18.12.2020 Views

BOOK 11 After Edit finall .fin

You also want an ePaper? Increase the reach of your titles

YUMPU automatically turns print PDFs into web optimized ePapers that Google loves.

رواية

القلب خلف الضلع تمامًا

تأليف

ماريا محمد دعدوش

الباحثة:‏ ماريا محمد دعدوش

فاز هذا العمل في مجال التأليف التربوي للطفل

الدورة الثالثة عشرة لجائزة خليفة التربوية

2020 - 2019


مطبوعات جائزة خليفة الرتبوية

الكتاب رقم )36(

موافقة املجلس الوطني لالإعالم رقم:‏ 8209206- MF-03

رقم التصنيف الدويل:‏‎8‎ - 865 34- 9948- 978- ISBN-

2

جميع احلقوق حمفوظة,‏ وال يجوز اإعادة اإنتاج اأي جزء من هذا الكتاب بأي ‏شكل

كان,‏ مبا يف ذلك نسخ الصور اأو استخدام الوسائل االإلكرتونية,‏ دون موافقة كتابية

من اأصحاب حقوق الطبع والنشر,‏ وكل من يتصرف مبا يخالف ذلك,‏ ‏سيكون

عرضة للمساءلة القانونية,‏ واملطالبة بالأضرار الناجمة عن ذلك.‏

جميع احلقوق حمفوظة للأمانة العامة جلائزة خليفة الرتبوية .

مدينة اأبوظبي - دولة الإمارات العربية املتحدة

هاتف:‏ 0097124459442

فاكس:‏ 0097124454995

‏ص ب:‏ 33088

املوقع الإلكرتوين : www.khaward.com


كلمة

3

تواصل جائزة خليفة الرتبوية رسالتها يف اإثراء امليدان الرتبوي باملعرفة من

خالل تنفيذ توجيهات ‏سمو رئيس جملس اأمناء اجلائزة بطباعة االأعمال

الفائزة يف كل دورة بحيث تكون متاحة ملختلف املستويات التنفيذية يف

العملية التعليمية من،‏ قيادات مدرسية،‏ ومعلمني،‏ واإداريني،‏ وغريهم من

ذوي العالقة ، مبا يعزز اخلربات العلمية والتطبيقية،‏ وينهض بالآداء،‏

ويرفع معدالت اجلودة ملخرجات العملية التعليمية .

ويف هذا الصدد يسعدنا اأن يكون هذا الكتاب اأحد االأعمال التي مت طباعتها

وطرحها يف امليدان الرتبوي اآملني اأن تتحقق منه الفائدة املنشودة .

واهلل املوفق .

أمين عام جائزة خليفة التربوية

أمل عبد القادر العفيفي


القلب خلف الضلع تمامًا

- 1 -

في أزقة صفاقس الضيقة كان مصطفى يمشي بخفة.‏ نسيم الفجر وصل

إلى أنفه من البحر القريب رطباً‏ بملوحته الخفيفة،‏ والشمس الباهتة

أرسلت أشعتها الفضولية لتزحف بنزق فوق أسطح البيوت،‏ وتتساقط بطيش

فوق األزقة الملتوية فتمسح عنها ظالمها.‏ جثا مصطفى قرب بيت على

الناصية لم يعرف أصحابه،‏ وتربص خلف جرَّة زيت كبيرة انتصبت على

بابه،‏ ينظر نحو أول الزقاق القريب،‏ ينتظر أن يصل صاحبه رجب في أيِّ‏

لحظة.‏ انزلق جلد الخروف من على كتف مصطفى نحو خصره،‏ فرفعه

وأعاده إلى مكانه.‏ لم يكن يعرف أنَّ‏ التنكُّر بخروف سيُشعره بكلِّ‏ هذا

الحرّ.‏ لو لم يظهر صديقه رجب خالل ثوانٍ‏ لماتَ‏ من الحرّ.‏ سيصير

خروفًا مشويًّا أو طبق ثريد،‏ لكن لو كانت المقالب سهلةً‏ لرأى الناس كلَّهم

يمارسونها ليلَ‏ نهارَ.‏ لكن هكذا هي المقالب،‏ صعبة وتتسبب للمرء الحرّ!‏

يجب أن يصبر.‏ لن يطول الوقت قبل أن يظهر رجب.‏

لم يكد ينهي كالمه بينه وبين نفسه حتى تناهى إلى سمعه صوت عجالت

خشبية تذرع األحجار المرصوفة على األرض.‏ بعد ذلك بثوانٍ‏ ظهر أخيرًا

رجب كعادته كلَّ‏ يوم،‏ يجرُّ‏ خلفه عربته في طريقه المعتاد نحو ‏)رحبة

الذبح(.‏ هناك في ‏)رحبة الذبح(‏ كان دكَّان الجزَّار الذي يبيع اللحم،‏ يعمل

عنده مصطفى ورجب،‏ وقلة من صبية آخرين.‏ ابتسم مصطفى وهمس

لنفسه:‏ ‏»حان وقت المقلب«.‏

وضع رأس الكبش بقرونه المتعرجة فوق رأسه،‏ وأخفى ما بقي ظاهرًا

من وجهه تحت جلد الخروف المكسوِّ‏ بالصوف حتى لم يعد يرى شيئًا.‏

باعد بين حافَتي الجلد مسافة بالكاد تكفي ألن يتبين رَجَ‏ باً‏ وعربته،‏ ولم

ينس أن يلقي نظرةً‏ على خياله الذي تسلق طويالً‏ على الجدار الحجري

األبيض للبيت.‏ خيال رأس الكبش الضخم بقرونه الطويلة المتعرِّجة

كان يتطاول فوق خيال مصطفى الذي أسبل الجلد عليه حجماً‏ أكبر من

2


ً

3

حجمه،‏ والخياالن معاً‏ كانا يتمايالن بشكل مرعب حقًّا؛ كوحش خرافي.‏

ابتسم مصطفى.‏ سيكون مقلبًا رائعًا.‏ خطوات قليلة خطاها رجب مع عربته،‏

صار بعدها قريبًا جدًّا منه.‏ خرج مصطفى بسرعة من خلف الجرَّة،‏ وقهقه

بخشونة في وجه رجب،‏ وصرخ بصوت قوي:‏ ‏»أنا كبش عيد األضحى الذي

ذبحتني قبل شهرين،‏ جئت ألعاقبك!«‏

ثم جرّ‏ قدميه بخطوات بطيئة باتجاه رجب وأكمل:‏ ‏»سأجعلك عبرة لمدينة

صفاقس،‏ بل سأجعلك عبرة لتونس كلّها!«.‏

من خلف الصوف راقب رجبًا املسكني وهو يتجمَّد مكانه ثواين كأنه حتوَّل

إىل صنم،‏ مث يتراجع حنو اخللف فريتطم بالعربة الي كان جيرُّها قبل أن

يعتليها بسرعة،‏ ويدوس ألواحَ‏ اخلشب املثبَّتة على أرضيتها،‏ مث يتعثر حبافتها

اخللفية ويقفز عنها ويهرول بعيدًا وهو يصرخ:‏ ‏»الكبش املذبوح جاء ينتقم

مي!‏ الذبح املكبوش…الكبش املذبوح!«.‏

الوقت كان فجرًا،‏ والناس مازالوا نائمني.‏ خاف مصطفى أن يسمع الناس

الصراخ فيسرعوا لينتصروا لرجب ويعاقبوه،‏ فرمى جلد اخلروف وصار

يضحك ويناديه:‏ ‏»رجب...‏ هذا أنا،‏ مصطفى...‏ عُدْ‏ يا جبان!«.‏

استغرق رجب ثواينَ‏ إضافيةً‏ قبل أن يدرك املقلب.‏ التفت جيري حنو مصطفى

فأدركه واهنال عليه باللكمات؛ فحمى وجهه بذراعيه،‏ وربض يتلقَّى اللكمات

من قبضة رجب حتفر يف كتفيه وصدره،‏ ولكزات من مرفقية على خاصرته،‏

مث وابال من الرفسات القوية على قفاه.‏ مل يكن يعلم أَيضحك أم يصرخ من

األمل؟!‏ فرجب كان يسدِّد لكماته بقبضة من حديد بعد الرعب الذي انتابه

من مقلب الكبش.‏ بعد هنيهةٍ‏ تعبَ‏ ، أو رمبا أشفق على مصطفى فتوقَّف عن

الضرب،‏ وأسند ذراعه إىل جدار الزقاق،‏ وصار ميسح عرقه بكُمِّ‏ قميصه.‏

مصطفى أيضً‏ ا مسح دموعًا مل يفهم أَكانت من شدَّة الضحك أم من شدِّة

األمل؟!‏ وحاول أن يهدأ كي ال يستفزَّ‏ رجبًا مرَّةً‏ أخرى؛ فيتلقَّى مزيدًا من

الضرب.‏ ساد صمت ثواينَ‏ حى هدأ رجب،‏ مث قال مصطفى بصوت خشن:‏

‏»يا لَوقاحتك!‏ تلكم وتلكز كبش العيد املذبوح وترفسه أيضً‏ ا؟!«،‏ وانفجر االثنان


يف نوبة ضحك جديدة.‏

سأله رجب:‏ ‏»صار عمرك ثالث عشرة سنة...‏ أمل تشبع من املقالب؟!‏ يالك

من صي أخرق!«.‏

أجابه مصطفى:‏ ‏»وأنت صار عمرك ثالث عشرة سنة،‏ وختشى كبشً‏ ا مذبوحً‏ ا

جاء يعاتبك؟!‏ يالك من ولد جبان!«.‏

عاد رجب ولكز مصطفى وقال له:‏ ‏»هيَّا ادفعْ‏ معي العربة.‏ جيب أن نصل إىل

السوق بسرعة.‏ ال بدَّ‏ أنَّ‏ اجلزَّار قد فرغ من شراء اخلرفان من ‏)سوق السعي(‏

ووصل هبا إىل دكانه بل رمبا ذحبها أيضً«.‏

مث اتَّجه حنو العربة وأكمل:‏ ‏»جيب أن نوصل جلودها إىل ‏)سوق الصبَّاغني(‏

بعربتنا هذه قبل أن يشتدَّ‏ احلرّ.‏ لو تأخَّ‏ رنا عليه أكثر من ذلك فسيقتطع منَّا

نصف أجر اليوم«.‏

أجابه مصطفى:‏ ‏»حسنً،‏ جُ‏ رّ‏ أنت العربة من األمام،‏ وأنا سأدفعها من اخللف«.‏

أطاعه رجب وجرّ‏ العربة،‏ لكنَّ‏ مصطفى بدالً‏ من أن يدفعها قرَّر أن يقفز

هبدوء فوقها ويرمي بثقله عليها.‏ جرّها رجب فوجد ثقلها فالْتفت فرأى

مصطفى فوقها،‏ فوثب عليه وأمسك به من كتف قميصه،‏ ورماه عن العربة

قائالً‏ : ‏»ما أثقل دمك أيها املتشرِّد!«.‏

أجابه مصطفى:‏ ‏»بل أنت املتشرِّد يا متشرِّد!«.‏

مل يتمكَّن رجب من ردِّها له؛ ألنَّ‏ صوت املآذن شقَّ‏ األجواء يقول:‏ ‏»الطوَّافون!‏

