جريدة لوموند ديبلوماتيك جويلية/أوت 2019
العدد الجديد من جريدة لوموند ديبلوماتيك
العدد الجديد من جريدة لوموند ديبلوماتيك
Create successful ePaper yourself
Turn your PDF publications into a flip-book with our unique Google optimized e-Paper software.
ص 18<br />
مناضالت<br />
في<br />
تمرد<br />
الساحل، العسكريون<br />
يستبعدون<br />
وزارة الخارجية ص<br />
جيوسياسية<br />
األزمة<br />
14 الفنزويلية<br />
ص 12<br />
عدد - 41 <strong>جويلية</strong>/<strong>أوت</strong> - تموز/آب <strong>2019</strong><br />
نشرية شهرية<br />
التبادل الحر أم البيئة!<br />
سارج حليمي Serge Halimi<br />
بحصولهم على نسبة %10 من المقاعد في انتخابات البرلمان األوروبي،<br />
أحيى الخضر جدل قديم حول التموقع السياسي لهذه الحركة. هل هي على األغلب<br />
يسارية، مثلما تشير به غالبية التحالفات التي عقدتها حتى اليوم، أم أنها ليبيرالية،<br />
مثلما يوحي بذلك، في نفس الوقت، التحاق عدد هام من القادة الخضر السابقين )دانيال<br />
كوهن بانديت، باسكال كانفان، باسكال دورن( بصفوف إيمانويل ماكرون، وبعض<br />
التحالفات األخرى، من قبيل التحالف القائم في ألمانيا بين اليمين والخضر؟<br />
ثالثون سنة بعد الحرب األهلية<br />
المفقودون الخالدون للبنان<br />
يظهر أن مصير المفقودين في الحرب األهلية اللبنانية )1990-1975( وأكثرهم ضحايا االختطاف،<br />
أمر ال يهم السلطات السياسية كثيرا وهي الحريصة على طوي هذه الصفحة لتعزيز إعادة بناء البالد. لكن<br />
تحرك العائالت المعنية يمنع إرساء النسيان ويساهم في توثيق أحد أكثر الحلقات تراجيدية في النزاع.<br />
إيمانويل حداد * Haddad Emmanuel<br />
من األرجح أن الليبيرالية وحماية المحيط يمثالن ثنائيا متنافرا. سنة 2003،<br />
خلص أحد منظري الليبرالية البارزين، وهو ميلتون فريدمان، إلى التأكيد على أن<br />
»البيئة تمثل مشكلة مبالغا فيها بقدر كبير )...( نحن نقوم بالتلويث كلما تنفسنا. عليه،<br />
ليس من المعقول أن نغلق المصانع بذريعة إزالة كل انبعاثاث أوكسيد الكاربون في<br />
الفضاء. سيكون عندها من األفضل لنا أن نسارع بشنق أنفسنا)1(. قبله بعشر سنوات،<br />
اعتبر غاري بيكر، وهو أحد كبار مناهضي ما لم نكن نطلق عليه وقتها اسم »البيئية<br />
العقابية«، أن »الحق في العمل وحماية البيئة أصبحا مبالغا فيهما في معظم البلدان<br />
المتقدمة«. لكنه توقع ما يلي: »سيقوم التبادل الحر بكبح بعض مظاهر المبالغة هذه من<br />
خالل إجبار الجميع على المحافظة على التنافسية إزاء واردات البلدان النامية)2(«.<br />
يمكننا أن ندرك بالتالي أن مظاهر القلق والحيرة المتصلة بمستقبل الكرة<br />
األرضية قد أتاحت رد االعتبار لمصطلح ظل لفترة طويلة مكروها وغير مرغوب<br />
فيه، هو مصطلح »الحمائية«. في فرنسا، وخالل نقاشات في نطاق الحملة االنتخابية<br />
األوروبية، ذهب رئيسا قائمتي الحزب االشتراكي والخضر إلى حد المطالبة، تقريبا<br />
بنفس عبارات مارين لوبان، بإرساء »حمائية على حدود االتحاد األوروبي«)3(.<br />
بمقدورنا أن نتفطن لحجم االنعكاسات المحتملة لمثل هذا التغيير في الوجهة، عندما<br />
ندرك أن التبادل الحر يمثل المبدأ التاريخي المؤسس لإلتحاد، في نفس الوقت الذي<br />
يمثل فيه الرئة االقتصادية للدولة األكثر قوة، أي ألمانيا.<br />
مستقبال، يدرك الجميع أن اإلشادة، التي أضحت توافقية، بالمنتجين المحليين،<br />
وبالحلقات القصيرة، وبمعالجة النفايات على عين المكان، ال تتالئم مع نمط إنتاج<br />
وتبادل يتيح تكثيف »سالسل القيمة«، أي ينظم سيل ناقالت الحاويات التي تجتاز<br />
على متنها مكونات نفس المنتج »ثالث أو أربع مرات المحيط الهادي قبل أن تصل<br />
إلى رفوف مغازة)4(«.<br />
ستتاح خالل األسابيع المقبلة فرص عدة كي تؤكد هذه التيارات، فعليا وواقعيا،<br />
رفضها لتبادل حر مدمر بيئيا. بالفعل، البرلمانيون األوروبيون مدعوون إلى المصادقة،<br />
أو، وهذا وما نأمله، أن يرفضوا، اتفاقا لتحرير التجارة مع أربع دول من أمريكا<br />
الالتينية من بينها البرازيل واألرجنتين )االتحاد األوروبي مجموعة ماركوسير-UE<br />
.)Aleca واتفاق ثالث مع تونس )أليكا ،)CETA واتفاق آخر مع كندا )سيتا ،)Mercosur<br />
عندها سنرى ما إذا كانت »الموجة الخضراء« قد غطت حقيقة أراضي القارة العجوز.<br />
1( حديث مع هنري لوباج، نشرية »سياسات دولية«، العدد 100، باريس، صائفة 2003.<br />
2( غاري بيكر، »نفطة: قضية التلوث هي مجرد شاشة دخان«، نشرية »بيزنس ويك«، 9 <strong>أوت</strong>/آب<br />
1993. ذكر في كتاب »القفرة الكبيرة إلى الوراء«، إعادة طبع دار النشر »آغون«، مرسيليا، 2012.<br />
)3 فرانس 22 ،2 ماي/أيار .<strong>2019</strong><br />
4( بين كاسلمان »المصانع تتأقلم مع الحرب التجارية لكن الثمن سيكون عالي«، »ذي نيويورك<br />
تايمز«، 31 ماي/أيار <strong>2019</strong>.<br />
الفهرس بالصفحة األخيرة<br />
الثمن: تونس : 3 دينار I الجزائر : 120 دينار<br />
المغرب: 18 درهم I موريطانيا: 660 أوقية<br />
في صبيحة هذا اليوم الموافق 28<br />
نوفمبر/تشرين الثاني 2018، اجتمعت<br />
ثالثون امرأة في حديقة خليل جبران<br />
الواقعة في قلب مدينة بيروت والتي لم<br />
تترك عملية إعادة بنائها أي أثر للنزاع<br />
الدامي الذي مزق لبنان بين عامي 1975<br />
و1990. لقد أتين من كامل أنحاء البلد<br />
لحضور مؤتمر صحفي تاريخي. قبل<br />
أسبوعين، وتحديدا يوم 13 نوفمبر/<br />
تشرين الثاني، صادق البرلمان اللبناني<br />
على القانون عدد 105 حول المفقودين<br />
والمخفيين قسراً)1(. ينص هذا القانون<br />
في فصله الثاني على أنه »ألفراد األسرة<br />
والمقربين الحق في معرفة مصير<br />
أفرادها وذويها المفقودين أو المخفيين<br />
قسرا )خالل فترة الحرب األهلية(«. كما<br />
ينص على إحداث هيئة مستقلة مكلفة<br />
بتحديد أماكن المقابر الجماعية التي<br />
تنتشر في تراب البالد وإخراج الرفات<br />
البشرية بهدف تحديد هويات أصحابها.<br />
الكثير من النسوة كن يعانين من<br />
انحناء أكتافهن. غالبيتهن قد وضعن<br />
عصابة على رؤوسهن كتب عليها »لنا<br />
* صحفي )بيروت(<br />
الحق أن نعرف«. كن تحملن في أياديهن<br />
صورا فوتوغرافية طالها االصفرار<br />
لرجال بنظرات ثابتة. إنها صور أبنائهن<br />
أو أزواجهن أو أشقائهن، الذين فقدُوا<br />
جميعهم تقريبا خالل فترة الحرب، التي<br />
انتهت على حصيلة رسمية عن ب 150<br />
ألف قتيل و17415 مفقودا.<br />
شقت امرأة ذات قامة قصيرة<br />
طريقها نحو طاولة بالستيكية وضع<br />
فوقها مصدح. في مواجهة كاميرات<br />
التلفزيون، انطلقت وداد حلواني،<br />
رئيسة هيئة أسر المفقودين والمخفيين<br />
قسرا في قراءة نص بالغ بنبرة مهيبة<br />
جاء فيه: »لقد صوت البرلمان مؤخرا<br />
على القانون حول المفقودين. إنكم أنتم<br />
كعائالت، من تحصلوا على هذه النتيجة.<br />
ارجعوا بالذاكرة إلى أول مظاهرة في<br />
كورنيش المزرعة يوم 17 نوفمبر/<br />
تشرين الثاني 1982. لم نكن نعرف<br />
بعضنا سابقا. لكن األلم هو الذي جمع<br />
بيننا«.<br />
حلواني، المعلمة السابقة التي<br />
أصبحت واحدة من أبرز المتحدثين باسم<br />
أقارب وذوي المفقودين، لم تكن لتنسى<br />
جميع الحقوق محفوظة<br />
أي تفصيل من مأساتها الشخصية.<br />
تقول: »لقد تم اختطاف زوجي عدنان<br />
يوم 24 سبتمبر/تموز 1982. لقد طرقت<br />
كل األبواب من أجل العثور عليه،<br />
وكنت كل مرة، أسمع نفس عبارات<br />
التعاطف والمواساة التي ال طائل من<br />
ورائها سواء من رئيس الحكومة أو<br />
من مفتي الجمهورية.. عبارات مدارها:<br />
»سيدتي المسكينة، لست أول امرأة تأتي<br />
لزيارتي«. وتضيف: »ومن باب حب<br />
اإلطالع، أطلقت عبر اإلذاعة نداء من<br />
أجل التقاء كل أولئك الالئي فقدن قريبا<br />
لهن مثلي أنا. كنت أعتقد أن عددنا لن<br />
يتجاوز األربع نساء، لكن عند وصولي<br />
وجدت تجمهرا ضخما وتساءلت عما إذا<br />
كانت هنالك مواجهة أخرى. في الواقع،<br />
هناك أكثر من مائتي امرأة قد استجبن<br />
للنداء«.<br />
)البقية صفحة 2(<br />
1( تم نشره يوم 6 ديسمبر/كانون األول 2018<br />
في »ال<strong>جريدة</strong> الرسمية« اللبنانية، وقد تم ترجمة<br />
النسخة اإلنقليزية من هذا القانون من قبل المنظمة<br />
غير الحكومية اللبنانية »أومام للتوثيق والبحوث«<br />
)www.umam-dr.org(<br />
www.editionarabdiplo.com
<strong>جويلية</strong>/<strong>أوت</strong> - تموز/آب 2 <strong>2019</strong><br />
ثالثون سنة بعد الحرب األهلية<br />
المفقودون الخالدون للبنان<br />
)بقية الصفحة األولى(<br />
إيمانويل حداد Emmanuel Haddad<br />
منذ بدايات الحرب، برزت بوضوح<br />
وسريعا ظاهرة االختفاء ضمن ترسانات<br />
مختلف الميليشيات اللبنانية على اعتبارها<br />
أحد األسلحة التي يمكن استخدامها بشكل<br />
عشوائي ضد المدنيين من الشق المنافس.<br />
تحدث جوناثان راندال، مراسل صحيفة<br />
»نيويورك تايمز« آنذاك في كتابه »تراجيديا<br />
لبنان«)2( عن قصة طارق متيري، الذي<br />
أصبح متخصصا في تحرير المختطفين.<br />
يقول في هذا الصدد: »يميز متيري بين<br />
ثالثة أصناف )من األشخاص المورطين<br />
في عمليات االختطاف(، الصنف األول<br />
يتصل بالميليشيات التي يفوق تعصبها<br />
سياسة المنظمات التابعة لها )...( وصنف<br />
ثان يضم أعضاء مختلف التنظيمات<br />
المسلحة التي تتلقى األوامر باختطاف<br />
عدد من األبرياء من أجل المساعدة على<br />
تحرير رهائنهم )...( أما الصنف الثالث من<br />
عمليات االختطاف فقد كان يتم تنفيذه استنادا<br />
إلى اعتبارات فردية وعلى أساس )شكوك(<br />
يثيرها غالبا طرف ثالث لدواع متنوعة، من<br />
قبيل خصومة عاطفية أو نزاع تجاري«.<br />
يتطلب تحقيق عملية اإلفراج إذن<br />
ممارسة ضرب من المهارة الديبلوماسية،<br />
واالستنجاد بشبكة عالقات جد واسعة،<br />
وبالخصوص سرعة كبيرة في التنفيذ،<br />
مثلما يروي ذلك أسعد الشفتري، الرجل<br />
الثاني سابقا في مخابرات القوات اللبنانية،<br />
وهي إحدى أبرز الميليشيات المسيحية<br />
خالل الحرب. يقول الشفتري: »كنا نتلقى<br />
عشرات مطالب اإلفراج، وفي الغالب عبر<br />
وسطاء، سواء من المسؤولين السياسيين<br />
أو من العسكريين أو من أشخاص ذوي<br />
مكانة اجتماعية. كان يتعين علينا أن نتحرك<br />
سريعا باعتبار أنه في بدايات النزاع، كان<br />
يتم قتل الناس بشكل فوري. إنهم في الغالب<br />
رفاق ينتقمون لرفقائهم، أو عائالت تم<br />
اختطاف أحد أفرادها وتقوم بالرد عبر فعل<br />
مماثل«. أقرّ أسعد الشفتري بأنه متورط<br />
شخصيا في العديد من عمليات االختفاء.<br />
وفي هذا السياق، كان قد توجه سنة 2000<br />
برسالة توبة إلى اللبنانيين، وطلب العفو من<br />
ضحاياه.<br />
بعد خمسة عشر عاما من عمليات<br />
االختفاء القسري والجرائم األخرى التي<br />
ارتكبتها الميليشيات من كل االتجاهات،<br />
وكذلك من قبل جيشي االحتالل االسرائيلي<br />
والسوري )من 1978 إلى 2000 بالنسبة<br />
للقوات السورية ومن 1976 إلى 2005<br />
بالنسبة للقوات االسرائيلية(، سارعت<br />
السلطات اللبنانية بطي الصفحة، إذ كانت<br />
مسكونة بهاجس صفقات إعادة اإلعمار<br />
المغرية. هكذا، تم في 26 <strong>أوت</strong>/آب 1991<br />
التصويت على قانون العفو على كل الجرائم<br />
المرتكبة خالل فترة الحرب األهلية.<br />
والحقا، حث القانون عدد 434 لسنة<br />
1995 أهالي األشخاص الذين مضت على<br />
فقدانهم أكثر أربع سنوات، على إعالنهم<br />
أشخاصا متوفين. يوضح نزار صاغية،<br />
المحامي العضو في المنظمة غير الحكومية<br />
اللبنانية »ليغال أجندا« )األجندة القانونية(<br />
والمشارك في وضع المشروع التشريعي<br />
الذي انبثق عنه القانون عدد 105، بأنه<br />
»كانت هناك رغبة واضحة في طي صفحة<br />
الحرب، ذلك أن كل العائالت البورجوازية<br />
قد أعلنت أقرباءها أشخاصا متوفين حتى<br />
تحصل على ميراثهم. منذ 1995، العائالت<br />
متواضعة الحال )ليس لها من ميراث<br />
تحصله( هي وحدها التي واصلت النضال«<br />
من أجل معرفة مصير المفقودين.<br />
اإلحترامية أُشترت<br />
بثمن بخس<br />
هكذا، أطلق القانون عدد 434 لسنة<br />
1995 بدايات عمليات الحجب، التي يصفها<br />
غسان حلواني، اإلبن األصغر لوداد، ب<br />
»الفقدان المزدوج«. في أحد مقاطع شريطه<br />
الوثائقي »طرس.. رحلة الصعود إلى<br />
المرئي« )الحائز سنة 2018 على جائزة<br />
أوليس لمهرجان سيني ماد بمونبيليي(،<br />
الذي يسعى فيه إلى نفض غبار النسيان<br />
على الكثير من األشخاص المفقودين، يقرأ<br />
المتفرج العبارة التالية: »الجريمة تجري<br />
على مرحلتين أو في فصلين«. أوال، فعل<br />
القتل. وتاليا، فعل التخلص من البراهين<br />
والقرائن«. نرى في الخلفية مشهدا عاما<br />
للخراب الذي طال بيروت جراء الحرب<br />
وقد تم تعويضه بمشهد معاصر للمدينة<br />
بعد إعادة بنائها. تم رسم أسهم موجهة إلى<br />
عديد الفضاءات الفخمة التي تم بناؤها في<br />
مواقع المقابر الجماعية: هناك ملهى ليلي<br />
مشهورة، وملعب صولجان أو جادة تنزه<br />
على الشاطئ. في تناوله الثنين من أكثر<br />
األحياء جمالية وجاذبية في وسط المدينة،<br />
يصدح حلواني بهذه الحقيقة المرعبة:<br />
»إذا ما سلكت الطريق بين الحمراء ومر<br />
ميكائيل، أنت معرض ألن تصادف اثنين<br />
أو ثالثة مقابر جماعية، تبعا للطريق الذي<br />
تسلكه«.<br />
فكم هنالك من مقابر جماعية تعود<br />
إلى فترة الحرب ويتعين الكشف عنها؟ لقد<br />
تم في 21 جانفي/كانون الثاني 2000 إحداث<br />
لجنة تحقيق رسمية مهمتها اإلجابة عن<br />
هذا التساؤل من جملة مجموعة تساؤالت<br />
أخرى. لكن اللجنة قامت بعد ستة أشهر<br />
من تأسيسها بنشر تقرير من صفحتين<br />
تحدثت فيه فقط عن 2046 مفقود وأعلنتهم<br />
»أشخاصا متوفين آليا«. اعترف التحقيق<br />
بوجود مقابر جماعية من خالل تحديد<br />
بعض منها، لكنه اعتبر أن البقية ال يمكن<br />
التعرف عليها. ولدى استفساره عن األمر<br />
بعد عشر سنوات من قبل المنظمة اللبنانية<br />
للتوثيق والبحوث )أونام(، عبّر الجنرال<br />
سليم أبو إسماعيل، الذي كان رئيسا للجنة<br />
المذكورة عن استغرابه بالقول: »ما هي<br />
الفائدة التي سنجنيها من ذلك؟ وأية مصلحة<br />
في إخراج اآلالف من بقايا الرفات؟«. في<br />
كل األحوال، ووفقا للمنظمة غير الحكومية<br />
»التحرك من أجل المفقودين«، يعدّ لبنان ما<br />
ال يقل عن 115 مقبرة جماعية. وقد قامت<br />
المنظمة بتجميع معطيات ومعلومات عن<br />
كل واحدة من هذه المقابر، وهي معطيات<br />
ستمد بها الحقا اللجنة التي نص القانون<br />
105 على بعثها.<br />
بعد أن شهدت بأم عينيها اختطاف إبنها<br />
أحمد ذي ال 17 ربيعا، شاركت خديجة د.<br />
في كل مظاهرات عائالت المفقودين منذ سنة<br />
1982 إلى حد تاريخ وفاتها سنة 2016. تقول<br />
ابنتها سوسن، التي أخذت مكانها في هذه<br />
المظاهرات: »إلى حد آخر أيام عمرها كانت<br />
تؤكد بأن أحمد سيعود. واليوم أيضا أقول<br />
نفس الشيء«. في رأي سوسن كما في رأي<br />
اآلالف من عائالت المفقودين، التعرف على<br />
رفات المفقود المحبوب هو الشيء الوحيد<br />
الذي يمكن أن يَضع حدا للفترة الطويلة<br />
لما يسمى »الحداد األبيض«، والذي يمثل<br />
مصدر معاناة نفسانية حادة)3( هكذا، قامت<br />
بتقديم عينة بيولوجية مرجعية إلى اللجنة<br />
الدولية للصليب األحمر خالل العام الماضي.<br />
منذ العام 2015، تولت لجنة الصليب<br />
األحمر تجميع 1500 من هذه العينات التي<br />
يمكن استخراج الحمض النووي منها،<br />
والتي ستمكن من التعرف على بقايا الرفات<br />
الموجودة في المقابر الجماعية عند إخراج<br />
هذه الرفات. وتمثل هذه المبادرة إحدى<br />
الطرق لتعويض جمود السلطات اللبنانية التي<br />
ظلت حبيسة منطق اإلنكار. تضيف سوسن:<br />
»المرة األولى التي تعرضت فيها والدتي إلى<br />
جلطة قلبية كانت سنة 1998 عندما صرح<br />
الرئيس إلياس الهراوي بأن كل المفقودين تم<br />
رميهم في البحر أو ردمهم تحت اإلسمنت<br />
المسلح، وأنه يتعين طي الصفحة«. في ذلك<br />
الوقت، كان ساكن قصر بعبدا الرئاسي يؤكد<br />
خالفا لما هو يقين، بأنه ليس هناك لبناني<br />
واحد معتقل في سجن سوري أو إسرائيلي.<br />
أمضى موسى صعب 15 عاما في<br />
االعتقال في زنزانات سورية متعددة، ولكنه<br />
لم ينس محاولة محو وجوده. يقول في هذا<br />
الخصوص : »لقد مضت أربع سنوات على<br />
سجني في معتقل صيدنايا السوري. كنت<br />
استمع إلى اإلذاعة اللبنانية عندما ألقى الياس<br />
الهراوي هذا الخطاب. كنا مئات من المعتقلين<br />
اللبنانيين في سوريا نستمع إلى هذا الخطاب«.<br />
تم اإلفراج عن موسى في 12 ديسمبر/كانون<br />
األول 2000. ترتب عن عملية اإلفراج عنه<br />
وعن 53 من المعتقلين السابقين في سوريا،<br />
وكذلك عمليات االكتشاف المنتظم لحفر دفن<br />
جماعية في كامل أنحاء لبنان، تحطيم وإفشال<br />
محاوالت القادة اللبنانيين المتكررة لطي<br />
ملف المفقودين. في بيروت، خصصت كل<br />
من الصحفية والمخرجة مونيكا بورغمان،<br />
والكاتب والناشر لقمان سليم، الذي هو<br />
أيضا مدير منظمة »أونام«، شريطا وثائقيا<br />
لعشرين من هؤالء المعتقلين السياسيين<br />
اللبنانيين في سوريا)4(.<br />
تنزع المصادقة على القانون عدد<br />
105 بذلك الرواية المتعلقة بالحرب من أيدي<br />
أولئك الذين ارتكبوا جرائم الحرب)5( ليعود<br />
األمر إلى الضحايا، الذين تم لحد ذلك الوقت<br />
إجبارهم على الصمت والغياب. غير أن هذا<br />
النص ال يبدد كل الشكوك بخصوص صدقية<br />
هذا التمشي. »لماذا اآلن؟«، يتساءل سليم،<br />
الذي يعتبر أن جعل عملية المصادقة على<br />
هذا القانون بمثابة تتويج لست وثالثين سنة<br />
من كفاح أسر المفقودين، قد يكون مجرد<br />
عملية إخراج »رومانسية«. هو يرى في<br />
األمر بالخصوص طريقة الكتساب االحترام<br />
لقاء ثمن ضئيل. يقول »إنها طريقة كالسيكية<br />
للبرلمان اللبناني من خالل التصويت على<br />
قوانين تحظى بإعجاب المجموعة الدولية«،<br />
معتبرا أن هذا القانون سيكون مصيره على<br />
األرجح مثل مصير القوانين ال 39 التي تمت<br />
المصادقة عليها سابقا حول مواضيع شتى،<br />
والتي ظلت حتى اليوم في انتظار األوامر<br />
التطبيقية.<br />
وفي ما يبدو أنه عمل مقصود، تم في<br />
آخر لحظة إضافة فصل مثير للجدل خالل<br />
الجلسة العامة ما يضعف حظوظ تطبيق<br />
هذا القانون. ينص الفصل 37 على أن »كل<br />
محرض أو متورط أو متواطئ في عملية<br />
اختفاء قسري يجب معاقبته بالسجن المقرون<br />
باألشغال الشاقة من خمسة إلى خمسة عشر<br />
عاما«. يعتبر مضمون هذا الفصل متعارضا<br />
مع انتظارات العائالت، مثلما تؤكد على<br />
ذلك حلواني قائلة: »نحن غير مسؤولين عن<br />
الفصل 37. وبالنسبة إلينا، فإن حق المعرفة<br />
يمر قبل العدالة الجزائية«. من ناحيته،<br />
يخشى الشفتري، الذي أضحى اليوم عضوا<br />
في المنظمة غير الحكومية للمقاتلين السابقين<br />
التائبين »المقاتلون من أجل السالم«، من<br />
األثر السلبي لهذا الفصل، إذ يصرح بقوله<br />
»عندما تضع السيف على رقبة أولئك الذين<br />
ارتكبوا جرائم خالل الحرب، فإنني أشك<br />
كثيرا في كونهم سيأتون لتقديم شهاداتهم«.<br />
جميع الحقوق محفوظة<br />
غائبون أحياء<br />
للسجل المدني<br />
اعتبارا لتعودها على مضي السياسيين<br />
اللبنانيين في التنكر لوعودهم، تؤكد حلواني<br />
أنها أبعد من أن تكون مصابة بالغباء. تقول<br />
محذرة »إن التصويت على القانون يمثل<br />
مجرد مرحلة. فنضالنا سيستمر مع تعيين<br />
األعضاء العشرة في اللجنة المقبلة، ويتعين<br />
علينا أن نعمل على أال يتم اختيار المرشحين<br />
وفقا لمعايير سياسية وطائفية، مثلما تعودنا<br />
على ذلك في لبنان«.<br />
أما إبنها غسان، فهو يسعى إلى تحفيز<br />
مجمل المجتمع اللبناني على أن يتبنى تاريخ<br />
المفقودين. وإضافة إلى شريطه المذكور<br />
سابقا، هو يعمل منذ 2015 على رقمنة<br />
األرشيف المجمع من قبل والدته صلب تجمع<br />
للمنظمات. تتعلق المواد التي تم تجميعها<br />
بمعطيات دقيقة وتتضمن قصاصات صحفية<br />
وخطب وبالغات حول حركة عائالت<br />
المفقودين. إنها تمثل مادة أولية من أجل<br />
استحضار الحرب األهلية من خالل إبراز<br />
صورة المفقودين لمرة واحدة. هؤالء الذين تم<br />
إقصاؤهم من تاريخ النزاع، هم على العكس<br />
من ذلك أحياء في وثائق السجل المدني. في<br />
نهاية شريطه الوثائقي، يروي غسان حلواني<br />
طرفة تخص كال من ريشار وكريستين،<br />
وهما زوجان تعرضا إلى االختطاف خالل<br />
الحرب. عندما أراد أحد الباعثين شراء منزل<br />
على ملكهما، رفض أحد القضاة مطلبه،<br />
معتبرا أن الزوجين ليسا متوفيين رسميا.<br />
2( جوناثان راندال »المأساة اللبنانية: كريستيان<br />
بارون الحرب، المغامرات اإلسرائيية والمستنقع<br />
األمريكي« نشر دار »شاتو أند ويندوس«، لندن،<br />
.1983<br />
3( بولين بوس ، »خسارة غامضة. تعلم العيش<br />
مع حزن بال حل«، منشورات جامعة هارفارد،<br />
لندن، 2000.<br />
4( أكرم بالقايد ، »ظالل معتقل تدمر تخيم على<br />
سوريا«، مجلة »أوريون 21«، 26 ديسمبر/<br />
كانون األول 2016،<br />
www.orientxxi.info<br />
5( كارال عدة ، »مذكرات الفاعلين في الحرب:<br />
عودة على النزاع من خالل فرقائه«، ضمن<br />
كتاب »مذكرات الحروب في لبنان )1975-<br />
1990(«، تحت إدارة فرانك مارميي وكريستوف<br />
فارين، نشر دار »آكت دي سود«، آرل، 2010.
