلِمینَ".<br />
ش: فقولھ: "ولا نجادِلُ في القرآن" أي: لا نقولُ فیھ كما قال أھلُ الزیغِ<br />
واختلَفوا، وقالوا: (ھو مخلوق)، بل نقول: "إنھ كلا ُم ربِّ العالَمین نزَل بھ<br />
الر ُّوحُ الأمین".<br />
وكذلك لا نُجادِلُ في القراءاتِ الث َّابتَةِ، بل نقرَ ؤُه ِ بكُلّ ما ثبَتَ وصَح َّ، عن<br />
عبد اللھِ بن مسعود، قال: سمعتُ رَ جُلاً قَرأَ آیةً سمعتُ رسولَ اللھِ یقرأ<br />
خِ لافَھا، فأخذتُ بیده، فانطلقتُ بھ إِلى رسُولِ اللھِ ε، فذكرتُ ذلك لھ،<br />
فعَرَ فتُ في وجھھِ الكراھَةَ، وقال: "كِلاكُمَا مُحْسِنٌ، ولا تختَلِفُوا، فإن َّ مَنْ<br />
كانَ قبلَكُم اختلَفُوا فَھلكُوا" (1) .<br />
وقولُھ: "نَزَلَ بھ الر ُّوحُ الأمینُ"، ھو جبریلُ علیھ السلام، سُمّ ِيَ رُ وحاً<br />
لأن َّھُ حامِلُ الوحي الذي بھ حیاةُ القلوبِ إِلى الر ُّ سلِ من البشر صلواتُ الل ِھ<br />
علیھم أجمعین.<br />
قال تعالى: [نزَلَ بھِ الر ُّوحُ الأمینُ. على قَلْبِكَ لتكونَ من المُنذِرِ ینَ]<br />
الشعراء:<br />
ε<br />
191
قولُھ: "ولا نُكَفّ ِرُ أحداً من أَھْلِ القبلةِ بذنبٍ ما لم یستحِ ل َّھُ<br />
نقولُ: لا یضر ُّ مع الإیمان ذنبٌ لِمَن عَمِلَھُ".<br />
(1) ، ولا<br />
والجماعة تُعرف بملازمتھا الحق وإن قل َّ عددھا، فقد جاء في صحیح مسلم<br />
وغیره "إن من الأنبیاء من لم یصدقھ من أمتھ إلا َّ رجلٌ واحد".<br />
قال عبد اللھ بن مسعود رضي اللھ عنھ لعمرو بن میمون: جمھور الجماعة<br />
ھم الذین فارقوا الجماعة، والجماعة ما وافق الحق وإن كنت وحدك.<br />
وقال نعیم بن حماد: إذا فسدت الجماعة فعلیك بما كانت علیھ الجماعة قبل أن<br />
تفسد الجماعة وإن كنت وحدك فإنك أنت الجماعة حینئذٍ.<br />
قال ابن القیم في أعلام الموقعین: اعلم أن الإجماع والحجة والسواد الأعظم<br />
ھو العالم صاحب الحق وإن كان وحده، وإن خالفھ أھل الأرض ا-ھ.<br />
فإذا عرفت ذلك -یا مسلم- فعلیك بحبل اللھ المتین فاستعصم بھ، ولا یغرنك<br />
كثرة سواد الباطل وزینة الدنیا التي اجتمعت لھ، فإنما ھم حطب لجھنم یوم<br />
القیامة، ولا یصدنك عن الحق وتكثیر سواده قلة أھلھ وأعوانھ، فإن َّ الدین بدأ<br />
غریباً وسیعود غریباً كما بدأ، فطوبى للغرباء.<br />
وكون مخالفة جماعة المسلمین زیغاً وضلالاً وبدعة، فھو لقولھ تعالى: [ومن<br />
یشاقق الر َّسُول من بعد ما تبین لھ الھدى ویتبع غیر سبیل المؤمنین نولّ ِھ ما<br />
تولّى ونصلھ جھنم وساءت مصیراً] النساء:<br />
قال ابن تیمیة في الفتاوى (38/7): فإنھما متلازمان فكل من شاق الر َّ سُول من<br />
بعد ما تبین لھ الھدى فقد اتبع غیر سبیل المؤمنین، وكل من اتبع غیر سبیل<br />
المؤمنین فقد شاق الر َّ سُول من بعد ما تبین لھ الھدى، فإن َّ كان یظن أنھ متبع<br />
سبیل المؤمنین وھو مخطئ فھو بمنزلة من ظن أنھ متبع للرسول وھو<br />
مخطئ.<br />
وھذه الآیة تدل على أن إجماع المؤمنین حجة من جھة أن مخالفتھم مستلزمة<br />
لمخالفة الر َّ سُول، وإن كان ما أجمعوا علیھ فلا بد أن یكون فیھ نص عن<br />
الر َّ سُول، فكل مسألة یقطع فیھا بالإجماع وبانتفاء المنازع من المؤمنین فإنھا مِم َّا<br />
بین اللھ فیھ الھدى، ومخالف مثل ھذا الإجماع یكفر كما یكفر مخالف النص<br />
البین. وأم َّا إذا كان یظن الإجماع ولا یقطع بھ، فھنا قد لا یقطع بأنھا مِم َّا تبین فیھ<br />
.115<br />
الھدى من جھة الر َّ سُول، ومخالف مثل ھذا الإجماع قد لا یكفر. وھذا ھو فصل<br />
الخطاب فیما یكفر بھ من مخالفة الإجماع وما لا یكفر ا-ھ.<br />
( 1 )<br />
یُراد من الذنب الذنب الذي ھو دون الكفر والشرك؛ كالسرقة، والزنى،<br />
وشرب الخمر وغیرھا من الذنوب التي ھي دون الكفر الأكبر -مخالفة<br />
192
ش: یشیرُ الشیخُ إِلى ِ الردّ على الخوارج القائلین بالتكفیر بكل ذنب<br />
واعلم أن بابَ التكفیر وعدَم التكفیر (1) ، بابٌ عَظُمَت الفتنةُ والمحنة فیھ،<br />
. (1)<br />
للخوارج الذین یُكفّ ِرون بكلّ فمثل ھذه الذنوب لا یصح تكفیر صاحبھا إلا َّ<br />
إذا مارسھا على وجھ الاستحلال والتحسین، لوجود أدلة وقرائن شرعیة<br />
تصرف الكفر الأكبر عن صاحب ھذه الذنوب، أما إذا كان الذنب كفراً أكبر<br />
فصاحبھ یُكف َّر سواء استحلھ أو لم یستحلھ، فالاستحلال نوع من أنواع الكفر<br />
ولیس كل أنواع الكفر، والشرك كفر مخرج من الملة لذاتھ سواء ضُم إلیھ<br />
عنصر الاستحلال أو لم یُضم.<br />
وقد روى الخلاّل بسنده إِلى الإمام أحمد بن حنبل، قال جاء رجلٌ فسأل أبا عبد<br />
اللھ فقال: یا أبا عبد اللھ إجماع المسلمین على الإیمان بالقدر خیره وشره؟ قال<br />
193<br />
ِ ذنب-<br />
أبو عبد اللھ: نعم، قال: ولا نكفر أحداً بذنب؟ فقال أبو عبد اللھ: اسكت، من<br />
ترك الصلاة فقد كفر، ومن قال القرآن مخلوق فھو كافر ا-ھ.<br />
وقال ابن تیمیة في الفتاوى (302/7): ونحن إذا قلنا: أھل الس ُّن َّة متفقون على<br />
أنھ لا یكفر بالذنب، فإنما نرید بھ المعاصي كالزنا والشرب ا-ھ.<br />
ومن غرائب مرجئة العصر -الذین یتتبعون العثرات والزلات والمتشابھات<br />
أنھم یعتبرون الاستحلال شرطاً للتكفیر في مطلق الذنوب بما في ذلك الذنوب<br />
التي تعتبر شركاً وكفراً أكبر، مستدلین على شذوذھم ھذا بمقولة أَھْل العلم "لا<br />
نكفّ ِر أحداً من أَھْل القبلة بذنب ما لم یستحلھ"!، ودرءاً لھذا الإستغلال السيء<br />
أرى أن تقید ھذه المقولة بالقید التالي، حیث تصبح: "لانكفّ ِر أحداً من أَھْل القبلة<br />
بذنب دون الكفر ما لم یستحلھ" واللھ تعالى أعلم.<br />
تأمل كیف فسر الشارح -رحمھ اللھ- المقولة على أنھا رد على الخوارج<br />
وأصولھم الذین یكفّ ِرون بكل ذنب. والخوارج فرقة ضالة -اختُلف في<br />
تكفیرھا- أبرز ما یمیزھم محاربتھم لأَھْل القبلة من المسلمین، وتركھم لأھل<br />
الشرك والأوثان، وتكفیرھم الن َّاس بالظنون المرجوحة وبالكبائر والذنوب التي<br />
ھي دون الكفر. وقد خصھم النب ُّي بطائفة من الأحادیث، محذراً الأمة من<br />
فتنتھم ِ وشرّ ھم، حاضاً على قتلھم وقتالھم إِلى أن یعودوا عن غلوِّھم إِلى دین<br />
الحق راشدین تائبین، منھا ما ذكره البخاري في صحیحھ تحت باب (قتل<br />
الخوارج والملحدین بعد إقامة الحجة علیھم":<br />
قال رسُول اللھ ε: "سیخرج قومٌ آخر الزمان أحداث الأسنان، سفھاء<br />
الأحلام، یقولون من قول خیر البریة، لا یجاوز إیمانھم حناجرھم یمرقون من<br />
-<br />
ε<br />
( 1 )
τ<br />
ε<br />
الدین كما یمرق السھم من الرمیة، فأینما لقیتموھم فاقتلوھم، فإن َّ في قتلھم أجراً<br />
لمن قتلھم یوم القیامة".<br />
وكان ابن عمر یراھم شرار خلق اللھ، وقال: إنھم انطلقوا إِلى آیاتٍ نزلت في<br />
الكفار فجعلوھا على المؤمنین.<br />
وكذلك قولھ ε: "یقتلون أھل الإسلام ویتركون أھل الأوثان، لئن أدركتھم<br />
لأقتلن َّھم قتل عاد". (متفق علیھ).<br />
وقال ε: "سیخرج من أمتي قوم یقرؤون القرآن لیس قراءتكم إِلى قراءتھم<br />
بشيء، ولا صلواتكم إِلى صلواتھم بشيء، ولا صیامكم إِلى صیامھم بشيء،<br />
یقرؤون القرآن یرون أنھ لھم وھو علیھم، لا یجاوز تراقیھم، یمرقون من<br />
الإسلام مروق السھم من الرمیة". (مسلم).<br />
وقال: "إن بعدي من أمتي قوم یقرؤون القرآن لا یُجاوز تراقیھم یخرجون من<br />
الدین كما یخرج السھم من الرمیة، ثم َّ لا یعودون فیھ، ھم شر ُّ الخلق والخلیقة".<br />
(مسلم).<br />
ومن صفاتھم كذلك قولھ فیھم: "یتعمقون في الدین حتى یخرجوا منھ كما<br />
یخرج السھم من الرمیة، ینظر في النصل فلا یجد شیئاً، ثم َّ ینظر في القدح فلا<br />
یوجد شیئاً" (أحمد وغیره).<br />
وقال: "یدعون إِلى كتاب اللھ ولیسوا من اللھ في شيء، فمن قاتلھم كان أولى<br />
منھم"، فكان أول من قاتلھم علي بن <strong>أبي</strong> طالب في النھروان.<br />
وقال ε: "طوبى لمن قتلھم وقتلوه"، وقال: "الخوارج كلاب أَھْل النار". (ابن<br />
<strong>أبي</strong> عاصم في الس ُّن َّة). وغیرھا كثیر من الأحادیث التي تحذر من الخوارج<br />
وفتنتھم وشرھم، أعاذنا اللھ منھم ومن شرھم، ومن أن نكثر سوادھم بشيء، أو<br />
نقف في ظلھم، أو ننصر باطلھم ولو بشطر كلمة واحدة.<br />
ومما یحسن ذكره ھنا -انصافاً للحق، وانتصاراً لإخوان غی َّبتھم سرادیب سجون<br />
الطواغیت، لا ذنب لھم سوى أنھم دعاة إِلى اللھ- أن مرجئة العصر ومن ل َّف<br />
لفھم من علماء الطواغیت والسوء یحملون ھذه الأحادیث الآنفة الذكر -التي قیلت<br />
في الخوارج- على الموحدین المجاھدین من أَھْل الس ُّن َّة والجماعة الذین آلوا على<br />
أنفسھم مقارعة الكفر والظلم والطغیان، ترھیباً وتشكیكاً لھم ولأتباعھم عما ھم<br />
علیھ من الحق المبین، وانتصاراً وذوداً عن طواغیت الكفر والفجور. ومن<br />
قیاساتھم الباطلة الجائرة أنھم یقیسون خروج أھل الجھاد والتوحید على طواغیت<br />
الكفر الذین اجتمعت فیھم جمیع خصال الكفر والنفاق على خروج الخوارج على<br />
علي بن <strong>أبي</strong> طالب τ!! بئس القیاس ما یقیسون وما یقولون.<br />
194
وكثُرَ فیھ الافتراق. وتشت َّتت فیھ الأھواءُ والآراءُ، وتعارضَت فیھ<br />
دلائِلُھم، فالناسُ فیھ على طرفین ووسط (2) .<br />
القول بأن َّا لا نكَفّ ِرُ من أَھْل القبلة أحداً، لا یَصُح ُّ على إطلاقھ<br />
فطائِفةٌ تقول: لا نُكَفّ ِرُ من أھل القبلة أحداً، فتنفي التكفیر نفیاً عامّاً، مع<br />
العلم بأن في أھل القبلة المنافقین، الذین فیھم مَنْ ھو أكفَرُ من الیھود<br />
والنصارى، وفیھم مَنْ قد یُظھرُ بعض ذلك حیث یُمكِنُھم، وھم یتظاھرون<br />
-<br />
195<br />
-<br />
بالشھادتین (3) .<br />
1) ( ھذا<br />
( 2 )<br />
ما یقتضیھ الإنصاف، وھو الإشارة إِلى الإفراط والتفریط الحاصل في<br />
التكفیر وعدم التكفیر، ظاھرة الغلوِّ والإرجاء سواء، أم َّا الإشارة إِلى<br />
الإنحراف في جانب وغض الطرف -رھبة أو رغبة- عن الجانب الآخر، فھذا<br />
بخلاف ما تقتضیھ الأمانة العلمیة والبیان الذي یرتضیھ ربنا سبحانھ وتعالى.<br />
الطرفان ھما: طرف یتمثل في الخوارج ومن كان على شاكلتھم من الغلاة،<br />
وطرف یتمثل في<br />
المرجئة الذین أرجأوا وأخ َّروا العمل عن الإیمان، وقالوا: الإیمان تصدیق<br />
وقول، وغلاتھم من الجھمیة قالوا: الإیمان ھو التصدیق بالجنان فقط، ورتبوا<br />
على إعتقادھم الفاسد ھذا حصر الكفر في الجحود أو التكذیب القلبي المضاد<br />
للتصدیق!!<br />
ومن سماة المرجئة أنھم یقللون من أھمیة العمل، ویھتمون بأحادیث الوعد<br />
دون غیرھا من نصوص الوعید!.<br />
أم َّا الطرف الوسط: فھو طرق الحق المتمثل في عقیدة أَھْل الس ُّن َّة والجماعة في<br />
الإیمان؛ وھو أن الإیمان اعتقاد وقول وعمل، وكذلك الكفر یكون بالاعتقاد<br />
وبالقول والعمل، وھذه مسألة سنأتي إِلى بحثھا بشيء من التفصیل في موضعھا<br />
إن شاء اللھ.<br />
(3 ( وھذه ظاھرة قد تكون مألوفة في زماننا المعاصر -وعلى مستوى الحاكم<br />
والمحكوم- فلا حرج عند القوم أن ینطقوا بشھادة التوحید وكلما طلب منھم ث َّم<br />
بالمقابل یمارسون الكفر من أوسع أبوابھ ومجالاتھ، ولا شك أن مِم َّا أعانھم<br />
على ھذا الكفر والنفاق مشایخ الإرجاء الذین یُفتونھم بأنھم مسلمون ومن أَھْل<br />
الجنة، وشفاعة الشافعین تطالھم، ولا حرج علیھم ما داموا ینطقون بشھادة<br />
التوحید!<br />
وللإعذار والتنبیھ فإننا نقول: من اجتمع فیھ كفر أو شرك وإیمان فإن َّ إیمانھ<br />
لا ینفعھ في شيء، لأن الشرك یحبط الإیمان والأعمال كلیاً، كما قال تعالى:
ولھذا امتنع كثیرٌ من الأئمة عن إطلاق القول: بأن َّا لا نكفّ ِر أحداً بذنبٍ،<br />
بل یُقال: لا نكفرھُم بكل ذنبٍ كما تفعل الخوارج (1) .<br />
[لئن أشركت لیحبطن عملُك ولتكونن َّ من الخاسرین]. وقال تعالى: [ولو<br />
أشركوا لحبط عنھم ما كانوا یعملون]. فمن یأتي بالإیمان والكفر معاً كمن یأتي<br />
بالشيء وضده أو بما ینافیھ في آنٍ معاً، ومثلھ مثل من یقر بالتوحید ثم َّ من جھة<br />
یقر بآلھة أخرى مع اللھ ویعبدھا من دون اللھ، وھذا أن َّى أن یثبت لھ إیمانھ<br />
وتوحیده فإن َّ الإیمان والكفر لا یمكن اجتماعھما في قلب واحد، كما جاء في<br />
الحدیث الصحیح: "لا یجتمع إیمان وكفر في قلب امرئٍ"، فاللھ تعالى<br />
أغنى الأغنیاء عن الشرك.<br />
قال الشیخ محمد بن عبد الوھاب رحمھ اللھ: دین النبي التوحید، وھو<br />
معرفة لا إلھ إلا اللھ محمد رسُول اللھ والعمل بمقتضاھا، فإنْ قیلَ: كل الن َّاس<br />
یقولونھا، قیلَ: منھم من یقولھا ویحسب معناھا أنھ لا یخلق إلا َّ اللھ ولا یرزق<br />
إلا َّ اللھ وأشباه ذلك، ومنھم لا یفھم معناھا، ومنھم من لا یعمل بمقتضاھا،<br />
ومنھم من لا یعقل حقیقتھا، وأعجب من ذلك من عرفھا من وجھ وعاداھا<br />
وأھلھا من وجھ! وأعجب منھ من أحبھا وانتسب إِلى أھلھا ولم یفرق بین<br />
أولیائھا وأعدائھا!! یا سبحان اللھ العظیم أتكون طائفتان مختلفتین في دین<br />
واحد وكلھم على الحق؟! كلا واللھ، فماذا بعد الحق إلا َّ الضلال ا-ھ (الرسائل<br />
الشخصیة:<br />
ε<br />
196
-إنكارُ ما ھو معلومٌ من الدین بالضرورَةِ، كُفرٌ-<br />
فلا خلافَ بین المسلمین أن َّ الرجُلَ لو أظھر إنكارَ الواجبات الظاھرة<br />
المتواترة، والمحرماتِ الظاھرة المتواترة، فإنھ یُستتابُ (1) .<br />
كان بواحاً یُمارَ سُ على غیر وجھ الاعتقاد أو الاستحلال القلبي لا یُخرِ جُ عنده<br />
من الملة!!.<br />
فانظر مثلاً ماذا یقول في كتابھ الأخیر (التحذیر من فتنة التكفیر!!) الذي جاء<br />
تأصیلاً لعقیدة<br />
جھم في الإیمان والوعد والوعید: (وخلاصة الكلام: لا بد من معرفة أن الكفر<br />
كالفسق والظلم- ینقسم إِلى قسمین: كفرٌ وفسق وظلم یُخرِ ج من الملة، وكل ُّ ذلك<br />
یعود إِلى الاستحلال القلبي. وآخرُ لا یُخرِ ج من الملة؛ یعود إِلى الاستحلال<br />
العمليِّ)!! ا-ھ، ص68.<br />
مفاد كلامھ أن أي كفر مھما كان بواحاً ومُستحلاً في الظاھر والعمل ولكن لا<br />
ینعقد استحلالھ في القلب فھو لا یُخرِ ج من الملة، وھذا مطابق لعقیدة جھم بن<br />
صفوان الذي یحصر الكفر في التكذیب القلبي وحسب!.<br />
وللشیخ شریط بعنوان: (الكفر كفران) فیھ من العجب العجاب -وھو لا یختلف<br />
عما أصلھ في كتابھ التحذیر!- قد رددنا علیھ بمصنف یزید عن المائتي صفحة،<br />
بإمكان القارئ مراجعتھ.<br />
-<br />
تنبیھ: نسجل ھذه الملاحظة على عنوان كتاب الشیخ (التحذیر من فتنة التكفیر)<br />
إذ كیف یحذر من التكفیر وفتنتھ، والتكفیر حكم شرعي ومصطلح أطلقھ الشارع<br />
في الكتاب والس ُّن َّة؟! وكان الصواب أن یقول: (التحذیر من فتنة الغلو في<br />
التكفیر)، فھذا أصح وأدق واللھ تعالى أعلم.<br />
( 1 )<br />
فإنھ یُستتاب على أنھ قد كفر وارتد َّ، إلا َّ إذا كان إنكاره بسبب عجزه عن<br />
معرفة الحق فیما قد خالف فیھ، فھنا تقام علیھ الحجة الشرعیة وھي تختلف عن<br />
الاستتابة التي تأتي بعد معاندة الحجة الشرعیة. فقیام الحجة تكون لمن یقع في<br />
الكفر -لجھل لا یمكن دفعھ- لكن ھو لم یكفر، أم َّا الاستتابة تكون لمن وقع في<br />
الكفر وكفر بعینھ.<br />
والاستتابة مذھب جمھور أَھْل العلم وأكثر الصحابة، قال القاضي عیاض في<br />
الشفا (2/<br />
197
فإنْ تابَ وإِلا َّ قُتِلَ كافراً مرتداً(1) .<br />
-البِدَعُ والفجورُ مظنتان للنفاق والرد َّةِ-<br />
البِدَعُ والفجورُ ، كما ذكره الخلا َّلُ في كتابھ<br />
النفاقُ والردة مظنتھما (2)<br />
(الس ُّن َّة) بسنده إِلى محمد بن سیرین، أنھ قال: إن أسرَ عَ الن َّاس رِ د َّةً أَھْل<br />
الأھواء، وكان یرى ھذه الآیة نزلت فیھم: [وإذا رأیتَ الذین یخوضون في<br />
آیاتنا فأعرِ ضْ عنھم حتى یخوضوا في حدیثٍ غیرهِ] الأنعام:<br />
198
الكفر طاعة. فھؤلاء في طرَ فٍ ، والخوارج (1)<br />
نكفّ ِرُ المسلمَ بكل ذنبٍ كبیر.<br />
في طرَ ف، فإنھم یقولون:<br />
ھو (القلب) والنظر إلیھ: (فإنْ كان القلبُ مؤمناً والعملُ كافراً، فھنا یتغلب<br />
الحكم المستقر في القلب على الحكم المستقر في العمل)!! ھكذا یقولون، وھكذا<br />
ِ یُدَرّ سون وینشرون!!<br />
لذا لا غرابة ولا عجب من ھذا الإحترام والكرم المتبادلین -والملحوظین عبر<br />
التاریخ وإِلى أیامنا ھذه- بین طواغیت الحكم والكفر ومشایخ الإِرجاء؛<br />
فالطواغیت یمنون على مشایخ الإرجاء بالمال والعطایا والھبات والامتیازات<br />
ویجعلونھم من المقربین، ومشایخ الإرجاء بالمقابل یكرمون على الطواغیت<br />
بمزید من التأویلات والتسویغات والتبریرات والفتاوى الباطلة التي تمنع من<br />
تكفیرھم وتبقیھم في دائرة الإسلام..!! فالإحترام متبادل، والمصالح مشتركة!!.<br />
وھذه النفَس الإرجائي الإتكالي التبریري لا شك أنھ انعكس سلباً على أخلاق<br />
وسلوك الأمة، وعلى مستوى الحاكم والمحكوم؛ فھذه مظاھر التفریط بالحكم<br />
بما أنزل اللھ نراھا -على مدار الساعة- أمام أعیننا، وكذلك ظاھرة ترك<br />
الصلاة، وغیرھا من الواجبات، ولم یبق لكثیر من الن َّاس -بفعل سموم الإرجاء-<br />
من إسلامھم سوى أسمائھم الإسلامیة التي تنم عن انتسابھم لأبوین مسلمین،<br />
وھذا یكفیھم لأن یعاملوا معاملة المسلمین من حیث الحقوق والواجبات..!!<br />
قال ابن تیمیة رحمھ اللھ في الفتاوى (394/7): فلھذا عظم القول في ذم<br />
الإرجاء حتى قال إبراھیم النخعي لفتنتھم -یعني المرجئة- أخوف على ھذه<br />
الأمة من فتنة الأزارقة. (والأزارقة ھم فرقة من الخوارج نسبة إِلى نافع بن<br />
الأزرق).<br />
وقال الزھري: ما ابتدعت في الإسلام بدعة أضر ُّ على أَھْلھ من الإرجاء.<br />
وقال الأوزاعي: كان یحیى بن <strong>أبي</strong> كثیر، وقتادة یقولان: لیس شيء من<br />
الأھواء أخوف عندھم على الأمة من الإرجاء.<br />
وقال شریك القاضي -وذكر المرجئة فقال-: ھم أخبث قوم، حسبك بالرافضة<br />
خبثاً، ولكن المرجئة یكذبون على اللھ.<br />
وقال سفیان الثوري: تركت المرجئة الإسلام أرق من ثوب سابري. ا-ھ.<br />
والثوب السابري: ھو الثوب الشفاف الرقیق الذي یشف ما تحتھ، تشبیھاً لدین<br />
المرجئة الرقیق الذي لیس على شيء.<br />
( 1 )<br />
قال ابن تیمیة فیھم في الفتاوى (7/<br />
199
-الفَرق بین الخوارج والمعتزلة في مسألة الوعید-<br />
المعتزلةُ یقولون: یَحبَطُ إیمانُھُ كُل ُّھ بالكبیرَ ةِ، فلا یبقى مَعَھُ شيءٌ من<br />
الإیمانِ. لكن الخوارج یقولون: یخرجُ مِنَ الإیمان ویدخُلُ في الكفر!<br />
والمعتزلة یقولون: یخرجُ من الإیمانِ، ولا یدخلُ في الكفرِ ، وھذه المنزِ لَةُ<br />
بین المنزلتین!! وبقولھم بخروجھ من الإیمان أوجبوا لھ الخلودَ في<br />
النارِ<br />
-تكفیرُ العّام غیر تكفیر المعَی َّن (2) -<br />
200<br />
.! (1)<br />
ε: "یقتلون أَھْل الإسلام ویدعون أَھْل الأوثان"، وكف َّروا علیاً بن <strong>أبي</strong> طالب،<br />
وعثمان بن عفان ومن والاھما، وقتلوا علیاً بن <strong>أبي</strong> طالب مستحلین لقتلھ؛ قتلھ<br />
عبد الرحمن بن ملجم المرادي منھم، وكان ھو وغیره من الخوارج مجتھدین في<br />
العبادة، لكن كانوا جھالاً فارقوا الس ُّن َّة والجماعة. فقال ھؤلاء: ما الن َّاس إلا َّ مؤمن<br />
أو كافر، والمؤمن فعل جمیع الواجبات وترك جمیع المحرمات، فمن لم یكن<br />
كذلك فھو كافر مخلد في النار، ثم َّ جعلوا كل من خالف قولھم كذلك. ا-ھ.<br />
( 1 )<br />
اتفقت المعتزلة مع الخوارج في أن َّ أَھْل الكبائر خارجون عن الإیمان،<br />
ومخلدون في النار، وأن شفاعة الشافعین یوم القیامة لا تطالھم ولا تنفعھم،<br />
واختلفوا معھم في وصفھم، فالخوارج قالوا عن أھل الكبائر: كفار، والمعتزلة<br />
أمسكوا عن ھذا الإطلاق، وقالوا: ھم لیسوا بمؤمنین ولا كفار وإنما فساق،<br />
فاتفقوا في الأصل واختلفوا في الوصف والاسم!<br />
( 2 )<br />
أي أن تكفیر العام لا یستلزم دائماً تكفیر المعین؛ لاحتمال وجود موانع التكفیر<br />
المعتبرة شرعاً عند المعین التي تمنع من تكفیره أو لحوق الوعید بھ، أم َّا في<br />
حال انتفاء موانع التكفیر عنھ، فإن َّھ یجري علیھ حكم الكفر الذي وقع فیھ ویُكف َّر<br />
بعینھ لا محالة، وعلیھ فإننا نقول: من أظھر لنا الكفر -من غیر مانعٍ شرعيّ ٍ<br />
معتبر یمنع من تكفیره- أظھرنا لھ التكفیر بعینھ.<br />
ومما یشیعھ وینشره مشایخ الإرجاء -في ھذا الزمان- أن التكفیر ینبغي أن<br />
یكون بالعموم لا بالتعیین، مھما كان الكفر بواحاً وقد انتفت عن المعین موانعھ،<br />
فانظر مثلاً ماذا یقولون في كتابھم الأثري الس َّلَفي -كما زعموا- (إحكام<br />
التقریر) والذي جاء تشویھاً لعقیدة الس َّلَف: (فمن قامت عنده حجة على مسلم أنھ<br />
مستحل لما حرم اللھ من قطعيٍّ من قطعیات الشریعة، فالأقوى والأتقى أن لا<br />
یُجزم إلا َّ بتكفیر القول الصادر عنھ أو الفعل وما شابھ، ولا یُجزم بكفر<br />
الشخص عینھ، فضلاً أن یدعو الن َّاس إِلى تكفیره، وغیر ذلك من الھوَ ج<br />
المتلبّ ِس باسم الشریعة...) إِلى أن قالوا: (فإذا انتفت ھذه الاحتمالات كلھا عندك
الأقوالُ الباطِلَةُ المبتَدَعَةُ المُحَر َّ مَةُ المتضمّ ِنَةُ نَفيَ ما أثبتَھُ الر َّ سُول، أو<br />
إثباتَ ما نفاهُ، أو الأمرَ بمانھى عنھ، أو الن َّھيَ عَم َّا أمَرَ بھ، یُقالُ فیھا الحَق ُّ،<br />
ویُثبَتُ لھا الوعیدُ الذي دَل َّت علیھ النصوصُ ، ویُبی َّنُ أنھا كُفْرٌ ، ویُقالُ: مَ ْن<br />
قالھا، فھو كافِرٌ. وأم َّا الشخصُ المُعَی َّنُ، إذا قِیلَ: ھل تشھدونَ أن َّھ مِن أَھْ ِل<br />
الوعیدِ(1) ، وأن َّھُ كافر؟ فھذا لا نشھَدُ علیھ إلا َّ بأمرٍ تَجوزُ معھُ الش َّھادَةُ(1) ،<br />
-وھي جمیع موانع التكفیر المعتبرة وغیر المعتبرة- فلا یلزم أن تنتفي عند<br />
غیرك من المسلمین، فیكفیك أن تحكم على القول أو الفعل أنھ كفرٌ احتیاطاً<br />
وورعاً..)!!.<br />
فتأمل، فَھُم باسم ورعھم البارد ھذا واحتیاطھم المرجوح الخاطئ، یمسكون<br />
عن تكفیر من یكفر على أصول جھم بن صفوان، ویریدون أن یظل َّ الكفر معلقاً<br />
عاماً لا واقع لھ ولا أعیان متلبسین بھ، وكأنھم یقولون: یوجد كفر ولكن لا<br />
یوجد كفار، وأن جھنم یوم القیامة ستمتلئ بالكفر لا بالكفار!!.<br />
تنبیھ: قد كثر الكلام -إفراطاً وتفریطاً- على موانع التكفیر، فریق یوسع دائرة<br />
موانع التكفیر فیدخل فیھا ما لیس منھا، وفریق یضیق دائرة الموانع فیخرج منھا<br />
ما ھو منھا، ومن غیر ضابط یضبط المانع المعتبر من غیر المعتبر، لذا فإننا<br />
نقول: تُعرَ فُ جمیع موانع التكفیر المعتبرة شرعاً -على اختلاف صورھا<br />
وأشكالھا- بضابط واحد؛ وھو تحقیق العجز عند المخالف عن دفع الكفر الذي<br />
وقع فیھ، وأي مانعٍ لا یحقق العجز عند المخالف عن دفع الكفر الذي وقع فیھ لا<br />
یعتبر مانعاً معتبراً في الشرع؛ لأنھ قادر على دفع الكفر ولكنھ ما فعل، والقادر<br />
محاسب ومسؤول على حسب قدرتھ واستطاعتھ، كما قال تعالى: [لا یكلف اللھُ<br />
نفساً إلا َّ وسعھا].<br />
( 1 )<br />
یوجد فرق بین أنْ یُشھد على معین بالوعید وأنھ من أَھْل النار وبین أنْ یُشھد<br />
علیھ بأنھ كافر، فكل من یُشھد لھ بالنار والوعید یُشھد لھ بالكفر، ولیس كل من<br />
یُشھد لھ بالكفر یجوز أن یُشھد لھ بأنھ من أَھْل النار والوعید. وذلك أن العبرة<br />
بالخواتیم وبما یختم بھ على المرء، فمن كان كافراً یُشھد لھ بالكفر ولا یُشھد لھ<br />
بالنار إلا َّ إذا ختم لھ بالكفر، لقولھ للأعرابي: "حیثما مررت بقبر كافر فبشره<br />
بالنار"، فقال الأعرابي: لقد كلفني رسُول اللھ تعباً، ما مررت بقبر كافرٍ إلا َّ<br />
بشرتھ بالنار. (السلسلة الصحیحة:<br />
فالحكم على المعین بالكفر لا یستلزم الحكم علیھ بأنھ من أَھْل النار والوعید، إلا َّ<br />
على اعتبار موافاتھ على الكفر فحینھا یشھد لھ بالكفر والنار، والحكم على<br />
ε<br />
.(18<br />
201<br />
ε
فإن َّھ من أعظمِ البغي أن یُشھَدَ على معینٍ أن َّ اللھَ لا یَغفِرُ لھ ولا یرحمھ، بل<br />
یُخلّ ِدُهُ في النار، فإن َّ ھذا حُكمُ الكافرِ بَعْدَ الموت.<br />
عن <strong>أبي</strong> ھریرة، قال: سمعتُ رسُولَ اللھِ یقول: "كانَ رَ جُلانِ في بني<br />
إسرائیل مُتَواخییْنِ ، فكان أحدھما یُذنِبُ ، والآخَرُ مجتھدٌ في العبادَةِ، فكان لا<br />
یزالُ المجتَھِدُ یَرى الآخرَ على الذ َّنب، فیقولُ: أَقْصِ رْ ، فوجدَهُ یوماً على<br />
ذَنبٍ، فقال لھ: أقصِ رْ . فقال: خَلّ ِني ورَ بّ ِي، أبُعِثْتَ علي َّ رَ قیباً؟ فقال: والل َّھِ لا<br />
یَغفرُ اللھُ لكَ ، أو لا یُدخِ لكَ الجَن َّةَ(2) ، فقبض أرواحَھُما، فاجتَمَعا عِندَ ربِّ<br />
العالَمین، فَقال لھذا المجتَھدِ: أَكُنتَ بي عالِماً؟ أو كُنتَ على ما في یَدَ َّي<br />
قادِراً؟ وقال للمذنبِ: اذھَبْ فادخُلِ الجَن َّةَ برحمتي، وقال للآخر: اذھبُوا بھ<br />
إِلى النار".<br />
ε<br />
المعین بأنھ من أَھْل النار من دون تعلیقھ بخاتمة الكفر، یكون من ضروب التألي<br />
على اللھ بغیر علم، إذ لا یعلم الخواتیم قبل حدوثھا إلا َّ اللھ سبحانھ وتعالى.<br />
( 1 )<br />
قد تبین لك من قبل أن المعین الذي یجوز لك أن تشھد لھ بالكفر، ھو كل من<br />
یقع في الكفر من غیر مانعٍ شرعي معتبر یتحقق فیھ الضابط الآنف الذكر.<br />
وكذلك یجوز لك أن تشھد على كل معینٍ یختم لھ بالكفر بأنھ من أھل النار<br />
والوعید للحدیث الآنف الذكر وغیره.<br />
فإنْ قیلَ: كیف یُعرف عن شخص معین أنھ قد ختم لھ بالكفر؟. أقول: من<br />
خلال القرائن الكفریة الدالة على كفره، فإنْ مات علیھا من غیر توبة معروفةٍ<br />
عنھ یُشھد لھ بالكفر والنار.<br />
فإنْ قیلَ: كیف بھ إذا كانت توبتھ بینھ وبین خالقھ، ولم یعلم الخلق منھ ذلك؟<br />
أقول: یكون الحكم علیھ بناء على ما یُعلم منھ، حیث یحكم علیھ بالكفر والخلود<br />
في النار، وھذا لا یمنع من عفو اللھ عنھ وتوبتھ علیھ لأن الحكم أولاً وآخراً <br />
تعالى الواحد القھار، وخطأنا نحن في الحكم علیھ بالكفر والنار مغفور -إن شاء<br />
اللھ- لأنھ ناتج عن علم واجتھاد، والمجتھد إذا أخطأ فلھ أجر، ولا یعتبر ذلك من<br />
باب التألي على اللھ أو القول علیھ بغیر علم.<br />
( 2 )<br />
التألي على اللھ تعالى بغیر علم، ھو الحكم على قضیة بحكم واحد، وھي<br />
تحتمل عند اللھ تعالى العفو أو العقاب. أما من یحكم على قضیة بحكم واحد<br />
وھي لا تحتمل عند اللھ تعالى إلا َّ ھذا الحكم، فھذا لا یجوز أن یعتبر من باب<br />
التألي على اللھ بغیر علم، بل ھو من القول بقول اللھ ورسُولھ ε.<br />
202
قال أبو ھریرة: والذي نفسي بیدِهِ، لتكلمَ بكلمة أو بقتْ دُنیاهُ وآخِ رَ تَھ (1) .<br />
ثم َّ إذا كان القولُ في نفسھ كفراً، قیلَ: إنھ كُفرٌ ، والقائِلُ لھ یكفر بشروط<br />
وانتفاء موانع (2) ، ولا یكونُ ذلك إلا َّ إذا صار منافقاً زندیقاً، فلا یُتصو َّ رُ أن<br />
یَكفُرَ أحدٌ من أَھْل القبلةِ المظھرین الإسلامَ إلا َّ من یكونُ منافقاً زندیقاً. فإ َّن<br />
اللھ صن َّفَ الخلقَ في كتابھ ثلاثةَ أصنافٍ : صِ نفٌ كفار من المشركین ومن<br />
أَھْل الكتاب؛ وھم الذین لا یُقر ُّ ون بالشھادتین، وصنفٌ مؤمنون باطناً<br />
وظاھراً، وصنفٌ أقر ُّ وا بھ ظاھراً لا باطناً. وھذه الأقسامُ الثلاثةُ مذكورةٌ في<br />
أول سورة البقرة، وكل ُّ مَنْ ثبتَ أنھ كافرٌ وفي نفس الأمر كان مُقراً<br />
بالشھادتین، فإن َّھ لا یكونُ إلا َّ زندیقاً، والزندیقُ ھو المنافق (3) .<br />
:ε<br />
203<br />
τ<br />
(1 ( رواه أبو داود، وھو حدیث حسن. والحدیث فیھ دلالة على ضرورة حفظ<br />
اللسان عما لا یعنیھ، وأن ھلكة ابن آدم غالباً ما تكون بسبب طول لسانھ<br />
وخوضھ فیما لا یعنیھ، فلرب َّ كلمة یقولھا وھو لا یُلقي لھا بالاً، ولا یظن أن<br />
تبلغ بھ ما بلغت، یھوي بھا في جھنم سبعین خریفاً، كما في الحدیث: "إن<br />
الرجل لیتكلم بالكلمة لا یرى بھا بأساً یھوي بھا سبعین خریفاً في النار"، وقال<br />
ε: "إن الرجل لیتكلم بالكلمة لا یرى بھا بأساً یھوي بھا سبعین خریفاً في<br />
النار"، وقال ε: "إن العبد لیتكلم بالكلمة ما یتبین فیھا، یزل بھا إِلى النار أبعد<br />
مِم َّا بین المشرق والمغرب". وقال ε: "إن الرجل لیتكلم بالكلمة من سخط اللھ<br />
ما كان یظن أن تبلغ ما بلغت، یكتب اللھ بھا سخطھ إِلى یوم القیامة"، وقال<br />
"من قال في مؤمن ما لیس فیھ، حُبس في ردغة الخبال، حتى یأتي<br />
بالمخرج مِم َّا قال". فما بالك فیمن یقول في اللھ، وعلى اللھ ما لیس فیھ وبغیر<br />
علم؟!.<br />
وعن عبد اللھ بن مسعود قال: ما من شيء أحق بطول السجن من اللسان.<br />
وقال أبو الدرداء τ: أنصف أذنیك من فیك، فإنما جُعلت لك أذنان وفم واحد<br />
لتسمع أكثر مِم َّا تتكلم بھ.<br />
( 2 )<br />
الشروط: تكمن في بلوغ الحجة الشرعیة بطریقة یندفع بھا الجھل عند<br />
المخالف. أم َّا انتفاء الموانع، فھي تكمن في تحقیق القدرة وانتفاء العجز عند<br />
المخالف عن إدراك مراد الشارع فیما قد خالف فیھ. وبالتالي فإن َّ أي امرئٍ تبلغھ<br />
الحجة الشرعیة، وینتفي عنھ العجز عن إدراك مراد الشارع فیما قد خالف فیھ،<br />
فقد تحققت فیھ شروط التكفیر وانتفت عنھ موانعھ التي تمنع من تكفیره بعینھ.<br />
( 3 )<br />
یوجد فرقٌ بین الزندیق والمنافق من حیث أن المنافق یبطن كفره ولا یظھره<br />
أو یعرف عنھ ذلك، بینما الزندیق یظھر كفره الذي یعتقده، وإذا ما أُقیمت علیھ
عن عُمرَ ، أن َّ رجلاً كان على عھد النبيّ ε، ِ كان اسمُھُ عبدَ اللھ، وكان<br />
یُلق َّبُ حماراً، وكان یُضحِ كُ رسُولَ اللھِ ε، وكان رسُولُ اللھِ قد جلدَه من<br />
الش َّرابِ، فأُتِيَ بھ یوماً، فأمرَ بھ فجُلِدَ، فقال رجلٌ من القومِ : اللھم َّ العنھُ! ما<br />
أكثر ما یُؤتَى بھِ! فقال رسُولُ<br />
ε<br />
الحجة والبینة على كفره، سرعان ما ینكر ویدعي الإسلام، ویتظاھر<br />
بالشھادتین لذا فالراجح أن الزندیق یُقتل ولا یُستتاب، لأن الاستتابة تكون من<br />
شيء، وھذا لا یعترف بشيءٍ، ولما قتل علي بن <strong>أبي</strong> طالب الزنادقة من دون أن<br />
یستتیبھم، سُئل عن سبب ذلك، فقال: جحدوني، أي لم یعترفوا لھ بكفرھم فعلام<br />
یستتیبھم.<br />
روى أبو أدریس قال: أُتي علي بناس من الزنادقة ارتدوا عن<br />
الإسلام، فسألھم<br />
فجحدوا، فقامت علیھم البینة العدول، قال: فقتلھم ولم یستتبھم، قال: وأُتي برجلٍ<br />
نصرانیاً وأسلم، ثم َّ رجع عن الإسلام، قال: فسألھ فأقر َّ بما كان منھ، فاستتابھ،<br />
فتركھ، فقیل لھ كیف تستتیب ھذا ولم تستتب أولئك؟ قال: إن َّ ھذا أقر َّ بما كان<br />
منھ، وإن َّ أولئك لم یقر ُّ وا وجحدوا حتى قامت علیھم البینة، فلذلك لم أستتبھم.<br />
وفي روایة قال: أتدرون لِمَ استتبت ھذا النصراني؟ استتبتھ لأنھ أظھر دینھ،<br />
وأم َّا الزنادقة الذین قامت علیھم البینة جحدوني، فإن َّما قتلتھم لأن َّھم جحدوا<br />
وقامت علیھم البینة ا-ھ (عن الصارم المسلول: 3<br />
τ<br />
204
اللھ ε: "لا تلعنھُ، فإن َّھ یُحب ُّ اللھَ ورسُولَھ" (1) .<br />
-من عیوب أَھْل البدَعِ تكفیرُ بعضھم بعضاً بالظنّ<br />
فمن عیوبِ أَھْل البِدَعِ تكفیرُ بعضِ ھم بعضاً، ومن ممادِح أَھْل العلم أن َّھُم<br />
یُخطّ ِئون ولا یُكفّ ِرون<br />
-كفرٌ عملي ٌّ أصغر، أو كُفرٌ دون كُفر (3) -<br />
ِ والشبھات-<br />
. (2)<br />
(1 ( رواه البخاري. والشاھد من الحدیث أن اللعن العام لا یستلزم دائماً لعن<br />
المعین، وكذلك التكفیر لاحتمال وجود موانع تمنع من لحوق الوعید العام<br />
بالمعین، وبیان ذلك أن النبي قد صح عنھ أنھ قال: "أتاني جبریل فقال یا<br />
محمد إن اللھ Υ لعن الخمر، وعاصرھا، ومعتصرھا، وشاربھا، وحاملھا،<br />
والمحمولة إلیھ، وبائعھا، ومبتاعھا، وساقیھا، ومُسقیھا"، وقال ε: "مدمن خمر<br />
كعابد وثن"، ومع ذلك فالنبي نھى عن لعن ذلك الرجل الذي كان یكثر من<br />
شربھ للخمر لوجود حسنة عنده -وھي حبھ ولرسولھ- منعت من لحوق<br />
الحكم العام بھ.<br />
وفي الحدیث دلالة أیضاً وھي أن الحسنات یذھبن السیئات، ولكن ینبغي التنبیھ<br />
إِلى أمرٍ وھو أن الحسنات یتشفعن لصاحبھا في الذنوب التي ھي دون الكفر،<br />
وفي الكفر المحتمل الغیر جليّ، أم َّا إذا كان الكفر جلیاً بواحاً فإن َّ الحسنات لا<br />
تتشفع، ولا یمكن لھا أن تقاوم الكفر البواح الذي یحبط جمیع الأعمال والحسنات.<br />
مراده أن أَھْل العلم لا یُكفّ ِرون إلا َّ بعد التثبت والتبین، وفي الأوجھ التي لا<br />
تحتمل غیر الكفر، أم َّا عند ورود الشبھات والإحتمالات وحصول الظن لا<br />
الیقین فھم یخطئون ولا یُكفّ ِرون، بخلاف أَھْل البدع والأھواء فإن َّھم لأدنى<br />
شبھة، وبالظن الذي لا یغني من الحق شیئاً یطلقون حكم التكفیر على المعین!!<br />
قال ابن حجر في الفتح (314/12): قال الغزالي: ینبغي الاحتراز عن التكفیر<br />
ما وجد إلیھ سبیلاً، فإن َّ استباحة دماء المصلین المقرین بالتوحید خطأ، والخطأ<br />
في ترك ألف كافرٍ في الحیاة أھون من الخطأ في سفك دم مسلم واحد ا-ھ.<br />
وقد وھَمَ الشیخ الألباني في كتابھ (حكم تارك الصلاة، ص 61) عندما نقل قول<br />
الغزالي الآنف الذكر حاذفاً كلمة (المصلین) وواضعاً مكانھا كلمة (المسلمین)<br />
انتصاراً لمذھبھ في تارك الصلاة!!.<br />
( 3 )<br />
الكفر دون كفر ھو كل قول أو عمل أطلق الشارع علیھ حكم الكفر، ثم َّ في<br />
نصوص شرعیة أخرى یصرف الكفر عن أصحابھا ویثبت لھم صفة الإیمان.<br />
وھذا النوع من الكفر -رغم أنھ یعد من الكبائر- إلا َّ أنھ لا یُخرِ ج صاحبھ من<br />
205<br />
ε<br />
ε<br />
( 2 )
بقي إشكالٌ، وھو: أن َّ الشارعَ قد سم َّى بعضَ الذنوبِ كُفراً، قال اللھ<br />
تعالى: [ومن لم یحكُم بما أنزلَ اللھ فأولئك ھم الكافرون (1) [ المائدة:<br />
206
وقال ε: "سباب المسلم فسوق، وقتالھ كفر" (1) . وقال: "لا ترجعوا<br />
بعدي كفاراً یضربُ بعضُكم رقابَ بعضٍ " (1) .<br />
فیما أقترفوه، وأنھم یستحقون العقوبة علیھ.. فھؤلاء الحكام بصفاتھم ھذه ھم<br />
الذین یحمل علیھم قولَ أَھْل العلم: كفر دون كفر لاینقل عن الملة.<br />
أم َّا الحكام الذین یرفضون حكم اللھ ویعرضون عنھ، أو یحاربون دعاة الحكم<br />
إِلى اللھ، أو یُشرعون التشریع الذي یضاھي شرع اللھ، أو یُلزمون الأمة<br />
بشرائع وقوانین من غیر شرع اللھ، أو یقاتلون دونھا من یعادیھا أو یحاربھا،<br />
أو یقعون في التبدیل لشرع اللھ بشرائع الطاغوت، وكل شریعة غیر شریعة<br />
اللھ فھي طاغوت، فھؤلاء یحمل علیھم -وجوباً- الكفر الأكبر، والظلم الأكبر،<br />
والفسق الأكبر، وإن لم یصرحوا بلسانھم أنھم یجحدون حكم اللھ في قلوبھم،<br />
لأن لسان الحال أقوى وأصرح من لسان المقال، وھو شاھد علیھم بالكفر، كما<br />
قال تعالى: [ما كان للمشركین أن یعمروا مساجد اللھ شاھدین على أنفسھم<br />
بالكفر] التوبة:<br />
207
و"إذا قال الرجل لأخیھ یا كافر فقد باءَ بھا أحدُھما" (2) . وقال: "أربعٌ من<br />
كُن َّ فیھ كان منافِقاً خلِصاً، ومن كانت فیھ خِ صلَةٌ منھن َّ كان فیھ خَصلةٌ<br />
من النفاقِ حتى یدَعَھا: إذا حد َّث كذَبَ ، وإذا وعَدَ أَخلَفَ ، وإذا عاھدَ غدَرَ ،<br />
قال ابن حزم في الملل (3/<br />
208
وإذا خاصمَ فجَرَ " (1) . وقال: "لا یزني الز َّ اني حین یزني وھو مؤمن، ولا<br />
یَسرقُ الس َّارِ قُ حین یَسْرقُ وھو مؤمن، ولا یَشرَ بُ الخمرَ حین یشرَ بُھا وھو<br />
مؤمن، والتوبةُ معروضَةٌ بَعْدُ" (2) . وقال: "بین المسلم وبین الكفر تركُ<br />
الصلاةِ" (3) .<br />
(1 ( متفق علیھ.<br />
(2 ( متفق علیھ.<br />
(3 ( رواه مسلم. قلت: مسألة حكم تارك الصلاة قد بحثتھا في أكثر من موضع في<br />
كتبي، فأعید ھنا ما كتبتھ في كتابي (الانتصار لأھل التوحید) فأقول: الراجح<br />
في تارك الصلاة كلیاً أنھ كافر بیقین خارج من دین الإسلام، وذلك كلھ مع<br />
الإقرار بوجوبھا، ھذا ما نصت علیھ أدلة الكتاب والس ُّن َّة، وأقوال الس َّلَف من<br />
الصحابة والتابعین وغیرھم من الأئمة المھتدین، وإلیك بیان ذلك:<br />
أم َّا أدلة الكتاب، فقد قال تعالى: [فإنْ تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة<br />
فإخوانكم في الدین ونفصل الآیات لقوم یعلمون] التوبة:<br />
مفھوم الآیة أنھم إذا لم یتوبوا من الشرك، ویقیموا الصلاة، ویؤتوا الزكاة،<br />
لیسوا إخواننا في الدین، ولا تنتفي أخوة الدین إلا َّ عن الكافرین. ولكن لما<br />
جاءت نصوص أخرى تصرف الكفر عن تارك الزكاة، كقولھ في الحدیث<br />
الذي یرویھ مسلم وغیره: "ما من صاحب كنز لا یؤدي حقھ، إلا َّ جعلھ اللھ یوم<br />
القیامة یُحمى علیھا في نار جھنم فتكوى بھا جبھتھ وجنبھ وظھره، حتى یقضي<br />
اللھ تعالى بین عباده في یوم كان مقداره خمسین ألف سنة مِم َّا تعدون، ثم َّ یرى<br />
سبیلھ إما إِلى الجنة وإما إِلى النار"، فكونھ یترك للمشیئة إما إِلى الجنة وإما إِلى<br />
النار، فھذا من شأن من یموت على التوحید ولیس على الكفر، لأن الكافر لیس<br />
لھ یوم القیامة إلا َّ النار.والشاھد أنھ لما وجدت القرینة الشرعیة التي تصرف<br />
الكفر عن تارك الزكاة دون تارك الصلاة، تعین القول بكفر تارك الصلاة دون<br />
تارك الزكاة.<br />
ومن الأدلة كذلك قولھ تعالى: [یوم یكشف عن ساق ویدعون إِلى السجود فلا<br />
یستطیعون. خاشعة أبصارھم ترھقھم ذلة وقد كانوا یدعون إِلى السجود وھم<br />
سالمون] القلم:<br />
وھذا وعید بحق الكافرین والمنافقین الذین كانوا یُدْعَون في الحیاة الدنیا إِلى<br />
السجود تعالى والصلاة فیأبون، فكل من كان في الحیاة الدنیا تاركاً للصلاة<br />
فھو معني بالوعید الوارد في الآیة، والنص یطالھ ویشملھ.<br />
ε<br />
.11<br />
209<br />
.43-42
قال ابن كثیر في التفسیر (435/4): ولما دعوا إِلى السجود في الدنیا فامتنعوا<br />
منھ مع صحتھم وسلامتھم كذلك عوقبوا بعدم قدرتھم علیھ في الآخرة إذا تجلى<br />
فیسجد لھ المؤمنون، ولا یستطیع أحد من الكافرین والمنافقین أن<br />
یسجد بل یعود ظھر أحدھم طبقاً واحداً، كلما أراد أحدھم أن یسجد خر َّ لقفاه<br />
عكس السجود كما كانوا في الدنیا بخلاف ما علیھ المؤمنون ا-ھ.<br />
وقال البغوي في التفسیر: قولھ Υ: [یدعون إِلى السجود فلا یستطیعون]،<br />
یعني الكفار والمنافقون، تصیر أصلابھم كصیاصي البقر فلا یستطیعون<br />
السجود ا-ھ.<br />
وفي الحدیث الذي یرویھ مسلم وغیره، وفیھ أن اللھ تعالى یلقي في نار جھنم<br />
جمیع الكفار من عبدة الأصنام وكفار أھل الكتاب وغیرھم، حتى إذا لم یبق إلا َّ<br />
من كان یعبد اللھ من بَر وفاجر أتاھم رب العالمین في أدنى صورة من التي<br />
رأوه فیھا، قال: فماذا تنتظرون لتتبع كل أمة ما كانت تعبد، قالوا: یاربنا فارقنا<br />
الن َّاس في الدنیا أفقر ما كنا إلیھم ولم نصاحبھم، فیقول: أنا ربكم، فیقولون: نعوذ<br />
باللھ منك لا نشرك باللھ شیئاً مرتین أو ثلاثاً، حتى إن بعضھم لیكاد أن ینقلب،<br />
فیقول: ھل بینكم وبینھ آیة تعرفونھ بھا، فیقولون: نعم فیكشف عن ساق فلا<br />
یبقى من كان یسجد من تلقاء نفسھ إلا َّ أذن اللھ لھ بالسجود، ولا یبقى من<br />
كان یسجد نفاقاً وریاءً إلا َّ جعل اللھ ظھره طبقةً واحدة، كلما أراد أن یسجد خ َّر<br />
على قفاه.<br />
والسؤال: إذا كان ھذا حال من كان یجد من تلقاء نفسھ ومن یسجد نفاقاً،<br />
فما ھو حال الذي لم یسجد قط، وأین مكانھ؟<br />