سفن الطوَّافني تقترب من صفاقس!‏ أَوصِ‏ دوا األبواب!«.‏

- 2 -

طار مصطفى وصاحبه باتِّجاه الدرج املؤدِّي إىل أعلى سور صفاقس يريدان أن

يتبيّنا سفن الطوّافني،‏ وملَّا وصال هناك وجدا كلَّ‏ أهل صفاقس قد سبقومها

إليه وتزامحوا على الفُتحات الضيِّقة يف السور خيتلسون النظر من خالهلا.‏

4


5

قال رجب:‏ ‏”افتح لنا الطريق بني احلشود بسالحك العجيب«.‏

السالح العجيب كان مرفقا مصطفى.‏ من شدة حنوله كان مرفقاه مذبّبيْن

ال يكادان يلكزان خاصرة أحد إال وفسح هلما فورًا!.‏ مضى مصطفى يشق

طريقه بني الناس مبرفقيه ويتبعه يف اخللف رجب،‏ حى وصال أخريًا إىل

حافَة السور املرتفعة.‏ وعلى امتداد تلك احلافة برزت النتوءات من أحجار

السور الضخمة تفصل بينها أبعاد ثابتة وضيِّقة.‏ ضم رجب قبضتيه كي

يضع مصطفى رجله عليهما،‏ ورفعه رجب قليالً‏ حى وصلت ذراعاه إىل

أعلى السّ‏ ور.‏ برشاقة اعتلى احلافة وحشر نفسه بني نتوئني مث عانق النتوء

بفخذيه كي يثبِّت نفسه،‏ رفع رجبًا ليعتلي السور هو أيضً‏ وجيلس على النتوء

املجاور له.‏ من أعلى السّ‏ ور انكشف البحر أمام عييْ‏ مصطفى،‏ وعلى سطح

املاء شاهد مشهدًا اخنلع له قلبه،‏ وكاد يسقط بني قدميه…سفن الطوّافني

بأشرعتها املربَّعة وقد رمسوا عليها مشسً‏ وطائرًا أمحر مفترسً.‏ ومن تلك

السفن كانت اجلند هتبط،‏ تزحف باملئات حنو أسوار املدينة.‏ اخلُوَذ املعدنية

للغزاة كانت تلمع يف ضوء الشمس،‏ ومزيد من السفن كانت تصل،‏ وتبزغ منها

عشرات املجاديف تضرب بعناد سطح املاء،‏ أما قرع طبول احلرب فكان يصمّ‏

اآلذان.‏

مصطفى كان يعرف تلك السفن متام املعرفة…‏

على من سفينة تشبه إحداها،‏ كان هو نفسه عبدًا قبل عامني!‏ وعلى من

سفينة تشبه إحداها،‏ عاش أسوأ أيَّام حياته.‏

رجل عجوز اعتلى خبفة عجيبة حافة السور مثلهما وقال هلما:‏ ‏»الباب اجلبلي

مغلق،‏ وباب الديوان من جهة البحر مغلق.‏ وصفائح احلديد تكسو هذين

البابني.‏ لن يتمكَّن هؤالء الدخالء من اختراق مدينتنا.‏ لن يتمكن األوغاد

من دخول صفاقس«.‏

مهس مصطفى لرجب وقد جفّ‏ ريقه:‏ ‏»هل تعتقد فعالً‏ أن األسوار ستصمد؟«.‏

أجابه رجب:‏ ‏»نعم ستصمد؛ فأحجار السور قوية من الطوب املشوي.‏ لن


يتمكَّنوا من خرقها مهما حاولوا«.‏

مكث مصطفى وصاحبه ومعهما كثري من الناس يرقبون حبذرٍ‏ خطوة الغزاة

القادمة.‏ مل تكد متضي ساعة حى كان الطوَّافون قد حاصروا أسوار املدينة

كلّها،‏ أثواهبم محراء تصل إىل كعوهبم،‏ وأقنعة من احلديد املنسوج تغطِّ‏ ي

وجوههم وأكتافهم.‏ بعد ذلك انقضت ساعات أخرى التزم فيها الطوَّافون

أماكنهم مل يتزحزحوا عنها.‏ على رمل الشاطئ ربضوا كأصنام معدنية ال

تتحرك.‏ مل يبدُ‏ عليهم أهنم كانوا يف عجلة من أمرهم،‏ بل بدا أهنم يدبرون

ألمر خميف.‏

وفجأة صدح األذان من مئذنة اجلامع الكبري!‏

قال مصطفى:‏ ‏»مل حين وقت الظهر بعد!‏ «.

فأجاب الشيخ الذي قفز عن احلافة بالرشاقة الي اعتالها فيها وقال:‏ ‏»األذان

يدعونا إىل اجتماع طارئ يف اجلامع.‏ هيا أيها الناس لنتجه هناك!‏ «.