3 <strong>جويلية</strong>/<strong>أوت</strong> - تموز/آب <strong>2019</strong><br />
الرجوع بالتاريخ<br />
أكرم بلقايد<br />
منذ سنة 2011، وما سمي وقتها »الربيع<br />
العربي«، شكلت تونس استثناء ضمن مجموعة<br />
جغرافية موسومة عميقا بالحروب األهلية )سوريا،<br />
ليبيا، اليمن( أو بالسلطوية العنيفة )مصر( أو<br />
باالستبداد شبه اإلقطاعي )ممالك الخليج(. في الوقت<br />
الذي تواجه فيه كل من الجزائر والسودان صعوبات<br />
في التحرر من الديكتاتوريات العسكرية، تواصل<br />
تونس، رغم العراقيل، طريقها نحو الديمقراطية<br />
ودولة القانون. لكننا نجهل الكثير تاريخيا عن هذا<br />
البلد الصغير الذي ال يملك موارد طبيعية كبيرة.<br />
هذا ما يزيد بقدر وافر من أهمية الكتاب الضخم<br />
الذي نشرته مؤخرا المؤرخة صوفي بسيس)1(.<br />
تونس هي قبل كل شيء 3 آالف سنة من<br />
التاريخ، عرفت خالله البالد عديد الفتوحات<br />
والغزوات المتتالية. شهد هذا البلد البربري<br />
والبونيقي، في دفعات متالحقة غزوات الرومان<br />
والوندال والبيزنطيين والعرب والعثمانيين ثم<br />
الفرنسيين. في كل مرة، تطال البلد تغيرات<br />
وتحوالت عميقة، دون أن يفقد خصوصياته وطابعه<br />
المميز. لم تقتصر صوفي بسيس في مؤلفها على<br />
تقديم رواية مبسطة ذات طابع تسلسلي، على ما<br />
يكتسيه ذلك من أهمية ال سيما في ما يتعلق بفترة<br />
القرون الوسطى، وإنما طرحت عملية تفكير<br />
محفزة حول كتابة التاريخ والعوائق الجسيمة التي<br />
يتوجب تخطيها عندما تتعلق المسألة ببلد مغاربي.<br />
فهي، على سبيل المثال، تذكر بأن تونس لم تولد<br />
سنة 670، تاريخ تأسيس مدينة القيروان من قبل<br />
الفرسان الذين أتوا من الشرق محملين بدين جديد،<br />
هو اإلسالم. لقد جعل الحبيب بورقيبة، أول رئيس<br />
للجمهورية التونسية )19571987( من الحقبة<br />
التاريخية السابقة للحقبة اإلسالمية حجة بالغة<br />
األهمية من أجل إرساء تصور فريد، ال يزال<br />
قائما: »الخصوصية التونسية«. إنها طريقة للتميز<br />
عن النزعة القومية العربية التي كان ينادي بها<br />
الزعيم المصري جمال عبد الناصر. نعم، تونس<br />
بلد عربي إسالمي، ولكن ليس هذا فقط... وقد<br />
أتاح هذا الخطاب أيضا لبورقيبة الصمود في وجه<br />
التصريحات الفرنسية، التي تنزع دوما للحديث<br />
عن مغرب عربي يفتقد لتاريخ كبير أو للتأكيد على<br />
الحقبة المسيحية قصد تبرير االستعمار...<br />
وتفضل صوفي بسيس عبارة »اإلستثناء<br />
التونسي«، التي تراها أكثر دقة، عن عبارة »التفرّد<br />
التونسي«. هي طريقة للقول بأنه هنالك فعليا مجاالت<br />
فيها اإلستثناء حقيقي وواقعي: التقاليد اإلصالحية،<br />
عراقة الدولة واإلدارة التي يمتد تاريخها لعدة<br />
قرون، التشريعات المناصرة لحقوق النساء، ثقافة<br />
التوافق السياسي، وجود تقاليد نقابية حقيقية... غير<br />
أنها تذكر بأنه توجد أيضا مجاالت أخرى ال فرق<br />
فيها بين تونس وجيرانها، مثلما برهنت على ذلك<br />
السلطوية الديكتاتورية للرئيسين الحبيب بورقيبة<br />
وزين العابدين بن علي، وإنكار حقوق األقليات<br />
الدينية غداة االستقالل. في الخريف المقبل، سيتوجه<br />
الشعب التونسي مجددا إلى صناديق اإلقتراع، في<br />
ما يمكن اعتباره امتحانا هاما لتجربته الهشة في<br />
مجال االنتقال الديمقراطي. من شأن قراءة كتاب<br />
صوفي بسيس حيازة معطيات تاريخية تيسر فهم<br />
مصادر ومسوغات التفرّد التونسي.<br />
أما المختص في الشؤون السياسية، نجيب<br />
سيدي موسى، فيقترح على القراء نظرة متجددة<br />
لتاريخ استقالل الجزائر)2(. خالفا للفكرة السائدة،<br />
لم يكن حزب جبهة التحرير الوطني )FLN( الفاعل<br />
الوحيد في المعركة من أجل االستقالل. الحركة<br />
الوطنية الجزائرية )MNA( بقيادة الزعيم التاريخي<br />
مصالي الحاج، الذي انكب المؤلف على درس<br />
مسيرته، كان في المحصلة أحد أكبر الخاسرين في<br />
حرب الجزائر في أعقاب تهميشه، وغالبا بصورة<br />
عنيفة، من قبل حزب جبهة التحرير. باالستناد إلى<br />
وثائق أرشيفية لم يسبق نشرها، يتيح نجيب سيدي<br />
جميع الحقوق محفوظة<br />
موسى للقارئ فهم كيفية والدة الفكرة الثورية في<br />
الجزائر، مثلما روج لها تيار مصالي الحاج، وكيف<br />
إفلتت هذه الفكرة، في نهاية األمر، من أيديهم.<br />
1( صوفي بسيس، »تاريخ تونس، من قرطاح إلى اليوم«، نشر<br />
»تاالنديي«، باريس، 528 <strong>2019</strong>، صفحة، 23،90 يورو.<br />
2( نجيب سيدي موسى، »الجزائر. رواية أخرى لتاريخ<br />
االستقالل. المسارات الثورية ألنصار مصالي الحاج«،<br />
المنشورات الجامعية الفرنسية، باريس، 328 <strong>2019</strong>، صفحة،<br />
22 يورو.<br />
Akram Belkaïd<br />
للمؤسسات، يرجى الإتصال :<br />
abonnement@editionarabediplo.com<br />
الهاتف : 900 / 71 160 الفاكس : 855 71 963<br />
للخواص الراغبين في دعم ال<strong>جريدة</strong> يمكنهم الحصول<br />
على اشتراك دعم سنوي ابتداءا من 100 دينار في السنة<br />
إشتراك سنوي I تونس: 30 دينار/الجزائر : 1500 دينار/المغرب: 180 درهم مغربي/موريطانيا: 6000 أوقية
<strong>جويلية</strong>/<strong>أوت</strong> - تموز/آب 4 <strong>2019</strong><br />
»أولوية« تختفي بعد<br />
أوروبا الدفاع،<br />
في 18 أفريل/نيسان الماضي، صادق برلمان سترازبورغ على إحداث الصندوق األوروبي<br />
للدفاع. هذا الصندوق الذي خصصت له اعتمادات بقيمة 13 مليار يورو سيموّل مشاريع صناعية<br />
ستستفيد منها عدّة دول. لكن هذا المشروع سيخدم أي رؤية استراتيجية؟ منذ ثالثين عاما، يقوم<br />
االتحاد بترقيع أدوات عسكرية وتقنيات دون التوصل إلى منح هيكل لسياسة أمنية حقيقية.<br />
قال الرئيس الفرنسي<br />
ايمانوال ماكرون على موجات<br />
إذاعة أوروبا 1: »لن نحمي<br />
األوروبيين إذا لم نقرّر أن<br />
يكون لنا جيش أوروبي حقيقي.<br />
لمواجهة روسيا المرابطة على<br />
حدودنا والتي بيّنت أنها تستطيع<br />
أن تشكّل تهديدا )...(، يجب<br />
أن تكون لنا أوروبا قادرة على<br />
الدفاع عن نفسها بنفسها دون<br />
االعتماد على الواليات المتحدة<br />
وحدها وبطريقة أكثر سياديّة«.<br />
بعد ذلك بأيام قليلة وبالتحديد يوم<br />
13 نوفمبر/تشرين الثاني، اقتدت<br />
به المستشارة األلمانية أنجيال<br />
ميركل إذ دعت في خطاب ألقته<br />
في البرلمان األوروبي يوم 14<br />
نوفمبر/تشرين الثاني إلى »وضع<br />
رؤية تسمح لنا بالتوصّ ل ذات يوم<br />
إلى جيش أوروبي حقيقي«. لقد<br />
جدّدت مقترحها القاضي بإنشاء<br />
»مجلس أمن أوروبي« تكون<br />
رئاسته دوريّة، وفي صلبه يمكن<br />
أن تُتّخذ »قرارات مهمّة وبشكل<br />
أسرع«، بل ودعت حتى إلى<br />
إمكانية التخلّي في هذا اإلطار<br />
عن اتخاذ القرارات باإلجماع.<br />
ولكن شتّان بين الوعود<br />
والواقع، ذلك أن »أوروبا الدفاع«<br />
تقتصر حاليا على التنسيق البسيط<br />
* صحفي منسّ ق مدونة »دفاع على الخطّ »<br />
https://blog.mondediplo.net<br />
بين الجهود الوطنية. ثمّ إنها ال<br />
تنظّ م حماية التراب األوروبي،<br />
الذي يحتاج إلى تحديد بما أنّ<br />
االتحاد يبدو في امتداد دون<br />
انقطاع، كما أنها ال تتصرف في<br />
قوّة تدخّ ل قادرة على التدخّ ل في<br />
كل مكان، وليس لها قيادة عسكرية<br />
عملية، وهي كلها خصائص أيّ<br />
نظام دفاعي جدير بهذا االسم.<br />
بين مخاوف دول البلطيق<br />
وشمال أوروبا وأوروبا الشرقية<br />
من الجار الروسي من جهة<br />
وانشغال القسميْن الغربي<br />
والجنوبي باالضطرابات التي<br />
تعيشها إفريقيا والشرق األوسط<br />
من جهة أخرى، ال يمكن لإلتحاد<br />
األوروبي في الوضع الحالي<br />
أن يضبط إستراتيجية موحّ دة.<br />
في أوروبا هذه التي عاشت منذ<br />
عقود على أن »السعادة تكمن<br />
في السالم«، يعيش القادة »حالة<br />
من الخمول االستراتيجي« كما<br />
أكّد ذلك هوبار فدرين وزير<br />
الخارجية الفرنسية األسبق. لهذا<br />
السبب، كما يذكّر بذلك كريستيان<br />
ماليس المدير السابق لالستشراف<br />
االستراتيجي في مؤسسة<br />
»طالس«،ظلّت الجهود الرامية<br />
إلى ضبط األولويات أو حصر<br />
األعداء المشترَ كين تتلخّ ص إلى<br />
حدّ الساعة في »تتالي مجموعة<br />
من الخطابات البحتة واإلخفاقات<br />
الثابتة«)1(. كانت نتيجتها<br />
في رأيه »مشروعا عسكريا<br />
صغيرا أطلِق عليه بتبجّ ح اسم<br />
“أوروبا للدفاع”« ظلّ محصورا<br />
في »بعثات غريبة« عُ رِ فتْ<br />
باسم »بعثات بيترسبرغ«)2(،<br />
ووُضِ عت تحت شعارات<br />
»التكامل« و»تقاسم المهامّ« مع<br />
حلف شمال األطلسي )النّاتو(<br />
الخاضعة لإلدارة األمريكية،<br />
الذي يحتفظ لنفسه حصريّا بالدفاع<br />
الفعلي عن القارّ ة)3(.<br />
رغم ذلك، توجد عوامل كثيرة<br />
تدعو إلى ضرورة تنامي االتحاد:<br />
نهاية »المركزية اإليديولوجية<br />
واالستراتيجية« ألوروبا حسب<br />
عبارات جان-ماري غيهنو<br />
األمين العام المساعد السابق<br />
لمنظمة األمم المتحدة، والتوجّ ه<br />
الجيوسياسي األمريكي نحو آسيا<br />
والذي أدى إلى أن »الجندي<br />
رايان)4( لن ينزل مستقبال على<br />
السواحل األوروبية« كما نبّه<br />
إلى ذلك الجنرال فنسان دي<br />
بورت وتوسّ ع ميدان الحرب<br />
من »دنباس في الساحل إلى<br />
باطكالن« )حسب رأي ديبورت<br />
أيضا( المصاحَ ب بالتباس الحدود<br />
بين الدفاع واألمن، وهشاشة<br />
المجتمعات أمام الهجمات<br />
اإلرهابية وانفجار كُلفة المعدّات<br />
)الرماية عن بعد، أنظمة القتال<br />
البحرية والجوية، الصواريخ،<br />
الروبوتات، الطائرات المسيرة،<br />
األلغام، العمليات البرمائية أو<br />
عمليات اإلنزال، االستخبارات<br />
االلكترونية أو الفضائية، الخ(.<br />
قريبا لن يكون أليّ جيش وطني<br />
في أوروبا من القدرات ما يكفي<br />
ألخذ األسبقية في دخول مسرح<br />
العمليات العسكرية وال القيام<br />
بتدخّل طويل المدى.<br />
الكلفة اإلضافية<br />
لعدم اإلندماج<br />
هناك عامل آخر يجب أن<br />
يحث رؤساء دول وحكومات<br />
اإلتحاد على التحرّ ك: الهيكل<br />
األمني األوروبي أخذ في التصدّع<br />
في كل مكان. لقد انسحبت الواليات<br />
المتحدة من معاهدة الصواريخ<br />
البالستية، ومن المعاهدة الخاصّ ة<br />
بالقوات النوويّة ذات المدى<br />
المتوسّ ط. من جهتهم، ندّد الرّ وس<br />
بالمعاهدة المبرمة حول القوات<br />
التقليدية في أوروبا، ويعتزمون<br />
عدم تجديد الموافقة في 2021 على<br />
معاهدة نيوستار المتعلقة بالحدّ<br />
من األسلحة اإلستراتيجية. في<br />
في نفس الوقت، يفتح البريكسيت<br />
باب االحتماالت على مصراعيه<br />
أمام االتحاد. على مدى عقود،<br />
ظلّت بريطانيا تعطّ ل فعال بصفة<br />
آلية جميع المشاريع التي يمكن أن<br />
تنافس حلف الناتو أو التي تُعتبر<br />
غير ودّيّة تجاه واشنطن مثل بعث<br />
هيئة أركان قارّة في االتحاد أو<br />
توسيع الوكالة األوروبية للدفاع.<br />
بناء على ذلك، أصبحنا منذ<br />
سنتين نشعر بشيء من التململ:<br />
إنشاء صندوق أوروبي للدفاع<br />
بتمويل قدره 13 مليار يورو<br />
على مدى سبع سنوات، تعزيز<br />
هيئة األركان الحربية الصغيرة<br />
المكلّفة باإلشراف على العمليات<br />
بتفويض أوروبي أو دولي )2500<br />
شخص(، ضبط حوالي ثالثين<br />
»خلال في القدرات« ينبغي سدّها،<br />
وهذا أمر يستوجب بعث عدد من<br />
المشاريع منها الطائرة المسيرة:<br />
)مال، متوسطة االرتفاع وطويلة<br />
المدى(، وهي مشاريع تطوّعت<br />
مجموعة من الدول لتنفيذها تحت<br />
عنوان عمليات التعاون المهيكل<br />
والدائم، وبعث صندوق لتحسين<br />
الحركية العسكرية )6،5 مليار<br />
يورو(، وختاما تمديد مرفق<br />
السالم األوروبي )10،5 مليار<br />
يورو( المعدّ لدعم مبادرات البلدان<br />
الشريكة وخاصة منها اإلفريقية.<br />
ستكون هذه المبالغ مُتاحة بداية من<br />
سنة 2021.<br />
ال يزال معظم هذه المشاريع<br />
مجرد حبر على ورق. صادق<br />
البرلمان األوروبي على باب<br />
الميزانية يوم 18 افريل/نيسان<br />
ولكن اشتغال كل آلية من هذه<br />
اآلليات ينبغي أن يكون محلّ<br />
مفاوضات بين الدول. هل سيكون<br />
النفاذ إلى صندوق الدفاع األوروبي<br />
على سبيل المثال مخصّ صا<br />
للمؤسسات األوروبية وحدها كما<br />
يذهب إلى ذلك المنطق السياسي<br />
السيادي في فرنسا؟ ام يكون<br />
مفتوحا لكل من هبّ ودبّ كما يدعو<br />
إلى ذلك الليبراليون الهولنديون<br />
واالشتراكيون الديمقراطيون<br />
األلمان، والقادة البولونيون وطبعا<br />
المسؤولون االمريكيون الذين<br />
ذهبوا بعدُ إلى حدّ تهديد أوروبا<br />
باالنتقام إذا تمّ استبعاد مؤسساتهم<br />
من هذه الصفقات؟ تشجب هيالن<br />
كونواي-موراي االشتراكية ونائبة<br />
رئيس مجلس الشيوخ الفرنسي<br />
لعبة خطرة تمارَ سُ مع أقدم<br />
حلفاء الواليات المتحدة وأكثرهم<br />
تصميما«، ذلك أن األمريكان<br />
يسعوْ ن إلى »تقويض جهود<br />
األوروبيين في تأسيس منظومة<br />
دفاع أكثر استقاللية«)5(.<br />
إن إرادة االنفتاح التي<br />
تحرّ كها -من بين مجموعة من<br />
الدوافع- مسألة الحرص على عدم<br />
عزل المملكة المتّحدة يمكن أن<br />
تعزّ ز خطر انتهاج سياسة حصان<br />
طروادة التي ستتيح للواليات<br />
المتحدة وإلسرائيل وربّما الصين<br />
استنزاف اعتمادات البحث والتنمية<br />
المخصصة لتسليح القارّ ة األوروبية<br />
. نالحظ بداية أنه ال يوجد أي خيار<br />
أوروبي للتحكم في شراء المعدّات<br />
التي تقوم بها كل دولة بمفردها<br />
في حالة من الفوضى. يوجد داخل<br />
االتحاد 178 نظاما لألسلحة )30<br />
في الواليات المتحدة األمريكية(<br />
وحوالي 20 صنفا من المدرّ عات،<br />
و3 أصناف من الطائرات المقاتلة،<br />
الخ. من ضمن مبلغ 227 مليار<br />
يورو الذي تم إنفاقه سنة 2017 من<br />
طرف مجموع الجيوش األوروبية،<br />
تقدّر كلفة عدم االندماج األوروبي<br />
ب 25 مليار يورو)6(.<br />
1( »تشريح لدفاع أوروبا«. حديث مع كريستيان<br />
ماليس، انفالكسيون، عدد 33، باريس، 2016.<br />
2( يحدّد إعالن بيترسبرغ )ألمانيا( الذي تمّت<br />
المصادقة عليه في جوان/حزيران 1992 األهداف<br />
التالية: المهامّ اإلنسانية أو إجالء الرعايا، التوقّي<br />
من النزاعات وحفظ السالم، المهام القتاليّة في<br />
إدارة األزمات، األعمال المشتركة في مجال<br />
نزع السالح، االستشارة والمساعدة العسكريّة،<br />
عمليات إعادة االستقرار بعد نهاية النزاعات.<br />
3( غابريال روبان: »برج من زمن ولّى«،<br />
<strong>لوموند</strong> <strong>ديبلوماتيك</strong>، مارس/آذار <strong>2019</strong>.<br />
4( تلميحا إلى شريط »ستيفن سبلبرغ« »يجب<br />
إنقاذ الجندي رايان« )1998( الذي يروي قصّ ة<br />
نزول الجيش األمريكي في النورمندي سنة<br />
.1944<br />
5( فايننشيل تايمز، لندن، 12 افريل/نيسان <strong>2019</strong>.<br />
6( »السيف والسوق . االتحاد الدفاعي سيعزّز<br />
التكامل االقتصادي األوروبي«، مسألة أوروبا،<br />
عدد 486، مؤسسة روبار شومان، باريس-<br />
بركسال، 1 أكتوبر/تشرين األول 2018.<br />
فيليب اليماري * Leymarie Philippe<br />
جميع الحقوق محفوظة
5 <strong>جويلية</strong>/<strong>أوت</strong> - تموز/آب <strong>2019</strong><br />
كلّ انتخابات<br />
جيش من ورق<br />
بطريقة ال تخلو من داللة،<br />
اختارت بلجيكا مؤخّرا الطائرة<br />
المقاتلة األمريكية »ف35«<br />
عوضا عن اقتناء أجهزة<br />
مصمّمة في أوروبا مثل رافال<br />
واالوروفايتر وغريبان. الطائرة<br />
األمريكية تم اختيارها من حوالي<br />
عشر دول أوروبية ودخلت<br />
طور االستغالل مؤخرا، وقد<br />
عدّت بمثابة الشافطة للميزانيات<br />
المخصّ صة للدفاع بحكم الشروط<br />
المفروضة على المشترين )نظام<br />
مغلق، التزام بالسريّة، برمجيات<br />
مرتبطة بالمصنّع األصلي<br />
)لوكهيد مارتن( وبالنظر إلى<br />
الكلفة الباهظة جدّا: دفع هذا<br />
األمر بفلورانس بارلي وزيرة<br />
الدفاع الفرنسية إلى حد التصريح<br />
خالل زيارة إلى واشنطن يوم 18<br />
مارس/آذار <strong>2019</strong> أمام مجلس<br />
الناتو: »إن الفصل الذي ينصّ<br />
على التضامن بين أعضاء الناتو<br />
هو الفصل 5 ال الفصل ف35«.<br />
في الوقت الراهن، تكتفي<br />
هيئة األركان لالتحاد األوروبي<br />
بإنجاز مهمّات تكوينية وليس<br />
لديها قوات موضوعة على ذمّتها<br />
بشكل دائم. توجد مجموعات<br />
قتالية قوامها 13 ألف جندي يتمّ<br />
استبدالهم بصفة دوريّة كلّ ستّة<br />
أشهر ولكنها على مدى ثالث<br />
عشرة سنة من الوجود لم تتدخّ ل<br />
على الميدان ولو مرّة واحدة. أما<br />
العمليات التي تُعتبر معقّدة مثل<br />
أرتميس التي جرت في جمهورية<br />
الكونغو الديمقراطيّة سنة 2003،<br />
أو أطالنطا في المحيط الهندي<br />
)منذ سنة 2008( فال شك أنها لم<br />
تعد ممكنة اإلنجاز اليوم بسبب<br />
نقص الوسائل.<br />
لقد أصبح النقاش اآلن<br />
مركّزا حول تعاونية في برامج<br />
التجهيز. لكنّ التقارب بين مذاهب<br />
التشغيل والرزنامة واألولويات<br />
اإلستراتيجية للبلدان المنتجة<br />
والمشترية يظل صعب المنال رغم<br />
وجود بعض االستثناءات البارزة<br />
مثل النظام األوروبي لتحديد<br />
المواقع عبر األقمار الصناعية<br />
)غاليليو( الذي أطلق سنة 2001<br />
والذي دخل طور االشتغال النسبي<br />
بعد تأخيرات في اإلطالق و ارتفاع<br />
مهول في التكاليف)7(. كذلك<br />
الشأن بالنسبة إلى الناقلة العسكرية<br />
الفرنسية »أ-400-م« أو الطائرة<br />
العمودية »اوروكبتار 665 تيغر«.<br />
إن إحساس األوروبيين بأنّهم<br />
شبه مُجبَرين على اقتناء المعدّات<br />
األمريكية يمثّل مشكال مضاعفا:<br />
إضافة إلى كونهم يحرمون<br />
مؤسساتهم أو مؤسسات جيرانهم<br />
األوروبيين من هذه الصفقات، هم<br />
يسهمون في تناقص الميزانيات<br />
المخصصة للدفاع إضافة إلى<br />
احتمال أن يجدوا أنفسهم »بجيوش<br />
بونساي«)8(. الجيش الفرنسي<br />
ذاته، رغم أنه يُعتبر أحد أهم<br />
الجيوش األوروبية تجهيزا<br />
ونشاطا، أحد أقلّها اعتمادا على<br />
الخارج في مجال الشراءات ال<br />
يمكنه في نفس الوقت تعصير<br />
قوّته الرادعة، واقتناء حاملة<br />
طائرات ثانية، واتّباع سياسة<br />
فضائيّة، وتأسيس نظام مستقلّ<br />
للدفاعات الجوّيّة، الخ. يجب عليه<br />
أن يُخصص لهذه المشاريع ال فقط<br />
%1،82 من الناتج الداخلي الخام<br />
،كما هي الحال راهنا، وال %2<br />
)كما يطلب ذلك الرئيس دونالد<br />
ترامب والناتو( بل %3.<br />
نظرا إلى الخالفات السياسية<br />
داخل االتحاد، ال يوجد أيّ تطوّر<br />
مؤسساتي كبير على المدى<br />
المنظور. أقصى ما في األمر هو<br />
إمكانية أن يتأسّ س على هامش<br />
المعاهدات نوع من مجموعة<br />
- أوروبا للدفاع على شاكلة ما<br />
تأسّ س حول العُمْلة الموحّ دة.<br />
المبادرة األوروبية للدفاع التي<br />
أطلقت يوم 25 جوان/حزيران<br />
2018 من طرف تسع دول)9(<br />
راغبة في بناء »ثقافة إستراتيجية<br />
مشتركة« يمكن أن تمثل حجر<br />
األساس لهذه المجموعة كما<br />
يمكن أن يشتغل على قاعدة<br />
التطوّع لألغلبية ذات الكفاءة<br />
باالستناد إلى الدول المؤطّ رة<br />
واالختصاصات حسب البلدان.<br />
وآنذاك ستطرح مسألة التنسيق<br />
بينه وبين بقية مؤسسات االتحاد.<br />
من جهة أخرى، فإن برلين<br />
وباريس اللتين يقع على كاهلهما<br />
ثقل الدفاع المشترك هما أبعد<br />
ما يكون عن تقاسم نفس الثقافة<br />
العسكرية. ألمانيا وبحكم ماضيها<br />
الثقيل ال يمكنها تصوّر إقحام<br />
جيشها »البندسفهر« دون موافقة<br />
»البندستاغ« وهذا ما ال يخدم ال<br />
الهجوم وال التدخّ ل. في أفغانستان<br />
على سبيل المثال، كان جنودها<br />
يحبّذون المشاركة في عمليات<br />
التنمية، أمّا مقاتالتها طورنادو<br />
فتكتفي بالمراقبة الجويّة)10(.في<br />
مقابل ذلك، يبقى النموذج الفرنسي<br />
»التنفيذي« جدّا الذي يمكنه أن<br />
ينخرط في الحرب بمجرّ د قرار<br />
من رئيس الجمهورية، نموذجا<br />
فريدا في أوروبا.إنّ هذا بال شكّ<br />
ضامن لسرعة التدخّل ولكنّه<br />
يستبعد كلّ مراقبة سياسية تقريبا.<br />
لندن، ال غنى عنها<br />
ينطبق األمر ذاته على<br />
صادرات األسلحة. ألمانيا الواقعة<br />
تحت تأثير االشتراكيين الديمقراطيين<br />
تضع مجموعة من القيود على بيع<br />
األسلحة. لقد أوقفت صفقة األسلحة<br />
مع المملكة العربية السعوديّة.<br />
أما فرنسا فتبدو غير متشدّدة في<br />
هذا الباب حتى وإن كان المستفيد<br />
السعودي يرتكب جرائم حرب<br />
في اليمن. تفضّ ل باريس مراعاة<br />
صناعتها العسكرية وهي شرط الحدّ<br />
األدنى من السيادة واالستقاللية على<br />
المستويين الوطني واألوروبي. كما<br />
يصطدم إنشاء هذا الفريق األوروبي<br />
بمسألة توسيع الضمان النووي<br />
الفرنسي ألن باريس هي اآلن العضو<br />
الوحيد الحائز على قوّة ردعيّة نوويّة<br />
جميع الحقوق محفوظة<br />
مستقّلة ومقعد دائم في مجلس األمن<br />
الدولي، وهو المقعد الذي تطالب<br />
بعض الشخصيات السياسية األلمانية<br />
بتقاسمه بين الدولتين.<br />
تضمّ معادلة األمن األوروبي<br />
المملكة المتحدة بالبريكست أو<br />
بدونه. باريس ولندن المرتبطان<br />
باتفاقيات النكستر هاوس )2010(<br />
يحقّقان لوحدهما أربعة أخماس<br />
البحث والتطوير العسكريين في<br />
أوروبا ويوفّران نصف الطاقات<br />
االستثماريّة، مع وجود التزامات<br />
مشتركة متّفق عليها في ميادين<br />
حسّ اسة مثل تشكيل قوّة ثنائيّة للتدخل<br />
السريع وتصميم الصواريخ ومحاكاة<br />
التجارب النوويّة. لعلّه من الواجب<br />
إيجاد الوسيلة التي تكفل إشراك<br />
لندن في معاهدة الدفاع واألمن التي<br />
يحلم بها ماكرون والتي عليها-<br />
حسب قوله- »أن نضبط التزاماتنا<br />
الضرورية باالتفاق مع حلف الناتو<br />
وحلفائنا األوروبيين: الترفيع في<br />
النفقات العسكرية و إدخال واجب<br />
الدفاع المتبادل حيّز التطبيق)11(.<br />
لقد تقلّصت أوروبا إلى مجرّ د قطع<br />
متناثرة من األحالف والتوافقات ذات<br />
الهندسة المتغيّرة، فهل يمكن ألوروبا<br />
للدفاع أن يحدد كيانه بغير الحدّ<br />
األدنى أي بإطالق العنان إلعالنات<br />
النوايا و للمصالح الصناعيّة؟<br />
جميع الحقوق محفوظة<br />
7( شارل براغين وغيّوم رونوار »غاليليو،<br />
عشرون عاما من الفوضى لمنافس محدّد المواقع<br />
ج.ب.س« <strong>لوموند</strong> <strong>ديبلوماتيك</strong>، ماي/أيار <strong>2019</strong>.<br />
8( فريدريك مورو و اوليفياي جيهن: »لماذا<br />
نحتاج إلى جيش أوروبي؟«، معهد العالقات<br />
الدولية واإلستراتيجية )ايريس(، باريس، جانفي/<br />
كانون الثاني <strong>2019</strong>.<br />
9( ألمانيا، بلجيكا، الدانمارك، اسبانيا، استونيا،<br />
فرنسا، هولندا، البرتغال، المملكة المتحدة.<br />
10( »لكن ماذا تفعل ألمانيا في أفغانستان؟«،<br />
<strong>لوموند</strong> <strong>ديبلوماتيك</strong>، فيفري/شباط 2011.<br />
11( مقال رأي تمّ نشره يوم 5 مارس/آذار <strong>2019</strong><br />
في الصحافة األوروبية.
<strong>جويلية</strong>/<strong>أوت</strong> - تموز/آب 6 <strong>2019</strong><br />
األفكار المسبقة حول<br />
رغم ذلك، كانت قائمة األبطال الوطنيين الفرنسيين الذين<br />
برزوا خالل »الثالثين سنة المجيدة« كافية لتكذيب الخرافة<br />
الليبيراليّة حول وجود صناعة دون دولة. إن مؤسسات<br />
مثل آريان وايرباص وقطارات كوراي وت.ج.ف )القطار<br />
السريع( والبرنامج االلكترو نووي، والتغطية الوطنية بشبكة<br />
الهاتف تشهد بجدوى وجود دولة موجهة ذات استراتيجية،<br />
دولة لم تتردّد في اللجوء إلى التأميم وإلى التخطيط وإلى<br />
فرض التسيير العمومي وإلى السياسة الحمائيّة بهدف إعادة<br />
بناء البالد وتعصيرها )حتى وإن تترجم ذلك في خسائر بيئية<br />
تأخرت السلط العمومية في اتخاذ اجراءات بحقها(.<br />
لورا را ييم * Raim Laura<br />
صحيح أن بعض المشاريع فشلت. مخططات كلكيل<br />
وكنكورد ومينيتال غالبا ما يتمّ ذكرُ ها من طرف منتقدي<br />
»الكُلبرتيّة التكنولوجية«. مع ذلك، يبيّن الخبير االقتصادي<br />
جاك سابير أنّ حتّى هذه النكسات تتميّز بما فيها من فوائد<br />
التعلّم. النقل األسرع من الصوت وإن كان كارثة تجاريّة<br />
سمح »بنشر المعارف والمعدّات في صناعة الطيران<br />
الفرنسية«، وهذا في حدّ ذاته ظاهرة »ضرورية بالنسبة إلى<br />
النجاح الالحق لبرنامج أيرباص«)3(.<br />
»الصناعة انتهت،<br />
جاء دور الخدمات«<br />
ما فائدة معارضة اتّجاه التاريخ؟ تكتفي الصناعة<br />
ببساطة باتّباع المسار الذي سلكته الزراعة قبلها. بما أن<br />
التطور يقتضي المرور من القطاع األول إلى الطور الثاني<br />
ثم منه إلى الثالث فإن بلدان الشمال تتجه نحو اقتصاد المادّي<br />
قائم على الخدمات، تسيّره »مؤسسات بال مصانع« )حسب<br />
عبارة سارج تشوروك الرئيس المدير العامّ لمؤسسة ألكاتال<br />
سنة 2001(، في حين يجري نقل اإلنتاج الصناعي الملوّث<br />
والشاقّ إلى البلدان ذات األجور المنخفضة.<br />
ال تعارُ ضَ بين الصناعة والخدمات ألنهما قطاعان<br />
متداخالن متكامالن. لكن االستعانة بمصادر خارجية في أداء<br />
وظائف كانت تُنجَ ز داخل المؤسسات الصناعيّة والتي شرع<br />
فيها منذ عشرين عاما )المطاعم، التنظيف، المحاسبة( تفسّ ر<br />
جزئيا انخفاض عدد مواطن الشّ غل المباشرة في الصناعة<br />
وازديادها في قطاع الخدمات. خالفا لذلك، تعرض المؤسسات<br />
الصناعية جملة من الخدمات مثل التركيب والصيانة، وكذلك<br />
التأجير. شركة »ميشالن«، على سبيل المثال، تعرض كراء<br />
اإلطارات المطّ اطيّة بحساب الكيلومتر.<br />
مع ذلك، شهد الغرب انهيار فروع إنتاجية كاملة خاصة<br />
في قطاعات النسيج واألحذية أو التجهيزات الكهرومنزلية<br />
أو الكيمياء أو الخشب أو البالستيك أو المطّ اط. أدّت ثالثون<br />
سنة من السلبية السياسية إلى نتيجة أقل ايجابية ممّا كان يبشر<br />
به المتغنّون بوقْف التصنيع. في فرنسا، أصبحت التجارة<br />
الخارجية تعاني عجزا منذ سنة 2004 ألن الميزان التجاري<br />
االيجابي لقطاع الخدمات ال يستطيع أن يعوّض نظيره السلبي<br />
لالتجار في السلع المصنّعة، كما أدّى غلق المصانع إلى إقفار<br />
مناطق بأكملها، وفقدانا للمهارة الفنية، ومع ذلك انخفضت<br />
نسبة األجور في قطاع الخدمات التي كان من المؤمّل أن<br />
تحمل مشعل النموّ بنسبة %20 عمّا كان عليه األمر في<br />
الصناعة)1(.<br />
في فرنسا يمثل ترحيل روسنيول، مصنّع أدوات التزلّج<br />
،ومصنّع شاي كوسماتي ومصنّعي النسيج بارابوت والديك<br />
الرياضي شواهد على وجود حركة عكسيّة. لئن ظلّت هذه<br />
الظاهرة قليلة الشأن في فرنسا فإنها آخذة في االنتشار داخل<br />
الواليات المتحدة األمريكية بسبب انخفاض كلفة الطاقة<br />
وانتعاش دوائر التوزيع القصيرة، والتوجّ ه نحو المنتجات<br />
ذات المحتوى التكنولوجي العالي، والتي ال تتطلّب يدا<br />
عاملة وفيرة العدد. مؤسسات آبل وجنرال الكتريك وكاتربيلر<br />
ولونوفو وحتى ورلبول لم تنتظر اإلجراءات الحمائية التي<br />
اتّخذها ترامب إلعادة توطين أنشطتها لما الحظت من<br />
ارتفاع لألجور في البلدان الصاعدة التي لم تعد تكتفي بأن<br />
تكون »مصانع للعالم« بل أصبحت بدورها تستثمر في البحث<br />
و في براءات االختراع .<br />
»ليس للدولة<br />
التدخل في هذا«<br />
جميع الحقوق محفوظة<br />
يجب على الدولة أن تتخلى عن أي قيادة صناعيّة ألنها<br />
ليست مساهما جيّدا و ال مسيّرا قديرا. أقصى ما يمكن أن<br />
تنهض به هو أن تكون مسؤولة عن فرض احترام قواعد<br />
المنافسة، وتوفير مناخ مالئم للنموّ من خالل تمويل البنية<br />
التحتية، وتثقيف عمّال المستقبل والبحث األساسي، في حين<br />
يسمح قانون السوق بانتفاء الفاعلين الذين لديهم من القدرة<br />
التنافسية والقدرة على التجدّد ما يتيح لهم البقاء.<br />
مدعومين بهذا اإليمان بالمنافسة الحرّ ة التي وضعت<br />
كمبدأ دستوري في االتّحاد األوروبي، تخلّت الحكومات<br />
المتعاقبة منذ منتصف الثمانينات عن كلّ رافعات العمل،<br />
وكانت شاهدة على اهتراء القاعدة الصناعية الوطنية.<br />
بعد بيشناي )األلمنيوم( وارسلور )صناعة الصّ لب( وبيل<br />
)اإلعالمية(، شهدت فرنسا وقوعَ مؤسسات أخرى كانت تُعتبر<br />
خِ يرة المصانع مثل الفارج )االسمنت(، وألكاتال )الهواتف(<br />
بين براثن المستثمرين األجانب، وكان ينبغي انتظار أزمة<br />
سنة 2008 التي سلّطت الضّ وء على عدم االستقرار المالي<br />
المتولّد عن عجز هيكلي خارجي فادح حتى تعود ضرورة<br />
اإلصالح اإلنتاجي، على األقل في الخطابات، إلى مكانتها<br />
في مشاغل السلطات العموميّة. لم يمنع ذلك تفكيك ألستوم «<br />
وتقديمه على طبق لألميركي جنرال الكتريك)2(.<br />
»يأتي االبتكار دائما<br />
من القطاع الخاص«<br />
الدولة المُثقلة بالبيروقراطية وبخمول الموظّ فين عاجزة<br />
عن تحفيز ما سمّاه عالم االقتصاد جوزاف شمبتر »روح<br />
الحيوان« لدى المبتكرين. السوق وحدها هي القادرة على<br />
إفراز المبتكرين وتمكينهم من وسائل االزدهار. هل من<br />
الغريب إذن أالّ تكون »سيليكون فاالي« فرعا من الحكومة<br />
األمريكية؟<br />
تغفل القصّ ة األسطورية للفكر الرّ يادي لرجال األعمال<br />
في كاليفورنيا حقيقة واقعة وهي أن القطاع الخاص لم يتكفّل<br />
مطلقا باالستثمار في بحوث باهظة الكلفة وفرص نجاحها<br />
غير مؤكّدة. بيّنت الخبيرة االقتصاديّة ماريانا مازوكاتو)4(<br />
أن أهم االبتكارات التكنولوجية التي تمّت خالل العقود القليلة<br />
الماضية تحقّقت بفضل التمويل النشيط من طرف الدولة:<br />
االنترنت موّلتها وكالة تابعة لوزارة الدفاع األمريكية )وكالة<br />
مشاريع البحوث الدفاعية المتطوّرة داربا(، كما موّل البرنامج<br />
العسكري »نافستار« مشروعَ نظام ضبط المواقع )ج.ب.س(،<br />
أما الشاشة اللمسية فابتكار استفاد من تمويليْن تكلف بهما كلّ<br />
من وكالة المخابرات األمريكية )س.إ .أ( والصندوق الوطني<br />
للعلوم وقدّماهما لباحثين تابعيْن لجامعة دوالوار، كما موّل هذا<br />
الصندوق ذاته الخوارزميّة التي يعمل بها محرّك غوغل. في<br />
صناعة األدوية، »%75 من الكيانات الجزيئيّة ذات األولوية<br />
الجديدة قد موّلتها في الواقع مخابر عموميّة مملّة وكافكائيّة.<br />
صحيح أن كبريات الشركات المصنّعة لألدوية مثل بفايزر<br />
وأمغان تشارك بدورها في االبتكار ولكن في القسم الخاص<br />
بالتسويق«، كما تفسّ ر المتحدّثة، وهي مؤسسات تُخصّ ص<br />
أكثر نفقاتها إلعادة اقتناء أسهمها قصد الترفيع في قيمتها<br />
عوض تخصيصها للبحث والتطوير«)5( إذا كانت المؤسسات<br />
الناشئة ورؤوس األموال المجازفة يلعبان دورا رئيسيا وقد<br />
التحقتا بالميدان في مرحلة ثانية أي بعد خمس عشرة أو<br />
عشرين سنة من توفير السلطات العمومية للنصيب األوفر من<br />
التمويل وتحمّل أكبر نصيب من المخاطرة .<br />
1( جان-كريستوف لو دويغو )تحت إشراف(: البورصة أو الصناعة، منشورات »ال<br />
تولياي«، باريس، 2016.<br />
2( فريدريك بياروشي وماتيو آرون: »الفخّ األميركي«، ج.س.التاس، باريس،<br />
<strong>2019</strong>، وجان-ميشال كتربوان: »باسم القانون... األميركي«، <strong>لوموند</strong> <strong>ديبلوماتيك</strong>،<br />
جانفي/كانون الثاني 2017.<br />
3( جاك سابير »السياسة الصناعية وعمليات الخوصصة«، مدوّنة »روسيا-أوروبا«،<br />
21 جوان/حزيران .2014<br />
4( ماريانا مازوكاتو »الدولة المبادرة. فضح القطاع العام في مقابل أساطير القطاع<br />
الخاص«، انتام براس، لندن، 2013.<br />
5( ماريانا مازوكاتو »ملتقى تاد العالمي لسنة 2013 بأدنبرغ: الدولة المبادرة،<br />
والمجازفة والمبتكرة«، أكتوبر/تشرين األول 2013، على اليوتوب.<br />
* صحافية.