فالحدیث یدل على أنھ ألقي في نار جھنم مع الكافرین، حیث لم یبق من العباد<br />
لمعاینة ذاك المشھد العظیم إلا َّ من كان یسجد طوعاً من تلقاء نفسھ، أو من<br />
یسجد نفاقاً، ولم یشاركھما صنف آخر من العباد، كما أن تارك الصلاة<br />
والسجود لم یعد ممن یعبد اللھ من بَر أو فاجر، فتأمل.<br />
وفي الس ُّن َّة فقد صح عن النبيِّ ε أنھ قال في تارك الصلاة: "بین الرجل وبین<br />
الكفر ترك الصلاة".<br />
وقال:"العھد الذي بیننا وبینھم الصلاة، فمن تركھا فقد كفر"، وقال: "بین<br />
الكفر والإیمان ترك الصلاة". وقال: "بین العبد وبین الكفر والإیمان الصلاة،<br />
فإذا تركھا فقد أشرك"، وقال: "آخر ما یُفْقَدُ مِنَ الدین الصلاة". فإذا فقد الصلاة<br />
لم یعد عنده شيء من الدین یبقیھ في الإسلام ویبرر الحكم علیھ بالإسلام.<br />
ونحوه قولھ ε: "آخر عرى الإسلام نقضاً الصلاة"، وقال: "بین العبد والكفر أو<br />
210<br />
الرب Υ
الشرك ترك الصلاة، فإذا ترك الصلاة فقد كفر"، وغیرھا كثیر من الأحادیث<br />
التي تدل على كفر تارك الصلاة.<br />
وفي الأثر عن ابن مسعود قال: "من ترك الصلاة فلا دین لھ".<br />
وعن <strong>أبي</strong> الدرداء رضي اللھ عنھ قال: "لا إیمان لمن لا صلاة لھ، ولا<br />
صلاة لمن لا وضوء لھ".<br />
وعن حماد بن زید عن أیوب قال: "ترك الصلاة كفر، لا یختلف فیھ".<br />
وعن محمد بن نصر المروزي: سمعت إسحق یقول: صح عن النبي أن<br />
تارك الصلاة كافر، وكذلك كان رأي أھل العلم من لدن النبي أن تارك<br />
الصلاة عمداً من غیر عذر حتى یذھب وقتھا كافر.<br />
وعن عبد اللھ بن شقیق العقیلي رضي اللھ عنھ قال: "كان أصحاب محمد<br />
لا یرون شیئاً من الأعمال تركھا كفر غیر الصلاة".<br />
قلت: والكفر الذي یرونھ ھو الكفر الأكبر المخرج من الملة، بدلیل أنھم یرون<br />
كثیراً من الأعمال تركھا كفر أصغر لا یُخرِ ج من الملة.<br />
قال ابن حزم: وقد جاء عن عمر، وعبد الرحمن بن عوف، ومعاذ بن جبل،<br />
و<strong>أبي</strong> ھریرة، وغیرھم من الصحابة ψ أن من ترك صلاة فرضٍ واحدة متعمّ ِداً<br />
حتى یخرج وقتھا فھو كافر مرتد، ولا نعلم لھؤلاء من الصحابة مخالفاً ا-ھ.<br />
وقال الحافظ المنذري: قد ذھب جماعة من الصحابة ومن بعدھم إِلى تكفیر<br />
من ترك الصلاة متعمّ ِداً لتركھا، حتى یخرج جمیع وقتھا منھم عمر بن<br />
الخطاب، وعبد اللھ بن مسعود، وعبد اللھ بن عباس، ومعاذ بن جبل، وجابر<br />
بن عبد اللھ، وأبو الدرداء ψ. ومن غیر الصحابة أحمد بن حنبل، وإسحاق بن<br />
راھویھ، وعبد اللھ بن المبارك، والنخعي، والحكم بن عتبة، وأیوب<br />
السختیاني، وأبو داود الطیالسي، وأبو بكر بن <strong>أبي</strong> شیبة، وزھیر بن حرب،<br />
وغیرھم رحمھم اللھ تعالى ا-ھ. جمیع ما تقد َّم من أحادیث وآثار تخص ُّ تارك<br />
الصلاة ھي صحیحة، انظر صحیح الترغیب والترھیب:<br />
ε<br />
ε<br />
ε<br />
211
وقال: "مَن أَتى كاھِناً فَصَد َّقَھُ، أَوْ أتى امرَ أَةً في دُبُرِ ھَا، فَقَدْ كفَرَ بِمَا<br />
أُنْزِ لَ على مُحَم َّدٍ" (1) .<br />
وقال: "مَنْ حَلَفَ بغیرِ اللھِ فقد كَفَرَ " (2) . وقال: "ثِنَتانِ في أُم َّتي ھُما كُفرٌ :<br />
الط َّعْنُ في الن َّسَبِ، والنّ ِیاحَةُ على المَیّ ِتِ"رواه مسلم. ونظائِرُ ذلك كثیرَ ةٌ.<br />
الس َّلَف من بعدھم كما یقول ابن تیمیة، فأي الفریقین أحق بالحق والأمن<br />
والسلامة، من كان واقفاً في قولھ مع الصحابة وأكثر الس َّلَف، أم من كان واقفاً<br />
في صف الخلف ومن ھم دون الصحابة مكانةً وعلماً؟!!<br />
(1 ( صحیح، رواه أبو داود وغیره.<br />
(2 ( رواه الحاكم، وھو صحیح. قلت: إذا كان الحلف بغیر اللھ تعالى على وجھ<br />
التعظیم والتقدیس والعبادة للمحلوف بھ فھو شرك أكبر، وإذا كان على وجھ<br />
اللغو والعادة فھو شرك أصغر. وكلا النوعین من الشرك دلت علیھما<br />
النصوص الشرعیة ونص علیھما أھل العلم.<br />
قال الشیخ سلیمان بن عبد اللھ آل الشیخ في كتابھ (<strong>شرح</strong> كتاب التوحید،<br />
): فالجمھور: لا یُكَفّ ِر كفراً ینقل عن الملة، لكنھ من الشرك الأصغر كما<br />
نص على ذلك ابن عباس وغیره. لكن الذي یفعلھ عباد القبور إذا طلبت من<br />
أحدھم الیمین باللھ، أعطاك ماشئت من الأیمان صادقاً أو كاذباً، فإذا طلبت منھ<br />
الیمین بالشیخ أو تربتھ أو حیاتھ، ونحو ذلك، لم یقدم على الیمین بھ إن كان<br />
كاذباً. فھذا شرك أكبر بلا ریب؛ لأن المحلوف بھ عنده أخوف وأجل وأعظم<br />
من اللھ، وھذا ما بلغ إلیھ شرك عباد الأصنام، لأن جھد الیمین عندھم ھو<br />
الحلف باللھ كما قال تعالى: [وأقسموا باللھ جھد أیمانھم لا یبعث اللھ من<br />
یموت] النحل: 38. فمن كان جھد یمینھ الحلف بالشیخ أو بحیاتھ، أو تربتھ فھو<br />
شركاً أكبر منھم، فھذا ھو تفصیل القول في ھذه المسألة ا-ھ.<br />
وقد أثر عن ابن مسعود قولھ: لأنْ أحلفَ باللھ كاذباً أحب إلي َّ من أن أحلف<br />
بغیره صادقاً.<br />
قال الشیخ سلیمان في كتابھ (<strong>شرح</strong> كتاب التوحید): فیھ دلیل على أن الحلف<br />
بغیر اللھ صادقاً أعظم من الیمین الغموس، وفیھ دلیل على أن الشرك<br />
الأصغر أكبر من الكبائر ا-ھ. المجردة عن صفة الكفر أو الشرك.<br />
قلت: ومع ذلك فالحلف بغیر اللھ تعالى ظاھرة متفشیة بین الن َّاس في ھذا<br />
الزمان، فالذین یحلفون بغیر اللھ أكثر من الذین یحلفون باللھ وحده، وھذا إن<br />
دل فھو یدل على اندراس التوحید وغربتھ بین الن َّاس.<br />
212<br />
593
]<br />
والجوابُ : أَن َّ أَھْلَ الس ُّن َّةِ مُتفقون كُل ُّھم على أن َّ مُرتكبَ الكبیرَ ةِ لا یكفرُ<br />
كُفْراً ینقلُ عَن المِل َّةِ بالكُلی َّةِ، كما قالت الخوارج، إذْ لو كَفَرَ كُفراً ینقلُ ع ِن<br />
المل َّةِ، لكانَ مُرْ تَد َّاً یُقتَلُ على ِ كُلّ حال، ولا یُقْبَلُ عَفوُ وليّ ِ القِصاص، ولا<br />
تجري الحدودُ في ِ الزّ نى والس َّرِ قَةِ، وشربِ الخمرِ ، وھذا القولُ معلومٌ بُطلانُھ<br />
وفسَادُهُ بالضرورَ ةِ مِن دینِ الإسلام.<br />
ومتفقونَ على أَن َّھُ لا یَخرِ جُ من الإیمانِ والإسلام، ولا یَدْخُلُ في الكفرِ ،<br />
ولا یستحق ُّ الخلودَ في الن َّارِ مع الكافِرین، إذْ قد جعَلَ اللھُ مرتكِبَ الكبیرَ ة<br />
مِنَ المؤمنین، قال تعالى: [یا أی ُّھا الذینَ آمنوا كُتِبَ علیكم القِصاصُ في<br />
القتلى] إِلى أن قال: فَمَنْ عُفِيَ لَھُ مِن أخیھِ شيءٌ فاتّ ِباعٌ بالمعروفِ<br />
البقرة:<br />
[<br />
213
حسناتُھ قبلَ أن یُقضَى ما علیھ أُخِ ذَ من خطایاھُمْ فطُرِ حَتْ علیھ، ثم َّ طُرِ حَ في<br />
.<br />
النار" (1)<br />
ومن قال من أَھْل الس ُّن َّة: إن الإیمانَ قولٌ وعمل یزیدُ وینقص (2) ، قال ھو<br />
كفرٌ عمل ٌّي (3) لا اعتقاديٌ، والكفرُ عنده على مراتبٍ؛ كفرٌ دونَ كفرٍ ،<br />
كالإیمان عنده.<br />
-صِ فَةُ الحاكم بغیرِ ما أنزلَ اللھُ الذي یكفر كُفراً أكبر، والحاكم<br />
الذي یكفر كفراً أصغَر-<br />
وھنا أمرٌ یجبُ أن یُتفَط َّنَ لھ، وھو: أن َّ الحُكمَ بغیر ما أنزل اللھُ قد یكون<br />
كفراً ینقل عن الملة، وقد یكون معصیةً: كبیرة أو صغیرة (4) ، ویكون كفراً<br />
أن الحكمَ بما أنزلَ اللھُ<br />
أصغر، وذلك بحسب حالِ الحاكم، فإن َّھُ إن اعتقد (5)<br />
غیرُ واجبٍ، وأن َّھ مخیرٌ فیھ، أو استھان بھ مع تیق ُّنھِ أن َّھُ حكمُ اللھِ، فھذا<br />
(1 ( رواه مسلم وغیره، والشاھد من الحدیث أن أَھْل الكبائر لیسوا كفاراً، ولو<br />
كانوا كفاراً بذنوبھم ومعاصیھم لحبطت عنھم جمیع حسناتھم، ولما أمكنھم أن<br />
یعطوا الآخرین من ذوي الحقوق علیھم شیئاً من حسناتھم.<br />
(2 ( ھذا القول ھو الحق الذي دلت علیھ نصوص الكتاب والس ُّن َّة، وأقوال الس َّلَف<br />
الصالح، والمسألة سیأتي مزید كلام علیھا عند الحدیث عن الإیمان.<br />
(3 ( من أطلق من أَھْل العلم على بعض الذنوب والمعاصي صفة (الكفر العملي)<br />
أرادوا بھ الكفر الأصغر، أو الكفر دون كفر، أو كفر النعمة. ولم یریدوا منھ<br />
مطلق الكفر الظاھر على الجوارح كما فھم البعض، ودرء اً لھذا الفھم الخاطيء<br />
والاستغلال السيء أرى أن یقید ھذا الإطلاق بكلمة (الأصغر) بحیث یصبح<br />
(الكفر العملي الأصغر) لیتمیز عن الكفر العملي الأكبر، ولیشعر القارئ أن من<br />
الأعمال ما تعتبر كفراً لذاتھا ولو جاءت مجردة عن الاعتقاد أو الاستحلال.<br />
( 4 )<br />
قولھ "أو صغیرة" فیھ نظر؛ لأن ذنباً أطلق علیھ الشارع سبحانھ صفة الكفر<br />
أو الشرك لا یُعتبر صغیراً، بل ھو -وإن كان كفراً دون كفر- أكبر من الكبائر<br />
التي لم توصف بالكفر أو الشرك، وقد تقدم كلام أَھْل العلم في تعلیقھم على أثر<br />
ابن مسعود: "لأن أحلف باللھ كاذباً أحب إلي َّ من أن أحلف بغیره صادقاً".<br />
( 5 )<br />
الاعتقاد أمر باطني لا یعلمھ إلا َّ اللھ تعالى، دلیلنا إلیھ لسان القال أو لسان<br />
الحال والعمل، أو كلاھما معاً، وأحیاناً یكون لسان الحال والعمل أكثر دلالة<br />
وإعراباً عما في الاعتقاد من غیره من القرائن، فالظاھر برید الباطن ومرآة لھ،<br />
لذا لا یتصور ظاھر كافر مقترن بإیمانٍ حقیقي في الباطن.<br />
214
كفرٌ أكبر (1) ، وإن اعتقدَ وجوبَ الحُكمِ بما أنزلَ للھُ، وعَلِمَھُ في ھذه<br />
الواقعة، وعدلَ عنھ مع اعترافِھ بأنھ مستحق ٌّ للعقوبَةِ، فھذا عاصٍ ، ویُسم َّى<br />
(1 ( ومن الصفات التي توقع الحاكم في الكفر الأكبر أیضاً، كرھھ للحكم بما أنزل<br />
اللھ، أو معاداتھ ومعاداة من یطالبھ بالحكم بما أنزل اللھ، أو إعراضھ كلیاً عن<br />
الحكم بما أنزل اللھ واستبدالھ بشرع آخر من شرائع الطاغوت، أو وصفھ<br />
لحكم اللھ بالعبارات التي تنم عن الطعن والتھكم، والسخریة والاستھزاء، أو<br />
تحسینھ ومدحھ للحكم بغیر ما أنزل اللھ .. فھذه حالات كل واحدة منھا تكفر<br />
المتصف بھا من الحكام كفراً أكبر مخرجاً عن الملة، وإلیك بعض أقوال أَھْل<br />
العلم في ذلك:<br />
ابن كثیر:<br />
قال في تفسیر قولھ تعالى: [أفحكم الجاھلیة یبغون ومن أحسن من اللھ حكماً<br />
لقومٍ یوقنون] المائدة: 50. ینكر تعالى على من خرج عن حكم اللھ المحكم<br />
المشتمل على كل خیر، الناھي عن كل شر، وعدل إِلى ما سواه من الآراء<br />
والأھواء والاصطلاحات التي وضعھا الرجال بلا مستند من شریعة اللھ كما<br />
كان أَھْل الجاھلیة یحكمون بھ من الضلالات والجھالات مِم َّا یضعونھا بآرائھم<br />
وأھوائھم، وكما یحكم بھ التتار من السیاسات الملكیة المأخوذة عن ملكھم<br />
جنكزخان الذي وضع لھم (الیاسق)، وھو عبارة عن كتاب مجموع من أحكام<br />
قد اقتبسھا من شرائع شتى من الیھودیة والنصرانیة، والملة الإسلامیة وغیرھا،<br />
وفیھا كثیر من الأحكام أخذھا من مجرد نظره وھواه فصارت في بنیھ شرعاً<br />
متبعاً یقدمونھا على الحكم بكتاب اللھ وسنة رسُول اللھ فمن فعل ذلك فھو<br />
كافر یجب قتالھ حتى یرجع إِلى حكم اللھ ورسولھ، فلا یحكم سواه في قلیل<br />
ولا كثیر ا-ھ.<br />
فتأمل كیف اعتبر الحكم (بالیاسق) كفراً، وأن الذي یحكم بھ كافر یجب قتالھ،<br />
ثم َّ تأمل ھل تجد فارقاً بین یاسق جنكزخان وبین یاسق القوانین الوضعیة النافذة<br />
في أمصار المسلمین، التي یسھر على تنفیذھا وتطبیقھا طواغیت الحكم؟!<br />
أحمد شاكر:<br />
قال معلقاً على كلام ابن كثیر السابق في كتابھ (عمدة التفسیر: 4؟171 و<br />
174): أفیجوز مع ھذا في شرع اللھ أن یحكم المسلمون في بلادھم بتشریع<br />
مقتبس عن تشریعات أوروبا الوثنیة الملحدة، بل تشریع تدخلھ الأھواء والآراء<br />
الباطلة یغیرونھ ویبدلونھ كما یشاؤون، لا یبالي واضعھ وافق شرعة الإسلام أم<br />
خالفھا..<br />
،ε<br />
215<br />
-1<br />
-2
-3<br />
إن الأمر في ھذه القوانین الوضعیة واضح وضوح الشمس، ھي كفر بواح<br />
لاخفاء فیھ ولا مداورة، ولا عذر لأحد ممن ینتسب للإسلام -كائناً من كان-<br />
في العمل بھا أو الخضوع لھا أو إقرارھا.. ا-ھ.<br />
وقال في تعلیقھ على الطحاویة: وھذا -أي الكفر الأكبر- مثل ما ابتلي بھ الذي<br />
درسوا القوانین الأوروبیة من رجال الأمم الإسلامیة، ونسائھا أیضاً، الذین<br />
أُشربوا في قلوبھم حُبھا، والشغف بھا، والذبِّ عنھا، وحكموا بھا، وأذاعوھا،<br />
بما رُ بوا من تربیة أساسھا صنع المبشرین الھدامین، أعداء الإسلام، ومنھم<br />
من یُصرح، ومنھم من یتوارى، ویكادون یكونون سواء ا-ھ.<br />
ابن تیمیة:<br />
قال رحمھ اللھ في الفتاوى (524/28): ومعلوم بالاضطرار من دین<br />
المسلمین وباتفاق جمیع المسلمین أن من سوغ اتباع غیر دین الإسلام، أو اتباع<br />
شریعة غیر دین الإسلام، أو اتباع شریعة غیر شریعة محمد فھو كافر،<br />
وھو ككفر من آمن ببعض الكتاب وكفر ببعض الكتاب ا-ھ.<br />
قلت: من التسویغ لغیر دین اللھ التسویغ والدعوة إِلى الدیمقراطیة أو<br />
الاشتراكیة أو القومیة وغیرھا من المنطلقات والمذاھب العلمانیة التي تفصل<br />
الدین عن الدولة والحیاة، وتجعل الحقوق والواجبات على غیر أساس رابطة<br />
الدین والعقیدة.<br />
ثم َّ لیت طواغیت الحكم في ھذا الزمان وقفوا عند حد التسویغ لشرائع الكفر<br />
والإلحاد، بل تراھم -وبكل وقاحة وجرأة على اللھ- یروِّجون لھا، ویحسنونھا<br />
في أعین الن َّاس، ویأطرون الأمة أطراً إِلى التحاكم إلیھا، والویل كل الویل لمن<br />
یعارضھا، أو یتخلف عن تنفیذ أحكامھا وقوانینھا، أو یستھین بھا .. فأي كف ٍر<br />
یعلو ھذا الكفر؟!<br />
محمد بن عبد الوھاب:<br />
قال رحمھ اللھ: نُكفّ ِر من أشرك باللھ في إلھیتھ بعدما نبین لھ الحجة على<br />
بطلان الشرك، وكذلك نكفّ ِر من حسنھ للناس ، أو أقام الشبھ الباطلة على<br />
إباحتھ، وكذلك من قام بسیفھ دون ھذه المشاھد -أي القبور- التي یشرك باللھ<br />
عندھا، وقاتل من أنكرھا وسعى في إزالتھا، ونكفر من أقر بدین اللھ ورسولھ<br />
ثم َّ عاداه وصد الن َّاس عنھ ا-ھ. (الرسائل الشخصیة:<br />
قلت: ونحوه الذي یقاتل دون قوانین الكفر والشرك، وقاتل من أنكرھا وسعى<br />
في إزالتھا -كما ھو شأن طواغیت الحكم مع الدعاة إِلى الحكم بما أنزل اللھ-<br />
فإنھ كافر أیضاً. وكذلك الذي یروجھا ویحسنھا ویفرضھا على الأمة فإنھ كافر.<br />
ε<br />
.(60 ، 58<br />
216<br />
-4
ε<br />
5- محمد بن إبراھیم بن عبد الطیف آل الشیخ:<br />
حیث عد َّ أنواع الحكام الذین یكفرون كفراً أكبر ناقلاً عن الملة، فقال رحمھ<br />
اللھ: أحدھما أن یجحد الحاكمُ بغیر ما أنزل اللھ أحقیة حكم اللھ ورسُولھ،<br />
وھذا ما لا نزاع فیھ بین أَھْل العلم.. فإنھ كافر الكفر الناقل عن الملة.<br />
الثاني: أن لا یجحد الحاكم بغیر ما أنزل اللھ كون حكم اللھ ورسُولھ حقاً،<br />
لكن اعتقد أن حكم غیر الر َّ سُول أحسن من حكمھ، وأتم ُّ وأشملُ.. وھذا أیضاً<br />
لا ریب أنھ كفر.<br />
الثالث: أن لا یعتقد كونھ أحسن من حكم اللھ ورسُولھ، لكن اعتقد أنھ مثلھ،<br />
فھذا كالنوعین اللذین قبلھ، في كونھ كافراً الكفر الناقل عن الملة.<br />
الرابع: أن لا یعتقد كون حكم الحاكم بغیر ما أنزل اللھ مماثلاً لحكم اللھ<br />
ورسُولھ، فضلاً عن أن یعتقد كونھ أحسن منھ، لكن أعتقد جواز الحكم بما<br />
یخالف حكمَ اللھ ورسُولھ، فھذا كالذي قبلھ.<br />
الخامس: وھو أعظمھا وأشملھا وأظھرھا معاندة للشرع، ومكابرة لأحكامھ<br />
ومشاقة ولرسولھ، ومضاھاة بالمحاكم الشرعیة، إعداداً وإمداداً وإرصاداً<br />
وتأصیلاً وتفریعاً وتشكیلاً وحكماً وإلزاماً، ومراجع ومستندات. فكما أن<br />
للمحاكم الشرعیة مراجع مستمدات، مرجعھا كلھا إِلى كتاب اللھ وسنة رسُولھ<br />
ε، فلھذه المحاكم مراجع، ھي: القانون الملفق من شرائع شتى، وقوانین كثیرة،<br />
كالقانون الفرنسي، والقانون الأمریكي، والقانون البریطاني، وغیرھا من<br />
القوانین، ومن مذاھب بعض البدعیین المنتسبین إِلى الشریعة وغیر ذلك.<br />
فھذه المحاكم في كثیر من أمصار الإسلام مھیأة مكملة، مفتوحة الأبواب،<br />
والناس إلیھا أسراب إثر أسراب، یحكم حكامھا بینھم بما یخالف حكم الس ُّن َّة<br />
والكتاب من أحكام ذلك القانون، وتلزمھم بھ، وتقرھم علیھ، وتحتمھ علیھم،<br />
فأي كفر فوق ھذا الكفر، وأي مناقضة للشھادة بأن محمداً رسُول اللھ بعد ھذه<br />
المناقضة.<br />
السادس: ما یحكم بھ كثیر من رؤساء العشائر، والقبائل من البوادي<br />
ونحوھم، من حكایات آبائھم وأجدادھم، وعاداتھم التي یسمونھا (سلومھم)،<br />
یتوارثون ذلك منھم، ویحكمون بھ ویحضون على التحاكم إلیھ عند النزاع، بقاءً<br />
على أحكام الجاھلیة، وإعراضاً ورغبة عن حكم اللھ ورسُولھ ا-ھ. (رسالة<br />
تحكیم القوانین).<br />
قلت: من یتأمل واقع كثیر من حكام ھذه الأمة -بعین الإنصاف والتجرد<br />
للحق- یجد أن ھذه الأنواع المكفرة الستة التي ذكرھا الشیخ متوفرة فیھم<br />
217
،ε<br />
-6<br />
،Υ<br />
جمیعاً، ویتصفون بھا، ویزیدون علیھا خصلة الاستھانة والطعن، والتھكم<br />
والاستھزاء بشرع اللھ، وخصلة أخرى ثامنة وھي: كرھھم وبغضھم للحكم بما<br />
أنزل اللھ، وخصلة تاسعة: محاربتھم واضطھادھم لمن یطالبھم بالحكم بما<br />
أنزل اللھ. ومع ذلك نجد -من مشایخ الإرجاء- من یتوسع لھم -رھبة أو رغبة-<br />
في التأویل والتسویغ، ویحمل علیھم مقولة: كفر دون كفر، والكفر العملي<br />
الأصغر!!!.<br />
الشنقیطي:<br />
قال رحمھ اللھ في التفسیر (84/4): وبھذه النصوص السماویة التي ذكرنا<br />
یظھر غایة الظھور أن الذین یتبعون القوانین الوضعیة التي شرعھا الشیطان<br />
على ألسنة أولیائھ مخالفة لما شرعھ اللھ جل وعلا على ألسنة رسلھ أنھ لا<br />
یشك في كفرھم وشركھم إلا َّ من طمس<br />
اللھ بصیرتھ، وأعماه عن نور الوحي مثلھم ا-ھ.<br />
فتأمل كیف اعتبر مجرد اتباع القوانین الوضعیة كفراً وشركاً مخرجاً لصاحبھ<br />
من الملة.<br />
7-عبد <strong>العز</strong>یز بن باز:<br />
حیث قال: ولا إیمان لمن اعتقد أن أحكام الن َّاس وآراءھم خیر من حكم اللھ<br />
ورسُولھ، أو تماثلھا وتشابھھا، أو تركھا وأحل محلھا الأحكام الوضعیة،<br />
والأنظمة البشریة، وإن كان معتقداً أن أحكام اللھ خیر وأكمل وأعدل.<br />
وقال: فمن خضع سبحانھ وأطاعھ وتحاكم إِلى وحیھ، فھو العابد لھ، ومن<br />
خضع لغیره وتحاكم إِلى غیر شرعھ، فقد عبد الطاغوت وانقاد لھ ا-ھ.<br />
(رسالة وجوب تحكیم شرع اللھ).<br />
فانظر كیف اعتبر الشیخ أن مجرد ترك الحكم بما أنزل اللھ، واستبدالھ<br />
بالأحكام الوضعیة، والأنظمة البشریة، یقتضي انتفاء مطلق الإیمان عن<br />
صاحبھ، وإن ادعى سلامة اعتقاده نحو شرع اللھ وحكمھ.<br />
ومما تقدم من نقولات لأھل العلم عن الحالات التي یكفر فیھا الحاكم بغیر ما<br />
أنزل اللھ كفراً أكبر ناقلاً عن الملة، تعلم خطأ الشیخ محمد ناصر الدین<br />
الألباني الشنیع والمتكرر في أكثر من موضع، وھو حصره لكفر الحاكم في<br />
صیغة معینة واحدة، الكامن في قولھ: (فلا تستطیع أن تقول بكفره -أي الحاكم<br />
بغیر ما أنزل اللھ- حتى یعرب عما في قلبھ بأنھ لا یرى الحكم بما أنزل اللھ<br />
وحینئذٍ فقط تستطیع أن تقول أنھ كافر كفر ردة!!) فتنة التكفیر:<br />
218
كافراً كُفراً مجازیاً، أو كفراً أصغر (1) ، وإن جَھِلَ حُكمَ اللھ فیھا، مع بذل<br />
جھدهِ، واستفراغ وِسعِھِ في معرفة الحكمِ وأخطأَهُ، فھذا مخطئٌ لھ أجرٌ على<br />
اجتھادِه، وخطؤه مغفور (2) .<br />
-خطأ من قال: لا یضر ُّ مع الإیمان ذنبٌ -<br />
وقولھ: "ولا نقولُ لا یضر ُّ مع الإیمان ذنبٌ لِمَن عملھ"، أراد<br />
الشیخُ مخالَفَة المرجئة (1) . وشُبھتُھم كانت وقعت لبعضِ الأولین، فاتفق<br />
غیر كتاب (التحذیر من فتنة التكفیر)!!. وانظر كتابنا (الانتصار لأھل التوحید:<br />
219
الصحابةُ على قتلِھم إن لم یتوبوا من ذلك، فإن َّ قُدامَةَ بن مظعون (2) شرِ بَ<br />
الخمرَ بعد تحریمھا ھو وطائفةٌ، وتأو َّ لوا (3) قولَھ تعالى: [لیس على الذین<br />
آمنوا وعَمِلوا الصالحات جناحٌ فیما طَعِمُوا إذا ما ات َّقوا وآمنوا وعَمِلُوا<br />
الصالحات] المائدة:<br />
220
وذلك أن ھذه الآیةَ نزلَت بسبب أن اللھَ سبحانھ لَم َّا حر َّ مَ الخمرَ ، وكان<br />
تحریمُھا بعد وقعة أُحُد، قال بعض الصحابَة: فكیف بأصحابنا الذین ماتوا<br />
وھم یشرَ بون الخمر؟ فأنزلَ اللھُ ھذه الآیةَ بی َّنَ أن َّ من طَعِمَ الشيءَ في الحال<br />
التي لم یُحَر َّ مْ فیھا، فلا جُناحَ علیھ إذا كانَ من المؤمنین المتقین الصالحین،<br />
كما كان من أمرِ استقبالِ بیتِ المقدسِ ، ثم َّ إن َّ أولئك الذین فعلوا ذلك ندِمُوا<br />
وعلموا أنھم أخطأوا، وأَیِسُوا من التوبةِ! فكتب عُمرُ إِلى قُدامة یقول لھ:<br />
[حَم. تنزیلُ الكتابِ مِنَ اللھِ <strong>العز</strong>یزِ العلیم. غافرِ الذنبِ وقابلِ التوبِ شدیدِ<br />
العقاب] غافر: 3-1. ما أدري أي ُّ ذَنبكَ أعظمُ، استحلالُكَ المحر َّ م أولاً أمْ<br />
یأسُكَ من رحمةِ اللھ ثانیاً؟! (1) .<br />
قولُھ: "ونَرْ جُو للمحسنینَ مِنَ المؤمنینَ أَنْ یَعْفُوَ عَنْھُم ویُدخِ لَھُم<br />
الجَن َّةَ بِرَحمتِھِ(2) ، ولا نأمَنُ عَلَیْھِم (1) ، ولا نَشْھَدُ لھم بالجَن َّةِ(2) ،<br />
وَ نستغفِرُ لِمُسِیئِیھِمْ، ونخافُ علیھم، ولا نُقَنّ ِطُھُم<br />
." (3)<br />
(1 ( وذلك لأن الیأس من رحمة اللھ -كما سیمر معنا- كفر ینقل عن الملة، لقولھ<br />
تعالى: [إنھ لا ییأس من روحِ اللھ إلا َّ القوم الكافرون] یوسف:<br />
221
]<br />
ش: قال تعالى: أولئك الذینَ یَدعُونَ یبتغونَ إِلى رَبّ ِھِمُ الوسیلَةَ أَی ُّھُمْ<br />
أقربُ ویرجون رحمَتَھُ ویَخافونَ عذابَھُ إن َّ عذابَ ربّ ِك كان محذوراً<br />
الإسراء:<br />
[<br />
222
"لا، یا ابنَةَ الصدیق، ولكنھُ الرجلُ یصومُ ویُصلي ویتصد َّقُ، ویخافُ أن لا<br />
یُقبَلَ منھ" (1)<br />
قال الحسَن -والل ِھ- بالطاعاتِ، واجتھدوا فیھا، وخافوا أَنْ تُرَ د َّ<br />
علیھم، إن َّ المؤمِنَ جمعَ إحساناً وخشیَةً، والمنافِقَ جمعَ إساءةً وأَمناً.<br />
τ: عَمِلُوا<br />
-لوازِ مُ الر َّجاءِ -<br />
ومِم َّا ینبغي أَنْ یُعْلَمَ أن َّ مَن رَ جَا شیئاً، استَلْزَ مَ رجاؤُهُ أُموراً: مَحب َّةُ ما<br />
یَرْ جْوهُ، وخَوْ فُھُ مِن فواتِھِ، وسَعْیُھُ في تحصیلھِ بحَسَبِ الإمكان.<br />
وأم َّا رجاءٌ لا یُقارِ نُھ شيءٌ مِن ذلك، فھو من بابِ الأمَانِيّ ِ، والرجاءُ<br />
شيءٌ، والأماني ُّ شيءٌ آخر، فكل ُّ راجٍ خائفٌ ، والسائِرُ على الطریقِ إذا<br />
خافَ أَسْرَ عَ السَیْرَ مَخَافَةَ الفواتِ.<br />
-الاستخفافُ<br />
بالص َّغائِرِ قَدْ یُلْحِ قُھا بالكبائِ ِر-<br />
الكبیرة قد یقترنُ بھا مِنَ الحیاءِ والخوفِ والاستعظامِ لھا ما یُلْحِ قُھا<br />
بالص َّغائِرِ ، وقد یقترنُ بالصغیرةِ، مِن قِل َّةِ الحیاءِ، وعَدَمِ المُبالاةِ، وتَرْ كِ<br />
الخوفِ والاستھانةِ بھا ما یُلْحِ قُھا بالكبائ ِر (2) ، وھذا أمرٌ مَرجِ عُھُ إِلى ما<br />
یقومُ بالقلْبِ(3) ، وھو قَدْرٌ زائِدٌ على مُجَر َّ دِ الفعل.<br />
-الأسبابُ التي تمنع من لحوقِ الوعید بالمعی َّن (4) -<br />
فإن َّ فاعِلَ السیئات تسقطُ عنھ عقوبَةُ جھنم، بنحو عشرةِ أسبابٍ(1) ،<br />
عُرِ فَت بالإستقراء من الكتاب والس ُّن َّةِ.<br />
(1 ( رواه أحمد، والترمذي، وھو حدیث حسن.<br />
(2 ( وذلك یكون لعدم المبالاة بھا، فھو یمارسھا شبھ مستحل لھا، حیث لا یرى فیھا<br />
ضیراً على دینھ، معتقداً أنھا ذنوب مغفورة -وكأنھ اطلع على الغیب- فلا تُقلقُ لھ<br />
بالاً، وبالتالي فھي لا تضطره للتوبةِ والإستغفار.<br />
(3 ( من اطمئنان للذنب، أو من استحسانٍ لھ واستھانة بھ.<br />
(4 ( كل مانع من موانع التكفیر یُعتبر سبباً یمنع من لحوق الوعید بالمعین، ولیس<br />
كل سبب یمنع من لحوق الوعید بالمعین یعتبر مانعاً من موانع التكفیر، وإن<br />
كانت ھذه الأسباب أحیاناً تتشفع لصاحبھا عند الكفر المحتمل غیر الیقیني،<br />
بحسب قوتھا، وحال الكفر المحتمل قوة وضعفاً.<br />
223
السبب الأول:<br />
التوبةُ(2) ، قال تعالى:<br />
[إلا َّ من تاب] مریم:<br />
224
الرابع: المصائِبُ الدنیویة، قال ε: "ما یُصیبُ المؤمِنَ من وَ صبٍ(1) ولا<br />
نَصَبٍ، ولا غمّ ٍ ، ولا حَزَ نٍ حتى الشوكَة یُشاكُھا، إلا َّ كَف َّرَ بھا من<br />
خطایاه" (2) .<br />
فالمصائِبُ نفسُھا مكفرةٌ، وبالصبرِ علیھا یُثابُ العبدُ(3) وبالت َّسَخ ُّطِ یأثَمُ،<br />
فالمصیبَةُ من فعل اللھ لا من فِعْلِ العبدِ(4) ، وھي جزاءٌ من اللھِ للعبد على<br />
ذنبھ، ویكَفّ ِرُ ذنبھُ بھا<br />
225<br />
ٍ ، ولا ھمّ<br />
. (5)<br />
( 1 )<br />
الوصب: المرض والوجع، والنصب: التعب.<br />
(2 ( متفق علیھ. وفي ھذا المعنى قد جاءت أحادیث عدیدة عن النبيِّ ε، منھا قولھ<br />
ε: "إن العبدَ إذا سبقت لھ من اللھ منزلة لم یبلُغھا بعملھ ابتلاه اللھ في جسده، أو<br />
في مالھ، أو في ولده، ثم َّ صب َّرَ ه على ذلك، حتى یُبلغَھُ المنزلة التي سبقت لھ من<br />
اللھ تعالى". وقولھ: "لیوَ د َّن َّ أَھْلُ العافیة یوم القیامة أن َّ جلودھم قُرِ ضت<br />
بالمقاریض، لما یرون من ثواب أَھْل البلاء". وقولھ: "ما من شيء یُصیبُ<br />
المؤمن في جسده یؤذیھ، إلا َّ كَف َّرَ اللھ عنھ من سیئاتھ". وقولھ ε: "إن اللھ تعالى<br />
یقول: إذا ابتلیتُ عبداً من عبادي مؤمناً، فحمدني وصبر على ما ابتلیتُھ بھ، فإنھ<br />
یقوم من مضجعھ ذلك كیوم ولدتھ أمھ من الخطایا". وھي أحادیث كلھا صحیحة<br />
و الحمد.<br />
( 3 )<br />
قال الشیخ عبد الرحمن السعدي رحمھ اللھ في مقدمة التفسیر: أمر اللھ<br />
بالصبر وأثنى على الصابرین، وذكر جزاءھم العاجل والآجل في عدة آیات،<br />
نحو تسعین موضعاً، وھو یشمل أنواعھ الثلاثة: الصبر على طاعة اللھ، حتى<br />
یؤدیھا كاملة من جمیع الوجوه، والصبر على محارم اللھ حتى ینھى نفسھ<br />
الأمارة بالسوء عنھا. والصبر على أقدار اللھ المؤلمة، فیتلقاھا بصبر وتسلیم،<br />
غیر متسخط في قلبھ، ولا بدنھ ولا لسانھ ا-ھ.<br />
( 4 )<br />
أي لا إختیار للعبد فیھا، إلا َّ من جھة ذنوبھ ومعاصیھ فقد تكون سبباً<br />
لحصولھا.<br />
( 5 )<br />
المصائب والبلایا التي تنزل بالعبد لیست كلھا بسبب معاصیھ وذنوبھ، لتطھره<br />
من ذنوبھ وآثامھ، فالمصائب أحیاناً تنزل لاثقال النفوس وتربیتھا على الجھاد<br />
والمصابرة، وأحیاناً تكون لرفع الدرجات والمقامات یوم القیامة. ثم َّ أن الأنبیاء<br />
أشد الناس بلاءً ثم َّ الأمثل فالأمثل، كما دلت على ذلك الس ُّن َّة، فھل یقال إن شدة<br />
البلاء علیھم لمعاصیھم، ولتطھیرھم من ذنوبھم؟! حاشاھم وألف حاشاھم، وقد<br />
جاء في الحدیث: "یبتلى المرء على قدر دینھ، فإنْ كان دینھ صلباً اشتد بلاؤه،<br />
وإن كان في دینھ رقة ابتلي على حسب دینھ"، وقال ε: "إن الصالحین یُشد َّد
الخامس: عذابُ القَبْرِ .<br />
السادس: دُعاءُ المؤمنین واستغفارُ ھُم، في الحیاةِ وبَعدَ المماتِ.<br />
السابع: ما یُھدَى إلیھ بعدَ الموتِ، مِن ثوابِ صدَقَةٍ، أو قِراءَةٍ، أو حجٍّ،<br />
ونحو ذلك.<br />
الثامن: أھوالُ یومِ القیامَةِ وشدائِدُه.<br />
التاسع: ما ثبت في (الصحیح): "أن َّ المؤمنینَ إذا عَبرُ وا الصراطَ، وقِفُوا<br />
على قنطرَ ةٍ بین الجَن َّةِ والن َّارِ ، فیقتَص ُّ لبعضِ ھم مِنْ بَعْضٍ ، فإذا ھُذّ ِبُوا ونُق ُّوا<br />
أُذِنَ لَھُمْ في دخولِ الجَن َّةِ" رواه البخاري وغیره.<br />
العاشر: شفاعَةُ الشافعینَ، كما تقدم.<br />
الحادي عشر: عَفوُ أرحَم الر َّ احمین مِن غیرِ شفاعَةٍ، كما قال تعالى:<br />
[وَ یغفِرُ ما دونَ ذلِكَ لِمَن یَشاءُ] النساء:<br />
226
وقد مدحَ اللھُ أَھْلَ الخوفِ والرجاء (1) ، بقولھ: [أم َّن ھو قانتٌ آناءَ اللیل<br />
ساجداً وقائماً یحذرُ الآخرةَ ویرجو رحمةَ ربّ ِھ الزمر: [تتجافَى جنوبُھُم<br />
عن المضاجِ عِ یدعون رب َّھُم خوفاً وطمعاً] السجدة:<br />
.9<br />
[<br />
227
قولُھ: " ولا یَخرجُ العبدُ من الإیمان إلا َّ بجحودِ ما أدخلَھُ<br />
فیھ (1) ."<br />
(1 ( ظاھر القول یفید حصر الكفر في الجحود والتكذیب، وھذا قول فیھ نظر لا<br />
یُسلم بھ؛ لدلالة<br />
النصوص الشرعیة التي تفید أن الكفر یمكن أن یكون من غیر جھة الجحود<br />
والتكذیب.<br />
فقد یكون من جھة العناد، كما قال تعالى: [ألقیا في جھنم كل جبارٍ عنید]<br />
ق:<br />
228
وقد یكون الكفر من جھة الطعن بالدین والاستھزاء بھ، كما قال تعالى: [قل<br />
أباللھ وآیاتھ ورسولھ كنتم تستھزئون. لاتعتذروا قد كفرتم بعد إیمانكم]<br />
التوبة:<br />
229
قال الشیخ ابن باز في تعلیقھ على ما جاء في متن الطحاویة: ھذا الحصر فیھ<br />
نظر، فإن الكافر یدخل في الإسلام بالشھادتین إذا كان لا ینطق بھما، فإن كان<br />
ینطق بھما دخل في الإسلام بالتوبة مما أوجب كفره، وقد یخرج من الإسلام<br />
بغیر الجحود لأسباب كثیرة بینھا أھل العلم في باب حكم المرتد، من ذلك:<br />
طعنھ في الإسلام أو في النبي ε، أو استھزائھ باللھ ورسولھ، أو بكتابھ، أو<br />
بشيء من شرعھ سبحانھ، لقولھ سبحانھ: [قل أباللھ وآیاتھ ورسولھ كنتم<br />
تستھزئون. لا تعتذروا قد كفرتم بعد إیمانكم] الآیة. ومن ذلك عبادتھ للأصنام<br />
أو الأوثان، أو دعوتھ الأموات والاستغاثة بھم وطلبھ منھم المدد والعون ونحو<br />
ذلك؛ لأن ھذا یناقض قول لا إلھ إلا اللھ لأنھا تدل على أن العبادة حق <br />
وحده، ومنھا الدعاء والاستغاثة والركوع والسجود والذبح والنذر ونحو ذلك،<br />
فمن صرف منھا شیئاً لغیر اللھ من الأصنام والأوثان والملائكة، والجن،<br />
وأصحاب القبور وغیرھم من المخلوقین فقد أشرك باللھ، ولم یحقق قول لا إلھ<br />
إلا اللھ، وھذه المسائل كلھا تخرجھ من الإسلام بإجماع أھل العلم، وھي لیست<br />
من مسائل الجحود وأدلتھا معلومة من الكتاب والسنة، وھناك مسائل أخرى<br />
كثیرة یكفر بھا المسلم وھي لا تسمى جحوداً، وقد ذكرھا العلماء في باب حكم<br />
المرتد ا-ھ.<br />
وقال صاحب كتاب الجامع في طلب العلم الشریف: قول الطحاوي رحمھ اللھ<br />
"ولا یخرج العبد من الإیمان إلا بجحود ما أدخلھ فیھ"، ھذا الحصر خطأ،<br />
وھو صریح مذھب المرجئة. فإن الإیمان عندھم ھو التصدیق بالقلب ومنھم من<br />
لم یُدخل إقرار اللسان فیھ، واعتبروه شرطاً لإجراء أحكام الإسلام علیھ في<br />
الدنیا، وھم الأشاعرة والماتریدیة، ومنھم من قال بل الإقرار داخل في حقیقة<br />
الإیمان، وھم مرجئة الفقھاء (الأحناف) وبعض الأشاعرة. انظر (<strong>شرح</strong> جوھرة<br />
التوحید) للبیجوري، ص<br />
230
ش: فیھ تقریرٌ لما قال أولاً: "لا نكفّ ِرُ أحداً من أھل القبلة بذنبٍ ما لم<br />
یستحلھ". وتقد َّمَ الكلامُ على ھذا المعنى!.<br />
وقولُھ: "والإیمانُ ھو الإقرارُ باللّ ِسان، والتصدیقُ<br />
(1) ، وجمیعُ ما صَح َّ عن رسولِ اللھِ من الشرعِ<br />
بالجَنانِ<br />
ε<br />
فقط، بل إذا كان الكفر، یكون تكذیباً، ویكون مخالفة ومعاداة وامتناعاً بلا<br />
تكذیب، فلا بد أن یكون الإیمان تصدیقاً مع موافقة وموالاة وانقیاد لا یكفي<br />
مجرد التصدیق ا-ھ.<br />
وقال في الفتاوى (2/<br />
231
قال ابن حجر في الفتح (1/<br />
232
والبیان كُل ُّھُ حق ٌّ، والإیمان واحدٌ، وأھلُھُ في أصلِھ سوا ٌء (1) ،<br />
والتفاضل بینھم بالخشیةِ والتقى، ومُخالَفَةِ الھوى، ومُلازمَةِ<br />
الأولى (1) ."<br />
فمن قال من السلف: الإیمان قول وعمل، أراد قول القلب واللسان، وعمل<br />
القلب والجوارح. ومن أراد الاعتقاد رأى أن لفظ القول لا یفھم منھ إلا القول<br />
الظاھر أو خاف ذلك فزاد الاعتقاد بالقلب. ومن قال: قول وعمل ونیة، قال:<br />
القول یتناول الاعتقاد وقول اللسان، وأما العمل فقد لا یفھم منھ النیة فزاد ذلك.<br />
ومن زاد اتباع الس ُّن َّة فلأن ذلك كلھ لا یكون محبوباً إلا باتباع الس ُّن َّة ا-ھ.<br />
والشاھد من جمیع ما تقدم أن یدرك القارئ عقیدة أَھْل الس ُّن َّة والجماعة في<br />
الإیمان، وأن قول الطحاوي الآنف الذكر في الإیمان خطأ ومحدث وھو قول<br />
المرجئة في الإیمان.<br />
قال الشیخ ابن باز في تعلیقھ على متن الطحاوي: ھذا التعریف فیھ نظر<br />
وقصور، والصواب الذي علیھ أَھْل الس ُّن َّة والجماعة أن الإیمان: قول وعمل،<br />
واعتقاد یزید بالطاعة وینقص بالمعصیة، والأدلة على ذلك من الكتاب والسنة<br />
أكثر من أن تحصر. وإخراج العمل من الإیمان ھو قول المرجئة ا-ھ.<br />
(1 ( ھذا قول المرجئة، ومفاده تساوي إیمان الأنبیاء والمرسلین مع إیمان الفسقة<br />
والفجرة من المسلمین، وھذا مغایر لكثیر من النصوص التي تدل على تفاضل<br />
المؤمنین في إیمانھم، والتي على أساسھا تتفاضل منازلھم یوم القیامة. قال<br />
تعالى: [لا یستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من<br />
الذین أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلاً وعد اللھ الحسنى] الحدید:<br />
233
ش: اختلف الناسُ فیما یقعُ علیھ اسمُ الإیمانِ اختلافاً كثیراً: فذھب مال ُك<br />
والشافعي ُّ، وأحمدُ، والأوزاعي ُّ، وإسحاقُ بنُ راھویھ، وسائِرُ أَھْلِ الحدیث،<br />
وأھْلُ المدینة رحمھم اللھ إِلى أنھ تصدیقٌ بالجَنانِ، وإقرارٌ باللسانِ، وعم ٌل<br />
بالأركان (2) .<br />
234<br />
( 1 )<br />
وقال ε: "أكمل المؤمنین إیماناً أحسنھم خلقاً"، وغیرھا كثیر من النصوص<br />
التي تدل على تفاضل المؤمنین في إیمانھم، والتي على أساسھا تتحدد منازلھم<br />
یوم القیامة.<br />
قال الشیخ ابن باز في تعلیقھ على متن الطحاویة: قولھ "والإیمان واحد وأھلھ<br />
في أصلھ سواء" ھذا فیھ نظر، بل ھو باطل، فلیس أَھْل الإیمان فیھ سواء بل ھم<br />
متفاوتون تفاوتاً عظیماً، فلیس إیمان الرسل كإیمان غیرھم، كما أنھ لیس إیمان<br />
الخلفاء الراشدین وبقیة الصحابة ψ مثل إیمان غیرھم، وھكذا لیس إیمان<br />
المؤمنین كإیمان الفاسقین، وھذا التفاوت بحسب ما في القلب من العلم باللھ<br />
وأسمائھ وصفاتھ، وما شرعھ لعباده، وھو قول أَھْل الس ُّن َّة والجماعة خلافاً<br />
للمرجئة ومن قال بقولھم ا-ھ.<br />
الخشیة والتقى وملازمة الأولى، ھي من ثمار الإیمان ولوازمھ، فالظاھر<br />
مرآة تعكس حقیقة الباطن وما وقر في القلب، وبالتالي فإن التفاضل في الآثار<br />
یستلزم التفاضل في أصل ما وقر في القلب من یقین وإیمان.<br />
( 2 )<br />
نسجل على ھذا التعریف الملاحظتین التالیتین:<br />
أولھما، أن أعمال القلب أعم وأشمل من التصدیق، فمن أتى بالتصدیق من<br />
دون بقیة الأعمال القلبیة كالحب، والخشیة، والانقیاد، والیقین وغیرھا لا یكون<br />
مؤمناً، لذا نجد أن السلف -كما تقدم- استعاضوا في تعریفھم للإیمان عن كلمة<br />
"التصدیق" بكلمة "اعتقاد في القلب" لدلالة ھذا الوصف على عموم أعمال<br />
القلب التي تعتبر شرطاً لصحة الإیمان، بخلاف كلمة "التصدیق" التي تعني<br />
نوعاً واحداً من أعمال القلب.<br />
ثانیاً، لو قال "عمل بالجوارح" كما أثر عن السلف، بدلاً من قولھ "وعمل<br />
بالأركان" لكان أصوب وأدق؛ لأن جمیع الطاعات تدخل في مسمى الإیمان<br />
ولیس فقط العمل بالأركان الخمسة، واللھ تعالى أعلم.
وذھب كثیرٌ من أصحابنا (1) إِلى ما ذكره الطحاوي: أنھ الإقرارُ باللسان،<br />
والتصدیقُ بالجنان.<br />
ومنھم من یقول: إن الإقرار باللسان ركنٌ زائدٌ لیس بأصلي (2) ، وإِلى<br />
ھذا ذھب أبو منصور الماتُریدي، ویُروى عن <strong>أبي</strong> حنیفة<br />
. (1) τ<br />
( 1 )<br />
أي الأحناف الذین ھم على مذھب الإمام <strong>أبي</strong> حنیفة، وقد تقدم أن ما ذكره<br />
الطحاوي في تعریفھ للإیمان من أنھ تعریف ناقص ومُحدَث، وھو بخلاف ما<br />
دلت علیھ الأدلة وأجمعت علیھ كلمة سلف الأمة.<br />
(2 ( مفاد ھذا القول حصر الإیمان في التصدیق فقط، وھذا المذھب -لا نخطئ لو<br />
قلنا- ھو عین مذھب جھم بن صفوان في الإیمان الذي یحصر الإیمان في<br />
العلم أو المعرفة، أو التصدیق القلبي، وبالتالي فالكفر یكون عنده محصوراً في<br />
الجھل أو التكذیب القلبي!<br />
قال ابن تیمیة في الفتاوى (7/<br />
235
وذھب الكر َّ امی َّةُ(2) إِلى أن الإیمانَ ھو الإقرارُ باللسان فقط، فالمنافقون<br />
عندھم مؤمنون كامِلُو الإیمان!.<br />
والذي دعانا إِلى ھذا التعقیب والتفصیل وجود نفرٍ في زماننا یخوضون جدلاً<br />
عقیماً مشبوھاً حول الفارق بین المعرفة والتصدیق، وھل مذھب جھم في<br />
الإیمان ھو المعرفة القلبییة أم التصدیق؟!!<br />
والملفت للنظر في الأمر أن الشارح ابن <strong>أبي</strong> <strong>العز</strong> -رحمھ اللھ- یذكر المذھب<br />
"التصدیقي" في الإیمان من دون أن یتعرض لھ بمدح أو ذم أو نقد، واكتفى<br />
بالترحم والترضي على أصحاب ھذا المذھب من دون أي تعقیب!!.<br />
( 1 )<br />
قال ابن تیمیة في الفتاوى (7/<br />
236
وذھب الجھم بن صفوان إِلى أن الإیمانَ ھو المعرفة بالقلب، وھذا القولُ<br />
أظھرُ فساداً مما قبلھ، فإن لازمھ أن فرعون وقومَھ كانوا مؤمنین، وكذلك<br />
أَھْل الكتاب وغیرھم من الكافرین، بل إبلیسُ یكون عند الجھم مؤمناً، فإنھ لم<br />
یجھلْ ربھ بل ھو عارفٌ بھ، [قال ربِّ فأَنظرني إِلى یوم یُبعثون]، والكفر<br />
عند الجھم ھو الجَھلُ بالربِّ تعالى (1) ، ولا أحدَ أجھل منھ بربھ.<br />
والاختلافُ الذي بین <strong>أبي</strong> حنیفة والأئمة الباقین من أَھْل الس ُّن َّة اختلا ٌف<br />
صُوري، ونزاعٌ لفظي (2) !!.<br />
ولا خلافَ بین أَھْل الس ُّن َّةِ أن اللھَ تعالى أراد من العباد القولَ والعملَ؛<br />
وأعني بالقول: التصدیق بالقلب (1) ، والإقرار باللسان، وھذا الذي یُعنى بھ<br />
عند إطلاقِ قولھِم: الإیمانُ قولٌ وعمل.<br />
دام -في عمره- مرة قال لا إلھ إلا اللھ!! ونحن بدورنا نعجب من ترحم الشیخ<br />
قطب المتكرر على ھذا الذي لا یكفّ ِر الشیوعي الملحد الذي تجتمع فیھ جمیع<br />
مظاھر الجحود والإنكار للدین، الذي یقول لا إلھ إلا اللھ!!<br />
فأي كر َّ امیة تعلو ھذه الكرامیة، وأي إرجاء یعلو ھذا الإرجاء؟! نعوذ باللھ من<br />
237<br />
الكفر والخذلان.<br />
( 1 )<br />
( 2 )<br />
الكفر عند جھم ھو الجھل أو التكذیب القلبي لأن الإیمان عنده محصور في<br />
المعرفة أو التصدیق القلبي. ومن یقول بقول أَھْل الس ُّن َّة في الإیمان لزمھ أن<br />
یقول بقولھم في الكفر، وھو أنھ یكون بالاعتقاد، وبالقول، وبالعمل كما أن<br />
الإیمان یكون بالاعتقاد والقول والعمل.<br />
وما یلزم "جھم" من باطل مذھبھ -وقد أشار الشارح إِلى بعضھ- یلزم المذھب<br />
التصدیقي، حیث لا فرق بین المذھبین كما تقدم.<br />
بل ھو خلاف لفظي ومعنوي وحقیقي، ولا أدل على ذلك من أن الذي یُخرج<br />
العمل من مسمى الإیمان، ویحصر أعمال القلب في التصدیق والمعرفة،<br />
یكون عنده المرء مؤمناً ومن أَھْل الجنة وإن لم یأت بجنس العمل، وانتفى عنھ<br />
مطلق الانقیاد الظاھر والباطن -باستثناء التصدیق- لشرع اللھ، بخلاف من<br />
یدخل العمل في مسمى الإیمان فإن ذلك یلزمھ أن ینفي الإیمان عمن لم یأت<br />
بجنس العمل وأصلھ، الذي ینتفي عنھ مطلق الانقیاد الظاھر لشرع اللھ تعالى.<br />
قال الشیخ ابن باز: لیس الخلاف بینھم وبین أَھْل الس ُّن َّة فیھ لفظیاً، بل ھو لفظي<br />
ومعنوي، ویترتب علیھ أحكام كثیرة یعلمھا من تدبر كلام أَھْل الس ُّن َّة وكلام<br />
المرجئة ا-ھ.