استجاب الصفاقسيون بسرعة لأذان،‏ وزحفوا يف أزقّة املدينة يتّجهون حنو

اجلامع الكبري يف مركزها.‏

هُرِع مصطفى وصاحبه،‏ وحلقا بالناس الذين اكتظّ‏ ت هبم أزقَّة صفاقس،‏ وملَّا

وصلوا إىل اجلامع ضاق هبم صحنه الكبري أيضً‏ ا.‏

مهس مصطفى لرجب:‏ ‏»لنصعدْ‏ إىل مالذنا اآلمن،‏ من هناك سنسمع كل ما

يدور«،‏ تبعه صاحبه بصمت وطار االثنان بسرعة الرق تصعد هبما أرجلهما

إىل حيث يصعدان تقريبً‏ كلَّ‏ يوم قبة اجلامع الكبري.‏ عدَّ‏ مصطفى مثانيً‏

وتسعني درجةً‏ كما يعدّها كل يوم حى وصل إىل رقبة املئذنة،‏ ومن هناك

اعتلى القبّة يتبعه صاحبه.‏ هذه القبة لطاملا كانت املكان املفضل ملصطفى

ورجب ال يزعجهما فيه أحد؛ ألنه ببساطة مكان ال يطوهلما فيه أحد.‏ أسند

مصطفى ظهرَه إىل سطح القبَّة املنحي،‏ ومشى حبذر على حافتها حى

انكشف له الصحن،‏ وهناك جلس ودلّى رجليه عن احلافة،‏ وفعل صاحبه مثله.‏

من جهة صحن اجلامع جاءمها صوت حاكم املدينة وشيخها أيب الزين

6


7

اللوزي رخيمً‏ يصدح كعادته كلما خطب يف أهل مدينته:‏ ‏»أيُّها القوم،‏ لقد

جاءنا الطوَّافون يريدون أن يقتلوا رجالنا،‏ ويتَّخذوا نساءنا وأوالدنا عبيدًا،‏

ويسرقوا أموالنا.‏ هذا ما فعلوه يف جزيرة جَ‏ رْبة،‏ وهذا ما فعلوه يف غريها،‏

فهل نسمح هلم بذلك؟!«.‏

ما قاله الشيخ أبو الزين عن جربة فتح أبوابً‏ يف ذاكرة مصطفى كان قد

أوصدها بأقفال التناسي طويالً.‏ قبل أربع سنوات كان مصطفى شاهدًا على

غزو جربة فهل يقدر الغزاة حقًّا اليوم أيضً‏ أن خيترقوا األسوار،‏ وخيطفوا،‏

وينهبوا،‏ ويتَّخذوهم عبيدًا؟!‏ لن يعود عبدًا ألحد أبدًا،‏ املوت أهون عليه ألف

مرَّة!‏ هدر سكَّان املدينة بصوت واحد جييبون شيخهم:‏ ‏»ال!‏ لن نسمح بذلك«.‏

خرج من اجلموع شابٌّ‏ طويل القامة وسأل:‏ ‏»ألسنا ندفع هلؤالء األوغاد مثن

قمحهم ذهبً‏ والكثري من العبيد والعاج؟ إذًا ماذا يريدون أكثر من ذلك؟!«.‏

مل يتبيَّن مصطفى وجهَ‏ الشابِّ‏ جيِّدًا،‏ لكنه عرف صوته.‏ لقد كان احلسن،‏ ابن

الشيخ أيب الزين.‏

قاطعته امرأة كانت تلفُّ‏ نفسها بقماش بلون الكركم من رأسها حى أمخَص

قدميها:‏ ‏»نعم!‏ ماذا يريدون منَّا؟!«.‏

صمت الشيخ أبو الزين ثواينَ‏ مث أجاهبا:‏ ‏»كلَّ‏ شيء.‏ يريدون منَّا كلَّ‏ شيء«.‏

سرت اهلمهمات بني سكان املدينة ثواينَ‏ قبل أن يعود صوت الشيخ ليصدح:‏

‏»تلك األسوار لن خيترقوها لكن اهلل وحده يعلم كم سيطول حصارهم لنا.‏

امسعوا أيها الناس…‏ بائعو احلبوب يف ‏)سوق النعمة(‏ ال يبيعون يف اليوم

الواحد أكثر من نصف رطل لأسرة الواحدة.‏ هل تسمعون؟ أال قنّنوا استعمال

املاء،‏ جرتني من املاء كل يوم للعائلة يوزعهما حراس يتمركزون على بِرَك

املاء.“‏

مث هتدج صوت الشيخ وقال:‏ ” فَلْريحمْ‏ قويُّنا ضعيفَنا.‏ طعام اثنني كافٍ‏ ثالثة،‏

وطعام ثالثة كافٍ‏ أربعة.‏ لن ينجينا من تلك املحنة إال ترامحنا وتعاوننا،‏

ودعاء إىل اهلل كثري!«.‏


تعجب مصطفى يف سرّه،‏ ما بال الشيخ يهتم لشحّ‏ املاء،‏ أو نقص يف اخلبز؟!‏

ملاذا ال يدعو الناس إىل أن يطردوا هؤالء الغزاة بعيدًا عن أسوار صفاقس؟!‏

ال الشيخ وال أيّ‏ من أهل صفاقس رأت أعينهم ماذا يفعل الطوَّافون يف املدينة

إذا دخلوها.‏ وحدمها عينا مصطفى شاهدتان على ذلك!‏

- 3 -

األيَّام القليلة الي تلت انقضت بطيئة ثقيلة.‏ كثريون من فتيان وفتيات

املدينة تناوبوا على اعتالء السور،‏ وأمضوا ساعات تطول أو تقصر وهم

يراقبون الغزاة،‏ أما مصطفى فلم يرح األسوار حلظة واحدة.‏ تالشت شهيته

للطعام،‏ وعندما كان رجب يأتيه مباء قليل كان يتجرعه مث يتبوله من فتحات

السور على أمل أن يسقط على رأس أحد من الطوّافني يف اخلارج!‏ وبعد ذلك

مل يكن يضحك.‏ ال مكان للضحك مادامت تلك األشرعة املربعة ترسو على

شواطئ صفاقس.‏ كان الوقت فجرًا باكرًا عندما الحظت عينا مصطفى حركة

يف مجوع اجلند!‏ مدَّ‏ ذراعه وهزَّ‏ كتف رجب الذي كان يشخر جبانبه.‏ هزَّ‏ كتف

رجب مرَّةً‏ أخرى،‏ ففتح عينيه فأشار له مصطفى بيده حنو اجلند وقال:‏

‏»انظر…ينسحبون!«.‏

أمعن االثنان النظر يف جند الغزاة وهم يتجهون حنو الشاطئ،‏ مث يركبون

القوارب فترسو هبم مبحاذاة السفن مث يعتلون سالمل من حبال متدلية

ويعتلون سفنهم.‏ هبَّ‏ االثنان مسرعَني حنو بيت الشيخ أيب الزين؛ يريدان أن

خيراه مبا رأيا.‏ وملّا وصال إىل عتبة دار الشيخ بدا النبأ وكأنَّه قد وصل إليه

للتوّ؛ ألهنما مسعاه ينادي يف الناس:‏ ‏»الطوَّافون ينسحبون!‏ أعياهم حصارنا

وارتدُّوا عن أسوار مدينتنا خائبني!«.‏

هتف أحدهم:‏ ‏»هيا بنا نلحقْ‏ هبم!«،‏

ونادى آخر:‏ ‏»نعم ولنغنمْ‏ منهم أسلحتهم!«،‏

وقالت امرأة:‏ ‏»لنلقِّنهمْ‏ درسً‏ ا ال يعودون بعده إىل شواطئنا ألف عام!«.‏

ومل متضِ‏

دقائق حى انسلَّ‏ الناس من كلِّ‏ زقاق يف املدينة وبأيديهم سيوفهم

8


9

وأسلحتهم،‏ متَّجهني إىل باب الديوان؛ كلّ‏ يسعى ألن يلقِّن الطوَّافني درسً‏ ا لن

ينسوه ويغتنموا أسلحتهم.‏

سأله رجب:‏ ‏»ما رأيك يف أن نلحق باجلنود حنن أيضً‏ ألجل الغنائم؟ من

يدري…قد أجد معهم مقالعً‏ متينً‏ أفضل من مقالعي!«‏

فكرة اللحاق باجلند أخافت مصطفى فأجابه:‏ ‏»منذ مى حيمل اجلند

مقاليع؟!‏ أنت حتلم«.‏

جذب رجب مصطفى من كتفه وقال:‏ ‏»بل سنجد مقالعً‏ جديدًا يل،‏ وعصا

جديدة لك«.‏

استسلم مصطفى لصاحبه الذي كان واضحً‏ عليه اإلصرار،‏ وأسرع االثنان

حنو زريبة جياد أيب معروف حيث ينامان كل ليلة،‏ ومن خلف حوض املاء

استخرجا أسلحتهما،‏ وانضما إىل أهل املدينة،‏ الذين فتحوا البوَّابة،‏ وانطلقوا

حنو البحر مسرعني خلف فلول الطوَّافني يتهددوهنم ويتوعدوهنم،‏ لكن ما

كاد مصطفى خيرج من بوابة السور ويتجه حنو الشاطئ حى الحظ أنَّ‏ أيً‏

من اجلند مل يعد يعتلي القوارب أو السالمل،‏ بل كانوا يركضون بتماهل ال

يشبه من أراد أن يلوذ بالفرار وينجو حبياته.‏ هؤالء اللئام خيطِّ‏ طون خلديعةٍ‏

ما!‏

مدَّ‏ مصطفى ذراعه وأوقف رجبًا وقال:‏ ‏»لنعد إىل املدينة؛ لست مرتاحً‏

ملا جيري هنا«.‏ نظر صاحبه حنوه نظرة استفهام،‏ لكنَّ‏ قبل أن تنبس شفتا

مصطفى بكلمة واحدة جاء اجلواب واضحً‏ للجميع؛ إذ الْتفت الطوَّافون

عائدين من جهة البحر،‏ يهدرون كموج البحر ينوون أن يبتلعوا أهل صفاقس.‏

أعداد إضافية منهم بزغت من كلِّ‏ حدب وصوب،‏ حييطون بأهل املدينة من

كلِّ‏ اجلهات.‏

تعالت الصرخات من كل مكان حول مصطفى تقول:‏ ‏»كمني!‏ كمني!‏ عودوا إىل

داخل األسوار!‏ دافعوا عن مدينتكم!«.‏

أجال مصطفى نظره حواليه،‏ وما رآه كان مريعً!‏ مئات من الرجال مأوا


املكان بني البحر وبني األسوار خرجوا يطاردون الغزاة املنسحبني،‏ وبني هؤالء

الرجال الكثري من النساء واألطفال أيضً،‏ خرجوا يتبعوهنم.‏ الطوَّافون لن

يتورعوا عن قتل الرجال وخطف وسي كل من تقع عليه أيديهم من أهل

املدينة.‏ من خيطفوهنم يبيعوهنم عبيدًا،‏ وهل من جتّار رقيق أشهر منهم؟!‏

صرخ مصطفى يف صاحبه:‏ ‏»النساءَ‏ واألطفالَ‏ الصغارَ…جيب أن نعيدهم إىل

داخل األسوار…‏ لِنُعِد النساء واألطفال إىل املدينة!«.‏

كان رجب قد أدرك ما جيري هو أيضً‏ فاستجاب بسرعة وقال:‏ ‏»امجع يل

األطفال وسأتقهقر هبم حنو األسوار«.‏

أسرع مصطفى يبحث عن أطفال تاهوا يف الفوضى يف حني لوّح رجب مبقالعه