7 <strong>جويلية</strong>/<strong>أوت</strong> - تموز/آب <strong>2019</strong><br />
اإلنعاش اإلقتصادي<br />
»القدرة التنافسية<br />
تتطلب تخفيض كُلفة العمل«<br />
وفقا لوزير االقتصاد والمالية برونو لومار: »نحن لم نكتسب<br />
بعدُ التنافسية المطلوبة خاصة مقارنة بجيراننا األلمان« )فرانس<br />
انتار، 26 نوفمبر/تشرين الثاني 2017(، كما يضيف أنه »يجب<br />
فتح باب هذا النقاش حول التخفيف من األعباء لمن يتحصلون<br />
على أقل من 2.5 مرة من األجر األدنى المشترك المضمون«.<br />
إن هذه األزمة أصبحت معروفة لفرط جريانها على األلسنة<br />
منذ ثالثين سنة. في اقتصاد مفتوح ومعرَّض إلى منافسة البلدان<br />
الصاعدة، تشكو الصناعة الفرنسية من »كلفة عمل« مشطّ ة في<br />
حين تَدين ألمانيا بنجاحها لسياسة االعتدال في األجور التي أرست<br />
دعائمها خالل سنوات 2000.<br />
يحيل هذا التشخيص على مضاعفة إجراءات اإلعفاء من<br />
المساهمات االجتماعية منذ سنة 1992 مثل اإلعفاء من األداء<br />
حول المنافسة والتشغيل. يسمح التخفيض في كلفة اإلنتاج من<br />
ناحية بالتخفيض في األسعار قصد ربح حصّ ة في األسواق، ومن<br />
ناحية أخرى إعادة العمل بالهوامش وبالتالي االستثمار في الترفيع<br />
في الجودة وفي التشغيل. نحن هنا إزاء »نظرية شميدت« الخالدة<br />
التي تقول »إن أرباح اليوم هي استثمارات الغد و مواطن شغل<br />
لما بعد غد« والتي تعود إلى سنة... 1974.<br />
أسفرت هذه الحملة ضدّ كُلْفة الشغل عن نتائج إيجابية. منذ<br />
سنة 2016، أصبحت كلفة الساعة لليد العاملة الفرنسية أقلّ من<br />
نظيرتها األلمانية ب 2.1 يورو)6(. لكنّ هذا العمل الفذ لن يكون<br />
كافيا إلحياء الصناعة الفرنسية. السبب: كلفة العمل ليست مسؤولة<br />
عن تراجع الصناعة أوّال ألنه يتمّ تالفيه بإنتاجية عالية. إذا قسّ منا<br />
الناتج الداخلي الخامّ على عدد ساعات العمل المنجزة، وجدنا أن<br />
الفرنسيين يحتلّون فعال نفس مستوى األمريكيين واأللمان. ثم<br />
إن ما قوّض بشكل أساسي القدرة التنافسية للصناعة الفرنسية منذ<br />
مطلع سنوات 2000 هو اليورو القويّ . بين سنتي 2000 و2010،<br />
لم ترتفع تكلفة ساعة العمل في المجال الصناعي إال بنسبة %32<br />
بسعر االورو و لكن ب %90 بسعر الدوالر )7( .<br />
يمكن كذلك تفسير التراجع الصناعي الفرنسي بتدويل<br />
المجموعات الكبرى منذ ثالثين سنة. في الوقت الذي دعّ مت<br />
فيه المؤسسات األلمانية قواعد اإلنتاج الوطنية، خيّرتْ نظيرتُها<br />
الفرنسية االنتشار الخارجي واالستعانة باالستثمار األجنبي<br />
المباشر وخاصة في البلدان الناشئة التي تحقّق نموّا قويّا.<br />
يُعدّ قطاع السيارات خير دليل على ذلك. منذ سنة 2006،<br />
تجاوز عدد السيارات الفرنسية المصنوعة بالخارج العددَ المصنّع<br />
على التراب الوطني والذي بدأ في التقلّص منذ سنة 2002.<br />
بينما ما انفك إنتاج الصناعيين األلمان داخل ألمانيا يرتفع. على<br />
هذا األساس أصبحت الشركات الفرنسية المتعددة الجنسيات سنة<br />
2014 تشغّل 6 ماليين شخص في الخارج مقابل 5 ماليين بالنسبة<br />
إلى منافستها األلمانية و1.8 مليون لاليطالية وأقلّ من مليون<br />
بالنسبة إلى االسبانية.<br />
يرجع خيار إعادة االنتشار العالمي الفرنسي في قسم منه<br />
إلى تموقع يعتمد البضاعة الضعيفة والمتوسطة القيمة حيث تدور<br />
المنافسة في مستوى األسعار باألساس،األمر الذي يدفع إلى<br />
خفض التكلفة عن طريق اإلنتاج في الخارج. بالمقارنة، يتضح<br />
أن القدرة التنافسية األلمانية قائمة على »غير السعر«، ما يعني<br />
أنها قائمة على الجودة واالبتكار وهذا ما يسمح لها بفرض أسعار<br />
أعلى. يذهب رجل االقتصاد غابريال كوليتي العضو المؤسس<br />
لجمعية البيان من اجل الصناعة إلى أن سياسة الضغط على<br />
األجور التي طبقت خالل فترة حكم المستشار األلماني غرهرد<br />
شرودر )2002-1998( كانت أقلّ نفعا إلرساء التنافس من الرفع<br />
في اإلنتاج.<br />
لعبت كلفة رأس المال أكثر من دورا حاسما كلفة العمل<br />
هي التي في ظاهرة تراجع التصنيع في فرنسا ألن المجموعات<br />
الكبرى كانت توزّع على المساهمين حصّ ة متزايدة من القيمة<br />
المضافة وذلك على حساب االستثمار والبحث. قبل ثالثين سنة،<br />
كانت اإلرباح الموزّعة تمثّل أقلّ من %5 من الثروة المحقّقة في<br />
الصناعة ،أما اليوم فقد بلغت هذه الحصة %25. على كلّ يورو<br />
صاف وُضِ ع في االستثمار، كانت المؤسسات توزّع 50 سنتيما<br />
في باب األرباح سنة 1978، مقابل 2 يورو سنة 2011)8(.<br />
تحت ضغط المساهمين، وجدت المؤسسات نفسها مُجبرة<br />
على التخلي عن بعض مشاريع االستثمار التي ال تدرّ أرباحا<br />
كافية، أو على إنجاز عمليات مالية باهظة الكلفة بهدف بلوغ نسبة<br />
%15 كمردود مطلوب في الغالب. يقول كوليتي مفسّ را: »بما أن<br />
المردوديّة المتوسطة تتراوح بين 6 و%8، وجدت المؤسسات<br />
نفسها محتاجة أكثر فأكثر إلى شراء أسهمها قصد الترفيع في قيمة<br />
السّ ندات«. هذه الممارسة واسعة االنتشار في الواليات المتحدة<br />
األمريكية أخذت في االنتشار في فرنسا: لقد خُصّ ص لها بين<br />
سنتيْ 1999 و9(2015( ما قدره 115 مليار يورو، أما بالنسبة إلى<br />
سنة 2018 فقد أعادت مؤسسات »كاك 40« شراء أسهم بما قدره<br />
10.9 مليار يورو. أمّا مجموع األرباح المهدورة فمن المستحيل<br />
تحديده. يقول رجل االقتصاد لوران كردينياي بأسف شديد: »من<br />
ذا الذي يستطيع أن يذكر الكمّ الهائل من الثروات المبدّدة التي لم<br />
تتحقّق، ومن مواطن العمل التي لم تُخلَق، والمشاريع الجماعية<br />
واالجتماعية والبيئيّة التي لم تُنفَّذ على اإلطالق لسبب وحيد وهو<br />
الحرص على المردوديّة؟«)10(. إذا كان لومار يرجو أن تعود<br />
صورة »القوّة الصناعيّة الكبرى« إلى فرنسا فعليه أن يبدأ بتخليص<br />
المؤسسات من الهيمنة المالية.<br />
»الحمائية غير<br />
فعالة وخطيرة«<br />
يعتبر الرئيس الفرنسي ايمانوال ماكرون أن »الحمائية هي<br />
الحرب، كذبة، انتكاسة« )26 افريل/نيسان 2017(. هي تمثّل<br />
واحدا من »الخطريْن العالمييْن الكبيريْن«. وفقا لمحافظ بنك فرنسا<br />
فرانسوا فيلرواد غلهو الذي يصرح: »الترفيع في أسعار الواردات<br />
يمثّل عقوبة لألسَ ر الضعيفة التي تستهلك أكبر نصيب من الموادّ<br />
المستوردة«)11(.<br />
إن األسطورة القائلة بأن السياسة الحمائية تؤدي حتما إلى<br />
الحرب، وتلك القائلة إن »التجارة الناعمة« عكس ذلك، تساعد على<br />
نشر السّ الم أقوال قد دحضها التاريخ. في سنة 1870، دخلت فرنسا<br />
وبروسيا في حرب بُعيْد توقيع معاهدة تبادل حرّ بين البلدين. على<br />
النقيض من ذلك، لم ينتج عن الحمائية التي ميّزت »الثالثين سنة<br />
المجيدة« أيّ صراع. ثم إن الفكرة القائلة بأن الحمائية تفترض ضمنيا<br />
»انتكاسة وطنية« وتضع حدّا للمبادالت فكرة ال تصمد أمام تحليل<br />
الوقائع. »فبيْن سنتيْ 1890 و1914، اتّبعت كل البلدان المصنّعة<br />
باستثناء بريطانيا العظمى سياسات تجارية مستمدّة من الحمائيّة« كما<br />
يذكّرنا بذلك رجل االقتصاد غايل جيرو »ولكن هذا لم يمنع هذه<br />
الفترة من أن تشهد توسّ عا مستمرّا للتجارة العالميّة )%5 من النموّ<br />
سنويا( إلى حدّ جعل المؤرخين يصفونها بأنها »العولمة األولى«)12(.<br />
لكن ماذا عنها اليوم؟ يحبّ أنصار التبادل الحر أن يشيروا<br />
إلى أنه بفضل العولمة تستطيع العائالت المحرومة في البلدان<br />
الغنية أن تمأل سلة مشترياتها باألقمصة واأللعاب والشاشات<br />
المسطّ حة بأثمان زهيدة. إذا كان صحيحا أن السياسة الحمائيّة<br />
تؤدي إلى ارتفاع أسعار هذه السلع المستوردة فإنه بإمكانها كذلك<br />
أن تتيح الخروج من هوَس كُلْفة العمل التي تخنق األجور. لنقل<br />
بعبارة أخرى إنّ ما نخسره كمستهلكين سنربحه بصفتنا أجَ راء. هذا<br />
باإلضافة إلى التحرر من عادة استهالك أشياء ال نحتاجها.<br />
ال يتعلق األمر بالتصفيق للرئيس األميركي دونالد ترامب<br />
الذي سلّط الرسوم الجمركيّة على األلمنيوم الكندي أو الالقطات<br />
الشمسية الصينية دون مباالة بالعواقب المنجرّة عن ذلك )إجراءات<br />
انتقامية، الجدوى اإلجراء في غياب سياسة صناعيّة ،الخ(. السياسة<br />
الحمائيّة ليست عصا سحريّة قادرةً على إحياء كل الصناعات<br />
القديمة، وال هي برنامج اقتصادي قائم الذات: هي ليست سوى أداة<br />
يمكن وضعها في خدمة سياسة محافظة وأحادية وعدوانيّة أو في<br />
خدمة سياسة أخرى تعاونيّة وبيئيّة واجتماعيّة.<br />
يقترح أنصار »الحمائيّة التضامنية« على سبيل المثال<br />
وضع حواجز جمركيّة أوروبية لمعاقبة الواردات الوافدة من<br />
بلدان ال تحترم بعض المعايير التّأجيرية واالجتماعية والجبائيّة<br />
والبيئيّة. ال يكون الهدف من ذلك تقديم المعونة »لجوراسيك بارك<br />
صناعي«)13(، ولكن حماية الصناعات الناشئة الالزمة لتحقيق<br />
انتقال بيئي بعيدا خاصّ ة عن المسألة الصناعيّة، والسماح بظهور<br />
نظام تجاري عالمي أكثر عدال وتوازنا. ذلك أن السياسة الحمائيّة<br />
ليست هي التي تؤدّي إلى الحرب بل هو المنهج غير المنظّ م الحالي<br />
الذي يُعْلي من شأن التنافسيّة حتى يجعلها قيمة مقدّسَ ة، ويضع<br />
األجَ راء والنظم الجبائيّة في موقف تنافس، في سباق ال نهاية له<br />
حول من يعرض كُلْفة اجتماعيّة أقلّ .<br />
6( مكتب اإلحصاء الفدرالي األلماني دستاتيس: »االتحاد األوروبي-مقارنة لتكاليف<br />
الشغل: ألمانيا في المرتبة السادسة«، فيسبادن، 16 ماي/أيار 2018.<br />
7( بيانات من مكتب إحصاءات العمل األمريكي.<br />
8( فلوريان بوت و آخرون : »تكلفة رأس المال: بين الخسائر وتهريب الثروات.<br />
الفهم األنسب لرأس المال لقيس تكلفته على المجتمع«، تقرير بحث، جامعة ليل 1<br />
وجامعة ليتورال، كالرساي، 2017.<br />
9( فلوريان بوت وآخرون، »تكلفة رأس المال...« )مرجع سابق(.<br />
10( لوران كوردونياي، »تكلفة رأس المال، السؤال الذي يغيّر كلّ شيء«، <strong>لوموند</strong><br />
<strong>ديبلوماتيك</strong>، <strong>جويلية</strong>/تمّوز 2013.<br />
11( تقديم للصحافة للرسالة التمهيدية للتقرير السنوي لبنك فرنسا موجهة إلى رئيس<br />
الجمهوريّة، 20 جوان/حزيران 2018.<br />
12( غائيل جيرو « فزّاعة الحمائيّة«، مجلة المشروع، عدد 320، البالن سان<br />
دوني،فيفري-مارس/شباط-آذار 2011.<br />
13( أوغستان لندياي ودافيد تيمار، »عصر جوراسيك بارك الصناعي«، ليزيكو،<br />
باريس، 21 أكتوبر/ تشرين األول 2009.<br />
جميع الحقوق محفوظة
<strong>جويلية</strong>/<strong>أوت</strong> - تموز/آب 8 <strong>2019</strong><br />
المصالحة بين<br />
القوى السياسية التقدمية التي ربطت التطور اإلقتصادي بتحسين ظروف العيش لطالما أهملت<br />
تأثير األنشطة االنسانية على المحيط. هل تحتم األولوية المتمثلة في حماية كوكب األرض أن تتخلى<br />
عن فوائد المجتمع الصناعي؟ ليس بالضرورة، عندما تتطوربعض العادات اإلستهالكية التي تولدت عن<br />
هذا المجتمع الصناعي.<br />
بحسب عدد كبير من<br />
المختصين في االقتصاد<br />
والمسؤولين السياسيين والنقابيين،<br />
إعادة التصنيع في فرنسا أمرا ملحا.<br />
بين 1974 و2017، تراجع نصيب<br />
الصناعة من التشغيل الجملي، بما<br />
في ذلك إنتاج الطاقة والصناعات<br />
االستخراجية، دون قطاع البناء،<br />
من نسبة %24،4 إلى %10،3.<br />
بلغ نصيب قطاع الخدمات،<br />
التجارية وغير التجارية، %81<br />
سنة 2017)1(. كما أن الصناعة<br />
لم تعد تنتج سوى %14 من القيمة<br />
المضافة. أي بعبارة أخرى، من<br />
الثروة االقتصادية المنتجة سنويا.<br />
تنبيه يردده الكثيرون مرارا<br />
وتكرارا: يتعلق األمر بكارثة.<br />
هل تختلف فرنسا عن البلدان<br />
األخرى ؟ ال أبدا ال. وفق أرقام<br />
مكتب العمل الدولي المتعلقة بمجمل<br />
قطاع الصناعة والبناء، تظل فرنسا<br />
بلدا أكثر تصنيعا مقارنة ببلدان<br />
أخرى نجد صعوبة في وصفها<br />
بأنها غبية في مجال اعتماد نظرية<br />
* األستاذ الفخري لإلقتصاد بجامعة ليل، ومؤلف<br />
كتاب »وداعا للنمو. طيب العيش في عالم متضامن«،<br />
بدائل اقتصادية، نشر دار matins« »Les petits ،<br />
باريس، 2010.<br />
النمو المقدسة: بلدان الشمال<br />
األوروبي، الواليات المتحدة، كندا،<br />
المملكة المتحدة، ودول أخرى. لئن<br />
كان من الصحيح أن عددا ضئيال<br />
من البلدان الغنية تسجل أفضل<br />
النتائج في هذا المجال، وهي<br />
أساسا ألمانيا واليابان، فإن تراجع<br />
حصة الصناعة في التشغيل ال يقل<br />
أيضا بروزا في هذه البلدان مثلما<br />
هو الحال في فرنسا: بين 1991<br />
و2018، تراجعت حصة التشغيل<br />
الصناعي من التشغيل الجملي ب 14<br />
نقطة في ألمانيا، وهو رقم أكبر من<br />
ذاك المسجل في فرنسا )تراجع ب<br />
%9، تماما مثل اليابان()2(.<br />
فما هي حجج مناصري تكثيف<br />
التصنيع؟ يقدم هذا المقتطف من<br />
مقال بعنوان »لنعط مجددا األولوية<br />
للصناعة«، والذي حمل توقيع زهاء<br />
ثالثين من المختصين في االقتصاد،<br />
مثلما أمضاه مسؤولون سياسيون<br />
ونقابيون من اليسار، ملخصا<br />
مفيدا شافيا لتلك الحجج: »تطوّر<br />
الصناعة كل مجاالت النشاط<br />
والبحث واالستثمار، وفي النهاية،<br />
التشغيل« )<strong>لوموند</strong>، 18 جانفي/<br />
كانون الثاني 2017(. لكن، كيف<br />
يمكن لقطاع يمثل ما بين 8 و%20<br />
من التشغيل أو القيمة المضافة في<br />
البلدان الغنية أن يصبح المحرك<br />
الذي »يجر« باقي القطاعات، بما<br />
في ذلك التشغيل؟<br />
هذا االعتقاد يجد جذوره<br />
في حقبة التعارض الذي تشكل<br />
في القرن التاسع عشر من قبل<br />
مختصي االقتصاد التقليديين وكارل<br />
ماركس: الصناعة تخلق الثروات.<br />
تتطور الخدمات بفعل الفوائض<br />
التي تفرزها الصناعة. وعليه فإن<br />
أولوية الصناعة تكمن في طابعها<br />
»المنتج«، في تعارض مع »عدم<br />
إنتاجية« الخدمات.<br />
اكتملت اللوحة الحقا<br />
بفرضيات أخرى منها على سبيل<br />
المثال: تحقق الصناعة مرابيح<br />
إنتاجية أرفع من غالبية الخدمات،<br />
كما توج هذا المسار بإطالق تسمية<br />
»الدجاجة التي تبيض ذهبا« من قبل<br />
اإلقتصادي بنيامين كوريات)3(،<br />
لكونها »قاطرة« مجمل عناصر<br />
النمو. يؤكد اقتصاديون آخرون<br />
بأن الصناعة تمثل عنصرا محددا<br />
للتنافسية العالمية، دون القدرة<br />
دوما على إدراك أن ما كان حقيقيا<br />
باألمس قد فقد دقته وفائدته اليوم:<br />
أال يمثل قطاعا الفالحة والخدمات<br />
رهانات جوهرية في كل االتفاقات<br />
المسماة اتفاقات التبادل الحر؟<br />
هناك حجة أخرى عفا عليها الزمن<br />
ومؤداها أن التجديد الصناعي هو<br />
العنصر األهم.<br />
عندما يتعلق األمر بتفسير<br />
مسببات التراجع التاريخي للتشغيل<br />
الصناعي، غالبا ما يتم توجيه<br />
االتهام لعمليات نقل نشاط الشركات<br />
لبلدان أخرى. عملية نقل النشاط<br />
ال تمثل في واقع األمر سوى ما<br />
بين 10 و%15 من الظاهرة على<br />
مستوى فرنسا)4(. من األكيد أنه<br />
يتعين العمل على الحد من عمليات<br />
نقل النشاط هذه، وحتى منعها،<br />
لكن، حتى مع ذلك، فإن ما بين 85<br />
و%90 من »المشكلة« تظل قائمة.<br />
ننتج أكثر<br />
كي نستهلك أكثر<br />
و... نلوّث أكثر<br />
من بين أسباب خسارة 2،2<br />
مليون موطن شغل في فرنسا بين<br />
1980 و2017، يتوافق السبب<br />
األكثر حسما مع توجهين تاريخيين<br />
مزدوجين. من ناحية، يتعلق الطلب<br />
األسري أقل فأقل بسلع صناعية،<br />
ويتصل أكثر فأكثر بخدمات تجارية<br />
أم ال: تراجع حصة السلع المستدامة<br />
)السيارات، العقارات، اآلالت<br />
المنزلية..( ونصف المستدامة<br />
)المالبس بالخصوص( في حجم<br />
االستهالك الفعلي لألسر من %22<br />
في العام 1960 إلى %12،4 سنة<br />
2017)5(. من ناحية أخرى، كانت<br />
مكاسب اإلنتاجية في الصناعة<br />
وستظل أكثر أهمية مما هو األمر<br />
في معظم قطاعات الخدمات. يفسر<br />
تراكم هذين التوجهين طويلي األمد<br />
بشكل رئيسي ومهم أسباب تراجع<br />
وزن الصناعة في التشغيل في فرنسا<br />
كما في باقي أنحاء العالم تقريبا، بما<br />
في ذلك بلدان مجموعة »البريك«<br />
BRIC ا)6( )البرازيل وروسيا<br />
والهند والصين التي تشكلت سنة<br />
2009(، والتي أصبحت الحقا<br />
»بريكس« BRICS بعد انضمام<br />
جنوب إفريقيا للمجموعة سنة<br />
.2011<br />
يكمن التفسير اآلخر لتراجع<br />
التشغيل الصناعي في ثالث<br />
ظواهر متضافرة مميزة للعولمة<br />
النيوليبرالية، 1( تكثيف العمل،<br />
2( منافسة بلدان ذات أجور<br />
متدنية وذات معايير اجتماعية<br />
وبيئية ضعيفة، تنتج عمليات<br />
نقل النشاط اإلنتاجي مثلما تنتج<br />
االستهالك )اقتناء منتجات بلدان<br />
أخرى(، 3( تغليب العنصر المالي<br />
على الشركات، ما يقودها إلى<br />
إغالق مؤسسات أو اإلحجام عن<br />
االستثمار، ال ألنه لم يعد لديها<br />
أسواق، وإنما ألن المردودية<br />
بالنسبة لمالك األسهم ال تبلغ 10 أو<br />
.%15<br />
ويستنكر الفكر التصنيعي<br />
اليساري، الذي يدافع عنه عدد<br />
من االقتصاديين أو المناضلين<br />
القريبين من الحركة العمالية،<br />
فعال، للعوامل الثالثة المذكورة<br />
أعاله، التي يعتبرونها أدوات<br />
»كسر« من المؤكّد لبعض<br />
المؤسسات أو األنسجة الصناعية.<br />
التصنيع أسهَم في تحسين ظروف<br />
العيش على مدى حقبة تاريخية<br />
طويلة. لكن الصناعة لم تكن<br />
النشاط الوحيد الذي أسهم في<br />
ذلك التحسن: في القرن العشرين،<br />
اضطلعت الخدمات العمومية<br />
المتصلة بالتعليم والصحة والنقل<br />
والعمل االجتماعي بدور ال يقل<br />
أهمية، تماما مثل النشاط الزراعي<br />
الريفي.<br />
من ناحية أخرى<br />
وبالخصوص، هذا التصنيع الذي<br />
حقق مكاسب إنتاجية عالية،<br />
تم االحتفاء به على أنّه قلب<br />
السنوات الثالثين المجيدة، وهو<br />
الذي انجرت عنه أضرار )أو<br />
»عوامل خارجية«( اجتماعية<br />
وصحية وبيئية تم التفطن إليها<br />
منذ سبعينات القرن الماضي.<br />
عندها، بدأت وطأة اإلنسانية على<br />
المنظومة اإليكولوجية، في تخطي<br />
قدرة الطبيعة على توفير الموارد<br />
العديدة المتجددة التي ابتلعتها<br />
ماكينة اإلنتاج المادي، كما أن<br />
انبعاثات غاز الكاربون في الفضاء<br />
قد تجاوزت حدودا سببت االنحباس<br />
الحراري. ويمكننا القول بأنه،<br />
ومنذ ذلك الوقت، تحولت مرابيح<br />
اإلنتاجية )إنتاج أكثر دوما بنفس<br />
حجم قوة العمل أو بحجم أقل( غالبا<br />
إلى خسائر، بعضها أضحى اليوم<br />
يتهدد أمالكا حيوية مشتركة، مثل<br />
المناخ أو المياه وكذلك الموارد<br />
غير المتجددة )المواد المنجمية،<br />
1( الحسابات الوطنية لسنة 2017، المعهد الوطني<br />
الفرنسي لإلحصاءات ،Insee باريس، ماي/أيار<br />
.2018<br />
2( معطيات البنك العالمي.<br />
3( محاضرة ألقيت في ليل يوم 21 نوفمبر/تشرين<br />
الثاني 1994.<br />
4( ميشال هوسون، »تقارير عديدة تحلل أثر<br />
عمليات نقل نشاط الشركات على التشغيل«،<br />
مذكرة للهيئة األوروبية لمراقبة العالقات<br />
الصناعية ،)EIRO( جوان/حزيران 2005،<br />
http://hussonet.free<br />
5( الحسابات الوطنية لسنة 2017، مصدر سبق<br />
ذكره.<br />
6( »بلدان منظمة )بريك ،)BRIC ورشات<br />
صناعية أو فالحية من العالم، أضحت أكثر<br />
فأكثر... اقتصاديات خدمات«، قوموا!، 2 أفريل/<br />
نيسان 2014،<br />
blogs.alternatives-economiques.fr<br />
جان غادراي * Gadrey Jean<br />
جميع الحقوق محفوظة
9 <strong>جويلية</strong>/<strong>أوت</strong> - تموز/آب <strong>2019</strong><br />
الصناعة والطبيعة<br />
الطاقات األحفورية، وأيضا<br />
الرمال(، التي أصبحت بدورها<br />
عرضة لإلستنزاف وحتى النفاد<br />
الكلي.<br />
هكذا، يغفل الصناعيين عن<br />
استنكار هذه الكارثة اإلنسانية<br />
والبيئية والصحية: أضحى القطاع<br />
الفالحي)7( ال يوفر إال 750 ألف<br />
موطن شغل سنة 2017، مقابل<br />
1،88 مليون سنة 1980، وهو<br />
تراجع ب %60 وبنسبة أعلى<br />
من التراجع المسجل في القطاع<br />
الصناعي خالل نفس الفترة<br />
)%43(. السبب الكامن: تصنيع<br />
الفالحة بفعل سياسات فالحية<br />
إنتاجوية واتفاقات »للتبادل الحر«<br />
تحطم النشاط الزراعي، في فرنسا<br />
كما في غيرها من البلدان. هناك<br />
ظاهرة مشابهة مع تصنيع التجارة<br />
عبر إضفاء طابع مسلعن كبير<br />
وإنتاجوي عليها مثلما هو األمر<br />
بالنسبة لقطاعات خدماتية أخرى<br />
ننتج بطريقة أخرى سلعا وخيرات<br />
تستجيب لحاجيات اجتماعية<br />
متسمة ب »البساطة واالعتدال<br />
ماديا وطاقيا«، وتم ابتكارها تبعا<br />
لمقادير وحدود ال يجب تخطيها من<br />
أجل أن يظل العالم مكانا صالحا<br />
للعيش. من األكيد أن ذلك يشمل<br />
المناخ، مع رسم هدف »صفر<br />
انبعاثات غازية خالصة«)8( )أو<br />
»الحياد الكربوني«( في أفق العام<br />
2050، وإنما أيضا هدف التنوع<br />
البيولوجي الذي يتعين العمل<br />
بصورة عاجلة على عكس مسار<br />
تآكله، إضافة إلى الحد من بعض<br />
أشكال التلوث )تلوث الهواء،<br />
والتلوث الكيميائي، وتلويث<br />
البيئة بالنفايات البالستيكية...(<br />
التي أصبحث كارثية، وأخيرا<br />
التصرف المتزن والعقالني<br />
في ما تبقى من موارد غير<br />
متجددة، تلتهمها حاليا الرأسمالية<br />
الصناعية الحرارية بنسق غير<br />
قابل لإلستدامة)9(.<br />
من بين عشرات األمثلة<br />
المستقاة من هذه األعمال )التي ال<br />
تشكل مرجعية مطلقة وإنما نقطة<br />
ارتكاز مثالية(، نجد حاجيات<br />
حركية األشخاص واإلنتاج<br />
الصناعي الكفيل باإلستجابة<br />
لهذه الحركية. تستبق الدراسات<br />
المذكورة تناقصا حادا للتبعية<br />
للسيارة من اآلن وحتى أفق 2050،<br />
في حين أنه في العام <strong>2019</strong>، على<br />
كلّ أربع استعماالت لسيارة يسجل<br />
استعمال على مسافة ال يتجاوز<br />
طولها 3 كيلومترات، كما أن أكثر<br />
من نصف عدد األشخاص الذين<br />
يقيمون على بعد أقل من كيلومتر<br />
واحد عن موقع عملهم يتنقلون إليه<br />
بواسطة السيارة ووسائل النقل<br />
المشترك تظل غير كافية وعالية<br />
الكلفة. عليه ستكتسب االستعماالت<br />
المتزنة والمعتدلة أهمية أكبر،<br />
مقارنة بالمسعى الرامي إلى تكثيف<br />
استخدام السيارات الكهربائية<br />
والسيارات الهجينة )األولوية<br />
)مقابل %90 من أسطول السيارات<br />
سنة <strong>2019</strong>(، فإن معدل استهالكها<br />
سيكون في حدود 3 لترات لكل<br />
100 كيلومتر. سيتم أيضا خفض<br />
السرعة القصوى. سيرتفع معدل<br />
عدد األشخاص بالنسبة لكل سيارة<br />
من 1،6 إلى 2،4 بفضل تقاسم<br />
استخدام السيارات. كما أن مصانع<br />
السيارات ستستعمل أكثر فأكثر<br />
مواد مرسكلة وتلتزم باالنخراط في<br />
مسار إعادة االستعمال والكراء.<br />
هذا باالضافة إلى مسألة استهالك<br />
الطاقة )منزوعة الكاربون ودون<br />
اللجوء إلى الطاقة النووية( التي<br />
ستتراجع إلى النصف، مثلما<br />
سيتراجع استهالكها للفوالذ.<br />
سينتهي األمر بهذه الصناعة،<br />
بفعل التزايد المطرد لألدوات<br />
اإللكترونية، الفاقدة في غالبيها<br />
للوظيفية، إلى تركيز جهدها على<br />
إنتاج آليات نقل جماعي ودراجات<br />
)كهربائية أو ال(، وتجهيزات<br />
السكك الحديدية، إلخ...<br />
جميع الحقوق محفوظة<br />
االستهالك واإلنتاج الصناعي نحو<br />
منتجات مستديمة وقابلة للتصليح<br />
وإعادة االستعمال، وبالنسبة لبعضها،<br />
قابلة لالستعمال المشترك، وهو<br />
ما يمر عبر إقرار حوافز، وأيضا<br />
وبالخصوص من خالل سن القوانين.<br />
هكذا، نقتحم تيارا أساسيا آخر على<br />
طريق تصور مستقبل متالئم مع<br />
مقتضيات حماية الكرة األرضية:<br />
تيار »التقنيات منخفضة الكلفة«<br />
tech( ،)Low أي تكنولوجيات أكثر<br />
بساطة.. ولكنها ال تقل تجديدا.<br />
»استعادة، تصليح،<br />
إعادة بيع وتقاسم:<br />
نموذجا لإلتزان<br />
كتب فيليب بيويكس، وهو أحد<br />
أبرز ملهمي هذا التيار الذي يشهد<br />
انتشارا متناميا، يقول: »من اجل<br />
رسكلة مثلى للموارد والترفيع في مدة<br />
حياة األدوات واآلالت التي نملكها،<br />
يتعين إعادة النظر بصورة معمقة في<br />
هذه األدوات واآلالت، وتصنيع أدوات<br />
مبسطة وصلبة )قد يكون إيفان إيليتش<br />
أطلق عليها اسم »آالت مألوفة«(،<br />
وقابلة للتصليح وإعادة االستخدام،<br />
ومنمذجة وقابلة للتعديل ومصنوعة<br />
من مواد بسيطة، ويسيرة التفكيك، مع<br />
االستعمال النادر والمقتصد للموارد<br />
النادرة وغير القابلة للتعويض مثل<br />
النحاس والنيكل والقصدير والفضة، مع<br />
الحد من المحتويات اإللكترونية«. يتابع<br />
قائال: »يتعين، في األخير، القيام بعملية<br />
تفكير معمقة بخصوص أنماط إنتاجنا،<br />
وإعطاء األفضلية للورشات المركزة<br />
قرب أحواض االستهالك، المنتجة بقدر<br />
ضئيل، ولكنها أكثر كثافة من حيث<br />
العمل، وأقل مكننة وروبوتية، لكنها<br />
مقتصدة للموارد والطاقة، ومتمحورة<br />
حول شبكة استرجاع وتصليح وإعادة<br />
بيع وتقاسم لألدوات المستعملة في الحياة<br />
اليومية«)11(.<br />
تم نزع طابعها اإلنساني، من خالل<br />
تحول هذه القطاعات إلى مصانع<br />
ذات تكنولوجيات عالية. مستقبال،<br />
أضحت عملية التصنيع من أجل<br />
تحقيق مرابيح في اإلنتاجية، تعني<br />
في غالب الحاالت نزع الطابع<br />
اإلنساني عن النشاط وتدمير البيئة<br />
وكذلك المناخ. غير أن إرساء نمط<br />
صناعي آخر يظل أمرا ممكنا،<br />
عندما نقبل بأن يكون وزن هذا<br />
القطاع أقل في االقتصاد.<br />
من أجل تصور مستقبل<br />
قطاع الصناعة )لكن ذلك ينطبق<br />
أيضا على القطاعات األخرى(،<br />
من اليسير أن نفصح عن رؤية<br />
شمولية، لكن تجسيدها على غاية<br />
من الدقة والتعقيد: يتعلق األمر بأن<br />
ومن أجل تخطي هذه المبادئ<br />
العامة باتجاه آفاق ملموسة،<br />
يتوجب تناول التفاصيل المتصلة<br />
باالستخدامات القابلة للدعم، ثم<br />
بإنتاج األصناف الرئيسية من<br />
السلع والخيرات الصناعية، بما<br />
في ذلك الطاقة بكل أشكالها.<br />
يتطلب ذلك خبرات فنية عالية،<br />
مثلما يتطلب خبرات اجتماعية<br />
ومواطنية، وهو ما يمثل بناء<br />
جماعيا على المدى الطويل يكون<br />
محور نقاش عام. إنها الحالة<br />
الفريدة في فرنسا، والمتصلة<br />
بسيناريوهات »الطاقة السالبة«<br />
10( المرتبطة<br />
Néga )ا))<br />
Watt<br />
بسيناريوهات صيانة األراضي<br />
)Afterres( 2050 التي أعدتها<br />
جمعية »سوالغرو«.<br />
الوحيدة للصناعيين والمسؤوليين<br />
السياسيين(. صحيح أن التجديدات<br />
الصناعية لن يكون مآلها الزوال،<br />
لكن عوضا عن خدمة السباق<br />
نحو القوة، يتوجب أن تكون هذه<br />
التجديدات مدخال البتكار نماذج<br />
أكثر اعتداال واتزانا.<br />
عمليا وإلى غاية سنة<br />
2050، سيتم التخفيض في عدد<br />
الكيلومترات التي يقطعها كل<br />
ساكن في السيارة الفردية لفائدة<br />
أنماط نقل أخرى أقل تلويثا بقدر<br />
كبير. ستتمتع السيارات بمدة حياة<br />
أطول، وستستخدم في غالبيتها<br />
مصادر طاقة متجددة. أما نسبة<br />
10 بالمائة من السيارات التي<br />
ستواصل استعمال المواد البترولية<br />
يتعلق األمر بحلم يقظة ؟<br />
قطعا ال، باعتبار أن السيناريوهات<br />
المذكورة تطرح محصالت وآفاقا<br />
مرقمنة في جميع القطاعات<br />
والمنتجات: من الطاقة في قطاع<br />
البناء، مرورا بالتسخين واألجهزة<br />
الكهربائية المنزلية واألجهزة<br />
اإللكترونية وصوال إلى التغذية،<br />
مرفقة ذلك، كل مرة، بتقييم آلفاق<br />
معقولة مرتبطة يتطور درجة<br />
النجاعة )الطاقية والمادية( وبتطور<br />
المنتجات المبسطة والوظيفية،<br />
وهو ما كنا نطلق عليه سابقا تسمية<br />
»مكافحة التبذير«.<br />
من أجل إنتاج أشياء أخرى<br />
بشكل آخر وبصورة مبسطة، تقود<br />
هذه السيناريوهات إلى توجيه<br />
)البقية صفحة 11-10(<br />
7( تضاف إليها تقليديا أنشطة الزراعات الغابية<br />
والصيد البحري.<br />
8( صافي االنبعاثات هي عبارة عن الفارق<br />
بين انبعاثات الكاربون وحصر أو امتصاص<br />
الكاربون، أساسا من قبل الطبيعة )الغابات،<br />
التربة الحية، المحيطات( التي تؤدي الوظيفة<br />
بشكل جيد... إن لم ندمرها.<br />
9( »آفاق الموارد العالمية <strong>2019</strong>«، البرنامج<br />
األممي للبيئة، باريس، <strong>2019</strong>.<br />
10( »سيناريو نيغا واط 2050-2017«،<br />
.)https://negawatt.org( بالخصوص التقرير<br />
بعنوان »فرضيات ونتائج«، جوان/حزيران<br />
.2018<br />
11( »أسطورة التكنولوجيا المنقذة«، إسبري،<br />
باريس، مارس/آذار أفريل/نيسان 2017.