( 1 )<br />
وقد أجمعوا على أنھ لو صَد َّق بقلبھ وأقر َّ بلسانھ، وامتنعَ عن العملِ<br />
بجوارحھ: أنھ عاصٍ ورسولِھ، مستحق ٌّ الوعیدَ(2) .<br />
قول القلب یتضمن جمیع أعمال القلب من علم، وتصدیق، وخشیة، وحب،<br />
ورجاء، وانقیاد، وخضوع، وتوكل، وإنابة وغیرھا من العبادات القلبیة..<br />
وبالتالي فحصر قول القلب بالتصدیق فیھ نظر، وھو خطأ، وقد تقدمت الإشارة<br />
إِلى ذلك.<br />
(2 ( ھذا الإجماع صحیح لا إشكال علیھ، ولكن یخشى أن یفھم منھ نفي الإجماع<br />
على كفر من لا یعمل بالتوحید، ولم یأت بجنس العمل وأصلھ، أو أنھ امتنع عن<br />
مطلق الانقیاد -الظاھر على الجوارح- لشرع اللھ، لذا وجب التنبیھ على كفر<br />
من تكون ھذه صفتھ واللھ تعالى المستعان.<br />
قال ابن تیمیة في الفتاوى (7/<br />
238
وقال رحمھ اللھ في (مفتاح السعادة: 1/<br />
239
-فسادُ قولِ مَن لا یُدخل الأعمالَ في مُسَم َّى الإیمان-<br />
لكن فیمن یقول: إن َّ الأعمال غیرُ داخلَةٍ في مسمى الإیمان، مَن قال: لَم َّا<br />
كان الإیمانُ شیئاً واحداً، فإیماني كإیمان <strong>أبي</strong> بكر الصدیق، وعمر رضي<br />
اللھ عنھما! بل قال: كإیمان الأنبیاءِ والمرسلینَ وجبریل ومیكائیل علیھمُ<br />
السلامَ! وھذا غلُو ٌّ منھ، فإن الكفرَ مع الإیمانِ كالعمى مع البصر، ولا ش َّك<br />
أن البصراءَ یختلفون في قوة البصَرِ وضَعفِھ، فمنھم الأخفشُ والأعشى،<br />
ومن یرى الخط َّ الثخینَ دون الرفیع إلا بزجاجةٍ أو نحوھا، ومَن یرى عن<br />
قُربٍ زائدٍ على العادة، وآخرُ بضدّ ِه<br />
فتفاوتُ نورِ لا إلھ إلا اللھ في قلوبِ أَھْلِھا لا یُحصیھِ إلا َّ اللھُ تعالى (2) ،<br />
فمن الناسِ مَن نورُ ھا في قلبھ كالشمسِ ، ومنھم مَن نُورُ ھا في قلبھ كالكوكب<br />
ِ الدرّ ي، وآخرُ كالمشعلِ العظیم، وآخر كالسّ ِراجِ المضيء، وآخرُ كالسراجِ<br />
. (1)<br />
فقلت: ھذا الكفر الصراح، وخلاف كتاب اللھ وسنة رسولھ وعلماء المسلمین،<br />
قال تعالى: [وما أمروا إلا لیعبدوا اللھ مخلصین لھ الدین] البینة:<br />
وقال حنبل سمعت أبا عبد اللھ أحمد بن حنبل یقول: من قال ھذا فقد كفر<br />
باللھ، ورد َّ على أمره وعلى الرسول ما جاء بھ عن اللھ. (الفتاوى <strong>لابن</strong> تیمیة:<br />
/7<br />
.5<br />
240
الضعیفِ ، ولھذا تظھر الأنوارُ یومَ القیامةِ بأیمانھم وبین أیدیھم على ھذا<br />
المقدار، بحسب ما في قلوبھم من نورِ الإیمان والتوحیدِ علماً وعملاً، وكُل َّما<br />
اشتد َّ نورُ ھذه الكلمةِ وعَظُمَ، أحرَ قَ من الشبھاتِ والشھواتِ بحسب قوتھ،<br />
بحیث إنھ ربما وصلَ إِلى حالٍ لا یُصادِفُ شھوةً ولا شُبھةً ولا ذنباً إلا َّ<br />
أحرَ قَھُ(1) ، وھذا حال الصادِقِ في توحیده، فسماءُ إیمانھ قد حُرِ سَتْ بالرجومِ<br />
من كُل سارِ قٍ، ومَن عَرفَ ھذا عَرَ فَ معنى قول النبيّ ε: ِ "إن َّ اللھَ حر َّ م<br />
على النارِ مَن قال: لا إلھ إلا اللھ یبتغي بذلك وجھَ اللھِ تعالى". وقولھ:<br />
"لا یدخلُ النارَ مَن قالَ: لا إلھ إلا اللھ" (2) .<br />
-زیادةُ الإیمانِ بزیادةِ الطاعات-<br />
(1 ( مصداق ذلك قولھ ε: "تُعرضُ الفتنُ على القلوب كالحصیر عوداً عوداً، فأي<br />
قلبٍ أُشربھا نُكتت فیھ نكتةٌ سوداء، وأي قلبٍ أنكرھا نُكتت فیھ نكتة بیضاء،<br />
حتى یصیر على قلبین: أبیض بمثل الص َّفا فلا تضره فتنةٌ ما دامت السماوات<br />
والأرض، والآخر أسودٌ مرباداً مجخیاً لا یعرفُ معروفاً ولا یُنكر منكراً إلا َّ ما<br />
أُشرب من ھواه". رواه مسلم.<br />
فالمرء كلما كمل توحیده كلما اشتدت مقاومتھ للفتن والأھواء، والضلالات<br />
والانحرافات، وأي خرقٍ یصیب المرء في عقیدتھ وأفكاره أو مواقفھ ھو لخلل<br />
أو ضعفٍ في إیمانھ وتوحیده..<br />
وجوابنا للشباب المسلم الذي یسأل عن المخرج من ھذه الفتن والأھواء الضاربة<br />
الانتشار بین المسلمین في ھذا الزمان.. ھو أن یستعصم بالتوحید -بمعناه الشامل<br />
من غیر انتقاص لشيء من جوانبھ أو أنواعھ- دراسة وفھماً، والتزاماً وعملاً؛<br />
فالتوحید حصن المسلم الحصین الذي یحمیھ ویحفظھ من أي غزوٍ خارجي<br />
مادي أو معنوي- یستھدف شخصھ أو دینھ وأمتھ.<br />
الحدیث متفق علیھ، وكذلك الذي قبلھ. ومما ینبغي التنویھ لھ ھنا أن ھذا<br />
الحدیث وغیره من الأحادیث التي تدل على أن من قال لا إلھ إلا اللھ دخل<br />
الجنة، أو لا یدخل النار وغیر ذلك، یجب أن تحمل على من قال لا إلھ إلا اللھ<br />
معتقداً بھا، عالماً بمدلولاتھا، فاعلاً لمقتضیاتھا، مجتنباً لنواقضھا.. ھذا ما<br />
یقتضیھ التوفیق بین مجموع النصوص ذات العلاقة بالمسألة، وقد تقدم ذكر<br />
بعضھا عند الحدیث عن شروط لا إلھ إلا اللھ، فلتراجع.<br />
ولو أُخِ ذت ھذه الأحادیث مجردة عن بقیة النصوص ذات العلاقة -كما ھو شأن<br />
من أصابھم داء الإرجاء- للزم من یفعل ذلك أن یُدخل المنافقین والزنادقة الجنة،<br />
ویحرم علیھم النار، لأنھم یقولون لا إلھ إلا اللھ.. وھذا باطل بلا خلاف.<br />
-<br />
241<br />
( 2 )
وأما زیادةُ الإیمان من جھةِ الإجمالِ والتفصیل، فمعلومٌ أنھ لا یجِ بُ في<br />
أو َّ لِ الأمر ما وجبَ بعد نزول القرآنِ كُلّ ِھ، ولا یجبُ على كل أحدٍ من<br />
الإیمانِ المفص َّلِ مما أخبرَ بھ الرسولُ ما یجبُ على مَن بلغَھ خَبَرُ هُ، كما في<br />
حقِّ النجاشي (1) وأمثالھ.<br />
وأیضاً فمن وجب علیھ الحج والزكاة مثلاً، یجبُ علیھ من الإیمانِ أن<br />
یعلَمَ ما أُمِرَ بھ، ویؤمن بأن اللھَ أوجَبھ، ما لا یجبُ على غیرِ ه إلا َّ<br />
مجملاً، وھذا یجبُ علیھ فیھ الإیمانُ المفص َّل.<br />
وكذلك الرجلُ أول ما یُسلِمُ، إنما یجبُ علیھ الإقرارُ المجملُ، ثم إذا جاءَ<br />
وقتُ الصلاة، كان علیھ أن یؤمِنَ بوجوبھا ویؤدّ ِیھا، فلم یتسا وَ الناسُ فیما<br />
أُمروا بھ من الإیمان (2) .<br />
(1 ( من شروط العمل بلوغ العلم المتمثل في الخطاب الشرعي، فإذا لم یبلغ العلم<br />
سقط العمل؛ لأن العلم یتقدم العمل والعمل تابع لھ، وعذر النجاشي فیما وقع<br />
لھ من التقصیر من وجھین: أولھما عدم بلوغھ الخطاب الشرعي الذي یُلزمھ<br />
بالعمل، والثاني عجزه عن العمل فیما قد بلغھ من العلم، والعجز یرفع عن<br />
صاحبھ التكلیف والمؤاخذة إِلى حین توفر الاستطاعة لدیھ.<br />
قال ابن تیمیة في الفتاوى )<br />
τ<br />
242
وأما الزیادةُ بالعمل والتصدیق المستلزِ مِ لعملِ القلبِ والجوارحِ، فھو أكمل<br />
من التصدیقِ الذي لا یستلزمُھُ، فالعِلمُ الذي یعمل بھ صاحبھُ أكملُ من العلم<br />
الذي لا یُعملُ بھ، فإذا لم یحصل اللازمُ دل َّ على ضعف الملزوم. ولھذا قال<br />
لما أُخبرَ أن قومَھُ عبدوا<br />
النب ُّي<br />
العجلَ لم یُلقِ الألواحَ، فلما رآھم قد عبدوه ألقاھا، ولیس ذلك لشكّ<br />
في خبرِ اللھِ، لكن المخبَرَ وإن جزم بصدق المخْبِرِ فقد لا یتصورُ المخْبَ َر<br />
بھ في نفسھ كما یتصورُ ه إذ عاینَھُ، كما قال إبراھیمُ: [ربِّ أرِ ني كیف تُحي<br />
الموتى قال أوَ لَمْ تؤمِنْ قالَ بلى ولكن لیطمئن َّ قلبي] البقرة:<br />
ِ موسى<br />
υ المخبَرُ كالمعاین" (1) . وموسى "لیس ε:<br />
243
والش ُّبھةِ أو إحداھما، لَما عصى، بل یشتغِلُ قلبُھُ ذلك الوقت بما یواقِعُھ من<br />
المعصیةِ، فیغیبُ عنھ التصدیق (1) والوعیدُ فیعصي، فلھذا قال ε: "لا یزني<br />
الزاني حِ ینَ یزني وھو مؤمن" (2) .<br />
قال تعالى: [فإنھم لا یكذبونك ولكن الظالمین بآیات اللھ یجحدون] النمل:<br />
244
فھو حین یزني یغیبُ عنھ تصدیقُھ بحُرمَةِ الزّ (1) !، وإن بقي أصلُ<br />
التصدیق في قلبھِ، ثم یُعاودُه، فإن َّ المتقین كما وصفَھُم اللھ تعالى بقولھ: [إ َّن<br />
الذین ات َّقوا إِذا مَس َّھُمْ طائفٌ من الشیطانِ تذك َّروا فإذا ھم مبصرون]<br />
الأعراف:<br />
ِ نى<br />
245
1<br />
2<br />
أتبعُكَ بل أعادیكَ وأبغضُكَ وأخالفُكَ ، لكان كُفرهُ أعظمُ(1) ، فعُلِمَ أن الإیمانَ<br />
لیس ھو التصدیقَ فقط، ولا الكفرُ ھو التكذیبَ فقط (2) ، بل إذا كان الكفرُ<br />
یكونُ تكذیباً، ویكون مخالَفةً ومعاداةً بلا تكذیب، فكذلك الإیمانُ یكونُ<br />
تصدیقاً وموافقةً وموالاةً وانقیاداً، ولا یكفي مج َّردُ التصدیق.<br />
-أحادیثُ تدل ُّ على دخولِ الأعمال في مُسَم َّى الإیمان-<br />
قال ε: "الإیمانُ بِضعٌ وسَبعون شُعبةً، فأفضَلُھا قولُ لا إلھ إلا اللھ،<br />
وأدناھا إماطةُ الأذى عن الطریقِ" (3) ، وقال: "الحیاءُ شُعبةٌ من الإیمان" (4) .<br />
وقال: أكملُ المؤمنین إیماناً أحسَنُھم خُلُقاً" (5) . وقال: "من رأى منكم منكراً<br />
فلیغیرْ هُ بیدهِ، فإن لم یستطع فبقلبھ، وذلك أضعفُ الإیمان". وفي لفظٍ:<br />
"لیس وراء ذلك من الإیمان حبةَ خرْ دَلٍ" (6) . وقال: "البذاذَةُ من الإیمان" (7) .<br />
فیھ رد ٌّ على من یمنعون الكفر عمن تنتفي عنھ المتابعة الظاھرة، إذا كان قد أتى<br />
بالتصدیق والإقرار.<br />
فیھ رد ٌّ على الجھمیة ومن تابعھم الذین یحصرون الكفر في التكذیب أو<br />
الاستحلال القلبي فقط، وقد تقدم ذكر الأدلة الدالة على أن الكفر یكون من غیر<br />
جھة الاستحلال أو التكذیب القلبي ما یغني عن إعادتھا ھنا.<br />
(3 ( متفق علیھ. والشاھد من الحدیث أن مجموع ھذه الشعب التي تتضمن أعمال<br />
الظاھر والباطن تُسمى إیماناً، ومنھا ما یعتبر شرطاً للصحة، ومنھا ما یعتبر<br />
شرطاً للكمال.<br />
(4 ( متفق علیھ وھو جزء من الحدیث الذي قبلھ.<br />
(5 ( صحیح، رواه أبو داود، وابن حبان، والحاكم، وأحمد وغیرھم. والحدیث فیھ<br />
دلالة على تفاضل الناس في الإیمان كما یتفاضلون في الأخلاق.<br />
(6 ( رواه مسلم باللفظین. والحدیث فیھ أن الأمر بالمعروف والنھي عن المنكر<br />
إیمان، وأنھ لیس وراء إنكار المنكر بالقلب شيء من الإیمان، لأنھ لیس وراء<br />
إنكار القلب إلا َّ الرضى، والرضى بالكفر كفر أكبر مخرج عن الملة. وفیھ أن<br />
تغییر المنكر مُناط بجمیع أفراد الأمة، وكل ٌّ بحسب استطاعتھ، لأن "مَن" الواردة<br />
في الحدیث تفید العموم؛ أي كل من یرى المنكر. وفیھ أن من یغیر المنكر بیده<br />
یكون أقوى إیماناً ممن یغیر المنكر بلسانھ، وأن من یغیر المنكر بلسانھ أقوى<br />
إیماناً ممن ینكر المنكر بقلبھ، وأن إنكار المنكر في القلب ھو أضعف درجات<br />
الإیمان.<br />
(7 ( حسن، رواه أبو داود وغیره. والبذاذة تعني: القصد في اللباس والتواضع،<br />
وعدم الإسراف والمباھات الذي یكون مدعاة للكبر والتفاخر والعجب. ولا ینبغي<br />
246
ε<br />
وروى الترمذي ُّ عن رسول اللھ أنھ قال: "من أحب َّ ِ، وأبغضَ ِ،<br />
وأعطى ِ، ومنعَ ِ فقد استكمل الإیمان" (1) . إِلى غیر ذلك من الأحادیثِ<br />
الدال َّةِ على قوةِ الإیمان وضَعْفِھ بحسبِ العمل.<br />
فإذا كانَ الإیمانُ أصلاً لھ شُعَبٌ متعدّ ِدَةٌ، وكل ُّ شُعبةٍ منھا تُسمى إیماناً؛<br />
فالصلاةُ من الإیمان (2) ، وكذلك الزكاةُ والصومُ والحج ُّ، والأعمالُ الباطنةِ؛<br />
كالحیاءِ والتوكلِ والخشیةِ من اللھِ والإنابة إلیھ، حتى تنتھي ھذه الش ُّعَب إِلى<br />
إماطَةِ الأذى عن الطریق فإنھ مِن شُعَبِ الإیمان، وھذه الش ُّعَب منھا ما<br />
یزولُ الإیمانُ بزوالھا، كشعبَةِ الشھادَةِ، ومنھا ما لا یزول بزوالھا، كترك<br />
إماطة الأذى عن الطریق، وبینھُما شُعَبٌ متفاوتةٌ تفاوتاً عظیماً، منھا ما<br />
یَقْرُ بُ من شعبةِ الشھادَةِ، ومنھا ما یقربُ من شعبةِ إماطة الأذى (3) ، وكما أ َّن<br />
أن یفھم من "البذاذة" إھمال نظافة البدن والثوب -كما یفعل ذلك بعض الجھلة-<br />
فاللھ تعالى جمیل یحب الجمال، والنظافة والطھور من الإیمان.<br />
(1 ( صحیح. قلت: الموالاة والمعاداة في اللھ و شرط لصحة الإیمان؛ لأن<br />
المحبوب لذاتھ ھو اللھ تعالى وحده، لا یجوز أن یشركھ في ذلك أحدٌ من خلقھ،<br />
قال ابن تیمیة في الفتاوى )<br />
247
شُعَبَ الإیمان إِیمانٌ، فكذا شعَبُ الكفر كفرٌ ، فالحكم بما أنزلَ اللھُ -مثلاً- من<br />
شُعَبِ الإیمانِ ، والحكم بغیر ما أنزلَ اللھُ كُفْرٌ .<br />
قال الحسن البصري رحمھ اللھ: لیس الإیمان بالتحلي ولا بالتمنّ ِي،<br />
ولكنھُ ما وقرَ في الصدرِ ، وصد َّقتھُ الأعما ُل (1) .<br />
-صلاحُ الظاھِرِ مِن صَلاحِ الباطنِ<br />
لاشك َّ أنھ یلزمُ من عَدمِ طاعةِ الجوارح عَدَمُ طاعَةِ القلب، إذْ لو أطاعَ<br />
القلبُ وانقادَ لأطاعتِ الجوارِ حُ وانقادَتْ ، ویَلْزَ مُ من عَدَمِ طاعةِ القلبِ<br />
وانقیادِه عدَم التصدیق المستلزمِ للطاعَةِ، قال ε: "إن في الجسد مُضغةً إذا<br />
صلَحَتْ صلحَ لھا سائِرُ الجسَدِ، وإذا فسدَت فسَدَ لھا سائِرُ الجسَدِ، ألا وھي<br />
. فمن صَلَحَ قلبُھُ صلَحَ جسَدُه قطعاً، بخلاف العكس (1) .<br />
القلبُ " (3)<br />
- (2)<br />
( 1 )<br />
فیھ أن التصدیق یكون بالعمل الظاھر على الجوارح، كما یكون في القلب؛<br />
وبالتالي فإن حصر التصدیق في القلب فیھ نظر، قال ابن تیمیة في الفتاوى<br />
/7)<br />
248
فعل شیئاً من واجباتھ بلا خوف، فھذا لا یكون مؤمناً في الباطن، وإنما ھو<br />
كافر.<br />
وزعم جھم ومن وافقھ أنھ یكون مؤمناً في الباطن، وأن مجرد معرفة القلب<br />
وتصدیقھ یكون إیماناً یوجب الثواب یوم القیامة بلا قول ولا عمل ظاھر، وھذا<br />
باطل شرعاً وعقلاً وقد كف َّر السلف كوكیع وأحمد وغیرھما من یقول بھذا<br />
القول، وقد قال النبي ε: "إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كلھ،<br />
وإذا فسدت فسد الجسد كلھ ألا وھي القلب"، فبین أن صلاح القلب مستلزم<br />
لصلاح الجسد، وإذا كان الجسد غیر صالح دل على أن القلب غیر صالح،<br />
والقلب المؤمن صالح، فعلم أن من یتكلم بالإیمان ولا یعمل بھ لا یكون قلبھ<br />
مؤمناً؛ وذلك أن الجسد تابع للقلب فلا یستقر شيء في القلب إلا َّ ظھر موجبھ<br />
ومقتضاه على البدن ولو بوجھ من الوجوه ا-ھ.<br />
وقال رحمھ اللھ في الفتاوى (273/18): فالظاھر والباطن متلازمان، لا<br />
یكون الظاھر مستقیماً إلا َّ مع استقامة الباطن، وإذا استقام الباطن فلا بد أن<br />
یستقیم الظاھر ا-ھ.<br />
وقال (221/7): والقرآن یبین أن إیمان القلب یستلزم العمل الظاھر بحسبھ،<br />
كقولھ تعالى: [ویقولون آمنا با وبالرسول وأطعنا ثم یتولى فریق منھم من<br />
بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنین] إِلى قولھ: [إنما كان قول المؤمنین إذا دعوا<br />
إِلى اللھ ورسولھ لیحكم بینھم أن یقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك ھم<br />
المفلحون]، فنفى الإیمان عمن تولىعن طاعة الرسول، وأخبر أن المؤمنین إذا<br />
دعوا إِلى اللھ ورسولھ لیحكم بینھم سمعوا وأطاعوا، فبین أن ھذا من لوازم<br />
الإیمان ا-ھ.<br />
وقال (533/7): وبھذا یظھر خطأ جھم ومن اتبعھ في زعمھم أن مجرد<br />
إیمان بدون الإیمان الظاھر ینفع في الآخرة، فإن ھذا ممتنع إذ لا یحصل<br />
الإیمان التام في القلب إلا َّ ویحصل في الظاھر موجبھ بحسب القدرة، فإن من<br />
الممتنع أن یحب الإنسان غیره حباً جازماً وھو قادر على مواصلتھ ولا یحصل<br />
منھ حركة ظاھرة إِلى ذلك ا-ھ.<br />
وقال (187/7): فإذا كان فیھ -أي القلب- معرفة وإرادة سرى ذلك إِلى البدن<br />
بالضرورة، لا یمكن أن یتخلف البدن عما یریده القلب. فإذا كان القلب صالحاً<br />
بما فیھ من الإیمان علماً وعملاً قلبیاً، لزم ضرورة صلاح الجسد بالقول<br />
الظاھر والعمل بالإیمان المطلق، كما قال أئمة أَھْل الحدیث: قول وعمل؛ قول<br />
باطن وظاھر، وعمل باطن وظاھر، والظاھر تابع للباطن لازم لھ متى صلح<br />
249
الباطن صلح الظاھر، وإذا فسد فسد، ولھذا قال من قال من الصحابة عن<br />
المصلي العابث: لو خشع قلب ھذا لخشعت جوارحھ ا-ھ.<br />
ومما تقدم تعلم خطأ الذین تابعوا جھماً في كثیر من أقوالھ في الكفر والإیمان،<br />
حیث یفترضون وجود إیمانٍ نافع في القلب یرافقھ ظاھر كافر متمرد على<br />
طاعة اللھ. ومن ذلك قول الشیخ محمد ناصر الدین الألباني -والذي تابعھ علیھ<br />
كثیر ممن یقلدوه! -في شریطھ المعروف ب "الكفر كفران! فإن كان القلب<br />
مؤمناً والعمل كافراً، فھنا یتغلب الحكم المستقر في القلب على الحكم المستقر<br />
في العمل.. لا یوجد عندنا في الشریعة أبداً نص یصرح ویدل دلالة واضحة<br />
على أن من آمن بما أنزل اللھ لكنھ لم یفعل بشيء مما أنزل اللھ فھذا ھو<br />
كافر.. لا یجوز سحب ھذه الآیة -ومن لم یحكم بما أنزل اللھ فأولئك ھم<br />
الكافرون- على أولئك المسلمین لأنھم یختلفون عن المشركین بأنھم آمنوا بما<br />
أنزل اللھ لكن إیمانھم بما أنزل اللھ لم یقترن بھ العمل!، بینما أولئك الكفار<br />
جحدوا ما أنزل اللھ قلباً وقالباً.. لكننا نفرق بین الكفر المقصود قلباً وبین الكفر<br />
الذي لم یقصد قلباً. وإنما قالباً وفعلاً.. انتھى الاقتباس من الشریط. وغیرھا<br />
كثیر من العبارات التي تدل على أن كلاً من القلب والجوارح یتحرك بمفرده<br />
وبطریقتھ المستقلة والمنعزلة عن الآخر! فھومؤمن في قلبھ لكنھ كافر في<br />
ظاھره.. فتأمل!!.<br />
ومن إطلاقاتھ الغریبة في ذلك قولھ في السلسلة (112-111/6): فلا یجوز<br />
حمل ھذه الآیات -ومن لم یحكم بما أنزل اللھ.. - على بعض الحكام المسلمین<br />
وقضاتھم الذین یحكمون بغیر ما أنزل اللھ من القوانین الأرضیة، أقول: لا<br />
یجوز تكفیرھم بذلك وإخراجھم من الملة إذا كانوا مؤمنین باللھ ورسولھ، وإن<br />
كانوا مجرمین بحكمھم بغیر ما أنزل اللھ، لا یجوز ذلك، لأنھم وإن كانوا<br />
كالیھود من جھة حكمھم المذكور، فھم مخالفون لھم من جھة أخرى، ألا وھي<br />
إیمانھم وتصدیقھم بما أنزل اللھ، بخلاف الیھود الكفار، فإنھم كانوا جاحدین لھ<br />
كما یدل علیھ قولھم المتقدم: "وإن لم یعطكم حذرتموه فلم تحكموه"، بالإضافة<br />
إِلى أنھم لیسوا مسلمین أصلاً، وسر ھذا أن الكفر قسمان، اعتقادي وعملي،<br />
فالاعتقادي مقره القلب، والعملي محلھ الجوارح!! ا-ھ.<br />
:"<br />
فتأمل، فھم -أي الحكام- في الباطن مؤمنون بما أنزل اللھ، ومع ذلك فھم في<br />
الظاھر كالیھود لا یحكمون بما أنزل اللھ.. وھذا لا یستلزم عند الشیخ ومن<br />
تابعھ تكفیرھم، لأن باطنھم -وإن جاء مخالفاً لظاھرھم الكافر- مستقر على<br />
التصدیق والإیمان..!!<br />
250
-الإیمانُ یزدادُ وینقصُ<br />
- (2)<br />
-<br />
والشیخ عندما یقسم الكفر إِلى كفرین، فھو لا یرید تقسیم أَھْل الس ُّن َّة الذین<br />
قسموا الكفر إِلى كفر أكبر وكفر أصغر، وإنما یرید تقسیم جھم بن صفوان ومن<br />
تابعھ من غلاة المرجئة للكفر؛ كفر باطن مقره القلب وھو الذي یخرح من<br />
الملة، وكفر ظاھر مقره الجوارح لا یخرج صاحبھ من الملة مھما كان بواحاً.<br />
وإلیك بعض أقوالھ في ذلك مقتبسة من شریطھ "الكفر كفران! " حیث قال:<br />
الكفر الاعتقادي یختلف عن الكفر العملي من حیث أنھ كفر قلبي، أما الكفر<br />
العملي لیس كفراً قلبیاً وإنما ھو كفر عملي!!.. ھل انتبھت سابقاً أو لاحقاً في<br />
ھذه الجلسة أن الكفر عمل قلبي ولیس عمل بدني!! ھل انتبھت لھذا أم لا!! ..<br />
ا-ھ.<br />
وقد رددنا على ھذا الشریط المذكور لما فیھ من الطامات- بمصنف مطبوع<br />
یزید عن المائتي صفحة، فلیراجعھ من یشاء.<br />
( 1 )<br />
قولھ "بخلاف العكس" أي أحیاناً یستلزم صلاح الجسد صلاح القلب ویدل<br />
علیھ، ولكن لیس على الاطلاق ووجھ الجزم لاحتمال النفاق، حیث أن المنافق<br />
یُظھر من الأعمال الصالحة ما لیس في قلبھ من الاعتقاد والكفر، ومع ذلك فإن<br />
المنافق لا نستطیع أن نحكم على صلاح ظاھره كما لو كان سلیم الباطن<br />
والاعتقاد، حیث أن القرائن العملیة الدالة على كفره ونفاقھ لا بد من أن تظھر<br />
بین الفینة والأخرى من خلال فلتات اللسان أو المواقف التي لا یمكن لھ أن<br />
یتجنبھا أو یتجاوزھا بحكم انقیاده لاعتقاده الفاسد في الباطن.<br />
وقد تقدم قول ابن تیمیة: وذلك أن الجسد تابع للقلب فلا یستقر شيء في القلب<br />
إلا َّ ظھر موجبھ ومقتضاه على البدن ولو بوجھ من الوجوه ا-ھ.<br />
قلت: فمن استقر في قلبھ النفاق، لابد من أن یظھر نفاقھ على جوارحھ وفي<br />
مواقفھ ولو بوجھ من الوجوه. ومنھ تعلم أن صلاح ظاھر المنافق لا یتساوى مع<br />
صلاح ظاھر المؤمن الصادق في إیمانھ.<br />
( 2 )<br />
أي یزداد بالطاعات، وینقص بالذنوب والمعاصي، ومن لوازم ھذا القول<br />
التسلیم بأن المعاصي والذنوب تؤثر على الإیمان ضعفاً وسلباً بحسب نوعھا<br />
وكمھا، حیث كلما كبرت الذنوب وكثرت كلما ضعف الإیمان، فكبائر الذنوب<br />
تضعف الإیمان أكثر من الصغائر، والكفر أو الشرك أثره على الإیمان أشد من<br />
اجتماع الكبائر كلھا معاً.<br />
وبالتالي من یقول: الإیمان یزداد وینقص یلزمھ أن یمیز بین الشرك وغیره من<br />
الذنوب من حیث أثرھا على الإیمان ضعفاً وقوةً، ومن لا ینفي الإیمان بالشرك<br />
251
قال تعالى: [وإذا تُلِیَتْ علیھم آیاتُھ زادَتھم إیماناً] 3.<br />
اللھُ الذین اھتدَوا ھُدَىً [ مریم:<br />
الأنفال:<br />
[ویزیدُ<br />
252
τ<br />
وحدیث الشفاعَةِ، وأنھ یخرجُ مِنَ النارِ من في قلبھِ أدنى أدنى مثقالِ ذَر َّ ةٍ من<br />
إیمانٍ .<br />
فكیف یُقال بعد ھذا إن إیمانَ أَھْلِ السماواتِ والأرض سواء؟! وإنما<br />
التفاضلُ بینھم بمعانٍ أُخر غیرِ الإیمان (1) .<br />
ومن كلام الصحابة، قول <strong>أبي</strong> الدرداء: مِن فِقھِ العبدِ أن یتعاھدَ إیمانَھُ وما<br />
نقصَ منھ، ومن فقھ العبدِ أن یعلَمَ: أیزدادُ ھو أم ینقصُ ؟<br />
وكان عمر یقول لأصحابھ ھَلُم ُّوا نَزدَدْ إیماناً، فیذكرونَ اللھَ Υ.<br />
وكان ابن مسعود یقولُ في دعائھ: اللھم َّ زِ دنا إیماناً ویقیناً وفقھاً(2) .<br />
وكان معاذ بن جبل یقولُ لِرجُلٍ: اجلِسْ بنا نؤمن ساعَةً(3) . ومثلھ عن عبد<br />
اللھ بن رواحة. وصح َّ عن عمار بن یاسرٍ أنھ قال: ثلاثٌ من كُن َّ فیھ فقد<br />
استكمل الإیمانَ: إنصافٌ من نفسِھ، والإنفاقُ مِن إقتارٍ ، وبذلُ السلام<br />
للعالَم (4) .<br />
-مُسم َّى الإیمان أحیاناً یتضمنُ العملَ ویشملُ الإسلام (5) -<br />
ب- حب ٌّ ینفي مطلق الإیمان: كأن تكون طاعة بعض الناس أحب إِلى قلبھ من<br />
طاعة النبي ε، وحكمھ مقدم عنده على حكم النبي ε، ومثل ھذا النوع من الحب<br />
لاشك َّ أنھ ینفي عن صاحبھ مطلق الإیمان.<br />
( 1 )<br />
فیھ رد على ما جاء في متن الطحاوي رحمھ اللھ وھو قولھ: "وأھلھ في أصلھ<br />
سواء، والتفاضل بینھم بالخشیة والتقى.. "، وكان الشارح من قبل یظھر أن<br />
خلاف أصحاب ھذا القول مع أَھْل الس ُّن َّة والحدیث خلاف صوري لا حقیقي!!.<br />
( 2 )<br />
قال الھیثمي في المجمع (185/10): إسناده جید.<br />
(3 ( رواه ابن <strong>أبي</strong> شیبة بسند صحیح.<br />
(4 ( رواه ابن <strong>أبي</strong> شیبة بإسناد صحیح عنھ موقوفاً.<br />
ھل یتضمن الإیمان الإسلام، أم ٍ لكلّ منھما لھ معناه المغایر، وھل الإسلام<br />
یأتي أحیاناً متضمناً للإیمان..؟ ھذه مسألة كنت قد كتبت فیھا في كتابي "قواعد<br />
في التكفیر" بشيء من التفصیل، وإتماماً للفائدة أنقلھ ھنا فأقول:<br />
خلاصة ما قیل في المسألة، والذي دل َّت علیھ النصوص من الكتاب والسنة أ َّن<br />
الإیمان أحیاناً یطلق ویكون لھ معنى مغایر للإسلام، وكذلك الإسلام فإنھ أحیاناً<br />
یطلق ویكون لھ معنى مغایر للإیمان. وفي ھذه الحالة یكون الإیمان مكانھ<br />
القلب ویتضمن الأعمال القلبیة كالإیمان باللھ، وملائكتھ، وكتبھ، ورسلھ،<br />
والیوم الآخر، والقضاء والقدر خیره وشرّ ه، والحب في اللھ والكره في اللھ.<br />
253<br />
( 5 )
ε<br />
أم َّا الإسلام فیكون مكانھ الجوارح ویتضمن الأعمال الظاھرة من صلاة<br />
وصوم، وحج، وزكاة وغیر ذلك.<br />
ودلیل ذلك، سؤال جبریل النب َّي ε عن الإسلام والإیمان، قال: یا محم َّد<br />
أخبرني عن الإسلام. فقال رسول اللھ ε: "الإسلام: أنْ تشھَدَ أنْ لا إلھ إلا اللھ،<br />
وأن َّ محمداً رسول اللھ وتُقیمَ الصلاةَ، وتؤتي الزكاةَ، وتصومَ رمضانَ، وتح َّج<br />
البیت إن استطعت إلیھ سبیلاً". قال: صدَقتَ . قال: فأخبرني عن الإیمان. قال:<br />
"أن تؤمِنَ باللھ، وملائكتِھ وكُتُبِھ، ورسُلھ، والیوم الآخر، وتؤمِنَ بالقَدرِ خیرِ هِ<br />
ِ وشَرّ هِ". قال: صدقت. (رواه مسلم وغیره). ففسر الإسلام بأمر ظاھر بینما<br />
فسر الإیمان بأمر باطن.<br />
وكان النبي یقول: "اللھُم َّ مَن أحییتَھُ منا، فأحیِھ على الإسلام، ومن توفیتَھُ<br />
منا، فتوفھ على الإیمان". (رواه الترمذي وقال: حسن صحیح، والحاكم في<br />
صحیحھ، ووافقھ الذھبي).<br />
قال ابن رجب في جامع العلوم (108/1): لأن َّ العمل بالجوارح إن َّما یتمكن<br />
منھ في الحیاة، فأما عند الموت فلا یبقى غیرُ التصدیق بالقلب ا ھ.<br />
وقال ε: "من صل َّى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبیحتنا فذلكم المسلم".<br />
(رواه البخاري وغیره)، وھذه أعمال ظاھرة من عمل الجوارح.<br />
وفي صحیح مسلم أن رجلاً سأل رسولَ اللھ ε، أي المسلمین خیر؟ قال: "من<br />
سلم المسلمون من لسانھ ویده". بینما عندما سئل عن المؤمن قال: "من أمنھ<br />
الناس على أموالھم وأنفسھم". ففسر المؤمن بأمر باطن، وھو أن یأمنھ الناس،<br />
والأمان مكانھ القلب، بینما فسر المسلم بأمر ظاھر، وھو سلامة المسلمین من<br />
لسانھ ویده، وكلاھما شيء ظاھر.<br />
وفي حدیث عمرو بن عبسة، أن رجلاً قال للنبيِّ ε: ما الإسلام؟ قال: "إطعام<br />
الطعام ولین الكلام". قال: فما الإیمان؟ قال: "السماحة والصبر". ففسر الإسلام<br />
بأمر ظاھر، وفس َّرَ الإیمان بأمر باطن لأن َّ السماحة والصبر مكانھما القلب.<br />
وكذلك قولھ في (الصحیحین): "لا یؤمن أحدكم حتى یحب َّ لأخیھ ما یح ُّب<br />
لنفسھ". وقولھ: "لا یؤمن أحدكم حتى أكونَ أحب َّ إلیھ من والده والناس<br />
أجمعین". وقولھ: "ثلاثٌ مَن كن َّ فیھ وجد حلاوة الإیمان: أن یكون اللھُ<br />
ورسولُھ أحب َّ إلیھ مما سواھما، وأن یحب المرء لا یحبھ إلا َّ ، وأن یكره أن<br />
یعود في الكفر كما یكره أن یُقذف في النار". والحب والكره ھما من أعمال<br />
القلوب. وكذلك قول النبيِّ ε في الأنصار: "لا یحبھم إلا َّ مؤمن، ولا یبغضھم إلا َّ<br />
منافق" رواه مسلم. والأحادیث في ھذا الباب كثیرة، وقد استفاضت بھا الس ُّن َّة.<br />
-<br />
254<br />
ε
وأحیاناً یُطلق الإیمان ویكون شاملاً للإسلام متضمناً لھ، وكذلك الإسلام فإنھ<br />
أحیاناً یُطلق ویكون متضمناً للإیمان، وفي ھذه الحالة یكون الإیمان مكانھ<br />
الباطن والظاھر حیث أنھ یشمل العمل، وكذلك الإسلام فإنھ یكون مكانھ الظاھر<br />
والباطن.<br />
كما في قولھ تعالى: [إن َّ الدین عند اللھ الإسلام] وقولھ: [ومن یبتغِ غیرَ<br />
الإسلام دیناً فلن یُقبل منھ] آل عمران: و 85. فالإسلام الذي لا یقبل اللھ<br />
دیناً غیره، ھو الإسلام الذي یتضمن الإیمان والأعمال القلبیة، والأعمال<br />
الظاھرة ولا یصح أن یقال غیر ذلك.<br />
وكذلك قولھ تعالى: [فأخرجنا من كان فیھا من المؤمنین فما وجدنا فیھا غیر<br />
بیت من المسلمین] الذاریات 36-35. فالمسلم والمؤمن ھنا بمعنى واحد، وكل<br />
منھما متضمن للآخر. وھو كقولھ في السلام على مقابر المسلمین: "السلام<br />
على أَھْل الدیار من المؤمنین والمسلمین، ویرحَمُ اللھ المستقدمین من َّا<br />
والمتأخرین، وإنا إن شاء اللھ بكم للاحقونَ" رواه مسلم. قال النووي في<br />
ال<strong>شرح</strong> (44/7): ولا یجوز أن یكون المراد بالمسلم في ھذا الحدیث غیر<br />
المؤمن لأن َّ المؤمن إن كان منافقاً لا یجوز السلام علیھ والترحم ا-ھ.<br />
قلت: لعل الأصوب أن یُقال "المسلم" بدلاً من كلمة "المؤمن" لأن المؤمن لا<br />
یصح أن یفترض فیھ النفاق، فلا یجتمع في قلب واحد إیمان ونفاق مخرج من<br />
الملة، بینما المسلم یمكن أن یكون في ظاھره مستسلماً لأحكام الشریعة وفي<br />
باطنھ یُضمر الكفر والنفاق.<br />
وكذلك قول النبي ε، لوفد عبد القیس: "أتدرون ما الإیمان باللھ وحده؟"<br />
قالوا: اللھ ورسولُھ أعلم، قال: "شھادة أن لا إلھ إلا اللھ وأن محمداً رسولُ<br />
اللھ، وإقام الصلاة، وإیتاء الزكاة، وصیام رمضان، وأن تعطوا من المغنم<br />
الخمس". ففسر الإیمان بالإسلام مما دل َّ أن َّ الإیمان أحیاناً یشمل الإسلام.<br />
وفي مسند الإمام أحمد، عن عمرو بن عبسة، قال: جاءَ رجلٌ إِلى النبيِّ ε،<br />
فقال: یا رسول اللھ، ما الإسلام؟ قال: "أن تُسلم قلبكَ وأن یسلم المسلمونَ<br />
من لسانِكَ ویدِكَ "، قال: فأي ُّ الإسلام أفضلُ؟ قال: "الإیمان". قال: وما الإیمان؟<br />
قال: أن تؤمِن باللھ، وملائكتھ، وكتبِھ، ورسُلِھ، والبعثِ بعدَ الموت" قال: فأ ُّي<br />
الإیمان أفضلُ؟ قال: "الھجرة". قال: فما الھجرةُ؟ قال: "أن تھجُرَ الس ُّوءَ"، قال:<br />
فأي ُّ الھجرة أفضل؟ قال: "الجھاد"؛ قال الھیثمي في "المجمع"<br />
أحمد، والطبراني في الكبیر بنحوه، ورجالھ ثقات.<br />
59/1: رواه<br />
19<br />
255<br />
ε
فجعل النبي ε الإیمان داخلاً في الإسلام وھو أفضلھ، ثم أدخل الأعمال<br />
كالھجرة والجھاد في مسمى الإیمان وجعلھا منھ. كما فسر الإسلام بأمر باطني<br />
وھو استسلام القلب Υ.<br />
وكذلك قولھ ε: "لایدخل الجنة إلا َّ نفس مسلمة" رواه البخاري. فالإسلام ھنا<br />
یشمل الإیمان، لأن من لوازم دخول الجنة الإیمان باللھ Υ. كما قال لعمر:<br />
"یا ابن الخطاب! اذھب فنادِ في الناس: إنھ لا یدخل الجنة إلا َّ المؤمنون" رواه<br />
أحمد، ومسلم، صحیح الجامع: "7837". وفي حدیث آخر قال: "یا ابن عوف!<br />
اركب فرسك، ثم نادِ: إن َّ الجنة لا تحل ُّ إلا َّ لمؤمنٍ" رواه أبو داوود، صحیح<br />
الجامع الصغیر: "7840".<br />
تنبیھ: بقي أمرٌ لا بد َّ من ذكره والتنبیھ علیھ، وھو أن َّ كل مؤمن مسلم، وذلك<br />
أن َّ المؤمن الصادق في إیمانھ لا بد َّ من أن یدفعھ إیمانھ للعمل وأن تظھر آثاره<br />
على جوارحھ بفعل الأركان والطاعات، والإنتھاء عما نُھي عنھ. كما في<br />
الحدیث الصحیح: "ألا وإن َّ في الجسد مضغةً إذا صلحت صلح الجسد كل ُّھ، وإذا<br />
فسدت فسد الجسدُ كل ُّھ، ألا وھي القلب".<br />
قال ابن حجر في "الفتح"(128/1): خص َّ القلبَ بذلك لأنھ أمیر البدن،<br />
وبصلاح الأمیر تصلح الرعیة، وبفساده تفسد ا-ھ. لذلك فأیما امرءٍ یدعي<br />
الإیمان في قلبھ، وأنھ یصدق بكل ما جاء بھ الإسلام، وھو بنفس الوقت لا یقوم<br />
بأركان الإسلام ولا بشئٍ من واجبات الإیمان ومتطلباتھ العملیة، فھو كافر<br />
كذ َّاب لأن َّ الفرع دلیل على الأصل، والظاھر دلیل على الباطن، فخراب<br />
الظاھر من خراب الباطن كما أن َّ صلاح الظاھر من صلاح الباطن، فھو لازم<br />
لملزوم.<br />
ولیس كل مسلم مؤمناً؛ لاحتمال أن یكون المسلم منافقاً، حیث أنھ یأتي بأركان<br />
الإسلام. فمثل ھذا وإن كان كافراً مخلداً في نار جھنم وفي الدرك الأسفل منھا،<br />
إلا َّ أنھ في الدنیا یعامل معاملة المسلمین بناء على ظاھره ما لم یُعرف نفاقھ<br />
ویظھر.<br />
ومما تقدم نستطیع أن نقول: أن َّ كل مؤمن بالمعنى المتضمن للعمل یدخل<br />
الجنة، ولیس كل مسلم -بالمعنى المغایر للإیمان- یدخل الجنة. أما إن كان<br />
بالمعنى المتضمن للإیمان والاعتقاد، یكون كل مسلم یدخل الجنة وھو من<br />
أھلھا.<br />
ε<br />
256
.2<br />
قال تعالى: [إنما المؤمنون الذین إذا ذُكِرَ اللھُ وجِ لَتْ قلوبُھم] الأنفال:<br />
[ولو كانوا یؤمنون باللھ والنبيّ ِ وما أُنزِ لَ إلیھ ما اتخذوھم أولیاءَ]<br />
المائدة:<br />
257
وقولھ تعالى:<br />
الأحزاب:<br />
[إن َّ المسلمین والمسلماتِ والمؤمنینَ والمؤمنا ِت]<br />
258
-مسألةُ الاستثناءِ في الإیمان-<br />
وھو أن یقولَ الرجلُ: أنا مؤمنٌ إن شاءَ اللھُ. والناسُ فیھ على ثلاث ِة<br />
أقوالٍ: طرفان ووسط، منھم مَن یوجِ بُھ، ومنھم من ِ یُحرّ مُھ، ومنھم من<br />
یُجیزُ ه باعتبارٍ ویمنعُھ باعتبار، وھذا أصح ُّ الأقوال، وھم أسعدُ بالدلیلِ من<br />
الفریقین: فإن أرادَ المستثني الشك َّ في أصل إیمانھ مُنع مِنَ الاستثناءِ، وھذا<br />
مما لا خلافَ فیھ، وإن أرادَ أنھ مؤمِنٌ من المؤمنین الذین وصفھم اللھ:<br />
أولئكَ ھم المؤمنون حق َّاً لھم درجاتٌ عند ربّ ِھم ومغفرةٌ ورِ زقٌ كریمٌ<br />
الأنفال: 4. فالاستثناء حینئذٍ جائِزٌ (1) ، وكذلك من استثنى وأرادَ عدَمَ علمھِ<br />
بالعاقبة، وكذلك من استثنى تعلیقاً للأمر بمشیئةِ اللھ، لاشكاً في إیمانھ (2) .<br />
[<br />
259<br />
ε<br />
]<br />
الموت". قال الھیثمي في المجمع (59/1): رواه أحمد، والطبراني في الكبیر<br />
بنحوه، ورجالھ ثقات.<br />
فانظر كیف فسر النبي في أول الحدیث الإسلام بأمر باطن وظاھر في آنٍ<br />
معاً، وھو إسلام القلب ، وأن یسلم المسلمون من لسانك ویدك.<br />
ثم انظر كیف جعل الإسلام متضمناً للإیمان، ثم كیف فسر الإیمان بالأصول<br />
التي ھي من أعمال القلب.<br />
وكذلك قولھ ε: "لا یدخل الجنة إلا َّ نفسٌ مسلمة"، فالإسلام ھنا یشمل الإیمان<br />
ویتضمنھ، لأن المنافق الذي لا یعتقد الإیمان لایدخل الجنة، بل ھو في الدرك<br />
الأسفل من النار.<br />
خلاصة القول: قد تقدمت الإشارة إِلى أن الإیمان یُطلَق أحیاناً ویكون شاملاً<br />
للإسلام، وأحیاناً یُطلق ویكون مغایراً لھ.<br />
وكذلك الإسلام، أحیاناً یطلق ویكون شاملاً للإیمان، وأحیاناً یُطلق ویكون مغایراً<br />
لھ. ھذا الذي دلت علیھ نصوص الشریعة، واللھ تعالى أعلم.<br />
( 1 )<br />
بل ھو واجب، لأن عدم الاستثناء في ھذه الحالة یُعتبر نوعاً من التألي على<br />
اللھ بغیر علم، وفیھ تزكیة المرء لنفسھ على اللھ، واللھ تعالى یقول: [فلا تزكوا<br />
أنفسكم ھو أعلم بمن اتقى].<br />
( 2 )<br />
الاستثناء یكون كذلك للعمل، لأن العمل من الإیمان، والمرء لم یأت بمطلق<br />
العمل لذا فھو یستثني لھ، بخلاف المرجئة والجھمیة الذین یحصرون الإیمان<br />
في التصدیق فھم لا یرون الاستثناء في الإیمان، لأن الاستثناء عندھم یستلزم<br />
الشك في التصدیق!.<br />
وقد سئل الإمام أحمد عن الاستثناء في الإیمان، فقال: نعم، الاستثناء على غیر<br />
معنى شك مخافة واحتیاطاً للعمل، وقد استثنى ابن مسعود وغیره، وھو مذھب
الثوري، قال اللھ عز وجل: [لتدخلن المسجدَ الحرامَ إن شاء اللھُ آمنین]<br />
الفتح: 27. وقال النبي ε لأصحابھ: "إني لأرجو أن أكون أتقاكم "، وقال في<br />
البقیع: "علیھ نبعث إن شاء اللھ"، وقال: "وإنا إن شاء اللھ بكم لاحقون"، قال:<br />
ھذا حجة في الاستثناء في الإیمان، لأنھ لا بد من لحوقھم لیس فیھ شك.<br />
وقال أیضاً: سمعت یحیى بن سعید القطان یقول: ما أدركت أحداً من أصحابنا<br />
لا ابن عون، ولا غیره إلا َّ وھم یستثنون في الإیمان.<br />
وقال رحمھ اللھ لرجل: ألیس الإیمان قولاً وعملاً؟ قال الرجل: بلى، قال:<br />
فجئنا بالقول، قال: نعم، قال: فجئنا بالعمل؟ قال: لا، قال: فكیف تعیب أن یقول<br />
إن شاء اللھ ویستثني؟ وقال: الإیمان قول وعمل فجئنا بالقول ولم نجئ بالعمل،<br />
فنحن مستثنون بالعمل.<br />
وقال -أي الإمام أحمد- رحمھ اللھ: بلغني عن عبد الرحمن بن مھدي أنھ قال:<br />
أول الإرجاء ترك الاستثناء.<br />
وقال: لو كان القول كما تقول المرجئة أن الإیمان قول، ثم استثنى بعد على<br />
القول لكان ھذا قبیحاً أن تقول: لا إلھ إلا اللھ إن شاء اللھ، ولكن الاستثناء على<br />
العمل. (انظر كتاب الس ُّن َّة للخلال، فصل الرد على المرجئة في الاستثناء في<br />
الإیمان، ص<br />
وقال ابن تیمیة في الفتاوى (429/7 و 438): وأما الاستثناء في الإیمان بقول<br />
الرجل: أنا مؤمن إن شاء اللھ، فالناس فیھ على ثلاثة أقوال: منھم من یوجبھ،<br />
ومنھم من یحرمھ، ومنھم من یجوز الأمرین باعتبارین، وھذا أصح الأقوال.<br />
فالذین یحرمونھ ھم المرجئة والجھمیة ونحوھم، ممن یجعل الإیمان شیئاً واحداً<br />
یعلمھ الإنسان من نفسھ، كالتصدیق بالرب ونحو ذلك مما في قلبھ... إِلى أن<br />
قال: وأما مذھب سلف أصحاب الحدیث، كابن مسعود وأصحابھ، والثوري<br />
وابن عیینة، وأكثر علماء الكوفة، ویحیى بن سعید القطان فیما یرویھ عن<br />
علماء أَھْل البصرة، وأحمد بن حنبل وغیره من أئمة السنة، فكانوا یستثنون في<br />
الإیمان، وھذا متواتر عنھم، لكن لیس في ھؤلاء من قال: أنا استثني لأجل<br />
الموافاة، وأن الإیمان إنما ھو اسم لما یوافى بھ العبد ربھ، بل صرح أئمة<br />
ھؤلاء بأن الاستثناء إنما ھو لأن الإیمان یتضمن فعل الواجبات، فلا یشھدون<br />
لأنفسھم بذلك، كما لا یشھدون لھا بالبر والتقوى، فإن ذلك مما لا یعلمونھ وھو<br />
تزكیة لأنفسھم بلا علم ا-ھ.<br />
ومما تقدم تعلم أن أصل الخلاف في ھذه المسألة وغیرھا یعود إِلى الموقف من<br />
تعریف الإیمان، ومنھ تعلم أیضاً أن الخلاف بین أَھْل الس ُّن َّة الذین یقولون:<br />
260<br />
.(593
-قبولُ خَبَرِ الآحادِ إن صَ َّح-<br />
قولھ: "وجمیعُ ما صَح َّ عن رسولِ اللھ مِنَ الش َّرْ عِ والبیانِ كل ُّھُ<br />
حق ٌّ". یشیرُ رحمھ اللھ بذلك إِلى ِ الردّ على الذین یُبطلونَ أحادیث الآحاد،<br />
بقولھم: أنھا لا تُفیدُ العلمَ، ولا یحتج ُّ بھا من جھةِ طریقِھا، ولا من جھة<br />
متنھا! فسَد ُّوا على القلوب معرفَةِ الربِّ تعالى وأسمائِھ وصفاتِھ وأفعالِھ من<br />
جھةِ الرسولِ، وأحالُوا الناسَ على قضایا وھمیة ومقدماتٍ خیالیة سم َّوھا<br />
قواطِعَ عقلیة، وبراھینَ یقینی َّة!! وھي في التحقیق: [كسرابٍ بقیعَةٍ یحسَبُھُ<br />
الظمآنُ ماءً حتى إذا جاءَهُ لم یجدْهُ شیئاً] النور:<br />
ε<br />
261
من الن َّسَبِ" متفق علیھ. وھو نظیرُ خبَرِ الذي أتى مسجد قباء، وأخبرَ أ َّن<br />
القبلةَ تحو َّ لَت إِلى الكعبةِ، فاستداروا إِلیھا. (متفق علیھ).<br />
وكان رسولُ اللھِ یُرسِلُ رُ سُلَھُ آحاداً(1) ، ویُرْ سِلُ كُتبَھُ مع الآحادِ، ولم<br />
یكن المرسَلُ إلیھم یقولون: لا نقبلُھُ لأنھ خبَرُ واحدٍ(2) .<br />
ε<br />
262<br />
ε<br />
(1 ( كما في الصحیحین عن ابن عباس أن رسولَ اللھ لم َّا بعثَ معاذاً إِلى الیمن،<br />
قال: "إنك تقدم على قومٍ أَھْل كتابٍ، فلیكن أو َّ لَ ما تدعوھم إلیھ عبادةُ اللھ فإذا<br />
عَرفوا اللھ، فأخبرھم أن اللھَ قد فرض علیھم خمس صلواتٍ في یومھم<br />
ولیلتھم..".<br />
والحدیث فیھ رد على من ینكرون -بغیر دلیل سوى اتباع الظن والھوى- حجیة<br />
خبر الواحد في العقائد، حیث أن معاذاً كان واحداً، ومع ذلك فقد أُمِر أن یبلغ<br />
الآخرین التوحید والعقائد التي تتضمن تعریفھم بخالقھم، وحقھ علیھم. ولو لزم<br />
-كما یزعم البعض- لأمر النبي أصحابھ أن یبلغوا<br />
تبلیغ العقائد شرط التواتر<br />
عنھ التوحید والعقائد وھم جماعات جماعات، ولم َّا لم یحصل ھذا وحصل<br />
خلافھ عُلِمَ أنھ شرط باطل لا أصل لھ في دیننا.<br />
للشیخ محمد ناصر الدین الألباني كلام جید -یرد فیھ على من یشترطون حد<br />
التواتر لقبول الخبر في العقائد -في رسالتھ "وجوب الأخذ بحدیث الآحاد في<br />
العقیدة"- حیث یقول: إن ھذا القول -أن أحادیث الآحاد لا تفید العلم، وأنھا لا<br />
تثبت بھا عقیدة- وإن كنا نعلم أنھ قد قال بھ بعض المتقدمین من علماء الكلام،<br />
فإنھ منقوض من وجوه عدیدة:<br />
الوجھ الأول: أنھ قول مبتدَع محدث، لا أصل لھ في الشریعة الإسلامیة<br />
الغراء، وھو غریب عن ھدي الكتاب وتوجیھات السنة، ولم یعرفھ السلف<br />
الصالح رضوان اللھ تعالى علیھم، ولم ینقل عن أحدٍ منھم، بل ولا خطر لھم<br />
على بال، ومن المعلوم المقرر في الدین الحنیف أن كل أمرٍ مبتدع من أمور<br />
الدین باطل مردود لا یجوز قبولھ بحال، عملاً بقول النبي ε: "من أحدث في<br />
أمرنا ھذا ما لیس منھ فھو رد" متفق علیھ.<br />
وإنما قال ھذا القول جماعة من علماء الكلام، وبعض من تأثر بھم من علماء<br />
الأصول من المتأخرین، وتلقاه عنھم بعض الكتاب المعاصرین بالتسلیم دون<br />
مناقشة ولا برھان، وما ھكذا شأن العقیدة، وخاصة من یشترط لثبوتھا القطعیة<br />
في الدلالة والثبوت.<br />
الوجھ الثاني: أن ھذا القول یتضمن عقیدة تستلزم رد مئات الأحادیث<br />
الصحیحة الثابتة عن النبي لمجرد كونھا في العقیدة، وھذه العقیدة ھي أن<br />
ε<br />
ε<br />
( 2 )
أحادیث الآحاد لا تثبت بھا عقیدة، وإذا كان الأمر كذلك عند ھؤلاء المتكلمین<br />
وأتباعھم فنحن نخاطبھم بما یعتقدون، فنقول لھم أین الدلیل القاطع على صحة<br />
ھذه العقیدة لدیكم من آیة أو حدیث متواتر قطعي الثبوت، قطعي الدلالة أیضاً<br />
بحیث أنھ لا یحتمل التأویل.<br />
وقد یحاول البعض الإجابة عن ھذا السؤال، فیستدل ببعض الآیات التي تنھى<br />
عن اتباع الظن، كقولھ تعالى في حق المشركین: [إن یتبعون إلا َّ الظن وإن<br />
الظن لا یغني من الحق شیئاً] النجم: 28. ونحوھا، وجوابنا على ذلك أن الذي<br />
أنزلت علیھ ھذه الآیة وغیرھا ھو الذي أنزلت علیھ الآیات الأخرى التي تأمر<br />
الأفراد والجماعات بنقل العلم كقولھ تعالى: [وما كان المؤمنون لینفروا كافة<br />
فلولا نفر من كل فرقة منھم طائفة لیتفقھوا في الدین ولینذروا قومھم إذا<br />
رجعوا إلیھم لعلھم یحذرون] التوبة: 122. والطائفة تقع على الواحد فما فوقھ<br />
في اللغة، فأفادت الآیة أن الطائفة تنذر قومھا إذا رجعت إلیھم، والإنذار<br />
والإعلام بما یفید العلم، وھو یكون بتبلیغ العقیدة وغیرھا مما جاء بھ الشرع،<br />
وكقولھ تعالى: [یا أیھا الذین آمنوا إذا جاءكم فاسق بنبأ فتبینوا] الحجرات:<br />
6. وفي القراءة الأخرى [فتثبتوا]، وھذا یدل على الجزم والقطع بقبول خبر<br />
الواحد الثقة، وأنھ لا یحتاج إِلى تثبت، ولو كان خبره لا یفید العلم لأمر بالتثبت<br />
حتى یحصل العلم. والمراد بالظن -في الآیة- الظن المرجوح الذي لا یفید<br />
علماً، بل ھو قائم على الھوى والغرض المخالف للشرع ویوضح ذلك قولھ<br />
تعالى في آیة أخرى: [إن یتبعون إلا َّ الظن َّ وما تھوى الأنفس ولقد جاءھم من<br />
ربھم الھدى] النجم: 23. إِلى أن قال: لو كان ھناك دلیل قطعي على أن العقیدة<br />
لا تثبت بخبر الآحاد كما یزعمون لصرح بذلك الصحابة، ولما خالف في ذلك<br />
من سیأتي ذكرھم من العلماء، لأنھ لا یعقل أن ینكروا الدلالة القاطعة أو تخفى<br />
علیھم، لما ھم علیھ من الفضل والتقوى وسعة العلم..<br />
الوجھ الثالث: أن ھذا القول مخالف لجمیع أدلة الكتاب والسنة التي نحتج نحن<br />
وإیاھم جمیعاً بھا على وجوب الأخذ بحدیث الآحاد في الأحكام الشرعیة، وذلك<br />
لعمومھا وشمولھا لما جاء بھ رسول اللھ ε عن ربھ سواء كان عقیدة أو حكماً..<br />
فتخصیص ھذه الأدلة بالأحكام دون العقائد تخصیص بدون مخصص وذلك<br />
باطل، وما لزم منھ باطل فھو باطل.<br />
الوجھ الرابع: أن القول المذكور لیس فقط لم یقل بھ الصحابة بل ھو مخالف لما<br />
كانوا علیھ رضي اللھ عنھم، فإننا على یقین أنھم كانوا یجزمون بكل ما یحدث<br />
بھ أحدھم من حدیث رسول اللھ ε، ولم یقل أحد منھم لمن حدثھ عن رسول اللھ<br />
263
ِ<br />
ِ الصحیحِ-<br />
-<br />
موقفُ أَھْلِ الس ُّن َّةِ من النصّ<br />
وطریقُ أَھْل الس ُّن َّةِ أن لا یعدلوا عن النصّ الصحیح، ولا یُعارضُوه<br />
بمعقولٍ، ولا قولِ فلانٍ، كما أشارَ إلیھ الشیخُ، وكما قال البخاري ُّ رحمھ<br />
اللھ: سمعتُ الحمیدي َّ یقول: كنا عند الشافعيّ ِ رحمھ اللھ، فأتاه رجلٌ، فسألَھُ<br />
عن مسألةٍ، فقال: قضى فیھا رسولُ اللھِ كذا وكذا، فقال الرجل للشافعي:<br />
ما تقولُ أنتَ ؟! فقال: سبحان اللھِ! تراني في كنیسةٍ! تراني في بیعَةٍ! ترى<br />
على وسطي زن َّاراً(1) ؟! أقول لك: قضى رسولُ اللھِ ε، وأنت تقول: ما<br />
تقول أنتَ ؟!!<br />
[وما كان لمؤمنٍ ولا<br />
ونظائرُ ذلك في كلامِ الس َّلفِ كثیرٌ<br />
مؤمنةٍ إذا قضى اللھُ ورسولُھ أمراً أن یكون لھُم الخِ یرَةُ من أَمْرِ ھم]<br />
الأحزاب:<br />
ε<br />
(2) ، وقال تعالى:<br />
264
." (1)<br />
قولُھ: "والمؤمنونَ كُل ُّھم أولیاءُ الرحمنِ<br />
ش: فالمؤمنونَ أولیاءُ اللھِ، واللھ تعالى ولی ُّھم، قال تعالى: [ألا إ َّن<br />
أولیاءَ اللھِ لاخوفٌ علیھم ولا ھم یحزنون. الذین آمنوا وكانوا یت َّقون (2) [<br />
مثلاً بمثل، لا زیادةَ بینھما ولا نَظِرة". فقال لھ معاویة: یا أبا الولید لا أرى في<br />
ھذا إلا َّ ما كان من نَظِرَ ةٍ! فقال عبادة: أحدثك عن رسول اللھ وتحدثني عن<br />
رأیك؟! لئن أخرجني اللھ لا أساكنك بأرضٍ لك علي فیھا إمرَ ةً!<br />
وعن <strong>أبي</strong> سلمة أن أبا ھریرة قال لرجل: یا ابن أخي، إذا حدثتك عن رسولِ<br />
اللھ ε حدیثاً فلا تضرب لھ الأمثالَ.<br />
وقال ابن عباس: یوشك أن تنزل علیكم حجارةٌ من السماء، أقول: قال رسول<br />
اللھ، وتقولون: قال أبو بكرٍ وعمر؟!<br />
قلت: إذا كان ھذا حال من یقول بقول <strong>أبي</strong> بكر وعمر رضي اللھ عنھما على<br />
قول رسول اللھ ε، فما یكون القول فیمن یقول على قول رسول اللھ<br />
قال: أفلاطون، وفروید، ودارون، وماركس، ولینین.. وغیرھم من طواغیت<br />
الأرض؟!<br />
وكذلك قصة قتل عمر بن الخطاب للرجل الذي لم یرضَ بحكم النبيِّ ε وأراد<br />
أن یتحاكم إلیھ من دون النبي ε، فھي معروفة ومشھورة في كتب الحدیث.<br />
فلیحذر الذین یقدمون حكم الطاغوت وحثالات آراء الناس على حكم اللھ<br />
ورسولھ، من قارعة لا تُبقي ولا تذر، وما أشد القوارع التي تنزل في الأمة في<br />
ھذا الزمان بسبب إعراض الناس عن حكم اللھ ورسولھ، ولكن أین المعتبر:<br />
[ولقد أخذناھم بالعذاب فما استكانوا لربھم وما یتضرعون] المؤمنون:<br />
الولایة ھنا ولایة عامة مطلقة، أما تخصیصھا بشخص معین لا نقدم علیھ إلا َّ<br />
من ثبت في حقھ نص یدل على ذلك، وھذا منقطع بعد زمان النبوة لیس لأحد<br />
بعد النبي أن یدل علیھ دلالة قاطعة. والقول في الولایة والولي كالقول في<br />
الشھادة والشھید من حیث التعمیم والتخصیص.<br />
ثم أن ولایة اللھ تعالى للمؤمنین لیست سواء وعلى درجة واحدة، وإنما ھي<br />
تكون بحسب إیمانھم قوة وضعفاً؛ فولایتھ سبحانھ وتعالى للأنبیاء والرسل ھي<br />
أعلى من ولایتھ لمن ھم دونھم، وولایتھ لأھْل الطاعات والاستقامة ھي أعلى من<br />
ولایتھ لأھْل المعاصي والذنوب، وولایتھ لأھْل المعاصي والذنوب ھي أعلى من<br />
ولایتھ لأھْل الكبائر والفجور، ولا ولایة لكافر، [وأن الكافرین لا مولى لھم].<br />
2 ھذه ھي صفة أولیاء الرحمن الذي یحبھم ویحبونھ، ویرضى سبحانھ عنھم،<br />
ویرضون عنھ: الإیمان، والتقوى. والتقوى تعني فعل الطاعات وجمیع ما أمر<br />
ε، ولكن<br />
.76<br />
ε<br />
265<br />
τ<br />
ε<br />
( 1 )
یونس:<br />
266
.<br />
[<br />
والتقر ُّ بُ إلیھ بمرضاتھ. والوَ لایة: ھي عبارةٌ عن موافقَةِ الولي الحمیدِ في<br />
محابّ ِھ ومَسَخِ طِھ<br />
-ولایةُ الخالقِ، لیستْ كولایَةِ المخلوقِ للمخلوق (2) -<br />
فاللھُ یتول َّى عِبادَهُ المؤمنینَ، فیُحب ُّھُم ویُحبونَھُ، ویَرضى عنھم ویرضونَ<br />
عنھ، ومن عادَ لھ ولی َّاً فقد بارزَ ه بالمحاربَةِ، وھذه الوَ لایةُ من رحمتھ<br />
وإحسانِھ، لیسَت كولایةِ المخلوق للمخلوق لحاجتِھ إلیھ، قال تعالى: [وقل<br />
الحمدُ ِ الذي لم یتخِ ذْ ولَدَاً ولم یكُنْ لھ شریكٌ في الملْكِ ولم یكن لھ ول ُّي<br />
مِنَ الذ ُّلّ ِرْ هُ تكبیرا الإسراء:<br />
(2) (1)<br />
ِ وكَبّ<br />
267
یجتمع في المؤمن ولایةٌ من وجھٍ، وعداوةٌ من وجھ (1) ، كما قد یكونُ فیھِ<br />
كفرٌ (2) وإیمان، وشِركٌ وتوحید (3) ، وتقوى وفجورٌ ، ونِفاقٌ(4) وإیمان. قال<br />
یوسف:<br />
تعالى: [وما یؤمِنُ أكثرُھم باللھ إلا َّ وھم مشركون] (5)<br />
268
تعالى:<br />
[قلْ لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا] الحجرات:<br />
269
ε<br />
ومنھا: بیان بطلان اعتبار التفاضل على أساس لون البشرة، أو الانتماء<br />
العرقي، أو الانتماء القومي، أو الانتماء القبلي والإقلیمي أو العائلي، أو الانتماء<br />
الوطني، أو الانتماء إِلى لغة معینة.. وغیرھا من الولاءات والانتماءات التي لا<br />
تعتبر التقوى والعمل الصالح المیزان الوحید للتفاضل بین الناس فھذه الولاءات<br />
كلھا باطلة وجاھلیة نتنة، مؤداھا إِلى الشرك، وعبادة أوثانٍ ضخمةٍ من دون<br />
اللھ تعالى.<br />
ومنھا: بیان بطلان اعتبار التفاضل بین الناس على أساس الغنى والفقر، أو<br />
على أساس الجاه، والمناصب، أو الریاسة والزعامة، أو الشھادات والوظائف..<br />
وغیر ذلك من الاعتبارات الوضیعة السائدة في عرف كثیر من الناس!!<br />
فالمرء یساوي في نظر الآخرین -المھزومین داخلیاً وعقدیاً- بقدر ما یملك من<br />
مال، وعلى قدر ما یملك من مال وجاه بقدر ما یتعاظم شأنھ عند الناس<br />
المھزومین إیمانیاً، وتقدم لھ التبجیلات والاحترامات، والتنازلات،<br />
والامتیازات، بغض النظر عن دینھ وأخلاقھ وتقواه!!<br />
وفي الحدیث فقد صح َّ عن النبي أنھ قال: "یا معشرَ الفقراء ألا أبشركم؟ إن<br />
فقراء المؤمنین یدخلون الجنة قبل أغنیائھم بنصف یوم: خمسمائة عام" صحیح<br />
الجامع الصغیر )<br />
270
قولُھ: "والإیمانُ: ھو الإیمانُ باللھِ، وملائكتھِ، وكُتُبھِ، ورسُلِھ،<br />
والیومِ الآخِ رِ ، والقدَرِ خیرِ ه ِ وشرّ هِ، وحُلْوِهِ ِ ومُرّه، من اللھ<br />
(1)<br />
تعالى"<br />
271<br />
( 1 )<br />
وھكذا تسقط جمیع الفوارق، وتسقط جمیع القیم، ویرتفع میزان واحد بقیمة<br />
واحدة، وإِلى ھذا المیزان یتحاكم البشر، وإِلى ھذه القیمة یرجع اختلاف البشر<br />
في المیزان.<br />
وھكذا تتوارى جمیع أسباب النزاع والخصومات في الأرض، وترخص<br />
جمیع القیم التي یتكالب علیھا الناس. ویظھر سبب ضخم واضح للألفة<br />
والتعاون: ألوھیة اللھ للجمیع، وخلقھم من أصل واحد، كما یرتفع لواء واحد<br />
یتسابق الجمیع لیقفوا تحتھ: لواء التقوى في ظل اللھ. وھذا ھو اللواء الذي<br />
رفعھ الإسلام لینقذ البشریة من عقابیل العصبیة للجنس، والعصبیة للأرض،<br />
والعصبیة للقبیلة، والعصبیة للبیت، وكلھا من الجاھلیة وإلیھا، تتزیا شتى<br />
الأزیاء، وتتسمى بشتى الأسماء، وكلھا جاھلیة عاریة من الإسلام!<br />
وقد حارب الإسلام ھذه العصبیة الجاھلیة في كل صورھا وأشكالھا، لیقیم<br />
نظامھ الإنساني العالمي في ظل رایة واحدة: رایة اللھ.. لا رایة الوطنیة، ولا<br />
رایة القومیة، ولا رایة البیت، ولا رایة الجنس، فكلھا رایات زائفة لا یعرفھا<br />
الإسلام.<br />
قال رسول اللھ ε: "كلكم بنو آدم، وآدم خُلِقَ من تراب، ولینتھین قوم یفخرون<br />
بآبائھم، أو لیكونن أھون على اللھ من الجعلان".<br />
وقال ε عن العصبیة الجاھلیة: "دعوھا فإنھا منتنة".<br />
وھذه ھي القاعدة التي یقوم علیھا المجتمع الإسلامي، المجتمع الإنساني العالمي،<br />
الذي تحاول البشریة في خیالھا المحلق أن تحقق لوناً من ألوانھ فتخفق، لأنھا لا<br />
تسلك إلیھ الطریق الواحد الواصل المستقیم.. الطریق إِلى اللھ.. ولأنھا<br />
لاتقف تحت الرایة الواحدة المجمّ ِعَة.. رایة اللھ ا-ھ.<br />
تفسیر الإیمان بالإیمان الباطن فقط فیھ نظر، وھو مشكل ومخالف للنصوص<br />
التي فسرت الإیمان بالإیمان الظاھر على الجوارح، كما جاء في حدیث وفد<br />
عبد القیس وغیره. ولعل الذي<br />
أوقع الشیخ في ھذا ھو تعریفھ للإیمان بأنھ: تصدیق وقول. فرتب على ھذا<br />
الخطأ خطأ آخر.