يف اهلواء عاليً،‏ ونادى بصوت مرتفع:‏ ‏»ليتحلّق األطفال حويل.‏ سأعود بكم

إىل املدينة!‏ حتلَّقوا حويل،‏ أنا أمحيكم!«.‏

وجد مصطفى طفالً‏ يبكي،‏ فحمله وأسرع به إىل رجب الذي أخذه من كتفه،‏

وبدأ يشق طريقه بني احلشود حنو السور.‏ انطلق مصطفى يبحث عن أطفال

آخرين فوجد ولدين بطول خاصرته حيمالن بأيديهما أحجارًا،‏ واقفَني كمن

يريد أن ينقضّ‏ . هل كانا يظنَّان أنَّ‏ أحجارمها ستذود عنهما؟!‏ محلهما من

خصريهما،‏ وأسرع هبما مها أيضً‏ ا حنو رجب،‏ ورمى هبما إليه،‏ وتلفت حوله

يبحث عن املزيد.‏ أصوات السيوف حوله تعالت من كلِّ‏ اجلهات حوله.‏ أبواب

اجلحيم كأهنا انفتحت.‏ غبار الرمال أعمى عينيه،‏ وصرخات من كلِّ‏ مكان

شقَّت أثري البحر.‏ تعثَّرت خطواته بأجساد مَن سقطوا.‏ أجساد ترتدي مالبس

من كل األلوان إال أثوابًا محراء تصل إىل الكعبيْن،‏ وأقنعة من حديد منسوج.‏

بعض الصرعى كان يتحرَّك،‏ وأكثرهم جثث هامدة.‏ صوت بكاء وصل إىل أذنيه

من اخللف،‏ فالْتفت حنو مصدره فوقعت عيناه على رجل من الطوَّافني حيمل

طفلة بضفريتني حتت إبطه،‏ وقد شَ‏ هَر سيفه إىل جانبه وهو يسرع مبتعدًا

بالطفلة،‏ وهي تصرخ وتبكي:‏ ‏»أمي!‏ أمي!«.‏

يف داخل رأس مصطفى استيقظت صرخات مشاهبة أصمَّت أذنيه حى سدّمها

بكفيه.‏ كانت تلك صرخات أخته الصغرى ‏»سدرة املنتهى«‏ تقول:‏ ‏»أمي!‏ أمي!«.‏

10


11

كان ذلك ذات ليلة ملع فيها برق كثري واختفى فيها القمر.‏ أربعة أعوام كانت

تفصله عن تلك الليلة املشؤومة:‏ ليلة اختطفه هو وأخته طوَّاف قذر،‏ عنقه

عريض بعرض كتفيه،‏ متحدّب حنو األمام مثل عنق الثور.‏ جرّه هو وأخته

من الياقتني،‏ وأخته تصرخ:‏ ‏»أمي!‏ أمي!«‏ مستغربة أن أمهما مل تسارع إىل

جندهتما،‏ غري مدركة أهنا كانت غارقة يف بركة من دمها على األرض ال

تستطيع أن تنقذ أحدًا!‏

بكاء الطفلة ذات الضفريتني عاد يدق أمساع مصطفى لينتشله من ذكرياته

الي استفاقت تطارده دون رمحة وتعيده إىل اللحظة احلالية.‏ نفض عنه

ذكريات تلك الليلة املشؤومة وأسرع خلف الرجل،‏ ودون أن يدرك ما يفعله

رفس ركبة الرجل من اخللف بكلِّ‏ قوَّته فترنَّح اخلاطف ثواينَ.‏ هذه احلركة

تعلَّمها من حياته يف األزقَّة خالل العامني اللذين مضيا،‏ ولطاملا ختلص هبذه

الطريقة من خصومه ومن كلِّ‏ طامع يف لقمة عيشه.‏ استغلَّ‏ مصطفى ترنُّح

الرجل وأمسك بذراعه الي حتمل السيف،‏ وضرب مرفقها من اخللف على

ركبته املثنية،‏ كي يكسر الذراع،‏ لكن الرجل مل يبدُ‏ عليه أنه تأثر بتاتً!‏ رفع

الرجل سيفه يريد أن يَهوي به على مصطفى،‏ فرفسه مصطفى مبقدِّمة نعله

اخلشبية بني فخذيه،‏ فهوى الرجل راكعًا على ركبتيه مع صرخة أمل مدوِّية.‏

أفلتت الصغرية ذات الضفريتني من قبضته،‏ فتلقَّفها مصطفى بسرعة وهرب

هبا يبتعد،‏ قبل أن يتمالك ذلك الوحش زمام أمره.‏ رفسة مصطفى تلك بني

الفخذين لطاملا أراد أن يسددها ألحد لكنه حى هذه اللحظة مل يعثر على

شخص يستحقُّها عن جدارة مثلما استحقها ذلك الرجل.‏

برفقة البنت الصغرية مشَّ‏ ط مصطفى املكان بعينيه يبحث عن رجب،‏ وملا

عثر عليه كان قد صار قريبً‏ من السور ومعه أطفال كثريون.‏ أسرع يتَّجه

إليه مع الصغرية،‏ وبعد ثوانٍ‏ انضمت إليه امرأة حتمل رضيعًا،‏ اقتربت منه

مث أمسكت بكتف قميصه.‏ اعتقد أهنا حتاول أن حتميه،‏ لكنها ملا قالت له:‏

‏»ساعدْنا أرجوك!«،‏ أدرك أهنا هي الي كانت تبحث عن احلماية.‏

أجاهبا:‏ ‏»حسنا أنا سأعود بكِ‏ إىل داخل األسوار،‏ لكن ابقَيْ‏ قريبة مي«.‏


ظلَّ‏ مصطفى يشقُّ‏ بعصاه طريقه خبفَّة بني اجلموع حوله،‏ حى وصل

مبجموعته إىل البوَّابة املفتوحة حيث رجب واألطفال املتحلِّقون حوله،‏

لكن مفاجأة مرعبة كانت بانتظاره هناك…‏

اخلوذ املعدنية كانت تلمع فوق األسوار ومتأ أزقة املدينة كأسراب من جراد

نَهِم.‏ لقد دخل الطوّافون املدينة!‏

صرخ مصطفى:‏ ‏»لنشكِّل دائرة حول األطفال وندخل هبم أقرب بيت«.‏

فأجابت املرأة وهي تشري حنو ميني البوَّابة:‏ ‏»بيي قريب هناك مبحاذاة

السور.‏ لنسرعْ‏ إليه«.‏

هُرِع مصطفى ورجب ومَنْ‏ أنقذوهم من األطفال يف االتِّجاه الذي أشارت إليه

املرأة،‏ لكنَّ‏ رجالً‏ من الطوَّافني ملحهم من بعيد،‏ فصرخ بكلمات مل يفهمها

مصطفى،‏ وأشار إليهم مث أسرع حنوهم يلحق به طوَّافون آخرون.‏ لقد تغيَّر

احلال اآلن…‏ الطوَّافون انتبهوا هلم!‏ جمموعة من امرأة وأطفال ضعفاء

وعزّل.‏ لقمة سائغة شهية وسهلة!‏ فكر مصطفى:‏ حى لو وصل مبجموعته

إىل دار تلك املرأة فلن يتورع الطوَّافون عن اقتحامها.‏ جيب أن يغيَّر وجهته.‏

صرخ يف رجب:‏ ‏»انعطفْ‏ هبم حنو أول زقاق«.‏

استجاب رجب،‏ ودخل باألطفال ‏)سوق النجَّ‏ ارين(‏ وتبعهم مصطفى ليتأكد له

أن أحدًا منهم مل يتخلف عن املجموعة.‏ املرأة مل تتبعهم،‏ بل أكملت طريقها

حنو بيتها مع رضيعها الذي بني يديها،‏ أما مطاردوهم فتركوا املرأة وطفلها

وشُ‏ غلوا مبطاردة مصطفى ومَنْ‏ معه.‏ كانت خطوات الطوَّافني الثقيلة تقترب

منهم بسرعة ولن ميضي وقت طويل قبل أن يدركوهم فماذا يفعل مصطفى؟

أجال ناظريه يف الزقاق أمامه،‏ وهناك خلف سطح السَّ‏ قائف الي علت دكاكني

النجَّ‏ ارين،‏ شاهد برج احلراسة يف السور فلمعت يف باله فكرة وصرخ:‏ ‏»رجب…‏

باب الغدر!«.‏

12


13

- 4 -

برج احلراسة يف السور،‏ أو برج ‏)الرِّباط(‏ كما كان يسميه أهل صفاقس،‏ كان

برجً‏ مرتفعً‏ يصل أعاله حى السماء،‏ أما قاعدته فترتكز على جزء من سور

املدينة،‏ وأسفل ذلك الرج كانت توجد فُتحة سرِّية أنشأها احلرس وأمسوها

‏»فتحة باب الغدر«.‏ هذه الفُتحة السرِّية كانت تقود إىل الرج،‏ ويف الوقت نفسه

تقود إىل نفق سرِّي حمفور داخل السور الثخني ينتهي آخره عند صخور

الشاطئ.‏ مصطفى ورجب كانا كلَّما سببت هلما مشاغباهتما مشاكل مع أهل

السوق،‏ واحتاجا إىل مكان يتواريان فيه بقية اليوم عن األنظار-‏ كانا يهرعان

إىل تلك الفُتحة،‏ ليختبئا يف ظالم النفق حى يتوقف البحث عنهما.‏ اليوم يف

هذا النفق السرِّي جيب أن خيتفي مع األطفال،‏ لكن جيب أن يبلغ فتحة باب

الغدر قبل أن تدركهم تلك اخلطوات الثقيلة الي كانت تدكُّ‏ أحجار الطريق

خلفهم.‏

مصطفى كان يعرف هذه األزقَّة كظَ‏ هر كفِّه فاختار طريقً‏ متشعبً‏ حنو

الفتحة أمالً‏ يف أن يتوه عنهم مطاردوهم.‏ وملا باتت ثوانٍ‏ قصرية تفصلهم عن

تلك الفُتحة السرِّية مسع أصوات أقدام الطوّافني تقترب منهم أسرع وأسرع،‏

وعلى وشك أن تدركهم.‏

‏»كاشيار...‏ كاشيار«‏ كانوا يردِّدون مرَّة تلو مرَّة،‏ فترتد كلماهتم بني جنبات

األزقَّة.‏ ماذا كانت تعي تلك الكلمات؟ اخطفوهم؟ بيعوهم؟ اقتلوا أمَّهاهتم؟

اهنبوا بيوهتم؟ مصطفى كان يفهم بضع كلمات من لغة الطوَّافني من املدَّة

الي قضاها عند عنق الثور لكنه مل يكن يفهم معى تلك الكلمات.‏ انعطف

أخريًا حنو زقاق ‏)اللبان(،‏ فبان آخرَه السور.‏ لو أنه وصل إىل آخر هذا الزقاق

األخري حيث الفتحة السرية خلف كومة القش إىل اليمني على بعد أذرعٍ‏

قليلة،‏ فهل ينجح؟

قال لرجب وهو يركض:‏ ‏»امسعْ،‏ تدخل أنت كومة القشِّ‏ أوالً‏ ، وتنفذ من

الفُتحة الي خلفها،‏ مث أدفع أنا باألطفال إليك لتسحبهم داخل النفق«.‏

وصلوا إىل آخر الزقاق مث انعطفوا ميينًا،‏ فوجدوا كومة القشّ‏ . غطس رجب


فيها واختفى،‏ ومصطفى صار حيمل األطفال الواحد تلو اآلخر ويدسُّ‏ هم داخل