<strong>جويلية</strong>/<strong>أوت</strong> - تموز/آب 10 <strong>2019</strong><br />
عندما كان الجنوب يراهن<br />
حصة كل منطقة من الصناعات المعملية<br />
العالمية بحساب النسبة المائوية<br />
هل يكفي أن تساعد الدولة المستثمرين المحليين لكي يتطور القطاع الصناعي؟<br />
خالل الستينات والسبعينات، اختارت عدة دول هذه االستراتيجية لتصطدم في كل<br />
مرة بنفس الصعوبات.<br />
45<br />
(ب %)<br />
فيفاك شيبّار * Chibber Vivek<br />
40<br />
1<br />
آسيا<br />
الإتحاد الأوروبي<br />
35<br />
أمريكا شمالية<br />
افريقيا<br />
جنوب الصحراء<br />
بصفة عامة، يتمّ تحليل استراتيجيات التنمية التي اتُّبعت<br />
بعد الحرب العالمية الثانية في بعض بلدان أمريكا الالتينية وآسيا<br />
والشرق األوسط حول ثالث أفكار. أوال، يُستحضَ رُ التصنيع السريع<br />
الذي تحقّق من خالل بذل جهود جبّارة من أجل اللحاق بركب<br />
الدول المتقدّمة. في قلب هذه اإلستراتيجية، توجد آلية التصنيع عن<br />
طريق تعويض الواردات التي تهدف إلى تعزيز نموّ الصناعات<br />
عبر عملية تتمّ على مرحلتيْن، أوالهما الحدّ من تدفّق الواردات عن<br />
طريق فرض رسوم جمركيّة ومراقبة الجودة قصد فتح السوق أمام<br />
الصناعات المحلّيّة. وثانيتهما دعم النموّ السريع لهذه المؤسسات<br />
عن طريق منح سَ خيّة. على هذا األساس، وُضِ عت على ذمّة رجال<br />
األعمال المحليين آليتان رئيسيتان وهما المنح والرسوم الجمركيّة<br />
لتمكينهم من احتالل فضاء خاص بهم، مالئم لتطوّرهم، يجعلهم في<br />
مأمن من المنافسة التي تشكّلها البلدان األكثر تقدّما.<br />
تشير الفكرة الخاطئة الثانية إلى أن التصنيع قد وُضع<br />
»كمشروع مشترك« بين النُّخب السياسية وكبار الموظّ فين وأرباب<br />
العمل المحلّيين. إذا كان بعضهم يُضيف إليهم )بخجل( األجراء<br />
فإن األطراف الحقيقية هي أساسا الصناعيّون والنّخب السياسيّة<br />
الذين بدأ نجمُهم في الصّ عود آنذاك.<br />
أمّا الفكرة الثالثة والتي لم تَعُد محلّ سؤال فتُفيد أنّ الدولة قد<br />
تكون انتفعت بمكانة متميّزة في إطار تحالفها مع أوساط األعمال.<br />
هذا ما يفسّ ر سبب تقديم التصنيع السريع على أنه مجموعة من<br />
* أستاذ مشارك بقسم علم االجتماع بجامعة نيويورك.مؤلّف كتاب »نظرية ما بعد االستعمار<br />
وشبح رأس المال«، منشورات »السيمتري«، تولوز، 2018. صدرت نسخة من هذا النص في<br />
طبعة سنة 2005 من مجلّة »السجلّ االجتماعي« Register( .)Socialist<br />
المشاريع التنموية التي »قادتها الدولة« والتي انبنت قصّ تُها على<br />
النحو التالي: بالنظر إلى حداثة وصغر حجم القطاع الصناعي<br />
المحلّي في البلدان المعنيّة، ونظرا إلى النموّ غير المتكافئ<br />
والمُشتّت لألسواق، ولوجوه القصور في األسواق المالية وجد<br />
القادة السياسيون أنفسهم مُجَ برين على تولّي أمر التصنيع بأنفسهم.<br />
لكن هذه الصورة ال تنقل الصعوبات التي وجدتها الدول في أداء<br />
دورها األساسي المتمثّل في تحويل تدفّق االستثمارات العمومية<br />
والخاصّ ة من القطاعات التي تدرّ أرباحا كثيرة ولكنها ذات إنتاج<br />
اجتماعي كسيح قصد توجيهها نحو مجاالت نشاط ذات مردود<br />
اجتماعي عالٍ .<br />
في العموم، توصّ لت استراتيجيات التنمية التي انتهجتها الدول<br />
في كل من أمريكا الجنوبية والشرق األوسط وجنوب آسيا إلى<br />
تحويل االقتصاد نحو االتجاه المطلوب. ولكن هذا التحوّل تمّ بطريقة<br />
فوضويّة، وبنفقات عمومية ضخمة، وولّد قطاعات خاصّ ة غير<br />
فعّالة. تظهر كلفة هذه المشاريع بشكل صارخ في الضغط المتزايد<br />
الذي فرضته هذه العملية على ميزانيات الدول. كان على هذه الدول<br />
أن تمتصّ نصيبا وافرا من الخسائر التي سجّ لها القطاع الخاص،<br />
و أن تواصل تزويدها باإلعانات، وأن تتصرّف في الخلل المتزايد<br />
في الميزان التجاري ألن توريد التجهيزات ال يعوّضه تدفّق<br />
االستثمارات نحو قطاعات نشاط مالئمة للتصدير. إذا كانت الدولة<br />
هي المتحكّمة في العملية فعليّا، كيف نفسّ ر هذا الكمّ الكبير من<br />
المصاعب التي اعترضتها والتي عجّ لت بتهاوي المرحلة التنموية<br />
والمنعرج النيوليبرالي؟<br />
بالنسبة إلى الكثيرين، يتمثل الجواب األكثر إقناعا في<br />
التأكيد على عدم كفاءة القيادات السياسية. بيّن سَ يْلٌ من الدّراسات<br />
التي أنجزت خالل الخمس عشرة سنة األخيرة أن أغلب دول<br />
30<br />
25<br />
20<br />
15<br />
10<br />
5<br />
0<br />
1970 1980 1990 2000 2010 2017<br />
.1<br />
14,8<br />
10,2<br />
9,2<br />
21,2<br />
17,4<br />
17,3<br />
21,2<br />
16,8<br />
15,6<br />
18,8<br />
15,5 14,2<br />
13,9<br />
8,5<br />
8,0<br />
أمريكا اللاتينية والكاراييب<br />
في وضعها الحالي<br />
المصدر: مؤتمر الأمم المتحدة حول التجارة والتنمية <strong>2019</strong><br />
حصة الصناعة المعملية من التشغيل<br />
بحساب النسبة المئوية (%)<br />
أوقيانوسيا<br />
شمال إفريقيا<br />
1995 2010 2018<br />
الإتحاد المملكة إيطاليا ألمانيا فرنسا<br />
الأوروبي المتحدة المصدر: أوروستات، <strong>2019</strong><br />
القيمة المضافة لقطاعات الصناعة المعملية<br />
بحساب النسبة المائوية في 2017<br />
المملكة إيطاليا ألمانيا فرنسا<br />
المتحدة<br />
13,6<br />
27,7<br />
22,0<br />
14,0<br />
تجهيزات<br />
)بقية الصفحة 9-8(<br />
المصالحة بين<br />
المادية والطاقية الجديدة، وكذلك مع<br />
التحوالت التي ستطرأ على اإلنتاج<br />
والتشغيل؟<br />
بث غازات اإلحتباس<br />
الحراري هو امتياز<br />
12,3<br />
19,4<br />
22,6<br />
7,1<br />
8,6<br />
10,9<br />
14,8<br />
15,4<br />
وسائل النقل<br />
الصناعات الغذائية<br />
الصناعات الكميائية<br />
وشبه الصيدلية<br />
صناعة الصلب<br />
والمواد الفولاذية<br />
البلاستيك المطاط والمواد<br />
المعدنية غير الفولاذية<br />
النسيج والملابس<br />
والجلود والأحذية<br />
صناعات أخرى (تصليح<br />
وتركيب ومواد معملية<br />
مختلف، خشب وورق وطباعة<br />
والتحويل الثقيل والتكرير)<br />
ال شيء من كل ذلك يشبه العودة<br />
إلى ماض صناعي أسطوري وملوث.<br />
الصناعة البديلة التي يمكن أن تجنبنا<br />
األسوأ، تتطلب الكثير من التجديد،<br />
ولكنه تجديد متمايز عن ذاك المرتبط<br />
بالتكنولوجيات الرفيعة، رغم أن<br />
بعض التكنولوجيات الموجودة أو التي<br />
يتوجب تطويرها، يمكن أن تسهم في<br />
ذلك، ال سيما في ما يتصل بجانب<br />
النجاعة في استخدام الطاقة والمواد.<br />
مع ذلك، يظل سؤاالن قائمان:<br />
أي وزن اقتصادي ستحوزه الصناعة<br />
وفق هذا التصور؟ وكيف سيتفاعل<br />
المجتمع في مجمله مع هذه البساطة<br />
ليس هناك مجال للشك في أن<br />
وزن القطاع الصناعي في التشغيل<br />
سيشهد تراجعا عاما، رغم أن بعض<br />
مجاالته ستعرف، على العكس من<br />
ذلك، توسعا كبيرا. لكنه سيبين أن هذه<br />
التطورات ستكون أقل دراماتيكية من<br />
تلك التي نعيشها منذ عدة عقود. من<br />
ناحية، سينأى النشاط الصناعي عن<br />
الصيغ اإلنتاجوية، المحطمة لمواطن<br />
الشغل في الصناعة كما في غيرها من<br />
القطاعات. من ناحية أخرى، من شأن<br />
إعادة النظر الضرورية في التبادل<br />
الحر العالمي لفائدة إعادة توطين<br />
جزئية للمؤسسات، وضع حد لتناقص<br />
مواطن الشغل.<br />
لألثرياء<br />
ومن أجل التفكير في المجاالت<br />
الواعدة تشغيليا خالل المرحلة<br />
االنتقالية، يمكننا أن نستند إلى سيناريو<br />
»نيغا واط ،»Néga watt 2017 مع<br />
اعتماد نموذج مرجعي يتمثل في قطاع<br />
الطاقات المتجددة الذي سيوفر في أفق<br />
330 2030 ألف موطن شغل إضافي.<br />
هناك مصدر وهو منصة »مواطن<br />
الشغل المناخية«)12(، وهو ائتالف<br />
16 من كبريات الجمعيات والنقابات<br />
13,7<br />
11,3<br />
11,6 11,9<br />
8,4<br />
16,4<br />
14,3<br />
11,6<br />
8,3 7,3 8,8 8,2<br />
2,1 1,1<br />
19,0<br />
11,0<br />
9,5<br />
4,1<br />
15,4 17,6<br />
.1<br />
منتجات اعلامية وإلكترونية وبصرية ومعدات كهربائية وآلات ومعدات<br />
المصدر: «أهم أرقام الصناعة المعملية» الإدارة العامة للمؤسسات<br />
بوزارة الاقتصاد والمالية <strong>2019</strong>
11 <strong>جويلية</strong>/<strong>أوت</strong> - تموز/آب <strong>2019</strong><br />
على »البورجوازية الوطنية«<br />
الجنوب التي انتهجت سياسة تنموية لم تكن تتوفّر فيها القدرة<br />
المؤسساتية الضرورية لتطبيق سياستها االقتصاديّة. من هنا،<br />
تولّد السؤال اآلخر: إذا كانت سياسة االقتصاد الموجّ ه تتطلب<br />
قدرا معيّنا من إرساء دعائم الدولة، لماذا لم تبْن النخب السياسية<br />
المؤسّ سات المالئمة؟ ربما بسبب معارضة »شريكها« الرئيسي:<br />
»البورجوازيّة الوطنيّة«.<br />
التأكد من أن المال العام<br />
استخدم للغايات المرجوة<br />
ينبغي هنا أن يُفهَم التعبير بالمعنى الذي قصده منه واضعوه<br />
وهم ماركسيو العالمية األولى وخاصة العالمية الثالثة. هو تعبير<br />
يقصد به الرأسماليون المحليون الذين يراهنون على السوق الوطنية<br />
ويسعوْ ن إلى التحرّ ر من قبضة السلطة المركزيّة، و يتحالفون مع<br />
الدولة باسم التصنيع. في ضوء هذا التعريف، يبدو أن فرضيّة<br />
معارضة الرأسماليين الوطنيين لتقوية الدولة أمر فيه مفارقة ألنّ<br />
مثل هذا النهج يعرقل ازدهارهم الشخصي. فعال، لم يكن منظروا<br />
الخمسينات يتوقّعون هذا األمر: األدبيات النظريّة لذلك العهد<br />
ترفض هذا االحتمال.<br />
ينسب أنصار التقليد الماركسي هذا الدور السلبي إلى طائفة<br />
أخرى من البورجوازية وهي الكمبرادوريّة. هؤالء الرأسماليون<br />
المحليون الذين كانوا في الغالب يقيمون عالقات متينة مع المدن<br />
الكبرى عبر أنشطة تجارة أو مضاربة سواء كانت مرتبطة أو غير<br />
مرتبطة بتصدير المنتوجات الفالحية، كان يشكّ في انخراطهم في<br />
عملية التنمية الوطنية. صحيح أن الصناعيين الوطنيين لم يكونوا<br />
يُعتبرون شركاء في المسائل االجتماعية، ولكن كان يُتصوّر أنّه<br />
يمكن التعويل عليهم في السعي إلى إنشاء نموذج بورجوازي<br />
للتنمية. كانوا يُعتبرون ال غنى عنهم لتحقيقه.<br />
بعد الحرب العالمية الثانية، كانت النخب السياسية في كل من<br />
أمريكا الجنوبية والهند وبعض مناطق الشرق األوسط تطمح إلى<br />
تصنيع اقتصاداتها بأسرع وقت ممكن. لكنّ عددا هامّا من التجارب<br />
السابقة قد أثبت أن الصناعيين إذا ما تُركُوا على هواهم يتردّدون<br />
في االستثمار في القطاعات التي ال تعد بالنموّ إال على المدى<br />
الطويل. ثم إن المنتجات التي تدرّ أرباحا سريعة ومرتفعة تكون<br />
في أغلب األحيان ذات مردود اجتماعي ضعيف بل و حتى معدوم.<br />
من ثمّ، سعت سياسة التخطيط الصناعي إلى دفع للمؤسسات إلى<br />
السير في اتّجاه يشجّ ع على تحقيق هذين النوعين من اإلنتاجية في<br />
وقت واحد: اإلنتاجية االقتصادية واالجتماعية، سعى المخطّ طون<br />
في الجملة إلى اتّباع طريقة مَرِ نَة هدفها إقناع شركائهم: تقديم<br />
المنح وإسناد قروض بفوائض ضعيفة ومنح امتيازات جبائيّة، الخ.<br />
رغم ذلك، احتفظت السياسة الصناعيّة بخيار اللجوء إلى إجراء<br />
قسري في حال المقاومة حتى تتاكد من استعمال المال العام فعليّا<br />
في خدمة األهداف المرجوّة. باختصار، يرى النظام باعتباره يقدم<br />
هذه المساعدة للصناعيين أن هؤالء ال يستطيعون إنفاقه في ما<br />
أرادوا و كيفما أرادوا.<br />
تشاركية المخاطرة،<br />
واستيالء خاص للربح<br />
أما الرأسماليون فلهم من جهتهم رأي مخالف. إن التصنيع<br />
البديل لعمليات التوريد يحميهم من المنافسة الخارجيّة. سرعان ما<br />
وجدت األسواق المحلية نفسَ ها في قطاعات كثيرة رهينة احتكار<br />
حفنة من الصناعيين: يتطلّب اتّباع اقتصاد الحجم االستثمار<br />
الواسع في وسائل اإلنتاج، وهذا ما خدم مصلحة الصناعيين<br />
المبادرين، وزاد هذا االمتياز فتعزّز بميزة أخرى يوفّرها<br />
التصنيع البديل عن التوريد تتمثّل في التّحديد المتعمّد، عن<br />
طريق الوسائل اإلدارية، لعدد المنتجين في قطاع معين ذلك أن<br />
الحجم الصغير للسّ وق كان يبعث في نفوس المسيّرين الخوف من<br />
المنافسة المفرطة أو المدمّرة.<br />
من ناحيتهم رأى الرأسماليون األشياء بشكل مختلف. بمجرّ د<br />
تحصينهم ضدّ المنافسة الخارجية يحصل الرأسماليون المحليون<br />
على شبه احتكار ألسواقهم الخاصة: ومن ثمّ لم يعودوا معنيين<br />
باالبتكار واالستثمار والتعصير. في نظام إنتاج، مثل هذا، ال يوجد<br />
جميع الحقوق محفوظة<br />
أيّ داع الستعمال المنح لتحسين الجهاز القائم بل من األفضل إطالق<br />
أنشطة أخرى في قطاعات أخرى قصد التمتع بامتياز الرّ يادة.<br />
لذلك مثّلت سياسة التصنيع البديل عن التوريد بالنسبة إلى<br />
البورجوازية المحلية ريع فوائد لكن بشرط اقتصار هذه السياسة<br />
على توزيع المنح دون أن يكون للمسؤولين السياسيين إمكانية مراقبة<br />
صرفها. لذلك، كانوا ينظرون إلى المكوّن التأديبي للتصنيع البديل عن<br />
التوريد على أنه عائق ال يمكن القبول به.<br />
لم يكن الصراع بين البورجوازية الوطنية والمخطّ طين<br />
االقتصاديين ظاهرا على الدّوام. كان يحدث أن يطلب الصناعيون<br />
من الدولة رعاية التنمية. لكن ما كانوا يؤمّلونه هو أن يُوضَ ع المال<br />
العامّ على ذمّتهم ال أن يتمّ إدخال عنصر آخر من عناصر التخطيط<br />
االقتصادي. باختصار، تشريك المجتمع بأكمله في تحمّل المخاطر<br />
المحتملة دون أن يؤدّي ذلك إلى تهديد استئثارهم باألرباح.<br />
الصناعة والطبيعة<br />
المرتبطة بباحثين، والتي نشرت<br />
في جانفي 2017 تقريرا بعنوان:<br />
»مليون موطن شغل من أجل<br />
المناخ«. من بين فروع النشاط<br />
التي تشهد توسعا، نجد االقتصاد<br />
في المواد، وآليات النقل ذات<br />
الحركية الهادئة أو ذات االنبعاثات<br />
الضئيلة والصناعات المرتبطة<br />
بإعادة التهيئة الحرارية للمساكن<br />
والبناءات، إلخ...<br />
إذا كان صحيحا أن التشغيل<br />
في مجمل القطاع الصناعي قد<br />
تراجع بنسبة %46 خالل الفترة<br />
المتراوحة بين ذروته التاريخية<br />
سنة 1974 و2016، نجد بعض<br />
فروع النشاط الصناعي التي<br />
حققت أكثر من الصمود)13(. تم<br />
تسجيل نسبة نمو أكبر)مضاعفة<br />
عدد العاملين وأكثر( في مجاالت<br />
»إنتاج وتوزيع المياه، والتطهير<br />
والتصرف في النفايات ونزع<br />
التلوث«. يضم هذا النشاط مستقبال<br />
مواطن شغل أكبر عددا من تلك<br />
المسجلة في قطاع »إنتاج وتوزيع<br />
الكهرباء والغاز والبخار والهواء<br />
المكيف«، الذي ظل عدد المشتغلين<br />
فيه مستقرا. إال أن هذين النشاطين<br />
الصناعيين أصبحا مطالبين<br />
بتحقيق نسق نمو متسارع في<br />
ظل توسع أنشطة الرسكلة ونزع<br />
التلوث )التي يتعين أن نضيف<br />
إليها نشاط تفكيك القطاع النووي(<br />
وانتعاشة الطاقات المتجددة، في<br />
اتجاه إرساء أنشطة تحقق القرب<br />
وتكون بمنأى عن سطوة الشركات<br />
متعددة الجنسيات، التي تحيد بها<br />
عن غاياتها األصلية.<br />
هناك تغيرات عميقة ستطال<br />
أنماط العيش. غير أن المطالبة<br />
بتوفير منتجات مبسطة ووظيفية<br />
في مواجهة النزعة االستهالكية،<br />
سيتبين أنه لن يكون كافيا إذا ما لم<br />
نحدد أية فئات اجتماعية ستكون<br />
مدعوة ألن تغير سلوكياتها بقدر<br />
أكبر باسم المصلحة العامة. هذا<br />
األمر مرتبط أيضا وثيق االرتباط<br />
بالجهود المتصلة بحماية البيئة<br />
كما بالجباية: سياسات عادلة<br />
أو غير منصفة. عندما يتسبب<br />
كبار األغنياء في حجم انبعاثات<br />
غازية تفاقم االحتباس الحراري<br />
ثالثين أو أربعين ضعفا مقارنة<br />
بحجم االنبعاثات التي يتسبب<br />
فيها ال %10 من السكان األكثر<br />
فقرا، في وقت تمثل فيه ضريبة<br />
الكاربون الحالية وطأة أقل<br />
بأربع مرات على مداخيل الفئة<br />
األولى، أي األغنياء)14(، فإن<br />
الحيف الصارخ ينجم عنه رفض<br />
واسع لإلجراءات المفروضة.<br />
يمثل الحد من مظاهر التفاوت<br />
جزءا من شروط القبول بالصيغ<br />
المبسطة والمعتدلة لالستهالك<br />
الطاقي والمادي.<br />
أما بالنسبة لدرجة مقبولية<br />
تغيير النشاط التشغيلي أو العمل،<br />
سيتمثل الرهان الحيوي في<br />
تأمين المسارات المهنية لألجراء<br />
الذين يواجهون مخاطر تتهدد<br />
موطن شغلهم الحالي، سواء<br />
على مستوى حوض التشغيل<br />
أو على مستوى قريب من هذا<br />
الحوض. مع هذا العنصر المكمل<br />
األساسي، يمكن الحديث عن<br />
أن االنتهاء من اإلنتاجية ومن<br />
النزعة التكنولوجية الجامحة،<br />
يمثل، في المحصلة، أفقا مرغوبا<br />
فيه بقدر واسع. سواء تعلق األمر<br />
بتحسين ظروف عملهم، أو<br />
بتعزيز جدوى نشاطهم اإلنتاجي<br />
أو بتمكين المجتمع من أن يمسك<br />
مجددا بزمام مستقبله.<br />
www.emplois-climat.fr )12<br />
13( سالسل مطولة صادرة عن الممعهد الوطني<br />
الفرنسي لإلحصاءات حول التشغيل حسب فروع<br />
النشاط.<br />
14( قوموا، 20 نوفمبر/تشرين الثاني 2018،<br />
http://blogs.alternatives-economiques.fr
<strong>جويلية</strong>/<strong>أوت</strong> - تموز/آب 12 <strong>2019</strong><br />
نساء كمونة<br />
مناضالت<br />
مبيضات، رابطات، طباخات، صحفيات... أولئك الالتي يسمينهن منافسهن ب »المشعالت للنار« يشاركن<br />
بقوة في معارك الكومونة: أولئك الذين يتحركون حاملين أسلحتهم ويناضلون من أجل بناء عالم أكثر مساواة<br />
وأكثر سعادة. ممنوعات من حق التصويت لكن صوتهنّ يعلو في نوادي األحياء للمطالبة بالمساواة في األجر<br />
وتأسيس المحاضن ملتزمات باإلعتراف باإلرتباط الحر. انتهت الكومونة لكن األفكار والمثل مازالت قائمة.<br />
ميشال، »الثورة اندلعت. اعتقل<br />
لوكونت في اللحظة التي كان يأمر<br />
فيها للمرة الثالثة بإطالق النار ليتم<br />
اقتياده لشارع لي روزيي حيث<br />
التحق به كليمون توماس، الذي<br />
تم التعرف عليه حينما كان يدرس<br />
حواجز مونمارتر وهو يرتدي<br />
لباسا مدنيا. وفقا لقوانين الحرب،<br />
من الواجب قتلهما )...( في مساء<br />
18 مارس/آذار، تم اإلفراج عن<br />
الضباط الذين تم أسرهم مع<br />
لوكونت وكليمون توماس)3(«.<br />
ليس هناك نساء ضمن تركيبة<br />
المجلس البلدي. إنهن تتظاهرن<br />
وتنظمن لجانهن الخاصة )لجان<br />
الدوائر ولجان اليقظة(، وتحررن<br />
الكلمات والبيانات، كما تعملن في<br />
خدمات اإلسعاف.. لقد انخرطت<br />
هؤالء النسوة المكافحات من أجل<br />
العيش، في كتائب المتطوعين<br />
للدفاع عن حصني إيسي وفانف،<br />
والتحقن في وقت الحق قريب،<br />
بالمشاركين في حراسة الحواجز<br />
خالل »األسبوع الدامي«.<br />
إيلوا فاالت * valat Éloi<br />
يوم 26 مارس/آذار 1871،<br />
توجه 229167 ناخبا باريسيا إلى<br />
صناديق االقتراع من أجل اختيار<br />
المجلس البلدي »لباريس المدينة<br />
الحرة«. فازت أغلبية ثورية<br />
باالنتخابات. ضم هذا المجلس<br />
اشتراكيين وبالنكيين وجمهوريين<br />
راديكاليين أو معتدلين، أكثريتهم<br />
من العمال بالساعد، إلى جانب عدد<br />
من األجراء والحرفيين األعراف<br />
والصحفيين وأصحاب المهن<br />
الحرة، وغالبيتهم من الرجال<br />
الشباب. أما النساء، المحرومات<br />
من حق التصويت، فقد كن غائبات.<br />
ليس هناك مواطنات كي يسهمن<br />
في التشريع »للشأن االجتماعي«.<br />
رغم كونهن ناشطات وملتزمات.<br />
يقول جول فاالس: »إنه لمؤشر<br />
الفت بارز عندما تهتم النساء<br />
لألمر، وعندما تدفع ربة المنزل<br />
زوجها، وعندما تنتزع العلم<br />
األسود الذي يرفرف على القدر من<br />
أجل تركيزه بين حجرتي ترصيف،<br />
فذاك يعني أن الشمس ستبزغ على<br />
* فنان تشكيلي ورسام، كتب عديد المؤلفات حول<br />
الكومونة من بينها: »دفن جول فاليس، نشر »بلو<br />
<strong>أوت</strong>ور« ( autour (، Bleu سان بورسان سور سيول،<br />
. 2010<br />
مدينة ثائرة)1(«.<br />
قبل ذاك التاريخ بعشرة<br />
أيام، وفي الليلة الفاصلة بين<br />
17 و18 مارس/آذار 1871،<br />
أمر أدولف تير، رئيس السلطة<br />
التنفيذية بالجمهورية الفرنسية،<br />
بنزع بنادق الحرس الوطني من<br />
ثكنات المدفعية في كل من بوت<br />
شومون وباتينيول ومونمارتر...<br />
إنه الحذر الحكومي. لكن هذه<br />
البنادق دفع ثمنها الباريسيون.<br />
رفض الحرس االستجابة لألمر.<br />
في الساعة 5 و30 دقيقة، انتشرت<br />
فرق الحرس الوطني في شوارع<br />
باريس. وتوالت إثر ذلك البرقيات<br />
العسكرية. »وفي حدود الساعة<br />
10 و20 دقيقة، سجلت حالة<br />
غليان كبيرة بالدائرة 12. لقد قام<br />
أعوان حرس وطني بقطع شارع<br />
الروكات بواسطة حاجزين، في<br />
حين نزل آخرون باتجاه منطقة<br />
الباستيل. في الساعة 10 والنصف،<br />
أتى خبر جد سيء من مونمارتر.<br />
فرق الحرس رفضت التدخل. كما<br />
سيطر المتمردون على منطقة بوت<br />
ومحالت اعتقال السجناء)2(«.<br />
زرعت هذه األحداث الرعب في<br />
األحياء الشعبية، من حي بالفيل<br />
جميع الحقوق محفوظة<br />
إلى حي أونفار )ساحة دنفار<br />
روشيرو(. في مونمارتر، واجه<br />
النساء واألطفال أفراد الفرقة 88<br />
مشاة. لقد أمسكت ربات بيوت<br />
بنواصي الخيول وقطعن حبال<br />
األلجمة، لترتفع األصوات مرددة:<br />
»ال تطلقوا النار على الشعب«<br />
و»يحيا سالح المشاة«.<br />
هيمنت أجواء من التآخي<br />
والتآلف بين أفراد الفرق 88<br />
والجماهير. سارعت لويز ميشال،<br />
وهي تحمل بندقيتها الصغيرة تحت<br />
معطفها لتقول: »لنسارع بالصعود،<br />
رغم علمنا بأنه هنالك في األعلى،<br />
جيش مستعد للمعركة، إننا ال نخاف<br />
الموت من أجل الحرية. نحن بمثابة<br />
من انتزعوهم من تحت األرض.<br />
نحن موتى. باريس ستنهض. كانت<br />
الجموع في بعض األحيان مقدمة<br />
المحيط البشري ومنطقة البوت<br />
يلفها الضوء األبيض، إنه فجر<br />
خالص رائع )...( ليس الموت ما<br />
ينتظرنا في البوت )..( وإنما مفاجأة<br />
انتصار شعبي«. تم قتل الجنرالين<br />
كلود مارتن لوكونت وجاك ليونارد<br />
توماس، األسيرين لدى الجنود<br />
المتمردين، رميا بالرصاص في<br />
شارع لي روزيي. بالنسبة للويز<br />
ينزع غاستون دا كوستل،<br />
الذي كان وقتها من مناصري<br />
المتمردين، في مذكراته إلى الفرز<br />
بين ما هو حقيقي وما هو من قبيل<br />
التلفيق، إذ يقول: »إلى حد اللحظة<br />
التي بدأت فيها الفرقة في التراجع،<br />
كانت النساء هن المهيمنات. في<br />
شارع لي روزيي، وعند حصول<br />
عملية القتل، اندثرت غالبيتهن«.<br />
لكن نصير الكومونة لم يتراجع<br />
إزاء إثارة صور كثيرة التداول<br />
من قبل منافسي الكومونة: »بعد<br />
الزوجات واألمهات، التحق بتلك<br />
الجموع الغفيرة المكونة من كل<br />
األوساط، التي قادت سجناء<br />
القصر األحمر باتجاه حواجز<br />
األكوام الترابية، الكتائب المرعبة<br />
للفتيات الخاضعات والمتمردات<br />
)...( الالئي خرجن من النزل<br />
والمقاهي وبيوت الدعارة )...(<br />
إنهن حثالة الدعارة الالئي اقتحمن<br />
لألسف صفوف االندفاعة الثورية<br />
مرفوقات برهط من سقط متاع<br />
المجتمع وبفيلق القوادين، لتحتسين<br />
الخمر حتى الثمالة في كل الحانات،<br />
وتغنين فرحا بهزيمة الجنود )...(<br />
كما التحقت بهن بعض النسوة<br />
اليائسات جراء الفقر والخصاصة،<br />
والالئي كن يقطعن في زاوية<br />
شارع هودون لحم حصان ضابط<br />
قتل قبل لحظات. لقد انتشرن كلهن<br />
في مونمارتر، وهن يترنحن سكرا<br />
وينشرن جنونهن الحاقد، ليمثلن<br />
دورية مرافقة بغيضة منكرة<br />
للتعيس لوكونت وضباطه لدى<br />
صعودهم تالل منطقة بوت)4(«.<br />
وبعد عشرة أيام وتحديدا يوم<br />
28 مارس/آذار، وفي ساحة قصر<br />
البلدية، تم إعالن الكومونة »باسم<br />
الشعب«. لقد كان االحتفال كبيرا<br />
ضخما. أطلقت ضربات المدفعية<br />
احتفاء بالحدث، أما زر اإلنذار<br />
فقد لفه الصمت. كتبت فيكتورين<br />
بروشي: »هذه المرة أصبحت<br />
لدينا الكومونة )...( فبعد كثير من<br />
الهزائم والمعاناة والحزن، تحقق<br />
االنفراج والجميع تغمرهم سعادة<br />
)...( وعلى رأس فرق القتال في<br />
حال استراحة، كان هناك جمع من<br />
عامالت التموين تتكئن على أسلحة<br />
رشاشة )...( عندها، أعلن أحد<br />
أعضاء الكومونة أسماء المنتخبين<br />
من الشعب، لتتلو ذلك صرخة<br />
جماعية: تحيا الكومونة«)5(.<br />
ويوم 11 أفريل/نيسان،<br />
نُشِر في ال<strong>جريدة</strong> الرسمية<br />
)للكومونة( نداء »مجموعة<br />
مواطنات«: »باريس محاصرة،<br />
باريس تتعرض للقصف )...( هل<br />
هو األجنبي الذي عاد لغزو فرنسا<br />
؟ ال، هؤالء األعداء، قتلة الشعب<br />
والحرية هم فرنسيون. لقد شهدوا<br />
انتفاضة الشعب وهو يردد: »ال<br />
واجبات دون حقوق، وال حقوق<br />
دون واجبات نحن نريد العمل،<br />
ولكن من أجل أن نحتفظ بثمرته...<br />
ال مكان بعد اليوم للمستغلين أو<br />
األسياد. العمل والرفاه للجميع،<br />
حكم الشعب بواسطة الشعب...<br />
الكومونة.. هي أن نعيش أحرارا<br />
ونحن نعمل أو أن نموت ونحن<br />
نكافح«.<br />
يوم 12 أفريل/نيسان وجاء<br />
في صيحة الشعب: »لتبادر إذن<br />
الكومونة وفوريا بفتح ثالث<br />
سجالت للنساء تحت عناوين:<br />
النشاط المسلح، أعمال نجدة<br />
وإسعاف الجرحى، األفران<br />
المتنقلة. أقبلت النساء بكثافة على<br />
التسجيل، وهن سعيدات باالستفادة<br />
من الحمى المقدسة التي تلهب<br />
القلوب«.<br />
ويوم 14 أفريل/نيسان وعلى<br />
صفحات ال<strong>جريدة</strong> الرسمية، أكد<br />
اتحاد النساء من أجل الدفاع عن<br />
باريس وعالج الجرحى على ما<br />
يلي: »من واجب الجميع ومن<br />
حقهم الكفاح من أجل قضية الشعب<br />
الكبرى، من أجل الثورة )...( تمثل<br />
الكومونة المبدأ الكبير الذي يعلن<br />
القضاء التام على كل امتياز وكل<br />
1( جول فاالس، »المتمرد: ضمن سلسلة »أوفر«<br />
،)Oeuvres( نشر دار غاليمار، مجموعة »مكتبة<br />
بلياد« ،Pléiade باريس، 1990.<br />
2( برقيات الجنرالين جوزيف فينوا ولوي<br />
ارنست فاالنتين إلى أدولف تيار، في كتاب مارك<br />
أندري فابر، »حياة الكومونة وموتها«، مكتبة<br />
هاشيت، باريس، 1939.<br />
3( هلويز ميشال، »الكومونة«، ستوك، باريس،<br />
.1898<br />
4( غاستون دا كوستا، »الكومونة كما عاشت«،<br />
دار كانتان القديمة، باريس، 1903.<br />
5( فيكتورين ب. )بروشي(، »مذكرات ميتة<br />
حية«، مكتبة البي ،)Lapie( لورزان، 1909.