ε<br />
ε<br />
-<br />
ش: تقد َّم أن ھذه الخصالَ ھي أصولُ الدین، وبھا أجابَ النب ُّي في<br />
حدیثِ جبریل المشھور، حین جاءَ إِلى النبيّ ε ِ على صورة رجلٍ أعرابي،<br />
وسألَھُ عن الإیمان.<br />
وفس َّرَ الإیمانَ في حدیثِ وفدِ عبدِ القیس، حیث قال لھم: "آمرُ كم<br />
بالإیمانِ باللھ وحدَهُ، أتدرونَ ما الإیمانُ باللھِ؟ شھادَةُ أن لا إلھ إلا اللھ<br />
وحدَهُ لا شریك لھ، وإقامُ الصلاةِ، وإیتاءُ الزكاةِ، وأن تؤد ُّوا خُمُسَ ما<br />
غَنِمتُم" (1) .<br />
-لا تعارُضَ بین الحدیثینِ-<br />
لا یُقالُ: إن بین تفسیر النبيّ ε ِ الإیمانَ في حدیثِ جبریل، وتفسیره إیاه<br />
في حدیثِ وفد عبد القیس معارضةً، لأنھ فس َّرَ الإیمانَ في حدیث جبریل بعد<br />
تفسیر الإسلام، فكان المعنى أنھ الإیمانُ باللھِ وملائكتھ وكُتبھ ورسُلِھ والیومِ<br />
الآخرِ مع الأعمال التي ذكرھا في تفسیر الإسلام، بخلافِ حدیث وفدِ عبدِ<br />
القیس، لأنھُ فس َّرَ هُ ابتداءً، لم یتقدم قبلَھُ تفسیرُ الإسلام، ولكن ھذا الجواب لا<br />
یتأت َّى على ما ذكرهُ الشیخُ رحمھ اللھ من تفسیر الإیمان، فحدیثُ وفدِ عبدِ<br />
القیس مُشكِلٌ علیھ (2) .<br />
الإیمانُ بالقدَرِ خیرِ هِ ِ وشرّ هِ، على أنھ من عندِ اللھِ<br />
قال تعالى: [قلْ لن یُصیبنا إلا َّ ما كتبَ اللھُ لنا] التوبة:<br />
-<br />
272
الشورى:<br />
فبما كسبَتْ أیدیكُم] (1)<br />
273
أن یتخذوا بین ذلك سبیلاً. أولئك ھم الكافرون حقاً]<br />
(1)<br />
النساء:<br />
274
عز وجل َّ في كتابھ: [ویغفِرُ ما دون ذلك لِمَنْ یشاء]. وإن شاءَ<br />
عذ َّبَھُم في النارِ بعدلِھِ(1) ، ثم یُخرجُھُم منھا برحمتِھِ وشفاعة<br />
الشافعین من أَھْل طاعَتِھِ، ثُم َّ یبعثُھم إِلى جن َّتِھ. وذلك بأن اللھَ<br />
تعالى مولَى أَھْلِ معرفَتِھ (2) ، ولم یجعَلْھُمْ في الدارین كأھل نكِرَتھِ،<br />
الذین خابُوا من ھِدایَتھِ، ولم ینالُوا مِنْ ولایَتِھ. اللھم َّ یاولي َّ الإسلامِ<br />
وأھلِھِ، ثبّ ِتنا على الإسلام حتى نلْقاكَ بھِ".<br />
ش: فقولھ: "وأھلُ الكبائ ِر من أمةِ محم ٍد في النارِ لا یُخل َّدون .. " رد ٌّ<br />
لقولِ الخوارج والمعتزلَةِ القائلین بتخلید أَھْل الكبائر في النار (3) .<br />
:ε<br />
ε<br />
ε<br />
ذلك فالرحمة لا تنالھم لموافاتھم على الشرك. ثم أن اشتراط المعرفة ھو مذھب<br />
جھم بن صفوان كما تقدم، وھو مذھب باطل خبیث لا یعول علیھ.<br />
(1 ( روى البخاري في صحیحھ، عن عبادة بن الصامت، أن رسول اللھ قال<br />
وحولھ عصابة من أصحابھ: "بایعوني على أن لا تشركوا باللھ شیئاً، ولا<br />
تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا أولادَكم، ولا تأتوا ببھتان تفترونھ بین أیدیكم<br />
وأرجلكم، ولا تعصوا في معروفٍ . فمن وف َّى منكم فأجره على اللھ، ومن<br />
أصاب من ذلك شیئاً فعوقب في الدنیا فھو كفارة لھ، ومن أصاب في ذلك شیئاً<br />
ثم ستره اللھ، فھو إِلى اللھ إن شاء عفا عنھ، وإن شاء عاقبھ" فبایعناه على<br />
ذلك.<br />
قال المازني: فیھ رد ٌّ على الخوارج الذین یكفرون بالذنوب.<br />
( 2 )<br />
لو قال أَھْل توحیده وطاعتھ بدلاً من "أَھْل معرفتھ" لكان أحسن وأصح،<br />
وذلك للعلة الآنفة الذكر في الھامش رقم (2) فانظره.<br />
( 3 )<br />
قد تضافرت الأدلة الدالة على خروج أَھْل الكبائر الموحدین من النار، منھا<br />
الحدیث الذي یرویھ مسلم في صحیحھ: عن <strong>أبي</strong> ٍ ذرّ قال: قال رسول اللھ<br />
"ما من عبدٍ قال لا إلھ إلا اللھ ثم مات على ذلك إلا َّ دخل الجنة". قلت: وإن<br />
زنى وإن سرق؟! قال: "وإن زنى وإن سرق"، قلت: وإن زنى وإن سرق؟!<br />
قال: "وإن زنى وإن سرق"، ثلاثاً، وفي روایة: "وشرب الخمر"، ثم قال في<br />
الرابعة: "على رغم أنف <strong>أبي</strong> ذر"، قال: فخرج أبو ٍ ذرّ وھو یقول: وإن رغم<br />
أنف <strong>أبي</strong> ذر.<br />
قال الإمام أحمد: ومن مات من أَھْل القبلة موحدا◌ً یُصلى علیھ ویُستغفر لھ،<br />
ولا تترك الصلاة علیھ لذنب أذنبھ، صغیراً كان أو كبیراً، وأمره إِلى اللھ Υ ا-<br />
ھ.<br />
275
ε<br />
-الرحمةُ تنالُ أَھْلَ الكبائرِ من جمیعِ الأُمم-<br />
قولُھ: "وأھلُ الكبائِر من أُم َّةِ محمدٍ" تخصیصھ أم َّةَ محمدٍ، یُفَھمُ منھ أن<br />
أَھْلَ الكبائر من أمةِ غیرِ محم ٍد قبل نسخِ تلك الشرائع بھ، حُكمھُم مخالِفٌ<br />
لأھلِ الكبائرِ من أمةِ محمدٍ، وفي ذلك نظر، فإن النب َّي أخبرَ أنھ: "یَخرجُ<br />
من النارِ من كان في قلبھ مثقالُ ذر َّ ةٍ من إیمان"، ولم یخص َّ أمتَھُ بذلك، بل<br />
ذكرَ الإیمانَ مطلَقاً.<br />
-تعریفُ الكبیرَ ِة-<br />
اختلفَ العلماءُ في الكبائرِ على أقوالٍ، أصح ُّھا من قال: إنھا ما یترت َّب<br />
علیھا حد ٌّ، أو تُوعّ ِدَ علیھا بالنار، أو اللعنَةِ، أو الغضَب<br />
القول من وجوه:<br />
(1) ، وترجیحُ ھذا<br />
ε<br />
وقال أبو ثور إبراھیم بن خالد الكلبي رحمھ اللھ: والذي عندنا أن نقول: لا<br />
یخلد موحد في النار ا-ھ.<br />
وقال محمد بن إسماعیل البخاري یروي عن جماعة من السلف: لم یكونوا<br />
یكفرون أحداً من أَھْل القبلة بالذنب لقولھ تعالى: [إن اللھ لا یغفر أن یُشرك بھ<br />
ویغفر ما دون ذلك لمن یشاء] ا-ھ.<br />
وغیرھم كثیر من السلف الذین قرروا عدم تخلید أَھْل الكبائر الموحدین في النار.<br />
(انظر <strong>شرح</strong> أصول اعتقاد أَھْل الس ُّن َّة والجماعة لأبي قاسم الطبري اللالكائي، ج<br />
/ 1<br />
276
]<br />
أحدُھا: أنھ ھو المأثورُ عن السلف، كابنِ عباسٍ ، وابن عُیینَةَ، وابن حنبل<br />
وغیرھم.<br />
الثاني: أن اللھَ تعالى قال: إن تجتنبوا كبائرَ ما تُنھَونَ عنھ نُكفّ ِرْ عنكم<br />
سیئاتِكُم وندخِ لْكُم م ُّدخلاً كریماً] النساء:<br />
277
الزمر:<br />
278
:ε<br />
( 2 )<br />
ش: في صحیح البخاري أن عبد اللھ بن عمر كان یُصَلّ ِي خلفَ الحج َّاجِ<br />
بن یوسف الثقفي، وكذا أنس بن مالِك، وكان الحج َّاجُ فاسقاً ظالماً. وقال<br />
"یُصل ُّون لكم، فإن أصابوا فلكُم ولھم، وإن أخطأوا فلكم وعلیھم" (1) . وكذلك<br />
كان عبد اللھ بن مسعود وغیره، یُصَل ُّون خلفَ الولید بن عقبة بن <strong>أبي</strong><br />
معیط، وكان یشرَ بُ الخمرَ ، حتى إنھ صلى بھم الصبحَ مر َّ ةً أربعاً، ثم قال:<br />
أزیدُكم؟! فقال لھ ابن مسعود: ما زلنا معكَ منذ الیومَ في زیادَةٍ!!<br />
-الصلاةُ خلْفَ مستورِ الحالِ-<br />
یجوزُ للرجلِ أن یُصَلّ ِي خلْفَ من لم یَعلَم منھ بدعةً ولا فِسقاً، باتفاق<br />
الأئمة، ولیس من شرط الائتمام أن یعلَمَ المأمومُ اعتقادَ إمامِھِ، ولا أن<br />
یمتحِ نَھُ، فیقولُ: ماذا تعتقد (2) ؟! بل یُصلي خلفَ المستورِ الحال.<br />
صلاة خلفھ ولا علیھ؛ فالتوحید أصل الأصول ترخص في سبیلھ ولأجلھ كل<br />
الأصول والوشائج والمقاصد.<br />
ومن غرائب ھذا الزمان التي یشتد لھا العجب، أنھ لا یوجد شخص -مادام<br />
ینتسب للملة- لا یُصلى خلفھ مھما كان متلبساً بالشرك والكفر، وكذلك لا یوجد<br />
میت لا یصلى علیھ مھما أسلف في حیاتھ من الكفر البواح، ولو كان علَماً من<br />
أعلام الزندقة والإلحاد!!<br />
وفي حین یُسأل القوم عن الدلیل على غرائبھم الباطلة ھذه، یجیبون بعبارة<br />
الماتن: "ونرى الصلاة خلف كل بر وفاجر"، فحملوا الفجور على الكفر<br />
البواح!!<br />
(1 ( رواه البخاري وغیره.<br />
اشتراط معرفة عقیدة الإمام ھو من خلق الخوارج وعاداتھم السیئة الذین<br />
عُرفوا بالغلو والتكلف والتنطع، وكنت قد رافقت بعض من مسھم غلو الخوارج<br />
إِلى الصلاة في مسجدٍ من مساجد "كراتشي" في الباكستان، فصلینا نحن<br />
مؤتمین بالإمام كالعادة، وھم امتنعوا عن الصلاة خلفھ وصلوا منفردین،<br />
وعندما انتھت الصلاة سألناھم عن سبب فعلتھم، فتعل َّلوا أنھم یجھلون عقیدتھ،<br />
ویمكن أن یكون كافراً..!!<br />
ولھؤلاء ولمن كان على نھجھم وجھلھم -سائلین اللھ لھم الھدایة- ننقل إلیھم<br />
قول ابن تیمیة رحمھ اللھ، حیث یقول في الفتاوى (4/<br />
279
. (1)<br />
-الحالاتُ التي تُترك فیھا الصلاةُ خلفَ الفاسقِ المبتدعِ-<br />
ولو صل َّى خلفَ مبتدعٍ یدعو إِلى بدعتھ، أو فاسقٍ ظاھرِ الفسقِ، وھو<br />
الإمامُ الراتِبُ الذي لا یمكِنھُ الصلاة إلا َّ خلفَھُ، كإمام الجمعة والعیدین،<br />
والإمام في صلاة الحجِّ بعرفَةِ، ونحو ذلك فإن المأمومَ یُصلي خلفَھُ، عند<br />
عام َّةِ السلفِ والخلَفِ .<br />
والفاسِقُ والمبتدعُ صلاتُھ في نفسھا صحیحةٌ، فإذا صلى المأمومُ خلْفَھُ لم<br />
تبطلُ صلاتُھ، لكن إنما كَرِ ه من كَرِ ه الصلاةَ خلفَھُ، لأن الأمرَ بالمعروف<br />
والنھي َّ عن المنكر واجبٌ<br />
ومن ذلك أن من أظھر بدعةً وفجوراً لا یُرَ ت َّبُ إماماً للمسلمین، فإنھ<br />
یستحق التعزیرَ حتى یتوبَ ، فإذا أمكنَ ھجرُ هُ حتى یتوبَ كان حسناً، وإذا<br />
كان بعضُ الناسِ إذا تركَ الصلاةَ خلفَھُ وصلى خلف غیره، أث َّرَ ذلك في<br />
إنكار المنكر حتى یتوبَ أو یُعزَ لَ، أو ینتھي الناسُ عن مثل ذنبھِ، فمثلُ ھذا<br />
إذا تركَ الصلاةَ خلفَھُ كان في ذلك مصلحةً شرعیة، ولم تَفُتِ المأمومَ جمعةً<br />
ولا جماعةً.<br />
وكذلك إذا أمكن الإنسانُ أن لا یُقدّ ِمَ مُظھِراً للمنكر في الإمامةِ وجب علیھ<br />
ذلك، لكن إذا ولا َّه غیرُ هُ، ولم یُمكِنھُ صرفَھُ عن الإمامةِ، أو كان لا یتمك َّن<br />
من صرفھ عن الإمامةِ إلا َّ ٍ بشرّ أعظم ضرراً من ضرر ما أظھر من<br />
المنكر، فلا یجوزُ دفعُ الفسادِ القلیلِ بالفسادِ الكثیرِ ، ولا دفعُ أخفِّ الضررین<br />
مخالف للصحابة والتابعین لھم بإحسان وأئمة المسلمین الأربعة وغیرھم ا-<br />
ھ.<br />
وقال في الفتاوى<br />
280
τ<br />
بحصول أعظمِھما (1) ،<br />
فإن الشرائعَ جاءَت بتحصیلِ المصالحِ وتكمیلِھا،<br />
وتعطیل المفاسِدِ وتقلیلھا بحسبِ الإمكان (2) ، فتفویتُ الج ُّمَعِ والجماعاتِ<br />
أعظمُ فساداً من الإقتداء فیھما بالإمام الفاجر، لاسی َّما إذا كان التخل ُّفُ عنھا<br />
لا یدفعُ فجوراً(3) .<br />
-إذا أخطأ الإمامُ، فلا إعادةَ على المأموم-<br />
وأما الإمامُ إذا نسيَ أو أخطأ، ولم یعلم المأمومُ بحالھ فلا إعادة على<br />
المأمومِ ، لقولھ ε: "یُصلون لكم، فإن أصابوا فلكم ولھم، وإن أخطأوا فلكم<br />
وعلیھم". نص ٌّ صحیحٌ صریحٌ في أن َّ الإمامَ إذا أخطأَ فخطؤُه علیھ لا على<br />
المأموم. وقد صلى عمر وھو جُنبٌ ناسیاً<br />
للجنابة، فأعادَ الصلاةَ، ولم یأمر المأمومین بالإعادة (4) .<br />
-طاعةُ الأئمةِ في مواردِ الإجتھاد-<br />
(1 ( ھذه القاعدة "ارتكاب أخف الضررین لدفع الأعظم أو الأشد ضرراً"، ھي<br />
قاعدة شرعیة صحیحة قد دلت علیھا كثیر من النصوص الشرعیة، ولكن مما<br />
ینبغي التنویھ لھ ھنا: أن تقییم المفاسد والمصالح ینبغي أن یكون على ضوء<br />
الشرع وعلى أساس الأولویات التي حددتھا الشریعة، بعیداً عن الترجل والھوى<br />
والأغراض الشخصیة والحزبیة. فلا مفسدة تعلو مفسدة الشرك والكفر، ولا<br />
مصلحة تعلو وترجح على مصلحة التوحید وتحقیقھ، لذا ترخص لأجلھ جمیع<br />
281<br />
المصالح، والغالي والنفیس..<br />
( 2 )<br />
ε<br />
لتغییر المنكر یُشترط شرطان: أحدھما، الاستطاعة والقدرة، لقولھ تعالى:<br />
[فاتقوا اللھ ما استطعتم] [لا یكلف اللھ نفساً إلا َّ وسعھا]. وفي الحدیث فقد<br />
صح َّ عن النبي أنھ قال: "لیس بمؤمن من أذَل َّ نفسَھُ، یُ ِ عَرّ ضُ نفسَھ للبلاء لیس<br />
لھ بھ طاقة". والثاني: أن لا یؤدي المنكر إِلى ما ھو أشد منھ منكراً وفساداً،<br />
فنغیر الصغائر لنقع في الكبائر، أو نغیر الكبائر وإذا بنا نقع في الكفر<br />
والشرك!!.<br />
( 3 )<br />
قد تقدم أن المراد بالإمام الفاجر ھو الإمام الذي لم یبلغ بھ فجوره درجة الكفر<br />
الأكبر، أما إذا بلغ بھ فجوره درجة الكفر والارتداد، فحینھا لا تصح صلاتھ، ولا<br />
تجوز الصلاة خلفھ، وھذا مما لا خلاف علیھ.<br />
(4 ( رواه عبد الرزاق في "المصنف" وكذا ابن <strong>أبي</strong> شیبة بأسانید بعضھا صحیح.
قد دل َّت نصوصُ الكتابِ والس ُّن َّةِ، وإجماعُ سلَفِ الأمةِ أن ولي َّ الأمر،<br />
وإمامَ الصلاةِ(1) ، والحاكِمَ، وأمیرَ الحربِ، وعامِلَ الصدقة یُطاعُ في<br />
مواضعِ الإجتھاد، فإن مصلحةَ الجماعةِ والإئتلاف، ومفسدَةِ الفُرق ِة<br />
والإختلاف أعظمُ من أمرِ المسائلِ الجزئیةِ. ویُروى عن <strong>أبي</strong> یوسف أنھ لما<br />
حج َّ مع ھارون الرشید، فاحتجمَ الخلیفةُ، وأفتاه مالِك بأنھ لا یتوضأ، وصَلى<br />
بالناس، فقیل لأبي یوسف: أصلیت خلفَھُ؟ قال سُبحانَ اللھِ! أمیرُ المؤمنین.<br />
یریدُ بذلك أن تركَ الصلاةِ خلفَ ولاةِ الأمورِ من فِعلِ أَھْلِ البدَع.<br />
-الصلاة على مَوتى المسلمین وإن كانوا فُج َّاراً-<br />
وقولھ: "وعلى من ماتَ منھم" أي ونرى الصلاةَ على مَن ماتَ من<br />
الأبرارِ والفجارِ ، وإن كان یُستَثنى من ھذا الكلامِ البُغاةُ وقُطاعُ الطریقِ،<br />
وكذا قاتِلُ نفسھ (2) ، لكن الشیخَ إنما ساقَ ھذا الكلامَ لبیانِ أن َّا لا نتركُ الصلاةَ<br />
على من ماتَ من أَھْل البدَعِ والفجور، لا للعمومِ الكُلّ ِي.<br />
-تركُ الصلاة على مَن عُرِ ف بالنفاقِ، أو ماتَ مُرتداً-<br />
فمن عُلِمَ نفاقُھُ، لم تجز الصلاةُ علیھ والاستغفارُ لھ، ومَن لم یُعلَمْ ذلك منھ<br />
صُلّ ِي علیھ، فإذا عَلِمَ شخصٌ نفاقَ شخصٍ لم ِ یُصلّ ھو علیھ، وصلى علیھ<br />
282<br />
ε<br />
( 1 )<br />
فقد صح َّ عن النبي أنھ قال: "إنما جُعل الإمام لیؤتم بھ، فإذا ركع فاركعوا،<br />
وإذا رفع فارفعوا، وإذا صلى جالساً فصلوا جلوساً أجمعون". وعلیھ فالراجح أن<br />
المأموم یتبع إمامھ في جمیع حركات الصلاة وإن خالفت بعضھا مذھبھ،<br />
وبخاصة إذا كانت ھذه الحركات صادرة عن الإمام عن اجتھاد صحیح وراجح.<br />
وبسبب غیاب ھذا الفقھ الھام كانت ولاتزال تحصل مشاكل كثیرة -تنعكس سلباً<br />
على وحدة الصف والكلمة وصفاء القلوب -بین الإمام والمؤتمین لمخالفة أحدھما<br />
للآخر في بعض حركات الصلاة!!.<br />
( 2 )<br />
ھذا الاستثناء فیھ نظر، حیث لا دلیل علیھ، وإذا كان النبي ترك الصلاة<br />
على بعض العصاة، إنما ذلك لبیان سوء صنیعھم وزجراً لمن بعدھم من الناس<br />
من أن یأتوا صنیعھم، وحتى لا یقترفوا ما فعلوه، ولیس لعدم جواز الصلاة<br />
علیھم مطلقاً، بدلیل أنھ قال لأصحابھ: "صلوا على صاحبكم"، فأمرھم بالصلاة<br />
علیھ وكان قد قتل نفسھ، واعتزل ھو الصلاة علیھ. لذلك فلو قیل یستحسن<br />
للأمراء والعلماء تأسیاً بالنبي أن یعتزلوا الصلاة على من اشتھر بالفجور<br />
وارتكاب المعاصي، وصلى علیھ من ھم دونھم من عامة المسلمین، لكان ذلك<br />
أحسن وأقرب للسنة.<br />
ε<br />
ε<br />
ε
τ<br />
مَن لم یَعلمْ نفاقَھُ، وكان عمر لا یُصلي على مَن لم ِ یُصلّ علیھ حُذیفةُ، لأنھ<br />
كان في غزوةِ تبوك قد عَرَ فَ المنافقین (1) ، وقد نھى اللھُ سبحانھ رسولَھ<br />
عن الصلاةِ على المنافقین، وأخبرَ أنھ لا یغفِرُ لھم باستغفارهِ، وعل َّلَ ذلك<br />
بكفرھم باللھ ورسولھ (2) .<br />
قولُھ: "ولا نُنْزِ لُ أَحَداً مِنھم جَن َّةً وَ لا نَاراً(3) ".<br />
ε<br />
(1 ( حیث أعلمھ النبي ε عن أسمائھم، وقد سئل علي بن <strong>أبي</strong> طالب τ عن حذیفة<br />
فقال: كان أعلم الناس بالمنافقین. (المستدرك:<br />
/3<br />
283
ش: یرید: أن َّا لا نقولُ عن أَحَدٍ مُعَی َّنٍ من أَھْل القبلةِ: إن َّھ مِن أَھْل الجن َّةِ،<br />
أو مِن أَھْل النار، إلا َّ مَن أَخبرَ الصادِ ُق أَنھ مِن أَھْل الجَن َّة كالعَشْرَ ةِ رضي<br />
اللھ عنھم (1) ، وإن كُن َّا نقول: إن َّھ لا بُد َّ أَنْ یَدخُلَ النارَ من أَھْل الكبائرِ مَن<br />
یشاء اللھُ إدخالَھُ النارَ ، ثم َّ یَخرجُ بشفاعَةِ الش َّافِعین، ولكن َّا نَقِفُ في الش َّخْ ِص<br />
المُعَی َّنِ، فَلا نَشْھَدُ لھ بجَن َّةٍ ولا نار إلا َّ عن عِلْم، لأن َّ حقیقَةَ باطِنھِ، وما ماتَ<br />
علیھ لا نُحیطُ بھ (2) ، لكن نَرجو للمُحْسِنِ، ونَخافُ على المُسيءِ.<br />
ε<br />
(1 ( عن عبد الرحمن بن عوف، قال: قال رسول اللھ في الجن َّةِ،<br />
ε: "أبو بكرٍ<br />
وعُمَرُ في الجن َّةِ، وعُثمان في الجنةِ، وعَلي ٌّ في الجنة، وطَلْحةُ في الجنة،<br />
والزبیرُ في الجن َّة، وعبد الرحمن بن عوفٍ في الجن َّةِ، وسَعْدُ بن <strong>أبي</strong> وقاص في<br />
الجنة، وسَعیدُ بن زیدٍ في الجنة، وأبو عبیدَةَ بنُ الجر َّ احِ في الجنةِ". صحیح<br />
سنن الترمذي: "<br />
284
-ثناء الن َّاسِ (1) على المرءِ خیراً، بُشْرى خَیْرٍ لھ، وكذلك ثناؤھم<br />
علیھ شَر َّاً، بُشْرَىَ شَ ٍرّ لھ یومَ القیامَ ِة<br />
جاء في "الصحیحین": أَن َّھُ مُر َّ بجنازَ ةٍ، فأَثْنَوا علیھا بخَیرٍ ، فقالَ النب ُّي<br />
"وجَبَتْ "، ومُر َّ بأخْرَ ى فأُثنِيَ علیھا ٍ بشَرّ ، فقال: "وجَبَت"، فقال عُمَرُ :<br />
یارسولَ اللھِ، ما وجَبَتْ ؟ فقالَ رسولُ اللھ ε: "ھذا أَثنیتُم علیھ خیْراً وجَبَتْ<br />
لھ الجن َّةُ، وھذا أَثنیتُم علیھ شَر َّ اً وجبت لھ الن َّارُ ، أنتم شُھَدَاءُ اللھِ في<br />
:ε<br />
-<br />
285<br />
الأرضِ ".<br />
وقال ε: "تُوشِكُونَ أَنْ تَعلَمُوا أَھْلَ الجن َّةِ مِنْ أَھْل الن َّارِ "، قالوا: بِما<br />
یارَ سولَ اللھ؟ قال: "بالث َّناءِ الحَسَنِ والثنَاءِ الس َّيّ ِءِ" (2) .<br />
قولُھ: "ولا نشھَدُ علیھِمْ بكفرٍ ولا بِشرْ كٍ ولا بنفاقٍ، ما لَمْ یَظھرْ<br />
.<br />
منھم شيءٌ من ذلك، ونذَرُ سرائرَھُم إِلى اللھِ تعالى" (3)<br />
لیعملُ عملَ أَھْل الجنة فیما یبدو للناس، وھو من أَھْل النار. وإن َّ الرجلَ لیعمَ ُل<br />
عملَ أَھْلِ النار فیما یبدو للناس، وھو من أَھْل الجنة".<br />
( 1 )<br />
المراد بالناس ھنا، ھم الناس العدول الصالحون المتقون، ولیس الرعاع<br />
والفساق والفجار والمنافقین، فھؤلاء لا یثنون خیراً إلا َّ على من كانَ على<br />
شاكلتھم وخُلقھم، وثناؤھم لا یعتبر..<br />
(2 ( رواه ابن ماجة، وأحمد، وإسناده محتمل التحسین. وھناك أحادیث عدیدة<br />
صحیحة تدل على ھذا المعنى، منھا قولھ ε: "إذا أتى الرجل القوم فقالوا لھ:<br />
قحطاً، فقحطاً لھ یوم القیامة". وقولھ: "إذا سمعت جیرانك یقولون أحسنت فقد<br />
أحسنت، وإذا سمعتھم یقولون: قد أسأت فقد أسأت". وقولھ: "أھلُ الجنة مَن مَلأ<br />
اللھُ أذنیھ من ثناء الناس خیراً، وھو یسمع، وأھل النار مَن ملأ أذنیھ من ثناء<br />
الناس شراً وھو یسمع". وقولھ: "إذا صَل ُّوا على جنازَ ةٍ فأثنوا خیراً، یقول الرب:<br />
أجزت شھادَتھم فیما یعلمون، وأغفر لھ ما لا یعلمون". وقولھ: "أی ُّما مسلمٍ شھد<br />
لھ أربعةٌ بخیر، أدخلھ اللھُ الجن َّةَ، أو ثلاثةٌ أو اثنان". وھذا كلھ یحمل على وجھ<br />
العموم لا التعیین، وعلى وجھ الرجاء لا الجزم والیقین.<br />
( 3 )<br />
كما یحكم على المرء بالإسلام من خلال ظاھره الدال على إسلامھ وانقیاده؛<br />
كذلك یُحكم علیھ بالكفر والخروج من الدین من خلال ظاھره الدال على كفره،<br />
فمن أظھر لنا الكفر البواح -من غیر مانعٍ شرعي معتبر- أظھرنا لھ التكفیر،<br />
فمدار الحكم إیماناً وكفراً على الظاھر، من دون أن نتكلف معاناة شق القلوب،<br />
وتتبع خفایا السرائر التي لا یعلمھا إلا َّ اللھ سبحانھ وتعالى.
عن أسامة بن زید قال: بعثنا رسول اللھ ε في سریة، فصبحنا الحرقات من<br />
جھینة، فأدركت رجلاً، فقال: لا إلھ إلا اللھ، فطعنتھ، فوقع في نفسي من ذلك،<br />
فذكرتھ للنبي ε، فقال رسول اللھ ε: "أقال لا إلھ إلا اللھ وقتلتھ؟!"، قال: قلت<br />
یارسول اللھ إنما قالھا خوفاً من السلاح!، قال: "أشققت عن قلبھ حتى تعلم<br />
أقالھا أم لا؟!" فما زال یكررھا علي حتى تمنیت أني أسلمت یومئذٍ. (رواه<br />
مسلم).<br />
أي كونك لا تستطیع أن تشق عن قلبھ، وھو فوق الطاقة، لتعلم أقالھما تعوذاً<br />
من السلاح أم لا، كان یجب علیك أن تكتفي بما ظھر منھ مما یدل على إسلامھ.<br />
قال النووي في ال<strong>شرح</strong> (2/<br />
286
ش: لأنا قد أُمِرْ نا بالحكمِ بالظاھرِ ، ونُھینا عن ِ الظنّ واتباعِ ما لیس لنا<br />
بھ عِلمٌ. قال تعالى: [یا أیھا الذین آمنوا اجتنبوا كثیراً من ِ الظنّ إن َّ بعض<br />
الظن إثمٌ] الحجرات: [ولاتقفُ ما لیس لك بھ عِلمٌ إن السمعَ<br />
والبصرَ والفؤادَ كل ُّ أولئك كان عنھ مسؤولاً] الإسراء:<br />
2. وقال:<br />
287
فجزاؤه جھن َّمُ خالداً فیھا وغَضبَ اللھ علیھ ولعنَھ وأعد َّ لھ عذاباً عظیماً]<br />
النساء:<br />
288
قولُھ: "ولا نرى الخروجَ على أئمتِنا ووُ لاةِ أُمورِ نا (1) ...<br />
وإن جاروا (2) ...<br />
الاشتغال بھ- لیقتل معھ النساء والأطفال، والعشرات من المسلمین الآمنین في<br />
بیوتھم وأسواقھم.. لیس من الدین ولا الرجولة أن تضع قنبلتك في أي مكان،<br />
وبطریقة لا تأمن ضحایاھا وقتلاھا، ثم تولي ھارباً فزعاً، زاعماً أنك ألقیت<br />
قنبلة على الكافرین..!! فإن أردت أجر وثواب الجھاد، فاعلم أنھ لا جھاد لمن<br />
یؤذي مؤمناً واحداً في جھاده، وقد صح عن قائد المجاھدین محمد أنھ قال:<br />
"من آذى مؤمناً، فلا جھاد لھ" (رواه أحمد وغیره، صحیح الجامع:<br />
ε<br />
289
ε<br />
ε<br />
-ε<br />
ε<br />
ε<br />
یتعین علیھ الإعداد الذي یمكنھ من الخروج، ھذا ما دلت علیھ الشریعة، وأجمع<br />
علیھ علماء الأمة.<br />
فقد صح عن النبي أنھ قال: "من رأى من أمیرهِ شیئاً یكرھھ فلیصبر علیھ،<br />
فإنھ من فارق الجماعة شبراً فمات إلا َّ مات میتةً جاھلیة" متفق علیھ.<br />
وعن عبد اللھ بن مسعود، قال: قال لنا رسولُ اللھ ε: "إنكم سترون بعدي<br />
أثَرَ ةً وأموراً تنكرونھا". قالوا: فما تأمرنا یارسول اللھ؟ قال: أدوا إلیھم حَق َّھم<br />
وسلوا اللھَ حقكم" البخاري.<br />
وعن حذیفة بن الیمان، قال لھ النب ُّي ε: "تسمع وتُطیع للأمیرِ ، وإن ضُرِ بَ<br />
ظھرُ كَ ، وأُخِ ذَ مالُكَ ، فاسمع وأطع" مسلم.<br />
وعن نافعٍ، قال لما خلعَ أَھْل المدینة یزید بن معاویة، جمع ابنُ عمر حشمَھُ<br />
وولده، فقال: إني سمعت النب َّي یقول: "یُنصبُ ِ لكلّ غادرٍ لواءٌ یومَ القیامة"،<br />
وإنا قد بایعنا ھذا الرجلَ على بیعِ اللھِ ورسولھِ، وإني لا أعلمُ غدراً أعظم من<br />
أن یُبایعَ رجلٌ على بیعِ اللھِ ورسولھِ ثم ینصب لھ القتال، وإني لا أعلمُ أحداً<br />
منكم خلعھُ ولا بایعَ في ھذا الأمر إلا َّ كانت الفیصلُ بیني وبینھ.<br />
قال ابن حجر في الفتح: وفي ھذا الحدیث وجوب طاعة الإمام الذي انعقدت لھ<br />
البیعة، والمنع من الخروج علیھ ولو جارَ في حكمھ، وأنھ لا ینخلعُ بالفسق ا-ھ.<br />
وعن سلمة بن یزید الجعفي، أنھ سأل رسولَ اللھ ε، فقال: یا نبي َّ اللھِ أرأیتَ<br />
إن قامت علینا أمراءٌ یسألون حقھم ویمنعونا حقنا، فما تأمرنا؟ فأعرضَ عنھ،<br />
ثم سألَھُ فأعرض عنھ، ثم سألَھُ الثالثة، فجذبھ الأشعثُ بن قیس -خشیة أن یكون<br />
في السؤال ما یكرھھ النبي فقال رسولُ اللھِ ε: "اسمعوا وأطیعوا، فإنما<br />
علیھم ما حُمّ ِلُوا وعلیكم ما حُمّ ِلْتُمْ" مسلم.<br />
وقال : "ألا مَن ولّ ِي َّ علیھ والٍ یأتي شیئاً من معصیة اللھِ، فلیكره ما یأتي<br />
من معصیةِ اللھ ولا ینزعن َّ یداً من طاعةٍ" مسلم.<br />
وعن عبادة بن الصامت، عن النبي قال: "اسمعْ وأطعْ في عُسرِ ك ویسرك،<br />
ومنشطك ومكرھك، وأثرةٍ علیكَ وإن أكلوا مالَكَ وضربوا ظھركَ " أحمد<br />
وغیره.<br />
وغیرھا كثیر من الأحادیث التي تأمر بالصبر على الولاة المسلمین وإن<br />
ظلموا، وبالكف عن الخروج علیھم لمجرد الفسق.<br />
قال النووي في <strong>شرح</strong>ھ لصحیح مسلم )<br />
290
أما إن ظھر من الحاكم الكفر البواح، عندنا من اللھ فیھ برھان من آیة أو<br />
حدیث صحیح لا یحتمل صرفاً ولا تأویلاً، فحینھا لا سمع لھ ولا طاعة، ویتعین<br />
الخروج علیھ بالقوة على كل من یملك القدرة على ذلك.<br />
قال تعالى: [ولن یجعل اللھُ للكافرین على المؤمنین سبیلاً] النساء:<br />
291
ولا نَدعو علیھِم (1) ، ولا نَنزَعُ یداً مِن طاعَتِھم، ونرى طاعَتَھُم مِن<br />
طاعةِ اللھ عز َّ وجل فریضةً، ما لم یَأمروا بمعصیةٍ(2) ...<br />
وندعو لھم بالص َّلاحِ والمعافاةِ(3) ".<br />
الضرر الأكبر بالضرر الأصغر.. ولو قال: لا ینبغي الخروج، أو لا یستحسن<br />
بدلاً من قولھ "لم یجز" لكان مستساغاً أكثر.<br />
قال النووي في <strong>شرح</strong>ھ لصحیح مسلم )<br />
292
ش: قال تعالى: [یا أیھا الذین آمنوا أطیعوا اللھَ وأطیعوا الرسولَ<br />
وأُولي الأمرِ مِنكم] النساء:<br />
293
قال: "نعم، قومٌ من جِ لْدَتِنا، یتكلمونَ بألسِنَتِنا (1) "، قلتُ : یارسولَ اللھِ فما<br />
ترى إن أدرَ كني ذلك؟ قال: "تلزَ مُ جماعةَ المسلمین وإمامَھُم" قلتُ : فإنْ لَمْ<br />
یَكُنْ لھم جماعةٌ ولا إمامٌ؟ قال: "فاعتزِ لْ تِلكَ الفِرَ قَ كُل َّھا، ولو أن تع َّض<br />
على أصل شجرَ ةٍ حتى یُدرِ كَكَ الموتُ وأنتَ على ذلك (2) " متفق علیھ.<br />
وعن ابن عباس، قال: قال رسول اللھ ε: "مَن رأى من أمیره شیئاً<br />
یكرھُھُ فلیَصْبرْ ، فإنھ من فارقَ الجماعةَ شِبراً فماتَ ، فمیتَتُھُ جاھلیةٌ(3) " متفق<br />
علیھ. وفي روایة: "فقد خلَعَ رِ بْقَةَ الإسلامِ من عُنُقھِ" (4) .<br />
ε: "لا<br />
294<br />
( 1 )<br />
( 2 )<br />
أراھم دعاة العلمانیة، والقومیة، والوطنیة، والدیمقراطیة، والاشتراكیة،<br />
وغیرھا من المفاھیم والدعوات الھدامة، التي یتبناھا ویدعو إلیھا أناس ھم من<br />
أبناء جلدتنا، ویتكلمون بألسنتنا، والساحة تعج ُّ بھم!!.<br />
قلت: لا یجتمع غیاب الإمام العام للمسلمین، وجماعة المسلمین في آنٍ معاً إلا َّ<br />
في آخر الزمان یوم یدرس الدین، وتنمحي معالمھ وآثاره، حتى لا یُدرى شيء<br />
منھ سوى قول الناس لا إلھ إلا اللھ، كلمة حفظوھا من آبائھم، كما جاء ذلك في<br />
الحدیث.<br />
وبالتالي فالحدیث یحمل على ذلك الزمان، أما زماننا وإن تحقق فیھ غیاب الإمام<br />
العام، فإن الجماعة موجودة، والطائفة المنصورة الظاھرة موجودة ولن تزال إِلى<br />
ذاك الزمان بإذن اللھ، كما في قولھ ε: "لن تزال طائفة من أمتي ظاھرین على<br />
الحق لا یضرھم من خذلھم حتى یأتي أمر اللھ وھم كذلك". وقال ε: "لن یبرح<br />
ھذا الدین قائماً یقاتل علیھ عصابة من المسلمین حتى تقوم الساعة". وقال<br />
تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر اللھ لا یضرھم من خذلھم أو خالفھم حتى یأتي<br />
أمر اللھ وھم ظاھرون على الناس". وغیرھا من الأحادیث الدالة على أن<br />
الجماعة قائمة إِلى یوم القیامة، وبالتالي لا یجوز حمل حدیث حذیفة على زماننا<br />
بحجة غیاب الخلیفة، أو أن یكون الحدیث ذریعة لدعوة الناس إِلى الاعتزال<br />
واجتناب الساحة ومیادین الجھاد والقتال، فحدیث حذیفة یشترط للعزلة غیاب<br />
الخلیفة والجماعة معاً، وھذا غیر محقق في زماننا، و الحمد.<br />
( 3 )<br />
أي یموت كمیتة الجاھلیین في جاھلیتھم حیث لا إمام لھم یسوسھم، ولا جماعة<br />
تجمعھم وتوحدھم، ولیس المراد بالمیتة على الكفر والردة كما فھم البعض،<br />
واللھ تعالى أعلم.<br />
(4 ( صحیح، أخرجھ أحمد وغیره.