كومة القشّ‏ . مل يعرف كم طفالً‏ دفع داخل الكوم.‏ تسعة أم عشرة أم أكثر،‏

ولكن عندما جاء دوره أخريًا واندسَّ‏ داخل القشّ‏ . كانت اخلطوات الثقيلة قد

دنت من حيث قبع،‏ حى أوشكت أن تدوسه.‏ لو حترَّك مصطفى داخل الكوم

أُمنُلة واحدة الَ‏ هتزَّت الكومة ولرصده مطاردوه وعثروا عليهم.‏ جتمَّد مكانه.‏

دقَّات قلبه كانت تدقُّ‏ عاليةً‏ يف أذنيه حى خشي أن يسمعها جند الطوَّافني.‏

مسعهم يقولون كلمات غاضبة تشبه:‏ ‏»رسودري زيوين«.‏

تلك الكلمات كانت شتائم طاملا مسعها من عنق الثور.‏ اجلند كانوا غاضبني،‏

هل سيُمعِنون يف البحث؟ أم سينسحبون؟ انتظر ثواينَ‏ بدت له كأهنا ألف عام،‏

مث مسعهم يقولون:‏ ‏»شان...‏ شان«‏

بعد ذلك شعر خبطواهتم تبتعد.‏ انتظر املزيد من الوقت حى أطبق اهلدوء

على املكان،‏ مث أغمض عينيه،‏ وشقَّت ذراعاه طريقهما داخل القشِّ‏ تبحث عن

الفُتحة.‏ نفذت يداه حنو فضاء،‏ فعرف أنه وصل إليها.‏ سحبته كفُّ‏ رجب

خارج الكومة عر فتحة باب الغدر إىل جتويف السور وساعده على الوقوف.‏

الظالم كان سائدًا داخل جتويف السور،‏ لكن كفيْه تلمستا جداره احلجري

واستند إليه يلتقط أنفاسه.‏ أنامله كانت ترتعد.‏ أنفاسه تالحقت وركبتاه

ثقيلتان وكأهنما عالقتان يف اجلص.‏

اقتربت منه الطفلة الصغرية ذات الضفريتني الي سحبها من براثن

خمتطفها،‏ ودسَّ‏ ت كفَّها املرتعدة يف جيب قميصه تبحث عن األمان.‏ تبيّن

عينيها يف الظالم وابتسم.‏ لو مل ينقذ تلك الصغرية لعرفت طعم العبودية

الي تذوّقها مع أخته يف قعر سفينة عنق الثور.‏ ياليت لو كان بوسعه أن ينقذ

أخته كما أنقذ هذه الصغرية.‏

‏»جيب أن نبقى يف هذا النفق السرِّي مع األطفال حى حيلَّ‏ الظالم«‏ مهس

مصطفى لصاحبه.‏

أجابه رجب:‏ ‏»ماذا تراهم سيفعلون بأهل املدينة؟«.‏

14


15

مل جيبه مصطفى.‏ لن خير صاحبه ماذا يفعل الطوَّافون لدى دخوهلم

مدينة،‏ حى ال يُفزعه.‏ صحيح أن مصطفى مل تكن سنُّه تتجاوز تسع سنوات

عندما دخل الطوَّافون جزيرته جَ‏ رْبة،‏ لكنه ما زال يذكر كلَّ‏ شيء.‏ انزلق

بظهره حنو األسفل حى جلس على األرض فانزلقت معه الصغرية الي

كانت يدها ما تزال يف جيبه،‏ وجلست إىل جانبه.‏ سنُّها يف مثل سنِّ‏ أخته ليلة

اختطفهما عنق الثور.‏

ردَّد اسم أخته هامسً‏ ا:‏ ‏»سدرة املنتهى!«.‏

مل يتمكَّن من أن ينطق امسها بلسانه منذ افترقا،‏ فلماذا يتفوه به اآلن؟

كفٌّ‏ خفية عصرت قلبه بني أصابعها.‏ كان سنُّ‏ سدرة ليلةَ‏ الغزو سبع سنوات.‏

أوصدت أمُّه بوَّابة الفِناء حلظة دخول الطوَّافون جزيرة جَ‏ رْبة،‏ ودخَلَتْ‏ هبما

البيت مسرعةً.‏ استمعوا من داخل البيت إىل عنق الثور وهو حياول دكَّ‏ البوَّابة

برفساته،‏ لكنه عَجَ‏ ز.‏ بعد ثوانٍ‏ رأوا من خلف ستار النافذة رأسه وهو يظهر

أعلى السور،‏ فأدركوا أنه سرعان ما سيقفز فوق السور،‏ وسيقتحم مزنهلم.‏

أسرعت أمُّه ودسَّ‏ ته مع أخته داخل صُ‏ وَان املالبس اخلشي ومهست:‏ ‏»أنا

سأدافع عن بيتنا وعنكما أمّا أنتما فال تتحرَّكا وال تتلفَّظا حبرف واحد مهما

حصل ومهما جرى.‏ هل فهمتما؟«.‏

مث أمسكت بذقنه وقالت:‏ ‏»لو اكتشف الرجل مكانكما فاطعنه خبنجر أبيك

هذا«،‏ وفتحت يد مصطفى ودسَّ‏ ت فيها خنجرًا باردًا أملسَ‏ ثقيالً‏ .

قالت له:‏ ‏»اطعنه يف قلبه هنا«،‏ ومرَّرت أصبعيها على قلبه عدَّة مرَّات،‏

وأضافت:‏ ‏»القلب خلف الضلع متامًا،‏ هنا...‏ هنا مصطفى،‏ هل فهمت؟ جيب

أن تدافع عن أختك!‏ اطعنه هنا،‏ اطعنه بقوَّة!«.‏

مث قبل أن يتمكَّن مصطفى من أن جييبها بكلمة،‏ رمت فوقهما بطَّ‏ انية من

الصوف،‏ وأغلقت عليهما بابَي الصُّ‏ وَان.‏ أغلقتهما دون أن تودِّعهما بكلمة.‏ دون

ضمَّة،‏ أو قُبلة.‏ فقط أغلقت البابني،‏ مث...‏ ظالم!‏

البطَّ‏ انية فوقهما كانت تعبق برائحة الصنوبر.‏


‏»خذ قطعة خبز«.‏ مسع صوت الفتاة الصغرية ذات الضفريتني تقول فتقطع

عليه حبل ذكرياته،‏ مث أحسَّ‏ بيدها تدسُّ‏ اخلبز يف جيبه.‏

قضم قضمة صغرية وأعاد إليها الباقي.‏

سأهلا:‏ ‏»من أين لكِ‏ بشطرية اجلنب؟!«.‏

أجابته:‏ ‏»من جدَّيت.‏ هل تعيدين إىل جدَّيت؟ عندما أتأخُّ‏ ر عليها تقلق جدًّا«.‏

مصطفى مل يعرف أيًّا من جدَّتيْه.‏ اجلدَّات طيِّبات كاألمَّهات.‏ كيف يعيدها إىل

جدَّهتا دون أن يراهم الطوَّافون؟!‏ كيف يعيد كلَّ‏ هؤالء األطفال إىل ذويهم يف

مدينة ميأ األشرار أزقَّتها؟!‏

فكَّر ثواينَ‏ مث أجاهبا:‏ ‏»ما اسْ‏ مكِ‏ ؟«.‏

أجابته:‏ ‏»سوسن«.‏

قال:‏ ‏»أنا أعيدكِ‏ إىل جدَّتكِ‏ يا سوسن«.‏

- 5 -

ترك مصطفى األطفال مع رجب،‏ وعاد من فُتحة النفق إىل داخل كومة

القشّ‏ . ربض حتت كومة القشِّ‏ قليالً‏ حى تأكَّد له أنَّ‏ املكان حوله ساكن

متامًا،‏ مث بزغ من بني القشّ‏ وخرج.‏ لقد قرَّر أن يتسلل وجيد الشيخ أبا

الزين،‏ وخيره مبكان األطفال يف نفق برج احلراسة،‏ ويترك لشيخ املدينة همَّ‏

إعادهتم إىل بيوهتم ساملني.‏ انطلق متسربالً‏ بالظالم،‏ وصار يهمس لنفسه:‏

‏»لن يراك أحد يا مصطفى.‏ أنت أمسر والليلة مظلمة.‏ كنْ‏ شجاعً…‏ كن

شجاعً‏ مرة واحدة يف حياتك يافى!‏ «.

كرر تلك العبارة على نفسه عدة مرات فشعر ببعض الشجاعة تنبض يف

عروقه،‏ لكن ملا محل له نسيم البحر أصوات حرس الطوَّافني من أعلى السور

تالشت قوته وعاد سريعً‏ واختفى يف كومة القش.‏ شعر بنفسه أوهن من

هالل تلك الليلة يف آخر أيَّام صفر.‏ كان يعرف أنه جبان ومل يدّعِ‏ يومً‏ غري

ذلك،‏ لكن لو أنه يستجمع بضعة من شجاعة تكفيه فقط هلذه الليلة،‏ لتمكن

16


17

من إنقاذ هؤالء األوالد من براثن األوغاد مث يعود جبانً‏ قدر ما حيلو له.‏

فكر:‏ لو خرج اآلن فإن الظالم سيكون حليفه،‏ أما لو جنب وانتظر فسيأيت

الصباح،‏ وسيمتلئ الزقاق جبند الطوَّافني،‏ ولن يتمكن من االبتعاد ذراعً‏

واحدة قبل أن يأسروه ويعيدوه إىل حياة العبودية.‏

أدرك أنه مل يكن أمامه خيار فخرج من الكومة ثانية،‏ ونفض القشَّ‏ عن

مالبسه هبدوء،‏ مث الْتصق باجلدار ميشي على رؤوس أصابعه،‏ يتحرك خبفة

قط واختار أقصر طريق يصل به إىل اجلامع الكبري حيث سيجد الشيخ أبا

الزين،‏ لكنه مل يكد يقطع زقاق النجارين إىل رحبة صنع الشِّ‏ باك حى مسع

صوت أحذية اجلند تدك األرض قريبً‏ منه.‏ حترَّك مبتعدًا وغيّر طريقه على

الفور.‏ قلبه ارتفع حى البلعوم من الرعب.‏ أسرع اخلطى حى وصل إىل

سُ‏ باط احلمَّام ووجله.‏ ذلك الزقاق كان مسقوفً‏ يتلوَّى حى يصل إىل مركز

املدينة حيث اجلامع.‏ مل يكد يقطع نصفه حى مسع قهقهات وكلمات باللغة

الطوَّافية بلغت مسعه من جهة األمام.‏ تراجع عدة خطوات يريد االنسحاب

لكن أصواتً‏ مماثلة أدركته من خلفه.‏ لقد علق بني فكّي كماشة!‏ السُّ‏ باط كان

ضيِّقًا ال يكاد يسع شخصني،‏ وال مكان فيه لالختباء،‏ لو دق باب أحد البيوت

للفتتْ‏ دقاته األنظار إليه،‏ فماذا يفعل اآلن؟ أذنه صارت تنبض مع كلِّ‏ دقَّة

من دقَّات قلبه املتسارعة،‏ مث خطرت له فجأة فكرة.‏ وضع قدمًا على جدار

السُّباط عن ميينه،‏ وأخرى على اجلدار عن يساره،‏ وتسلَّق اجلدارين مبساعدة

ذراعيه كعنكبوت مذعور،‏ حى وصل إىل القوس احلجري الذي حيمل السقف،‏

وتذاوب يف ظلِّه.‏ جمموعتا اجلند تالقتا حتت قدميه متامًا.‏ نظر حنو األسفل

فوجد األذرع حممّلة باملتاع.‏ حدَّق فيما كانوا حيملونه:‏ سجَّ‏ ادًا،‏ وجَ‏ رَّارًا،‏