13 <strong>جويلية</strong>/<strong>أوت</strong> - تموز/آب <strong>2019</strong><br />
باريس<br />
في تمرد<br />
حيف، وهي بذلك ملتزمة بأن تأخذ<br />
بعين االعتبار المطالب العادلة<br />
لكافة السكان، دون ميز على أساس<br />
الجنس، وهو ميز تم خلقه واإلبقاء<br />
عليه تمشيا مع مبدأ التناقض<br />
الذي ترتكز عليه المزايا المكفولة<br />
للطبقات الحاكمة«.<br />
وفي النوادي التي تم فتحها<br />
في الكنائس، وبعضها نواد نسائية<br />
صرفة، كان التعبير حرّ ا بالكامل.<br />
كل شيء أضحى من الممكن جعله<br />
محور مواعظ أو نقاشات: الدفاع<br />
عن الثورة وتعليم الفتيات وتساوي<br />
األجور والقوانين االجتماعية<br />
واالرتباط الحر وجبن الرجال<br />
وإنهاء االستغالل في العمل... يوم<br />
3 ماي/أيار، ولدى افتتاح نادي<br />
الثورة االجتماعية في كنيسة سان<br />
ميشال بباتينيول: »كنا نحس عند<br />
انطالقنا للقتال من أجل الكومونة<br />
بأن الرجال قد تركوا في منازلهم<br />
بذورا متينة من األفكار الثورية«.<br />
كنا نفارق بعضنا البعض على<br />
صدى »أغنية الوداع« ونشيد<br />
»المارساياز«، مع جدول أعمال<br />
للحصة المقبلة موضوعه: »المرأة<br />
في منظار الكنيسة وفي منظار<br />
الثورة«)6(.<br />
انتقد بول دي فونتوليو، بقلمه<br />
الالذع المغموس في إبريق حبر<br />
من قصر فارساي، ما قال إنه<br />
شاهده وسمعه: »في نادي إيلو،<br />
كان من بين من ألقوا الخطب،<br />
ومعذرة عن وطأة الكلمة، المواطنة<br />
فاالنتين، وهي بائعة هوى كانت<br />
أحرقت رأس قوادها يوم 22 ماي/<br />
أيار ألنه لم يكن يريد الذهاب<br />
إلى مواقع حواجز الجنود. كما<br />
تحدثت المواطنة مورال التي<br />
سبق أن حوكمت بالسجن خمس<br />
مرات: “أطالب، من أجل اإلنتهاء<br />
من كل هذا بأن يتم إلقاء كل<br />
المتدينات في نهر السين، هناك<br />
الكثير منهن يعطين السم ألعضاء<br />
الكتائب المتحدة”. في كنيسة<br />
سان لومبار بفوجيرار، هناك<br />
نادي النساء الوطنيات )ترأست<br />
اجتماع فوجيرار نمساوية اسمها<br />
رايدنهراث(...، وهي من المثقفات<br />
الثوريات وتمت إدانتها في فيينا<br />
بتهمة اإلخالل بمقتضيات األخالق،<br />
وهذا أمر تتبجح به وكأنه عنوان<br />
فخر. )...( في نادي الخالص<br />
)...( ليس هناك من أحد سوى<br />
النسوة. يتمثل جدول األعمال في:<br />
)وسائل تجديد المجتمع(. تحدثت<br />
امرأة ثالثينية قائلة: “الجرح<br />
االجتماعي، الذي يتعين قبل كل<br />
شيء غلقه، هو جرح األعراف<br />
الذين يستغلون العامل ويغتنون<br />
على حساب عرقه. ال مجال بعد<br />
اليوم ألعراف ينظرون إلى العامل<br />
كأداة إنتاج. ليوحد العمال صفوفهم،<br />
وليضافروا جهودهم، وعندها<br />
ستتحقق سعادتهم. هناك علة أخرى<br />
يعاني منها المجتمع الراهن، وهي<br />
أن األغنياء لوحدهم هم من يشربون<br />
أفضل الشراب وتتوفر لهم أفضل<br />
سبل الترفيه، دون أن تواجههم أي<br />
صعوبات. يتعين أن نضع حدا لهذه<br />
الوضعية التي يتمتع هؤالء وكذلك<br />
الكهنة والراهبات. نحن لن نكون<br />
سعداء إال عندما ال يكون لدينا ال<br />
أعراف وال أغنياء وال كهنة”. في<br />
نادي سان سولبيس، )...( رددت<br />
فتاة اسمها غابريال، وهي بنت<br />
امرأة خاضعة، بقولها: “الكهنة...<br />
يجب إعدامهم بالرصاص، هم من<br />
يحولون دون أن نعيش كما نريد.<br />
النساء يقعن في الخطأ عندما يذهبن<br />
إلى جلسات االعتراف بالكنيسة،<br />
وأنا أدرك جيدا، وعن تجربة، ما<br />
أعنيه بحديثي. عليه، أدعو بقوة كل<br />
النساء إلى االنقضاض على كل<br />
الكهنة وإحراق وجوههم. عندما<br />
ينتهي هؤالء من الوجود، سنكون<br />
سعيدات” )...( أما لويز ميشال،<br />
وهي المرأة التي كانت أكثرهن<br />
حماسة وأكثرهن عنفا، فقد صرخت<br />
في جلسة يوم 17 قائلة »لقد أدركنا<br />
اليوم الكبير، اليوم الحاسم من أجل<br />
تحرر البروليتاريا أو بقائها في<br />
أغالل العبودية.. أيها المواطنون،<br />
بفضل شجاعتكم وبفضل طاقات<br />
وحماسة المواطنات، يمكننا أن<br />
نجعل باريس لنا، نعم أقسم بذلك،<br />
باريس ستكون لنا، أو لن تكون<br />
هناك باريس. لقد أضحى األمر<br />
بالنسبة للشعب مسألة حياة أو<br />
موت«)7(.<br />
ويوم 21 ماي/أيار 1871<br />
ومع دخول متساكني فارساي إلى<br />
باريس، بدأ »األسبوع الدامي«،<br />
الذي وصفته فيكتورين بروشي،<br />
كما يلي »تلك الليالي المأساوية التي<br />
هزتها أصوات الفرقعة الصاخبة«.<br />
وتضيف: »السبت 27. استهدفنا<br />
تبادل مكثف إلطالق النار، ما<br />
أحدث حالة من الفزع والهلع،<br />
إذ كانت الجموع تهرع باتجاهنا<br />
وهي تصرخ: لقد تم احتالل بالفيل<br />
جزئيا، تم إخالء قصر البلدية،<br />
هناك قتلى وجرحى يمألون<br />
الشوارع. كانوا يطلقون علينا النار<br />
من كل جانب. كتائب الثوريين<br />
المتحدين والمتطوعين يقاتلون<br />
مثل األسود. رايتنا في المقدمة،<br />
وسنجمع صفوفنا من أجل المعركة<br />
الحاسمة. كان هنالك بقايا حطام<br />
خلفتها كل الكتائب )...( ويوم 28<br />
في حدود منتصف النهار، انطلقت<br />
آخر رصاصات كتائب الثوار<br />
المتحدين من أعلى شارع باريس.<br />
جميع الحقوق محفوظة<br />
كانت القاعة شديدة االكتظاظ تطلق<br />
تنهيدة الوداع كمدا على الكومونة<br />
اآلفلة. لقد انتهى الحلم، وبدأت<br />
عمليات المطاردة والقمع إنه زمن<br />
اإلعتقاالت والمجازر)8(«.<br />
تخلص لويز ميشال إلى<br />
القول: »سأذهب مع الكتيبة 61 إلى<br />
مقبرة مونمارتر، حيث سنتموقع<br />
)...( لقد أسدل الليل ستاره.. كنا<br />
قليلي العدد.. لكننا عاقدين العزم.<br />
كانت القنابل تسقط قريبا علينا<br />
بين وقت وآخر، وكأننا بحضرة<br />
دقات ساعة... ساعة الموت. في<br />
هذه الليلة الصافية العابقة بعطر<br />
الزهور، كانت واجهات المرمر<br />
تبدو وكأنها تنبض بالحياة )...(<br />
لقد مرت بالمكان قبل ذلك قوافل<br />
نساء وهن يحملن العلم األحمر<br />
في المقدمة. كن يشكلن الحاجز<br />
المقام في الساحة البيضاء.<br />
كانت هناك إيليزابيث دميترياف<br />
والسيدة لو مال، ومالفينا بوالن،<br />
وبالنش لوفافر، أوكسكوفون. أما<br />
أندري ليو )وهو االسم المستعار<br />
للصحفية فيكتوار ليودين بيرا(<br />
فقد كانت موجودة على مستوى<br />
حاجز منطقة باتينيول. خالل شهر<br />
ماي/أيار، كافح أكثر من عشرة<br />
آالف امرأة، فرادى وجماعات،<br />
من أجل الحرية )...( لقد ترددت<br />
أساطير مجنونة عجيبة حول نساء<br />
مشعالت للنار، لم يكن هناك من<br />
مشعالت للنار.. إنهن نساء كافحن<br />
كلبؤات.. لكن ليس هناك سواي<br />
من صرخ محذرا من النار! النار<br />
أمام هؤالء الوحوش! ال أتحدث<br />
عن المقاتالت، وإنما عن ربات<br />
البيوت، الالئي كن يعتقدن أنهن<br />
محميات داخل أحيائهن بالتلويح<br />
ببعض أواني الطبخ التي كن<br />
ولدت 29 ماي/أيار<br />
1830 وتوفيت في<br />
9 جانفي/كانون الثاني<br />
1905، وهي مدرسة<br />
وناشطة فرنسية<br />
ميشال لويز<br />
جميع الحقوق محفوظة<br />
يحملنها للبرهنة على أنهن يبحثن<br />
فقط عن الطعام ألبنائهن الصغار<br />
)علبة حليب، مثال(، ولكنه كان<br />
ينظر إليهن على أنهن من مشعلي<br />
النار وأنهن يحملن بنزينا، ويتم<br />
وضعهن وظهورهن على الحائط<br />
لقد غمرت فارساي باريس بكفن<br />
مغمس بلون الدم األحمر. هناك<br />
زاوية وحيدة لم تسدل لحافها على<br />
الجثة. كان يجري في الثكنات<br />
تركيب الرشاشات في قوالبها.<br />
وكان يتم قتل الناس وكأن األمر<br />
عملية صيد، إنها مجزرة بشرية. أما<br />
أولئك الذين أصيبوا إصابات بالغة،<br />
ويجرون متكئين على الجدران،<br />
يتم قتلهم على مهل. )...( وألن<br />
روائح المجازر قد اجتذبتها، وفي<br />
مسار يتابع سير الجيش النظامي،<br />
شهدنا، عند انتهاء الكومونة، وقبل<br />
ذباب المقابر الجماعية، بروز تلك<br />
الغيالن، التي يعود وجودها إلى<br />
ماض سحيق، وقد أصابها الجنون<br />
والكلب وأعمتها نشوة الدم. كانوا<br />
يرتدون مالبس أنيقة، ويجوبون<br />
أنحاء ساحات المجازر يتفحصون<br />
الجثث المتناثرة ليشبعوا نظرهم من<br />
مشهد الموتى. بعض هذه الغيالن<br />
حام الشك في كونها من حاملي<br />
وقود إشعال النار، فتم إطالق النار<br />
عليها فورا، كما اآلخرين)9(«.<br />
6( ال<strong>جريدة</strong> الرسمية للجمهورية الفرنسية في ظل<br />
كمون باريس، »الجزء غير الرسمي«، 5 ماي/<br />
أيار 1871.<br />
7( بول دي فونتوليو، »كنائس باريس في ظل<br />
الكومونة«، أ. دانتو، باريس، 1873.<br />
8( فيكتورين ب. )بروشي(، »مذكرات ميتة<br />
حية«، مصدر سابق.<br />
9( لويز ميشال، »الكومونة«، مصدر سابق.
<strong>جويلية</strong>/<strong>أوت</strong> - تموز/آب 14 <strong>2019</strong><br />
مآزق الخيار<br />
الساحل، العسكريون<br />
رغم االنتشار العسكري الكبير )العملية الفرنسية برفان وبعثة األمم المتحدة إلخ(، تتضاعف<br />
المجازر ضد المدنيين في مالي وفي المنطقة. السبب غير المعروف لهذا المأزق: أصبح الساحل حكرا<br />
للعسكريين الذين يفرضون على وزارة الخارجية الفرنسية رؤية أمنية ضيقة للغاية لضمان النجاعة.<br />
عندما قام سالح الطيران الفرنسي في<br />
فيفري/شباط الماضي بقصف قافلة من الدبابات<br />
التابعة التحاد قوى المقاومة«، وهي حركة تشادية<br />
معارضة مسلحة، لم يتردد المعلقون في التذكير<br />
بالتاريخ الطويل لتدخالت المستعمر السابق في<br />
شؤون تشاد)1(. هذه العملية، التي قد يكون قتل<br />
خاللها عدد كبير من أعضاء اتحاد قوى المقاومة،<br />
تتسم بسمة فريدة على مستوى نقطة واحدة: ألول<br />
مرة منذ أمد بعيد، تتحمل باريس كامل مسؤولياتها<br />
في استخدام القوة في نطاق قضية سياسية داخلية،<br />
ما وضع حليفها في موقف محرج، رغم أن<br />
هذا الحليف هو إدريس ديبي إيتنو الرجل غير<br />
الديمقراطي كفاية)2(.<br />
فرنسا »لم تعد تكتفي بخلق الظروف المالئمة<br />
النتصار يحققه الجيش التشادي... إنها تقوم بنفسها<br />
بقصف المتمردين«. حسب تأكيد المختصة في<br />
الشؤون السياسية، ماريال ديبوس في استعادة<br />
للخطاب الدعائي للنظام الديكتاتوري التشادي، الذي<br />
يرى أن المتمردين ليسوا سوى »إرهابيين«، ذهب<br />
وزير الشؤون الخارجية، جان إيف لودريان، إلى<br />
حد مقارنة هذا القصف بتدخل الطيران الفرنسي<br />
عند انطالق عملية سارفال في مالي. يذكر أن تلك<br />
العملية قد أتاحت في جانفي/كانون الثاني 2013،<br />
وقف هجمة قافلة من الجهاديين كانوا يهددون<br />
باماكو.<br />
رئيس النيجر، محمدو إيسوفو، الذي انتخب<br />
سنة 2011 وتمت إعادة انتخابه سنة 2016، يبدو<br />
بدوره شخصا مدعوما بشكل كامل تماما مثل نظيره<br />
التشادي، على الرغم من االنتهاكات العديدة لحرية<br />
التعبير في بالده. أعطى إيسوفو الحرية الكاملة<br />
لتحرك الجيش الفرنسي، الذي يملك قاعدة في نيامي<br />
تقلع منها الطائرات المسيرة رسميا، من أجل مراقبة<br />
تحركات اإلرهابيين في منطقة الساحل)3(. يوضح<br />
لنا ديبلوماسي فرنسي يعمل في المنطقة، وطلب<br />
عدم اإلفصاح عن هويته: »ألن األمر مترسخ<br />
في ثقافتهم، يعتقد العسكريون أن مواجهة الخطر<br />
اإلرهابي تتطلب وجود رجل قوي على رأس<br />
البالد. إنهم ال يريدون أن يفهموا أن الدعم المقدم<br />
لمستبدين يمكن أيضا أن يدفع بعض األشخاص إلى<br />
االنضمام للمجموعات اإلرهابية، أو أن يصبحوا،<br />
على األقل، متعاطفين مع هذه المجموعات«.<br />
غير أن النفوذ السياسي والديبلوماسي لقيادة<br />
األركان الفرنسية ما فتئ يتعاظم مع تكثف انخراط<br />
باريس عسكريا في منطقة الساحل والصحراء<br />
منذ سنة 2013. يقول نفس الديبلوماسي بنبرة<br />
من المرارة: »أضحى الجانب األمني الجانب<br />
الراجح في منطقة الساحل اليوم. تبعا لذلك، أصبح<br />
العسكريون متحاورين مهمّين بالنسبة للمسؤولين<br />
السياسيين. وتحاليلهم لها األولوية مقارنة بتحاليلنا«.<br />
في بعض بلدان الساحل، أصبح الضباط<br />
الفرنسيون المخاطب األول بالنسبة لرؤساء الدول،<br />
قبل حتى السفراء. عبرت إيفلين دوكور، التي<br />
شغلت منصب سفيرة في نجامينا بين 2013 و2016<br />
ثم في باماكو بين 2016 و2018، بكامل الصراحة<br />
عن »تضايقها« من هذه »المنافسة«.<br />
بعد أن تم استدعاؤها سنة 2018 إلى<br />
باريس تم تعيينها في وظيفة المسؤول األعلى<br />
عن األراضي الجنوبية والقطبية الفرنسية،<br />
وهو منصب يعتبر بمثابة عملية تجميد لها.<br />
تروج في أروقة وزارة الخارجية إشاعات<br />
تقول بأن العسكريين هم من أطاحوا بها.<br />
تمثل هذه التجربة السلبية شاهدا على المنزلق<br />
الذي تردت فيه ديبلوماسية تم قصر دورها<br />
على مرافقة اختيارات العسكريين، وفي<br />
بعض األحيان تأمين »خدمة ما بعد البيع«:<br />
التعاون الميداني مع الميليشيات المسلحة،<br />
وحتى مع مجموعات متمردة )بالخصوص<br />
في النيجر وفي مالي(، والرفض القطعي<br />
للشروع في مفاوضات مع العدو، إلخ.<br />
يعد مثل هذا التطور ثمرة توجهين<br />
رئيسيين وظرفيات مالئمة أسهمت في<br />
تسريع المسار منذ سنة 2013. يتمثل التوجه<br />
االول في إضعاف وزارة الشؤون الخارجية.<br />
»العسكريين ال يقومون سوى باحتالل<br />
الموقع الذي تركه الديبلوماسيون شاغرا«،<br />
ذاك ما يؤكده لوران بيغو، المدير المساعد<br />
السابق المكلّف بإفريقيا الغربية بوزارة<br />
الشؤون الخارجية، والذي تمت إقالته سنة<br />
2013 بعد خالف مع وزير الخارجية آنذاك<br />
لوران فابيوس. في ظرف ثالثة عقود من<br />
الزمن، خسرت الوزارة %53 من عدد<br />
إطاراتها وأعوانها، جزء كبير منهم كانوا<br />
يعملون في القارة اإلفريقية.في العام 2017،<br />
قيّم تقرير برلماني النقص المسجل في<br />
عدد الديبلوماسسين الفرنسيين في منطقتي<br />
إفريقيا والمحيط الهندي، بنسبة %40، وذلك<br />
خالل السنوات العشر األخيرة)4(. لتفسير<br />
هذا االقتطاع الخصوصي في عدد العاملين،<br />
يؤكد الديبلوماسيون أن إفريقيا ال ينظر<br />
إليها على أنها وجهة »نبيلة« في وزارة<br />
الخارجية. تؤكد الباحثتان آلين لوبوف<br />
وهيلين كينو سواريز: »على العكس من<br />
ذلك، تعتبر إفريقيا عنوان تجربة وخبرة<br />
)وحتى عنوان فخر( في مسار العسكريين«،<br />
وهو ما يفسر أن »العسكريين واجهوا قطعا<br />
صعوبات أقل في االنتشار في هذا المجال<br />
وأحيانا في “تعويض” الديبلوماسيين«)5(.<br />
وبالتوازي مع تراجع نفوذ وزارة<br />
الخارجية، يمكن مالحظة توجه ثان برز منذ<br />
حوالي ثالثين عاما: العودة القوية للعسكريين<br />
على مستوى الحياة العامة وحتى على صعيد<br />
الخيارات السياسية والديبلوماسية، وهو ما<br />
يطلق عليه غريغوري داهو تسمية »ثأر<br />
الجنراالت«)6(.<br />
وفقا لهذا األستاذ المحاضر في جامعة<br />
باريس 1، الضباط، الذين فرض عليهم<br />
الصمت بعد حرب الجزائر، أضحوا أكثر<br />
فأكثر جرأة إزاء السياسيين. ويشير إلى أنه<br />
منذ تسعينات القرن الماضي، »حفّز البعد<br />
التقني المتنامي للعمليات، وبيروقراطية<br />
االجراءات)...( عملية إعادة إدماج جزئية<br />
للضباط الجنراالت في قلب مسالك اتخاذ<br />
القرارات المتعلقة بالسياسة الخارجية«.<br />
كما أن خبراتهم المكتسبة أضحت عنصرا<br />
يفرض نفسه أكثر فأكثر. يتابع غريغوري<br />
داهو مؤكدا أن المجال الترابي األبرز الذي<br />
حافظ الجيش على صالته معه، هو إفريقيا،<br />
حيث تحتفظ فرنسا بحضور تقني وعسكري<br />
منذ استقالل البلدان اإلفريقية. بحسب داهو،<br />
»أضحى محترفوا التدخالت في إفريقيا<br />
خزان الكفاءات المتاحة«. العسكريون،<br />
الذين يناصرون اعتماد استراتيجية هجومية<br />
بدال من استراتيجية االنتظار التي كانت<br />
معتمدة طيلة فترة الحرب الباردة، يتقنون<br />
جيدا الجوانب التكتيكية والمناورات. هكذا،<br />
فإنهم انتفعوا من تمشي »إعادة التوازن<br />
بين الردع واالستشراف« المنتهج خالل<br />
السنوات العشرين األخيرة، ال سيما صلب<br />
الحلف األطلسي، وفي سياق العودة القوية<br />
للنظريات المناهضة لحركات التمرد التي<br />
يسوق لها اثنان من »كبار أنصار نشر<br />
إحالل السالم االستعماري«، الماريشال<br />
جوزيف غالييني والماريشال توماس بوغو،<br />
من أجل فرض وجهة نظرهما.<br />
ومن شأن تهميش الديبلوماسيين أن<br />
يفضي إلى »تراجع على مستوى جودة<br />
التحاليل، خاصة بسبب البعد عن الميدان،<br />
وأيضا بسبب أخطاء في مجال االنتدابات«،<br />
مثلما يثير ذلك بكل انشغال بيغو، الذي يعتبر<br />
أن »وزارة الخارجية لم تعد كما في السابق<br />
مصدر مقترحات. أما العسكريون، فإنهم<br />
يسيطرون على األرض، وينتجون أفكارا<br />
بعدد أكبر من تلك التي ينتجها الديبلوماسيون.<br />
إنها أفكار عسكريين...«. مساندة فرنسا<br />
العمياء للرئيس المالي إبراهيم بوبكر كايتا،<br />
رغم عدم قدرته على إطالق مسار إصالح<br />
لجهاز الدولة، يمكن أن تمثل عنصر إجابة<br />
يفسر بمسلكية التسامح والمجاملة إزاء<br />
الجيش الفرنسي ومنح هذا األخير كل<br />
الصالحيات على أراضي بالده)7(.<br />
كما يشهد نفوذ العسكريين تعاظما<br />
في قصر اإليليزي. ينص الدستور على<br />
أن الرئيس هو قائد الجيوش. فالرئيس هو<br />
بالخصوص من يعطي اإلذن بالمشاركة في<br />
عمليات خارجية)8(. يقول تقرير برلماني:<br />
»تحتل قيادة األركان الخاصة برئيس<br />
الجمهورية أيضا فضاء متناميا باطراد، كما<br />
أن الكثير من القرارات يتم اتخاذها من قبل<br />
فاعلين من خارج الفضاء الديبلوماسي«)9(.<br />
هكذا، كان للجنرال بونوا بوغا، الذي شغل<br />
منصب قائد األركان الخاص لدى الرئيسين<br />
نيكوال ساركوزي )20072012( ثم فرنسوا<br />
هولند )20122017(، قد اضطلع بدور<br />
بارز في إطالق عملية سارفال سنة 2013:<br />
لقد أقنع هولند بأن يأمر وبشكل عاجل<br />
بتدخل القوات الخاصة. هذا الضابط، الذي<br />
1( ماريال دوبوس، »ماذا يفعل الجيش الفرنسي في تشاد؟«،<br />
ليبيراسيون، 8 فيفري/شباط <strong>2019</strong>.<br />
2( دالفين لوكوتر، »التشاد، صديق ضروري لكنه مزعج«،<br />
مجلة »مانيار دو فوار«، العدد 165، »فرنسا إفريقيا. الهيمنة<br />
والتحرر«، جوان/حزيران <strong>جويلية</strong>/تموز <strong>2019</strong>.<br />
3( »المهاجرون في فخ أغاديز«، <strong>لوموند</strong> <strong>ديبلوماتيك</strong>، جوان/<br />
حزيران <strong>2019</strong>.<br />
4( الديسالس بونيا توفسكي وبرنارد كازو »تدخل خارجي<br />
للدولة: تدخل فرنسا في أوروبا وفي العالم.« استشارة عدد<br />
110، لجنة الشؤون الخارجية والدفاع والقوات المسلحة في<br />
مجلس الشيوخ، باريس، 23 نوفمبر/تشرين الثاني 2017.<br />
5( آلين لوبوف، هيالن كينو سواريز، »سياسة فرنسا<br />
اإلفريقية في ظل فرنسوا هولند«، المعهد الفرنسي للعالقات<br />
الدولية ،)IFRI( باريس، 2014.<br />
6( غريغوري داهو، »تآكل التابوهات الجزائرية، تفسير آخر<br />
لتحوالت المنظمات العسكرية في فرنسا«، المجلة الفرنسية<br />
لعلم السياسة، باريس، مجلد 64، العدد 1، فيفري/شباط 2014.<br />
7( »في مالي: الحرب لم تحل أية مشكلة«، <strong>لوموند</strong> <strong>ديبلوماتيك</strong>،<br />
<strong>جويلية</strong>/تموز 8( 2018. فيليب اليماري، »من نجامينا إلى<br />
كابول، عمليات سرية فرنسية«، <strong>لوموند</strong> <strong>ديبلوماتيك</strong>، مارس/<br />
آذار 2018.<br />
9( جان كلود غيبال وفيليب بومال، »االستقرار والتنمية في<br />
إفريقيا الفرنكوفونية«، تقرير إخباري عدد 2746 المقدم من<br />
قبل لجنة الشؤون الخارجية بالجمعية الوطنية، باريس، 6 ماي/<br />
أيار 2015.<br />
ريمي كارايول * carayol Rémi<br />
* صحفي.<br />
ضباط تحرروا<br />
جميع الحقوق محفوظة
15 <strong>جويلية</strong>/<strong>أوت</strong> - تموز/آب <strong>2019</strong><br />
األمني<br />
يستبعدون وزارة الخارجية<br />
يطلق عليه أحيانا اسم »رجل إفريقيا«، أتى<br />
من قوات البحرية، التي يرتبط تاريخها<br />
وثيق االرتباط بتاريخ االستعمار. كما<br />
شكلت المشاركة الفاعلة للو دريان، الذي<br />
كان وزيرا للدفاع آنذاك، أمرا حاسما. يذكر<br />
أحد الديبلوماسيين بمالبسات تلك الفترة<br />
ويقول: »في ذاك الوقت، كان فابيوس يشغل<br />
منصب وزير الشؤون الخارجية، لكنه لم<br />
يكن يهتم كثيرا بإفريقيا. كما أن الرئيس<br />
لم يكن ينصت إليه. على العكس من ذلك،<br />
كان لو دريان، مقربا من هولند، تحول إلى<br />
شخصية محورية بعد االنطالق المتتابع<br />
لكل من عملية سارفال في مالي، ثم عملية<br />
سانغاري في إفريقيا الوسطى في ديسمبر/<br />
كانون األول 2013«.<br />
مع توالي األشهر، أضحى لو دريان،<br />
الذي أصبح وزير خارجية ماكرون سنة<br />
2017، المخاطب الرئيسي لرؤساء الدول<br />
في »منطقة النفوذ« اإلفريقية. أصبح<br />
ديوانه يملك نفوذا أعلى من نفوذ خلية<br />
إفريقيا في اإليليزي وأكثر من إدارة وزارة<br />
الخارجية. نجح هذا الوزير، الذي ال يبدي<br />
اهتماما كبيرا الحترام حقوق اإلنسان، في<br />
نسج عالقات شخصية مع ديبي، وأيضا<br />
مع رئيس الكونغو دينيس ساسو نغيسو،<br />
أو أيضا مع الرئيس المصري عبد الفتاح<br />
السيسي. هل يمكننا أن نرى في ذلك مؤشر<br />
موافقة على النفوذ العسكري في الخيارات<br />
السياسية اإلفريقية؟ لقد خصص ماكرون<br />
زياراته األولى خارج التراب الوطني إلى<br />
جنود عملية »باركان« في قاعدة غاو في<br />
مالي يوم 19 ماي/أيار 2017، أي خمسة<br />
أيام فقط بعد تسلمه لمهامه.<br />
إزاء تنامي الحركات الجهادية، أنتجت<br />
األولوية األمنية رؤية ثنائية وفقا لها األمر<br />
هو معركة بين »الخير« و»الشر«. إال أن<br />
بعض الحركات المسلحة تظهر بشكل أقرب<br />
منه إلى المحلية تحركها مطالب اجتماعية<br />
واقتصادية أكثر من كونها ارهابية »مجنونة<br />
باللّه«. بمجرد كنس تلك الحقيقة، ال<br />
يمكن البتة طرح المفاوضة معهم مثلما<br />
طرح مؤتمر التفاهم الوطني الذي نظمته<br />
السلطات المالية في أفريل/نيسان 2017.<br />
»نحن منخرطون في معركة دون ضبابية<br />
ضد أولئك الذين يقومون باإلرهاب. لذلك،<br />
توجد وسيلة واحدة وال توجد وسيلتان«<br />
وفقا لتصريح وزير الخارجية آنذاك ، جون<br />
مارك أيرولت في مسعى لقبر المبادرة.<br />
منذ بضع سنوات، تأثرت الوكالة<br />
الفرنسية للتنمية بتأثير الجيش. لدى مساءلته<br />
من قبل النواب يوم 22 ماي/أيار الماضي،<br />
أكد المدير العام للوكالة، ريمي ريو، أنه<br />
»سعى منذ وصوله إلى إدارة وكالة التنمية<br />
الفرنسية إلى تعميق التشاور مع قيادة أركان<br />
الجيوش بشأن محور األمن والتنمية«.<br />
تجسد هذا التعاون من خالل تبادل أعوان<br />
االتصال: إلحاق ضابط بوكالة التنمية مقابل<br />
تعيين موظف من الوكالة لدى مقر القيادة<br />
العامة لعملية باركان في نجامينا. تضم<br />
اجتماعات شهرية ديبلوماسيين وفاعلين في<br />
مجالي التنمية والدفاع بمقر وزارة الشؤون<br />
الخارجية. وحتى معاهد البحث تعمل على<br />
الجمع بين عالمي الجامعة والجيش.<br />
العسكريون، من ناحيتهم، يرحبون<br />
بهذا التعاون والتنسيق. يقول داهو: من<br />
وجهة نظر العسكريين، يتيح التعاون المدني<br />
العسكري، الذي يتعلق بمجمل األنشطة<br />
الرامية إلى تنسيق العالقات بين المنظمات<br />
العسكرية والفاعلين المدنيين على مستوى<br />
منطقة تدخل، »تيسير تقبل السكان المدنيين<br />
لحضور القوات العسكرية«. بالنسبة إليهم،<br />
تحظى المصالح العسكرية باألولوية مقارنة<br />
بأي اعتبار آخر. وهكذا، فإنه يتم بشكل<br />
متزايد مطالبة وكالة التنمية الفرنسية<br />
بتمويل مشاريع في المناطق التي يتدخل فيها<br />
الجيش. بالمقابل، يعتبر الباحثين وأعوان<br />
السياسات التنموية، وفق ما صرح به بكل<br />
جدية أحد إطارات وكالة التنمية، أن »األمر<br />
ليس على قدر من السهولة. هذان الوسطان<br />
ال يملكان نفس الثقافة. فأعوان التنمية يجب<br />
عليهم أن يفكروا في المدى الطويل، في حين<br />
أن العسكريين يفكرون في المدى القصير«.<br />
حفر آبار أو بناء مستوصف أو سوق،<br />
وتوزيع أغذية: تلك هي نوعية المشاريع التي<br />
يريدها العسكريون، ألنها مشاريع مرئية<br />
من شأنها أن تمكن في أسرع وقت ممكن من<br />
»كسب قلوب وعقول« متساكني المناطق<br />
التي يتدخلون فيها. لكن »المختصين في<br />
التنمية« يرون أن هذه االستراتيجية التي يتم<br />
تنفيذها باستقاللية عن السلطات الوطنية،<br />
تمثل سالفاخو حدين: يمكن أن تسهم في<br />
نزع الشرعية عن دولة تواجه بعد صعوبات<br />
تتهددها في هذه المناطق المعزولة، ومن<br />
هناك، مفاقمة شعور الريبة لدى السكان<br />
إزاء السلطة العمومية.<br />
تم ترتيب هذه الرؤية التي تسمى ثالثية<br />
األبعاد )الديبلوماسية والدفاع والتنمية(،<br />
والتي ظلت مهملة ألمد طويل في فرنسا،<br />
في منزلة األولوية من قبل ماكرون.<br />
ويحرص أنصار هذه المقاربة المندمجة<br />
على التفريق بين مقاربتهم وبين المقاربة<br />
الشاملة التي تتوخاها الواليات المتحدة<br />
في العراق وأفغانستان، والتي ترتكز على<br />
تأمين شروط التفاعل بين االستراتيجيات<br />
العسكرية واالقتصادية واالجتماعية<br />
والديبلوماسية، خاصة عبر تركيز فرق<br />
مدنية عسكرية مكلفة بمساندة السلطات<br />
المحلية المعترف بها. بحسب جان مارك<br />
شاتانيي، المبعوث الخاص لفرنسا منطقة<br />
الساحل، والذي ال يتوارى عن استخدام<br />
اللغة الخشبية، ترمي المنهجية األمريكية<br />
بالدرجة األولى إلى تأمين القبول بالحضور<br />
العسكري، في حين أن »المقاربة المندمجة<br />
)على النمط الفرنسي( ال ترسي أية تراتبية<br />
بين األهداف المنشودة وإنما تجسد البحث<br />
عن تركيبة متكاملة أقصى ما يمكن بهدف<br />
العودة إلى سالم دائم«.<br />
غير أن نجاعة مثل هذه الرؤية تظل<br />
أمرا يجب البرهنة عليه. منذ أن تدخلت<br />
فرنسا في مالي سنة 2013، قتل الجيش<br />
المئات من الجهاديين المحتملين، ومنهم<br />
بعض القادة، كما دمر عشرات المخابئ التي<br />
تحتوي على سيارات وأسلحة، وقام بحفر<br />
عدد كبير من اآلبار لفائدة المدنيين. رغم<br />
ذلك، تصاعدت وتيرة أعمال العنف سنة بعد<br />
أخرى في مجمل منطقة الساحل والصحراء،<br />
كما أن عدد القتلى في صفوف السكان لم<br />
يفتأ يرتفع، خاصة خالل العامين األخيرين.<br />
المجموعات »الجهادية«، التي تنشط بشكل<br />
واسع بعيدا عن معاقلها الواقعة في شمالي<br />
مالي أو جنوبي ليبيا، قد وسعت منطقة<br />
نفوذها في وسط مالي وفي شمالي وغربي<br />
بوركينا فاسو وفي شمال غربي النيجر،<br />
وأضحت تهدد مستقبال البلدان الساحلية<br />
إلفريقيا الغربية مثل الكوت ديفوار والبينين.<br />
برز عدد من مجموعات الدفاع الذاتي،<br />
التي تنفذ مجازر متبادلة تستهدف المدنيين<br />
في مالي، تضاعف عدد الهجمات على<br />
القرى خالل األشهر الثمانية عشر الماضية.<br />
وفقا للمفوضية األممية السامية لحقوق<br />
اإلنسان، خلفت هذه الهجمات أكثر من 600<br />
قتيل بين مارس/آذار 2018 ومارس/آذار<br />
<strong>2019</strong> ونجم عنها التهجير القسري ألكثر<br />
من 66 ألف شخص. يوم 23 مارس/آذار<br />
<strong>2019</strong>، قامت ميليشيا تابعة لقبيلة الدوغون<br />
)دان نا أمباساغو( بقتل 157 من سكان<br />
قرية أوغوساغو الواقعة وسط مالي، والتي<br />
يقطنها أشخاص ينتمون إلى قبيلة البويل،<br />
وقام عناصر هذه الميليشيا بإحراق القرية<br />
جزئيا. كما سجلت عمليات قتل في بوركينا<br />
فاسو والتشاد. وتواجه الجيوش الوطنية<br />
اتهامات بكونها قد قامت هي نفسها بإعدام<br />
مدنيين خالل عمليات »نشر السلم«. صرح<br />
الجنرال برونو كليمون بولي، المدير<br />
السابق للتعاون األمني والدفاعي بوزارة<br />
الشؤون الخارجية، مؤخرا، بقوله: »رغم<br />
االنتشار الواسع للقوات المحلية أو األجنبية،<br />
وتعزيز البعثات العسكرية، واإلجابات<br />
الشمولية التي تجمع بذكاء بين مقتضيات<br />
األمن والتنمية، وأيضا رغم االعتمادات<br />
المالية الضخمة المسخرة، فإن األوضاع<br />
تسير باتجاه مزيد التردي«)10(.<br />
ويؤكد الجنرال بولي أن »الدوامة<br />
السلبية« لخيار »الكل من أجل األمن<br />
والدفاع«، قد برهنت على محدوديتها.<br />
حضور أكثر من 13 ألف من القبعات الزرق<br />
ضمن البعثة متعددة األبعاد والمندمجة<br />
التابعة لألمم المتحدة )تم قتل 122 من<br />
العسكريين أعضاء هذه البعثة خالل فترة<br />
ست سنوات(، وأكثر من 4500 جندي<br />
فرنسي، يضاف إليهم عناصر الجيوش<br />
الوطنية وبضع مئات من الجنود األمريكيين<br />
واإليطاليين واأللمان المتمركزين تقريبا في<br />
كافة أنحاء المنطقة، وأساسا في النيجر، لم<br />
يمكن من قلب المعادلة. بل األمر أبعد ما<br />
يكون عن ذلك.<br />
جميع الحقوق محفوظة<br />
10( برونو كليمون بولي، »لنوقف المجازر في منطقة<br />
الساحل..«، جون أفريك، باريس، 6 جوان/حزيران <strong>2019</strong>.