وعن <strong>أبي</strong> سعید الخدري، قال: قال رسولُ الل ِھ ε: "إذا بُویعَ لخلیفتین<br />
فاقتلوا الآخَرَ مِنھما" (1) .<br />
وعن عوف بن مالك، عن رسولِ اللھ ε، قال: "خیارُ أئمتكم الذینَ<br />
تحبونَھمُ ویحبونَكُم، وتصلونَ علیھم ویصلون علیكم، وشِرارُ أئمتِكُم الذین<br />
تبغضونَھُم ویبغضونَكُم، وتلعنونَھم ویلعنونَكُم"، فقلنا: یا رسولَ اللھِ، أفلا<br />
ننابذُھم بالسیفِ عند ذلك؟ قال: "لا، ما أقاموا فیكم الصلاة، ألا مَن ولِيَ<br />
علیھ والٍ فرآه یأتي شیئاً من معصیة اللھ، فلیكره ما یأتي من معصیةِ اللھ،<br />
ولا ینزِ عن َّ یداً من طاعَةٍ" مسلم.<br />
-الحكمةُ من عَدَمِ الخروجِ على أئمة الجورِ<br />
وأما لزومُ طاعَتِھم وإن جارُ وا، فلأنھُ یترتبُ على الخروجِ عن طاعَتھم<br />
من المفاسدِ أضعافُ ما یحصُلُ من جورِ ھِم (2) ، بل في الصبر على جَورِ ھم<br />
-<br />
(1 ( رواه مسلم. والحدیث فیھ بیان فساد الأنظمة التي من أصولھا التنافس على<br />
منصب الإمامة العامة، كما ھو الحال في النظام الدیمقراطي وغیره. وفیھ كذلك<br />
بطلان الفكرة -المستوردة من أنظمة الغرب الصلیبي- القائلة: بتحدید فترة<br />
زمنیة معینة لحكم الخلیفة أو الإمام العام، تُقدر بخمس سنوات أو أكثر بقلیل أو<br />
أقل، والتي یقول بھا كثیر من الكت َّاب المسلمین في ھذا العصر!.<br />
( 2 )<br />
قد تقدم أن ھذا لیس على إطلاقھ، وأنھ لابد من تقدیر المفاسد والمصالح<br />
المترتبة على الصبر أو الخروج، وھذا یعود إِلى درجة إنحراف الحاكم عن<br />
الحق، ومدى سھولة خلعھ إن وقع الخیار على الخروج، وضابط المسألة إعمال<br />
القاعدة بتجرد عن الھوى التي تأمر: بتقدیم أقل الخیارین ضرراً لدفع أشدھما<br />
ضرراً وفساداً..<br />
وما یقال في الحاكم الفاسق الظالم لا یجوز أن یقال في الحاكم الكافر المرتد،<br />
لورود النص أولاً الذي یلزم الأمة بخیار الخروج، ولأن الخروج علیھ مھما<br />
تعاظمت فتنتھ ومفاسده فھي أقل بكثیر من مفاسد الصبر على الكفر والشرك<br />
المتمثل في الحاكم الكافر المرتد- والإقرار لھ بأن یسود البلاد والعباد، فالشرك<br />
مفسدة عظمى تھون أمامھ جمیع المفاسد مھما تعاظمت، فلیس بعد فتنة الشرك<br />
والصبر علیھ فتنة، ولیس بعد ظلم الشرك والكفر ظلم، كما قال تعالى:<br />
الشرك لظلم عظیم] وقال: [والفتنة أشد من القتل]، والمراد بالفتنة ھنا الشرك<br />
والكفر. وقال تعالى: [وقاتلوھم حتى لا تكون فتنة ویكون الدین كلھ ]. ولما<br />
عبدَ بنو إسرائیل العجل من دون اللھ، كانت عقوبتھم من عند اللھ: [فاقتلوا<br />
-<br />
] نإ<br />
295
[<br />
تكفیرُ السیئات، ومضاعفَةُ الأجور، فإن اللھَ تعالى ما سَل َّطھُم علینا إلا َّ لفسادِ<br />
أعمالِنا (1) ، والجزاء مِن جنسِ العمل، فعلینا الإجتھادُ في الإستغفار والتوبَ ِة<br />
وإصلاحِ العمل، قال اللھ تعالى: [وما أصابَكُم من مصیبةٍ فبما كسبَتْ<br />
أیدیكم ویعفوا عن كثیرٍ الشورى:<br />
296
ε<br />
(1)<br />
قولُھ: "ونتبعُ الس ُّن َّةَ والجماعَةَ، ونجتنبُ الشذوذَ والخلاف<br />
والفُرقَةِ".<br />
ش: الس ُّن َّة: طریقة الرسو ِل (2) . والجماعَةُ: جماعَةُ المسلمین؛ وھم<br />
الصحابَةُ والتابعونَ لھم بإحسانٍ إِلى یومِ الدین، فاتباعُھم ھُدى، وخِ لافُھم<br />
ضلالٌ، قال تعالى: [قل إن كنتم تحبونَ اللھَ فاتبعوني یُحببكُم اللھُ ویغفِرْ<br />
لكم ذنوبَكم واللھ غفورٌ رحیم] آل عمران:<br />
297
اللھَ وأطیعوا الرسولَ فإنْ توَ ل َّوا فإنما علیھ ما حُمّ ِلَ وعلیكُم ما حُمّ ِلتُم<br />
وإن تُطیعوه تھتدوا وما على الرسولِ إلا َّ البلاغُ المبین] النور:<br />
298
آثارھِم، وتمسكوا بما استطعتُم من أخلاقھِم ودینِھم، فإن َّھم كانوا على الھُدى<br />
المستقیم (1) .<br />
قولُھ: "ونُحِ ب ُّ أَھْلَ العَدْلِ والأَمانَةِ، ونُبْغِضُ أَھْلَ الجَورِ<br />
والخیانَةِ".<br />
ش: وھذا من كمالِ الإیمانِ وتمامِ العبودی َّة، فإن َّ العبادَةَ تتضم َّنُ كما َل<br />
المَحَب َّةِ ونھایتَھا، وكمال ِ الذ ُّلّ ونھایتُھ، فمحَب َّةُ رسُلِ اللھِ وأنبیائِھ وعبادِه<br />
المؤمنینَ مِنْ مَحب َّةِ اللھِ، وإنْ كانت المَحَب َّةُ التي ِ لا یَستحِ ق ُّھا غیرُ هُ(2) ،<br />
(1 ( من الأدلة الدالة على وجوب الاقتداء بفھم السلف الصالح، قولھ ε: "أوصیكم<br />
بأصحابي، ثم الذین یلونھم، ثم الذین یلونھم.. علیكم بالجماعة وإیاكم والفرقة،<br />
فإن الشیطان مع الواحد وھو من الاثنین أبعد، من أراد بحبوحة الجنة فلیلزم<br />
الجماعة". وقولھ ε: "اقتدوا باللذین من بعدي، <strong>أبي</strong> بكر وعمر". وقولھ: "خیر<br />
الناس قرني، ثم الذین یلونھم، ثم الذین یلونھم".<br />
وعن عمران بن حصین قال: قال رسول اللھ ε: "خیر أمتي القرن الذي<br />
بعثتُ فیھم ثم الذین یلونھم" قال: ولا أعلم أذكر الثالث أم لا، "ثم ینشأ أقوام<br />
یشھدون ولا یستشھدون، ویخونون ولا یؤتمنون، ویفشو فیھم السّ ِمَن" وفي<br />
روایة: "ثم یأتي من بعدھم قوم، یتسمنون ویحبون السّ ِمَن یُعطون الشھادة قبل<br />
أن یُسألوھا".<br />
وفي جمیع ما تقدم دلیل على أن السلف رضوان اللھ تعالى علیھم أعلم من<br />
الخلف وأحكم وأسلم، ولیس كما یقول جھلة المتأخرین: بأن الخلف أحكم من<br />
السلف!!.<br />
(2 ( من ضروب الشرك أن تحب َّ المخلوق كحبِّ اللھ أو أشد حباً، كما قال تعالى:<br />
[ومن الناس من یتخذ من دون اللھ أنداداً یحبونھم كحب اللھ، والذین آمنوا<br />
أشد ُّ حباً ]. وعلامة ذلك تظھر في الطاعَة والاتباع، فأی ُّھما تُقدم طاعتھ<br />
واتباعھ على الآخر، یكون ھو المعبود المحبوب، كما قال تعالى: [قل إن كنتم<br />
تحبون اللھ فاتبعوني یُحببكم اللھ]. وقال: [وإن أطعتموھم إنكم لمشركون].<br />
وذلك بتقدیم طاعتھم على طاعة اللھ. ونحو ذلك قولھ تعالى: [قالوا وھم فیھا<br />
یختصمون تاللھ إن كُن َّا لفي ضلالٍ مبین إذْ نسویكم بربِّ العالمین]. وذلك یكون<br />
في الخوف والرجاء، والحب والاتباع والطاعة. قال ابن تیمیة رحمھ اللھ في<br />
الفتاوى )<br />
299
. (2)<br />
فغیرُ اللھ یُحَب ُّ في اللھِ، لا مَعَ اللھ (1) ، فإن َّ المُحِ ب َّ یُحِ ب ُّ ما یحب ُّ محبوبُھُ،<br />
ویُبغِضُ ما یُبغِضُ ، ویُوالي مَنْ یُوالیھ، ویُعادي مَن یُعَادیھ، ویرضى<br />
لرضائھ، ویَغْضَبُ لغَضَبھ، ویأمرُ بما یَأمُرُ بھ، ویَنھى عَم َّا یَنْھى عنھ، فھو<br />
مُوافقٌ لِمَحبوبھ في كلّ<br />
ِ حالٍ<br />
( 1 )<br />
قال ابن تیمیة رحمھ اللھ في الفتاوى<br />
300
-مِن لَوازِ مِ الإیمان أَنْ تُحِ ب َّ ما یُحِ ب ُّھُ اللھُ، وَ تكرهَ ما یكرھُھُ<br />
اللھُ-<br />
واللھُ تعالى یُحِ ب ُّ المحسنینَ، ویُحِ ب ُّ المت َّقینَ، ویُحِ ب ُّ التوابینَ، ویُحِ ُّب<br />
المتطھرین، ونحنُ نُحِ ب ُّ مَنْ أَحَب َّھُ اللھُ(1) .<br />
واللھ لا یُحِ ب ُّ الخائنین، ولا یُحِ ب ُّ المفسدین، ولا یُحِ ب ُّ المستكبرینَ،<br />
ونَحنُ لا نُحِ ب ُّھُم أیضاً، ونُبغِضُھُم، موافقةً لھ سبحانھ وتعالى (2) .<br />
وریاساتھم فلا مُبالاة بما جرى على الدین؟ وخیارھم المتحزن المتلمظ، ولو<br />
نوزع في بعض ما فیھ غضاضة علیھ في جاھھ أو مالھ بذل وتبذ َّل، وجد َّ<br />
واجتھد، واستعمل مراتب الإنكار الثلاثة بحسب وسعھ!، وھؤلاء -مع سقوطھم<br />
من عین اللھ ومقت اللھ لھم- قد بُلوا في الدنیا بأعظم بلیة تكون وھم لا<br />
یشعرون، وھو موت القلوب، فإن القلب كلما كانت حیاتھ أتم كان غضبھ <br />
ورسولھ أقوى، وانتصاره للدین أكمل.<br />
وقد ذكر الإمام أحمد وغیره أثراً أن اللھ سبحانھ أوصى إِلى ملكٍ من الملائكة<br />
أن اخسف بقریة كذا وكذا، فقال: یارب كیف وفیھم فلان العابد؟ فقال: بھ فابدأ،<br />
فإنھ لم یتمع َّر وجھُھُ في َّ یوماً قط.<br />
وذكر أبو عمر في كتاب التمھید أن اللھ سبحانھ أوحى إِلى نبي من أنبیائھ أن قل<br />
لفلان الزاھد: أما زھدك في الدنیا فقد تعج َّلتَ بھ الراحة، وأما انقطاعك إلي فقد<br />
اكتسبت بھ <strong>العز</strong>، ولكن ماذا عملت فیما لي علیك؟ فقال: یارب وأي شيء لك<br />
علي؟ قال: ھل والیتَ في َّ ولیّاً أو عادیت في َّ عدوّ اً؟؟ ا-ھ. فتأمل وتدبر.<br />
( 1 )<br />
إن كره ما أنزلَ اللھ، وبغض ما یحبھ سبحانھ وتعالى یُعتبر من نواقض<br />
الإیمان التي تُخرج صاحبھا من الملة، وتُحبط مطلق العمل، لما في ذلك من<br />
تقبیح لما حسنھ اللھ، ورَ ٍدّ لقولھ، وتعقیب علیھ، وعدم الرضى بحكمھ وشرعھ،<br />
قال تعالى: [ذلك بأَن َّھم كرھوا ما أنزلَ اللھ فأحبطَ أعمالھم]. وقال: [إن الذین<br />
ارتدوا على أدبارھم من بعد ما تبین لھم الھدى الشیطان سَو َّ لَ لھم وأملى لھم،<br />
ذلك بأنھم قالوا للذین كَرِ ھُوا ما نَز َّلَ اللھُ سَنُطیعُكُم في بعض الأمرِ ]. فإذا كان<br />
الذین قالوا للذین كرھوا ما نَز َّ لَ اللھ سنطیعكم في بعض الأمر، قد اعتبرھم<br />
الشارع لأجل ذلك مرتدین، فما یكون القول في الذین كرھوا ما نَز َّ لَ اللھ<br />
أنفسھم، لا شك َّ أنھم أولى بالارتداد والكفر.<br />
(2 ( وكذلك أن تحب ما حرمھ اللھ وسخطھ، یُعتبر مِن نواقض الإیمان، لِما في<br />
ذلك من تحسین وتزیین للباطل الذي قبحھ اللھ وذمھ، فاللھ تعالى یقول عن<br />
الشيء "شِین" وھو یقول عنھ "زین! " ویوالیھ. قال تعالى: [ولو كانوا یُؤمنون<br />
301
ِ<br />
ِ<br />
وفي "الصحیحین" عن النبي ε: "ثَلاثٌ مَنْ كُن َّ فیھِ وَ جَدَ حَلاوَ ةَ الإیمانِ:<br />
مَنْ كانَ اللھُ ورسولُھ أحَب َّ إلیھ مِم َّا سِواھُما، ومَنْ كانَ یُحِ ب ُّ المَرْ ءَ لا یُحِ ب ُّھُ<br />
إلا َّ ، ومَنْ كانَ یَكرَ هُ أن یَرْ جِ عَ في الكُفْرِ بَعْدَ أَنْ أنقذَهُ اللھُ مِنْھُ، كما یَكرَ هُ<br />
أنْ یُلْقَى في النارِ ".<br />
فالمَحب َّةُ التام َّةُ مُسْتَلْزِ مَةٌ لِموافقةِ المحبوبِ في مَحبوبھِ ومَكْروھِھِ،<br />
وولایتھِ وعداوَ تِھ. ومِنَ المعلومِ أن َّ مَنْ أَحَب َّ اللھَ المحب َّةَ الواجبةِ، فلا بُد َّ أن<br />
یُبغِضَ أعداءَهُ، ولا بُد َّ أَن یُحِ ب َّ ما یُحِ ب ُّھُ مِن جھادِھم (1) ، كما قال تعالى: [إ َّن<br />
اللھَ یُحِ ب ُّ الذینَ یُقاتِلُونَ في سَبیلِھ صَف َّاً كأَن َّھم بُنیانٌ مَرصُوصٌ الصف:<br />
[<br />
-<br />
.4<br />
المُوالاةُ والمُعَاداةُ بحسبِ خِ صَالِ الخیرِ والش َّرّ-<br />
والحب ُّ والبغضُ بحسبِ ما فیھم مِنْ خِ صال الخیرِ والشرّ<br />
یَجتمع فیھ سَبَبُ الولایَ ِة (1) ، وسَبَبُ العَداوَ ةِ(2) ، والحبِّ والبغضِ ، فیكونُ<br />
مَحْبُوباً مِنْ وَ جْھٍ مَبْغوضاً مِنْ وَ جْھٍ، والحكمُ للغالِبِ(3) .<br />
(2) ، فإن العَبْدَ<br />
باللھ والنبيّ ِ وما أُنزِ ل إلیھ ما اتخذوھم أولیاء ولكن كثیراً منھم فاسقین]. قال<br />
ابن تیمیة في تفسیره للآیة: فدَل َّ على أن الإیمان المذكور ینفي اتخاذھم أولیاء<br />
ویُضاده، ولا یجتمع الإیمان واتخاذھم أولیاء في القلب. ومثلھ قولھ تعالى: [لا<br />
تتخذوا الیھودَ والنصارى أولیاء، بعضھم أولیاء بعض ومن یتولھم منكم فإنھ<br />
منھم], فإنھ أخبر في تلك الآیة أن متولیھم لا یكون مؤمناً، وأخبر ھنا أن متولیھم<br />
ھو منھم، فالقرآن یصدق بعضھ بعضاً ا-ھ. (الفتاوى: 7/<br />
302
قولُھ: "ونقولُ: اللھُ أعلَمُ فِیما اشتَبَھَ علینا عِلْمُھُ".<br />
ش: من تكل َّمَ بغیرِ علمٍ ، فإنما یتبعُ ھواه، وقد قال تعالى:<br />
مم َّن ات َّبَعَ ھواه بغیر ھُدىً مِن اللھِ] القصص:<br />
[ومَ نْ أض ُّل<br />
303
2<br />
أما الوجھ الثاني: تكون بفتوتك الجاھلة قد أضللت مستفتیك فیما أفتاك بھ،<br />
حیث أنھ استأمنك على دینھ وحرماتھ، وأنت لم تراعِ فیھ ھذه الأمانة، وفي<br />
الحدیث: "من أُفتي بغیر علمٍ كان إثمھ على مَن أفتاه". فلا یمنعن َّك -یا أخا العلم-<br />
إذا كنت لا تعلم أن تقول: لا أعلم. فثلث العلم لا أعلم، أولا أدري، فإن<br />
استصعبت قولھا -وذلك من الشیطان- فتذكر أن من ھم خیرٌ منك بكثیر قد<br />
قالوھا، وأمروا بھا، وإلیك بعض ما أُثر في ذلك عن السلف الصالح.<br />
عن ابن <strong>أبي</strong> ملَیكة قال: سُئل أبو بكرٍ الصدیق τ عن آیةٍ، فقال: أي أرضٍ<br />
تقلني وأي سماءٍ تظُلني؟ وأین أذھب؟ وكیف أصنع إذا أنا قلت في كتاب اللھِ<br />
بغیر ما أراد اللھ بھا؟!<br />
وقال علي ٌّ بن <strong>أبي</strong> طالب τ: وابَرْ دَھا على كبدي، ثلاث مرات، قالوا: یا أمیر<br />
المؤمنین وما ذاك؟ قال: أن یُسأل الرجلُ عما لا یعلم فیقول: اللھ أعلم.<br />
وعن خالد بن أسلم قال: خرجنا مع ابن عمر نمشي، فلحقنا أعرابي فقال: أنت<br />
عبد اللھ بن عمر؟ قال: نعم، قال: سألت عنك ودُللتُ علیكَ ، فأخبرني أتَرثُ<br />
العمةُ؟ قال: لا أدري، قال: أنت لا تدري؟! قال: نعم، اذھب إِلى العلماء في<br />
المدینة فاسألھم..<br />
وقال ابن مسعود: من كان عنده علم فلیقل بھ، ومن لم یكن عنده علم، فلیقل:<br />
اللھ أعلم، فإن اللھ قال لنبیھ: [قل ما أسألكم علیھ من أجرٍ ، وما أنا من<br />
المتكلفین].<br />
وصح عن ابن مسعود وابن عباس: من أفتى الناس في كل ما یسألونھ عنھ<br />
فھو مجنون.<br />
وقال أبو حصین الأسدي: إن أحدھم لیفتي في المسألة، ولو وردت على عمر<br />
لجمع لھا أَھْل بدر.<br />
وقال مالك: من فقھ العالم أن یقول: لا أعلم، فإنھ عسى أن یتھیأ لھ الخیر،<br />
وقال: سمعت ابن ھرمز یقول: ینبغي للعالِم أن یورث جلساءه من بعده "لا<br />
أدري"، حتى یكون ذلك أصلاً في أیدیھم یفزعون إلیھ.<br />
وقال الشعبي: لا أدري، نصفُ العلم.<br />
وقال ابن جبیر: ویل لمن یقول لما لا یعلم، إني أعلم.<br />
وقال ابن وھب: قال لي مالك وھو ینكر كثرة الجواب في المسائل: یا عبد<br />
اللھ ما علمتَ فقل، وإی َّاك أن تُقَلّ ِدَ الناسَ قلادَةَ سوء.<br />
وكان ابن المسیب لا یكاد یفتي إلا َّ قال: اللھم سلمني وسَلّ ِم مني . (انظر جمیع<br />
ما تقدم من آثار، أعلام الموقعین:<br />
304
ε<br />
وقد أمر اللھُ نبی َّھُ أن یَرُ د َّ عِلْمَ ما لا یَعلَمُ إلیھ، فقال تعالى:<br />
أعلمُ بما لَبِثوا لھ غیبُ السماواتِ والأرضِ الكھف:<br />
[قلِ اللھُ<br />
[<br />
305
(2)<br />
قولُھ: "والحج ُّ والجِ ھادُ ماضِ یانِ مَعَ أُولي الأَمرِ مِنَ المسلمینَ،<br />
ِ بَرّ ھِمْ وفاجِ رِ ھِمْ إِلى قیامِ الس َّاعَةِ، لا یُبطِلُھُما شيءٌ ولا<br />
یَنْقُضُھُما".<br />
قال أبو داود في سننھ "<br />
306
ش: یُشیرُ الشیخ إِلى الر َّ ِدّ على الر َّ افضة، حیثُ قالوا: لا جِ ھادَ إلا َّ مَ َع<br />
الإمامِ المعصومِ (1) ، وھو الإمام المَعْدُوم...<br />
ومما ینبغي التنبیھ لھ ھنا، أن الذي یُجاھَدُ معھ لا یجوز أن یبلغ فجوره درجة<br />
الكفر الأكبر، فإن بلغ بھ فجوره درجة الكفر فحینھا لا جھاد معھ، بل یتعین<br />
الجھاد ضده وقد تقدم ذكر إجماع أَھْل العلم على ذلك.<br />
( 1 )<br />
لكنھم مؤخراً أحدثوا فكرة تحررھم من عقدة انتظار إمامھم المزعوم، وھي<br />
فكرة "ولایة الفقیھ" حیث أن الفقیھ الشیعي ینوب عن الإمام المنتظر في كثیر<br />
من صلاحیاتھ، التي منھا إعلان الجھاد، وھذه الفكرة أحدثت من فقھاء الشیعة<br />
أرباباً تتسلط -باسم الإمام والعصمة- على رقاب شعوبھم وأتباعھم، كما كان<br />
شأن أحبار وقساوسة الكنیسة مِن قبل، حیث زعموا أن سلطتھم مُستمدة من<br />
اللھ!! وأنھم یحكمون باسم اللھ ونیابة عنھ!!!<br />
ونسبة العصمة لغیر الأنبیاء مؤداه إِلى الشرك الأكبر، وذلك من أوجھ، منھا:<br />
رفع درجة الأئمة إِلى درجة الأنبیاء والرسل، من حیث عصمتھم عن الخطأ،<br />
ووجوب طاعتھم واتباعھم في كل ما یصدر عنھم، ومن حیث ما لھم من مقام<br />
حمید عند ربھم!! ومنھا: تكذیب القرآن بأن الدین لم یكتمل بحیاة نبینا محمد<br />
بدلیل اتباع أقوال الأئمة الاثنى عشر كاتباع أقوال القرآن!! ومنھا: إشراك الإمام<br />
مع اللھ في الحكم والتشریع، حیث اعتبروا أقوال الإمام واجبة الاتباع كأقوال<br />
!! وإلیك بعض المقتطفات من كتاب "الحكومة الإسلامیة" للخمیني حیث<br />
یقول: "فإن َّ للإمام مقاماً محموداً ودرجةً سامیةً وخلافةً تكوینیة، تخضع لولایتھا<br />
وسیطرتھا جمیع ذرات ھذا الكون!! وإن من ضروریات مذھبنا أن َّ لأئمتنا مقاماً<br />
لا یبلغھ ملك مقرب ولا نبي مرسل!! " "نحن نعلم أن َّ أوامر الأئمة تختلف عن<br />
أوامر غیرھم. وعلى مذھبنا فإن َّ جمیع الأوامر الصادرة عن الأئمة في حیاتھم<br />
نافذة المفعول، وواجبة الاتباع حتى بعد وفاتھم" "نحن نعتقد أن المنصب الذي<br />
منحھ الأئمة (ع) للفقھاء لا یزال محفوظاً لھم، لأن َّ الذین لا نتصور فیھم السھو<br />
أو الغفلة !!! ونعتقد فیھم الإحاطة بكل ما فیھ مصلحة للمسلمین" وبالتالي سلطة<br />
الفقیھ على رقاب الشیعة كسلطة الإمام!! وقال: "وقد قلت سابقاً أن تعالیم الأئمة<br />
كتعالیم القرآن!! لا تخص جیلاً خاصاً، وإنما ھي تعالیم للجمیع في كل عصر<br />
ومصر وإلى یوم القیامة یجب تنفیذھا واتباعھا!! " أقول: فأي كفر بعد ھذا<br />
الكفر، وأي شرك بعد ھذا الشرك!! وھم یصدق فیھم قولھ تعالى: [اتخذوا<br />
أحبارھم ورھبانھم أرباباً من دون اللھ].<br />
،ε<br />
307<br />
اللھ Υ
ε<br />
الذي لم ینفعھم في دینٍ ولا دُنیا (1) ، فإن َّھم یَد َّعونَ أن َّ الإمامَ المنتظَر، محمدُ<br />
بنُ الحسن العسكري، الذي دَخَلَ السّ ِردابَ في زعمھم سنة ستین ومئتین، أو<br />
قریباً من ذلك في سامر َّ اء، وقَد یُقیمونَ ھناك داب َّةً، إم َّا بَغلَةً وإم َّا فَرساً،<br />
لیركبھا إذا خرج! ویُقیمُونَ ھناكَ في أوقاتٍ عَی َّنوھا لِمَن یُنادِي علیھ<br />
بالخروج: یا مولانا، اخرج! یا مولانا اخرج! ویُشھرونَ السلاحَ، إِلى غیرِ<br />
ذلك من الأمور التي یَضحَكُ علیھم فیھا العقلاء.<br />
وفي صحیح مسلم، عن عوف بن مالك الأَشجعي، قال: سَمعتُ رسولَ<br />
اللھِ یقول: "خیار أَئمتكُم الذین تُحبونَھم ویُحِ ب ُّونَكُم، وتُصَل ُّونَ علیھم<br />
ویُصَل ُّونَ عَلَیْكُم، وشرارُ أئِم َّتِكُم الذین تُبغِضُونَھُم ویُبغضونَكُم، وتلعنونَھم<br />
ویلعنونَكم"، قال: قلنا: یا رسولَ اللھِ، أفلا نُنابذُھُم عِندَ ذلك؟ قال: "لا، ما<br />
أقامُوا الصلاةَ، ألا مَن وَ ليَ علیھ والٍ، فرآهُ یأتي شیئاً من مَعصیةِ اللھ،<br />
فلیكرَ ه ما یأتي مِن مَعصیةِ اللھِ، ولا یَنْزِ عَن َّ یَداً من طاعتھ". ولم یَقُلْ إ َّن<br />
الإمامَ یَجبُ أن یكونَ مَعصوماً.<br />
وقولھ: "مع أولي الأَمر ِ بَرّھم وفاجرِ ھم" لأن َّ الحَج َّ والجھادَ فَرضانِ<br />
یتعل َّقان بالس َّفرِ ،<br />
فلا بُد َّ مِن سائسٍ یسوسُ الناسَ فیھما، ویُقاوِمُ العدو َّ ، وھذا المعنى كما<br />
یَحصَلُ بالإمامِ ِ البَرّ یحصَلُ بالإمامِ الفاجرِ .<br />
قولُھ: "ونُؤْمِنُ بالكِرَامِ الكاتِبینَ، فإن َّ اللھَ قَدْ جَعَلَھُمْ عَلَینا<br />
حافِظِینَ" .<br />
ش: قال تعالى: [وإن َّ عَلَیْكُم لَحَافظینَ. كِرَاماً كاتبین. یَعْلَمونَ ما<br />
تَفْعلُونَ] الإنفطار:<br />
308
لا نَسْمَعُ سِر َّھُم ونجواھم بَلَى ورُسُلُنا لدیھم یَكْتُبونَ] الزخرف:<br />
309
فاكتبوھا عَشْراً" (1) . وقال ε: "قالتِ الملائكَةُ: ذل كَ عَبدُكَ یُریدُ أن یَعْمَلَ سَیّ ِئةً<br />
-وھو أبصرُ بھ- فقال: ارقُبُوهُ، فإنْ عَمِلَھا فاكتبوھا بِمثْلِھا، وإنْ تَرَ كَھا،<br />
فاكتُبوھا لَھُ حَسنَةً، إن َّما ترَ كھا مِنْ جَر َّ اي" متفق علیھ.<br />
قولُھ: "ونُؤمِنُ بملَكِ الموتِ، الموَ ك َّلِ بقبضِ أَرواحِ العالَمینَ".<br />
ش: قال تعالى: [قُل یتوَ ف َّاكُم م َّ لَكُ الموتِ الذي وُ كِّ لَ بِكُم ثم َّ إِلى رَ بِّكم<br />
تُرجَعونَ] (2) السجدة:<br />
310
-الر ُّوح بَعْدَ مفارَقَتِھا للجَسَدِ لا تَموت-<br />
اختلفَ الناسُ : ھل تموتُ الروحُ أَم لا؟ والصوابُ أن یُقَالَ: موتُ النفوس<br />
ھو مفارَ قَتُھا لأجسادِھا، وخروجھا منھا، فإنْ أُریدَ بموتھا ھذا القَدْرُ ، فھي<br />
ذائِقَةُ الموتِ، وإنْ أُریدَ أَنھا تُعدَمُ وتَفنى بالكلیة، فھي لا تموتُ بھذا<br />
الإعتبار، بل ھي باقیةٌ بعدَ خلقھا في نعیم أو في عذاب (1) .<br />
وقد أخبر سبحانھ أَ َّن أَھْلَ الجنةِ: [لا یَذُوقونَ فیھا الموتَ إلا َّ الموتةَ<br />
الأولى] الدخان:<br />
311
ش: قال تعالى: [وحَاقَ بآلِ فِرْ عَونَ سُوءَ العَذَاب. الن َّارُ یُعْرَضُونَ عَلَیھا<br />
غُدُو َّ اً وعَشِی َّاً ویوم تَقومُ الس َّاعَةُ أَدخِ لوا ءَالَ فِرعَونَ أَشد َّ العذاب]<br />
(1) غافر:<br />
312
السماءِ: أَنْ صَدَقَ عَبْدي، فافرشُوهُ مِنَ الجن َّةِ، وافتحوا لھ باباً إِلى الجن َّةِ،<br />
قال: فیأتیھِ مِنْ رَ وْ حِ ھا وطیبِھا، ویُفْسَحُ لھ في قبرِ هِ مد َّ بَصَرهِ ویُفْسَ ُح<br />
لھ في قبرِ هِ مد َّ بَصَرهِ، قال: ویَأْتیھِ رجلٌ حَسَنُ الوَ جْھِ، حَسَنُ الثیابِ، طَیّ ِبُ<br />
الریحِ، فیقولُ: أَبشِرْ بالذي یَسُر ُّ كَ ، ھذا یومُكَ الذي كُنتَ تُوعَدُ، فیقولُ لھ:<br />
مَنْ أنتَ ؟ فوَ جْھُكَ الوَ جْھُ الذي یجيءُ بالخیر، فیقول: أنا عَملُكَ الص َّالِحُ،<br />
فیقولُ: یارَ ب ُّ أَقِم الس َّاعَةَ حَت َّى أرجعَ إِلى أَھْلي ومَالي.<br />
قال: وإن َّ العَبْدَ الكافرَ إذا كان في انقطاعٍ مِنَ الد ُّنیا وإقبالٍ مِنَ الآخِ رَ ةِ،<br />
نزَ لَ إلیھ مِنَ السماءِ ملائِكةٌ سُودُ الوجُوهِ، مَعَھُم المُسُو ُح (1) ، فیجلسونَ مِنھُ<br />
مَد َّ البَصَرِ ، ثم َّ یجيءُ مَلَكُ الموتِ حتى یَجْلسَ عِندَ رأْسھِ، فیقول: أیتھا النفسُ<br />
الخبیثةُ، اخرُ جي إِلى سَخطٍ من اللھِ وغضبٍ، قال: فتَتَفَر َّ قُ في جَسَدِهِ،<br />
فینتزِ عُھا كما یُنْتَزَ عُ الس ُّف ُّودُ(2) مِن الص ُّوفِ المبلولِ، فیأخُذُھا، فإذا أخَذَھا لَ ْم<br />
یَدَعُوھا في یَدِهِ طَرْ فَةَ عَینٍ، حتى یجعَلُوھا في تِلْكَ المسوحِ، ویَخرُ جُ منھا<br />
كَأَنْتَنِ ریحٍ وُ جِ دَتْ على وَ جْھِ الأَرضِ ، فیَصعَدُونَ بھا، فلا یمر ُّ ونَ بھا على<br />
مَلأٍ مِنَ الملائكةِ إلا َّ قالوا: ما ھذا ال ُّروحُ الخبیثُ ؟ فیقولونَ: فُلانُ بنُ فُلانٍ،<br />
بأقبحِ أسمائِھ التي كانَ یُسَم َّى بھا في الد ُّنیا، حتى یُنْتَھى بھا إِلى الس َّماءِ<br />
الد ُّنیا، فَیُستَفتَحُ لھُ، فلا یُفتَحُ لھ، ثم َّ قرأَ رسول اللھِ [لا تُفَت َّحُ لھم أبوابُ<br />
الس َّماءِ، ولا یدخلونَ الجن َّةَ حت َّى یَلِجُ الجمَلُ في ِ سَمّ الخیا ِط الأعراف:<br />
[<br />
:ε<br />
313
ھذا یومُكَ الذي كُنتَ تُوعَدُ، فیقول: مَنْ أنتَ ؟ فوجْھُكَ الوَ جْھُ الذي یجيء<br />
ِ بالش َّرّ ، فَیَقُولُ: أَنا عَمَلُكَ الخَبیثُ ، فیقول: رَ بِّ لا تُقِمِ الساعةَ"<br />
. (1)<br />
وذَھبَ إِلى مُوجِ بِ(2) ھذا الحدیثِ جَمیعُ أَھْلِ الس ُّن َّةِ والحدیثِ(3) ، وفي<br />
الصحیح، قال رسول اللھِ ε: "إن َّ العبدَ إذا وُ ضِ عَ في قَبرِ هِ وتَوَ ل َّى عنھُ<br />
أَصحَابُھُ، إن َّھُ لیَسْمَعُ قَرْ عَ نَعَالِھم، فَیأْتیھِ مَلكانِ، فیُقعِدانھ، فیقولانِ لھ: ما كُنتَ<br />
تَقُولُ في ھذا الرجلِ، محمد ε؟ فأَم َّا المؤمِنُ، فیقول: أَشْھَدُ أَن َّھ عَبدُ اللھِ<br />
ورسولُھ، فیقولُ لھ: انظُرْ إِلى مَقْعَدِكَ مِنَ الن َّارِ أَبدَلَكَ اللھُ بھِ مقعداً مِ َن<br />
الجن َّةِ، فیراھما جمیعاً" (4) .<br />
وفي "الصحیحین" عن ابن عباس: أَن َّ النب َّي مَر َّ بِقَبْریْنِ، فقال: "إن َّھُما<br />
لیُعَذ َّبانِ، وما یُعَذ َّبَان في كَبیر، أم َّا أحَدُھُما، فكانَ لا یَسْتَبْرئُ(5) مِنَ البَوْ لِ،<br />
وأما الآخَرُ ، فكانَ یَمشي بالنمیمةِ، فدَعا بجریدَةٍ رَ طْبَةٍ، فشَق َّھا نِصفَینِ، وقالِ:<br />
لعَل َّھُ یُخَف َّفُ عنھُما ما لَم یَیْبَسَا".<br />
ε<br />
(1 ( صحیح، رواه أحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجھ، وغیرھم. وللحدیث<br />
زیادة صحیحة ذكرھا الشیخ الألباني في كتابھ "أحكام الجنائز" وھي: "ثم یُقی َّضُ<br />
لھ أعمى أصم أبكم في یده مَرزَ بة لو ضُرِ بَ بھا جبل كان تراباً، فیضربھ ضربةً<br />
حتى یصیر بھا تراباً، ثم یعیده اللھ كما كان، فیضربھ ضربةً أخرى، فیصیح<br />
صیحةً یسمعھ كل شيء إلا َّ الثقلین، ثم یُفتح لھ باب مِنَ النار، ویُمھد من فرش<br />
النار، فیقول: رَ بِّ لا تُقم الساعة".<br />
( 2 )<br />
أي إِلى مقتضى ومعنى ھذا الحدیث..<br />
(3 ( عذاب القبر حق، وھو معلوم من الدین بالضرورة، وقد تضافرت الأدلة<br />
والأحادیث النبویة الدالة علیھ، فمن الصحابة الذین رَ ووا أحادیث عذاب القبر<br />
عن النبيِّ ε: البراء بن عازب، وابن عباس، وأنس بن مالك، وأبو ھریرة، وزید<br />
بن ثابت وغیرھم، وبعض أَحادیثھم في الصحیحین، والعجیب بعد ذلك أن یأتي<br />
نفر من شواذ الأمة حَك َّموا العقل على النقل!! فجحَدوا عذاب القبر بحجة أَ َّن<br />
الأخبار الدالة علیھ آحاد لا تقوم بھا حجة!!<br />
(4 ( رواه البخاري.<br />
(5 ( وفي روایة البخاري وأكثر الروایات "لا یَسْتَتِر"، بمعنى لا یَتوق َّى ولا یتحفظ<br />
منھ، ولا یجعل بینھ وبین بولھ سترة، انظر فتح الباري: 1/<br />
314
وعن <strong>أبي</strong> ھریرةَ، قالَ: قالَ النب ُّي ε: "إذا قُبِرَ أَحَدُكُمْ(1) أو الإنسانُ أتَاهُ<br />
ملكانِ أسودانِ أَزرقانِ، یُقالُ لأحَدِھما:<br />
وقَدْ تواترتِ الأخبارُ عن رسولِ اللھ في ثبوتِ عذابِ القبر ونعیمھ لِمن<br />
كان لذلك أَھْلاً، وسؤال الملَكین، فیجبُ اعتقادُ ثبوتِ ذلك، والإیمانُ بھ، ولا<br />
نتكل َّمُ في كیفی َّتِھِ، إذْ لیسَ للعقلِ وقوفٌ على كیفیتھِ، لِكونھِ لا عَھْدَ لھ بھ في<br />
ھذا الد َّار.<br />
-تَعَل ُّقُ الر ُّوحِ بالبَدَنِ-<br />
فالروحُ لھا بالبدَنِ خَمسَةُ أنواعٍ مِنَ الت َّعَل ُّقِ، مُتَغایرَ ةِ الأحكامِ<br />
أَحدُھا:تَعَل ُّقُھا بھ في بَطنِ الأُمّ<br />
الثاني: تَعَل ُّقُھا بھِ بَعْدَ خُرُ وجھِ إِلى وجھِ الأرضِ .<br />
الثالث: تعل ُّقھا بھ في حالِ الن َّومِ ، فَلَھا بھ تَعَل ُّقٌ من وَ جْھٍ، ومُفارَ قَةٌ مِن<br />
المُنكَرُ ، وللآخَر: الن َّكیرُ .. " (2) .<br />
ε<br />
: (3)<br />
ِ جنیناً.<br />
وجھ (1) .<br />
(1 ( جاء في ھامش <strong>نسخة</strong> مؤسسة الرسالة: "في الأصول: أحدكم، والمثبت من ابن<br />
حبان "إذا قُبِرَ المیت"، وھو في "صحیح ابن حبان" )<br />
315
الرابع: تعَل ُّقھا بھ في البَرزَ خِ، فإن َّھا وإنْ فارَ قتھ، وتَجر َّ دَتْ عنھ، فإن َّھا لم<br />
تُفارِ قْھ فِرَ اقاً كُلی َّاً بحیثُ لا یَبقَى لھا إلیھ التِفاتٌ أَلَبَت َّةَ(2) .<br />
الخامس: تَعل ُّقھا بھ یَومَ بَعْثِ الأجسادِ، وھو أَكْمَلُ أنواعِ تَعَل ُّقِھا بالبدَنِ، إ ْذ<br />
ھو تَعَل ُّقٌ لا یَقْبَلُ البدَنُ معھ مَوْ تاً ولا نَوْ ماً ولا فَسَاداً.<br />
-الس ُّؤالُ في القَبْرِ للروحِ والبَدَنِ-<br />
دَل َّت الأحادیثُ الص َّحیحةُ أن َّ السؤالَ في القبرِ یكونُ للروح والبَدَنِ،<br />
وكذلك عذابُ القبرِ یكون للن َّفسِ والبدنِ جمیعاً، باتّ ِفاقِ أَھْل الس ُّن َّةِ والجماعة،<br />
تَنْعَمُ النفسُ وتُعَذ َّبُ ، مُفْرَ دَةً عن البدَنِ ومُت َّصِ لَةً بھ.<br />
وھل یدومُ عذابُ القبرِ أو ینقطع؟ جوابھ أن َّھ نوعان: منھ ما ھو دائمٌ، كما<br />
قال تعالى: [الن َّار یُعْرَضُونَ علیھا غُدُو َّ اً وعَشِی َّاً ویومَ تقومُ الس َّاعَةُ أَدخِ لُوا<br />
آلَ فِرعونَ أشَد َّ العذابِ] غافر:<br />
316
ِ ناره<br />
( 2 )<br />
إِلى جاره شيءٌ من حرّ (1) ، ولا مِن ھذا إِلى جارهِ شيء مِن نعیمِھِ،<br />
وقدرةُ اللھ أوسَعُ مِن ذلك وأعجب، ولكنِ النفوسَ مُولَعَةٌ بالتكذیب بما لم<br />
تُحِ ط بھ عِلماً!! وقَدْ أرانا اللھُ في ھذه الد َّار مِن عجائبِ قدرَ تھ ما ھو أَبلَغُ<br />
مِن ھذا بكثیر، وإذا شاءَ اللھُ أَن یُطلِعَ على ذلك بعضَ عبادِه أطلعھُ، وغَی َّبَھُ<br />
عن غیره، ولو أَطْلَعَ اللھُ على ذلك العِبادَ كُل َّھم، لزالَت حِ كْمَةُ التكلیفِ<br />
والإیمانِ بالغیبِ، ولما تدافنَ الناسُ ، كما في الصحیح عنھ ε: "لو لا أن لا<br />
تَدافنوا، لَدعَوتُ اللھَ أن یُسْمِعَكُم مِن عذابِ القبرِ ما أسْمعُ" (2) .<br />
-مُسْتَقَر ُّ الأرواحِ بعدَ المو ِت-<br />
الأرواحُ في البَرْ زَ خِ مُتفاوِتَةٌ أَعظمَ تفاوت، فمنھا: أرواحٌ في أَعلى<br />
عِلّ ِیینَ، في الملأِ الأعلى، وھي أرواحُ الأنبیاء صلواتُ اللھ علیھم<br />
وسلامھُ، وھم مُتفاوَ تونَ في منازلھم.<br />
ومنھا: أَرواحٌ في حواصِ لِ طَیرٍ خُضْرٍ ، تَسْرَ حُ في الجنةِ حیثُ شاءَت (3) .<br />
ومنھا: مَن یكونُ محبوساً على بابِ الجنة بسببِ دینٍ علیھ، كما في<br />
الحدیثِ: "رأیتُ صاحِ بَكم مَحبوساً على بابِ الجنةِ". ومنھا: مَنْ یكون<br />
طائِراً یَعْلَقُ في شَجَر الجنةِ، كما في الحدیث: "إن َّ نَسَمَةَ المؤمنِ طائِرٌ یَعْلَقُ<br />
في شَجَرِ الجنة، حتى یرجِ عَھُ اللھُ إِلى جَسَدِه یومَ یَبْعَثُھُ".<br />
ومنھم مَن یكونُ مَحْبوساً في قبرهِ، ومنھم مَن یكونُ مَحبوساً في الأرض،<br />
ومنھا أَرواحٌ تكونُ في تَن ُّورِ الز ُّ ناةِ والز َّ واني، وأرواحٌ في نَھرِ الد َّمِ تَسبَحُ<br />
فیھ، وتُلْقَمُ الحِ جارَ ةَ، كُل ُّ ذلك تشھَدُ لھ الس ُّن َّةُ(1) .<br />
(1 ( وھذا من تمام قدرة اللھ تعالى، وفضلھ ورحمتھ بعباده المؤمنین، حیث قد<br />
اختلطت المقابر بالكفار والمؤمنین، ولم تعد قبور الكفار تمیز عن قبور<br />
المؤمنین.. لأن قوانین الأرض لا تمیز بینھم في الحیاة الدنیا، ولكن ھذا -و<br />
الحمد- لن یضیر المؤمنین في شيء.<br />
أخرجھ مسلم.<br />
(3 ( وھي أرواح الشھداء كما قال تعالى: [ولا تحسبن َّ الذین قُتِلوا في سبیل اللھ<br />
أمواتاً بل أحیاءٌ عند ربھم یُرزَقون] آل عمران:<br />
317
-الأرضُ لا تأكلُ أجسادَ الأَنبیاءِ -<br />
(1 ( جاء في "صحیح البخاري": عن ثمرة بن جندب، قال: كان رسولُ اللھ ε<br />
یعني مما یكثرُ أن یقول لأصحابھ: ھل رأى أَحدٌ منكم من رؤیا؟ قال: فیُقَص ُّ علیھ<br />
ما شاء اللھ أن یقص َّ . وإنھ قال لنا ذاتَ غداةٍ: "إنھ أتاني اللیلةَ آتِیان، وإنھما<br />
ابتعثاني وإنھما قالا لي: انطلق. وإني انطلقتُ معھما، وإنا أتینا على رجلٍ<br />
مُضطجع، وإذا آخرُ قائمٌ علیھ بصخرة، وإذا ھو یَھوي بالصخرة لِرَ أسھ فَیَثْلَغْ<br />
رَ أْسَھُ فیتدَھْدَه الحجر ھا ھنا، فیتبعُ الحجرَ فیأخُذُه فلا یرجعَ إلیھ حتى یصح َّ رأسھ<br />
كما كان، ثم َّ یعودُ فیفعل بھ مثل ما فعل بھ المرة الأولى. قال: قلت لھما: سبحان<br />
اللھ، ما ھذان؟ قال قالا لي: انطلق انطلق، فانطلقنا فأتینا على رجل مُستَلْقٍ لقفاه،<br />
وإذا آخر قائم علیھ بكلوب من حدید، وإذا ھو یأتي أحد شقي وجھھ فیشرشر<br />
شدقھ إِلى قفاه، ومنخره إِلى قفاه، وعینھ إِلى قفاه، قال: ثم َّ یتحول إِلى الجانب<br />
الآخر فیفعل بھ مثل ما فعل بالجانب الأول، فما یفرغ من ذلك الجانب حتى یصح<br />
ذلك الجانب كما كان، ثم یعود علیھ فیفعل مثل ما فعل المرة الأولى. قال قلت:<br />
سبحان اللھ ما ھذان؟ قال قالا لي: انطلق انطلق، فانطلقا فأتینا على مثل التنور،<br />
فإذا فیھ لغط وأصوات. قال: فاطلعنا فیھ فإذا فیھ رجال ونساء عراة، وإذا ھم<br />
یأتیھم لھب من أسفل منھم، فإذا أتاھم ذلك اللھب ضوضوا، قال قلت لھما: ما<br />
ھؤلاء؟ قال قالا لي: انطلق انطلق، قال فانطلقنا فأتینا على نھر حسبت أنھ كان<br />
یقول أحمر مثل الدم، وإذا في النھر رجل سابح یسبح، وإذا على شط النھر<br />
رجل قد جمع عنده حجارة كثیرة، وإذا ذلك السابح یسبح ما یسبح، ثم یأتي ذلك<br />
الذي قد جمع عنده الحجارة فیفغر لھ فاه فیلقمھ حجراً، فینطلق یسبح ثم یرجع<br />
إلیھ، كلما رجع إلیھ فغر فاه فألقمھ حجراً. قال قلت لھما: ما ھذان؟ قال قالا لي:<br />
انطلق انطلق. قال: فانطلقنا فأتینا على رجلٍ كریھ المرآة كأكره ما أنت راء<br />
رجلاً مرآه، وإذا عنده نار یحشھا ویسعى حولھا... قال قلت لھما: فإني قد رأیت<br />
منذ اللیلة عجباً، فما ھذا الذي رأیت؟ قال قالا لي: أما إنّا سنخبرك: أم َّا الرجل<br />
الأول الذي أتیت علیھ یثلغ رأسھ بالحجر، فإنھ الرجل یأخذ بالقرآن فیرفضھ<br />
وینام عن الصلاة المكتوبة. وأما الرجل الذي أتیت علیھ یشرشر شدقھ إِلى قفاه<br />
ومنخره إِلى قفاه وعینھ إِلى قفاه فإنھ الرجل یغدو من بیتھ فیكذب الكذبة تبلغ<br />
الآفاق. وأما الرجال والنساء العراة الذین في مثل بناء التنور فھم الزناة<br />
والزواني. وأما الرجل الذي أتیت علیھ یسبح في النھر ویلقم الحجر فإنھ آكل<br />
الربا. وأما الرجل الكریھ المرآة الذي عند النار یحشھا ویسعى حولھا فإنھ مالِك<br />
خازن جھنم".<br />
318
حَر َّ مَ اللھُ على الأرضِ أَنْ تأْكُلَ أجسادَ الأنبیاءِ، كما رُ ويَ في<br />
"السنن" (1) ، وأما الشھداءُ، فقد شُوھِدَ مِنھم بَعْدَ مُدَدٍ مِن دفنھ كما ھو لم<br />
یتغیر (2) ، فَیُحتَملُ بَقاؤهُ كذلك في تُربَتھِ إِلى یومِ مَحْشَرهِ، ویُحتَملُ أَن َّھُ یَبْلى<br />
مع طول المدة، وكأنھ -واللھ أعلمُ- كلما كانتِ الش َّھادَةُ أكملَ، والشھیدُ<br />
أَفضلَ، كان بَقاءُ جَسَدِهِ أَطوَ لَ.<br />
قولُھ: "ونُؤمِنُ بالبَعْثِ وجزاءِ الأعمالِ یومَ القیامة والعرْ ضِ<br />
والحِ سابِ، وقِراءَةِ الكتابِ، والث َّوابِ والعقابِ، ِ والصّرَا ِط<br />
والمیزَان".<br />
ش: الإیمانُ بالمَعَاد مما دل َّ علیھ الكِتابُ والس ُّن َّةُ، والعَقْلُ والفِطرَ ةُ<br />
السلیمةُ، فأخبَرَ اللھُ سبحانھ عنھ في كتابھِ <strong>العز</strong>یز، وأَقامَ الدلیلَ علیھ، ورَ د َّ<br />
على منكریھ في غالبِ سُوَ رِ القرآن.<br />
-الأنبیاءُ مُجْمِعُونَ على الإیمانِ بالبعثِ والیوم الآخ ِر-<br />
الأنبیاءُ علیھم السلامُ كُل ُّھم مُت َّفقونَ على الإیمانِ بالآخرةِ. فإن َّ القیامة<br />
الكُبرى ھي معروفة عندھم، مِنْ آدَمَ إِلى نوحٍ، إِلى إبراھیم وموسى وعیسى<br />
وغیرھم علیھم السلام.<br />
وقد أخبرَ اللھُ بھا مِن حین أُھبِطَ آدمُ، فقال تعالى: [قال اھبطُوا بَعْضُكُم<br />
لبَعْضٍ عَدَو ٌّ ولَكُم في الأرضِ مُسْتَقَر ٌّ ومَتاعٌ إِلى حینٍ. قالَ فیھا تَحْیَونَ<br />
وفیھا تموتونَ ومنھا تُخْرَجُونَ] الأعراف:<br />
319
[رَبِّ فأَنظِرْ ني إِلى یومِ یُبعثُونَ. قالَ فإن َّكَ مِنَ المنظرینَ.<br />
المعْلُومِ [ ص:<br />
إِلى یومِ الوق ِت<br />
320
وأخبر عن اقترابھا، فقال: [اقتربت الس َّاعةُ وانشق َّ القمرُ] القمر: 1.<br />
[اقتربَ للناسِ حسابُھُم وھم في غَفْلَةٍ مُعْرِ ضونَ] الأنبیاء: [إن َّھم یرونھ<br />
بعیداً. ونراهُ قریباً] المعارج:<br />
-ذَم ُّ المكذبین بالمعاد-<br />
قال تعالى: [قدْ خَسِرَ الذینَ كَذ َّبوا بِلقاء اللھِ وما كانوا مُھتدین] یونس:<br />
.1<br />
.7-6<br />
321
جعلَ لكم مِنَ الش َّجَرِ الأخضَرِ ناراً فإذا أنتُم مِنھ توقدون. أَو لیسَ الذي خَلَقَ<br />
السماواتِ والأرضَ بقادِرٍ على أَنْ یخلُقَ مِثلَھُم بلى وھو الخلا َّقُ العلیم]<br />
یس:<br />
322
.3<br />
قال تعالى: [مالكِ یُوْ مِ الدینِ] الفاتحة: [یَومَئذٍ یُوفیھم اللھُ دینَھُمُ<br />
الحَق َّ ویعلَمونَ أن َّ اللھَ ھو الحق ُّ المبین] النور:<br />
323
بالس َّیئةِ فلا یُجْزى إلا َّ مِثْلَھا وَ ھُم لا یُظلَمون] الأنعام:<br />
324
ِ<br />
-<br />
عن عبد اللھ بن مسعود، قال: "یجمعُ اللھُ الناسَ یومَ القیامَةِ" إِلى أن<br />
قال: "فَیُعْطَونَ نُورَ ھُم على قَدْرِ أعمالھم، قال: فمنھم مَن یُعطى نورهُ مِث َل<br />
الجبلِ بین یدیھ، ومِنھُم مَن یُعطى نورَ هُ فوقَ ذلك، ومنھم مَنْ یُعطى نوره<br />
مِثلَ النخلةِ بیمینھِ، ومِنھُم من یُعطى دونَ ذلك بیمینھ، حتى یكونَ آخرُ ذلك<br />
مَن یُعطى نُورَ هُ على إبھامِ قَدَمِھِ(1) ، یُضيء مَر َّ ةً ویُطْفأُ مَر َّ ةً، إذا أَضاءَ قَد َّم<br />
قَدمَھُ، وإذا طُفِئَ قامَ، قال: فیمر ُّ ویَمرونَ على ِ الصّ راطِ، ِ والصّ راطُ كحَدّ<br />
السیفِ ، دَحْض مَزَ ل َّةٌ، فیقالُ لَھُم: امضوا على قَدْرِ نُورِ كُم، فمنھم مَنْ یم ُّر<br />
كانقِضاض الكوكب، ومنھم مَنْ یمر ُّ ِ كالرّ یحِ، ومِنْھُم مَنْ یم ُّر كالط َّرْ فِ ،<br />
ومِنْھُم مَنْ یمر ُّ ِ كَشَدّ الر َّ حْلِ، ویَرمُلُ رمَلاً، فیمرون على قَدْرِ أعمالِھِم، حت َّى<br />
یمر َّ الذي نورُ هُ على إبھامِ قدمِھِ، تُجَر ُّ یَدٌ، وتَعْلَقُ یَدٌ، وتُجَر ُّ رِ جْلٌ وتَعْلَقُ<br />
رِ جلٌ، وتُصیبُ جوانِبَھُ النارُ ، قال: فیخلصونَ، فإذا خَلَصُوا قالوا: الحمدُ ِ<br />
الذي نَج َّانا مِنْكِ بَعدَ أَنْ أَراناكِ ، لَقَد أَعطانا اللھُ ما لَمْ یُعْطِ أَحداً" (2) .<br />
المرادُ بورودِ جھن َّم بالنّ ِسبةِ للمؤمنینَ<br />
المرادُ من قولھ: [وإن منكم إلا َّ وارِ دُھا] مریم:<br />
-<br />
325
-<br />
قال القرطبي: وقولُھ: [ونضعُ الموازینَ القِسْطَ لیومِ القیامَ ِة]. یحتملُ أن<br />
یكون ثَم َّ موازینُ متعددة تُوزَ نُ فیھا الأعمالُ، ویَحتملُ أن یكون المرادُ<br />
الموزونات، فَجُمعَ باعتبارِ تَنوِّعِ الأعمالِ الموزونَةِ، واللھ أعلم.<br />
میزانُ الأعمالِ حِ سّ ِي ٌّ مُشاھَد<br />
الذي دَل َّتْ علیھ الس ُّن َّة: أن میزانَ الأعمالِ لھ كِف َّتا نِ حِ سّ ِی َّتانِ مُشَاھدتان،<br />
قال رسولُ اللھ : "إن َّ اللھَ سَیُخَلّ ِصُ رَ جْلاً مِنْ أُم َّتي على رُ ؤوسِ الخلائِقِ<br />
یومَ القیامةِ، فینْشُرُ علیھ تِسْعَةً وتسعینَ سِجِ لاً، كُل ُّ سِجِ ٍلّ مَد ُّ البصرِ<br />
یقولُ لھ: أتنكِرُ مِن ھذا شیئاً؟ أظلمكَ كَتَبتي الحافِظونَ؟ قال: لا، یاربِّ،<br />
فیقولُ: أَلكَ عُذْرٌ أو حَسَنَةٌ؟ فَیُبْھَتُ الرجلُ، فیقول: لا یارَ بِّ، فیقولُ: بلى، إ َّن<br />
لكَ عندَنا حسنةً واحِ دةً، لا ظُلْمَ علیكَ الیومَ، فتُخرَ جُ لھ بِطاقَةٌ فیھا: أشھدُ أنْ<br />
لا إلھ إلا اللھُ، وأن َّ مُحمداً رسولُ اللھِ(2) ، فیقولُ: أحضروه، فیقول: یارَ بِّ،<br />
ما ھذه البطاقةُ معَ ھذه السّ ِجِ لا َّتِ؟! فیقولُ: إن َّكَ لا تُظْلَمُ، قال: فتوضَعُ<br />
السّ ِجِ لا َّتُ في كِف َّةٍ، والبطاقةُ في كفةٍ، قال: فطاشَتِ السّ ِجلاتُ ، وثَقُلَت<br />
البِطاقةُ، ولا یَثْقُلُ شيءٌ بِسْمِ اللھِ الرحمن الرحیم" (3) .<br />
ومِنَ الأحادیثِ الدال َّةِ على وزنِ الأعمالِ، قولُھ ε: "الطھورُ شَطرُ<br />
الإیمان (4) ، والحمدُ ِ تَمْلأُ المیزانِ" (5) . وقولُھ: "كَلِمتانِ خفیفتانِ على<br />
(1) ، ث َّم<br />
-<br />
ε<br />
( 1 )<br />
( 4 )<br />
ینبغي أن تحمل سعة ھذه السجلات وضخامتھا على أنھا لا تحوي على<br />
الشرك الأكبر، ولو كانت تتضمن الشرك الأكبر لما نفع الرجل شيء، ولحبطت<br />
عنھ مطلق حسناتھ وأعمالھ، كما قال تعالى: [ولو أشركوا لحبِطَ عنھم ما كانوا<br />
یعملون]. وقال تعالى: [إنھ من یُشرك باللھ فقد حَر َّمَ اللھ علیھ الجنة].<br />
فنصوص الشریعة تصدق بعضھا بعضاً، ولا تَعارض بینھا و الحمد.<br />
( 2 )<br />
قد تقدم أن شھادة أن لا إلھ إلا اللھ، محمداً رسول اللھ لھا شروط ونواقض،<br />
وھي تنفع صاحبھا، عندما یستوفي شروطھا ویجتنب نواقضھا، وعلى ھذا<br />
المعنى ینبغي أن یحمل انتفاع الرجل بشھادة التوحید، المدونة في البطاقة التي<br />
ثقلت ورجحت على جمیع السجلات، ولیس كما یقول أَھْل الإرجاء أن الرجل لم<br />
یكن عنده من الحسنات سوى نطقھ لشھادة التوحید، فضلوا بذلك وأضلوا!!.<br />
(3 ( صحیح، رواه أحمد وغیره.<br />
فیھ أن الإیمان عمل. وفي صحیح سنن ابن ماجة )<br />
326
-<br />
اللّ ِسانِ ، حبیبتانِ إِلى الرحمن، ثقیلتانِ في المیزانِ: سُبحانَ اللھِ وبحمدهِ،<br />
سُبحانَ اللھِ العظیمِ " (1) .<br />
-وَ زْ نُ العامِلِ مَعَ أَعمالِھ-<br />
العامِلُ یُوزَ نُ معَ عَمَلِھ، عَن <strong>أبي</strong> ھریرة، عن رسول اللھ ε، قال: "إن َّھُ<br />
لَیَأتيَ الرجل العظیمُ الس َّمینُ یومَ القیامةِ، لا یَزِ نُ عِندَ اللھ جناحَ بعوضَةٍ،<br />
وقال: اقرَ ؤوا إن شِئْتُم: [فلا نُقیمُ لھم یومَ القیامةِ وزناً]" (2) .<br />
وَ روى الإمامُ أحمد، عن ابنِ مَسعودٍ: أن َّھُ كان یَجتني سِواكاً مِنَ الأراكِ ،<br />
وكانَ دقیقَ الس َّاقینِ، فجعَلَتِ الریحُ تَكفؤُهُ، فضَحِ كَ القومُ مِنْھُ، فقالَ رسولُ<br />
اللھِ ε: "مِم َّ تَضحكونَ؟" قالوا: یانبي َّ اللھِ، مِنْ دِق َّةِ سَاقیھِ، فقال: "والذي<br />
نَفْسي بیده لَھُما أَثقَلُ في المیزانِ مِنْ أُحُدٍ" (3) .<br />
فَثَبَتَ وزنُ الأَعمالِ والعامِل وصَحائفِ الأعمال، وثبت أن َّ المیزانَ لھ<br />
كِف َّتانِ، واللھ تعالى أعْلَمُ بما وراء ذلك من الكیفیاتِ، فعلینا الإیمانُ بالغیبِ<br />
كما أَخبرنا الصادِقُ ε، مِن غَیرِ زیادَةٍ ولا نقصان.<br />
ِ الصّراطُ بعدَ المیزانِ<br />
الحوضُ قبلَ المیزان، والصراطُ بعدَ المیزان، ففي "الص َّحیحین" : "أ َّن<br />
المؤمنینَ إذا عَبَروا ِ الصّراطَ وقفوا على قَنْطَرَ ةٍ بینَ الجنةِ والنارِ ، فیُقت ُّص<br />
لبعضھم مِن بَعْضٍ ، فإذا ھُذّ ِبُوا ونُق ُّوا، أُذِنَ لَھُم في دُخولِ الجنةِ".<br />
-<br />
ِ في<br />
327<br />
(1 ( متفق علیھ.<br />
(2 ( متفق علیھ.<br />
ε<br />
(3 ( حسن، رواه أحمد بسند حسن. وفي الحدیث: أن ابن مسعود τ، من أَھْل الجنة.<br />
وفیھ: أن وزن الانسان یكون بحسب عملھ، فإن كان في دنیاه من أَھْل الإیمان<br />
والصلاح، ثقل وزنھ في المیزان، وإن كان من أَھْل الكفر والفسق، خَف َّ وزنھ<br />
بحسب درجة فسقھ وعصیانھ، وقد ثبت في الس ُّن َّة أَن َّ الطغاةَ المتكبرین یُحشرون<br />
یوم القیامةِ ِ كالذ َّرّ ، یغشاھم الذل والھوان من كل مكان، كما في الحدیث عن النبيِّ<br />
قال: "یُحشَرُ المتكبرون یومَ القیامةِ أمثالَ الذ َّرّ صور الرجال، یغشاھم الذل<br />
من كل مكان، یُساقون إِلى سجنٍ في جھن َّم یُسمى بُولُسَ ، تعلوھم نارُ الأنیار،<br />
یُسقونَ من عصارَ ةِ أَھْلِ النارِ ، طینة الخبال". رواه أحمد والترمذي، صحیح<br />
الجامع الصغیر )
قولُھ: "والجن َّةُ والن َّارُ مَخْلوقَتانِ، لا تَفْنیانِ أبَداً ولا تَبیدانِ، فإ َّن<br />
اللھَ تعالى خلقَ الجن َّةَ والن َّارَ قبْلَ الخلْقِ(1) ، وخَلَقَ لَھُما أَھلاً، فَمَن<br />
شاءَ مِنْھُم إِلى الجن َّةِ فَضْلاً مِنْھُ، ومَنْ شاءَ مِنْھُم إِلى الن َّارِ عَدْلاً<br />
مِنْھُ، وَ كُل ٌّ یَعْمَلُ لِما قَدْ فُرِ غَ لھ (2) ، وصَائِرٌ إِلى ما خُلِقَ لَھُ، والخیْرُ<br />
والش َّر ُّ مُقَد َّرانِ على العِبادِ".<br />
ش: ات َّفَقَ أَھْل الس ُّن َّة على أن َّ الجن َّةَ والن َّارَ مخلوقتانِ موجودتانِ الآن. قال<br />
تعالى عن الجن َّةِ: [أُعِد َّت للمتقین] آل عمران:<br />
1<br />
328
وفي "الصحیحین"، عن ابن عباس، قال: انخَسَفَت الش َّمسُ على عھْدِ<br />
رسولِ اللھِ ε، فذَكَرَ الحدیثَ ، وفیھ: فقالُوا: یارَ سولَ اللھِ رأیناكَ تَناوَ لتَ<br />
شیئاً في مقامِكَ ، ثم َّ رأیناكَ تَكعْكَعْتَ ؟ فقال: "إنّ ِي رَ أیتُ الجن َّةَ فتناولتُ<br />
عُنقوداً، ولَو أَصَبْتُھُ لأَكلتُم مِنْھُ ما بقیتِ الد ُّنیا، ورأیتُ الن َّارَ ، فَلَم أرَ منْظراً<br />
كالیومِ قَط ُّ أَفظعَ، ورأَیْتُ أَكثرَ أَھْلَھا النّ ِساء"، قالوا: بِمَ، یارسُولَ اللھِ؟ قال:<br />
"یَكْفُرْ نَ"، قِیلَ: أَیكفرنَ باللھِ؟ قال: "یكفُرنَ العَشِیرَ<br />
لو أَحسنتَ إِلى إحداھُن َّ الد َّھرَ كُل َّھ، ثم َّ رأَتْ مِنكَ شیئاً، قالَتْ : ما رأَیتُ خَیْرَ اً<br />
قَط ُّ!!".<br />
وفي "صحیح مسلم" مِن حدیثِ أَنس: "وایمُ الذي نفسي بیدِه، لَو رأَیتُم ما<br />
رأیتُ ، لَضَحِ كْتُم قلیلاً وبكیتم كثیراً". قالوا: وما رأیتَ یا رسولَ اللھِ؟ قال:<br />
"رأیتُ الجن َّة والن َّارَ ".<br />
ومن حدیثِ <strong>أبي</strong> ھریرة، أَن َّ رسولَ اللھِ قال: "لَم َّا خَلَقَ اللھُ الجن َّةَ<br />
والن َّارَ ، أَرسَلَ جبریلَ إِلى الجن َّةِ، فقال: اذھبْ فانظر إلیھا، وإلى ما أَعدَدْتُ<br />
لأھلھا فیھا... " (3) . ونظائِرُ ذلك في الس ُّن َّة كثیرةٌ.<br />
-الجن َّةُ والن َّارُ باقیتانِ لا تفنیانِ أَبَداً ولا تبیدانِ-<br />
ھذا قولُ جمھور الأئمةِ مِنَ الس َّلَفِ والخَلَف (4) . وھو مِم َّا یُعْلَمُ بالضرورةِ<br />
أن َّ الرسول أخبرَ بھ، قال تعالى: [وأم َّا الذینَ سُعِدوا ففي الجن َّةِ خالدی َن<br />
فیھا ما دامَتِ السماواتُ والأرضُ إلا َّ ما شاءَ رَب ُّكَ عَطاءً غیرَ مجذوذٍ]<br />
ھود:<br />
(2) ، ویكفرنَ الإحسانَ،<br />
ε<br />
(1)<br />
ε<br />
329
ص:<br />
330
أَھْلاً، خَلَقَھُم لھا وَ ھُم في أَصلابِ آبائھم، وخَلَقَ للن َّارِ أَھْلاً، خَلَقَھُم لھا وھم<br />
في أصْلابِ آبائھم" (1) .<br />
-اللھُ تعالى مُنَز َّهٌ عنِ الظلم-<br />
وقولُھ: "فمن شاء منھم إِلى الجن َّة فضلاً منھ، ومنْ شاءَ منھم إِلى<br />
الن َّار عدْلاً منھ". مِم َّا یجِ بُ أنْ یُعلَمَ: أَن َّ اللھَ تعالى لا یَمنعُ الثوابَ إلا َّ إذا<br />
مُنِعَ سبَبَھُ، وھو العملُ الصالح (2) ، فإنھ: [مَنْ یَعْمَلْ مِنَ الصالِحاتِ وھوَ<br />
مؤمنٌ فلا یَخافُ ظلْماً ولا ھَضْماً] طھ:<br />
331
قولُھ: "والاستِطاعةُ التي یجبُ بھا الفعلُ، مِنْ نَحو الت ُّوْ فیقِ<br />
الذي لا یوصَفَ المخلوقُ بھِ تكونُ معَ الفِعْلِ(1) ، وأم َّا الاسْتطاعَةُ<br />
مِنْ جِ ھَةِ الص َّح َّةِ والوُ سْعِ والتمكینِ وسلامةِ الآلاتِ، فھيَ قَبْ َل<br />
الفِعْلِ(2) ، وبھا یتعَل َّقُ الخِ طابُ (3) ، وھو كما قال تعالى: [لا یُكل ُّف<br />
اللھُ نفساً إلا َّ وسعھا] البقرة:<br />
332
وكذلك قولُھ تعالى:<br />
[فات َّقوا اللھ ما استطعتم] التغابن:<br />
333
العُسْرَ ، وما جعَلَ علیكم في الدّ ِینِ مِنْ حَرَ جٍ، والمریضُ قد یستطیعُ القیامَ معَ<br />
زیادةِ المرضِ وتأخ ُّر بُرْ ئِھ، فھذا في الش َّرعِ غیرُ مُستطیعٍ، لأجلِ حُصولِ<br />
الض َّرَ رِ علیھ، وإنْ كانَ یُسَم َّى مُستطیعاً، فالش َّارعُ لا ینظرُ في الاستطاعةِ<br />
الشرعیةِ إِلى مجر َّ دِ إمكانِ الفِعلِ، بَلْ ینْظُرُ إِلى لوازمِ ذلك، فإذا كانَ الفِعْلُ<br />
ممكناً مع المفسدَةِ الر َّ اجحةِ، لم تكنْ ھذه استطاعةً شرعیةً، كالذي یَقْدِرُ على<br />
الحجِّ مَعَ ضَرَ رٍ یَلْحقُھُ في بدَنھ أو مالھ، أو یُصلي قائماً مع زیادَةِ مرضھ، أو<br />
یصومُ الشھرین مع انقطاعھ عن معیشتِھِ، فإذا كانَ الش َّارعُ قد اعتبر في<br />
المكنة عدَمَ المفسدَةِ الرّ اجحةِ، فكیفَ یُكَلّ ِف معَ العجزِ<br />
قولُھ: "وأَفعالُ العبادِ خَلْقُ اللھِ وكَسْبٌ مِنَ العِبادِ".<br />
ش: قال أَھْل الحقِّ: أَفعالُ العبادِ بھا صاروا مُطیعینَ وعصاةً، وھي<br />
مخلوقةٌ ِ تعالى، والحَق ُّ سبحانھ وتعالى مُنفَردٌ بخلق المخلوقات، لا خالِقَ<br />
لھا سواه. فالجبریة غَلَوْ ا في إثباتِ القَدَر، فَنَفَوا صُنْعَ العبدِ أَصلاً(2) ،<br />
والقَدَری َّةُ نُفاة القَدَرِ جعلوا العِبادَ خالِقینَ معَ اللھ تعالى، ولھذا كانوا مجو َس<br />
(1) ؟!<br />
لكنھا تنتھي بصاحبھا إِلى الضرر الراجح، والحرج الشدید الذي قد یتعذر معھ<br />
مواصلة العمل.. وحمل النفس على ھذا النوع من الاستطاعة قد نھى الشارع<br />
عنھ فضلاً ورحمة بعباده.<br />
(1 ( رفع التكلیف عند العجز أو انعدام الاستطاعة، ھو من جملة الأدلة الشرعیة<br />
الد َّالة على مبدأ العذر بالجھل، سواء كان الجھل في الأصول أو الفروع، فإذا<br />
انعدمت الاستطاعة عند المرء على دفع جھلھ لسبب قاھر، كأن یكون حدیث عھد<br />
بالإسلام، أو أنھ یسكن في منطقة نائیة عن العلم وھو لا یستطیع شد الرحال<br />
لطلب العلم، أو لتأویل مستساغ قد ألبس علیھ أو غیر ذلك، فجھلھ ھنا یعذره<br />
لعجزه. أم َّا إذا وجدت القدرة على دفع الجھل، وصاحبھ ق َّصر في دفعھ لا نشغالھ<br />
بأمور الدنیا وزینتھا، أو لكسل أو غیر ذلك، فالجھل ھنا لا یعذره، لأنھ یستطیع<br />
ولكنھ لم یفعل، وھو مسؤول عند اللھ على قدر وسعھ وطاقتھ، كما قال تعالى:<br />
[فاتقوا اللھ ما استطعتم]. [لا یكلف اللھ نفساً إلا َّ وسعھا]. ومنھ یُعلَمُ بطلان<br />
قول مَن لا یرى الجھل عذراً على الإطلاق، كما أنھ یُعلم أیضاً بطلان قول مَن<br />
یرى الجھل عذراً على الإطلاق، والحق الذي لا ریب فیھ ھو الوسط، حیث أنھ<br />
أحیاناً یعذر وأحیاناً لا یعذر، والمسألة قد تتبعت أدلتھا في كتابي "العذر بالجھل"<br />
فلیراجع.<br />
(2 ( حیثُ اعتبروه مُسی َّراً في جمیع أفعالِھ وحركاتھ، ونفوا عنھ مطلق الاختیار!<br />
334
ھذه الأُم َّة (1) ، بَلْ أردأَ من المجوس، مِن حیثُ إن َّ المجوسَ أَثْبَتَتْ خالِقَیْنِ،<br />
وھم أثبتوا خالِقینَ<br />
فكل ُّ دلیلٍ صحیحٍ یُقیمُھ الجبر ُّي (3) ، فإن َّما یَدُل ُّ على أَن َّ اللھَ خالِقُ كُ َّل<br />
شيءٍ، وأنھ على ِ كُلّ شيءٍ قدیر، وأن َّ أَفعالَ العبادِ من جُملَةِ مَخلوقاتھ، وأن َّھ<br />
ما شاء كانَ وما لم یشأ لم یكنْ ، ولا یدُل ُّ على أَن َّ العبدَ لیس بفاعِلٍ في<br />
الحقیقةِ ولا مُریدٍ ولا مختارٍ ، وأَن َّ حركاتھ الاختیاریة بمنزلة حَرَ كَةِ<br />
وھبوبِ ِ الرّ یاحِ، وحركاتِ الأشجار.<br />
وكل ُّ دلیلٍ صحیحٍ یُقیمُھ القَدَرِ ي ُّ، فإن َّما یَدُل ُّ على أَن َّ العبدَ فاعِلٌ لِفِعْلِھ<br />
حقیقةً، وأنھ مُریدٌ لھ مختارٌ لھ حقیقةً، وأن َّ إضافتَھُ ونِسبَتھُ إلیھ إضافةُ حقٍّ،<br />
ولا یدل على أنھ غیر مقدورٍ تعالى، وانھ واقعٌ بغیرِ مشیئتھِ وقدرتھ.<br />
فإذا ضممتَ ما معَ ِ كلّ طائفةٍ منھما مِنَ الحقِّ إِلى الأخرى، فإنما یدل ذلك<br />
على ما دل َّ علیھ القرآن وسائِرُ كُتبِ اللھِ المنَز َّ لةِ، من عمومِ قدرة اللھِ<br />
ومشیئتھِ لجمیع ما في الكون من الأعیان والأفعالِ، وأن َّ العبادَ فاعلونَ<br />
لأفعالِھم حقیقةً، وأن َّھم یستوجبونَ علیھا المدْحَ والذ َّم َّ.<br />
-مِنَ الأدل َّةِ على خَلْقِ اللھِ لأفعالِ العِبادِ-<br />
!! (2)<br />
المرتعشِ ،<br />
: "إن َّ ِ لكلّ أمة مجوساً، وإن مجوس ھذه الأمة القدریة، فلا تعودوھم<br />
إذا مرضوا، ولا تُصل ُّوا على جنائزھم إذا ماتوا". رواه ابن <strong>أبي</strong> عاصم في الس ُّن َّة،<br />
وصححھ الشیخ ناصر في التخریج.<br />
(2 ( حیثُ اعتبروا كل َّ انسانٍ خالقاً لأفعالھ، وبذلك یكونون قد جعلوا الإنسان نداً<br />
وشریكاً في الخَلْقِ!!، وھم من ھذا الوجھ شابھوا المجوس الذین جعلوا للخلق<br />
إلھین، إلھ للخیر، وإلھ للشر!<br />
(3 ( على إثبات أن الإنسان مسلوب الإرادة ولا حریة لھ ولا اختیار، فھو لا یعدو<br />
335<br />
1) ( كما قال ε<br />
أن یكون دلیلاً على أن اللھ خالق كل شيء، وأنھ قادر على كل شيء، وأنھ لا<br />
یكون إلا َّ ما یرید، وأن أفعال العباد من جملة خلقھ سبحانھ وتعالى. وكذلك<br />
القدریة نفاة القدر فإن أدلتھم لا تعدوا أن تكون دلیلاً على أن إرادة الإنسان لما<br />
یفعل، ومسؤولیتھ عنھ، واختیاره لھ..