وصناديق،‏ ومالبس،‏ وسيوفًا...‏ سيوفًا كثرية كثرية!‏ اللصوص!‏ بعض الرجال

كان حبوزهتم أكواب ذهبية،‏ بل إنَّ‏ أحدهم ضاقت ذراعاه بغنائمه فشقّ‏ واجهة

عود مسني وقطّ‏ ع أوتاره،‏ وحشا بطن العود باملسروقات.‏ ينهب الطوّافون كلَّ‏

مكان حيلُّون فيه،‏ يسرقون منه كلَّ‏ النفائس.‏

جدار السُّ‏ باط اخلشن حكَّ‏ كفَّيْ‏ مصطفى وباطن رجليه،‏ وأحسَّ‏ بعضالته

تنذره بأن ختونه،‏ فيسقط يف أيِّ‏ حلظة.‏ بعد كثري من اهلمهمات والكلمات


غري املفهومة،‏ انفضَّ‏ الطوَّافون من حتته أخريًا،‏ وملّا حطَّ‏ على األرض،‏ شعر

بفخذيْه وكأهنما ختشَّ‏ بتا.‏ مل يكن قد تناول طعامًا أو شرابًا طَ‏ وال النهار،‏ عدا

قضمة اخلبز الي قدّمتها له سوسن الصغرية.‏ جرّ‏ قدميه املتعبتيْن وأكمل

وجهته حنو اجلامع.‏ البيوت املحاذية لأزقَّة كانت كلُّها مظلمة.‏ بعضها كانت

خترج منه أنَّات وأصوات بكاء،‏ وبعضها اآلخر كان صامتًا بكرياء.‏ الحت له

آخرَ‏ الزقاق مشاعل تتوهَّج قرب شجرة الزيتون ذات الفرعني.‏ أليس هذا

بيت احللواين حممَّد سيالة؟!‏ حدَّق جيِّدًا فرأى أبوابه ونوافذه مفتوحة،‏

والطوَّافون منتشرون داخله وحوله.‏ على الباب اصطفَّ‏ احللواين وزوجته

وخادمه وبنوه اخلمسة.‏ مصطفى كان يعرفهم جيِّدًا؛ فهذا احللواين كان

يعطيه كلَّ‏ يوم مجعة قطعة هريسة دمسة.‏ خرج جندي من الطوَّافني من

البيت حيمل عدَّة سيوف يف يده.‏ عدَّ‏ مصطفى النِّصَ‏ ال فوجدها ستَّة،‏ سيف

احللواين وسيوف بنيه.‏ تذكَّر السيوف الي كانت يف أيدي املجموعة الي

صادفها يف الزقاق أيضً‏ ا،‏ ففهم ماذا كان جيري...‏ الطوَّافون جيرِّدون املدينة

من سالحها!‏ مل يرَ‏ مصطفى صفاقسيًّا واحدًا يف جولته تلك يف األزقَّة؛ ال بدَّ‏

أنَّ‏ اجلميع حمكوم عليهم باملكوث القسري داخل دُورهم.‏ املدينة صارت حتت

حكم الطوَّافني،‏ وهم وحدهم الذين حيقُّ‏ هلم أن يتجوّلوا فيها هذه الليلة.‏

مصطفى كان الصفاقسي الوحيد حتت هذه النجوم الباهتة!‏ جفَّ‏ ريقه من

اخلوف.‏ ماذا سيفعلون به لو وجدوه؟ كيف يصل إىل حيث الشيخ أبو الزين

دون أن يراه كل هؤالء اجلنود املبعثرين يف كل مكان؟!‏

مسع صوت عجالت عربة تقترب من خلف الناصية،‏ متتزج بأصوات رجل

يغنِّي أغنية يتخلَّلها فُوَاق:‏ ‏»هئ … هئ…‏ هئ«.‏

عنق الثور كان يصيبه الفُوَاق أيضً‏ ا عندما كان يُكثِر من شرب اخلمر.‏ تطاول

بعنقه خلف الناصية ليستجلي األمر،‏ فرأى رجالً‏ على عربة جيرُّها محار،‏

ومتلؤها جرار مكتوب عليها كلمة ‏)زيت زيتون(.‏ الرجل على العربة كان

منحنيًا،‏ ذقنه يكاد يالمس ركبتيه،‏ يكبو من فرط ما سَ‏ كِر،‏ وقارورة تتدلَّى من

يده،‏ وقد أسلم أمره ملزاج احلمار يذهب به أين يشاء.‏ مزاج احلمار أين تراه

سيقوده؟ ظهرت على وجه مصطفى ابتسامة عريضة…هذا احلمار متجه

18


حنو اجلامع الكبري!‏ كلُّ‏ احلمري تعرف طريقها مبفردها حنو مدخل باب

اجلامع الكبري؛ ألهنا تنقُل البضائع كلَّ‏ يوم من البحر حى رحبة السوق على

باب اجلامع.‏ كلُّ‏ ما كان عليه هو أن يندسَّ‏ بني جرار تلك العربة،‏ وسيصل

إىل ضالَّته قريبًا دون أن يشعر أحد به.‏ تلفت حوله ألف مرة مث انطلق يف

حماذاة اجلدران آمِالً‏ أن تغمره بظالهلا وتستره.‏ قبع يتربَّص بالعربة وانتظر

اللحظة الي صارت فيها قريبة،‏ وقفز عليها باخلفَّة الي يفرُّ‏ هبا من قناديل

البحر حني يسبح مع رجب.‏ اندسَّ‏ بسرعة بني اجلِرَار الضخمة الي اكتظّ‏ ت

هبا العربة،‏ واختفى عن األنظار.‏ الدكاكني الي مرَّ‏ هبا احلمار كلُّها كانت

مفتوحة تعجُّ‏ بالطوَّافني،‏ متبعثرةً‏ أغراضُ‏ ها يف كلِّ‏ مكان.‏ السالل كانت مثقوبة،‏

والصناديق تكسَّ‏ رت،‏ والزجاج هتشَّ‏ م،‏ واألقمشة الي كانت تظلِّل مداخل املتاجر

متزَّقت،‏ وانسدلت ترفرف مع نسيم البحر املثقل مبرارة اهلزمية.‏ أبواب

املتاجر كانت يَصْ‏ فِقَها اهلواء بشدَّة،‏ بعد أن تُصدِر أزيزًا طويالً‏ ميأ اآلذان.‏