ج<br />
<strong>جويلية</strong>/<strong>أوت</strong> - تموز/آب 16 <strong>2019</strong><br />
في ألمانيا، الشرطة والقضاء<br />
عدم محاكمة عنف<br />
خلية من النازيين الجدد، عمليات قتل متسلسلة وشرطة تتغافل: هذه مكونات الدراما التي<br />
تضرب ألمانيا منذ بداية سنوات األلفين. القضايا التي رفعت في ميونيخ من 2013 إلى 2018 أظهرت<br />
في خفاياها قصور داخل أجهزة األمن وفي المؤسسة القضائية تجاه عنف أقصى اليمين.<br />
يوم 11 <strong>جويلية</strong>/تموز 2018،<br />
أصاب إسماعيل يوزغات اإلنهيار<br />
وطفق يردد الدعوات ويصب<br />
الماء على رأسه. إنه والد هاليت<br />
يوزغات الذي قتل قبل إثني عشر<br />
عاما من قبل مجموعة »المنظمة<br />
السرية القومية االشتراكية«.<br />
لقد استمع للتو لمانفريد غوتزل،<br />
القاضي الجنائي بالمحكمة<br />
اإلقليمية العليا بميونيخ، وهو<br />
يعلن حكمه ضد خمسة متهمين:<br />
حكم قاس ضد المتهمة الرئيسية،<br />
مقابل حكم متسامح ضد شركائها<br />
األربعة.<br />
هكذا تم االنتهاء من التعاطي<br />
العمومي مع أكبر سلسلة من<br />
جرائم النازية الجديدة في ألمانيا<br />
منذ الحرب العالمية الثانية. بين<br />
سبتمبر/أيلول 2000 وأفريل/<br />
نيسان 2007، تم اغتيال تسعة<br />
أشخاص من المهاجرين، ال سيما<br />
األتراك إلى جانب شرطية في<br />
عدد من المدن األلمانية باستخدام<br />
نفس المسدس. في البدء، ذهب في<br />
اعتقاد الشرطة أن األمر يتعلق<br />
* هما على التوالي، دكتور متخصص في التاريخ<br />
المعاصر ومتعاون مع مؤسسة روزا لوكسمبورغ،<br />
وأستاذ القانون العام بجامعة لورين وباحث مشارك<br />
بمعهد الدراسات العالمية بباريس.<br />
ماسيمو بيرينالي وكريستوفر بولمان *<br />
بتصفية حسابات بين مجموعات<br />
سكانية. بعد كل عملية قتل، كانت<br />
التحقيقات تستهدف بالدرجة<br />
األولى العائالت واألجوار<br />
والوسط الذي عاش فيه الضحايا،<br />
مع سعي في بعض األحيان إلى<br />
تشويه سمعة الضحية من خالل<br />
ترويج أخبار كاذبة)1(. تم إطالق<br />
تسميتي »بوسفور« و»هالبموند«<br />
)هالل، في إشارة إلى العلم<br />
التركي( على لجنتي التحقيق<br />
الجنائيتين. أما وسائل اإلعالم،<br />
فقد انتقدت بشدة ما أسمته ب<br />
»العالم الموازي المظلم« الذي<br />
يجمع بين مروجي المخدرات<br />
واألتراك محترفي عمليات<br />
السلب بالقوة ووجهت لهذا العالم<br />
أصابع االتهام بارتكاب هذه<br />
»الجرائم الشنيعة«)2(. ضمن<br />
لجنة بوسفور إحدى أكبر اللجان<br />
في التاريخ الجنائي األلماني،<br />
ذهب ما ال يقل عن 160 شرطيا<br />
في اتجاه خاطئ. عندما تم قتل<br />
شرطية سنة 2007 في سيارتها<br />
وإلحاق جروح بليغة بمرافقها في<br />
رأسه، بحث المحققون عن »شبح<br />
هايلبرون«، المدينة التي شهدت<br />
االعتداء، في صفوف السكان<br />
الغجريين »التزيغان«، الذين<br />
يرى األطباء النفسانيون التابعون<br />
للشرطة أن »الكذب يمثل لديهم<br />
عنصرا أساسيا لإلندماج في<br />
المجتمع«)3(. كما أن االعتداءات<br />
الثالثة بالقنابل التي استهدفت<br />
مواقع مرتبطة بالهجرة، لم<br />
تفتح أعين السلطات وتدفعها<br />
إلى مزيد التدقيق بشأن حركة<br />
النازية الجديدة، رغم تسجيل ما<br />
اليقل عن 24 جريحا. بالمقابل،<br />
وبالنسبة للضحايا والمحيطين<br />
بهم وعدد قليل من الصحفيين،<br />
تعززت الشكوك إزاء أوساط<br />
اليمين المتطرف وأضحت معلنة<br />
أكثر فأكثر.<br />
لقد تغير كل شيء بداية<br />
نوفمبر/تشرين الثاني 2011<br />
مع تسليم بيت زشاب نفسها<br />
للسلطات. هكذا، أمكن للمحققين<br />
تعقب خيوط وتفاصيل القصة التي<br />
حرصوا إلى حد ذلك الوقت على<br />
إغفالها. في العام 1998، وبعد<br />
عدد من االعتداءات الصغيرة،<br />
قام كل من أووي بوهنهارت<br />
وأووي موندلوس وزشاب<br />
ببعث »المنظمة السرية القومية<br />
االشتراكية« .)NSU( بين عامي<br />
1998 و2011، استولى هؤالء<br />
على مبلغ يقارب 600 ألف يورو<br />
من خالل هجمات سلب استهدفت<br />
مغازات و14 أو 15 بنكا، مخلفين<br />
عددا غير معلوم من الجرحى.<br />
على مدى حوالي 14 عاما، عاش<br />
مؤسسي هذا التنظيم في السرية<br />
في منطقة ساكس، متمتعين<br />
برعاية ودعم شبكة مهمة من<br />
المناصرين. في أعقاب عملية<br />
سلب أخيرة فاشلة ومقتل رجلين<br />
ينتميان إلى المجموعة، قتلهما<br />
شخص مجهول الهوية أو توفيا<br />
انتحارا يوم 4 نوفمبر/تشرين<br />
الثاني 2011، أضرمت زشاب<br />
النار في منزلهم المشترك،<br />
وأرسلت عددا كبيرا من أشرطة<br />
الفيديو تتضمن اعترافات إلى<br />
وسائل اإلعالم وسلمت نفسها إلى<br />
الشرطة.<br />
تم تمديد اعتماد منطق إبعاد<br />
التهمة عن أوساط النازية الجديدة<br />
الذي كان سائدا قبل 2011 إلى<br />
حقبة المحاكمة أمام محكمة<br />
ميونيخ وعلى مستوى الحكم الذي<br />
أصدرته. في أعقاب المحاكمة،<br />
والتي شارك فيها خالل الفترة بين<br />
ماي /أيار2013 و<strong>جويلية</strong>/تموز<br />
450 2018، شاهدا و56 خبيرا،<br />
وتطلب ملفها تدوين 600 ألف<br />
صفحة مع كلفة راوحت بين 30<br />
و37 مليون يورو، تم تأكيد إدانة<br />
زشاب بالسجن المؤبد، غير أن<br />
شركاءها األربعة لم ينالوا، تحت<br />
تصفيق زهاء 12 من ناشطي<br />
النازية الجديدة الحاضرين يوم<br />
المداولة، سوى أحكام تراوحت<br />
بين عامين ونصف وعشر<br />
سنوات سجنا. لقد تم إطالق<br />
سراحهم جميعا، بالنظر لمدة<br />
إيقافهم التحفظي.<br />
تحقيق معرقل<br />
إذا كانت هذه األحكام<br />
المخففة تقف على طرف نقيض<br />
من قسوة العدالة على بعض<br />
المتظاهرين ضد قمة العشرين<br />
الكبار )G20( في <strong>جويلية</strong>/تموز<br />
2017 بهامبورغ والذين وصلت<br />
األحكام في خصوصهم إلى حد<br />
39 شهر سجن نافذة، يُطرح<br />
المشكل على صعيد آخر: لم<br />
تبدد المحاكمة االنطباع السائد<br />
بوجود »حالة عمى تصل حد<br />
تواطؤ المؤسسات العمومية<br />
المكلفة باألمن والحماية« مع<br />
حركة النازيين الجدد، وفق تقدير<br />
الكاتب رالف جيوردانو)4(. في<br />
تلخيصه لطريقة تعاطي السلطات<br />
مع المنظمة السرية القومية<br />
االشتراكية ،)NSU( أشار تقرير<br />
لجنة التحقيق التابعة للجمعية<br />
البرلمانية بتورينغ إلى ما وصفه<br />
ب »كارثة معممة التي تخول<br />
الحديث عن شكوك في وجود<br />
عمليات تخريب مقصودة)5(«.<br />
كما لو أن ذلك يؤشر على وجود<br />
تسامح مؤسساتي في ألمانيا إزاء<br />
إجرام اليمين المتطرف، في<br />
حين أن االعتداءات العنصرية<br />
والمعادية للسامية قد سجلت سنة<br />
2018 ارتفاعا بنسبة تقارب %20<br />
مقارنة بسنة 2017، بعد أن بلغت<br />
أرقاما جد مرتفعة خالل السنوات<br />
السابقة)6(.<br />
طوال مدة المحاكمة، حرص<br />
القضاة على حصر النقاشات في<br />
المتهمين الخمسة دونما سعي إلى<br />
توسيع اإلشكالية لتشمل الظرفية<br />
العامة، وهي تقنية إفراد معمول<br />
بها في القضايا الجنائية التي<br />
يكون مصدرها أو لها انعكاسات<br />
اجتماعية وسياسية. لم تؤخذ البتة<br />
بعين االعتبار التحقيقات المستقلة<br />
التي تؤكد على أن المؤسسين<br />
الثالثة لمنظمة »آن آس أو<br />
»NSU وشركاؤهم األربعة، لم<br />
يكن بمقدورهم لوحدهم ارتكاب<br />
الجرائم المتعددة المنسوبة إليهم<br />
في كامل ألمانيا، والبقاء في<br />
وضعية السرية لمدة تقارب<br />
14 عاما)7(. التزمت زشاب<br />
الصمت أغلب الوقت ورفضت<br />
التعاون. غير أن إثنين من صغار<br />
معاونيها، واللذين لم يعبرا عن<br />
أي شعور بالندم على أفعالهم، بل<br />
أعلنا تمسكهما بتوجهاتهم القومية<br />
االشتراكية، ينظر إليهما رفاقهما<br />
اليوم كأبطال.<br />
هناك أيضا التناقضات التي<br />
حفت بالتحقيق. يوم 6 أفريل/<br />
نيسان 2016 في كاسل، تم<br />
قتل هاليت يوزغات في مقهى<br />
األنترنيت التي تديرها عائلته.<br />
كان هناك حريف على عين<br />
المكان وهو أندرياس تام بصدد<br />
تصفح موقع تعارف. كانت مالمح<br />
شخصيته تبعث على الريبة:<br />
فهذا الشخص الذي كانت تطلق<br />
عليه في شبابه تسمية »أدولف<br />
الصغير« )وهي تسمية يصرح<br />
بأنه ال يفهم معناها، رغم كونه قد<br />
1( »أثر طريقة ريد: اعترافات قسرية ومؤسسات<br />
عنصرية«، الحقوق المدنية والشرطة، العدد 115،<br />
برلين، أفريل/نيسان 2018، www.cilip.de<br />
2( صحيفة »دير شبيغل« هامبورغ، 21 فيفري/<br />
شباط 2011، حول لفظة döner« ،»meurtres<br />
4 <strong>جويلية</strong>/تموز .2012<br />
3( »دي زايت أونالين«، 4 فيفري/شباط 2014<br />
www.zeit.de<br />
4( خطاب تسلم جائزة بارتيني، يوم 27 جانفي/<br />
كانون الثاني 2014 بهامبورغ،<br />
https://bertini-preis.hamburg.de<br />
5( تقرير لجنة التحقيق للمجلس البرلماني<br />
بتورينغ »إرهاب اليمين وأنشطة اإلدارات<br />
العمومية«، 16 <strong>جويلية</strong>/تموز 2014 )باللغة<br />
األلمانية(، www.thueringer-landtag.de<br />
6( الجريمة ذات الدوافع السياسية في سنة 2018،<br />
وزارة الداخلية، برلين، 14 ماي/أيار <strong>2019</strong>،<br />
www.bmi.bund.de<br />
7( ستيفان أوست وديرك البس، »حماية الوطن.<br />
الدولة وسلسلة القتل من »NSU بانتيون، ميونيخ،<br />
.2014<br />
Massimo Perinelli et Christopher Pollmann<br />
جميع الحقوق محفوظة
17 <strong>جويلية</strong>/<strong>أوت</strong> - تموز/آب <strong>2019</strong><br />
في المياه العكرة<br />
النازية الجديدة<br />
نسخ بيده كتاب »قصة كفاحي«<br />
الذي ألفه هتلر، عندما كان<br />
مراهقا()8( هو المشرف على<br />
مصلحة االستعالمات الداخلية<br />
)فارفاسونغسشوتز، ديوان<br />
حماية الدستور( في مقاطعة<br />
»هاس«، حيث يتولى التعامل<br />
مع المخبرين الذين يفترض أنهم<br />
مكلفون بمراقبة النازيين الجدد.<br />
خالل فترة التحقيق في أفريل/<br />
نيسان 2006، لم يستجب »تام«<br />
للدعوة التي وجهتها له الشرطة<br />
لتقديم شهادته، مثلما سعى على<br />
عملية االستنطاق األولى إلى<br />
إنكار وجوده في المكان عند<br />
ارتكاب الجريمة. رغم أن مقارنة<br />
معطيات الربط باالنترنيت<br />
والشهادة المرئية لحريف آخر<br />
حضر الحادثة تؤكد العكس.<br />
رغم أنه يتقن، وفق اعترافاته،<br />
استخدام األسلحة، أكد الحقا أنه<br />
لم يسمع طلقتي المسدس الذي<br />
كان مجهزا بكاتم صوت، ولم<br />
يشتم رائحة البارود، ولم يالحظ<br />
عند مغادرته المكان الجثة التي<br />
كانت تسبح في بركة من الدماء<br />
وراء مكتب االستقبال وباب<br />
الخروج)9(. إذا كان القضاة قد<br />
وصفوا هذه التصريحات والشاهد<br />
نفسه بأنه ذو مصداقية، فإن معهد<br />
»فورانسيك للهندسة المعمارية«<br />
اللندني المرموق، الذي كلفته<br />
عائلة يوزغات وداعموها بإجراء<br />
اختبار مضاد، قد برهن على أن<br />
»تام« يجب أن يكون قد أدرك<br />
عملية القتل على مستويات السمع<br />
والشم والبصر.<br />
تؤشر هذه الحالة على<br />
مناطق الظل التي أحاطت بعمل<br />
الدواوين اإلقليمية والفيدرالية<br />
لحماية الدستور وأعوانها<br />
ومخبريها الثالثين المكلفين<br />
بمراقبة ثالثي المنظمة السرية<br />
للقومية االشتراكية)10(. لقد<br />
اشتكى عدد من رجال الشرطة<br />
يقظي الضمير وبصورة مبكرة<br />
من هذه الوضعية: طيلة عام<br />
2001، سجل المحافظ زفان<br />
ووندرليش وانتقد مرات عدة،<br />
شفويا وكتابيا، العراقيل التي<br />
وضعها ديوان حماية الدستور<br />
بمقطاعة توزينغ، ما حال دون<br />
القبض على الهاربين الثالثة)11(.<br />
رغما عن ذلك وخالل محاكمة<br />
ميونيخ، رفض القضاة النظر<br />
في أي من القرائن أو البراهين<br />
التي تتصل بتورط مختلف<br />
معاوني ديوان حماية الدستور<br />
في جرائم المنظمة السرية<br />
القومية االشتراكية .)NSU( بعد<br />
اعترافات زشاب في نوفمبر/<br />
تشرين الثاني 2011، تعرضت<br />
غالبية تقارير الديوان المتعلقة<br />
بالمنظمة إما إلى اإلتالف أو إلى<br />
تصنيفها سرية لفترة 120 عاما.<br />
هكذا، تم استبعاد الملف الخاص<br />
بتام من الخضوع للتحقيقات<br />
البرلمانية أو التحقيق الجنائي<br />
إلى حدود عام 2137 إضافة إلى<br />
ذلك حضر عدد كبير من معاوني<br />
مصالح االستخبارات إلى جلسات<br />
االستماع تحت أسماء مستعارة<br />
ومارسوا الكذب بصورة قصدية.<br />
»ال يجب أن نكشف أسرار دولة<br />
يمكن أن تلحق الضرر بالعمل<br />
الحكومي«، ذلك هو التبرير<br />
المسبق الذي قدمه المسؤول<br />
الفيدرالي عن مجمل مصالح<br />
االستخبارات واألمن الداخلي<br />
كاتب الدولة كالوس دييتر فريتشا<br />
يوم 19 أكتوبر/تشرين األول<br />
2012، أمام اللجنة البرلمانية<br />
الفيدرالية األولى)12(.<br />
تم االستماع إلى هانس<br />
جواكيم فونكي، االستاذ الفخري<br />
للعلوم السياسية بجامعة برلين<br />
الحرة والمختص في المنظمة<br />
السرية القومية االشتراكية من<br />
قبل عديد اللجان البرلمانية.<br />
تبرهن أبحاث فونكي على أنه<br />
في أعقاب زوال جمهورية ألمانيا<br />
الديمقراطية، أسهم »ديوان حماية<br />
الدستور« )فارفاسوغسشوتز<br />
)Verfassungsschutz بشكل<br />
كبير في بعث شبكات من النازيين<br />
الجدد في المقاطعات الجديدة:<br />
العديد من مسؤولي وأعضاء هذه<br />
الحركة تم تمكينهم من مكافآت<br />
مالية للعمل كمخبرين لدى<br />
الوكاالت االستخباراتية وإعفاؤهم<br />
من التحقيقات الجنائية)13(. ما تم<br />
الكشف عنه مؤخرا من وجود<br />
شبكة من الضباط ورجال الشرطة<br />
وأعوان المخابرات والقضاة<br />
وغيرهم من الموظفين تجمع<br />
بينهم تخيالت وأوهام متصلة<br />
بتنفيذ انقالب وإعدام معارضين<br />
من اليسار، يقيم الدليل على أن<br />
الداء ينخر الجسد بعمق)14(.<br />
في مواجهة االتهامات<br />
الكاذبة للشرطة ووسائل اإلعالم<br />
وإزاء عمليات اإلنكار المتعددة<br />
واإلخالالت المتراكمة للتحقيقات<br />
الرسمية، عملت عائالت الضحايا<br />
ومساندوها على التنظم. بعد<br />
مقتل كل من محمد كوبازيك في<br />
دورتموند وهاليت يوزغات في<br />
كاسل في أفريل/نيسان 2006،<br />
قام أفراد عائلتيهما ومساندوهم<br />
بمسيرتين في المدينيتن جمعتا<br />
آالف األشخاص. إرساء شبكة<br />
مهمة للمالحظة والتحليل النقدي،<br />
وإنجاز أعمال ثقافية وفنية،<br />
وتأمين تعبئة سياسية وقانونية،<br />
السيما بعد انطالق المحاكمة<br />
الجنائية للمنظمة السرية القومية<br />
االشتراكية )NSU( سنة 2013.<br />
قامت مجموعة »آن آس أو<br />
واتش« )NSU-Watch(<br />
بفروعها السبعة الجهوية<br />
والمحورية، بجهود في تدقيق<br />
وتمحيص األعمال التحقيقية<br />
للجان البرلمانية الثالثة عشر<br />
ولحصيلة األيام ال 438 التي<br />
استغرقتها محاكمة ميونيخ)15(.<br />
ووصلت هذه التعبئة أوجها<br />
في ماي/أيار 2017 مع تنظيم<br />
تجمع ضم 3 آالف شخص في<br />
كولونيا. تولت هيئة المحاكمة<br />
الشعبية التي أطلقت شعار »حل<br />
شبكات المنظمة السرية القومية<br />
االشتراكية: نحن نتهم«)16(<br />
تجميع الشخصيات وأعضاء<br />
االئتالفات النقدية لسير التحقيق<br />
على مدى خمسة أيام بحضور عدد<br />
كبير من المحامين عن القائمين<br />
بالحق المدني. من منطلق كونهم<br />
يعتبرون أنه ال قضاة ميونيخ، وال<br />
اللجان البرلمانية ستقوم بكشف<br />
الحقيقة وال في إعمال العدالة،<br />
تولى المشاركون تحرير لوائح<br />
اتهام ضد زهاء مائة شخص: ال<br />
فقط النازيين الجدد وعدد آخر<br />
من األشخاص المورطين في<br />
التخطيط للجرائم وتنفيذها، وإنما<br />
أيضا عدد من رجال الشرطة<br />
ومن وكالء النيابة والصحفيين<br />
والسياسيين، الذين عملوا خالل<br />
الفترة بين 1999 و2011، على<br />
خداع عائالت الضحايا وأسهموا<br />
في تبرئة أوساط اليمين المتطرف.<br />
يوم إعالن الحكم، تجمع<br />
5 آالف شخص بميونيخ وأكثر<br />
من 7 آالف شخص في 12 مدينة<br />
ألمانية أخرى للمطالبة بتحقيق<br />
رسمي حول أوجه التواطؤ داخل<br />
المؤسسات في عالقة بالجريمة<br />
العنصرية. كما اطلعوا على<br />
تصريح إسماعيل يوزغات:<br />
»نحن ال نعترف بهذا الحكم«.<br />
على أية حال، القضية لم تدرك<br />
بعد نهايتها. من ناحية، قررت<br />
كل من زشاب وشركاؤها ووكيل<br />
الجمهورية الفيدرالي، وألسباب<br />
مختلفة، تعقيب الحكم أمام المحكمة<br />
الفيدرالية بكارلسروه. قطعا، لن<br />
تصدر هذه المحكمة قرارها قبل<br />
عدة سنوات... تولت من ناحية<br />
أخرى، ثالث من عائالت الضحايا<br />
رفع قضية بعنوان مسؤولية<br />
الدولة من أجل االتهامات الكاذبة<br />
وإخالالت التحقيق على مستوى<br />
المحكمة اإلبتدائية بنورمبارغ،<br />
مطالبة بتعويضات.<br />
رغم كونها قد حظيت بتغطية<br />
إعالمية واسعة، ليس في محاكمة<br />
ميونيخ أصال أي شيء استثنائي.<br />
ذلك أنها اضطلعت فحسب بالدور<br />
الموكول لهيئات التتبع الحنائي:<br />
اإلفراد ونزع الطابع السياسي<br />
عن المشاكل االجتماعية وذلك<br />
من خالل التركيز على ظواهر<br />
االنحراف واإلجرام والمسؤولية<br />
الجزائية الفردية.<br />
8( »دي والت«، برلين، 6 جوان/حزيران<br />
www.welt.de ،2016<br />
9( لوتز بوكليتش، »كاسل: اغتيال هاليت<br />
يوزغات. العالم األسطوري أندياس تيمي«، 22<br />
جوان/حزيران 2014،<br />
،https://hajofunke.wordpress.com وكذلك<br />
»دي والت«، 1 مارس/آذار 2015،<br />
www.welt.de<br />
جميع الحقوق محفوظة<br />
10( هانس يواكيم فونكي، أمن حماية الدستور.<br />
عالقة الدولة: الرجل الخامس وما يحتاج أن نتعلم<br />
منه، »في آس أ« ،VSA هامبورغ، 2017.<br />
11( »إرهاب اليميني وأنشطة اإلدارات<br />
العمومية«، مصدر سبق ذكره.<br />
12( هانس جواكيم فونكي،<br />
https://hajofunke.wordpress.com<br />
13( »إرهاب اليميني وأنشطة اإلدارات<br />
العمومية«، مصدر تم ذكره سابقا، وكذلك هانس<br />
يواكيم فونكي، مجازفة أمنية، مصدر تم ذكره<br />
سابقا.<br />
14( »دي تاغسزايتونغ«، برلين، 16 نوفمبر/<br />
تشرين الثاني 2018.<br />
15( www.nsu-watch.info )باللغات االلمانية<br />
واإلنقليزية والتركية(<br />
16( محكمة »حل مجمع :NSU نحن نشكو«<br />
.www.nsu-tribunal.de، وقد تم متابعة تمشي<br />
االتهام هذا من 22 إلى 25 نوفمبر/تشرين الثاني<br />
2018 ب »مانهايم«.
<strong>جويلية</strong>/<strong>أوت</strong> - تموز/آب 18 <strong>2019</strong><br />
من بيونس آيريس إلى بوغوتا،<br />
جيوسياسية األزمة<br />
ارتكز هجوم واشنطن على الرئيس الفنزويلي نيكوالس مادورو على القادة المحافظين في المنطقة والذين<br />
أصبحوا أغلبية. بفضلهم، أمكن لنزعة التدخل األمريكية أن تتخفى وراء ستار االنشغال االنساني... لكن منهج<br />
إدارة ترامب القاضي بجر األوضاع نحو األقصى أدى إلى إثارة غضب اليمين األمريكي الالتيني المعروف بوداعته.<br />
إذا كانت إدارة اوباما قد رحبت بإنشاء تحالف المحيط<br />
الهادئ، فقد بدت متكتّمة حول دورها الخاصّ في تكوينه.<br />
أما المحيطون بترامب فقد تبنّوا الموقف المعاكس: إذ لم<br />
يفوّتوا أيّ فرصة لالستشهاد ببالغات مجموعة ليما بهدف<br />
الحثّ على تبنّي إجماع إقليمي حول المسألة الفنزويلية.<br />
جهد رافقته وسائل اإلعالم الرئيسية التي يبدو أنها غفلت<br />
عن مسألة االنسجام اإليديولوجي للتحالف.<br />
عندما قرّر خوان غوايدو زعيم المعارضة إعالن<br />
نفسه رئيسا مؤقتا بالنيابة خالل شهر جانفي/كانون الثاني<br />
<strong>2019</strong>)2(، سارعت الواليات المتحدة ومجموعة ليما إلى<br />
االعتراف به فورا. كما دعت القوات المسلّحة إلى اإلطاحة<br />
بالرئيس مادورو الذي أعيد انتخابه في االنتخابات المتنازع<br />
عليها والتي جرت في شهر ماي/أيار 2018. أما الدولة<br />
الوحيدة التي نأتْ بنفسها عن الموقف الرسمي للمجموعة<br />
فهي المكسيك التي تولّى فيها اليساري اندراس مانويل<br />
لوباز اوبرادو مقاليد الرئاسة في شهر ديسمبر/كانون<br />
األول 2018. بالتنسيق مع أوروغواي حيث يتولى الحكم<br />
تقدّميون اقترحت مكسيكو »آلية حوار« قصد مساعدة<br />
فنزويال على الخروج من األزمة.<br />
الكسندر ماين * Main Alexander<br />
جميع الحقوق محفوظة<br />
قدمت مجموعة ليما دعما حاسما إلدارة ترامب.<br />
لكن ورغم اإلجراءات المناسبة التي قدّمها لها حلفاؤها<br />
الجنوبيون في سياق إقليمي لم يكن أكثر مالءمة منذ<br />
نهاية التسعينات، بدت واشنطن عدوانية إلى حدّ نفّر منها<br />
مسانديها تدريجيا. عندما أشار غوايدو إلى إمكانية تدخل<br />
عسكري أجنبي، أدان أعضاء مجموعة ليما بشدّة »كل<br />
تهديد ينطوي على عمل مسلّح في فنزويال« )15 افريل/<br />
نيسان <strong>2019</strong>(، كما كرّروا التأكيد على ذات الموقف عندما<br />
بيّن ترامب بدوره أنّ نشر قوّة مسلّحة أمر وارد.<br />
لم تكن فنزويال في البداية ضمن المشاغل الرئيسية<br />
للرئيس األمريكي دونالد ترامب. خالل حملته االنتخابية،<br />
نادرا ما ذكر اسم هذه الدولة، ولم يُشر مطلقا إلى أنّه يعتزم<br />
التدخل في شؤونها.<br />
مع ربيع سنة 2017، تغيّر كل شيء على إثر سلسلة<br />
من االجتماعات بين ترامب ومنافسه السابق في االنتخابات<br />
األولية للحزب الجمهوري ماركو روبيو سيناتور فلوريدا،<br />
وهو من أصل كوبي. بحكم قربه من المانحين والناخبين<br />
المعادين لكلّ من هافانا وكركاس والمقيمين في ميامي،<br />
يبدو أن روبيو قد نجح في إقناع محدّثه بالفائدة االنتخابية<br />
من انتهاج خطّ متشدّد في ما يتّصل بفنزويال: ذلك أن<br />
التوصّ ل إلى تحقيق تغيير النظام يضمن في رأيه الفوز<br />
بأصوات الناخبين في هذه الوالية المفتاح خالل االنتخابات<br />
الرئاسية المقبلة.<br />
أعلن الرئيس ترامب آنذاك عن اعتزامه التراجع<br />
عن سياسة التطبيع تجاه كوبا التي شرع فيها سلَفه<br />
باراك أوباما. أما بالنسبة إلى فنزويال، فقد ذكر بأن<br />
»الحلّ العسكري« مازال على الطاولة، وذلك قبل فرض<br />
مجموعة من العقوبات المدمّرة على كركاس.آنذاك حدث<br />
ما ال يمكن تصوره قبل عشر سنوات حيث انضمّت أهم<br />
عواصم المنطقة إلى جهود واشنطن لإلطاحة بحكومة<br />
الرئيس نيكوالس مادورو.<br />
حركية الكتل<br />
لقد تغيّرت أميركا الالتينية. عندما تسلم أوباما السلطة<br />
خالل شهر جانفي/كانون الثاني 2009، كانت معظم بلدان<br />
أمريكا الالتينية ومنطقة الكاراييب تحت حكم اليسار. كان<br />
القادة السياسيون فيها يدافعون عن استقالل المنطقة على<br />
* مدير السياسة الدولية في مركز البحوث االقتصادية والسياسية، واشنطن.<br />
الرغم من الجهود التي كانت تبذلها اإلدارات الجمهورية<br />
السابقة من أجل عرقلة نموّ »الموجة الحمراء« التي<br />
اجتاحت شبه القارّة مع مطلع القرن الواحد والعشرين.<br />
في الوقت الذي كان فيه أول رئيس أسود للواليات<br />
المتحدة األمريكية يستعد لمغادرة الحكم في ختام واليته<br />
الثانية، تحوّلت أمريكا الالتينية إلى حكم اليمين. شهدت<br />
منظمات هامة للتكامل اإلقليمي بعثها اليسار حالةً من الشلل،<br />
وأصبح يتهدّدها االنهيار، مثل اتحاد دول أمريكا الجنوبية<br />
)اوناسور( ومجموعة دول أمريكا الالتينية والكاراييب<br />
)سيالك(. ظهرت كتلة جديدة تدعمها واشنطن تسمّى<br />
»حلف المحيط الهادئ« )وتتكوّن من الشيلي وكولومبيا<br />
والمكسيك والبيرو(، وهي دول وقّعت على اتفاقية تبادل<br />
حرّ مع الواليات المتحدة. هذا التكتل الجديد الذي ال يُخفي<br />
عداءه التحاد دول أمريكا الالتينية وكاراكاس وكوبا جاء<br />
ليجمع بقايا الرّ اية النيولبرالية، ويشجّ ع على اتّباع نفس<br />
السياسات التي أدّت إلى عقدين من الركود االقتصادي<br />
وتفاقم التفاوت خالل سنوات 1990-1980.<br />
لقد بدا أن اقتران الكواكب مناسب جدا لواشنطن حتى<br />
تطلق حملتها ضد فنزويال. خالل شهر <strong>أوت</strong>/آب 2017،<br />
اجتمع في البيرو ممثلو حواليْ اثنى عشر دولة من أمريكا<br />
الالتينية يقود أغلبها حكومات يمينيّة)1( إضافة إلى كندا<br />
ووقّعوا على إعالن ليما الذي يدين »القطع مع النظام<br />
الديمقراطي« وانتهاكات حقوق اإلنسان في فنزويال.<br />
التزاما منها بعزل حكومة مادورو اجتمعت مجموعة ليما<br />
إثر ذلك عدّة مرّ ات من أجل النظر في نقطة وحيدة في<br />
جداول أعمالها وهي فنزويال. أمّا التهديدات التي تتعرض<br />
لها الديمقراطية وحقوق اإلنسان في الهندوراس وفي<br />
كولومبيا )وهما دولتان عضوان في المجموعة( فال تثير<br />
انشغال المجموعة بالقدر الكافي.<br />
على الرغم من أن الواليات المتحدة األمريكية غير<br />
منتمية إلى مجموعة ليما بصفة رسميّة، واظب ممثلون<br />
أمريكيون رفيعو المستوى على حضور كل االجتماعات.<br />
»على الموجة ذاتها«<br />
في الوقت الذي يبدو فيه الوضع في كاراكاس على<br />
حاله، راحت مجموعة ليما تؤيّد فكرة الحل السلمي<br />
التفاوضي، وهو المخرج الذي ترفضه الواليات المتحدة<br />
متشبّثةً بمشروعها القاضي بتغيير النظام. أدّى فشل<br />
االنتفاضة الشعبية التي حاول غوايدو إطالقها يوم 30<br />
افريل/نيسان بالمجموعة إلى االستنجاد بدعم كوبا في<br />
المفاوضات. لكن الفكرة جعلت فِرَ ق ترامب تنتفض، ومن<br />
ضمنها ايليوت أبرامز الذي دافع عن فرق الموت في<br />
أمريكا الوسطى خالل الثمانينات وكذِب على الكونغرس،<br />
رغم قَسَ مِهِ، حول مسألة تورّطه في فضيحة إيران)3(.<br />
يدافع ابرامز عن فكرة أن الهافانا قد ركّزت آالف<br />
الجنود وأعوان المخابرات في فنزويال بشكل يضمن الدعم<br />
لمادورو. تشير وكاالت االستعالمات األمريكية إلى أنه<br />
ال وجود ألي دليل ملموس يدعم هذا الطّ رح ولكن ال<br />
يهمّ: عندما اتصل رئيس الوزراء الكندي جاستن ترودو<br />
بالسلطات الكوبية باسم مجموعة ليما، تلقّى مكالمة<br />
غاضبة من مايكل بنس نائب الرئيس األمريكي الذي كان<br />
حريصا كل الحرص على تنبيهه إلى « التأثير المضرّ »<br />
لكوبا في كاراكاس)4(.<br />
1( خاصة األرجنتين، البرازيل، الشيلي، كولومبيا ، باراغواي، البيرو.<br />
2( جوليا بكستن »المعارضة في فنزويال إلى أين«، <strong>لوموند</strong> <strong>ديبلوماتيك</strong>، مارس/<br />
آذار <strong>2019</strong>.<br />
3( ايريك التيرمان: »عودة كاتب الدولة للحروب القذرة«، <strong>لوموند</strong> <strong>ديبلوماتيك</strong>،<br />
مارس/آذار <strong>2019</strong>.<br />
4( »بنس يدعو كندا إلى بذل مزيد من الجهد من أجل صرف كوبا عن األزمة<br />
الفنزويلية« رويترز، 30 ماي/أيار <strong>2019</strong>.