ِ شيءٍ [<br />
قال تعالى: ]<br />
اللھُ خالِقُ كُلّ<br />
الرعد:<br />
336
الجواب الصحیح، أَن یُقال: إن َّ ما یُبتلى بھ العبدُ مِنَ الذنوبِ الوجودی َّةِ،<br />
وإنْ كانت خَلْقاً تعالى، فھي عقوبةٌ لھ على ذنوبٍ قبلَھا، فالذنبُ یُكْسِبُ<br />
الذنبَ ، ومِنْ عقابِ السیئَةِ السیئَةُ بعدھا، فالذنوبُ كالأمراضِ التي یُورِ ُث<br />
بعضھا بعضاً.<br />
یبقى أن یُقال: فالكلامُ في الذنبِ الأو َّ لِ الجالِبِ لِما بَعْدَه مِنَ الذنوب، یُقال:<br />
ھو عقوبَةٌ أَیضاً على عدمِ فِعْلِ ما خُلِقَ لھ، وفُطِرَ علیھ، فإن َّ اللھَ سبحانھ<br />
خلقھ لعبادَتھ وَ حْدَهُ لا شریكَ لھ، وفطَرَ هُ على محب َّتھِ، وتألھھِ والإنابةِ إلیھ،<br />
كما قال تعالى: [فأقِمْ وَ جْھكَ للدینِ حینیفاً فِطرَتَ اللھِ التي فَطَرَ الن َّاسَ<br />
علیھا] الروم:<br />
337
حیلةَ لأحَدٍ، ولا تَحو ُّ لَ لأحدٍ، ولا حَرَكَةَ لأَحدٍ عَنْ مَعْصِ یَةِ اللھ، إلا َّ<br />
بمعونَةِ اللھِ، ولا قُو َّ ةَ لأحدٍ على إقامة طاعةِ اللھ والث َّباتِ عَلیھا<br />
إلا َّ بتوفیقِ اللھ تعالى، وكُل ُّ شَيءٍ یَجري بمشیئَةِ اللھ تعالى<br />
وعِلْمِھِ وقضائھ وقَدَرِ هِ. غَلَبتْ مَشیئتُھُ المشیئاتِ كُلّ ِھا، یفعلُ ما<br />
یشاءُ، وھو غیرُ ظالمٍ أبداً: [لا یُسْأَلُ عَم َّا یَفْعَلُ وھُمْ<br />
یُسْألونَ] (2) الأنبیاء:<br />
338
القضاءُ الكون ُّي (1) ، ففي قولِھ تعالى:<br />
فصلت:<br />
[فقضاھن َّ سبعَ سماواتٍ في یومین]<br />
339
-اللھ تعالى حر َّم على نفسھ الظلمَ وھو قادِرٌ علیھ-<br />
جاء في الحدیث القدسي: "یا عِبادِي إنّ ِي حَر َّ متُ الظ ُّلمَ على نفسي،<br />
وجَعَلْتُھُ بینَكُم مُحَر َّ ماً، فلا تظ َّالَموا". أخبرَ أنھ حَر َّ مھ على نفسھ، كما أخبرَ<br />
أنھ كَتَبَ على نفسِھ الر َّ حمة،<br />
وإن َّما حر َّ مَ على نفسھ وكَتبَ على نفسھ ما ھو قادِرٌ علیھ لا ما ھو ممتن ٌع<br />
-اللھ تعالى مُنَز َّهٌ عَنِ العَبَثِ والوَ صْفِ المُعیبِ المذموم-<br />
اللھ تعالى مُنَز َّ هٌ مُقد َّسٌ عن فِعْلِ السوءِ، والفِعْلِ المعیبِ المذموم، كما أَن َّھُ<br />
منَز َّ هٌ مُقَد َّسٌ عن وصفِ السوءِ والوصفِ المُعیب المذموم، كما قال تعالى:<br />
[أَفحسبتُم أَن َّما خَلَقناكُمْ عَبَثاً وأن َّكُم إلینا لا تُرجَعون] المؤمنون:<br />
. (1)<br />
340
-<br />
-<br />
انتفاعُ المیّ ِتِ بدُعاءِ الآخرینَ واستغفارِ ھم لھ<br />
قال تعالى: [والذینَ جاؤوا مِنْ بَعْدِھِم یقولونَ رَب َّنا اغفِرْ لَنا ولإخواننا<br />
الذینَ سبقونا بالإیمان] الحشر:<br />
341
ε<br />
إِلى المقابر أنْ یقولوا: "السلام علیكُم أَھْل الدیارِ مِنَ المؤمنینَ والمسلمین،<br />
وإن َّا إنْ شاءَ اللھُ بِكُم لاحِ قونَ، نَسْألُ اللھَ لنا ولكم العافیةَ".<br />
-وصولُ ثوابِ الص َّدَقةِ للمیتِ-<br />
عن عائشةَ رضي اللھ عنھا: أن َّ رَ جُلاً أتى النب َّي ε، فقال: یارسولَ اللھِ،<br />
إن َّ أُمّ ِي افتُلِتَتْ (1) نَفْسُھا، ولَم توصِ ، وأَظُن ُّھا لو تكَل َّمَتْ تَصَد َّقَتْ ، أفَلَھا أَجرٌ<br />
إنْ تصَد َّقْتُ عنھا؟ قال: "نعم" (2) .<br />
وفي "صحیح البخاري"، عن ابن عباس، أن َّ سَعْدَ بن عُبادةَ توفّ ِیتْ أم ُّھ<br />
وھو غائِبٌ عنھا، فأتَى النب َّي ، فقال: یارسولَ اللھِ، إن َّ أُمّ ِي توفّ ِیتْ وأنا<br />
غائِبٌ عنھا، فَھلْ ینفَعُھا إنْ تَصَد َّقْتُ عنھا؟ قالَ: "نعم"، قال: فإنّ ِي أُشھِدُكَ<br />
أَن َّ حائِطي المِخرافَ<br />
(3) صَدَقةٌ عنھا (4) .<br />
( 1 )<br />
أي: سُلبت روحھا، فماتت فجأة.<br />
(2 ( متفق علیھ.<br />
( 3 )<br />
( 4 )<br />
المخراف: الكثیر الثمر.<br />
قال الشیخ ناصر في كتابھ "أحكام الجنائز": ما یفعلھ الولد الصالح من<br />
الأعمال الصالحة، فإن َّ لوالدیھ مثل أجره، دونَ أن ینقص من أجره شيء، لأ َّن<br />
الولد من سعیھما وكسبھما، واللھ Υ یقول: [وأن لیس للإنسان إلا َّ ما سعى]،<br />
وقال: رسول اللھ ε: "إن َّ أطیب ما أكل الرجل من كسبھ، وإن ولده من كسبھ".<br />
قال الشوكاني في "نیل الأوطار" (4/<br />
342
-وصولُ ثوابِ الص َّوْ مِ -<br />
الصالحة، ولا شك أن َّ الوالد یزكي نفسھ بتربیتھ لولده وقیامھ علیھ فكان لھ<br />
أجره بخلاف غیره.<br />
الثاني: أَنھ قیاس مع الفارِ ق إذا تذكرت أَن َّ الشرع جعل الولد من كسب الوالد<br />
كما سبق في حدیث عائشة فلیس ھو كسباً لغیره، واللھ Υ یقول: [كل نفس بما<br />
كسبت رھینة] ویقول: [لھا ما كسبت، وعلیھا ما اكتسبت]. وقد قال ابن كثیر<br />
في تفسیر قولھ Υ: [وأن لیس للإنسان إلا َّ ما سعى]: "أي كما لا یُحمل علیھ<br />
وزر غیره، كذلك لا یحصل من الأجر إلا َّ ما كسب ھو لنفسھ. ومن ھذه الآیة<br />
الكریمة استنبط الشافعي رحمھ اللھ ومن اتبعھ أَن َّ القراءة لا یصل إھداء ثوابھا<br />
إِلى الموتى لأنھ لیس من عملھم ولا كسبھم، ولھذا لم یندب إلیھ رسول اللھ<br />
أمتھ، ولا حث َّھم علیھ، ولا أرشدھم إلیھ بنص ولا إیماء، ولم ینقل ذلك عن أح ٍد<br />
من الصحابة رضي اللھ عنھم، ولو كان خیراً لسبقونا إلیھ، وباب القربات<br />
یُقتصرُ فیھ على النصوص ولا یتصرف فیھ بأنواع الأقیسة والآراء".<br />
وقال <strong>العز</strong> بن عبد السلام في "الفتاوى" )<br />
ε<br />
343
وأَم َّا وصولُ ثوابِ الص َّومِ ، ففي "الصحیحین"، عَن عائشةَ رضي اللھ<br />
عنھا، أن َّ رَ سولَ اللھ ε، قال: "مَنْ ماتَ وعلیھ صیامٌ صَامَ عنھُ ولی ُّھُ". ولھ<br />
نظائِرُ في "الصحیح" (1) .<br />
ولكن أبا حنیفة رحمھ اللھ قال بالإطعامِ عنِ المیت دون الصیام عنھ،<br />
لحدیثِ ابن عباس المتقدم (2) .<br />
(1 ( كما في حدیث ابن عباس، قال: "أن امرأة ركبت البحر فنذرت، إنِ اللھ تبارك<br />
وتعالى أنجاھا أن تصوم شھراً، فأنجاھا اللھ Υ، فلم تصم حتى ماتت، فجاءت<br />
ابنتھا إِلى النبيِّ ε، فذكرت ذلك لھ، فقال: "أرأیتك لو كان علیھا دَین كنت<br />
تقضیھ؟" قالت: نعم. قال: "فدَین اللھ أحق أَن یُقضى، فاقضِ عن أمك"".<br />
أخرجھ أبو داود وغیره، وسنده صحیح. وعنھ أیضاً: أن سعد بن عبادة استفتى<br />
رسول اللھ ε، فقال: إن َّ أمي ماتت وعلیھا نذر؟ فقال: "اقضھِ عنھا". متفق علیھ.<br />
وھو قولھ: "لا یُصَلّ ِي أحدٌ عن أحَدٍ، ولا یصومُ أحدٌ عن أَحدٍ، ولكن یُطعِمُ عنھ<br />
مكان ِ كلّ یومٍ مُد َّاً مِنْ حِ نْطَةٍ". موقوف على ابن عباس، وسنده صحیح.<br />
قال الشیخ ناصر في كتابھ "أحكام الجنائز" (ص<br />
τ<br />
( 2 )<br />
344
-وصولُ ثَوابِ الحجِّ-<br />
عَن ابن عباس: أَن َّ امرأَةً مِنْ جُھینةَ جاءَت إِلى النبي ، فقالت: إن َّ أُمّ ِي<br />
نَذَرَ تْ أَنْ تحُج َّ، فلَم تحج َّ حتى ماتت أفأَحُج َّ عَنھا؟ قالَ: نعم ِ حُجّ ي عَنھا،<br />
أَرأیتِ لو كانَ على أُمّ ِكِ دَینٌ، أَكُنتِ قاضیتَھُ؟ اقْضُوا اللھَ، فاللھُ أَحَ ُّق<br />
ε<br />
-<br />
-<br />
بالوَ فَاءِ" (1) .<br />
قَضَاءُ الد َّینِ عَن المیّ ِتِ<br />
أَجمعَ المسلمونَ على أَن َّ قضاءَ الد َّیْنِ یُسْقِطُھُ مِنْ ذِم َّةِ المیت، ولو كان من<br />
أَجنبيّ ٍ، ومِنْ غَیرِ تَرِ كَتِھِ، وقَدْ دَل َّ على ذلك حدیثُ <strong>أبي</strong> قتادةَ، حیثُ ضَمِنَ<br />
الدینارَ ینِ عن المیتِ، فلَم َّا قَضَاھما، قالَ النب ُّي ε: "الآن بَر َّ دْتَ علیھِ<br />
جلدَتَھُ" (2) .<br />
وھي راویتھ، ومِن المقرر أَن َّ راوي الحدیث أدرى بمعنى ما روى، لا سیما إذا<br />
كان ما فھم ھو الموافق لقواعد الشریعة وأصولھا، كما ھو الشأن ھنا.<br />
قال ابن القیم في "أعلام الموقعین" (3/<br />
345
-<br />
-<br />
قِراءَةُ القرآنِ على المیّ ِتِ<br />
أم َّا قِراءَةُ القرآنِ وإھداؤھا لھ تطو ُّ عاً بغیرِ أُجرَ ةٍ، فھذا یَصِ لُ إلیھ، كما<br />
یَصِ لُ ثوابُ الصومِ والحجِّ(1) .<br />
وأم َّا استئجارُ قَومٍ یقرَ ؤونَ القرآنَ، ویُھدُونَھُ للمیتِ، فھذا لم یَفْعَلْھُ أحدٌ مِ َن<br />
الس َّلَفِ (2) ، ولا أَمرَ بھ أَحدٌ مِن أئمةِ الدینِ، ولا رَ خ َّصَ فیھ، والاستئجارُ على<br />
نَفْسِ التلاوَ ةِ غیرُ جائِز بلا خلافٍ .<br />
[وأَنْ ل َّیْسَ للإنسانِ إلا َّ ما سَعَى] (3) -<br />
ε<br />
-معنى قَوْ لھ تعالى:<br />
الجنائز عند مقام جبریل، ثم َّ آذنا رسولَ اللھ بالصلاةِ علیھ، فجاءَ معنا خطىً،<br />
ثم َّ قال: "لعل على صاحبكم دَیناً؟" قالوا: نعم دیناران، فتخل َّفَ ، فقال لھ رجل منا<br />
یُقال لھ أبو قتادة: یارسول اللھ ھما علي َّ، فجعل رسولُ اللھ یقول: "ھما علیك<br />
وفي مالك، والمیت منھا بريء" فقال: نعم، فصل َّى علیھ، فجعلَ رسولُ اللھ إذا<br />
لقي أبا قتادة یقول: "ما فعلَ الدیناران؟" حتى كان آخر ذلك، قال: قد قضیتھما یا<br />
رسول اللھ، قال: "الآن بَر َّ دت علیھ جلده".<br />
(1 ( ھذا القیاس باطل من وجھین: الأول ، أنھ یُحَمّ ِل الأحادیث التي تدل على<br />
وصول ثواب الصوم والحج للمیت ما لا تحتمل. والثاني: أن َّ الصحابة -وھم<br />
قدوتنا- لم یسبقونا إِلى ھذا القیاس فھماً وعملاً، ونحن یكفینا ما كفاھم. ثم َّ أن<br />
تلاوة القرآن ووھب ثوابھا للأموات -في نظر المجیزین- ھي عبادة یُتقر َّ ب بھا<br />
إِلى اللھ تعالى، فلو كانت كذلك لبینھا لنا النبي بنص صریح، كما في قولھ:<br />
"ما تركت شیئاً یقربكم إِلى اللھ إلا َّ وقد أمرتكم بھ، وما تركت شیئاً یبعدكم عن<br />
اللھ ویقربكم من الن َّار، إلا َّ وقد نھیتكم عنھ". فإن قیل لم یرد حدیثاً ینھي عن<br />
إھداء ثواب تلاوة القرآن للأموات، قیل: بلى، فقد صح عن النبي أنھ قال: "مَن<br />
أحدث في دیننا ما لیس منھ فھو رَ د ٌّ". فالأصل في العبادات المنع والحظر ما لم<br />
یرد نص یأمر أو یجیز، بخلاف الأمور الدنیویة البحتة، فإن الأصل فیھا الإباحة<br />
ما لم یرد نص على التحریم. والشارح قد استدل ببعض الآثار لا یصح سندھا،<br />
كما أشار إِلى ذلك الشیخ، ونحن تعھدنا أن لا نثبت في ھذا التھذیب إلا َّ ما یصح<br />
من جھة سنده ومتنھ، الذي بھ تقوم الحجة.<br />
(2 ( كما استدل الشارح على بطلان الاستئجار بعدم فعل السلف، یُستدل على<br />
بطلان إھداء ثواب التلاوة بعدم فعل الس َّلَف.<br />
النجم:<br />
ε<br />
ε<br />
ε<br />
ε<br />
346<br />
.39<br />
( 3 )
أجابَ العلماءُ بأجوبةٍ: أصَ ُّحھا جوابان (1) أحدھما: أَن َّ الإنسانَ بسعیھ<br />
وحُسْنِ عِشْرَ تھِ اكتسبَ الأَصدقاءَ، وأَولَدَ الأولادَ، وَ نكحَ الأزواجَ، وأسدى<br />
الخیرَ ، وتَود َّد إِلى الناسِ ، فترَ ح َّموا علیھ، ودَعَوْ ا لھ، وأَھْدَوا لھ ثوابَ<br />
الطاعاتِ، فكانَ ذلك أَثَر سعیھ، بل دخولُ المسلم مع جملَةِ المسلمین في عَھْ ِد<br />
الإسلامِ مِن أَعظمِ الأسبابِ في وصولِ نَفْعِ ٍ كلّ مِنَ المسلمین إِلى صاحبھ في<br />
حیاتھِ وبعدَ مماتھِ، ودعوةُ المسلمینَ تُحیطُ مِنء ورائھم.<br />
الثاني: أَن َّ القرآن لَم یَنفِ انتفاعَ الر َّ جلِ بسعي غیره، وإنّما نَفَى مِلْكَھُ<br />
لغیرِ سعیھِ، وبینَ الأمرین مِنَ الفرقِ ما لا یخفى، فأخبَرَ تعالى أَن َّھُ لا یمل ُك<br />
إلا َّ سَعیَھُ، وأم َّا سَعيُ غیرِ ه، فھو مُلكٌ لساعیھ، فإنْ شاءَ أن یَبذُلَھُ لغیرِ هِ، وإنْ<br />
شاءَ أَن یُبقیَھُ لنفسھ (2) .<br />
وأم َّا استدلالُھم (3) بقولھ ε: "إذا ماتَ ابنُ آدَمَ انقطَعَ عَمَلُھُ". فاستدلا ٌل<br />
ساقط، فإن َّھ لم یَقُلْ انقطعَ انتفاعُھ، وإن َّما أخبرَ عن انقطاعِ عملھ، وأم َّا عمَلُ<br />
غیرِ ه، فھو لعامِلِھ، فإنْ وھبھ لھ، وصَلَ إلیھ ثوابُ عملِ العاملِ(4) لا ثوابُ<br />
عملھِ ھو، وھذا كالد َّین یُوفیھ الإنسان عن غیره، فتبرأ ذِم َّتُھ، ولكن لیس لھ<br />
ما وف َّى بھ الد َّین.<br />
قولُھ: "واللھُ تعالى یَسْتَجیبُ الد َّعواتِ، ویَقْضي الحاجاتِ".<br />
ش: قال تعالى: [وقالَ رَب ُّكُم ادعوني أستجِ بْ لكُم] غافر:<br />
347
الأسباب في جلب المنافعِ، ودفعِ المضارِ (1) ، وقد أَخبرَ تعالى عن الكفار أَن َّھم<br />
إذا مَس َّھم الض ُّر ُّ في البحر دَعَوا اللھ مخلصینَ لھ الدینَ، وأَن َّ الإنسانَ إذا<br />
مَس َّھُ الض ُّر ُّ دعاه لجنبھِ، أو قاعِداً، أو قائِماً. وإجابةُ اللھُ لِدُعاءِ العبدِ، مسلماً<br />
كانَ أو كافِراً، وإعطاؤهُ سُؤلَھ، مِنْ جنسِ رِ زقھِ لھم، ونَصْره لھم، وھو مما<br />
تُوجبُھ الربوبی َّة للعبدِ مُطلَقاً. ثم َّ قد یكونُ ذلك فتنةً في حَقّ ِھِ ومَضَر َّ ةً علیھ،<br />
وإذْ كانَ كفرهُ وفسوقُھ یقتضي ذلك.<br />
-غَضَبُ اللھ على مَنْ لا یَسْأَلھ-<br />
قال رسولُ اللھ ε: "مَنْ لَمْ یَسْأَلِ اللھَ یَغْضَبْ علیھ" (3) . وقَد نَظَمَ بَعْضُھم<br />
ھذا المعنى، فقال:<br />
(2)<br />
1<br />
2<br />
فإن قیل: كیف التوفیق بین كون الدعاء یدفع الضر وبین أَن َّ كل شيء بقدر؟<br />
الجواب: أَن الدعاء وما یحصل بسببھ ھو من جملة ما یكون قد قدر، فالدعاء<br />
یغیر المقدور إِلى مقدور آخر، وكل ذلك یكون بإذن اللھ ومشیئتھ، وفي الحدیث:<br />
"لایرد ُّ القدرَ إلا َّ الدعاء". فیرده بقدرٍ آخر.<br />
أحیاناً یكون الخیر فتنة لصاحبھ، كما قال تعالى: ونبلوكم ِ بالشرّ والخیر فتنة<br />
ولربما تكون فتنة الخیر أشد على قلوب الرجال من فتنة الشر. وفي الحدیث: "إذا<br />
رأیت اللھَ تعالى یُعطي العبدَ من الدنیا ما یُحب ُّ ، وھو مقیم على معاصیھ، فإنما<br />
ذلك منھ استدراج"، فالخیر إذا أَلھى وأَطغى لا ش َّك أَنھ بلاء ووباء على صاحبھ،<br />
وھو خسران لھ یوم القیامة، كما قال النب ُّي ε: "ما قَل َّ وكَفى، خیرٌ مما كَثُرَ<br />
وأَلْھى". وقال: "اللھم َّ مَن آمن بك، وشَھِدَ أَني رسولك، فحبب إلیھ لقاءَكَ ، وسَھّ ِل<br />
علیھ قضاءك، وأقلل لھ من الدنیا، ومن لم یؤمن بك، ویشھد أني رسولك فلا<br />
تحبب إلیھ لقاءكَ ، ولا تسھل علیھ قضاءك، وكَثّ ِر لھ من الدنیا". رواه أحمد وابن<br />
حبان، صحیح الجامع الصغیر: )<br />
.[<br />
]<br />
348
الرب ُّ یَغضَبُ إنْ تركتَ سُؤالَھُ وبنَي ُّ آدَمَ حِ ینَ یُسْأَلُ یَغْضَبُ<br />
-مَعانٍ مُسْتَخْلَصَة مِنْ ن َّدْبِ اللھِ تعالى إِلى الدعا ِء-<br />
أَحَدُھا: الوجودُ، فإن َّ مَنْ لیسَ بموجودٍ لا یُدْعى.<br />
الثاني: الغِنى، فإن َّ الفقیرَ لا یُدعى.<br />
الثالث: الس َّمْعُ، فإن َّ الأصَم َّ لا یُدْعى.<br />
الر َّابع: الكَرَ مُ، فإن َّ البخیلَ لا یُدْعى.<br />
الخامس: الر َّ حمةُ، فإن َّ القاسيَ لا یُدْعى.<br />
السادس: القدرةُ، فإن َّ العاجِ زَ لا یُدْعى.<br />
-الت َّعَل ُّقُ بالأَسبابِ شِرْ كٌ، والإعراضُ عنھا نَقْصٌ في العَقْلِ وقَدحٌ<br />
في الش َّرْ عِ-<br />
مِم َّا ینبغي أَنْ یُعلَمَ أَن َّ الالتفاتَ إِلى الأَسبابِ شِرْ كٌ في التوحید (2) ، ومحو<br />
الأسبابِ أَنْ تكونَ أسباباً، نَقْصٌ في العَقْلِ(1) ، والإعراضُ عن الأسباب<br />
(1)<br />
فاللھ تعالى كما یغضب على من لا یسألھ، فھو یغضب على من یسأل غیره<br />
من غیر ضرورة مُلزمة؛ لأن سؤالھ المخلوق في حقیقتھ یتضمن شكوى الخالق<br />
-الذي أَحَل َّ بھ الفقر والبلاء- للمخلوق لیكشف عنھ ما أصابھ من بلاء وفقر بقدَرٍ<br />
من اللھ تعالى، فھو یشكو الخالق للمخلوق. لذا فإن الشارع نھى عن سؤال<br />
الناس شیئاً، ولأھمیة الأمر فإن النبي أخذ من أصحابھ بیعة مستقلة على أن<br />
لا یسألوا الناس شیئاً، كما في الحدیث عن <strong>أبي</strong> ٍ ذرّ قال: دعاني رسول اللھ<br />
فقال: "ھل لك إِلى البیعة ولك الجنة؟" قلت: نعم، وبسطت یدي، فقال رسول<br />
اللھ وھو یشترط: "على أن لا تسأل الناس شیئاً"، قلت: نعم، قال: "ولا<br />
سوطك إن سقط منك حتى تنزل فتأخذه".<br />
وقال ε: "من تكفل لي أن لا یسأل الناس شیئاً أتكفل لھ بالجنة".<br />
(1 ( عجیب لمن یُؤاثر المخلوق الضعیف البخیل، الذي یغضب من سؤال الناسِ<br />
لھ، على الخالق القدیر الكریم، مالك الملك، الذي یحب من العباد أن یسألوه، لكي<br />
یُجازیھم على سؤالھم خیرا!! وقد قال تعالى: [قل لو أنتم تملكون خزائِنَ رحمة<br />
ربي إذاً لأمسكتم خشیَةَ الإنفاق وكان الإنسانُ قَتُوراً]. فمن نعم اللھ على خلقھ<br />
أن تصریف الأرزاق بیده وحده.<br />
(2 ( ھو شرك لتعلق القلب بالسبب، والنظر إلیھ على أنھ مصدر الرزق، أو الجھة<br />
التي یركن إلیھا لتفریج الكروب عند حدوث الملمات والمصائب.. فھو ینظر إِلى<br />
الأسباب ولا یتعداھا، ونسي خالق الأسباب ومسخرھا الذي بیده ملك كل شيء.<br />
ε<br />
ε<br />
349<br />
ε
ٍ<br />
ε<br />
بالكُلّ ِیةِ قدْحٌ في الش َّرْ ع، ومعنى التوكل والرجاء، یتألف مِن مُوجبِ التوحیدِ<br />
والعقل والشرع (2) .<br />
وبیانُ ذلك: أَن َّ الالتفات إِلى السببِ ھو اعتمادُ القلبِ علیھ، ورجاؤه،<br />
والإستناد إلیھ، ولیس مِنَ المخلوقاتِ ما یَستحق ُّ ھذا، لأن َّھ لیس بمستقلّ(3) ،<br />
ولا بُد َّ لھ من شُركاء وأَضدادٍ، ومعَ ھذا كُلّ ِھ فإنْ لم ِ یُسَخّ رْ هُ مُسَبّ ِبُ<br />
الأسباب (4) لم یُسَخ َّر.<br />
-استجابَةِ الد ُّعاءِ -<br />
یوجدُ سؤالٌ، وھو: أن َّ من الناسِ مَن قد یسأل اللھَ شیئاً فلا یُعطى، أو<br />
یُعطى غیرَ ما سألَ، فأُجیبَ عنھ بأجوبةٍ:<br />
أحدھا: أن الآیة (5) لم تتضم َّن عطِی َّةَ السؤال مطلقاً، وإنما تضم َّنَتْ إجابةَ<br />
الداعي، والداعي أعم ُّ من السائل، وإجابةَ الداعي أعم ُّ من إعطاءِ السائل.<br />
ولھذا قال النب ُّي : "ینزلُ رب ُّنا في ِ كلّ لیلةٍ إِلى سماءِ الدنیا، فیقولُ: من<br />
یدعوني فأستجیبَ لھُ؟ من یسألُني فأُعطیَھ؟ مَنْ یستغفِرُ ني فأغفرَ لَھ؟"<br />
(6) ففَر َّ قَ بین الداعي والسائل، وبین الإجابة والإعطاء، وھو فرقٌ بین<br />
وھذا معنى قولھ ε: "علیك بالإیاس مِم َّا في أیدي الناس" لیخلص تعلق القلب<br />
بخالقھ سبحانھ وتعالى.<br />
(1 ( ھو نقص في العقل، لأن الأشیاء لا تُدرك وتُنال إلا َّ بمراعاة أسبابھا التي<br />
تؤدي إلیھا، فمن طلب الأشیاء من دون أن یسلك الطرق والأسباب التي تؤدي<br />
إلیھا فھو متواكل، وصنیعھ یدل على نقصٍ في دینھ وعقلھ.<br />
( 2 )<br />
أي: ما یوجبھ التوحید والشرع والعقل: التوكل والرجاء معاً، ولیس أحدھما<br />
دون الآخر.<br />
( 3 )<br />
أي: لیس بغني عن غیره، وھو محتاج إِلى غیره.<br />
(4 ( وھو اللھ سبحانھ وتعالى، فالأمر كلھ إلیھ، ما شاء كان وما لم یشأ لم یكن.<br />
(5 ( وھي قولھ تعالى: إذا<br />
[وإذا سألك عبادي عني فإني قریب أُجیبُ دعوةَ الداعِ<br />
دعانِ] البقرة:<br />
350
ε<br />
العمومِ والخصوص، كما أتبعَ ذلك بالمستغفِر، وھو نوعٌ من السائل، فذكرَ<br />
العام َّ، ثم َّ الخاص َّ ، ثم َّ الأخص َّ .<br />
الجواب الثاني: أن إجابةَ دعاءِ السؤالِ أعم ُّ من إعطا ِء عین السؤال. كما<br />
فس َّرَ هُ النب ُّي بقولھ: "ما من رجل یدعو اللھَ بدعوةٍ لیست فیھا إثمٌ ولا<br />
قطیعةُ رحم إلا َّ أعطاهُ بھا إحْدى ثلاثِ خِ صالٍ: إما أن ِ یُعجّ لَ لھ دعوتَھُ، أو<br />
یَد َّخِ رَ لھ من الخیر مِثلَھا، أو یَصرِ فَ عنھ من ِ الشرّ مِثلھا"، قالوا: یارسولَ<br />
اللھِ إذاً نُكثِرُ ، قال: "اللھ أكثَرُ " (1) .<br />
الجواب الثالث: أن الدعاءَ سببٌ مقتضٍ لنیل المطلوبِ، والمسبَبُ لھ<br />
شروطٌ وموانع، فإذا حصلَت شروطُھ (2) ، وانتفت موانِعُھ (3) ، حصلَ<br />
المطلوب، وإلا َّ فلا یَحصُلُ ذلك المطلوبُ ، بل قد یحصُلُ غیرُ ه.<br />
السماء الدنیا لیقول لعبده الضعیف الفقیر المحتاج، قم من فراشك فاسأل<br />
لأعطیك، وادعو لأُجیبك...<br />
(1 ( صحیح، أخرجھ أحمد وغیره.<br />
(2 ( من شروط الدعاء المقبول: موافقة القلب للسان، والإخلاص في الدعاء<br />
والتوجھ، وأن لا یكون في الدعاء قطیعة رحم أو إثم، وأن لا یستعجل على اللھ<br />
القبول..<br />
(3 ( من موانع قبول الدعاء: انتفاء شروط الدعاء الآنفة الذكر، وكذلك الكسب<br />
الحرام، والمأكل الحرام، والمشرب الحرام، وغیر ذلك من الأخلاق السیئة التي<br />
تمنع من قبول الدعاء، كما جاء في الحدیث عن النبي أنھ قال: "ثلاثة یدعون<br />
فلا یُستجابُ لھم، رجل كانت تحتھ امرأة سیئة الخلق فلم یطلقھا، ورجل<br />
كان لھ على رجلٍ مال فلم یُشھد علیھ، ورجلٌ آتى سفیھاً مالَھ، وقال اللھ تعالى:<br />
[ولا تؤتوا السفھاء أموالكم]" رواه الحاكم وغیره، صحیح الجامع: )<br />
ε<br />
اللھَ Υ<br />
351
فإذا كان الدعاءُ في نفسھ غیرَ صالحٍ، أو الداعي لم یجمع بین قلبھِ ولسانِھ<br />
في الدعاء، أو كان ثم َّ مانِعٌ من الإجابةِ، لم یحصُلُ الأثَرُ<br />
قولُھ: "ویملكُ كل َّ شيءٍ (2) ، ولا یَملِكُھُ شَيءٌ. ولا غِنى عَنِ اللھ<br />
تعالى طرفةَ عینٍ، ومَنِ استغنى عَنِ اللھ (3) طَرفةَ عینٍ، فقَدْ كفَرَ،<br />
وصارَ مِنْ أَھْلِ الحَیْنِ".<br />
ش: كَلامٌ حق ٌّ ظاھِرٌ لا خَفاءَ فیھ. والحَیْنُ: الھلاكُ .<br />
قولُھ: "واللھُ یَغْضَبُ ویَرْ ضى، لا كأَحَدٍ مِنَ الورى".<br />
ش: قالَ تعالى: [رضيَ اللھُ عَنْھُم] التوبة:<br />
. (1)<br />
352
وفي "الصحیحین" عن <strong>أبي</strong> سعید الخدري، عن النبيّ ε: ِ "إن َّ اللھ تعالى<br />
یقولُ لأھلِ الجن َّةِ: یا أَھْلَ الجن َّةِ، فیقولونَ: لبیك رَ ب َّنا وسَعْدیكَ والخیرُ في<br />
یدیكَ ، فیقول: ھل رضیتُم؟ فیقولونَ: وما لَنا لا نرضى یارَ ب ُّ ؟ وقد أعطیتنا<br />
ما لم تُعْطِ أحداً من خلْقِكَ ، فیقول: ألا أُعْطِیكم أفضلَ من ذلك؟ فیقولون:<br />
یارَ ب ُّ ، وأي شيءٍ أفضلُ من ذلك؟ فیقولُ: أُحِ ل ُّ علیكم رِ ضواني، فلا أَسْخَطُ<br />
علیكم بَعْدَه أبداً". فیُستدَل ُّ بھ على أَن َّھ یُحِ ل ُّ رضوانَھُ في وقتٍ دونَ وقتٍ،<br />
وأن َّھُ قد یُحِ ل ُّ ثم َّ یَسْخَطُ(2) ، كما یُحِ ل ُّ السخط ثم َّ یَرضى، لكن ھؤلاء أَحَ َّل<br />
علیھم رضواناً لا یتعق َّبُھُ سَخَطٌ(3) .<br />
قولُھ: "ونُحِ ب ُّ أَصْحابَ رسْولِ اللھِ ε، ولا نُفْرِ طُ(4) في حُبِّ أحدٍ<br />
منھمْ، ولا نتبر َّأُ مِن أَحدٍ مِنھم (5) . ونُبْغِضُ مَنْ یُبْغِضُھم، وبغیر<br />
الخیرِ یَذكُرُھُمْ. ولا نَذْكُرھُم إلا َّ بخیر. وحُب ُّھمْ دینٌ وإیمانٌ وإحسانٌ،<br />
وبُغْضُھُم كُفْرٌ ونِفاقٌ وطُغیانٌ(6) ".<br />
353<br />
(1 ( متفق علیھ.<br />
( 2 )<br />
( 4 )<br />
اللھ Υ<br />
( 6 )<br />
بحسب حال العبد، فإن كان في حال عبادة وتقوى رضي اللھ عنھ، فإن بَد َّل<br />
إِلى المعصیة والفسوق حَل َّ علیھ غضبُ اللھ وسخطھ، فإن تاب وعادَ إِلى الحق،<br />
عاد اللھ عن سخطھ لیتوب علیھ ویرضى عنھ.<br />
(3 ( لأنھم لا یبدلون إِلى حالٍ یستلزمُ السخط -وذلك من فضل اللھ علیھم- فإن اللھ<br />
تواب غفور رحیم. فھم في حالة لا یشوبھا أدنى معصیة، لذا یظلون متنعمین<br />
برضوان اللھ علیھم، نسأل اللھ تعالى أن یجعلنا منھم، وأن لا یحرمنا رضاه<br />
یوم نلقاه.<br />
أي: لانغالي في حبّ ِھم فنرفعھم فوق درجتھم التي یستحقونھا، كما فعلت الشیعة<br />
الاثنى عشریة بأئم َّتھم حیث غالوا في موالاتھم، ورفعوھم إِلى درجة فوق درجة<br />
الأنبیاء والرسل، ووصفوھم بصفات الألوھیة والربوبیة، التي ھي من صفات<br />
وحده.<br />
(5 ( مخالفة للرافضة الشیعة الذین یتبرأون من أكثر الصحابة، ویلعنونھم<br />
ویكفرونھم.. ویجعلون ذلك من الدین الذي یُتقرب بھ إِلى اللھ !!<br />
فقد صح َّ عن النبيِّ ε أنھ قال في الأنصار: "لا یحبھم إلا َّ مؤمن، ولا یبغضھم<br />
إلا َّ منافق، مَنْ أَحَب َّھم أَحبھ اللھ، ومنْ أبغضھم أَبغضھ اللھ". وفي روایة: "لا<br />
یبغضُ الأنصارَ رجلٌ یؤمن باللھ والیومِ الآخرِ ". وإذا كان ھذا حكم من یبغض
ε<br />
الأنصار، فما یكون القول فیمن یبغض الأنصار والمھاجرین معاً؟! لا شك أَن َّھ<br />
أغلظ كفراً ونفاقاً. وھذا ینقلنا للحدیث عن الرافضة الاثنى عشریة -أحقد الناس<br />
على أَھْل الس ُّن َّة، وأشدھم كرھاً لصحابة رسول اللھ ε، ولمن یترضى علیھم<br />
من بعدھم- وأن نبین حكم الإسلام فیھم؟<br />
وشیخ الإسلام ابن تیمیة -رحمھ اللھ- كفانا مؤنة الجواب، عند ما سُئل عنھم:<br />
عمن یزعمون أنھم یؤمنون باللھ Υ، وملائكتھ، وكتبھ ورسلھ، والیوم الآخر،<br />
ویعتقدون أن َّ الإمام الحق بعد رسول اللھ ε، ھو علي بن <strong>أبي</strong> طالب، وأ َّن<br />
رسولَ اللھ نص َّ على إمامتھ، وأن الصحابة ظلموه ومنعوه حَق َّھ، وأنھم<br />
كفروا بذلك.<br />
فھل یجب قتالھم؟ ویكفرون بھذا الاعتقاد أَم لا؟<br />
فأجاب: الحمد رب العالمین. أَجمع علماء المسلمین على أَن َّ كل طائفة<br />
ممتنعة عن شریعةٍ من شرائع الإسلام الظاھرة المتواترة، فإنھ یجب قتالھم حتى<br />
یكون الدین كلھ ..<br />
وقد ثبت عن علي في "صحیح البخاري" وغیره من نحو ثمانین وجھاً، أَنھ<br />
قال: خیرُ ھذه الأمة بعد نبیھا، أبو بكر وعمر. وثبت عنھ أَنھ حر َّ ق غالیة<br />
الرافضة الذین اعتقدوا فیھ الإلھیة. وروي عنھ بأسانید جیدة، أَن َّھ قال: لا أُوتى<br />
بأحدٍ یفضلني على <strong>أبي</strong> بكرٍ وعمر، إلا َّ جلدتھ جلد المفتري..<br />
وھؤلاء الرافضة إن لم یكونوا شر َّ اً مِنَ الخوارج المنصوصین<br />
المنصوص على قتالھم ومروقھم من الدین -فلیسوا دونھم، فإن َّ أولئك إنما<br />
كف َّروا عثمان وعلیاً وأتباع عثمان وعلي فقط، دون مَن قعد عن القتال أو مات<br />
قبل ذلك. والرافضة كف َّرت أبا بكر وعمر وعثمان وعامة المھاجرین والأنصار<br />
والذین اتبعوھم باحسان الذین رضي اللھ عنھم ورضوا عنھ، وكفروا جماھیر<br />
أمة محمد من المتقدمین والمتأخرین.<br />
فیكفّرون كل من اعتقد في <strong>أبي</strong> بكر وعمر والمھاجرین والأنصار العدالة، أو<br />
ترضى عنھم كما رضي اللھ عنھم، أو یستغفر لھم كما أمرَ اللھ بالاستغفار<br />
لھم، ولھذا یكفرون أعلام الملة، مثل: سعید بن المسیب، و<strong>أبي</strong> مسلم<br />
الخولاني، وأویس القرني، وعطاء بن <strong>أبي</strong> رباح، وإبراھیم النخعي، ومثل<br />
مالك والأوزاعي و<strong>أبي</strong> حنیفة، وحماد بن زید، وحماد بن <strong>أبي</strong> سلمة،<br />
والثوري، والشافعي، وأحمد بن حنبل، وفضیل بن عیاض، و<strong>أبي</strong> سلیمان<br />
الداراني..<br />
- يأ<br />
354<br />
ε
ویستحلون دماء مَن خرج عنھم، ویرون في أَھْل الشام ومصر والحجاز<br />
والمغرب والیمن والعراق والجزیرة وسائر بلاد الإسلام أنھ لا یحل نكاح<br />
ھؤلاء ولا ذبائحھم، وأن َّ المائعات التي عندھم من المیاه والأدھان وغیرھا<br />
نجسة، ویرون أن َّ كفرھم أغلظ من كفر الیھود والنصارى لأن َّ أولئك عندھم<br />
كفار أصلیون، وھؤلاء مرتدون، وكفر الردة أغلظ بالإجماع من الكفر<br />
الأصلي.<br />
ولھذا السبب یعاونون الكفار على الجمھور من المسلمین، فیعاونون التتار<br />
على الجمھور، وھم كانوا من أعظم الأسباب في خروج جنكیز خان ملك<br />
الكفار، إِلى بلاد الإسلام، وفي قدوم ھولاكو إِلى بلاد العراق، وفي أخذ حلب،<br />
ونھب الصالحیة. وبھذا السبب یقطعون الطرقات علىالمسلمین، والكآبة الشدیدة<br />
بانتصار الإسلام ما ظھر، وكذلك لما فتح المسلمون الساحل -عكة وغیرھا-<br />
ظھر فیھم من الانتصار للنصارى وتقدیمھم على المسلمین ما قد سمعھ<br />
الناس منھم..<br />
وقد أظھروا الرفض، ومنعوا أن نذكر على المنابر الخلفاء الراشدین، وذكروا<br />
علیاً وأظھروا الدعوة للاثنى عشر، الذین تزعم الرافضة أنھم أئمة معصومون،<br />
وأن أبا بكر وعمر وعثمان كفار وفجار ظالمون، لا خلافة لھم ولا لمن<br />
تبعھم..<br />
والرافضة تحب التتار ودولتھم، لأنھ یحصل لھم بھا من <strong>العز</strong> ما لا یحصل<br />
بدولة المسلمین. والرافضة ھم معاونون للمشركین والیھود والنصارى على<br />
قتال المسلمین، وھم كانوا من أعظم الأسباب في دخول التتار قبل إسلامھم<br />
إِلى أرض المشرق بخراسان والعراق والشام، وكانوا من أعظم الناس معاونة<br />
لھم على أخذھم لبلاد الإسلام وقتل المسلمین وسبي حریمھم.<br />
وقضیة ابن العلقمي وأمثالھ مع الخلیفة، وقضیتھم في حلب مع صاحب حلب<br />
مشھورة یعرفھا عموم الناس. وكذلك في الحروب التي بین المسلمین وبین<br />
النصارى بسواحل الشام، وقد عرف أَھْل الخبرة أن َّ الرافضة تكون مع<br />
النصارى على المسلمين، وأنھم عاونوھم على أخذ البلاد لما جاء التتار، وعَ َّز<br />
على الرافضة فتح عكة وغیرھا من السواحل، وإذا غلب المسلمون النصارى<br />
والمشركین كان ذلك غص َّة عند الرافضة، وإذا غلب المشركون والنصارى<br />
المسلمین كان ذلك عیداً ومسر َّة عند الرافضة..<br />
فھم أشد ضرراً على الدین وأھلھ وأبعد عن شرائع الإسلام من الخوارج<br />
الحروریة، ولھذا كانوا أكذب فرق الأمة. فلیس في الطوائف المنتسبةِ إِلى<br />
355
القبلة أَكثر كذباً ولا أكثر تصدیقاً للكذب وتكذیباً للصدق منھم، وسیما النفاق<br />
فیھم أَظھر منھ في سائر الناس، وھي التي قال فیھا النب ُّي ε: "آیة المنافق ثلاث:<br />
إذا حد َّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان". وكل من جر َّ بھم یعرف<br />
اشتمالھم على ھذه الخصال، ولھذا یستعملون التقیة التي ھي سیما المنافقین،<br />
والیھود یستعملونھا مع المسلمین: [یقولون بألسنتھم ما لیس في قلوبھم]. وقد<br />
أشبھوا الیھود في أمور كثیرة، لا سیما السامرة من الیھود: یشبھونھم في دعوة<br />
الإمامة في شخص أو بطن بعینھ، والتكذیب لكل من جاء بحق غیره یدعونھ،<br />
وفي اتباع الأھواء أو تحریف الكلم عن مواضعھ، وتأخیر الفطر وصلاة<br />
المغرب وغیر ذلك، وتحریم ذبائح غیرھم، ویشبھون النصارى في الغلو في<br />
البشر والعبادات المبتدعة، وفي الشرك وغیر ذلك.<br />
وھم یوالون الیھود والنصارى والمشركین على المسلمین، وھذه شیم<br />
المنافقین..، ولیس لھم عقل ولا نقل، ولا دین صحیح، ولا دنیا منصورة، وھم<br />
لا یصلون جمعة ولا جماعة، والخوارج كانوا یصلون جمعة وجماعة، وھم لا<br />
یرون جھاد الكفار مع أئمة المسلمین، ولا الصلاة خلفھم، ولا طاعتھم في<br />
طاعة اللھ، ولا تنفیذ شيءٍ من أحكامھم لاعتقادھم أَن َّ ذلك لا یسوغ إلا َّ خلف<br />
إمام معصوم، ویرون أن َّ المعصوم قد دخل السرداب من أكثر من أربعمائة<br />
وأربعین سنة، وھو إِلى الآن لم یخرج، ولا رأه أحد، ولا عَل َّم أحداً دیناً ولا<br />
حصل بھ فائدة بل مضرة. ومع ھذا فالإیمان عندھم لا یصح إلا َّ بھ ولا یكون<br />
مؤمناً إلا َّ من آمن بھ، ولا یدخل الجن َّة إلا َّ أتباعھ..!!<br />
وأكثر محققیھم عندھم یرون أن َّ أبا بكر وعمر، وأكثر المھاجرین والأنصار،<br />
وأزواج النبيِّ ε، مثل عائشة وحفصة وسائر أئمة المسلمین وعام َّتھم، ما آمنوا<br />
باللھ طرفة عین..!!<br />
ومنھم مَن یرى أن َّ فرج النبيِّ ε الذي جامع بھ عائشة وحفصة لا بد َّ أن تمسھ<br />
الن َّار، لیطھر من وطئ الكوافر على زعمھم، لأن وطئ الكوافر حرام عندھم.<br />
ومع ھذا یردون أحادیث رسول اللھ الثابتة المتواترة عنھ عند أَھْل العلم،<br />
مثل أحادیث البخاري ومسلم، ویرون أن َّ شعر شعراء الر َّ افضة، مثل:<br />
الحمیري، وكوشیار الدیلمي، وعمارة الیمني خیر من أحادیث البخاري ومسلم.<br />
وقد رأینا في كتبھم من الكذب والإفتراء على النبي وصحابتھ وقرابتھ أكثر<br />
مِم َّا رأینا من الكذب في كتب أَھْل الكتاب من التوراة والإنجیل.<br />
ویبنون على القبور المكذوبة وغیر المكذوبة مساجد یتخذونھا مشاھد. وقد<br />
لعن رسول اللھ من اتخذ المساجد على القبور، ونھى أم َّتھ عن ذلك.. ویرون<br />
ε<br />
ε<br />
356<br />
ε
أن حج َّ ھذه المشاھد المكذوبة وغیر المكذوبة من أعظم العبادات، حتى أن من<br />
مشایخھم من یفضلھا على حج البیت الذي أمر اللھ بھ ورسولھ..!!<br />
فبھذا یتبین أنھم شَر ٌّ من عام َّةِ أَھْل الأھواء، وأحق بالقتال من الخوارج، وھذا<br />
ھو السبب فیما شاع في العرف العام: أن أَھْل البدع ھم الرافضة، فالعامة شاع<br />
عندھا أن َّ ضد السني ھي الرافضة فقط، لأنھم أظھر معاندة لسنة رسول اللھ<br />
ε، وشرائع دینھ من سائِر أَھْل الأھواء..<br />
وأیضاً فالخوارج كانوا یتبعون القرآن بمقتضى فھمھم، وھؤلاء إنما یتبعون<br />
الإمام المعصوم عندھم الذي لا وجود لھ، فمستند الخوارج خیرٌ مِن مستندھم.<br />
وأیضاً فالخوارج لم یكن منھم زندیق ولا غالٍ، وھؤلاء فیھم من الزنادقة<br />
والغالیة من لا یحصیھ إلا َّ اللھ.. فغالب أئمتھم زنادقة، إنما یظھرون الرفض<br />
لأنھ طریق إِلى ھدم الإسلام..<br />
وأم َّا ذكر المستفتي أنھم یؤمنون بكل ما جاء بھ محمد فھذا عین الكذب،<br />
بل كفروا بما جاء بھ بما لا یحصیھ إلا َّ اللھ، فتارة یكذبون بالنصوص الثابتة<br />
عنھ، وتارة یكذبون بمعاني التنزیل. وما ذكرنا وما لم نذكره من مخازیھم یعلم<br />
كل أحدٍ أَن َّھ مخالف لما بعث اللھ بھ محمداً ε. فإنھم مشركون، لأنھم أشد ُّ الناس<br />
تعظیماً للمقابر التي اتخذت أوثاناً من دون اللھ، وھذا باب یطول..<br />
وھم یقاتلون لعصبیة شر من عصبیة ذوي الأنساب، وھي العصبیة للدین<br />
الفاسد ، فإن َّ في قلوبھم من ِ الغلّ والغیظ على كبار المسلمین وصغارھم<br />
وصالحیھم وغیر صالحیھم ما لیس في قلب أحد. وأعظم عبادتھم عندھم لعن<br />
المسلمین من أولیاء اللھ، مستقدمھم ومستأخرھم، وأمثلھم عندھم الذي لا<br />
یلعن ولا یستغفر!!<br />
وأما خروجھم یقتلون المؤمن والمعاھد فھذا أیضاً حالھم، مع دعواھم أنھم ھم<br />
المؤمنون وسائر الأمة كفار! وروى مسلم في "صحیحھ" عن محمد بن شریح،<br />
قال: قال رسول اللھ ε: "إنھ ستكون ھنأة وھنأة، فمن أراد أن یفرق أمر ھذه<br />
الأمة وھي جمیع فاضربوه بالسیف كائن مَن كان". وھؤلاء أشد الناس حرصاً<br />
على تفریق جماعة المسلمین.. أعظم أصولھم عندھم التكفیر واللعن والسب<br />
لخیار ولاة الأمور، كالخلفاء الراشدین، والعلماء المسلمین ومشایخھم،<br />
لاعتقادھم أن َّ كل من لم یؤمن بالإمام المعصوم -الذي لا وجود لھ- فما آمن<br />
باللھ ورسولھ..!!<br />
الخروج والمروق یتناول كل من كان في معنى أولئك -أي الرافضة- ویجب<br />
قتالھم بأمرِ النبي كما وجب قتال أولئك -أي الخوارج- وإن كان الخروج عن<br />
،ε<br />
357<br />
ε
ش: یُشِیرُ الشیخُ إِلى الر َّ ِدّ على الروافض. وقد أَثنى اللھُ على الصحابَة<br />
ھو ورسُولُھ، ورَ ضيَ عنھم، ووعدَھُم الحُسْنى.<br />
-ثَنَاءُ اللھِ ورسُولِھ على الصحابَة-<br />
قال تعالى: [والس َّابقونَ الأو َّ لونَ مِن المھاجرینَ والأنصار والذینَ<br />
ات َّبعُوھم بإحسانٍ رضيَ اللھُ عَنْھُم ورَضُوا عنھ وأَعَد َّ لھم جن َّاتٍ تجري<br />
تحتھا الأنھارُ خالدینَ فیھا أبَداً ذلك الفوزُ العظیم] التوبة:<br />
358
-8<br />
ویُؤثِرونَ على أنفسِھِم ولَو كانَ بھم خَصَاصَةٌ ومن یوقَ شُح َّ نفسھِ فأولئك<br />
ھم المفلِحُونَ. والذین جاؤوا مِنْ بعْدھم یَقُولونَ رب َّنا اغفر لنا ولإخوانِنا<br />
الذین سَبَقونا بالإیمانِ ولا تَجْعلْ في قلوبنا غِلاً للذین آمنوا رَب َّنا إن َّ َك<br />
رؤوفٌ رَحیمٌ] الحشر:<br />
359
وعن ابن عباسٍ ، أن َّھُ قال: (لا تَسُب ُّوا أصحابَ محم َّدٍ، فَلَمقامُ أَحَدِھم ساعةً<br />
-یعني معَ النبيّ ε- ِ خَیرٌ مِن عَمَلِ أَحَدِكُم أربعینَ سَنَةً)<br />
(خیرٌ مِنْ عبادَةِ أحَدِكُم عُمُرَ هُ).<br />
وفي "الصحیحین"، قال رسولُ اللھ ε: "خیرُ الن َّاسِ قَرْ ني، ثم َّ الذین<br />
یلونَھُم، ثم َّ الذینَ یلونَھُم" (2) .<br />
وقال ε: "لا یدخُلُ النارَ أَحدٌ بایعَ تحتَ الشجرةِ" (3) .<br />
وعن عبد اللھ بن مسعود، قال: إن َّ اللھَ نظرَ في قلوب العِباد، فوجدَ قَلْبَ<br />
محمدٍ خَیْرَ قلوبِ العبادِ، فاصطفاهُ لِنَفْسِھ، وابتعثَھُ برسالَتِھِ، ثم َّ نظرَ في قلوبِ<br />
العبادِ بَعْدَ قَلْبِ محمدٍ ε، فوجَدَ قُلُوبَ أصْحابھِ خَیْرَ قلوبِ العبادِ، فجعَلَھُم<br />
وزراءَ نبیّ ِھِ، یُقاتِلونَ على دینھِ، فما رآهُ المسلمون حَسَناً، فھو عند اللھِ<br />
حَسَنٌ، وما رأوْ هُ سَیّ ِئاً، فھو عِندَ اللھ سَيّ ِءٌ (4) . وفي روایة: وقدْ رأى<br />
أَصحابُ محمدٍ جمیعاً أنْ یَسْتَخلِفوا أَبا بكر.<br />
فمن أَضل ُّ مِم َّن یكونُ في قلبھِ غل ٌّ لخیار المؤمنین، وساداتِ أَولیاءِ الل ِھ<br />
تعالى بعد النبیین؟! بَلْ قد فَضَلَتْھُمُ الیھودُ والنصارى بِخَصْلَةٍ، قیلَ للیھود:<br />
مَنْ خَیرُ أَھْلِ مِل َّتِكُم؟ قالوا: أَصحابُ موسى، وقیلَ للن َّصارى: مَنْ خیرُ أَھْل<br />
مِل َّتِكُم؟ قالوا: أَصحابُ عیسى، وقیلَ للر َّ افضةِ: مَنْ شَر ُّ أَھْل ملتكم؟ قالوا:<br />
أصحابُ محمدٍ!! لَمْ یستثنوا منھم إلا َّ القلیل، وفیمن سَب ُّوھم مَنْ ھو خیرٌ<br />
مم َّن استثنوھم بأضعافٍ مُضاعَفَةٍ(5) .<br />
(1) . وفي روایة:<br />
(1 ( صحیح، أخرجھ أحمد وغیره.<br />
فیھ: أن القرون المشھود لھا بالخیریة، ھي القرون الثلاثة الأولى، وبالتالي من<br />
یُرد الحق َّ فعلیھ أن یلتمسھ في ھذه القرون.<br />
(3 ( رواه مسلم وغیره، وصَح َّ عنھ رجلٌ شھِدَ بدراً<br />
أَن َّھ قال: "لن یدخُلَ النارَ<br />
والحدیبیة". وقال: "إن َّ اللھ تعالى اط َّلعَ على أَھْل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم فقد<br />
غفرت لكم". وفي ھذه الأحادیث وغیرھا دلالة على فضل الصحابة على مَن<br />
بعدَھم من الأجیال والقرون.<br />
(4 ( حسنٌ موقوفاً، أخرجھ الطیالسي وأحمد وغیرھما بسند حسن.<br />
یشیر إِلى سبھم على <strong>أبي</strong> بكر وعمر رضي اللھ عنھما، وھما بلا خلاف<br />
أفضل من علي بن <strong>أبي</strong> طالب τ، وكان علي یعزر بالضرب من یفضلھ على <strong>أبي</strong><br />
بكر وعمر.<br />
360<br />
ε<br />
( 2 )<br />
( 5 )
وقولھ: "ولا نُفْرِ طُ في حُبِّ أَحَدٍ منھم" أي: لا نتجاوزُ الحَد َّ في حُبِّ أَحدٍ<br />
منھم، كما تفعل الشیعةُ، فنكون مِنَ المعتدین، قال تعالى: [یا أَھْلَ الكتابِ لا<br />
تَغْلُوا في دینِكُم]<br />
(1) النساء:<br />
361
ε<br />
. (4)<br />
وقال رسولُ اللھِ ε: "اقتَدوا بال َّلذینِ مِن بَعْدي: أَبي بَكْرٍ وعُمَرَ " (1) .<br />
وفي "الصحیحین" عن عائِشة رضي اللھ عنھا وعَنْ أبیھا، قالَتْ : دخَلَ<br />
عَلَ َّي رسولُ الل ِھ في الیَوْ مِ الذي بُدِئَ فیھ (2) ، فقالَ: "ادعِي لي أَبَاكِ<br />
وأَخاكِ ، حت َّى اكتُبَ لأَبي بَكْرٍ كِتَاباً"، ثم َّ قالَ: "یأبَى اللھُ والمسلِمونَ إلا َّ أبا<br />
بَكْرٍ ". وفي روایة: "فلا یَطْمعْ في ھذا الأمرِ طَامعٌ". وفي روایة: قال:<br />
"ادعي لي عبدَ ال َّرحمن بن <strong>أبي</strong> بكرٍ ، لأكتُبَ لأبي بكرٍ كتاباً لا یُخْتَلَ ُف<br />
علیھ"، ثم َّ قال: "مَعاذَ اللھِ أَنْ یَخْتَلِفَ المؤمنونَ في أَبي بكرٍ " (3) .<br />
وأحادیثُ تقدیمِھ في الصلاةِ مَشْھورةٌ معروفَةٌ، وھو یقول: "مُرُ وا أبا بكرٍ<br />
فَلْیُصَلّ<br />
وفي "الصحیحین" عن <strong>أبي</strong> ھریرة، قال: سمعتُ رسولَ اللھ یقول:<br />
"بَیْنَا أَنا نائِمٌ رَ أَیتُنِي على قَلِیبٍ، علیھا دَلْوٌ ، فَنَزَ عتُ منھا ما شاءَ اللھُ، ث َّم<br />
أخَذَھا ابنُ <strong>أبي</strong> قُحافَةَ، فنَزَ عَ منھا ذَنوباً أو ذَنوبین، وفي نَزْ عِھ ضَعْفٌ ، واللھ<br />
یَغفِرُ لَھُ، ثم َّ استحالَتْ غَرْ باً، فأخذھا ابنُ الخط َّا ِب (5) ، فلَمْ أرَ عبقری َّاً مِنَ<br />
الناسِ یَفْري فَرِ ی َّھُ، حتى ضرَ بَ الن َّاسُ بِعَطَنٍ" (6) .<br />
ε<br />
ِ بالن َّاسِ "<br />
362<br />
ε<br />
( 2 )<br />
( 3 )<br />
(1 ( صحیح، أخرجھ الترمذي، وابن ماجھ، وأحمد.<br />
أي: مرضھ الذي مات فیھ.<br />
فیھ إشارَ ةٌ صریحة على استخلاف <strong>أبي</strong> بكر τ، وروایة البخاري بلفظ: "ھممت<br />
أن أرسل إِلى <strong>أبي</strong> بكر وابنھ، فأعھد، أن یقول القائلون، أو یتمنى المتمنون، ث َّم<br />
قلت: یأبى اللھُ ویدفع المؤمنون أو یدفع اللھ ویأبى المؤمنون".<br />
(4 ( متفق علیھ.<br />
(5 ( وروایة مسلم، لفظھ في بعضھا: "ثم أخذھا عمر، فاستحالت غرباً" ومن<br />
حدیث ابن عمر: "ثم أَخذھا ابن الخطاب من ید <strong>أبي</strong> بكر، فاستحالت في یده<br />
غرباً". وفي الحدیث إشارة إِلى استخلاف عمر بعد <strong>أبي</strong> بكر.<br />
( 6 )<br />
قولھ: "على قلیب" أي: على بئر، وقولھ: "ذنوباً أو ذنوبین" الذنوب: الدلو<br />
الممتلئة. قال الشافعي في "الأم": ومعنى قولھ: "وفي نزعھ ضعف": قصر<br />
مدتھ، وعجلة موتھ، وشغلھ بالحرب لأھل الردة عن الافتتاح والازدیاد الذي بلغھ<br />
عمر في طول مدتھ. وقولھ: "یفري فریھ" أي: یعمل عملھ، ویقطع قطعھ،<br />
"والعطن" ما یعد للشرب حول البئر من مبارك الإبل.