ماذا فعل الطوَّافون بصفاقس احلبيبة؟!‏ من بني اجلِرَار اختلس النظر إىل

ثالثة منهم مرَّت العربة مبحاذاهتم.‏ كانوا يتجاذبون ما اغتصبوه ويتدافعون،‏

ويشتمون ويبصقون.‏ انتبهوا إىل عربة اجلرار فأسرعوا حنوها وأوقفوها!‏ قبع

مصطفى بصمت وقد أوقف أنفاسه.‏ مسع صوت جرة تُجَ‏ رُّ‏ على أرض العربة

مث أخرى.‏ هل سيفتشون العربة؟ هل عرفوا بشأنه؟ سواق العربة املنتشي صار

يكرر بغضب:‏ ‏»زندبيار…زندبيار!!!«.‏ سحب األشقياء جرّة ثالثة فبلل العرق

جبني مصطفى.‏ لو سحبوا جرة أخرى لعثروا عليه!‏ بعد ذلك مسع صوت

هتشم زجاج وصوت السكري يرغي ويزبد،‏ وصوت خنجر ينسلّ!‏ مث حتركت

العربة من جديد.‏ ال بد أنه رمى القارورة عليهم وهددهم باخلنجر فأرسلوا

العربة وهم يضحكون.‏ مل يتنفس الصعداء حى ابتعد مبا يكفي عن الثالثة،‏

واختفت أصواهتم.‏ ماذا عسى أمُه تظن به اليوم لو رأته خمتبئًا مثل سلطعان

يرجتف بني جِ‏ رَار مكتوب عليها ‏)زيت زيتون(،‏ على عربة يقودها مزاج محار

ويغي عليها جندي سكران؟ أمه الي كانت آخر كلماهتا سأدافع عنكما وعن

بيتنا،‏ وآخر ما محلته يف يدها كان سكينًا قالت ما قالته مث أخفته مع أخته

يف الصُّ‏ وَ‏ ان العتيق،‏ وهناك قبع مع أخته وبعد حلظات طويلة من صمت مملوء

بالتوجس،‏ انكسر زجاج النافذة ومسع صوت أمِّه تقول للدخيل:‏ ‏»ماذا تريد؟!‏

19


اذهب من هنا!«.‏ عراك قصري وقع،‏ ختلَّلته صرخات عنق الثور وأمِّه يف أثناء

ما كان واضحً‏ ا أنه اشتباك غري متكافئ.‏ فكر ألف مرة أن يرفس باب الصوّان

بقدمه وخيرج ويطعن ذلك الدخيل باخلنجر الذي أعطته إياه أمه،‏ لكنه مل

يفعل.‏ هل ألنه كان صغريًا يف التاسعة من عمره فقط؟ اآلن كر أربع سنوات

كاملة فلماذا ال يزال خيتبئ؟!‏ العلة ليست يف صغر سنه،‏ العلة يف جبنه!‏ بعد

ذلك،‏ مل يعد يسمع صوت أمِّه.‏ قبع مع ‏»سدرة«‏ يلفّه ظالم البطَّ‏ انية،‏ وظالم

الصُّ‏ وان،‏ وظالم اخلوف،‏ ساكنَيْن يستمعان للرجل وهو يغنِّي:‏ ‏»كونيه ناركيز

هارير دوري مانيا«‏ مرَّة تلو مرَّة،‏ وهو يقلِّب أغراض البيت قطعة قطعة…‏

ومع كلِّ‏ قطعة انقلبت،‏ مصطفى كان يسأل نفسه:‏ أين أمي؟ وفجأةً…‏

انفتح باب الصُّ‏ وَان بأزيز طويل مأ أذنيه،‏ وانكشفت البطَّ‏ انية من فوقهما.‏

احتاجت عينا مصطفى إىل ثوانٍ‏ كي تعتادا ضوء قناديل اجلدار املضاءة على

جدار الغرفة،‏ وعندما اعتادتا النور،‏ كان أول ما وقع نظره عليه كان…‏ أمَّه!‏

أمّه مرمية على األرض غارقة يف بركة من دم،‏ وأصابعها مُطبِقة على سكِّني

اخلبز.‏ اخلنجر الذي كانت أمُّه قد دسَّ‏ ته يف يده أفلت من أصابعه الي

شلّها الرعب،‏ ووقع على أرض الصُّ‏ وَان،‏ مُحدِثًا لدى ارتطامه باخلشب العتيق

صوتًا عميقًا.‏ رجل حباجبني كثيفني وحلية كثَّة،‏ على رأسه ما يشبه القمع،‏

شدَّ‏ مصطفى وأخته من مالبسهما خارج الصُّ‏ وَان،‏ ورمى هبما أرضً‏ ا.‏ الْتقط

الرجل اخلنجر يتأمَّله بابتسامة ساخرة وهو ميرِّر أطراف أنامله على نصل

اخلنجر.‏ كيف أفلت مصطفى اخلنجر من يده؟!‏ كيف فوَّت عليهما فرصة

جناهتما الوحيدة؟!‏

ما أجبنه!‏ ما أجبنه!‏

منذ تلك اللحظة صار مصطفى وأخته عبدين يف سفينة ذلك الرجل،‏ ومع أنَّ‏

مصطفى متكَّن من الفرار بعد عامني من تلك الليلة احلزينة،‏ فإنَّ‏ أخته ما

زالت جارية يف تلك السفينة املشؤومة،‏ ربَّما حى اليوم.‏ عضَّ‏ مصطفى على

شفتيه فأحس مبلوحة الدم على طرف لسانه.‏

20


21

الحت له مئذنة اجلامع من خلف البيوت فنفض عنه ذكرياته.‏ اقتربت العربة

من الرحبة على بوابة اجلامع فقفز عنها مصطفى باخلفّة الي امتطاها

هبا،‏ واختبأ خلف شجرة الكينا هناك،‏ ومكث برهة يراقب احلمار يدور حول

الرحبة،‏ مث يعود من الطريق الذي جاء منه.‏ ملا اختفت العربة اتَّجه سريعًا

حنو اجلامع.‏ ألقى نظرةً‏ حنو مدخله فلم يبدُ‏ عليه أنَّ‏ الطوَّافني اقتربوا منه.‏

هذا اجلامع عزيز جدًّا على أهل صفاقس،‏ وربَّما جتنَّب الطوَّافون اقتحامه

خوفًا من غضب أهل صفاقس وانتقامهم.‏ صحيح أنه مل يستطع إنقاذ أخته

يف تلك الليلة لكنه اليوم سينقذ هؤالء األطفال،‏ وحان الوقت الذي جيد فيه

الشيخ أبا الزين،‏ ويكلِّمه.‏

- 6 -

حلظة أن دخل مصطفى من الباب اتَّجه حنو امليضأة وشرب منها حى ارتوى.‏

الظمأ فتك به حى شعر وكأنه مل يشرب نقطة ماء واحدة منذ عتبت قدماه

صفاقس قبل عامني.‏ توضَّ‏ أ أوالً‏ مث انطلق يبحث عن الشيخ.‏ صحن اجلامع

كان فارغًا،‏ لكنَّ‏ أصواتًا خافتة وصلت إىل أذنيه من داخل بناء اجلامع.‏ أسرع

مصطفى،‏ وهناك رأى جمموعة من األهايل قائمني يصلُّون.‏ كان صوت الشيخ

أيب الزين يقول:‏ ‏»اللهم أبدهلم دارًا خريًا من دارهم،‏ وأهالً‏ خريًا من أهلهم«.‏

قال الناس من خلف الشيخ أيب الزين:‏ ‏»آمني«.‏

مث الْتفت الشيخ إىل ميينه وقال:‏ ‏»السالم عليكم ورمحة اهلل وبركاته«،‏ ومل

يلتفت شِ‏ ماالً‏ .

تسليمة واحدة والناس قيام؟ إهنا صالة على امليِّت!‏ اندسَّ‏ مصطفى بني

صفوف املصلِّني،‏ واتَّجه حنو الصفِّ‏ األمامي ليتيقّن.‏ لقد كان حمقًّا.‏ توابيت

كثرية كثرية مأت نصف اجلامع من جهة املحراب!‏ كلُّ‏ هؤالء القتلى؟!‏

قال رجل مسنٌّ‏ يف الصفِّ‏ األول:‏ ‏»خِ‏ يار رجال مدينتنا وعلمائنا!‏ استُشهدوا

مجيعهم اليوم وهم يدافعون عنَّا.‏ ما تبقّى أحد ليقف يف وجه الطوَّافني بعد

اليوم!«‏


اعتلت أصوات النحيب فقاطعها الشيخ أبو الزين وقال:‏ ‏»بل سندحرهم

وسنطردهم بعيدًا عن ديارنا«.‏

شقَّ‏ مصطفى طريقه بني الصفوف حى وصل إىل الشيخ وقال:‏ ‏»سيِّدي،‏

اليوم عندما اشتدَّت املعركة مجعت أطفاالً‏ كانوا خارج السور،‏ وعدْتُ‏ هبم إىل

املدينة.‏ حاول بعض اجلنود أسرنا لكي هربت هبم وخبَّأهتم يف نفق باب الغدر

داخل السور بعيدًا عن األعني«.‏

صار الناس من حوله يردّدون:‏ ‏»اهلل أكر!‏ اهلل أكر!«.‏

رجل تدلَّت قَلَنْسُ‏ وة على كتفيه كان جالسً‏ ا فحبا على ركبتيه وكفَّيه خبطواتٍ‏

متسارعةٍ،‏ قبل أن يقوم ويقترب من مصطفى ويسأله:‏ ‏»هل فيهم ابي؟ طفل

امسه جعفر؟«.‏

تذكَّر مصطفى الرجل،‏ كان سرَّاجا يف اجلامع،‏ يُوقِد املصابيح الواحد تلو

اآلخر عند املغرب،‏ مث يطفئها بعد العشاء.‏

أجاب مصطفى:‏ ‏»مل أسأهلم عن أمسائهم.‏ هم عشرة أطفال أو أكثر قليالً‏ «.

سأله الرجل:‏ ‏»شعره أجعد أشقر،‏ طويل وحنيل«.‏

ابتلع مصطفى ريقه.‏ مل يكن يذكر تفاصيل أيٍّ‏ من األطفال.‏ ماذا خير أباه

املسكني؟

أجابه:‏ ‏»الظالم يف النفق دامس،‏ ومل أتبيَّن وجه أحد من األطفال.‏ عسى أن

يكون بينهم.‏ ال تقلق يا عمّ«.‏

مث دنا منه طفل ممتلئ اجلسم،‏ وشدَّ‏ على معصمه بقوَّة وسأله هو اآلخر:‏

‏»وأخي؟ امسها سوسن.‏ هل هي معكم؟«.‏

تأمَّل مصطفى وجه ذلك األخ.‏ إنه يعرف قلق األخ على أخته.‏ ابتسم وأجابه:‏

‏»سوسن معنا.‏ ال تقلق«.‏

أغمض الفى عينيه وصار يردِّد:‏ ‏»احلمد اهلل!‏ احلمد هلل!«،‏ يف احلال توالت

22


23

تكبريات الفَرِحة من الرجال يف اجلامع،‏ وجتمَّع حول مصطفى آباء وأمَّهات

كثريون،‏ كلٌّ‏ يسأل عن طفله.‏ أعدادهم كانت أكثر من عدد األطفال الذين

أنقذهم.‏ أطرق حنو األرض يتأمَّل أصابع قدميه املتَّسخة.‏ أين ذهب أطفال

كلِّ‏ هؤالء الناس؟

تدخل الشيخ أبو الزين لنجدته وقال:‏ ‏»لقد قال لكم أنه مل حيفظ وجه أحد

من األوالد،‏ ومل يعرف أمساءهم.‏ هيَّا نُعد األطفال هنا،‏ ووقتَئذ تطمئنُّون على

أوالدكم«.‏

صوت نسائي من بعيد سأل:‏ ‏»الطوَّافون«‏ ينتشرون يف األزقة يسرقون وحيرقون.‏

سيأسرون كلَّ‏ مَن يرونه يف درهبم،‏ فكيف ننقذ أطفالنا؟!«.‏

ساد صمت بعد سؤال املرأة،‏ فتقدَّم احلسن اللوزي ابن الشيخ أيب الزين إليها

وأجاهبا:‏ ‏»لديَّ‏ طريقة«.‏

بعد ذلك بنصف ساعة كان عشرة من الشباب يصَ‏ عدون سطح بيت الشيخ أيب

الزين املجاور للجامع خبفة،‏ ومصطفى بالطبع كان يف مقدمتهم.‏ خطَّ‏ ة احلسن

اللوزي الي اقترحها كانت ذكية وبسيطة،‏ وافق عليها اجلميع.‏ سيقفزون من

سطح دار إىل سطح دار حى يصلوا إىل السور،‏ ومن هناك سيدخلون باب

الغدر وحيملون األطفال،‏ ويعودون هبم على األكتاف قفزًا على األسطح،‏ حى

يصلوا إىل اجلامع.‏ الشيخ قال:‏ إهنا حقًّا خطَّ‏ ة ذكية وبسيطة،‏ بشرط أالَّ‏ يقع

أحد منهم بسبب قفزة فيدقَّ‏ عنقَه.‏ البيوت يف صفاقس تتَّصل أسطحها أو

تكاد.‏ لو الْتزموا اهلدوء واحلذر فسينجحون.‏ مل يكن يعرف من مرافقيه إالَّ‏

احلسن ابن الشيخ وأخا سوسن ذات الضفريتني،‏ والذي فهم منه أنَّ‏ امسه

متيم.‏ يف يد مصطفى تدلّى كيس من اخلبز،‏ مربوط حول عنقه حببل طويل.‏

مرَّر مصطفى احلبل من كتفه األمين حى خصره األيسر،‏ خمافة أن يقع

الكيس منه عندما يقفز.‏ مل يكن الكيس ثقيالً‏ ، على عكس قِربة املاء اجللدية

الي تطوع احلسن اللوزي أن حيملها.‏ اخلبز واملاء أحضرهتما املرأة الي

كانت يف اجلامع لأوالد،‏ عندما عرفت أهنم منذ الصباح بال طعام أو شراب.‏

أمُّ‏ مصطفى كانت تُعِدُّ‏ له شطائر زيتون نزعت منه النوى،‏ مع شرائح من


جنب غنم يقطر منه الدسم.‏ إنه يشتاق إليها كثريًا،‏ ولكنه هذه الليلة جيب

أن يركِّز يف مهمَّته،‏ وينفض كلَّ‏ الذكريات املوجعة عن خميِّلته.‏ تراجع خطوات

قليلة إىل اخللف،‏ مث ركض بسرعة،‏ ورمى بنفسه باتِّجاه السطح املجاور،‏ وحلق

به باقي الفتيان.‏ قفزوا إىل سطح تلو اآلخر،‏ حى وصلوا إىل سطح كبري

مربَّع تتوسَّ‏ طه فسحة مفتوحة.‏

قال احلسن اللوزي:‏ ‏»هذا فندق الدوابّ‏ «.