19 <strong>جويلية</strong>/<strong>أوت</strong> - تموز/آب <strong>2019</strong><br />
المحافظون في وضع هجومي<br />
الفنزويلية<br />
في الوقت الذي ترفض فيه مجموعة ليما تطبيق العقوبات<br />
االقتصادية التي تطالب بها واشنطن على فنزويال بدأت الشقوق<br />
تتعمّق. ذلك أن حتى أكثر المحافظين األمريكيين الالتينيين<br />
أصبحوا منزعجين من سياسة التدخل التي تحرص عليها إدارة<br />
ترامب. لكن جون بولتون مستشار األمن القومي ال يحرص على<br />
تبديد مخاوفهم عندما يروّج لمزايا مذهب مونرو )رؤية للعالم<br />
مرّ عليها قرنان من الزمان تبرّ ر االمبريالية األمريكية في بلدان<br />
أمريكا(، أو عندما يشرح على قناة فوكس بزنس أن احتياطات<br />
النفط الفنزويلية تشكل أحد الدوافع األمريكية الرئيسية ألنّ »ذلك<br />
سيغيّر أمورا كثيرة بالنسبة إلى الواليات المتحدة األمريكية على<br />
المستوى االقتصادي إذا استطاعت الشركات األمريكية استغالل<br />
موارد البالد« )24 جانفي/كانون الثاني <strong>2019</strong>.<br />
هذه االختالفات الجيوسياسية تتمازج أحيانا مع اختالفات<br />
أخرى ذات صبغة اقتصاديّة. عند وصولهم إلى الحكم، عبّر<br />
بعضٌ القادة الجدد من المحافظين في أمريكا الالتينية عن رغبتهم<br />
الشديدة في توقيع اتفاقيات للتبادل الحرّ مع الواليات المتحدة.<br />
مثّل وصول جمهوري صاحب ميول مركنتيلية)5( إلى البيت<br />
األبيض خيبة أمل بالنسبة إليهم. سرعان ما اختفت مسألة التبادل<br />
الحرّ من جدول أعمال االجتماعات الثنائيّة.<br />
بالنهاية ال تهتمّ إدارة ترامب كثيرا بالحلفاء الذين تشعر<br />
بأنها ليست مطالبة باستلطافهم. لقد ألغى الرئيس األمريكي<br />
عدة رحالت إلى المنطقة منها اثنتان إلى كولومبيا، وإلى القمّة<br />
الثامنة لألمريكيتين التي عقدت في البيرو، حتى وإن كان برنامج<br />
اللقاء “كيفية التخلّص من مادورو” يبدو أنه صمّم خصّ يصا<br />
من أجل إغواء وزارة الخارجية. إلى ساعة كتابة هذه السطور،<br />
كانت الرحلة الوحيدة للرئيس األمريكي ألمريكا الجنوبية هي<br />
تلك الرحلة التي حملته إلى حضور قمّة العشرين الكبار التي<br />
احتضنتها بيونس ايرس خال شهر ديسمبر/كانون األول 2018.<br />
ثم إن الرئيس عندما يتعامل مع حلفائه ال يخصّ هم بالمالطفة<br />
أكثر ممّا يخص به أعداءه. الرئيس الكولمبي »ايفا ندوك« الذي<br />
يجسّ د اليمين المتصلّب في بالده »لم يفعل شيئا« لتجفيف صناعة<br />
الكوكايين كما جاء على لسان ترامب يوم 29 مارس/آذار، وهو<br />
تصريح أثار الفزع في صفوف أبرز الوجوه الدبلوماسية األمريكية<br />
التي تعتبر كولومبيا حليفا سياسيا وعسكريا من الدرجة األولى)6(.<br />
سعى المقرّ بون من ترامب إلى التخفيف من هذه التوترات،<br />
ولم يتردّدوا في التنقل على عين المكان عند االقتضاء. زار<br />
“بنس” المنطقة خمس مرّ ات، ومن جهته حلّ بومبيو بكولومبيا<br />
والمكسيك بوصفة مديرا لوكالة االستخبارات المركزيّة قبل أن<br />
يؤدّي ستّ زيارات أخرى للمنطقة خالل السنة األولى من عمله<br />
كوزير للخارجيّة. طاف بولتون أيضا المنطقة ونزل خاصة<br />
بالبرازيل ليحيّي فيها »شريكا نحن و إياه على نفس الموجة« في<br />
شخص الرئيس اليميني المتطرّ ف جايير بلسونارو)7(.<br />
لكن هل تكفي معارضة اليسار للسياسات االقتصاديّة<br />
واالجتماعية والجيوسياسية لتكوّن برنامجا؟ األمر المفارق<br />
هو انه يبدو أن األزمة الفنزويلية تتيح التماسك الوحيد لتحالف<br />
المحافظين على ضفّتيْ »ريو برافو«. فما مصير هذا االتحاد<br />
إذا تمّت ذات يوم تسوية المسألة الفنزويليّة؟<br />
5( آالن بيهر »حكاية أخرى للنزعة التجارية«، <strong>لوموند</strong> <strong>ديبلوماتيك</strong>، ماي/أيار <strong>2019</strong>.<br />
6( »كيف يفسد ترامب عالقاته بأفضل أصدقاء واشنطن في أمريكا الالتينية«، 11<br />
افريل/نيسان ،<strong>2019</strong> com www.worldpoliticsreview.<br />
7( »بولتن يشيد ببولصنارو البرازيل كحليف« “التفكير المماثل”، 11 نوفمبر/تشرين<br />
الثاني .2018 www.politico.com<br />
8( علمنا خالل شهر ماي/أيار 2018 أن ممثلين لحكومة مادورو والمعارضة<br />
الفنزويلية موجودون في أوسلو إلجراء مفاوضات تتوسّ ط فيها الحكومة النرويجيّة.<br />
وهي أول مفاوضات رفيعة المستوى منذ نهاية سنة 2017.<br />
Edition arabe<br />
الطبعة العربية<br />
جميع الحقوق محفوظة<br />
Société Nouvelles Presses<br />
47, rue Lac Léman Les Berges du Lac 1 - 1053 Tunis.<br />
Tél. : (00216) 71 160 900<br />
Fax : (00216) 71 963 855<br />
Courriel :<br />
Président Fondateur : Alain Bittar<br />
Directeur de la Publication : Riad Ben Fadhel<br />
Directrice exécutive : Lamia Trabelsi<br />
Réalisation : Zouhair Ben Driss<br />
Impression :<br />
Imprimerie Internationale - Tunis<br />
Rue de Sanhaja - Sanhaja - Mannouba - Tunisie<br />
Dépôt légal N° 65298<br />
Il est strictement interdit de reproduire<br />
tout article du journal sauf accord préalable.<br />
abonnement@editionarabediplo.com<br />
إال أن مثل هذه الجهود تبقى في النهاية قليلة: اإلستخفاف<br />
الذي يعبّر عنه ترامب إزاء أمريكا الالتينية يعقّد التموقع<br />
الجيوسياسي لزعماء محافظين غير قادرين على وضع رؤية<br />
للعالم غير قائمة على قيادة أمريكية يسعون إلى اإلسهام فيها...<br />
على أمل جنْي بعض الفوائد من وراء ذلك.<br />
في هذا الصدد، ال يوجد مثال أفضل من النتائج الهزيلة<br />
التي حصلت عليها المنظمات اإلقليمية التي أنشأها اليمين. خالل<br />
ثمانية أعوام من وجوده، لم يتوصل تحالف المحيط الهادئ إال<br />
إلى دمج األسواق المالية ألعضائه، دون أن تساعد هذه العمليّة<br />
على تحفيز اقتصادياتها. أما أهم كتلة محافظة، وهي مجموعة<br />
ليما، فهي بندقية ذات طلقة واحدة جرى تصميمُها في سياق<br />
األزمة الفنزويلية. كونها عالقة بين دعمها لمنطق تغيير النظام<br />
وبين الحلّ األقصى كما تريده واشنطن، ظل إعالن ليما خارج<br />
الجهود الواعدة من أجل التوصّ ل إلى حلّ عن طريق التفاوض<br />
)مثل حلول النرويج()8(. أمّا أحدث منظمة فتحمل اسم »منتدى<br />
التقدم والتنمية في أمريكا الجنوبية«)بروسور(، التي تأسست<br />
خالل شهر مارس/آذار <strong>2019</strong> من طرف األرجنتين والبرازيل<br />
واالكوادور وغويانا والباراغواي والبيرو- وهي كلّها بلدان ذات<br />
حكومات يمينيّة - وهو هيكل أنشأ خدمة لهدف رئيسي يتمثّل في<br />
النّيل من مصداقيّة اتّحاد دول أمريكا الجنوبية )اوناسور(.<br />
شركة الصحافة الجديدة<br />
47، شارع بحيرة ليمان ضفاف البحيرة 1053 1 تونس.<br />
الهاتف: )00216( 71 160 900<br />
الفاكس: )00216( 71 963 855<br />
البريد االلكتروني:<br />
الرئيس المؤسس: آالن بيطار<br />
مدير الدورية: رياض بن فضل<br />
المديرة التنفيذية: لمياء الطرابلسي<br />
تصميم و إخراج: زهير بن دريس<br />
طباعة:<br />
المطبعة العالمية - تونس نهج صنهاجة<br />
صنهاجة - منوبة تونس<br />
اإليداع القانوني عدد 65298<br />
يمنع نشر أي من مقاالت ال<strong>جريدة</strong> بدون موافقة مسبقة.
<strong>جويلية</strong>/<strong>أوت</strong> - تموز/آب 20 <strong>2019</strong><br />
هويّة، أمن، الوصفات الرابحة<br />
في الهند، كيف يمكن الفوز<br />
عقب فوزه في االنتخابات سنة 2014، وجه رئيس الوزراء الهندي ماريندرا مودي<br />
الدعوة لنظيره الباكستاني لحضور موكب أداء القسم ما أوحى بأمل فتح مفاوضات سالم<br />
بين البلدين. بعد ذلك بخمس سنوات، أقصاه من موكب التنصيب. خالل حملته االنتخابية<br />
التشريعية، ركز مودي على الخوف من العدو التقليدي إلى جانب القومية الهندوسية.<br />
سياسة تمييزية صريحة إزاء<br />
األقليات المسلمة والمسيحية. حصيلة<br />
اقتصادية واجتماعية أكثر من مخيبة<br />
لآلمال. لم تكن الظرفية مالئمة البتة...<br />
رغم ذلك، تم مؤخرا إعادة انتخاب<br />
رئيس الحكومة، ذي النزعة القومية<br />
الهندوسية لعهدة جديدة بأغلبية مريحة.<br />
خالل االنتخابات التشريعية التي دعي<br />
إليها 900 مليون ناخب )أكثر من عشر<br />
سكان العالم(، حصل حزب ناريندرا<br />
مودي »باراتيا جاناتا« )حزب الشعب<br />
الهندي( على 303 مقاعد من جملة<br />
543 مقعدا. هكذا، لم تعد هناك حاجة<br />
لدعم منظمات أخرى للتحالف الحاكم،<br />
»التحالف الديمقراطي الوطني«. )إقرأ<br />
المؤطر(.<br />
ببساطة حرص رئيس الوزراء،<br />
على تجنب المواضيع الحساسة. قام<br />
بحملة انتخابية مكنته من تحويل األنظار<br />
عن اقتصاد يجتاز مرحلة تراجع غير<br />
مسبوقة منذ التسعينات: نسبة بطالة هي<br />
األعلى منذ أربعين عاما، أزمة في القطاع<br />
الزراعي، تراجع حجم الصادرات )رغم<br />
تأرجح سعر الروبية(، تباطؤ االستثمار،<br />
انهيار االستثمارات األجنبية المباشرة،<br />
وتباطؤ نسق االستهالك، إلخ.<br />
لئن كانت التنمية االقتصادية سنة<br />
2014 في قلب برنامجه االنتخابي، فقد<br />
ركّز مودي في حملة <strong>2019</strong> على محور<br />
األمن، حيث التزم مثال بطرد المهاجرين<br />
البنغال الذين يقيمون بالبالد بصورة<br />
غير قانونية. لقد استغل باألساس اعتداء<br />
بولواما )إقليم جامو وكشمير( والذي<br />
خلف في فيفري الماضي 40 قتيال في<br />
صفوف الجيش الهندي، وتبنته مجموعة<br />
جهادية مركزها باكستان. أعطى رئيس<br />
الوزراء األوامر لتنفيذ ضربات جوية<br />
على أراضي جارته، وهو ما ردت عليه<br />
إسالم آباد بإسقاط طائرة هندية. عندها،<br />
أمكن لمودي أن يطرح نفسه كحام للبالد،<br />
مشيدا بالشجاعة الكبيرة التي طبعت<br />
تحركاته. لم يسبق ألي حملة انتخابية<br />
أن سجلت مثل هذه الهيمنة الكبيرة<br />
للخطاب القومي والحربي. إلى حد أن<br />
أكثر من 150 من قدامى المحاربين)1(،<br />
من بينهم جنراالت وأميراالت سابقون،<br />
ترجوا رئيس الوزراء النأي عن تسييس<br />
المؤسسة العسكرية.<br />
* مدير البحوث بمركز البحوث الدولية ،)CERI(<br />
الوحدة المختلطة للبحوث في كلية العلوم السياسية<br />
والمركز الوطني للبحوث العلمية .)CNRS(<br />
ألّف بالخصوص »هند مودي: الشعبوية الوطنية<br />
والديمقراطية اإلثنية« و»المتالزمة الباكستانية«، نشر<br />
»فايارد«، على التوالي عامي <strong>2019</strong> و2013.<br />
في مواجهة مودي، لم يقدر راحول<br />
غاندي، من حزب المؤتمر، والذي<br />
خسر االنتخابات السابقة، على فعل<br />
أي شيء، على الرغم من التكامل الذي<br />
ميّز برنامجه االنتخابي: إقرار دخل<br />
أدنى مضمون لفائدة األشخاص األكثر<br />
فقرا، مع برمجة اجراءات لمكافحة<br />
التلوث، وهي آفة اكتفت الحكومة بإنكار<br />
وجودها)2(، مرورا بمقترح إلعادة<br />
النظر في القوانين االستثنائية التي تتيح<br />
للجيش ممارسة القمع في كشمير دونما<br />
مساءلة. كما استعمل نفس وقود المعركة<br />
الذي استخدمه مودي سنة 2014:<br />
التشهير بالفساد وبرأسمالية التواطؤ)3(.<br />
ألنه ال يريد أن يكون مسؤوال<br />
عن خيباته في هذا المجال، لوح رئيس<br />
الوزراء المتخلي بشبح التهديدات<br />
الخارجية هو محور نجح في فرضه<br />
طيلة فترة الحملة االنتخابية. اعتبارا<br />
للنجاح الذي لقيته هذه المناورة، وصل<br />
األمر بمودي إلى حد رفضه المشاركة<br />
في أي حوار مع منافسين أو عقد أية<br />
ندوة صحفية. لقد اكتفى بإجراء لقاءات<br />
معدة سلفا مع وسائل إعالم تنتمي في<br />
غالبيتها إلى رجال أعمال حريصين<br />
على االحتفاظ بعالقات جيدة مع السلطة.<br />
الفاعل الكبير اآلخر في هذا<br />
االقتراع هو المال. شكلت هذه<br />
االنتخابات االقتراع األعلى كلفة<br />
في تاريخ الديمقراطيات، إذ أنفقت<br />
األحزاب زهاء 9 مليارات دوالر، وفق<br />
تقديرات موثوقة)4(. بطلب من مفوضية<br />
االنتخابات صادرت الشرطة قدرا<br />
قياسيا من األوراق النقدية في منازل<br />
المترشحين لعضوية البرلمان أو في<br />
مقرات األحزاب. حطم »حزب الشعب<br />
الهندي«، كل األرقام القياسية)5( في<br />
هذا الصعيد. في العام 2016، كانت<br />
حكومة مودي قد نجحت في جعل<br />
البرلمان يصادق على قانون يرخص<br />
للشركات والخواص بدفع هبات مجهولة<br />
المصدر لفائدة األحزاب، وهو ما يعتبر<br />
بمثابة »إضفاء طابع رسمي على<br />
رأسمالية التواطؤ«)6(، مثلما استنكر<br />
ذلك الرئيس السابق للمفوضية االنتخابية<br />
شهاب الدين يعقوب قريشي. هذه المبالغ<br />
الضخمة تم استخدامها لشراء أصوات<br />
)يمثل تقديم هدايا عشية االقتراع شرطا<br />
ضروريا، أو كافيا، للفوز(، غير أن تلك<br />
المبالغ قد استعملت أيضا وأساسا من<br />
أجل تمويل الدعاية االنتخابية.<br />
على الميدان، تتبنى الهند التوجه<br />
العام الذي يحول الشبكات االجتماعية<br />
إلى دعامة رئيسية لالتصال السياسي:<br />
لئن كان القادة السياسيون يواصلون<br />
عقد اجتماعات عامة، فإنه ليس هنالك<br />
من نظير واتساب وتويتر وفايسبوك،<br />
إلخ، من أجل احتالل الفضاء العام)7(.<br />
من هنا، أتى تخصيص استثمارات<br />
ضخمة ومكثفة في اليد العاملة متعددة<br />
اللغات من أجل إشاعة ونشر الكلمات<br />
والجمل الجاهزة وفقا لمنهجية التضليل<br />
وما يسمى »ترولينغ« )التصيد عبر<br />
االنترنيت(. هكذا، تم تقديم غاندي من<br />
قبل منافسه على أنه مسلم، ألنه هنالك<br />
صورة يظهر فيها خالل طفولته وهو<br />
يصلي في أحد المساجد )في الحقيقة<br />
يتعلق األمر بحضوره موكب دفن<br />
خان عبد الغفار خان، الزعيم البشتوني<br />
الكبير الذي يعد من تالميذ المهاتما<br />
غاندي(وذلك سنة 1982 في كابول<br />
حينما رافق راهوال والده إلى هناك.<br />
أخيرا، هناك جانب آخر ال يقل<br />
أهمية، ويتعلق بأن رئيس الحكومة<br />
وحزبه قد وظفا بشكل مفرط الديانة<br />
الهندوسية. تهجم رئيس حزب الشعب<br />
الهندي، أميت شاه على غاندي ألنه<br />
يترشح إلى االنتخابات في دائرة غالبية<br />
سكانها من المسلمين )وهذه كذبة( يقارنها<br />
بباكستان. لقد ذهب إلى حد القول بأنه<br />
عندما يرى قوافل مناصري منافسه، لم<br />
يكن بمقدوره أن يعرف إن كان المشهد<br />
يجري في »الهند أم في باكستان«)8(.<br />
إضافة عن ذلك، عين »حزب الشعب<br />
الهندي« براغيا سينغ تاكور مرشحة<br />
عنه وهي المتهمة باإلرهاب في ارتباط<br />
مع حركة »أبهيناف بهارات« )الهند<br />
الفتية(، التي يشتبه في كونها تقف وراء<br />
أربع اعتداءات مناهضة للمسلمين<br />
خلفت عشرات القتلى سنة 2008.<br />
وهذه المرأة، التي تم اإلفراج عنها<br />
بكفالة ألسباب صحية، قامت خالل<br />
الحملة االنتخابية باإلشادة بقاتل المهاتما<br />
غاندي، الذي ينظر القوميون الهنود<br />
إليه دوما على أنه عدو، بسبب نظريته<br />
غير العنيفة والمؤكدة على الوحدة بين<br />
األديان.<br />
1( »أكثر من 150 من قدامى المحاربين يوجهون<br />
رسالة إلى الرئيس بشأن )تسييس( القوات<br />
المسلحة«، صحيفة »ذي إيندو«، نيو دلهي، 12<br />
أفريل/نيسان <strong>2019</strong>.<br />
2( »وزير البيئة يرفض مجمل التقارير التي<br />
تؤكد أن 1،2 مليون من الوفيات في الهند سببها<br />
التلوث«، صحيفة »ذي إيندو«، 5 ماي/أيار<br />
.<strong>2019</strong><br />
3( »رأسمالية التواطؤ في الهند في ظل حكم<br />
ناراندرا مودي«، دراسات معهد البحوث<br />
الدولية، العدد 237، معهد الدراسات الدولية،<br />
باريس، 18 سبتمبر/أيلول 2018.<br />
4( بيبهوداتا براذان وشيفاني كوماريسان،<br />
»تحول االنتخابات الهندية إلى أكثر االنتخابات<br />
كلفة في العالم: هذا ما تتكلفه االنتخابات«،<br />
صحيفة »بيزنس ستاندارد«، نيودلهي، 4 جوان/<br />
حزيران <strong>2019</strong>.<br />
5( »في العام <strong>2019</strong>، هل ركب حزب الشعب<br />
موجة مودي أم موجة المال ؟«، نشرية »ذي<br />
واير«، نيودلهي، 6 ماي/أيار <strong>2019</strong>، و»حزب<br />
الشعب الهندي يدفع نقدا، ولم يُطرح أي سؤال<br />
خالل هذه االنتخابات«، »ذي تيليغراف«،<br />
نيودلهي، 2 ماي/أيار <strong>2019</strong>.<br />
6( عادل رشيد، »الحمالت االنتخابية قننت<br />
الرأسمالية المتواطئة: الرئيس السابق للجنة<br />
االنتخابات س.ي. قريشي«، »آوت لوك«،<br />
نيودلهي، 7 أفريل/نيسان <strong>2019</strong>.<br />
7( ماذوميتا مورجيا، ستيفانيا فيندالي واندرس<br />
شيباني، »الهند: انتخابات الواتساب«،<br />
»فينانشيال تايمز«، لندن، 5 ماي/أيار <strong>2019</strong>.<br />
8( »ال يمكن معرفة إذا كانت في الهند أو في<br />
باكستان: أميت شاه يتحدث عن قوافل راحول<br />
غاندي«، »ذي نيوز مينوت«، 10 أفريل/نيسان<br />
www.thenewsminute.com ،<strong>2019</strong><br />
كريستوف جافرولو * Jaffrelot Christophe<br />
عودة الطوائف<br />
السامية<br />
الهيمنة على البرلمان<br />
أكدت االنتخابات التشريعية الهندية السابعة عشر وضعية هيمنة »حزب بهاراتيا جاناتا« )حزب الشعب الهندي( من<br />
حيث عدد المقاعد في البرلمان. ارتفع عدد مقاعده من 282 نائبا إلى 303 نواب بفضل اعتماد نظام اقتراع بدورة واحدة،<br />
وتركز قواه في شمال البالد وغربها، وهو ما ترتب عنه تعزيز النتيجة المتواضعة من حيث عدد األصوات )وبالفعل، فإن<br />
نتيجة حزب الشعب الهندي ارتفعت من 31 إلى %37،5 من عدد األصوات المصرح بها(. وبالنظر لكونه يتمتع باألغلبية<br />
المطلقة، المحددة ب 272 مقعدا، فإن حزب الشعب الهندي ليس بحاجة إلى حلفائه من »التحالف الوطني الديمقراطي«، في<br />
حين أن التحالف الذي كونه سنة 1999، كان قد فاز ب 353 مقعدا )بنسبة %45 من األصوات(. في مواجهة حزب الشعب،<br />
سجل حزب المؤتمر تقدما طفيفا من 44 مقعدا )بنسبة %19،5 من األصوات( إلى 52 مقعدا )بنفس نسبة األصوات(، كما<br />
سجل التحالف الذي يقوده، »التحالف التقدمي الموحد«، ارتفاع رصيده من 60 مقعدا )مع نسبة %23 من األصوات( إلى<br />
91 مقعدا )مع %26 من األصوات(، على الرغم من انهيار بعض الشركاء اإلقليميين لحزب المؤتمر.<br />
مثلت األحزاب اإلقليمية خارج »التحالف الوطني الديمقراطي« الضحايا الجانبية لهذه االنتخابات، رغم عودة حزب<br />
»باهوجان ساماج« إلى البرلمان، وهو التشكيل السياسي المحبذ لفئة »الداليت« )المنبوذين سابقا( بشمالي الهند، حيث<br />
فاز ب 10 مقاعد. إال أن تلك النتيجة تظل مخيبة لآلمال باعتبار أن هذا الحزب كان يعول كثيرا على تحالفه مع حزب<br />
»ساماجوادي« في إقليم <strong>أوت</strong>ار براداش، كي يصبح مجددا الحزب الثالث في الهند. كانت الهزيمة مخزية أكثر بالنسبة<br />
لحزب ساماجوادي ال سيما وأنه لم يفز سوى ب 5 مقاعد، أي أقل من المقاعد التي فاز بها سنة 2014.<br />
إذا كانت األحزاب اإلقليمية قد سجلت بعض التراجع، فإن حزب الشعب الهندي سجل اختراقات مشهودة في بعض<br />
معاقل هذه األحزاب، كما هو الحال في شرق البالد، وفي البنغال الغربي وفي أوديشا )أوريسا سابقا(. والحزب اإلقليمي<br />
الوحيد من خارج »التحالف الوطني الديمقراطي« الذي حقق نجاحا باهرا، هو حزب »فيدرالية درافيديا للتقدم« )درافيدا<br />
موناترا كازاغام(، الذي فاز في منطقة »تاميل نادو« ب 23 مقعدا.<br />
أما حزب المؤتمر، فإن الواليتين الوحيدتين اللتين حقق فيهما تقدما ملموسا هما البنجاب وكيراال، حيث فاز على<br />
الشيوعيين الذين تراجع تمثيلهم على المستوى الوطني إلى 5 مقاعد من مجموع 542 مقعدا، 3 منها للحزب الشيوعي<br />
الهندي، الماركسي، ومقعدان لفائدة الحزب الشيوعي الهندي، وهي أسوأ نتيجة للحزبين عبر تاريخهما.<br />
كريستوف جافرولو Christophe Jaffrelot
21 <strong>جويلية</strong>/<strong>أوت</strong> - تموز/آب <strong>2019</strong><br />
للقومية الهندوسية<br />
باالنتخابات بحصيلة كارثية<br />
لقد صوت عدد كبير من<br />
الناخبين لفائدة مودي، ليس من<br />
منطلق القومية الهندية، وإنما من<br />
أجل التجديد لرجل قوي يمسك<br />
بالسلطة، أو اعتبارا لغياب بدائل.<br />
ال توحي المعارضة لهم بالثقة. غير<br />
أن األمر الذي يكتسي داللة بالغة<br />
يتمثل في أن تلك اإليديولوجيا لم<br />
تردعهم أو لم تقنعهم بعدم التصويت<br />
له. منذ خمس سنوات، وجدت هذه<br />
اإليديولوجيا )القومية( ترجمتها<br />
على األرض من خالل اعتداءات<br />
على األقليات المسيحية والمسلمة،<br />
بما في ذلك عمليات اإلعدام دون<br />
محاكمة التي طالت زهاء أربعين<br />
شخصا تم اتهامهم باستهالك لحوم<br />
البقر أو بنقل أبقار إلى المذبح. كما<br />
أن هذه األقليات أضحت تواجه<br />
صعوبات كبيرة في إيصال أصواتها<br />
إلى مجلس »لوكسابها« )مجلس<br />
النواب(، الذي يهيمن عليه »حزب<br />
الشعب الهندي«، الذي لم يرشح<br />
سوى عدد قليل من األشخاص<br />
المنتمين ألقليات.<br />
هناك 25 منتخبا مسلما فحسب،<br />
أي %4،6 من عدد أعضاء المجلس،<br />
في حين أن األشخاص الذين يعلنون<br />
انتماءهم لهذا الدين يمثلون %14،6<br />
من السكان. كما تظل النساء مهمشات<br />
رغم كونهن قد حققن تقدما في نسبة<br />
الحضور: 78 منتخبة )%14،3(<br />
مقابل 66 نائبة قبل خمس سنوات.<br />
ألول مرة، كانت نسبة مشاركتهن<br />
في االقتراع في نفس مستوى نسبة<br />
مشاركة الرجال.<br />
وعلى المستوى السوسيولوجي،<br />
أتت انتخابات <strong>2019</strong> لتؤكد عودة<br />
الطبقات العليا إلى البرلمان، وهي<br />
عودة ترجع بداياتها إلى ما قبل عشر<br />
سنوات، وترتبط بالتركيبة النخبوية<br />
لحزب الشعب الهندي. هكذا، فإنه<br />
من مجموع 147 مرشحا لهذا<br />
الحزب في الدوائر المتحدثة باللغة<br />
الهندية)9(، التي تضم في المجموع<br />
نصف عدد المنتخبين لعضوية<br />
مجلس النواب، هناك 88 مرشحا<br />
ينتمون إلى الطبقات العليا، التي ال<br />
تمثل سوى %12 من السكان. تم<br />
انتخاب 80 منهم، من بينهم 33 من<br />
معتنقي المذهب البراهماني )الطبقة<br />
األعلى( و27 من الراجبوت )طبقة<br />
محاربة تأتي مباشرة إثر الطبقة<br />
السابقة ضمن التراتبية االجتماعية(<br />
.)10(<br />
كما يتسم البرلمان الجديد<br />
بالحضور المكثف للورثة المنتمين<br />
إلى األسر السياسية العريقة. هذه<br />
»السالالت الحاكمة«، باقتباس<br />
العبارة المستخدمة في الهند، ارتفع<br />
نصيبها من %25 من المنتخبين سنة<br />
2014 إلى %30، وبلغت النسبة<br />
في بعض الواليات درجة أعلى من<br />
هذا المعدل، على غرار كارناتاكا<br />
)%39( وماهاراشترا )%42(<br />
وبيهار )%43( والبنجاب )%62(.<br />
ينطبق هذا األمر بشكل جلي على<br />
األحزاب اإلقليمية، التي هي عادة<br />
مملوكة لعائالت أبا عن جد. غير أن<br />
األحزاب الوطنية ليست بمنأى عن<br />
هذه الوضعية، ذلك أن %31 من<br />
مرشحي حزب »المؤتمر« ينتمون<br />
إلى السالالت الحاكمة، مقابل %22<br />
بالنسبة لمرشحي »حزب الشعب<br />
الهندي«، على الرغم من أن هذا<br />
األخير قد خاض حملته االنتخابية<br />
تحت شعار »ضد السالالت التي<br />
تحكم الهند«، وبالخصوص، أولى<br />
وأكبر هذه السالالت، وهي ساللة<br />
نهرو غاندي. تعتبر هذه النسبة<br />
مثيرة لإلستغراب ال سيما وأن<br />
»حزب الشعب الهندي« قد حرص<br />
على تجديد مرشحيه من أجل ضخ<br />
دماء جديدة. هكذا، تم تعويض مائة<br />
من النواب المتخلين بآخرين، يمثلون<br />
دماء جديدة، لكنهم يفتقدون ألية خبرة.<br />
ذلك أن ترشيح أبناء عائالت سياسية<br />
يمثل ضمانة للنجاح. إذا كان تأنيث<br />
قائمة المرشحين أمرا ضروريا، من<br />
األولى ترشيح زوجات أو أرامل أو<br />
بنات قادة سياسيين من أجل تقوية<br />
حظوظهن في النجاح. إنها حالة<br />
%54 من النساء المرشحات من<br />
قبل حزب »المؤتمر« و%53 من<br />
مرشحات »حزب الشعب الهندي«.<br />
أقليات في وضع<br />
حرج<br />
لن تكون الصورة مكتملة إذا<br />
ما لم نؤكد على النسبة المتنامية<br />
للمنتخبين المتهمين بارتكاب جرائم<br />
أو ممن لهم سجل حافل من السوابق<br />
العدلية. يفسر هذا التوجه بالدور<br />
المتنامي للمال والبحث عن أوجه<br />
الحماية السياسية التي تحفز الكثير<br />
من المجرمين. من بين النواب ال<br />
539 الذي دققت في وضعياتهم<br />
»الجمعية من أجل اإلصالح<br />
الديمقراطي«، وهي منظمة غير<br />
حكومية معروفة بجديتها، هناك<br />
%43 منهم محل تتبعات قضائية<br />
)مقابل %34 سنة .)2014 11<br />
منهم )من بينهم 5 منتخبين على<br />
قائمات حزب الشعب( متهمون<br />
بجرائم قتل، و30 منهم متهمون<br />
بمحاولة القتل و19 بممارسة العنف<br />
على النساء. ينتمي 116 منهم إلى<br />
»حزب الشعب الهندي« و29 لحزب<br />
»المؤتمر«)11(.<br />
وفي ظل هذه الظروف، لن<br />
يكون العهد الذي سيتم افتتاحه مع<br />
التجديد لمودي على رأس الحكومة<br />
نسخة مطابقة للعهد السابق. من<br />
األكيد أن التواصل سيكون الجانب<br />
الراجح بشأن بضعة نقاط رئيسية،<br />
مثل تركيز السلطة بين أيدي<br />
رئيس الوزراء. لكن حجم األزمة<br />
االقتصادية يقتضي قرارات قوية<br />
وحاسمة. ومن أكثر هذه القرارات<br />
إلحاحية تلك المتصلة بالقطاع<br />
الزراعي، الذي يعتبر قطاعا منكوبا<br />
والذي يستعد لمواجهة تبعات موسم<br />
أمطار سيء. دون شك، يتعين على<br />
الحكومة أن تذعن إلجراء الترفيع<br />
في أسعار المنتجات الفالحية، حتى<br />
وإن تسبب ذلك في إعادة صعود<br />
نسبة التضخم وفي إثارة غضب<br />
قاعدتها االنتخابية الحضرية. يحد<br />
هذان العنصران من هامش التحرك<br />
المتاح أمام الحكومة.<br />
على الصعيد السياسي،<br />
هناك صنفان من التوترات التي<br />
ستشهد قطعا مزيد التصاعد خالل<br />
السنوات الخمس المقبلة. أوال، على<br />
صعيد العالقات بين حكومة مودي<br />
وحكومات واليات االتحاد الهندي<br />
التي تسيرها أحزاب معارضة، والتي<br />
تتجه نحو مزيد من التوتر. المثال<br />
األكثر داللة على هذا المستوى،<br />
يتعلق بمامات ابانرجي، رئيسة<br />
حكومة والية البنغال الغربي، التي<br />
استهدفها حزب الشعب الهندي الذي<br />
يريد االستحواذ على هذه الوالية التي<br />
تعتبر معقل الشيوعية منذ سنوات.<br />
ثانيا، تجد األقليات نفسها مجبرة في<br />
وضع أكثر صعوبة: اعتبارا لدخول<br />
الجناح اليميني لحزب الشعب الهندي<br />
إلى البرلمان، يرتقب أن تشهد الفترة<br />
التشريعية وضع حد لمسلسل قديم<br />
يعود لحوالي ثالثين عاما، ويتعلق<br />