ε<br />
وقالَ ε: "لو كُنتُ مُت َّخِ ذاً مِنْ أَھْل الأرضِ خلیلاً، لات َّخَذْتُ أَبا بكرٍ خلیلاً،<br />
لا یبقیَن َّ في المَسجدِ خَوْ خَةٌ إلا َّ سُد َّت، إلا َّ خَوخَةُ <strong>أبي</strong> بكرٍ " (1) .<br />
وعن <strong>أبي</strong> بكرةَ، أن َّ النب َّي قال ذاتَ یومٍ : "مَنْ رأى منكم رُ ؤیا؟" فقال<br />
رَ جُلٌ أنا رَ أَیْتُ كَأَن َّ میزاناً أُنزلَ مِنَ السماءِ، فَوُ زِ نتَ أَنتَ وأَبو بكرٍ ،<br />
فرجَحْتَ أنتَ بأبي بكرٍ ، ثم َّ وزِ نَ عُمَرُ وأبو بكرٍ ، فرجحَ أَبو بكرٍ ، ووزِ نَ<br />
عُمَرُ وعُثمانُ، فرَ جَحَ عُمَرُ ، ثم َّ رُ فِعَ المیزانُ، فرأیتُ الكراھَةَ في وجھِ النبيّ ِ<br />
ε، فقال: "خِ لافَةُ نُبو َّ ةٍ، ثم َّ یُؤتي اللھُ المُلكَ مَنْ یشاءُ" (2) .<br />
وقال ε: "خِ لافَةُ الن ُّبو َّ ةِ ثلاثُونَ سنةً(3) ، ثم َّ یُؤتي اللھُ مُلْكَھُ مَنْ یشاءُ أو<br />
ε<br />
الملك" (4) .<br />
وفي "الصحیحین" عن عمرو بن العاص: أَن َّ رسولَ اللھ بعثَھُ على<br />
جیشِ ذات الس َّلاسِلِ، فأتیتُھ، فقلت: أَي ُّ الن َّاسِ أَحَب ُّ إلیكَ ؟ قال: "عائِشَةُ"،<br />
قُلْتُ : مَنَ ِ الرّ جالِ؟ قال: "أبوھا"، قلتُ : ثم َّ مَنْ ؟ قال: "عمر".<br />
وعن أَبي الد َّرداءِ، قال: كُنتُ جالِساً عندَ النبيّ ε، ِ إذْ أَقبَلَ أَبو بكرٍ آخذاً<br />
بطَرَ فِ ثوبھِ، حتى أَبدى عَنْ رُ كبَتَیْھِ، فقالَ النب ُّي ε: "أم َّا صاحِ بُكُم، فقد<br />
غامَرَ (5) "، فسَل َّمَ، وقال: إن َّھ كانَ بیني وبینَ ابن الخطاب شيءٌ، فأسرَ عتُ<br />
إلیھِ، ثم َّ نَدِمْتُ ، فسألتُھ أنْ یغفرَ لي، فأبى عَلَي َّ، فأَقْبَلْتُ إلیك، فقال: "یَغْفِ ُر<br />
اللھُ لكَ یا أبا بَكرٍ " ثلاثاً، ثم َّ إن َّ عُمرَ نَدِمَ، فأَتى مَنْزِ لَ <strong>أبي</strong> بكرٍ ، فسألَ: أثَ َّم<br />
ھو؟ فقالوا: لا، فأتى النب َّي ε، فسَل َّمَ علیھ، فجعلَ وجھُ النبيّ ε ِ یَتَمَع َّرُ ، حتى<br />
أَشفقَ أَبو بكرٍ (6) ، فجثا على رُ كبَتَیْھِ، فقال: یا رسولَ اللھ، واللھِ أنا كُنتُ<br />
أَظْلَمُ مر َّ تین، فقالَ النب ُّي ε: "إن َّ اللھَ بَعَثَني إلیكم، فقُلْتم: كَذَبتَ ، وقال أَبو<br />
(1 ( متفق علیھ.<br />
(2 ( صحیح، رواه أبو داود.<br />
(3 ( وھي المدة التي استُخلِفَ فیھا الخلفاء الأربعة، أبو بكر وعمر وعثمان وعلي<br />
ψ، حیث استمرت خلافة <strong>أبي</strong> بكر سنتین، وخلافة عمر عشر سنین، وخلافة<br />
عثمان اثنتي عشرة سنة، وخلافة علي ست سنین.<br />
363<br />
4) ( حسن.<br />
( 5 )<br />
( 6 )<br />
قال ابن حجر في "الفتح": والمعنى دخل في غمرة الخصومة، والغامر الذي<br />
یرمي بنفسھ في الأمر العظیم كالحرب وغیره ا-ھ.<br />
أي أشفق على عمر لِما رأى من غضب النبي<br />
ε علیھ..
ِ<br />
بكرٍ : صَدَقْتَ ، وواسَاني بنفسِھِ ومالِھ، فَھَلْ أَنتُم تارِ كُو لي صاحِ بِي؟".<br />
مر َّ تین، فما أُذيَ بَعْدَھا (1) .<br />
-حُ َّجةُ مَنْ قال: لَمْ یَسْتَخْلِفْ بالن َّصّ<br />
واحتج َّ مَنْ قالَ: لَمْ یَستخلِفْ بالخبرِ المأثورِ ، عنْ عبدِ اللھ بن عمر، عن<br />
عمرَ رضي<br />
اللھ عنھما، أَن َّھ قالَ: إنْ أَسْتَخْلِف، فقد استخلَفَ مَنْ ھو خَیرٌ مني، یعني أبا<br />
بكرٍ ، وإنْ لا أسْتَخْلِف، فلم یَستخلِفْ مَنْ ھو خَیْرٌ مني، یعني رسولَ اللھ<br />
ε<br />
-<br />
. (2) ε<br />
وبما رُ ويَ عن عائشة رضي اللھ عنھا أَن َّھا سُئِلتْ مَنْ كان رسولُ اللھِ<br />
مُستخلفاً لو استخلَف (3) .<br />
والظاھرُ -واللھ أعلم- أَن َّ المُرادَ أن َّھُ لَمْ یَسْتَخلِفْ بعھدٍ مكتوبٍ(4) ، ولو<br />
كَتَبَ عھداً، لكتبھ لأبي بكر، بَلْ أَرادَ كتابَتَھُ ثم َّ تَركَھُ، وقال: "یأْبى اللھُ<br />
( 1 )<br />
( 2 )<br />
( 3 )<br />
أخرجھ البخاري.<br />
متفق علیھ، واللفظ لمسلم.<br />
أخرجھ مسلم وغیره.<br />
(4 ( ویمكن أَنْ یُقال أیضاً: أن َّ عمر τ، لم تبلغھ مجموع الأحادیث التي تُفید<br />
استخلاف <strong>أبي</strong> بكر فالتجأ إِلى ھذا القیاس، كما فعل یوم أنْ ھم َّ أبو بكر بمقاتلة<br />
مانعي الزكاة، فقال لھ: كیف تقاتلُ الناسَ وقد قال رسول اللھ ε: "أمِرتُ أَنْ<br />
أُقاتل الناس حتى یقولوا لا إلھ إلا اللھ، فمن قال لا إلھ إلا اللھ عَصمَ مني مالُھ<br />
ونفسھ إلا َّ بحقھ وحسابھ على اللھ". فلو كان قد بلغھ قول النبي ε: "أمرت أن<br />
أقاتل الناس حتى یشھدوا أن لا إلھ إلا اللھ، وأن محمداً رسول اللھ، ویقیموا<br />
الصلاة، ویؤتوا الزكاة.." لما سأل ھذا السؤال وكذلك أبو بكر لو بلغھ الحدیث<br />
لَما التجأ إِلى قیاس الزكاة على الصلاة، بقولھ: واللھ لأقاتلن َّ من فر َّ قَ بین<br />
الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال.. كما قال ابن حجر في "الفتح"<br />
)<br />
τ<br />
364
ε<br />
ε<br />
والمسلمونَ إلا َّ أبا بكرٍ ". فكانَ ھذا أَبْلَغَ مِنْ مجَر َّ دِ العھدِ، فإن َّ النب َّي دَ َّل<br />
المسلمین على استخلافِ <strong>أبي</strong> بكرٍ ، وأرشدھم إلیھ بأمورٍ متعدّ ِدةٍ، مِنْ أقوالِھ<br />
وأَفْعالِھ، وأَخبرَ بخلافَتِھ إخبارَ راضٍ بذلك، حامِدٍ لھ، وعَزمَ على أنْ یكت َب<br />
بذلك عَھداً، ثم َّ عَلِمَ أن َّ المسلمینَ یجتمعونَ علیھ، فتركَ الكِتابَ اكتفاءً بذلك.<br />
فلو كان التعیینُ مِم َّا یَشْتَبِھُ على الأَم َّةِ، لبی َّنھ بیاناً قاطعاً للعُذرِ ، لكن لما<br />
دل َّھم دلالاتٍ متعدّ ِدَةً على أ َّن أبا بكرٍ المتعَی َّنُ، وفھموا ذلك، حصلَ المقصودُ،<br />
ولھذا قال عمرُ في خطبتھِ التي خطبھا بمحضَرٍ منَ المھاجرینَ والأنصار:<br />
أنتَ خَیْرُ نا وسیّ ِدُنا وأحب ُّنا إِلى رسولِ اللھ ε. ولم ینكر ذلك منھم أَحَدٌ، ولا<br />
قالَ أحَدٌ مِنَ الص َّحابةِ: إن َّ غیر <strong>أبي</strong> بكر من المھاجرین أحق ُّ بالخلافةِ منھ،<br />
ولم یقلْ أحَدٌ منھم قَط ُّ: إن َّ النب َّي نص َّ على غیر <strong>أبي</strong> بكر، لا علي ٌّ، ولا<br />
العباسُ ، ولا غیرھما، كما قَدْ قالَ أَھْلُ البدَعِ(1) .<br />
-ما حَصَلَ في سَقیفَةِ بني ساعِدَة-<br />
عَن عائشة رضي اللھ عنھا: أَن َّ رسولَ اللھ مات وأَبو بكر<br />
بال س ُّنْ حِ(2) -فذَكَرَ تِ الحدیثَ - إِلى أَنْ قالَتْ : واجتمعَ الأنصارُ إِلى سَعْدِ بن<br />
ε<br />
محمداً قد مات، ومن كان یعبد اللھ فإن َّ اللھ حي لا یموت، قال اللھ تعالى:<br />
[وما محمد إلا َّ رسولٌ قد خلت من قبلھ الرسل أفإن ماتَ أو قُتِلَ انقلبتم على<br />
أعقابكم ومن ینقلب على عقبیھ فلن یَضُر َّ اللھ شیئاً وسیجزي اللھ<br />
الشاكرین]. قال عمر: "واللھ ما ھو إلا َّ أن سمعت أبا بكر تلاھا فعرقت حتى<br />
ما تقلني رجلاي، وحتى ھویت إِلى الأرض" وكأنھ لم یسمعھا من قبل.<br />
والشاھد: أن قول عمر الآنف الذكر، لا یمكن أن نرد بھ أحادیث النبيِّ ε الدالة<br />
على استخلاف <strong>أبي</strong> بكر، واللھ تعالى أعلم.<br />
( 1 )<br />
إشارة إِلى الشیعة الروافض، حیث أو َّ لوا النصوص، وحملوھا ما لا تحتمل،<br />
من ذلك تأویلھم لقولھ تعالى: [إن اللھ یأمركم أن تؤدوا الأمانات إِلى أھلھا وإذا<br />
حكمتم بین الناس أن تحكموا بالعدل]. قال الخمیني في كتابھ "الحكومة<br />
الإسلامیة" ص<br />
τ<br />
365
عُبادةَ، في سَقیفَةِ بني ساعِدَة، فقالوا: مِن َّا أَمیرٌ ، ومِنكُم أَمیرٌ ، فَذَھبَ إلیھم أبو<br />
بكرٍ ، وعمرُ بن الخطاب، وأبو عبیدَةَ بنُ الجَر َّ اح، فذھب عُمَرُ یتكلم، فأسكتھُ<br />
أبو بكرٍ ، وكانَ عمرُ یقول: واللھ ما أَرَ دتُ بذلك إلا َّ أنّ ِي ھی َّأتُ في نفسي<br />
كلاماً قد أعجبني، خَشِیتُ أَنْ لا یَبْلُغَھُ أبو بكر، ثم َّ تكل َّمَ أبو بكر، فتكل َّمَ أبلغَ<br />
الناسِ ، فقال في كلامِھ: نحنُ الأُمراءُ، وأنتمُ الوزراءُ، فقالَ حبابُ بنُ المنذر:<br />
لا واللھ لا نَفْعَل، مِن َّا أَمیرٌ ومنكم أمی ٌر (1) ، فقالَ أبو بكرٍ : لا ولكِن َّا الأُمراءُ،<br />
وأَنتمُ الوزراءُ، ھم أَوسطُ العرب، وأعَز ُّ ھم أحساباً، فبایعوا عُمرَ أو أبا عبیدَةَ<br />
بن الجر َّ اح، فقال عمر: بل نبایعُكَ ، فأَنْتَ سَیّ ِدُنا، وخیْرُ نا، وأَحب ُّنا إِلى رسولِ<br />
اللھ ε، فأخذَ عُمَرُ بیده فبایَعَھُ، وبایَعَھُ الن َّاسُ ، فقالَ قائلٌ: قتلتم سعداً، فقالَ<br />
عُمَرُ : قتلَھُ اللھُ(2) .<br />
قولُھ: "ثم َّ لِعُمَرَ بنِ الخط َّا ِب<br />
ش: أي ونُثْبِتُ الخلافَةَ بعد <strong>أبي</strong> بكر، لعمرَ رضي اللھ عنھما. وذلك<br />
بتفویضِ <strong>أبي</strong> بكر الخلافةَ إلیھ، واتّ ِفاقِ الأُم َّةِ بعدَه علیھ.<br />
-من فضائل عمر<br />
عن محمد بن الحنفیة أَن َّھ قال: قلتُ لأبي: یا أبتِ، مَن خَیْرُ الن َّاسِ بعدَ<br />
رسولِ اللھ ε؟<br />
فقال: یا بُنَي َّ، أوَ ما تَعْرِ ف؟ فقلتُ : لا، قال: أبو بكرٍ ، قلتُ : ثم َّ مَنْ ؟ قالَ:<br />
عمرُ ، وخَشیتُ أنْ یقولَ: ثم َّ عثمان فقلتُ : ثم َّ أنتَ ؟ فقال: ما أَنا إلا َّ رجُلٌ من<br />
المسلمین (3) .<br />
وتقد َّمَ قَوْ لھ ε: "اقتَدُوا بالل َّذینَ مِنْ بعدِي: <strong>أبي</strong> بكرٍ وعُمرَ ".<br />
-τ<br />
." τ<br />
366<br />
( 1 )<br />
ε<br />
فیھ أن َّ الصحابي یمكن أن یفوتھ بعض العلم، فلو كان ممن اعترض من<br />
الأنصار بادئ ذي بدء على أن تكون الإمامة في قریش، یعلمون بأحادیث النبي<br />
المتواترة الدالة على أن َّ "الأئمة من قریش ما بقي منھم اثنان"، لما حصل منھم<br />
ذلك الاعتراض، ولما قالوا مقولتھم تلك، وكذلك أبو بكر لو كان یعلم بقول<br />
النبي "الأئمة من قریش"، لما استبدلھ بكلام آخر، لما في كلام النبيِّ ε من<br />
الحجة المُلزمة ما لیس في كلام غیره من البشر. ویحتمل أن َّ أبا بكر كان یعلم<br />
بقول النبيِّ ε، لكنھ صاغھ باسلوبھ من دون أن یرفعھ إِلى النبيِّ ε، واللھ تعالى<br />
أعلم.<br />
(2 ( صحیح، أخرجھ البخاري وغیره.<br />
τ<br />
τ<br />
ε<br />
(3 ( صحیح، أخرجھ البخاري وغیره.
ε<br />
وفي "صحیح مسلم" عن ابن عباس، قال: وُ ضِ عَ عُمرُ على سریرِ هِ،<br />
فتكنفَھُ الن َّاسُ یدعون ویُثنُونَ، ویُصَل ُّونَ علیھ قبل أَن یُرْ فَعَ، وأنا فیھم، فَلم<br />
یَرُ عْني إلا َّ برَ جُلٍ قد أَخذَ بمنكبي من ورائي، فالتفَت ُّ إلیھِ، فإذا ھو عَلي ٌّ،<br />
فترَ ح َّمَ على عُمرَ ، وقال: ما خَل َّفتَ أحداً اَحَب َّ إليّ أَن أَلقى اللھَ بمثلِ عَمَلِھ<br />
مِنْكَ ، وایْمُ اللھِ، إنْ كُنتُ لأظن ُّ أن یَجْعَلَكَ اللھُ مع صاحبی كَ ، وذلك أَنّ ِي كُن ُت<br />
كثیراً ما أَسْمعُ رسولَ اللھ یقول: "جئتُ أنا وأبو بكرٍ وعمرُ ، ودخلتُ أنا<br />
وأَبو بكر وعمرُ ، وخرجتُ أنا وأبو بكرٍ وعمرُ ، فإنْ كنتُ لأرجو، أو لأظ ُّن<br />
ان یجعلكَ اللھُ معَھُما".<br />
وفي "الصحیحین"، من حدیث سَعْدِ بنِ أَبي وقاصٍ : قال: استأذَنَ عم ُر<br />
بنُ الخطاب على رسولِ اللھ ε، وعِنده نِساءٌ مِنْ قُرَ یشٍ ، یُكلمْنَھُ عالیةً<br />
أصواتُھن َّ... وفیھ، فقال النب ُّي ε: "إیْھَاً یا ابنَ الخَط َّابِ! وال َّذي نَفْسِي بیدِهِ، ما<br />
لَقِیَكَ الش َّیطانُ سالِكاً فج َّاً(1)إلا َّ سلكَ فج َّاً غیْرَ فجّ<br />
وقالَ ε: "قَدْ كانَ في الأُممِ قَبلَكُم مُحَد َّثُونَ، فإنْ یَكُنْ في أُم َّتي منھم أحَدٌ،<br />
فإن َّ عُمرَ بن الخط َّابِ منھم" (2) .<br />
قال ابنُ وھب: تفسیرُ مُحَد َّثون: مُلْھَمُونَ.<br />
قولُھ: "ثم َّ لِعُثمانَ<br />
ش: أي ونُثْبتُ الخلافَةَ بعد عمر لعثمانَ رضي اللھ عنھما.<br />
-قص َّةُ مَقتل عمر، ومُبایعة عثمان-<br />
عن عمرو بنِ میمون، قال: رَ أیتُ عُمَرَ قبلَ أَنْ یُصابَ بأیامٍ بالمدینةِ..<br />
قال: إني لقائِمٌ ما بیني وبینَھُ إلا َّ عبدُ اللھ بنُ عباس غداةَ أُصیبَ ، وكان إذا<br />
مر َّ بینَ الص َّف َّینِ قال: استووا، حتى إذا لم یرَ فیھن َّ خَلَلاً تقد َّمَ فكب َّرَ ، ورب َّما<br />
قَرَ أ سورَ ةَ یوسف، أو النحل أو نحو ذلك في ِ الرّ كعةِ الأولى، حت َّى یَجتمِعَ<br />
الن َّاسُ ، فما ھو إلا َّ أَن كَب َّرَ ، فسمعتُھ یَقولُ: قتلني أو أكلني الكلبُ ، حینَ طعَنَھُ،<br />
فطارَ العِلْجُ بسكینٍ ذاتِ طرَ فین، لا یمُر ُّ على أحَدٍ یَمیناً ولا شِمالاً إلا َّ طعَنَھُ،<br />
حتى طعَنَ ثلاثَةَ عَشَرَ رَ جُلاً، ماتَ منھم سبعةٌ، فلم َّا رأى ذلك رَ جُلٌ مِنَ<br />
المسلمینَ، طَرَ حَ علیھ بُرْ نُسَاً، فلم َّا ظن َّ أن َّھ مأخوذٌ نَحَرَ نَفسَھُ، وتناولَ عُمرُ<br />
ِ كَ ."<br />
τ<br />
." τ<br />
( 1 )<br />
أي: طریقاً.<br />
(2 ( متفق علیھ.<br />
367
یدَ عبد الر َّ حمن بن عوف، فقَد َّمَھُ(1) ، فمن یلي عمرَ فقد رأى الذي أرى، وأم َّا<br />
نواحي المسجد، فإن َّھم لا یدرونَ غیرَ أَن َّھم قد فقدوا صوتَ عمرَ ، وھُم<br />
یقولون: سُبْحانَ اللھ، سبحان اللھ، فصلى بھم عبد الرحمن صلاةً خفیفةً،<br />
فلما انصرفوا، قال: یا ابن عباس انظرْ مَن قتَلَني؟ فجالَ ساعَةً ثم َّ جاءَ،<br />
فقال: غُلامُ(2) المغیرَ ةِ، قال: ال َّصنَ ُع (3) ؟ قال: نَعَم، قال: قاتلھ اللھُ، فلَقد أَمَرْ تُ<br />
بھ معروفاً! الحمدُ اللھ الذي لم یجعَلْ مَنی َّتي على یدِ رَ جُلٍ یَد َّعي الإسلامَ، قَدْ<br />
كُنتَ أَنتَ وأَبوكَ تُحِ ب َّانِ أَن تكثُرَ العُلُوجُ(4) بالمدینةِ، وكانَ العباسُ أكثرَ ھُم<br />
رَ قیقاً، فقال: إنْ شِئْتَ فعَلْتُ ، أي: إنْ شِئْتَ قَتَلْنا، فقال: كذَب َت (5) ، بعد ما<br />
تكل َّموا بلسانِكُم، وَ صَل ُّوْ ا قِبْلَتَكم، وحَج ُّوا حَج َّكُم (6) ! فا حتُمِلَ إِلى بیتھ، فانطلقنا<br />
معھ، وكأَن َّ الن َّاسَ لم تُصِ بْھُم مُصیبةٌ قَبْلُ یومئذٍ، فقائلٌ یقولُ: لا بَأسَ علیھ،<br />
وقائلٌ یقولُ: أخافُ علیھ، فأُتِيَ بنبی ٍذ (7) فشرِ بَھُ، فخرجَ مِنْ جَوْ فِھ، ثم َّ أُتيَ بلبنٍ<br />
فَشَرِ بَھ، فخرَ جَ مِن جَوفِھ، فَعرفُوا أَن َّھُ میت (8) . فدَخَلْنا علیھ، وجاءَ الن َّاسُ<br />
یُثنُونَ علیھ، وجاء رجلٌ شاب ٌّ ، فقال: أبشِرْ یا أمیرَ المؤمنین ببُشرَ ى اللھ<br />
( 1 )<br />
( 3 )<br />
( 4 )<br />
( 5 )<br />
أي: قدمھ إِلى إمامَة الن َّاس في الصلاة، وھذا یكون في حال تعسر عودة الإمام<br />
ثانیة إِلى الإمامة..<br />
(2 ( وھو أبو لؤلؤة المجوسي لعنھ اللھ.<br />
الصنع: صاحب الصنعة الذي یعمل بیده.<br />
العلوج: ھم العبید الخدم.<br />
أَھْلُ الحجاز یقولون: "كذبت" في موضع "أخطأت". (ھامش <strong>نسخة</strong> مؤسسة<br />
الرسالة).<br />
( 6 )<br />
فیھ بیان لمدى انصاف عمر وعظمة عدلھ، وأن َّ أحكامھ لم تكن تصدر عن<br />
ھوى وردة فعل، علماً أن الذي حصل لھ لو حصل لكثیر من الولاة غیره، لوجد<br />
لنفسھ مبرراً أن یبید جمیع أقارب الجاني، والبلدة التي ینتمي إلیھا!!<br />
(7 ( ھو ماءٌ یُنقع فیھ تمر.<br />
(8 ( ومن روایة عبد الرزاق في مصنفھ )<br />
368
لكَ ، مِ نْ صُحْ بَةِ رسول اللھِ، وقَدَ ٍم (1) في الإسلام ما قَدْ علِمْتَ ، ثم َّ وَ لِیتَ<br />
فَعَدَلْتَ ، ثم َّ شھادَة، قال: وَ دِدْتُ أن َّ ذلك كان كِفافاً، لا عَلي َّ ولا ليَ(2) ، فلم َّا<br />
أَدبَرَ إذا إزارُ ه یَمَس ُّ الأرض، قال: رُ د ُّوا عَلي َّ الغلامَ، قالَ: یا ابن أَخي،<br />
ارْ فَعْ ثَوْ بَكَ ، فإن َّھ أَنقى لِثوبِكَ ، وأَتقى لِرَ بّ (3) ، یا عبدَ اللھ بنَ عمر، انظر ما<br />
عَلَي َّ مِنَ الد َّیْنِ، فحَسَبُوهُ، فوجدوهُ سِت َّةً وثمانینَ أَلفاً أو نحوَ ه، قال: إنْ وَ فَى لھ<br />
آلِ عمر، فأَدّ ِهِ مِنْ أموالِھم، وإلا َّ فَسَلْ في بني عدي بنِ كعب، فإنْ لم تَفِ<br />
موالُھم، فَسَلْ في قریشٍ ، ولا تعْدُھُم إِلى غیرِ ھم، ِ فأَدّ عني ھذا المالَ. انطلِ ْق<br />
أَمالُ<br />
إِلى عائشة ِ أمّ المؤمنینَ فقل: یقرأ علیكِ عمرُ الس َّلامَ، ولا تقلْ: أمیر<br />
المؤمنین، فإني لَسْتُ الیومَ للمؤمنینَ أَمیراً، وقل: یستأذِنُ عمرُ بنُ الخطا ِب<br />
أَنْ یُدفَنَ مع صاحبیھِ، فَسَل َّمَ واستأذَنَ، ثم َّ دخلَ علیھا، فوجدھا قاعدةً تبكي،<br />
فقال: یَقرأُ علیكِ عمرُ بنُ الخطابِ السلامَ، ویَستأذِنُ أن یُدْفَنَ مع صاحبیھ،<br />
قالت: كُنتُ أُریدُه لنفسي، ولأُوثِرَ ن َّ بھ الیومَ على نفسي، فلَم َّا أَقبلَ، قیل: ھذا<br />
عَبدُ اللھِ قدْ جاءَ، قال: ارفعوني، فأسندَهُ رجلٌ إلیھ، قال: ما لدیك؟ قال: الذي<br />
تُحِ ب ُّ یا أمیرَ المؤمنین، أَذِنَتْ ، قال: الحمدُ ، ما كانَ شيءٌ أَھم َّ إلي َّ مِن<br />
ذلك، فإذا أَنا قَضیتُ ، فاحملوني، ثُم َّ سَلّ ِم، فقُلْ: یَسْتَأذِنُ عمرُ بنُ الخطاب،<br />
فإنْ أَذِنَتْ لي، فأدخلوني، وإنْ رَ د َّتني فرد ُّوني إِلى مقابر المسلمین. وجاءَ ْت<br />
أُم ُّ المؤمنینَ حَفصةُ والنساءُ تسیرُ معھا، فلَم َّا رأَیْناھا قُمنا، فوَ لَجَت علیھ،<br />
ِ َك<br />
369<br />
τ<br />
( 1 )<br />
( 2 )<br />
أي: المكانة والفضل.<br />
أقول: إذا كان عمر الفاروق العادل، أفضل الن َّاس بعد رسولِ اللھ و<strong>أبي</strong> بكر،<br />
المبشر بالجنة، یرجو أن یكون حسابھ یوم القیامة كفافاً لا لھ ولا علیھ، فمن باب<br />
أولى من ھم دونھ شأناً وفضلاً -مما لا یُعلم حالھم عند اللھ- أن لا تغرنھم<br />
الأماني، وأن لا یُزكوا أنفسھم على اللھ، وھو كذلك مدعاة لأن یمسك الن َّاس عن<br />
التوسل بالصالحین والأولیاء، ظن َّاً منھم أن َّ لھم جاھاً عند ربھم، یخولھم التوسط<br />
والتشفع..!! وكأنھم قد اضطلعوا على الغیب وعرفوا مكانتھم عند ربھم، وما لھم<br />
أو علیھم!!<br />
( 3 )<br />
أقول: رغم مرضھ وأنھ على فراش الموت، وتزاحم الن َّاس علیھ لیسمعوا<br />
منھ ما یوصي بھ.. فكل ذلك لم یمنعھ من أن ینھى الرجل عن إطالة ثوبھ، ھذه<br />
المسألة التي تھاون بھا كثیر من الن َّاس بحجة أنھا من المسائل الفرعیة، ومن<br />
القشور التي لا ینبغي الانشغال بھا..!!
فبكت عنده ساعةٍ(1)، واستأذَنَ ِ الرّ جالُ، فوَ لَجَت داخلاً لھم، فَسمِعنا بُكاءَھا<br />
من الداخل، فقالوا: أَوصِ یا أمیرَ المؤمنین، استخلِفْ ، قال: ما أَجِ دُ أَحق َّ بھذا<br />
الأمر من ھؤلاء النفر أو الر َّ ھط، الذین تُوفّ ِي رسولُ اللھِ وھو عنھم<br />
راضٍ ، فَسَم َّى علی َّاً، وعثمانَ، والز ُّ بَیْرَ ، وطلحةَ، وسَعْداً، وعبدَ الر َّ حمن،<br />
وقال: یَشْھَدُكُمْ عبدُ اللھ بنُ عمر، ولیس لھ مِنَ الأمر شيءٌ، كھیئةِ التعزی ِة<br />
لھ، فإنْ أَصابت سعداً فھو ذاكَ ، وإلا َّ فلیَسْتَعِنْ بھ أَی ُّكم ما أُمّ ِر، فإنّ ِي لم أَعْزِ لْھُ<br />
من عَجزٍ ولا خیانَةٍ(2) .<br />
(1 ( ذكر ابن سعد<br />
ε<br />
/3<br />
370
وقال: أُوصي الخلیفَةَ مِنْ بَعْدي بالمھاجرین الأولین: أَن یَعْرفَ لھم<br />
حَق َّھم، ویَحفَظَ لھم حُرْ مَتَھم، وأُوصیھ بالأنصارِ خَیْراً، الذین تبو َّ ؤوا الد َّا َر<br />
والإیمانَ مِن قبلھم، أَنْ یقبلَ مِنْ محسنھم، ویتجاوَ زَ عن مُسیئھم (1) ، وأُوصیھ<br />
بأھلِ الأمصارِ خیراً، فإن َّھم رِ دءُ الإسلامِ ، وجُباةِ الأموالِ، وغیظُ العدو، وأَن<br />
لا یُؤخذَ منھم إلا َّ فضلھم عن رِ ضاھم، وأُوصیھ بالأعرابِ خَیراً، فإن َّھم<br />
أَصلُ العَرَ بَ ، وماد َّةُ الإسلامِ ، أن یُؤخَذَ من حواشي أَموالھم، وأَن یُرَ د َّ على<br />
فقرائھم، وأُوصیھ بذم َّة اللھِ وذم َّةِ رسولھِ أن یوفى لھم بعھدھم، وأنْ یُقاتَل<br />
مِن ورائھم، ولا یُكَل َّفوا إلا َّ طاقتھم.<br />
فلما قُبِضَ خَرَ جنا بھ، فانطلقنا نمشي، فسَل َّمَ عبدُ اللھِ بنُ عمر، قال:<br />
یَستأذِنُ عمرُ بن الخطاب، قالَت: أَدخلوهُ، فأُدخِ لَ، فوضِ عَ ھناكَ معَ صاحبیھ،<br />
فلما فُرِ غَ مِنْ دَفنھِ، اجتمعَ ھؤلاء الر َّ ھْطُ، فقال عبد الرحمن بن عوف:<br />
اجعلوا أمرَ كم إِلى ثلاثَةٍ منكم، قال الزبیر: قد جعلت أمري إِلى عليّ ٍ، وقال<br />
طلحةُ: قد جعلتُ أَمري إِلى عثمان، وقال سَعْدٌ: قد جعلتُ أمري إِلى عبد<br />
الرحمن، فقالَ عبد الرحمن: أَی ُّكما تَبَر َّ أَ مِنْ ھذا الأمرِ فنجعلھ إلیھ (2) ، واللھُ<br />
علیھ والإسلام لینظرَ ن َّ أَفضلَھم في نفسھ، فأسكِتَ الشیخان، فقال عبدُ<br />
الرحمن: أفتجعلونَھ إلي َّ؟ واللھُ عل َّي أَنْ لا آلوَ عن أفضلِكم؟ قالا: نعم، فأَخَذَ<br />
بیدِ أحدِھما فقال: لكَ قرابةٌ مِن رسولِ اللھِ والقِدَمَ في الإسلامُ ما قَدْ<br />
علمت، فباللھ علیكَ ، لئن أَم َّرتُكَ لَتَعْدِلَن َّ، ولئن أَم َّرتُ علیكَ لتسمعَ َّن<br />
ولتُطیعَن َّ، ثم َّ خَلا بالآخرِ ، فقال لھ مثلَ ذلك، فلَم َّا أَخَذَ المیثاقَ، قال: ارفع<br />
یدَك یا عُثمانُ، فبایَعَھ، وبایَعَ لھ عليّ ٍ، وولَجَ أَھْل الد َّارِ فبایعوه (3) .<br />
ε<br />
( 1 )<br />
( 2 )<br />
فیھ أن الحسنات یذھبن السیئات، وأن تُقال عثرات مَن كان لھ سابقة إسلام<br />
وجھاد، وأن یُتأو َّ ل لھ عند وقوعھ في الشبھات..<br />
أي: نجعل إلیھ مھمة تعیین الخلیفة، وأن یُطاع فیما یشیر إلیھ.<br />
(3 ( صَح َّ عن النبيِّ ε عدة أحادیث تشیر إِلى استخلاف عثمان بن عفان<br />
حصل لھ یومَ حوصِ ر في داره، منھا: عن عائشة، قالت: قال رسولُ اللھ<br />
عثمانُ! إن وَ لا َّكَ اللھُ ھذا الأمرَ یوماً، فأرادَكَ المنافقون أن تخلَعَ قَمیصَكَ الذي<br />
قَم َّصَكَ اللھ، فلا تخلَعْھُ" یقولُ ذلك ثلاث مَر َّ اتٍ. قال النعمان: فقلت لعائشة: ما<br />
منعكِ أن تُعلمي الناسَ بھذا؟ قالت: أُنْسِیتُھُ. صحیح سنن ابن ماجة: )<br />
τ، وما<br />
ε: "یا<br />
371
-من فضائل عثمان بن عفان<br />
عن عائِشةَ، قالت: كانَ رسولُ اللھ مُضطجعاً في بیتھ، كاشِفاً عن<br />
فخِ ذَیْھِ أو ساقیھ، فاستأذَنَ أبو بكرٍ ، فأَذِنَ لھ وھو على تلكَ الحالةِ، فتحَد َّثَ ، ث َّم<br />
استأذَنَ عمرُ ، فأذنَ لھ وھو على تلك الحالة، فتحد َّثَ ، ثم َّ استأذَنَ عُثمانُ،<br />
فجلسَ رسولُ اللھِ وسَو َّ ى ثِیابَھ، فدخَلَ فتحد َّثَ ، فلم َّا خَرجَ، قالت عائِشَةُ:<br />
دخَلَ أَبو بكرٍ ، فلم تَھَ َّش (1) لھ ولم تُبَالِھ، ثم َّ دَخَلَ عمرُ ، فلم تَھش َّ لھ ولم تُبالِھ،<br />
ثم َّ دخَلَ عثمانُ فجلست وسو َّ یْتَ ثیابَك؟ فقال: "ألا أَسْتَحِ ي مِنْ رجُلٍ تستحِ ي<br />
-τ<br />
ε<br />
منھ الملائِكَةُ" (2) .<br />
وفي "الصحیح": لَم َّا كانَ یومُ بیعَةِ ِ الرّ ضوان، وأن َّ عثمانَ كانَ قد بعثَھُ<br />
النب ُّي إِلى مك َّة، وكانت بیعَةُ ال َّرضوان بعدَما ذھب عثمانُ إِلى مكة، فقا َل<br />
رسولُ اللھِ بیدِه الیُمنى: "ھذِهِ یَدُ عُثمانَ"، فضرَ بَ بھا على یدِه، فقال:<br />
τ<br />
." τ<br />
ε<br />
ε<br />
"ھذه لعثمان" (3) .<br />
قولُھ: "ثُم َّ لِعَليّ ِ بن أَبي طالِبٍ<br />
ش: أي: ونُثبتُ الخلافةَ بعدَ عثمانَ لعليّ ٍ رضي اللھ عنھما. وھو الخلیفَةُ<br />
في زمانِھ خِ لافَةَ نبو َّ ةٍ، لِقولِھ ε: "خلافَةُ النُبو َّ ةِ ثلاثُونَ سنَةً، ثم َّ یؤتي اللھُ<br />
مُلكَھُ مَنْ یَشاءُ" (4) .<br />
فالخلافَةُ ثَبتَتْ لأمیرِ المؤمنین علي بن <strong>أبي</strong> طالب بعدَ عثمانَ<br />
بمبایَعَةِ الصحابةِ، سوى معاویة معَ أَھْل الشامِ<br />
،τ<br />
τ<br />
. (1)<br />
<strong>أبي</strong> موسى أَن َّھ كان مع النبي في حائط من حیطان المدینة، فجاء رجل یستفتح،<br />
فقال النب ُّي ε: "افتح لھ وبشره بالجنة" ففتحت، فإذا أبوبكر، فبشرتھ بالجنة، ث َّم<br />
استفتح رجل آخر، فقال: "افتح لھ وبشره بالجنة" فإذا عمر، ففتحت لھ وبشرتھ<br />
بالجنة، ثم َّ استفتح رجلٌ آخر وكان متكئاً فجلس فقال: "افتح لھ وبشره بالجنة<br />
على بلوى تصیبھ أو تكون" فإذا عثمان ففتحت لھ وبشرتھ بالجنة، فأخبرتھ<br />
بالذي قال: فقال: اللھ المُستعان.<br />
تَھشّ : من الھشاشة، وھي طلاقة الوجھ، وحسن اللقاء.<br />
أخرجھ مسلم وغیره.<br />
(3 ( رواه البخاري من حدیث ابن عمر.<br />
(4 ( حسن، وقد تقدم.<br />
372<br />
ε<br />
( 1 )<br />
( 2 )
ِ<br />
τ<br />
τ<br />
( 1 )<br />
امتناع أَھْل الشام عن مبایعة علي بن <strong>أبي</strong> طالب كان بتأویل واجتھاد منھم،<br />
لظنھم أن َّ قتلة عثمان ھم من أنصار علي، وأنھ لا بد مِن القصاص منھم<br />
أولاً، ولشعورھم أیضاً بظھور حركات باطنیة تدعو إِلى ألوھیة علي بن <strong>أبي</strong><br />
طالب، كان على رأسھم الیھودي عبد اللھ بن سبأ، وھؤلاء كانوا من جملة<br />
مَنْ تظاھروا بنصرة علي بن <strong>أبي</strong> طالب على مَن سواه..<br />
وخلاصة القول: أن َّ امتناعھم لم یكن خروجاً على عليٍّ وعدم الرضى بھ<br />
إماماً، وإنما كان لشبھة وتأویل، بزوالھ تزول المعارضة، لِذا عندما أراد عل ٌّي<br />
قتالھم لإخضاعھم لسلطتھ، تخلف عن القتال معھ عدد من الصحابة منھم ابن<br />
عمر وغیره، على اعتبار أَن َّھ قتال فتنة یجب اعتزالھ، آخذین بنصیحة النبي<br />
"كَسّ ِرُ وا قَسی َّكم -یعنى في الفتنة- وقَطّعوا أوتاركم، والزموا أجوافَ البیوت،<br />
وكونوا فیھا كالخیر من ابني آدم". (السلسلة الصحیحة). وقال ε: "إنھ ستكون<br />
فرقة واختلاف، فإذا كان كذلك فاكسر سیفك واتخذ سیفاً من خشب، واقعد في<br />
بیتك حتى تأتیكَ ید خاطئة أو منیة قاضیة". (رواه أحمد والترمذي، صحیح<br />
الجامع الصغیر:<br />
:ε<br />
373
والحق ُّ معَ عليّ (1) τ ٍ .<br />
-مِنْ فضائِلِ عَليّ ِ بنِ أَبي طالب<br />
عن سَعْدِ بن <strong>أبي</strong> وق َّاص، قال: قال رسول اللھ لعلي: "أنتَ مِنّ ِي بمنزلَةِ<br />
ھارونَ مِنْ موسى، إلا َّ أن َّھ لا نبي َّ بَعْدي" (2) .<br />
وقال یوم خیبر: "لأعطیَن َّ الرایةَ غداً رجُلاً یُحِ ب ُّ اللھَ ورسولَھُ، ویُحِ ب ُّھُ<br />
اللھُ ورسولُھ" قال: فتَطَاوَ لنا لھا (3) ، فقال: "ادعُوا لي علی َّاً، فأُتِيَ بھ أَرْ مَدَ،<br />
فبصَقَ في عینَیْھِ، ودفعَ الر َّ ایةَ إلیھ، ففتَحَ اللھُ علیھ" (4) .<br />
ولم َّا نزلت ھذه الآیة: [فقُلْ تعالوا نَدْعُ أبناءَنا وأبناءَكُم ونساءَنا<br />
ونِساءَكُم وأنفُسَنا وأنفُسَكُم] آل عمران:<br />
-τ<br />
ε<br />
ε<br />
374
عن ابن عُمرَ ، قال: كنا نقولُ ورسولُ اللھِ ε حي ٌّ: أَفضَلُ أَم َّةِ النبيّ ε ِ<br />
بعدَه: أبو بكرٍ ، ثم َّ عُمرُ ، ثم َّ عُثمانُ(1) .<br />
وفي "صحیح البخاري" قول عبد الر َّ حمن بن عوف لعليّ ٍ رضي اللھ<br />
عنھما: إنّ ِي قد نظرتُ في أمرِ الناسِ فلم أرَ ھم یَعْدلونَ بعثمان.<br />
قال أیوبُ الس َّخْتیاني: مَنْ لم یُقَدّ ِمْ عثمانَ على عليّ ٍ، فقد أزرى<br />
بالمھاجرین والأنصار.<br />
قولُھ: "وأَن َّ العشْرَةَ الذین سَم َّاھم رسولُ اللھِ وبَش َّرَ ھُم<br />
بالجنة، نَشْھَدُ لھم بالجنةِ(2) ، على ما شَھِدَ لھم رسولُ اللھ<br />
وقَوْ لُھُ الحَق َّ، وھُم: أَبو بكرٍ ، وعمرُ، وعثمانُ، وعلي ٌّ، وطلْحَةُ،<br />
والز ُّبیرُ، وسَعْدٌ، وسَعیدٌ، وعبدُ الرحمن بنُ عوفٍ ، وأبو عُبیدةَ ب ُن<br />
الجراحِ، وھو أمینُ ھذِهِ الأُم َّةِ، رضي اللھ عنھم أجمعینَ".<br />
ش: عن سعید بن زی ٍد τ، قال: أشھدُ على رسولِ اللھِ أَنّ ِي سمعتُھ<br />
یقول: "عشرةٌ في الجن َّة: النبي ُّ في الجن َّة، وأبو بكرٍ في الجن َّة، وعمرُ في<br />
الجن َّة، وعُثمانُ في الجن َّة، وعلي ٌّ في الجن َّة، وطَلْحَةُ في الجن َّة، والزبیر في<br />
الجن َّة، وسَعْدُ بنُ مالك في الجن َّة، وعبدُ الرحمن بن عَوْ فٍ في الجن َّة"، ولو<br />
شِئْتُ لسم َّیتُ العاشِرَ ، قال: فقالوا: مَنْ ھو؟ قال: سعیدُ بنُ زَ یدٍ، قال: لمَشھَدُ<br />
رَ جلٍ منھم مع رسولِ اللھ ، یَغبَر ُّ منھ وَ جْھُھُ، خیرٌ مِن عَملِ أَحدِكُم ولو<br />
عُمّ ِرَ عُمُرَ نوحٍ<br />
وعن عبد الرحمن بن عوف τ، أَن َّ النب َّي قال: "أبوبكرٍ في الجن َّة،<br />
وعمرُ في الجن َّة، وعلي ٌّ في الجن َّة، وعثمانُ في الجن َّة، وطلحةُ في الجن َّة،<br />
والزبیر بن العوام في الجن َّة، وعبدُ الرحمن بنُ عَوْ فٍ في الجن َّة، وسعیدُ ب ُن<br />
زَ یْدِ بن عمرو بن نُفَیلٍ في الجن َّة، وأبو عبیدةَ بنُ الجر َّ احِ في الجن َّة" (4) .<br />
،ε<br />
ε<br />
ε<br />
ε<br />
375<br />
. (3)<br />
(1 ( صحیح، أخرجھ أبو داود بسندٍ صحیح عنھ، وھو عند البخاري بنحوه.<br />
(2 ( مقتضى ھذا الكلام أننا لا نشھد لغیرھم بالجنة ممن لم یرد فیھم نص، لأن<br />
الجزم للمعینین بأسمائھم بالجنة ھو من خصوصیات النبي ولیس لأحدٍ بعده.<br />
ولو جاز لغیر النبي أن یشھد على أحدٍ بالجنة لما كانت لھذه الشھادة میزة، ولا<br />
للصحابة المبشرین بالجنة خاصیة تمیزھم عن غیرھم..<br />
(3 ( صحیح، رواه أبو داود، وابن ماجة، والترمذي، وغیرھم.<br />
ε<br />
ε<br />
(4 ( صحیح، رواه أحمد وغیره.