بملف »بابري مسجد«، المسجد<br />
الذي تم هدمه سنة 1992 من قبل<br />
نشطاء قوميين هندوس. خالل<br />
األشهر القليلة القادمة، ينتظر أن<br />
تتخذ المحكمة العليا قرارا مهما. إذا<br />
لم ترخص للقوميين الهندوس ببناء<br />
معبد في هذا الموقع الذي يعتبرونه<br />
موقع اإلاله »رام«، سينظم هؤالء<br />
الناشطين دون شك مظاهرات حاشدة<br />
قد تتحول إلى مظاهرات خطيرة<br />
على سالمة األقليات. إذا رخصت<br />
لهم، يمكن للشبان المسلمين، الذين<br />
يعانون راهنا من كل أشكال التمييز،<br />
أن يرفعوا رؤوسهم.<br />
9( تضم هذه المنطقة الشاسعة كال من <strong>أوت</strong>ار<br />
براداش وبيهار وجارخاند وشهاتيسغار وماضيا<br />
براداش وراجستان ودلهي وهاريانا وهيماشال<br />
براداش وشانديغار.<br />
10( هذه المعطيات، تماما مثل المعطيات الواردة<br />
في الفقرة الالحقة، مقتبسة من بحوث حول<br />
»مالمح الشخصية االجتماعية للهنود المنتخبين<br />
قوميا وإقليميا للهيئات التمثيلية« ،)Spinpar(<br />
وهو مخبر دولي بتعاون مع المركز الوطني<br />
للبحث العلمي وتم تركيزه من قبل جامعة أشوكا<br />
في الهند وكلية العلوم السياسية في فرنسا.<br />
11( »%43 من المنتخبين حديثا لهم سوابق<br />
عدلية: تقرير الجمعية من أجل اإلصالح<br />
الديمقراطي ،»ADR »ذي واير«، 27 ماي/أيار<br />
.<strong>2019</strong><br />
HARYANA<br />
DELHI<br />
الجغرافيا الدينية<br />
أندمان<br />
ونكوبا<br />
حصة<br />
من العدد<br />
الجملي<br />
للسكان<br />
800 400 0<br />
L<br />
N<br />
G .<br />
السكان<br />
الأقليون الأغلبيون<br />
80 %<br />
14 %<br />
أفغانستان<br />
جامور سريناغار<br />
كشمير<br />
هماشال<br />
الصين براديش<br />
دهرادون سملا<br />
أروناشال<br />
شانديغار<br />
بنجان<br />
برادش<br />
أوتارافند<br />
هريانا<br />
بهوتان<br />
باكستان<br />
سكيم<br />
أسام<br />
دلهي<br />
ناغالاند<br />
لوكناو<br />
ميغالايا<br />
جايبور<br />
باتنا<br />
مانيبور<br />
أوتار برادش<br />
بيهار<br />
بنغلاديش<br />
رجستان<br />
ميزورام<br />
تريبورا<br />
جرخند<br />
ماديا<br />
بورما كلكوتا<br />
أحمد أباد<br />
برادش<br />
بوبال<br />
البنغال<br />
غوجارات<br />
شهاتيسغاره<br />
الغربي<br />
سورات دامان وديو<br />
بهوبنشوار أوديشا رايبور<br />
2,3 %<br />
1,7 %<br />
0,7 %<br />
1,3 %<br />
فيزاخابتنام<br />
الهندوس<br />
المسلمون<br />
المسيحيون<br />
السيخ<br />
البوذيون<br />
آخرون<br />
تلنغانا<br />
حيدر أباد<br />
ماهارشترا<br />
تريفندروم<br />
دادارا وناغار هافلي<br />
بومباي<br />
أندهرا كارنتاكا<br />
بباناجي<br />
برادش<br />
قوا<br />
بنغلور<br />
مدراس<br />
بوندشري<br />
لكشدويب<br />
تميل<br />
نادر كيرالا<br />
سريلانكا<br />
المصدد: التعداد الهندي 2011<br />
كم<br />
الانتخابات التشريعية ماي <strong>2019</strong><br />
ناغالاند<br />
مانيبور<br />
ميزورام<br />
أروناشال<br />
برادش<br />
أندمان<br />
ونكوبا<br />
عدد المقاعد المتحصل عليها<br />
في الغرفة السفلى للبرلمان<br />
حزب الشعب الهندي<br />
حزب عضو في تحالف مع حزب الشعب الهندي<br />
حزب المؤتمر<br />
حزب عضو في تحالف مع المؤتمر<br />
حزب آخر<br />
أسام<br />
ميغالايا<br />
تريبورا<br />
سكيم<br />
بيهار<br />
جرخند<br />
البنغال الغربي<br />
أوديشا<br />
جبهة اليسار<br />
حزب جهوي<br />
هماشال<br />
براديش<br />
شانديغار<br />
أوتارافند<br />
أوتار برادش<br />
شهاتيسغاره<br />
بوندشري<br />
تلنغانا<br />
أندهرا برادش<br />
ماديا<br />
برادش<br />
تميل نادر<br />
ماهارشترا<br />
كارنتاكا<br />
كيرالا<br />
جامور<br />
كشمير<br />
رجستان<br />
قوا<br />
غوجارات<br />
دامان وديو<br />
دادارا<br />
وناغار<br />
هافلي<br />
لكشدويب<br />
800كم 400 0<br />
المصدد: مفوضية الانتخابات الهندية<br />
ndtv.com/elections<br />
www.censusindia.gov.in/2011census
<strong>جويلية</strong>/<strong>أوت</strong> - تموز/آب 22 <strong>2019</strong><br />
التراث العالمي لليونسكو،<br />
الهدية المسمومة<br />
كلّ سنة، يترشّ ح حواليْ خمسين موقعا طبيعيا أو ثقافيا للتسجيل على<br />
قائمة التراث العالمي، وهو تسجيل يمنحها الحماية لصالح البشريّة جمعاء. إالّ<br />
أن اليونسكو بمنحها هذا التصنيف توجّ ه كذلك قوّة أفواج السيّاح. ولئن كان ذلك<br />
متنفّسا مادّيّا مجزيا فإنه يمكن أن يكون مدمّرا .<br />
»فجأة، بدأت ألبي تظهر على خارطة<br />
العالم. تمّ تسجيل هذا الحيّ األسقفي على<br />
قائمة التراث العالمي التابع لليونسكو<br />
)منظمة األمم المتحدة للتربية والعلوم<br />
والثقافة( يوم 31 <strong>جويلية</strong>/تمّوز2010.<br />
في صباح اليوم التالي، احتشد في المدينة<br />
خاس كثر، و صار الناس يزورون<br />
لالستطالع«. مازالت مديرة الشؤون<br />
الثقافية والتراث والعالقات الدولية بألبي<br />
ماري-آف كورتاس تتذكّر جيّدا هذا اليوم<br />
الذي غيّر نمط الحياة في هذا الحيّ المبني<br />
باآلجر، وفي سكّانها البالغ عددهم 52 ألف<br />
نسمة. منذ ذلك الحين، زاد عدد السيّاح<br />
بأكثر من الضعف، إذ مرّ من 700 ألف<br />
زائر في السنة إلى مليون سنة 2011، ثم<br />
إلى مليون ونصف سنة 2016 وإن تراجع<br />
العدد قليال سنة 2017...<br />
االعتراف بالقيمة«. يتمّ سنويّا تسجيل<br />
موقع أو موقعين. تضمّ فرنسا 44 موقعا<br />
مسجّ ال في قائمة التراث العالمي تقسيمها<br />
كاآلتي: 39 موقعا ثقافيا وأربعة مواقع<br />
طبيعية وموقع واحد مشترك. قصد استباق<br />
نتائج هذا التشريف وجب على آلبي إعداد<br />
مخطّ ط للتصرّ ف بهدف ضمان الحفاظ<br />
على القيمة الكونية االستثنائية لهذا المعلم<br />
وكذلك تشريك جميع األطراف على المدى<br />
الطويل حتى ال تتحوّل المدينة إلى متحف.<br />
تشرح األمر بقولها: »غرافاي-برباس««<br />
في بعض األحيان، يتحوّل هذا الترسيم إلى<br />
إشكالية بسبب اإلفراط في صدق العزيمة<br />
. في كثير من المدن، اختار التهذيب<br />
»أصولية تاريخية« أو »أصولية زمنية«<br />
تبلغ في بعض األحيان حدّ حصر المدينة<br />
في عصر محدّد«.<br />
السلطات الحاكمة في المنطقة بجمع كل<br />
السكان قصد االنكباب على مواضيع<br />
متنوّعة مثل وقوف السيارات في المدينة،<br />
والمحالّ ت التجارية الصغيرة، والتأثيث<br />
الحضري، الخ.<br />
سنة 2014، تمت التوأمة بين البي<br />
وليجيانغ، وهي مدينة من مقاطعة يونن تقع<br />
على طريق القوافل القديمة الرابطة بين<br />
المقاطعة والتيبت على ارتفاع 2400 متر<br />
من سطح البحر سنة 1986 وبعد تصنيف<br />
مدينتها العتيقة دايان ضمن الكنز الوطني<br />
الصيني، أخذت شهرتها تتزايد بفضل<br />
أزقّتها الصغيرة المرصّ فة والمحفوفة<br />
بالقنوات ومعمارها الفريد. على الرغم من<br />
حدوث رجّات أرضية كثيرة آخرها كان في<br />
شهر فيفري/ شباط 1996، أمكن الحفاظ<br />
على تراثها الالّمادي وعلى مساكنها<br />
التقليدية الكائنة في المدينة العتيقة، األمر<br />
الذي دفع باليونسكو إلى االعتراف بها<br />
وتسجيل هذا الموقع على قائماتها سنة<br />
1997. عرفت المدينة في ظرف سنوات<br />
قليلة تحوّال غير مسبوق)1(، إذ مرّ عدد<br />
السيّاح من أقلّ عن 200 ألف سنة 1992<br />
إلى 1.7 مليون سائح سنة 1997، و2.6<br />
مليون سنة 1999 وأكثر من 4 ماليين سنة<br />
2005 و5.3 ماليين عام 2008...<br />
بالنسبة إلى السكان وخاصة الذين<br />
يقطعون األحياء العتيقة وأغلبهم من<br />
»الناكسي«-وهو شعب تيبتي برماني-<br />
كانت النتائج كارثيّة: منذ مطلع سنوات<br />
األلفين أصبح قلب المدينة بتراثه<br />
المعماري الفريد جيبا سياحيا تتكاثر فيه<br />
الفنادق والمطاعم والحانات... أصبح<br />
السكان المحلّيّون يفضلون تأجير محالّ تهم<br />
لتجّار وافدين من المقاطعات المجاورة...<br />
و انتقلوا هم للسكنى في المدينة الجديدة.<br />
في غضون بضع سنوات، أصبحت<br />
ليجيانغ ديكورا وقعت التضحية بجزء<br />
منه على مذبح السياحة. الزالت تعترض<br />
الزائرَ نساء »النّاكسي« وقد جئن للتجارة<br />
أو لمجرّ د التّجوال، ولكن السيّاح ظلّوا<br />
يحتلّون المرتبة األولى. بلغ األمر<br />
باليونسكو سنة 2008 حدّ تحذير البلديّة،<br />
حاثّة إيّاها على استرجاع إدارة شؤون<br />
المدينة وإال فإنه سيقع إدراجها في قائمة<br />
التراث المهدّد بالزوال...<br />
هنا بالذات نلمس تناقض السياحة<br />
وهي المنشودة والتي تلقى التشجيع ألنها<br />
تدرّ العُمْلة الصعبة وتجرّ النّموّ واألمل،<br />
ولكنها تصبح مخشية الجانب عندما<br />
ينكسر التوازن. يدمّر الزائرون المواقع<br />
التي يقدّسونها عن طريق اقتالع أعمدة<br />
»الكرنك« وما يسبّبونه من انحتات<br />
للفضاءات الطبيعيّة في بوي دي دوم ومن<br />
تهرئة لكهف »السكو«، ورفس ماشو<br />
بيكشو، كما أنهم يثيرون سخط السكّان<br />
الذين كانوا ينتظرون زيارتهم.<br />
في ليجيانغ، وعلى مرّ السنوات، تم<br />
اتّخاذ بعض التدابير، ولكنه أصبح من<br />
المستحيل إرجاع المدينة إلى السكّان.<br />
في هذه النقطة بالذات، سلّمت اليونسكو<br />
باألمر الواقع. فرّ قلب مدينة الناكسي من<br />
مركزها الذي استقبل... 46 مليون زائر<br />
خالل العام المنقضي. تشهد ايمانوال<br />
لوران طالبة الدكتوراه في انتروبولوجيا<br />
العالم الصيني في المعهد الوطني للغات<br />
والحضارات الشرقية )اينالكو()2(:<br />
»أتذكّر ذلك اليوم الذي تكاثر فيه عدد<br />
السيّاح في المدينة العتيقة إلى درجة اللجوء<br />
إلى الشبكات االجتماعية لتنبيه األهالي إلى<br />
ضرورة تجنّب دخول هذه المنطقة«.<br />
مع ذلك، تحتاج النتيجة إلى<br />
تنسيب)3(. تمتّعت مدينة ليجيانغ كذلك<br />
بعدد كبير من عمليات الترميم. زيادة<br />
على التراث المادّي، ينبغي أن نذكر تأثير<br />
السياحة في شعب ناكسي وثقافة دونغبا<br />
التي أدرجت أبوابٌ كثيرة منها في قائمة<br />
التراث الثقافي الالّمادّي بين سنتي 2006<br />
و2014. الدونغبا،وهم سحرة ناكسي<br />
المعروفون بكتاباتهم التصويرية ما انفكّوا<br />
يفتنون الزّ وّار. ولئن لم تكن الصين تنتظر<br />
هذه المِنّة إلساءة معاملة هؤالء السكان فإن<br />
التطور الحالي يمكن أن يخلّف آثارا غير<br />
متوقّعة تتراوح بين األسوأ واألفضل...<br />
تفسّر ايمانوال لوران ذلك بقولها: »من<br />
الصعب كسب لقمة العيش عن طريق<br />
نشاط »دنغبا« وحده. يعثر البعض، وهم<br />
في أغلبهم من الشباب، على شغل في<br />
الميدان السياحي حيث يستثمرون معارفهم<br />
قصد كسب بعض المال. بينما يندّد بهم<br />
جونفياف كالستر * Clastres Geneviève<br />
جميع الحقوق محفوظة<br />
خطر المتحفية<br />
غالبا ما يكون التسجيل في قائمة<br />
التراث العالمي متعلّقا بمواقع كانت تشهد<br />
بالفعل إقباال كبيرا. مع ذلك، يبقى »مفعول<br />
اليونسكو« قائما وحقيقيا، إذ تقول ماريا<br />
غرافري-برباس مديرة كرسي اليونسكو<br />
للثقافة والسياحة والتنمية بجامعة باريس<br />
1بنتيون-الصربون: »التسجيل هو ضمان<br />
لجودة الموقع سواء كان طبيعيا أو ثقافيا.<br />
هو في نظر الزّ وّار المحتملين بمثابة<br />
* صحفية، أشرفت على المؤلَّف الجماعي: »عشر سنوات من السياحة<br />
المستدامة«،سلسلة »فلنسافر بطريقة أخرى«،بور-الس- فالنس،<br />
.2018<br />
لتجنّب هذا المطبّ ، عمدتْ<br />
اللجنة المسيّرة للموقع منذ البدء إلى<br />
تشريك المؤسسات والشركاء الثقافيين<br />
والعلميين وشخصيات من ذوي الكفاءة،<br />
لكن أيضا المهنيين في مجال السياحة<br />
وعموم السكّان. تؤكّد كورتاس أن<br />
الحي األسقفي ال يرغب في التركيز<br />
على المقاربة “التراثية” فحسب. نحن<br />
نتناول كذلك الجانب اإلنساني والجانب<br />
االقتصادي والتفاعل بينهما. باإلضافة<br />
إلى ذلك، نقوم باإلشراف داخل المنطقة<br />
العازلة على أنشطة تخضع لنفس درجة<br />
الجودة والعناية«. في كل سنة، تسمح<br />
»جسر القوس« أحد المعالم التاريخية في ايرلندا.<br />
جميع الحقوق محفوظة<br />
1( »السياحة و الهويّة في جنوب الصين. حالة الناكسي<br />
في ليجيانغ« ضمن: جان-ماري فورت وفرانك ميشال<br />
)إشراف(« السياحات والهويّات«، لرمتّان، سلسلة »السياحات<br />
والمجتمعات« باريس، 2006.<br />
2( ايمانوال لوران: »حول المحافظة على ثقافة الناكسي في<br />
ليجيانغ«، 10 نوفمبر/تشرين الثاني 2015، http://bulac.<br />
hypotheses.org<br />
3( هيثر بيترز: »الرقص في السوق: إعادة تشكيل التجارة<br />
والتراث في ليجيانغ« في »تامي بلومنفيلد وهيالين سلفرمان<br />
)تحت إشراف( »سياسة التراث الثقافي في الصين«، سبرنغر،<br />
نيويورك، 2013.
23 <strong>جويلية</strong>/<strong>أوت</strong> - تموز/آب <strong>2019</strong><br />
التأثيرات الغير المتوقعة للعالمة<br />
للسياحة الثقافية<br />
آخرون زاعمين أنهم ليسوا من “الدونغبا<br />
الحقيقيين”، ولكن الكثيرين يسلكون مسلكا<br />
أقلّ محافظة في نقل معارفهم«. رغم<br />
التجاوزات والمواقف الفلكلوريّة التي<br />
تقرب من السخافة، جرّ ت السياحة انتعاشة<br />
لثقافة دونغبا عبر انتشار مراكز الثقافة<br />
والبحث وإحياء بعض الطقوس والعادات<br />
وإحياء الحِ رَ ف، بل إن الحكومة أصبحت<br />
تشجع شعب ناكسي على إحياء لغته.<br />
تتبادل وفود من آلبي وليجيانغ<br />
الزيارات بصفة منتظمة قصد تبادل<br />
الخبرات. ولكن التصرّ ف في المكاسب<br />
شديد االختالف بين البلدين: في فرنسا،<br />
تُعطَ ى األولوية للمشاورات ورفاهية<br />
السكّان، أما في الصين فاعتبار السكّان<br />
قليل في هذا المجال. كما يحاول الصينيون<br />
االستلهام من كل ما ثبتت جدواه في فرنسا.<br />
تتحدّث كورتاس قائلة »كلّما استقبلنا<br />
وفودا من ليجيانغ إال وعبّرت عن اهتمامها<br />
بالطريقة التي نتصرّ ف بها في تراثنا سواء<br />
في مستوى اختيار الموادّ واأللوان أو في<br />
مستوى مفهوم الهويّة المرتبطة بالمهارة.<br />
في الصين، قيمة االستخدام هي التي تؤخذ<br />
بعين االعتبار. كما أثارت إعجابهم بشكل<br />
الفت تراتيب العمل التي نتبعها. تملك فرنسا<br />
أفضل منظومة لصيانة التراث والبيئة<br />
أيضا. فنحن، حريصون كلّ الحرص مثال<br />
على حماية التنوّع البيولوجي على ضفاف<br />
نهر تارن الذي يتاخم ممتلكاتنا، وقد أدهشهم<br />
هذا«.<br />
مواقع كثيرة أخرى حظيت برعاية<br />
اليونسكو لتجد نفسها في مواجهة السياحة<br />
الكثيفة. في دوبرفنيك في كرواتيا، يوجد<br />
مشروع عقاري يضم ملعبا للصولجان<br />
على الجبال المقابلة للمدينة من شأنه أن<br />
يشوّه جزءا من الشاطئ الدلماسي. نظرا<br />
إلى التهديد بتسجيل القلعة في قائمة<br />
التراث المهدّد)4(، اضطرّ ت المدينة إلى<br />
تخفيض عدد الزّوّار إلى 8 آالف، ثمّ إلى<br />
4 آالف في اليوم، كما أعلنت، على سبيل<br />
المثال، على التخفيض في عدد المشاركين<br />
في الرحالت البحرية عبر التفاوض مع<br />
المنظمة العالمية للرحالت البحريّة حول<br />
جدولة وصول البواخر. كذلك، عمدت<br />
مدينة البندقيّة منذ سنة 2018 إلى تحديد<br />
عدد الزّوّار لساحة سان-مارك خالل حفل<br />
افتتاح الكرنفال ب 20 ألف شخص، كما<br />
فرضت بداية من ماي/أيّار <strong>2019</strong> معلوم<br />
دخول من 3 إلى 10 يورو على كل زائر.<br />
لكن هذا التحديد لعدد الزائرين ليس الحل<br />
األمثل كما تقول ماريا غراباري-برباس:<br />
»تمثل سياسة الحصص إشكالية ألنها<br />
تتجه نحو تحويل المدن إلى متاحف أو إلى<br />
حدائق حضريّة يتم تنظيم الدخول إليها<br />
ومراقبته بل وحتّى بمقابل«.<br />
شهدت عدة مدن أوروبية مثل<br />
برشلونة وسان-سبستيان وأمستردام<br />
مظاهرات معادية لجحافل السيّاح التي<br />
تجتاح شوارعها محدثة نشاطا صاخبا<br />
ومُرفّعة في مستوى العيش داخلها. يمكن<br />
للتسجيل في قائمة تراث اليونسكو العالمي<br />
أن يمثّل ردّا على التجاوزات السياحيّة<br />
في حالة اعتباره بمثابة الحافز والمنطلق<br />
لوضع إستراتيجية حمائيّة محدّدة. تشهد<br />
كورتاس على ذلك بقولها: »وضعت آلبي<br />
أول مخطّ ط تصرّ ف عندما أصبح ذلك<br />
إلزاميّا، وصرنا منذ تلك اللحظة بمثابة<br />
المرجع.نحن فخورون بأننا أصبحنا<br />
قدوة تلهم المواقع األخرى مثل الحوض<br />
المنجمي بشمال بادوكالي مغارة شوفاي<br />
وسلسلة بوي«.<br />
أدوات إدارة المواقع<br />
تعمل شبكة المواقع الكبرى في<br />
فرنسا منذ الثمانينات على تكييف<br />
طاقات االستيعاب. تقول مديرتها سولين<br />
آرشنبو، »نحن ننجز دراسات لتحديد<br />
طاقة استيعاب كل موقع بين الزيارة<br />
والحفاظ على المحيط، مع الحرص<br />
في ذات الوقت على أالّ يشعر السكان<br />
بالحرمان من ممتلكاتهم، وعلى أالّ تصبح<br />
السياحة النشاط الوحيد لمنطقة معينة. من<br />
شأن التحكّم في تدفّق الزّوّار عند المداخل<br />
وتوسيع المساحة المخصصة للزيارة أن<br />
يتحكّما في بلوغ الغاية القصوى. طرق<br />
المعالجة والحلول عديدة، ويمكن تكييفها<br />
حسب الوضعيات: بعث مراصد لنسبة<br />
الزيارات، تراجع مواقف السيارات،<br />
وضع وسائل نقل، توفير درّاجات<br />
كهربائيّة، تعبئة التجار لتحسين جودة<br />
البضاعة المعروضة، الخ. قام آخر موقع<br />
تمّ تسجيله ضمن قائمة التراث العالمي<br />
)يوم 2 <strong>جويلية</strong>/تمّوز 2018( فهو سلسلة<br />
بوي فاي في ليمانيو، بتهيئة فضاءات<br />
للتوقّف مندمجة المحيط، وقطارا مسنّنا،<br />
ومنارات للتبليغ والوقاية تمّ التشاور<br />
حولها محلّيّا.<br />
المعبد الروماني »موقع اليونسكو للتراث«.<br />
جميع الحقوق محفوظة<br />
تتولى شبكة المواقع الكبرى بفرنسا<br />
تقديم تكوين باللغة الفرنسية للمتصرفين في<br />
مواقع العالم أجمع تحت إشراف اليونسكو.<br />
تكوين يسمح بتبادل الخبرات بين أكثر من<br />
خمسة وثالثين بلدا حول التسيير المندمج<br />
للمواقع وتحسيس المواطنين الذي يظلّ<br />
في قلب هذه العمليّة. من البديهي أن بعض<br />
المواقع مثل تلك الواقعة داخل األسوار<br />
والجدران والتحصينات تصعب حمايتها<br />
أكثر من سواها، وتؤكد ذلك غرافاري-<br />
برباس بقولها: »في بعض األحيان تسعى<br />
األوساط التي تعيش على السياحة من أجل<br />
تواصل سياسة الالمباالة، بل وحتى سياسة<br />
التحفيز السياحي. لكن اإلدراج ضمن قائمة<br />
اليونسكو يوفّر للمدن الوسائل المساعدة<br />
على ممارسة الضغط المحلّيّ و ذلك بالتلويح<br />
بتهديد التسجيل ضمن قائمة التراث العالمي<br />
المعرّ ض للخطر، بل وحتى الشّطْ ب من<br />
القائمة. من ذلك أن ليفربول وجدت نفسها<br />
مسجّ لة على قائمة التراث العالمي المهدّد<br />
وذلك خاصّ ة بسبب مشاريع عقاريّة من<br />
شأنها تشويه القيمة الكونيّة الفريدة للمكان.<br />
كما أدّى مشروع بناء برج فندق كونتيننتال<br />
بمدينة فيينّا إلى نفس المصير،ألنه يعتدي<br />
بشكل كبير على مشهد الذي خلّده برناردو<br />
بلوتو )1761-1758( في لوحة فنّيّة«.<br />
أصبحت برشلونة تدفع ثمن نجاحها<br />
بعد أن اختارت السياحة المكثفة زهيدة<br />
الثمن. أما الصين، فتشكّل في هذا المجال<br />
واجهة مثالية تبرز فيها قوّتها وقدرتها<br />
على االبتكار الدائم. إذا كانت فرنسا قد<br />
استطاعت إحياء تراثها، فإن السياحة لم<br />
تعد تحظى بوزارة خاصة منذ 1995 في<br />
حين عرف البعد االقتصادي صحوة غير<br />
مسبوقة. هذه الرؤية القاصرة تجعل مهمّة<br />
أولئك الذين يعملون من أجل إيجاد توازن<br />
متناغم ومستدام بين األبعاد االقتصاديّة<br />
والبيئيّة والبشريّة مهمّة صعبة.<br />
مدينة جايبور في الهند »موقع اليونسكو للتراث«<br />
جميع الحقوق محفوظة<br />
4( تقرير اليونسكو-ايكوموس عن بعثة الرصد التفاعلي إلى<br />
الحيّ القديم بدوبرفنيتك، كرواتيا، اليونسكو، المجلس العالمي<br />
للمعالم والمواقع، نوفمبر/تشرين الثاني 2015،<br />
http://whc.unesco.org
عدد - 41 <strong>جويلية</strong>/<strong>أوت</strong> - تموز/آب <strong>2019</strong><br />
جون برجر، الكشاف<br />
ماري-نوال ريو Marie-Noël Rio<br />
الكتاب األول لجون برجر Berger()2017-1926( )John نُشر<br />
بلندن سنة 1958 وتمّ منعه من البيع على الفور، ولم يسمح بتداوله إال<br />
سنة 1976، وهو رواية بعنوان « رسّ ام من عصرنا«)1(. يوم 16<br />
أكتوبر/تشرين األول 1956، أي خالل األسبوع الالحق لإلفتتاح الناجح<br />
لمعرضه األول بعد عشرين عاما من التجاهل، توفّي الرسّ ام المجري<br />
»يانوس الفان« وهو في العقد السادس من العمر. هو شيوعيّا فرّ من<br />
نظام »ميكلوس هورثي« خالل العشرينات، واستقرّ في لندن منذ سنة<br />
1938. في مرسمه المهجور، عثر صديقه جون على كرّاس مسوّداتِ<br />
رسومه الذي اتخذه دفترا يدوّن عليه يومياته انطالقا من سنة 1952،<br />
تأسست الرواية على ما ورد معها من تعليقات حرّرها جون وعلى<br />
فحوى الرسالة التي تلقّاها من يانوس خمسة عشر يوما قبل اختفائه وهو<br />
في طريقه إلى مدينة »بودابست« عند انطالق التمرّد.<br />
أحداث حياة يانوس تتقاطع في الرواية: “الزلو” صديق الشباب<br />
الذي بقي في المجر وأصبح مسؤوال سياسيا وقتل شنقا في شهر <strong>جويلية</strong>/<br />
تمّوز 1952 بتهمة الخيانة، واإليمان باالشتراكية، وحياة المنفى،<br />
والمصاعب المادّيّة والعمل بال كلل في المرسم. لم يكن يبيع شيئا، بل<br />
كان يكسب قليال من المال عن طريق تقديم دروس في مدرسة للفنون<br />
الجميلة. كيف يمكن الصمود رغم الوسط المتعفّن لألروقة والنقّاد<br />
والمؤسسات الخانعة واألثرياء من جامعي األعمال الفنية؟ كيف يمكن<br />
للفنّان أن يكون نافعا في مجتمع ليس راغبا فيه؟ كيف يمكنه ممارسة<br />
اختياره السياسي الثوري؟ تتمثّل مهمة الفنّان في طرح أسئلة ملموسة<br />
جدّا، وفي الحلول الواقعية جدّا التي يقدّمها لها تتحدّد هويّته ومسؤوليته<br />
االجتماعية، وعالقته السياسية بالواقع ال عبر التعبير عن الفكرة وتقديم<br />
األدلة عليها. هذا يعني أن الفن هو بحث عن الحقيقة، حقيقة الفنان وحقيقة<br />
األثر وقد تمازجتا. الوصف التفصيلي الدقيق لألحد عشر شهرا من العمل<br />
التي خصّ صت إلنجاز »ألعاب«، وأكبر لوحة من القماش رسمها يانوس<br />
هو المثال الرائع على هذا الشرط األساسي. بعثت صدى ل»أحاديث<br />
حول الرسم« لشيتاو )1720-1641( ذكر كشاهد بعد ستّين عاما في<br />
»واآلن، الدور اآلن«)2(:»مهما أوغلت في البُعد ومهما صعّدتَ عاليا<br />
عليك أن تبدأ بخطوة بسيطة«.<br />
»دورك اآلن« هو تبادل للرأي حول الرسم بين جون برجر في<br />
نهاية حياته في منطقة باريس وبين ابنه »إيف« الذي ظلّ مقيما في<br />
قرية هوت سافوا حيث عاشا حتى ذلك الحين. كان الرجالن يتراسالن<br />
ويتبادالن صورا، هي نسخ من رسومهما الخاصّ ة )وقد أطلق عليها<br />
جون اسم آخر »نصوص«( أو من لوحات نالت إعجابهما وهي في<br />
اغلبها أعمال تصويريّة. لكن السؤال ال يتعلّق بأهمية الشكل أو التجريد<br />
في العالم الحديث، هذا الجدل القديم البالي، بل في الضرورة الباطنية<br />
داخل العمل الذي يُنْجَ ز.<br />
عندما عاد إلى مغامرة الكتاب المصوّر في شراكة ختامية رائعة<br />
مع صديقه المصوّر الشاعر التركي سلجوق دميرال )الذي يشارك كل<br />
شهر على أعمدة جريدتنا(، بدا المشروع أيسر وأخفّ ، ولكن المتعة التي<br />
يمنحها متعة مُحرِّرة. في عمل »سموك«)3( راح الرجالن يسخران<br />
ويأسفان من التحوّل إلى إنحراف فردي لذة السيجارة، هذا الفاصل<br />
الوجيز للّحظة التي، المشتركة، تكون مدخال للحوار.لكن بصفة أوسع،<br />
يحيل عزل هؤالء المدخّ نين على عمليات »تجرّد« للحياة االجتماعيّة<br />
تقودها الرأسمالية الواعظة التي اختارت بمساعدة »ستار من الدّخان«<br />
أقامته وسائل اإلعالم أن تندّد بالمنحى المسمّم لعشّاق التّبغ عوضا<br />
عن التنديد بالتلويث الذي تخلّفه المصانع، و بالتجارب النووية التي<br />
تُجريها كوريا الشمالية بدال من شجْ ب الغوّاصات النووية الستّين التي<br />
تجوب المحيطات. لقد كان جون برجر في كل كتاب من كتبه يجدّف<br />
ضدّ التيّار بكل قوّة واعتزاز.<br />
جميع الحقوق محفوظة<br />
1( جون برجر: »رسّ ام من زماننا«، الورشة المعاصرة، ستراسبرغ، 224 <strong>2019</strong>،<br />
ص، 25 يورو.<br />
2( جون وايف برجر: »دورك اآلن«، الورشة المعاصرة، ستراسبرغ، 100 <strong>2019</strong>،<br />
ص، 20 يورو.<br />
3( عناوين أخرى للصديقين: »كاتاركت« )2013( و»رجل على الشاطئ«<br />
)2015(، وقد ظهرا في منشورات »زمن حبّ الملوك«. مانترويل ومن المنتظر<br />
خالل سبتمبر/أيلول <strong>2019</strong>: »كم الساعة؟«، نوتنغ هيل، طبعة دوفان.<br />
<strong>جويلية</strong>/<strong>أوت</strong> - تموز/آب <strong>2019</strong><br />
الفهرس<br />
الصفحة 2:<br />
المفقودون الخالدون للبنان<br />
إيمانويل حداد Emmanuel Haddad<br />
الصفحة 3:<br />
الرجوع بالتاريخ<br />
أكرم بلقايد Akram Belkaïd<br />
الصفحة 5-4:<br />
أوروبا الدفاع، جيش من ورق<br />
فيليب اليماري Philippe Leymarie<br />
الصفحة 7-6:<br />
األفكار المسبقة حول اإلنعاش اإلقتصادي<br />
لورا را ييم Laura Raim<br />
الصفحة 9-8:<br />
المصالحة بين الصناعة والطبيعة<br />
الصفح 11-10:<br />
عندما كان الجنوب يراهن على »البورجوازية الوطنية«<br />
فيفاك شيبّار Vivek Chibber<br />
الصفحة 13-12:<br />
مناضالت في تمرّد<br />
إيلوا فاالت Éloi valat<br />
الصفحة 15-14:<br />
الساحل، العسكريون يستبعدون وزارة الخارجية<br />
ريمي كارايول Rémi carayol<br />
الصفحة 17-16:<br />
عدم محاكمة عنف النازية الجديدة<br />
ماسيمو بيرينالي وكريستوفر بولمان<br />
Massimo Perinelli et Christopher Pollmann<br />
الصفحة 19-18:<br />
جيوسياسية األزمة الفنزويلية<br />
الصفحة 21-20:<br />
في الهند، كيف يمكن الفوز باالنتخابات بحصيلة كارثية<br />
كريستوف جافرولو Christophe Jaffrelot<br />
الصفحة 23-22:<br />
الهدية المسمومة للسياحة الثقافية<br />
جونفياف كالستر Geneviève Clastres<br />
الصفحة 24:<br />
جون برجر، الكشّاف<br />
ماري-نوال ريو Marie-Noël Rio<br />
Le Monde Diplomatique - édition arabe<br />
www.editionarabdiplo.com<br />
الكسندر ماين Alexander Main<br />
جان غادراي Jean Gadrey