ε<br />
وعن <strong>أبي</strong> ھریرة، قال: كانَ رسولُ اللھ ε على حِ رَ اء، ھو وأبو بكرٍ<br />
وعُمرُ وعثمانُ وعلي ٌّ وطلحةُ والزبیر، فتَحَر َّ كَتِ الص َّخْرَ ةُ، فقال رسولُ الل ِھ<br />
: "اھْدَأْ، فما علیك إلا َّ نبي ٌّ أو صِ دّ ِیق أو شھیدٌ"<br />
-مِنْ فضائِل أَبي عُبیدَةَ بنُ الجَر َّاح-<br />
عن أنسِ بنِ مالك، قال: قالَ رسولُ اللھِ : "إن َّ ِ لِكُلّ أُم َّةٍ أَمیناً، وإن َّ أمینَنَا<br />
أی َّتُھا الأُم َّةُ: أَبو عُبیدةَ بنَ الجَر َّ احِ" (2) .<br />
وعن حُذَیْفَةَ بن الیمانِ، قال: جاءَ أَھْل نجرانَ إِلى النبي ε، فقالوا: یا<br />
رسول اللھ، ابعثْ إلینا رجلاً أمیناً، فقال: "لأبعَثَن َّ إلیكم رَ جُلاً أَمیناً ح َّق<br />
أمین"، قال: فاستشرفَ لھا الن َّاسُ ، قال: فبعثَ أبا عبیدَةَ بن الجر َّ اح. متفق<br />
علیھ.<br />
قولُھ: "ومَنْ أَحْسَنَ القولَ في أصحابِ رسولِ الل ِھ<br />
وأَزواجِھِ الطاھراتِ مِنْ كُلّ ِ ی َّاتِھِ المقَد َّسین مِنْ كُلّ<br />
رِ جْسٍ ، فقد برئَ مِنَ النّ ِفاقِ<br />
،ε<br />
ِ<br />
. (1)<br />
ε<br />
ِ دَنَسٍ ، وذُرّ<br />
." (3)<br />
(1 ( رواه مسلم وغیره.<br />
376<br />
(2 ( متفق علیھ.<br />
( 3 )<br />
یُشیر الشیخ إِلى الشیعة الر َّ وافض، لأنھم عُرِ فوا عن غیرھم بطعنھم وشتمھم<br />
للصحابة ولأزواج النبيِّ ε، وبحقدھم الشدید على أَھْل الس ُّن َّة. وقولھ "برئ من<br />
النفاق"، لأن َّ النص َّ د َّل -كما تقدم- أن َّ حبھم دین وھو من الإیمان، وبغضھم<br />
من النفاق، وبالتالي فإنھ لا یجتمع ادعاء حب الدین، وبغض مَن نقل إلینا ھذا<br />
الدین مباشرة عن النبيِّ ε إلا َّ في منافق زندیق صریح النفاق، فكیف یدعي حُ َّب<br />
الشيء ثم َّ یُظھر ضده ونقیضھ في آن واحد..؟!<br />
وإلى جانب ذلك فإن َّ الطعن بالصحابة الكرام، وبأزواج النبي الطاھرات،<br />
فیھ طعن بمربیھم ومعلمھم وھو النبي ε، وكأن َّ لسان حالھم یقول: رجل ھؤلاء<br />
ھم أصحابھ فھو لا یعدو أن یكون مثلھم، والصاحب یُعرف بصاحبھ..<br />
وكذلك فإن طعنھم للصحابة ولأزواج النبيِّ ε، فیھ تكذیب Υ الذي أنزل في<br />
كتابھ رضاه عنھم، وأمر بحبھم وموالاتھم..<br />
لذا كانَ شتم الصحابة وبغض نساء النبي نفاقاً صریحاً لا یعلوه نفاقاً.<br />
قال ابن تیمیة في الصارم: من سب َّھم سباً لایقدحُ في عدالتھم ولا في دینھم،<br />
مثل وصف بعضھم بالبخل، أو الجبن، أو قلة العلم، أو عدم الزھد، ونحو ذلك<br />
ε<br />
ε
ش: في "صحیح مسلم"، عن زید بنِ أرقم، قال: قام فینا رسولُ اللھ ε<br />
خطیباً بماءٍ یُدعى: خُم َّاً(1) بین مك َّةَ والمدینةِ، فقال: "أم َّا بَعْدُ، أَی ُّھا الن َّاسُ ، إنما<br />
أنا بشَرٌ یوشِكُ أَنْ یأتیني رسولُ رَ بّ ِي ، فأجیبُ ربي، وإنّ ِي تارِ كٌ فیكم<br />
ثَقَلینِ: أَو َّ لُھُما كِتابُ اللھِ، فیھِ الھدى والن ُّورُ ، فَخذوا بكتابِ اللھِ واستَمْسِكُوا<br />
بھ" فَحَث َّ على كِتابِ اللھِ ورَ غ َّبَ فیھ، ثم َّ قال: "وأھلُ بیتي، أُذَكّ ِرُ كُمُ اللھَ في<br />
أَھْل بیتي، ثلاثاً" (3) .<br />
(2)<br />
فھذا ھو الذي یستحق التأدیب والتعزیر، ولا نحكم بكفره بمجرد ذلك، وعلى<br />
ھذا یحمل كلام من لم یكفرھم من أَھْل العلم.<br />
وأما من جاوز ذلك إِلى أن زعم أنھم ارتدوا بعد رسول اللھ علیھ الصلاة<br />
والسلام إلا َّ نفراً قلیلاً لا یبلغون بضعة عشر نفساً، أو أنھم فسقوا عامتھم، فھذا<br />
لا ریب أیضاً في كفره، لأنھ كذب لما نصھ القرآن في غیر موضع: من<br />
الرضى عنھم والثناء علیھم، بل من یشك في كفر مثل ھذا فإن كفره متعین،<br />
فإن مضمون ھذه المقالة أن نقلة الكتاب والس ُّن َّة كفار أو فساق، وأن ھذه الآیة<br />
التي ھي [كنتم خیر أمة أخرجت للناس]، وخیرھا ھو القرن الأول، كان<br />
عامتھم كفاراً أو فساقاً، ومضمونھا أن ھذه الأمة شر الأمم، وأن سابقي ھذه<br />
الأمة ھم شرارھا، وكفر ھذا مِم َّا یعلم بالاضطرار من دین الإسلام. ولھذا تجد<br />
عامة من ظھر علیھم شيء من ھذه الأقوال، فإنھ یتبین أَن َّھ زندیق ا-ھ.<br />
وقال القاضي عیاض في الشفا (2/<br />
377
وخَر َّ جَ البُخاري ُّ عن <strong>أبي</strong> بكرٍ الصدیق τ، قال: ارقُبوا محم َّداً في أَھْل<br />
بیتھِ(1) .<br />
قولُھ: "وعُلماءُ الس َّلفِ مِنَ الس َّابقین، ومَنْ بَعْدَھُم مِنَ التابعینَ<br />
-أھْلِ الخیْرِ والأثرِ ، وأھْلِ الفِقْھِ والن َّظَ ِر- لا یُذْكَرونَ إلا َّ بالجمیل،<br />
ومَنْ ذَكَرَھُمْ بِسُوءٍ ، فھو على غیرِ الس َّبیلِ(2) ".<br />
ش: قال تعالى: [ومَنْ یُشاقِقِ الرسولَ مِنْ بعدِ ما تَبی َّنَ لھ الھُدى ویت َّبع<br />
غیرَ سبیلِ المؤمنین نُوَ لّ ِھِ ما تَول َّى ونُصْلِھِ جَھن َّمَ وساءتْ مصیراً] (3)<br />
النساء:<br />
378
جَعَلَھُم اللھُ بمنزلَةِ الن ُّجومِ ، یُھدَى بھم في ظلماتِ ِ البَرّ والبحرِ ، فإن َّھم خلفاءُ<br />
الرسولِ من أُم َّتھِ، والمحیونَ لِما ماتَ من سنتھِ(1) .<br />
فلھم الفَضْلُ علینا والمن َّةُ بالس َّبقِ، وتبلیغِ ما أُرْ سِلَ بھ الرسولُ إلینا،<br />
وإیضاحِ ما كان منھ یَخْفى علینا، فَرضيَ اللھ عنھم وأرضاھم. [رَب َّنا اغْفِرْ<br />
لنا ولإخوانِنا الذین سَبقونا بالإیمانِ ولا تَجْعَلْ في قلوبِنا غِلا للذینَ آمنوا<br />
ربنا إنكَ رَؤوفٌ ر َّحیمٌ] الحشر:<br />
ε<br />
379
ومنھم مَنْ یظن أَن َّھ قد صار أَفضل من الأنبیاءِ!! ومنھم من یقول: إ َّن<br />
الأنبیاءَ والرسلَ إنما یأخذون العلْمَ باللھ من مِشكاةِ خاتَمِ الأولیاء!! وید َّعي<br />
لنفسھِ أَن َّھ خاتمُ الأولیاءِ!!<br />
كما قال ابن عربي (1) :<br />
مقام النبوة في بَرزخٍ فُوَ یْقَ الر َّ سولِ ودونَ الوَ لي!!<br />
قال أبو عثمان النیسابوري: مَنْ أم َّرَ الس ُّن َّة على نفسھِ قولاً وفِعلاً، نط َق<br />
بالحِ كمةِ، ومَن أَم َّرَ الھوى على نفسِھِ، نَطَقَ بالبدعَةِ.<br />
بأسره، وإن رسولَ اللھ ε صی َّر ذلك كلھ عند أَمیر المؤمنین υ. فقال لھ رجلٌ:<br />
یا ابن رسول اللھ فأمیر المؤمنینَ أعلم أَم بعض النبیین؟ فقال أبو جعفر υ:<br />
اسمعوا ما یقول؟! إن َّ اللھ یفتح مسامعَ ما یشاء، إني حدثتھ أَن َّ اللھَ جمعَ لمحم ٍد<br />
ε علم النبیین وأن َّھ جمع ذلك كلھ عند أمیر المؤمنین υ، وھو یسألني أھو أعلم<br />
أم بعض النبیین؟!<br />
وقال أبو عبد اللھ (1/ υ<br />
380
قولُھ: "ونؤمِنُ بما جاءَ مِن كراماتھم، وصَح َّ عن الثّ ِقاتِ مِنْ<br />
روایاتِھم".<br />
ش: المعجزةُ في الل ُّغةِ تَعُم ُّ كُل َّ خارِ قٍ للعادةِ، وكذلك الكرامةُ في عُرْ ِف<br />
أئم َّةِ أَھْل العلمِ المتقدمینَ ، ولكن كثیرٌ مِنَ المتأخرین ِ یُفَرّ قُون في الل َّف ِظ<br />
بینھما، فیجعلونَ المعجزة للنبيّ ِ والكرامَةَ للولي، وجماعھما الأمرُ الخارِ قُ<br />
للعادةِ.<br />
-مَرَد ُّ الإعجازِ إِلى اللھِ وَ حْدَه-<br />
صِ فاتُ الكمالِ ترجِ عُ إِلى ثلاثةٍ: العلمُ، والقدرةُ، والغنى، وھذه الثلاثةُ لا<br />
تَ صْلُحُ على وَ جْھِ الكمال إلا َّ وحدَهُ، فإن َّھ الذي أَحاطَ ِ بكلّ شيءٍ عِلْماً، وھو<br />
على ِ كُلّ شيءٍ قدیر، وھو غني ٌّ عن العالمین، ولھذا أمرَ النب َّي أنْ یبرأَ مِنْ<br />
دَعْوى ھذه الثلاثة بقولھ: [قُلْ لا أقولُ لكم عِندي خزائنُ اللھ ولا أعلمُ الغیبَ<br />
ولا أقولُ لكم إني مَلَكٌ إن أت َّبعُ إلا َّ ما یُوحى إل َّي] الأنعام:<br />
ε<br />
381
-إذا صَح َّ الدینُ، حَصَلَت الكرامةُ-<br />
إن َّ الدینَ إذا صَح َّ عِلماً وعملاً، فلا بد َّ أنْ یوجبَ خَرْ ق العادَةِ، إذا احتاجَ<br />
إِلى ذلك صاحِ بھ، قال تعالى: [ومَنْ یَت َّقِ اللھَ یجعل لھ مَخْرَجاً، ویَرْ زُقْھُ مِنْ<br />
حیثُ لا یحتسِبُ [ الطلاق: [إنْ تت َّقوا اللھَ یَجْعلْ لكم فُرْ قاناً] الأنفال:<br />
.3-2<br />
382
وفراسةٌ ری َّاضیة: وھي التي تحصل بالجوعِ والس َّھر والتخلّ ِي، وھذه<br />
فِراسَةٌ مشتركة بین المؤمن والكافر، ولا تدُل ُّ على إیمانٍ ولا على ولایَةٍ،<br />
وھي مِنْ جنسِ فِراسَةِ الولاةِ، وأصحابِ عبارَ ة الر ُّ ؤیا ونحوھم.<br />
وفراسةٌ خَلْقی َّةٌ: وھي التي صَن َّفَ فیھا الأطباءُ وغیرُ ھم، واستدل ُّوا بالخَلْ ِق<br />
على الخُلُق، لِما بینھما مِنَ الارتباط.<br />
قولُھ: "ونؤمِنُ بأَشْراطِ الس َّاعةِ: مِنْ خروجِ الد َّجالِ، ونزولِ<br />
عیسى ابنِ مَریمَ علیھِ الس َّلامُ مِن السماءِ، ونؤمنُ بطلوعِ الشمس<br />
مِن مغربھا، وخروج داب َّة الأرضِ مِنْ موْ ضِ عھا".<br />
ش: عن عَوفِ بن مالكٍ الأ ْشجَعيّ ِ، قال: أتیتُ النب َّي في غَزوَ ةِ تَبوكٍ ،<br />
وھو في قُب َّةٍ من أَدَمٍ (1) . فقال: "اعْدُدْ سِت َّاً بینَ یدي الس َّاعَةِ: موْ تي، ثم َّ فَتْحُ<br />
بیت المقدس، ثم َّ مُوْ تانٌ (2) یأخذُ فیكم كقُعاص (3) الغنمِ ، ثم َّ استِفاضَةُ المالِ حت َّى<br />
یُعْطى الر َّ جلُ مِئَةَ دینارٍ فیَظل ُّ ساخِ طاً، ثم َّ فتنة لا یَبْقى بیتٌ مِنَ العربِ إلا َّ<br />
دَخَلَتْھُ، ثم َّ ھُدنَةٌ تكونُ بینكم وبین بني الأصفر، فیغدرونَ فیأتونَكُم تَحْتَ<br />
ثمانینَ غایَةً، تحت ِ كلّ غایةٍ اثنا عَشَرَ أَلفاً"<br />
وعن حُذَیفةَ بن أَسیدٍ، قال: اط َّلعَ النب ُّي ε علینا ونحن نتذاكرُ الس َّاعة،<br />
فقال: "إن َّھا لَنْ تقومَ حتى ترون قبلھا عَشْرَ آیاتٍ: الد ُّخانُ(5) ، والد َّجالُ،<br />
ε<br />
. (4)<br />
وعن <strong>أبي</strong> سعید مرفوعاً قال: قال رسول اللھ ε: "اتقوا فراسة المؤمن فإنھ ینظر<br />
بنور اللھ" ثم َّ قرأ النبي [إن في ذلك لآیات للمتوسمین]. وقال<br />
فراسة المؤمن فإنھ ینظر بنور اللھ، وبتوفیق اللھ". وعن أنس بن مالك قال: قال<br />
النبي ε: "إن عباداً یعرفون الن َّاس بالتوسم". (عن تفسیر ابن كثیر).<br />
الأدم: الجلد المدبوغ المنزوع عنھ لحمھ وشحمھ.<br />
بضم المیم وسكون الواو، قال القزاز: ھو الموت. وقال غیره الموت الكثیر<br />
الوقوع. انظر "فتح الباري":<br />
القعص: أن یُضْرَ ب الإنسان فیموت مكانھ. یُقال قعصْتُھ وأقعصتُھ إذا قَتَلْتَھ<br />
سریعاً. وقعاص الغنم: داء یأخذ الغنم لا یُلبثُھا أن تموت. "النھایة <strong>لابن</strong> كثیر".<br />
أخرجھ البخاري.<br />
(5 ( عن <strong>أبي</strong> مالك الأشعري τ، قال: قال رسول اللھ ε: "إن َّ ربكم أنذركم ثلاثاً:<br />
الدخان یأخذ المؤمن كالزكمة، ویأخذ الكافر فینتفخ حتى یخرج من كل مسمع<br />
منھ، والثانیة الدابة، والثالثة الدجال". رواه الطبراني، قال ابن كثیر: إسناده جید.<br />
ومثل ھذا قال عدد من الصحابة كعلي، وعبد اللھ بن عمر، و<strong>أبي</strong> سعید الخدري<br />
ε: "احذروا<br />
383<br />
.32/6<br />
:ε<br />
( 1 )<br />
( 2 )<br />
( 3 )<br />
( 4 )
والد َّاب َّةُ، وطُلوعُ الش َّمسِ مِنْ مغربھا، ونُزول عیسى ابن مریمَ، ویأجوجُ<br />
ومأجوجُ، وثلاثةُ خُسوفٍ (1) : خَسْفٌ بالمشرقِ، وخَسْفٌ بالمغربِ، وخَسْفٌ<br />
بجزیرة العرب، وآخِ رُ ذلك نارٌ تَخْرجُ مِنَ الیمن تَطرُ دُ الناسَ إِلى<br />
مَحشَرِ ھم (2) " مسلم.<br />
وعن ابن عمرَ قال: ذُكِرَ الد َّج َّالُ عِنْدَ النبيّ ε، ِ فقال: "إن َّ اللھَ لا یَخفَى<br />
علیكم، وإن َّ اللھَ لیسَ بأَعْوَ رَ ، وأشارَ بیدِهِ إِلى عَیْنِھِ، وإن َّ المسیحَ الد َّجالَ<br />
أَعْورُ عَیْنِ الیُمْنى، كأن َّ عَیْنَھُ عِنَبَةٌ طافیةٌ(3) " (4) .<br />
وعن أنسِ بن مالِكٍ ، قال: قال رسول اللھ ε: "ما مِنْ نبيّ ٍ إلا َّ أنذَرَ قَوْ مَھُ<br />
الأَعْوَ رَ الد َّج َّال، أَلا إن َّھ أعْورُ ، وإن َّ رَ ب َّكُم لیسَ بأَعْورَ ، ومكتوبٌ بینَ عینیھ<br />
كَ فَ رَ " (5) ، فَس َّرَ هُ في روایة: "أي: كافِر (6) ".<br />
وغیرھم. انظر تفسیر ابن كثیر عند تفسیره لقولھ تعالى: [فارتقب یوم تأتي<br />
السماءُ بدخان مبین. یَغْشى الن َّاسَ ھذا عذابٌ ألیم] الدخان:<br />
(1 ( خسَفَت الأرض، خَسْفاً وخُسُوفاً: غارت بما علیھا. ویقال: خَسَفَ اللھُ<br />
الأرضَ : غی َّبھُم فیھا. وفي التنزیل <strong>العز</strong>یز: [فخَسَفْنا بھِ وبداره الأرضَ<br />
الوسیط).<br />
(2 ( والمحشر یكون یومئذٍ في الشام، كما في قولھ ε: "الشام أرض المحشر<br />
والمنشر". وعن معاویة القشیري قال: قلت یارسول اللھ أین تأمرني؟ فقال: "ھا<br />
ھنا" وأومأ بیده نحو الشام. قال: "إنكم محشورون رجالاً وركباناً ومُجْرَ ون على<br />
وجوھكم". أخرجھ أحمد وغیره، وكلا الحدیثین صَح َّحھما الشیخ ناصر في<br />
تحقیقة لأحادیث فضائل الشام للربعي، فانظره.<br />
(3 ( طافیة: أي بارزةٌ.<br />
(4 ( متفق علیھ.<br />
(5 ( متفق علیھ.<br />
(6 ( ھذه الكلمة المكتوبة بین عینیھ، یقرأھا مَن یحسن القراءة ومن لا یقرأ من<br />
المسلمین، ولعل الحكمة من ذلك، حتى لا یخفى كفره على أحد، وحتى لا<br />
یختلف على كفره اثنان، وحتى لا ینبري وقتھا مشایخ الإرجاء فیتأو َّ لون كفره<br />
إِلى الكفر العملي أو الكفر الأصغر، كما یفعلون ذلك -في زماننا- مع طواغیت<br />
لا یقل كفرھم عن كفر المسیح الدجال!!<br />
وقد جاءت أحادیث صحیحة عدة في الدجال، منھا ما رواه مسلم في كتاب<br />
الفتن، عن <strong>أبي</strong> سعید الخدري قال: قال رسول اللھ ε: "یخرج الدجال،<br />
]. (المعجم<br />
.11-10<br />
384<br />
τ
وعن <strong>أبي</strong> ھریرة، قال: قال رسول اللھ ε: "والذي نفسي بیدهِ لَیُوشِكَن َّ أن<br />
یَنْزِ لَ فیكم ابنُ مریمَ حكَماً عَدْلاً، فیكْسِرُ الص َّلیبَ ، یَقْتُلُ الخنزیرَ ، ویضَعُ<br />
الجِ زْ یَةَ(1) ، ویفیض المال حتى لا یقبلھ أحدٌ، حت َّى تكونَ الس َّجْدَةُ خیْراً منَ<br />
الدنیا وما فیھا" (2) . ثم َّ یقولُ أبو ھریرة: اقرؤوا إنْ شِئْتُمْ: [وإنْ مِنْ أَھْل<br />
الكِتابِ إلا َّ لَیُؤمِنَن َّ بھ قبلَ موتھِ ویوم القیامَةِ یكونُ علیھم شَھیداً] النساء:<br />
385
وأم َّا خروج الداب َّةِ وطلوعُ الشمسِ مِنَ المغْربِ، فقال تعالى: [وإذا وقَعَ<br />
القولُ علیھم أَخْرَجنا لھم دَاب َّةً مِنَ الأرضِ تُكلّ ِمُھم أَن َّ الن َّاسَ كانوا بآیاتِنا لا<br />
یوقنونَ] النمل:<br />
386
-<br />
-<br />
ε<br />
الكھانُ ِ والمنَجّمونَ لَیْسوا بشيءٍ<br />
عَنْ عائشةَ، قالت: سُئِلَ رسول اللھ ε عن الكُھ َّان؟ فقال: "لَیْسوا بشيءٍ"،<br />
فقالوا: یارسول اللھِ، إن َّھُم یُحدّ ِثونَ أحیاناً بالشيءِ فیكون حق َّاً؟ فقالَ رسول<br />
اللھ : "تلك الكَلمةُ مِنَ الحَقِّ یَخْطَفُھا الجنّ ِي ُّ فیُقَرْ قِرُ ھا في أُذُنِ وَ لِیّ ِھِ،<br />
فَیَخْلِطُونَ معھا أَكثرَ مِنْ مائَةِ كَذْبَةٍ" (2) .<br />
-كَسْبُ الكاھِنِ<br />
قالَ رسولُ اللھِ ε: "ثَمَنُ الكَلْبِ خَبیثٌ ، ومَھْرُ البَغِيّ ِ خَبیثٌ ، وحُلْوانُ<br />
(1)<br />
(3) حَرَامٌ-<br />
الكاھِن خبیثٌ " (4) .<br />
ویدخلُ في ھذا المعنى ما یُعطاهُ ِ المنجّمُ، وصاحبُ الأَزلامِ التي یُستَقْسَمُ<br />
بھا، مثل الخشبَةِ المكتوبة علیھا "ا ب ج د"، والض َّارب بالحصى، والذي<br />
387<br />
( 1 )<br />
أي: یُرَ دّ ِدُھا.<br />
(2 ( متفق علیھ.<br />
( 3 )<br />
الكاھِنْ : ھو الذي یتكھن ویُخبر عن أمورٍ غیبیة، من غیر طریق شرعي.<br />
ولا شك أن من یدعي لنفسھ خاصیة علم الغیب أَن َّھ كافر لادعائھ خاصیة من<br />
خصوصیات اللھ تعالى وحده.<br />
قال تعالى: [وعنده مفاتیح الغیب لا یعلمھا إلا َّ ھو] الأنعام: [فقل<br />
إنما الغیب ] یونس: [قل لا یعلم من في السماوات والأرض الغیبَ<br />
إلا َّ اللھ] النمل:<br />
قال الشیخ محمد بن عبد الوھاب: الطواغیت كثیرة ورؤوسھم خمسة، منھم:<br />
الذي یدعي علم الغیب من دون اللھ، والدلیل قولھ تعالى: [عالم الغیب فلا یُظھر<br />
59. وقال:<br />
20. وقال:<br />
.65<br />
على غیبھ أحدا] ا-ھ.<br />
ومما یدخل في مسمى الكھانة والكاھن، ضارب الفنجان والكف، والرمل، وكذلك<br />
علم الأبراج والكواكب الذي تُصد َّر بھ الصحف، ووسائل الإعلام المرئیة<br />
وغیرھا، فكل ذلك من الطغیان والكھانة الذي یعتبر ضرب في الغیب الذي لا<br />
یعلمھ إلا َّ اللھ.<br />
(4 ( صحیح، أخرجھ مسلم. وقولھ: "مھر البغي"، ھو ما تأخذه الز َّ انیة على الزنى.<br />
وقولھ: "حلوان الكاھن"، ھو ما یأخذه كأجرٍ على تكھنھ وشعوذتھ. وھو حرام<br />
بالإجماع لما فیھ من أخذ العوض على أمر باطل، والحلوان أیضاً الرشوة، وھو<br />
أیضاً أخذ الرجل مھر ابنتھ لنفسھ. انظر "الفتح": 498/4.
-<br />
یخط ُّ في الر َّ ملِ، وما یُعطاهُ ھؤلاء حَرَ امٌ، وقد حَكى الإجماعَ على تحریمھ<br />
غیرُ واحدٍ مِنَ العلماء.<br />
وعن عائِشةَ رضي اللھ عنھا قالَتْ : كانَ لأبي بكر غُلامٌ یَأْكُلُ مِنْ<br />
خَرَ اجھ، فجاءَ یوماً بشيءٍ، فأكَلَ منھ أبو بكرٍ ، فقال لھ الغُلامُ: تَدْري مِم َّ ھذا؟<br />
قال: وما ھو؟ قال: كُنتُ تَكَھ َّنْتُ لإنسانٍ في الجاھلیة وما أُحْسِنُ الكِھانَةَ، إلا َّ<br />
أَنّ ِي خَدَعْتُھ، فَلَقیَني، فأعطاني بذلك، فھذا الذي أَكَلْتَ منھ، فأدْخلَ أَبو بكرٍ<br />
یَدَهُ، فقاءَ كُل َّ شيءٍ في بَطْنِھِ" (1) .<br />
التنجیمُ وادّ ِعاء أَن َّ للنّ ِجومِ أَثَراً!!<br />
صناعَةُ التنجیم -التي مضمونھا الإحكامُ والتأثیرُ ، وھو الاستدلالُ على<br />
الحوادِثِ الأرضیة بالأحوال الفلكیة، أو التمزیجُ بینَ القوى الفلكیة والغوائل<br />
الأرضیة-: صِ ناعةٌ مُحَر َّ مَةٌ بالكتابِ والس ُّن َّة.<br />
قال تعالى: [ولا یُفلِحُ الساحِ رُ حیثُ أتى] طھ:<br />
-<br />
388
( 1 )<br />
جمھورُ العلماء یُوجِ بونَ قَتْلَ الس َّاحرِ ، كما ھو مذھبُ أَبي حنیفة ومالك<br />
وأحمد في المنصوص عنھ، وھذا ھو المأثورُ عن الص َّحابةِ، كعمر وابنھ،<br />
وعثمان وغیرھم ψ. ثم َّ اختلفَ ھؤلاء: ھل یُستتاب أم لا؟ وھل یكفر<br />
بالسّ ِحرِ ؟ أم یُقتل لِسَعیھ في الأرض الفسادِ؟<br />
قالت طائفةٌ: إنْ قَتَلَ بالسحر قُتِلَ، وإلا َّ عوقب بدون القتل، إذا لم یكن في<br />
قولِھ وعملِھ كفرٌ ، وھذا ھو المنقولُ عن الشافعي، وھو قولٌ في مذھب أحمد<br />
رحمھما اللھ (1) .<br />
قال ابن تیمیة في الفتاوى )<br />
389
وات َّفقوا كُل ُّھم على أَن َّ ما كانَ مِنْ جنسِ دَعْوة الكواكبِ الس َّبعةِ، أو<br />
غیرھا أو خِ طابِھا، أو الس ُّجودِ لھا، والت َّقَر ُّ بِ إلیھا بما یُناسبُھا مِنَ اللباسِ<br />
والخواتم والبخ ُّورِ ونحو ذلك، فإن َّھ كُفْرٌ ، وھو مِنْ أَعْظمِ أبوابِ الشركِ ،<br />
یجبُ غَلقُھ وسَد ُّه.<br />
وات َّفقوا كُل ُّھم أیضاً على أَن َّ كُل َّ رُ قْیَةٍ، أو قَسَمٍ فیھ شِرْ كٌ باللھ، فإن َّھ لا<br />
یجوز التكلم بھ، وإِن أَطاعَتھُ بھ الجِ ن ُّ أو غیرھم، وكذلك كُل ُّ كلامٍ فیھ كفر لا<br />
یجوزُ التكلم بھ، وكذلك الكلامُ الذي لا یُعرَ فُ معناهُ لا یُتكَل َّمُ بھ، لإمكانِ أَن<br />
یكونَ فیھ شِركٌ لا یُعرَ فُ . ولھذا قال النبي ε: "لا بأسَ بالر ُّ قى ما لَمْ تَكُنْ<br />
شِرْ كاً" (1) .<br />
ولا یجوزُ الاستعاذَةُ بالجنّ ِ، فقَدْ ذم َّ اللھُ الكافرین على ذلك، فقال تعالى:<br />
[وأَن َّھ كانَ رجالٌ من الإنسِ یَعوذونَ برجالٍ من ِ الجنّ فزادوھم رَھَقاً الجن:<br />
6. قالوا: كان الإنسي ُّ إذا نَزَ لَ بالوادي یقول: أعوذُ بعظیمِ ھذا الوادي مِنْ<br />
سُفَھائِھ، فیبیتُ في أَمْنٍ وجوارٍ حتى یُصبح، [فزادوھم رَھَقاً] یعني: الإنسَ<br />
ِ للجنّ ، باستعاذَتِھم بھم، رھقاً أي إثماً وطغیاناً وجَرَ اءَةً وشَر َّ اً، وذلك، أنھم<br />
قالوا: قَد سُدْنا الجن َّ والإنسَ ! فالجن ُّ تُعاظِمُ في أَنْفُسِھا، وتزداد كُفراً إذا<br />
[<br />
الثاني، أن اللھ سبحانھ قد صرح في كتابھ بأنھ كفر فقال: [وما كفر سلیمان]<br />
بقول السحر، [ولكن الشیاطین كفروا] بھ وبتعلیمھ. وھاروت وماروت یقولان:<br />
[إنما نحن فتنة فلا تكفر] وھذا تأكید للبیان ا-ھ.<br />
قلت: لا یتأتى السحر إلا َّ بالشرك والكفر، من استغاثة بشیاطین الجن<br />
وتعظیمھم ورجائھم، وزعم التأثیر بالأشیاء، والإتیان بما یعتبر من خوارق<br />
العادة وغیر ذلك، ومن فعل السحرة المعھود علیھم الاستھانة بكلام اللھ تعالى<br />
استرضاءً لشیاطینھم، قال ابن تیمیة فیھم في الفتاوى )<br />
390
عاملتھا الإنسُ بھذه المعاملة: [ویومَ نَحْشُرُھُم جمیعاً ثم َّ نقولُ للملائكةِ<br />
أَھؤلاءِ إیاكُم كانوا یَعبدونَ. قالوا سُبحانَكَ أَنتَ ولی ُّنا مِنْ دونھم بل كانوا<br />
یعبدون الجن َّ أكثرُھم بھم مؤمنونَ] سبأ:<br />
391
قال تعالى: ش:<br />
[واعتصموا بحبلِ اللھِ(1) جمیعاً ولا تفر َّقوا] آل عمران:<br />
392
[<br />
-<br />
"أعوذ بوجھكَ " [أو یَلبِسَكُم شیعاً ویُذیقَ بعضَكُم بأسَ بعضٍ قال: "ھاتانِ<br />
أھوَ نُ" (1) . فدل َّ على أَن َّھ لابد َّ أن یَلبِسَھُمْ شیَعَاً، ویُذیقَ بعضھم بَأسَ بعضٍ .<br />
وجوبُ رَد ُّ النّ ِزاع إِلى اللھِ ورسولھ<br />
الأمور التي تتنازَ عُ فیھا الأم َّةُ، في الأصولِ والفروع، إذا لم تُردّ إِلى اللھِ<br />
والرسولِ لم یتبی َّن فیھا الحق ُّ، بَلْ یَصیرُ فیھا المتنازعونَ على غیرِ بینَةٍ مِ ْن<br />
أَمْرِ ھم، فیقعُ بینھم الاختلافُ المذموم، ویبغي بَعضُھم على بعضٍ ، إم َّا<br />
بالقولِ مثل تكفیرِ ه وتفسیقِھ، وإم َّا بالفعلِ مثل حَبْسِھ وضَرْ بِھ وقَتْلِھ (2) !<br />
-<br />
393<br />
ε<br />
-1<br />
-3<br />
( 1 )<br />
قال الحافظ العراقي: وذكر الجن َّة إنما ھو للتنبیھ بھ على الأمور العظام لا<br />
للتخصیص، فلا یُسأل بوجھھ في الأمور الدنیئة، بخلاف الأمور العظام تحصیلاً<br />
أو دفعاً، كما یشیر إلیھ استعاذة النبي بھ ا-ھ.<br />
أخرجھ البخاري. قالت: رغم تضافر الأدلة من الكتاب والس ُّن َّة التي تحض<br />
على وجوب الاجتماع والاتحاد، ونبذ الفرقة والخلاف، فإنھ ینبري من<br />
المسلمین من یقول: إن الإسلام یُقر بتعدد الأحزاب السیاسیة، بل ویأمر بھا!!،<br />
وبعضھم من قیدھا بقید الإسلام، وبعضھم من تركھا دعوة مفتوحة -لجمیع<br />
الأحزاب على اختلاف عقائدھا ومشاربھا وانتماءاتھا -من دون أي قید أو<br />
شرط..!!.<br />
(2 ( عدم رد التنازع إِلى اللھ والرسول؛ أي الكتاب والس ُّن َّة، یترتب علیھ المزالق<br />
والمخاطر التالیة:<br />
فقدان الحكَم والمرجعیة التي یحتكم إلیھا الن َّاس في منازعاتھم ومشاكلھم،<br />
والكفیلة بایجاد الحلول لجمیع المنازعات الدینیة والدنیویة، وھذا مؤداه إِلى<br />
استمرار الفرقة والمنازعات من دون ٍ حلّ أو معالجة.<br />
2- عدم رد المنازعات إِلى اللھ والرسول یستلزم بالضرورة ردھا إِلى<br />
الطاغوت، وھو كل حكم غیر حكم اللھ ورسولھ.. إذ لا بد للناس من حكَم.<br />
إن عدم رد التنازع إِلى اللھ والرسول، یستلزم انتفاء الإیمان والخروج<br />
من الملة، كما قال تعالى: [فلا وربك لا یؤمنون حتى یحكموك فیما شجر بینھم<br />
ثم َّ لا یجدوا في أنفسھم حرجاً مِم َّا قضیت ویُسلموا تسلیماً] النساء:<br />
وقال تعالى: [یا أیھا الذین آمنوا أطیعوا اللھ وأطیعوا الرسول وأولي الأمر<br />
منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إِلى اللھ والرسول إن كنتم تؤمنون باللھ<br />
والیوم الآخر] النساء:<br />
.65<br />
.59
ِ<br />
-اختلافُ التنوّ عِ لا یستدعي التنازع والش َّحناء-<br />
اختلافُ التنوِّعِ على وجوهٍ، منھ ما یكونُ كُل ُّ واحدٍ مِنَ القَوْ لین أو الفعلین<br />
حَق َّاً مشروعاً، كما في القراءات التي اختلفَت فیھا الص َّحابة ψ، حتى<br />
زَ جَرَ ھُم النبي<br />
ومثلُھُ اختلافُ الأنواعِ في صفةِ الأذانِ، والإقامةِ، والاستفتاحِ، ومَحلّ<br />
سجود الس َّھو، والت َّشھ ُّدِ، وصلاة الخَوفِ ، وتكبیرات العید، ونحو ذلك، مِم َّا<br />
قَدْ شُرِ عَ جَمیعُھُ، وإنْ كانَ بَعْضُ أنواعِھ أرْ جَحُ أو أفْضَلَ.<br />
ثم َّ تَجِ دُ لِكثیرٍ مِنَ الأُم َّةِ في ذلك مِنَ الاختلافِ ما أَوجبَ اقتتالَ طوائفَ<br />
منھم على شَفْعِ الإقامةِ وإیتارھا ونحو ذلك!! وھذا عینُ المحر َّ ِم (2) .<br />
ومنھ ما یكون كُل ٌّ من القَوْ لَین ھو في معنى القول الآخر، لكن العبارتانِ<br />
مُختلِفَتان. ثم َّ الجھلُ أو الظ ُّلمُ یحمِلُ على حَمْدِ إحْدى المَقَالتین، وذَمّ<br />
والاعتداءِ على قائِلھا!<br />
بَلْ أَكثَرُ الاختلافِ الذي یَؤولُ إِلى الأھواءِ بینَ الأُم َّةِ، ھو من ھذا النوعِ،<br />
وكذلك إِلى سفكِ الدّ ِماء، واستباحةِ الأَموالِ والعداوَ ةِ والبغضاءِ، لأن َّ إحدى<br />
الطائفتینِ لا تَعْتَرفُ للأخرى بما معھا مِنَ الحقِّ، ولا تُنْصِ فُھا، بل تزیدُ على<br />
ما مع نَفْسِھا مَنَ الحقِّ زیاداتٍ مِنَ الباطلِ، والأُخرى كذلك. ولذلك جَعَ َل<br />
اللھُ مَصْدَرَ هُ البغيَ، في قَوْ لھ: [وما اختَلَفَ فیھ إلا َّ الذینَ أوتوهُ مِنْ بعدِ ما<br />
جاءَتْھُمُ البیّ ِناتُ بَغْیاً بَیْنَھم والبغي مجاوزَ ةُ الحدّ<br />
ِ الأُخرى<br />
.ِ<br />
ε، وقال: "كلاكُما مُحْسِنٌ" (1) .<br />
394<br />
[<br />
قال ابن القیم في الأعلام (50/1): جعل ھذا الرد من موجبات الإیمان<br />
ولوازمھ، فإذا انتفى ھذا الرد انتفى الإیمان ضرورة انتفاء الملزوم لانتفاء<br />
الآخر ا-ھ.<br />
4- عدم رد التنازع والخلافات إِلى اللھ وإلى الرسول، یستلزم حصول<br />
الظلم والبغي، وسفك الدماء، وانتھاك الحرمات، وضیاع الحقوق.. وھذا ھو<br />
المشاھَد في زمن غیاب حكم الشریعة، وتحكیم شریعة الغاب بدلاً عنھا.<br />
( 1 )<br />
أخرجھ البخاري من حدیث ابن مسعود.<br />
(2 ( لأن اجتماع الكلمة ووحدة الصف مقصد عظیم من مقاصد الشریعة، لا یُھدر<br />
أو یُفَر َّ طُ بھ من أجل اختلافات حول مسائل ھي دونھ في الأھمیة، ولا أرى<br />
مقصداً یعلو مقصد الاجتماع ووحدة الصف سوى مقصد التوحید غایة الغایات،<br />
فإن تعارض مقصد الاجتماع والوحدة مع مقصد التوحید، قُدم مقصد التوحید<br />
الذي لا یعلوه مقصد، ویھون في سبیلھ كل مقصد.
ε<br />
-<br />
وقالَ رسول اللھ ε: "ذَروني ما تَركْتكُم، فإن َّما ھَلَكَ مَنْ كانَ قَبْلكُم بكَثرَ ةِ<br />
سُؤالِھِم واختلافھم على أَنبیائھم، فإذا نھیتكُم عن شيءٍ فاجتنبوه، وإذا أمرتُكُم<br />
. فأمَرَ ھم بالإمساكِ عَم َّا لم یُؤْ مَرُ وا بھ، مُعَلّ ِلاً<br />
بأمرٍ ، فأْتوا منھ ما استطعتُم"(1)<br />
بأن َّ سَبَبَ ھلاكِ الأو َّ لینَ إن َّما كان كثرة الس ُّؤالِ ثم َّ الاختلافَ على الر ُّ سُ ِل<br />
بالمعصیة.<br />
-ثناءُ الش َّارِ ع خیراً على المختلفینَ اختلافَ تنو ُّ عٍ، إذا لم یَحْصَلْ<br />
بَغْيٌ-<br />
قال تعالى: [ما قَطعْتُم منْ لِینَةٍ(2) أو تركتموھا قائِمةً على أُصولِھا فبإذنِ<br />
الحشر: 5. وقد كانوا اختلفوا في قَطْعِ الأشجارِ ، فقَطَعَ قَوْ مٌ، وتَرَ كَ<br />
آخَرونَ.<br />
وكما في إقرار النبي یومَ بني قُرَ یظَةَ لمن صل َّى العَصْرَ في وقتھا،<br />
ولِمَن أَخّرَ ھا إِلى أنْ وصلَ إِلى بني قریظةَ(4) .<br />
اختلافُ ِ الت َّضادّ لا یَمْنعْ مِنْ إنصافِ المخالِفین<br />
أم َّا اختلافُ التضادّ: فھو القَوْ لانِ المتنافیان، إم َّا في الأصولِ وإم َّا في<br />
الفروعِ، والمصیبُ واحدٌ، والخطْبُ في ھذا أشد ُّ، لأن َّ القولین یتنافیان، لكن<br />
نَجِ دُ كثیراً مِنْ ھؤلاء قد یكونُ القوْ لُ الباطلُ الذي معَ منازِ عھ فیھ حق ٌّ ما، أو<br />
معھ دلیلٌ یقتضي حَق َّاً ما، فَیَرُ د ُّ الحق َّ مَعَ الباطِلِ، حتى یَبقى ھذا مُبطلاً في<br />
البَعْضِ ، كما كانَ الأو َّ لُ مبطلاً في الأَصلِ، وھذا یجري كثیراً لأَھْلِ الس ُّن َّةِ.<br />
-في ھذا الاختلاف، یُمْدَحُ فیھ أَھْلُ الحَقِّ فقط-<br />
-<br />
اللھ] (3)<br />
395<br />
(1 ( متفق علیھ.<br />
( 2 )<br />
قال ابن كثیر: اللین نوع من التمر، وھو جید. قال أَبو عبید: وھو ما خالف<br />
العَجْوَ ة، والبرني مِنَ التمر، وقال ابن جریر: ھو جمیع النخل، ونقلھ عن مجاھد<br />
ا-ھ.<br />
( 3 )<br />
قال ابن عباس: أمروا بقطع النخل فحاك في صدورھم فقال المسلمون: قطعنا<br />
بَعْضاً وتركنا بَعْضاً فلنسألن َّ رسولَ اللھ ھل لنا فیما قطعنا من أجر؟ وھل<br />
علینا فیما تركنا مِن وزر؟ فأنزل اللھ [ما قطعتم من لینَة]. والآیة نزلت في<br />
یھود بني النضیر. انظر تفسیر ابن كثیر.<br />
(4 ( متفق علیھ. أقول: مِنَ الأخطاء الشائعة بین الن َّاس استشھادھم بھذا الحدیث<br />
على جواز اختلاف التضاد!!<br />
ε
قال تعالى: [ولو شاءَ اللھ ما اقْتَتَلَ الذینَ مِنْ بَعْدِھم مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْھُمُ<br />
البیناتُ ولكن اختلَفوا فمِنْھُم م َّن آمَنَ ومِنْھُم مَنْ كَفَ َر] البقرة:<br />
396
ε<br />
الغُلُوِّ والت َّقْصِ یرِ ، وبَیْنَ الت َّشبیھِ والت َّعطیلِ، وبَیْنَ الجَبْرِ والقَدَر،<br />
وبَیْنَ الأَمْنِ والإیاسِ ".<br />
ش: ثَبَتَ عن النبي أَن َّھ قال: "إن َّا مَعَاشِرَ الأنبیاءِ دینُنا واحِ دٌ" (1) . وقولُھ:<br />
تعالى: [ومَنْ یَبْتَغِ غَیرَ الإسلام دیناً فَلَن یُقْبَلَ مِنْھ] آل عمران:<br />
397
قالَ تعالى: [یا أَھْلَ الكتابِ لا تَغلُوا في دینكُم ولا تَقولوا على اللھِ إلا َّ<br />
الح َّق] النساء:<br />
398
-1<br />
تعالى أنْ یُثَبّ ِتَنا على الإیمانِ، ویَخْتِمَ لَنَا بھِ، ویَعْصِ مَنا مِنَ الأَھواءِ<br />
المخْتَلِفةِ، والآراءِ ِ المتَفَرّ قَةِ، والمذاھبِ الر َّدی َّةِ، مِثْلُ المشَبّ ِھَةِ،<br />
والمعتَزلةِ، والجھمیةِ، والجَبْری َّةِ، والقَدَری َّةِ، وغیرھم، مِنَ الذینَ<br />
خالَفوا الجماعَةَ، وحالَفُوا الض َّلالَةَ، ونحنُ مِنْھُم بَراءٌ(1) ، وھم<br />
عندنا ضُلا َّلٌ وأَردِیاءُ، وباللھِ العِصْمَةُ والت َّوفِیقُ".<br />
ش: الإشارَ ةُ بقولھ: "فھذا" إِلى ِ كُلّ ما تَقَد َّم من أَو َّ ل الكتابِ إِلى ھنا.<br />
-تعریف ببعض الفرق الضال َّة-<br />
المُشَبّ ِھَةُ: ھم الذین شَب َّھوا الخالِقَ بالمخلوقِ، كداود الجواربي وأشباھھ.<br />
المُعتزلة: نسبةً إِلى عمرو بن عبید، وواصل بن عطاء، سُم ُّوا بالمعتزل ِة<br />
لاعتزالھِم مَجالِس المسلمین في المسجد. یقوم مذھبھم على خمسة أصول<br />
لَب َّسُوا فیھا الحق َّ بالباطل:<br />
العدْلُ: ستَروا تحتھ نفي القَدَر، وقالوا: كیفَ یخلقُ اللھُ الشر َّ ثم َّ یُعذّ ِب<br />
علیھ؟ فمن لوازِ م العَدْلِ عِنْدَھم نفي خلق اللھِ لل َّش رّ<br />
التوحید: ستروا تحتھ القولَ بخلق القرآن، إذْ لو كان غیْرَ مَخْلوقٍ،<br />
لَزَ مَ تَعد ُّدُ القدماء!!<br />
الوعید: قالوا مَن وعَدَه اللھُ بالنار، فلا بُد َّ أن ینفذ فیھ وعیدَه، فلا<br />
یَغفِرُ لمن یریدُ، ولا یعفو عَم َّن یشاءُ!!<br />
المنزِ لَةُ بین المنزلتین: فعندھم أَن َّ مَن ارتكبَ كبیرَ ةً یَخرجُ من<br />
الإیمان، ولا یدخُلُ الكفرَ ، وھو بینَ المنزلتین!!<br />
!! ِ<br />
-2<br />
-3<br />
-4<br />
(1 ( من لوازم وشروط متابعة الحق التبرؤ من الباطل وأھلھ، إذ لا یجتمع متابعة<br />
الحق مع الرضى أو السكوت على ضده من الباطل، كما قال تعالى: [قد كانت<br />
لكم أسوة حسنة في إبراھیم والذین معھ إذ قالوا لقومھم إنا برءاؤا منكم ومما<br />
تعبدون من دون اللھ كفرنا بكم وبدا بیننا وبینكم العداوة والبغضاء أبداً حتى<br />
تؤمنوا باللھ وحده] الممتحنة: 4. وقال تعالى: [وإذ قال إبراھیم لأبیھ وقومھ<br />
إنني براء مِم َّا تعبدون. إلا َّ الذي فطرني فإنھ سیھدین] الزخرف:<br />
ھذه ھي الأسوة الحسنة التي أمرنا بالاقتداء بھا، وھذه ھي ملة إبراھیم التي لا<br />
یرغب عنھا إلا َّ من سفھ نفسھ: [ومن یرغب عن ملة إبراھیم إلا َّ من سفھ نفسھ]<br />
البقرة:<br />
.27 ،26<br />
399<br />
.130
-5<br />
الأمر بالمعروف: وھو الدعوة إِلى باطلھم ومعتقداتھم. والنھي عن<br />
المنكر، ضَم َّنوه الخروج على أئمة المسلمین بالقتال إذا جَاروا!!<br />
وھم یُقدّ ِمونَ العَقْلَ على الن َّقل، والكتاب والس ُّن َّة عندھم بمنزلةِ الش ُّھو ِد<br />
الزائِدینَ علا النّ ِصابِ (1) !! وإذا استدَل ُّوا بأدِل َّةٍ سَمعی َّةٍ، إن َّما یذكرونھا<br />
، لا للاعتماد علیھا، ومنھم مَنْ یَذْكُرُ ھَا لیبیّ ِن مُوافقَةَ الس َّمعِ<br />
للاعتضادِ بھا (2)<br />
للعقْلِ، ولإیناسِ الناسِ بھا..!!<br />
الجھمی َّة: نسبَةً إِلى جھْمِ بنِ صفوان، أظھرَ نفيَ ِ الصّفات والتعطیل. وقال<br />
بنفي الجن َّة والنار، وأن َّ الإیمانَ ھو المعرفةُ فقط، والكفر ھو الجھلُ فقط،<br />
وأنھ لا فِعْلَ لأحدٍ في الحقیقة إلا َّ وحده، وأن َّ الن َّاس إنما تُنْسَبُ إلیھم<br />
أَفعالُھم على سبیل المجاز!!<br />
الجبریة: أَصْل قولِھم من جھم بن صفوان، وقالوا: إن َّ العَبْدَ مُسَی َّرٌ ، وفعلھ<br />
بمنزلةِ طُولِھ ولونھِ، وھم عكسُ القدری َّة نُفاةُ القدر. فالجبریة غالوا في إثبات<br />
القدر، والقَدَری َّةُ غالُوا في نَفي القدر!!<br />
وقد تقد َّمَ الرد ُّ على مبادئ ھذه الفِرقِ الضال َّةِ كُلّ ِھا.<br />
-سَبَبُ الض َّلالِ العُدولُ عَن صِ راطِ اللھ المستقیم-<br />
سببُ ضلالِ ھذه الفِرقِ وأَمثالھم، عُدولھم عن ِ الصّراطِ المستقیمِ ، الذي<br />
أمرَ نا اللھُ باتّ ِباعِھ، فقال تعالى: [وأن َّ ھذا صِ راطي مُستقیماً فات َّبِعوهُ ولا<br />
تَت َّبِعُوا الس ُّبُلَ فتَفَر َّقَ بِكُمْ عن سبیلِھِ] الأنعام:<br />
400
ِ<br />
لھذا شرعَ اللھ تعالى في الصلاة قِراءَةَ ِ أُمّ القُرآن في ِ كُلّ ركعةٍ، المشتملة<br />
على أَشرَ فِ المطالبِ وأجلّھا، فقد أمَرَ نا اللھُ تعالى أن نقول: [اھدنا الصراط<br />
المستقیمَ. صِ راطَ الذین أنعمتَ علیھم غیرَ المغضوبِ علیھم ولا الضالین]<br />
(1) . وقد ثبت عن النبي أَن َّھ قال:<br />
"الیھود مغضوبٌ علیھم، والنصارى ضال ُّون" (2) .<br />
401<br />
ε<br />
(3)<br />
( 1 )<br />
( 3 )<br />
سبحان ربّ ِك رَبِّ العِز َّة عما یَصِ فُون. وسلامٌ على المرسَلِینَ. والحمدُ ِ<br />
ربِّ العالمینَ<br />
قال ابن جریر في التفسیر: (6/2): إنما وصفھم بأنھم وسط لتوسطھم في<br />
الدین، فلا ھم أَھْل غلوّ فیھ، غلو النصارى الذین غلوا بالترھب، وقِیلھم في<br />
عیسى ما قالوا فیھ، ولا ھم أَھْل تقصیر فیھ تقصیر الیھود الذین بدلوا كتاب<br />
اللھ، وقتلوا أنبیاءھم، وكذبوا على ربھم، وكفروا بھ، ولكنھم أَھْل توسط<br />
واعتدال فیھ، فوصفھم اللھ بذلك إذ كان أحب الأمور إِلى اللھ أوسطھا ا-ھ.<br />
وفي معنى الاستقامة:<br />
قال عمر بن الخطاب τ: أن تستقیم على الأمر والنھي، ولا تروغ روغان<br />
الثعالب.<br />
وقال الحسن: استقاموا على أمر اللھ، فعملوا بطاعتھ، واجتنبوا معاصیھ.<br />
وقال ابن تیمیة: استقاموا على محبتھ وعبودیتھ، فلم یلتفتوا عنھ یمنةً ولا<br />
یسرة.<br />
وقال ابن القیم في مدارج السالكین (105-104/2): فالاستقامة كلمة جامعة،<br />
آخذة بمجامع الدین، وھي القیام بین یدي اللھ على حقیقة الصدق، والوفاء<br />
بالعھد. والاستقامة تتعلق بالأقوال، والأفعال، والأحوال، والنیات، فالاستقامة<br />
فیھا: وقوعھا ، وباللھ، وعلى أمر اللھ.<br />
وسمعت شیخ الإسلام ابن تیمیة یقول: أعظم الكرامة لزوم الاستقامة ا-ھ.<br />
وقال ابن كثیر في التفسیر (29/1): اختلفت عبارات المفسرین من الس َّلَف<br />
والخلف في تفسیر الصراط، وإن كان یرجع حاصلھا إِلى شيء واحد، وھو<br />
المتابعة ولرسولھ ا-ھ.<br />
(2 ( صحیح، رواه الترمذي وغیره.<br />
انتھیت من تھذیبھ والتعلیق علیھ -بفضل اللھ تعالى ومِن َّتھ- صبیحة یومِ<br />
الجمعةِ، في التاسِعِ عشرَ من شھر رمضان المبارك، لِسَنَةِ من ھجرة<br />
النبي المصطفى ε. الموافق للثاني عشرَ من آذار، لِسَنَ ِة میلادي.<br />
1413<br />
1993
وصل َّى اللھ على محمدٍ النبي الأُمي، وعلى آلھ وصحبھ وسل َّم.<br />
كتبھا<br />
عبد المنعم مصطفى عبد القادر حلیمة<br />
أَبو بصیر الطرطوسي<br />
عفا اللھ عنھ وعن أَھْلِ بیتھ ووالدیھ بمنّ ِھِ ورحمتھ<br />
.ε<br />
وقد انتھیت من مراجعتھ، وإجراء بعض التعدیلات علیھ -حذفاً وإضافةً- قبل<br />
إحالتھ للطبع عصرَ یومِ الخمیس، في الثالثِ من شھر ذي الحجة، لِسَنَةِ<br />
1417 من ھجرة النبي المصطفى<br />
راجیاً من اللھ تعالى القبولَ، إن َّھ سمیعٌ قریب مجیب.<br />
402
ھذا ملح ٌق یتضمن ذكر بعض الأسئلة التي تمكن طالب العلم أو القارئ<br />
من تقییم نفسھ، ومعرفة مدى استیعابھ وفَھمھ لمادة الكتاب، كما وتساعد<br />
مدرس المادة في تحدید الأسئلة عند إجراء الاختبارات للطلاب..<br />
وتسھیلاً على الطالب في الرجوع إِلى الجواب، نشیر بجانب كل سؤال<br />
إِلى الصفحة التي یكمن فیھا الجواب.<br />
ماھو السؤال:<br />
أشرفُ العلومِ وأقدسھا؟ ولماذا؟<br />
الجواب: "<br />
403
س8: ما<br />
ذلك.<br />
ھو سبب ضلال<br />
الناس عن الحقِّ والھدى؟ واذكر<br />
دلیلاً على<br />
الجواب: "<br />
404
الجواب: "<br />
405
س<br />
406
س<br />
407
س<br />
408
س<br />
409
س<br />
410
الجواب: "<br />
411
س<br />
412
الجواب: "<br />
413
س<br />
414
الجواب: "<br />
415
س<br />
416
س<br />
417
س<br />
418
س<br />
419
الجواب: "<br />
420
س<br />
421
س<br />
422
س<br />
423
س<br />
424
س<br />
425
س<br />
426
الجواب: "<br />
427
س<br />
428
الجواب: "<br />
429
س<br />
430
س<br />
431
س<br />
432
الجواب: "<br />
-3<br />
-4<br />
الإسلام<br />
الإسلام<br />
بین<br />
بین<br />
الجبر والقدَر.<br />
الأمن والإیاس.<br />
433
-<br />
-<br />
-<br />
-<br />
-<br />
-<br />
-<br />
-<br />
-<br />
فھرس الموضوعات<br />
الصفحة<br />
الموضوع<br />
المقدمة<br />
مقدمة ابن <strong>أبي</strong> <strong>العز</strong> <strong>الحنفي</strong><br />
أشرف علوم الدین<br />
مھمة الرسل<br />
الطریق الموصل إلى الله<br />
تعریف السالكین ما لھم من النعیم<br />
أعرف الناس با عز وجل<br />
ما أنزلھ الله تعالى على رسولھ، فھو روح وشفاء<br />
یجب على العامة أن یؤمنوا إیماناً مجملاً بما جاء بھ النبي صلى الله<br />
علیھ وسلم<br />
ما یجب على الأعیان یتنوع بتنوع قُدرھم<br />
أصل الضلال التفریط بما جاء بھ الرسول<br />
13<br />
13<br />
13<br />
7<br />
12<br />
12<br />
12<br />
13<br />
14<br />
14<br />
15<br />
-<br />
-<br />
-<br />
-<br />
-<br />
-<br />
-<br />
ش- روط صحة العبادة وقبولھا<br />
وصف الله بما وصف بھ نفسھ، وما وصفھ بھ الرسل<br />
مذاھب الناس في التأویل<br />
مراتب الانحراف<br />
الواجب اتباع الرسل<br />
اكتمال الدین<br />
15<br />
16<br />
16<br />
17<br />
17<br />
18<br />
434
-<br />
من قرائن النفاق الأكبر، إرادة التحاكم إلى غیر النبي صلى الله<br />
علیھ وسلم<br />
الحكم على الأشیاء بالحسن أو القبح من خصوصیات الله تعالى<br />
وحده<br />
- غایة المسلم أن یظھر الحق ویعلو، وإن جاء ذلك عن غیر<br />
طریقھ<br />
العجز یرفع التكلیف ..<br />
الأمة الوسط ..<br />
- علم الكلام ھو الجھل، وھو سبب للزندقة ..<br />
الفرق بین المنافق والزندیق ..<br />
18<br />
18<br />
20-19<br />
20<br />
20<br />
21<br />
21<br />
21<br />
22<br />
23<br />
24<br />
..<br />
-<br />
-<br />
-<br />
-<br />
- حكم الزندیق ..<br />
-<br />
-<br />
-<br />
- حكم الشافعي في أَھْل الكلام ..<br />
الرد على من یقول الخلف أفقھ من الس َّلَف<br />
التوحید أول دعوة الرسل، وأول منازل طریق طلب العلم ..<br />
الحكمة من تقدیم جانب النفي والبراء على جانب الإثبات<br />
في شھادة التوحید ..<br />
معنى الطاغوت وما یدخل في معناه ..<br />
الدعوة إِلى التوحید والكفر بالطاغوت، وھي دعوة<br />
الأنبیاء والرسل.<br />
ما یصیر المرء بھ مسلماً ..<br />
أنواع التوحید..<br />
توحید الربوبیة لم یذھب إِلى نقیضھ طائفة من بني آدم ..<br />
المشركون كانوا یقرون ببعض معاني الربوبیة، ولیس جمیعھا ..28<br />
توحید الإلھیة متضمن لتوحید الربوبیة ..<br />
التحذیر من اتخاذ قبور الأنبیاء والصالحین<br />
الأمر بتسویة القبور، وطمس التماثیل ..<br />
كل مولود یولد على فطرة الإسلام ..<br />
توحیدُ الربوبیة یستلزم توحید الألوھیة<br />
توحید الإلھیة یتضمن توحیدَ الربوبیة ..<br />
معنى قولھ تعالى: )إذاً لابتغوا إِلى ذي العر ِش سبیلاً(<br />
24<br />
25<br />
28<br />
29<br />
30<br />
31<br />
32<br />
35<br />
26<br />
26<br />
27<br />
28<br />
..<br />
مساجد ..<br />
..<br />
..<br />
-<br />
-<br />
-<br />
-<br />
-<br />
-<br />
-<br />
-<br />
-<br />
-<br />
-<br />
-<br />
-<br />
435
- التوحید الذي دعت إلیھ الرسل ..<br />
436
- قولھ: "ولا شيء یعجزه".<br />
437
- قولُھ: "حي لا یموت، قیوم لا ینام".<br />
438
- حكم من یجحد شیئاً من خصائص اللھ تعالى، أو یدعیھا لنفسھ.<br />
439
- الفرق بین النبي والرسول ..<br />
440
- حكم من أنكر أن القرآن كلام اللھ ..<br />
441
- حكم أَھْل العلم في أَھْل الكلام ..<br />
442
- الشفاعة عند اللھ لیست كالشفاعة عند البشر..<br />
443
- أیھما خُلق أولاً القلم أم العرش ..<br />
444
- عند التعارض یرد المتشابھ إِلى المحكم ..<br />
445
- صفة الجماعة التي یتعین تكثیر سوادھا ..<br />
446
- كفر عملي أصغر، أو كفر دون كفر ..<br />
447
- قولھ: "والأمن والإیاس ینقلان عن الملة .. ".<br />
448
-<br />
قاعدة من قواعد التكفیر: "كل شيء فعلھ من شروط<br />
فتركھ من نواقض الإیمان، والعكس كذلك<br />
التوحید<br />
." ..<br />
449
450<br />
- شبھة ورد ..
- حرمة المسلم على المسلم ..<br />
451
- الروح بعد مفارقتھا للجسد لا تموت ..<br />
452
- الاستطاعة القدریة الكونیة ..<br />
453
- قولھ: "ومن استغنى عن اللھ طرفة عین فقد كفر .. ".<br />
454
- وجوب اتباع الس َّلَف ..<br />
455
- من لوازم وشروط متابعة الحق التبرؤ من الباطل وأھلھ ..<br />
456