ابتسم مصطفى كعادته كلَّما مسع هبذا االسم يذكرونه أمامه.‏ الدوابُّ‏ تنام

يف فندق مع البشر،‏ يف حني ينام هو ورجب يف زريبة للدوابّ‏ كلَّ‏ ليلة.‏ أكثر

من مرَّة تطوَّع لرعايتهما بعضُ‏ أهايل املدينة،‏ لكنهما رفضا.‏ تطوعت العجوز

ذات األسنان الثالث،‏ و“أبو عقلة“‏ دليل القوافل يف الصحراء الذي مل يرزقه

اهلل األوالد،‏ وغريمها كثري،‏ لكن مصطفى بعد عبودية دامت سنوات أصرَّ‏

على أن يبقى أمري نفسه حرًّا كطائر ولو أن ذلك يعي أن ينام يف زريبة.‏ همَّ‏

احلسن اللوزي أن يقفز حنو سطح الفندق،‏ لكنَّ‏ مصطفى استوقفه ومهس له

ولآلخرين:‏ ‏»الطوَّافون ميلؤون الفندق.‏ رأيتهم يف طريقي إىل اجلامع.‏ جيب

أن نكون حذرين«.‏

شدَّ‏ احلسن على قبضته من الغيظ؛ فهؤالء األوغاد دنَّسوا جوانب املدينة

كلها.‏

فِناء كبري كان يتوسَّ‏ ط الفندق،‏ حتيط به أروقة،‏ وعلى هذه األروقة تُطلُّ‏

حجرات صغرية نصف دائرية،‏ يربط فيها التجَّ‏ ار اإلبلَ‏ ويكدِّسون قرهبا

البضائع،‏ أما يف الطابق العلوي فتقع غرف الزنالء أصحاب الدوابّ‏ . سُ‏ قُف

تلك الغرف كانت مصنوعة من اخلشب والتنب،‏ واملشي فوقها قد يُحدِث

صوتًا.‏ مصطفى كان يتطفَّل مع رجب على سطح هذا النُّزُل أحيانًا،‏ ليأخذا

من البيض الشهي لسرب احلمام الذي اتَّخذ هذا السطح مزنالً‏ له.‏

قال مصطفى:‏ ‏»سأقفز أنا أوالً‏ ؛ ألين أعرف طريقي على سقف الفندق جيِّدًا.‏

بعض أعمدة اخلشب فيه تُصدِر صوتًا،‏ وجيب أن نتجنبها.‏ أنا آيت هنا دائمًا«.‏

وافقته املجموعة،‏ فقفز وسلك اخلطَّ‏ الذي اعتاده،‏ وتتبَّع خطاه اجلميع.‏

24


25

الوقت كان آخر الصيف،‏ والنوافذ لسوء حظِّ‏ مصطفى وأصحابه كانت كلُّها

مفتوحة.‏ صوت شخري عالٍ‏ كان ميأ اهلواء،‏ وجيعل خفافيش الليل حتوم

بزنق.‏ عندما قفز متيم أصدر ارتطامه بسطح الفندق صوتًا عاليًا.‏ توقَّف

الشخري،‏ مث مسعوا صوتًا من داخل إحدى الغرف يقول:‏ ‏»يا بازوم«،‏ فأجابه

متيم دون تفكري:‏ ‏»ميااااااااووووووو...‏ مياااااو«.‏

مههم الصوت بكلمات مل يفهمها أحد،‏ مث عاد الشخري من جديد.‏ ابتسم

متيم هلم،‏ فهمس له مصطفى:‏ ‏»ميياااوو عليك ورمحة اهلل وبركاته!«،‏ فلكزه

احلسن يف كتفه وهو خيفي ابتسامته.‏

بعد سطح احلمّام أكمل مصطفى وصحبه رحلتهم يقفزون من سطح إىل آخر،‏

حى وصلوا إىل سطح دكان النسَّ‏ اج أيب بدر،‏ املقابل لكومة القشّ‏ .

مهس احلسن اللوزي:‏ ‏»الطوَّافون استولَوا على السور،‏ وحرُّاسهم يذرعونه

من األعلى ذهابًا وإيابًا.‏ لننبطحْ‏ على أرض السطح مبحاذاة احلافَة كي ال

يرانا هذا احلارس هناك،‏ وبعد أن ميرّ‏ أقفز أنا ومصطفى حنو الزقاق ونعود

باألطفال.‏ الباقون ينتظرون هنا«.‏

هز اجلميع رؤوسهم موافقني على اخلُطَّ‏ ة،‏ وتربَّصوا ينتظرون.‏ بعد دقائق مرَّ‏

أحد احلراس من أعلى السور يدندن بأغنية حزينة.‏ انتظَ‏ روا حلظات حى

تالشى صوت دندنته،‏ مث اقترب مصطفى واحلسن من احلافَة يهمَّان بأن

يقفزا.‏

قال متيم:‏ ‏»سآيت معكما،‏ لن أطيق صرًا هنا«.‏

هزّ‏ احلسن رأسه موافقً،‏ وقفز الثالثة حنو الزقاق،‏ والذوا سريعً‏ بكومة القشّ‏ ،

يف حني انتظرهم الباقون على سطح دكان النسَّ‏ اج.‏ عندما دخل مصطفى ومَن

معه النفق كان،‏ الظالم خميِّمًا،‏ والسكون ثقيل يصمَّ‏ أذين مصطفى!‏

ال أحد هنا؟ هل عثر احلرَّاس على األطفال يف غيابه؟

مهس بصوت متقطِّ‏ ع من اخلوف:‏ ‏»رجب...‏ رجب أيُّها املتشرِّد!«.‏


شعر برفسة على قفاه وجاءه صوت رجب يقول:‏ ‏»أنت املتشرِّد،‏ يا متشرِّد!«.‏

ضمَّ‏ مصطفى صاحبه الذي قال له:‏ ‏»جفَّ‏ دمي يف عروقي؛ ظننت أنكم حرَّاس

من الطوَّافني!‏ يا أمحق…أعطي إشارة تدل أنك أنت«.‏

أجابه مصطفى:‏ ‏»أنا من جفّ‏ دمه يف عروقه.‏ اعتقدت أن الطوَّافني عثروا

عليكم.‏ يا أمحق…كان عليك أن تعطي إشارة أنكم يف الداخل“.‏

رفسة أخرى أصابت مصطفى بالقفا مع صوت رجب يقول:‏ ‏»تأخرتَ‏ كثريًا!«.‏

أجابه مصطفى:‏ ‏»هل قلقت عليّ؟«.‏

ردَّ‏ رجب وهو يسحب قطعة خبز من الكيس على خصر مصطفى:‏ ‏»بل جعت«.‏

تذكَّر مصطفى اخلبز فوزَّعه على األطفال بعد أن طبع رفسة على قفا رجب

دومنا تأخري.‏

من بني طيَّات الظالم جاء صوت متيم ينادي:‏ ‏»سوسن...‏ أنا متيم...‏ سوسن«،‏

فردَّت أخته:‏ ‏»متيم!«،‏ مث شعر هبا تركض حنو أخيها وحيملها.‏ مل يتبيَّن يف

الظالم تعابري وجه متيم،‏ لكنه ختيَّلها.‏ ال بدَّ‏ أنه فخور بنفسه؛ ألنه مل يتخلَّ‏

عن أخته بل أنقذها.‏ شعر مصطفى بأظافره حتفر يف راحة يده دون قصد!‏

قال رجب:‏ ‏»األطفال كادوا يُفقدوني رشدي.‏ نصفهم جاع ونصفهم عطش،‏

ونصفهم أراد التبوُّل.‏ أُرسلك يف مَهمَّة حتتاج إىل ساعة،‏ فتغيب ساعات؟!«.‏

أجابه مصطفى:‏ ‏»اغتسلت وأكلت ومنت قليالً‏ ، مث فركت أصابع قدمَيّ،‏

وأخريًا...«،‏ مث خشي أن يُعاجله رجب بلكزة فضحك وأكمل:‏ ‏»الطوَّافون يف كلِّ‏

مكان يا رجل«.‏

فربّت رجب بكفّه على كتف مصطفى وقال:‏ ‏»مصطفى...‏ ما أشجعك!‏

أحسنت!«.‏

ما أشجعه؟ ابتسم مصطفى.‏ لن خير صاحبه مبدى خوفه،‏ وكيف كانت

فرائصه ترتعد وهو يتسلَّل يف تلك األزقَّة.‏ صيت شجاعة،‏ وال صيت جنب!‏ هدأ

26


27

اجلميع بالتدريج مث أعطى احلسن األوامر بالعودة؛ فتسلل مصطفى إىل كومة

القشِّ‏ وقبع ينتظر إشارة من الشباب على سطح دكان النسَّ‏ اج ليستدل منها أنَّ‏

احلارس على السور قد ابتعد،‏ وملّا رآهم يلوِّحون له بدأت رحلة العودة.‏ رجب

ومتيم بدآ يناوالن مصطفى األطفال تباعًا،‏ الواحد خلف اآلخر من النفق إىل

كومة القشّ‏ أما مصطفى فكان يسلمهم إىل احلسن الذي متركز أسفل جدار

النسّ‏ اج.‏ دلَّى الفتيان الذين كانوا على السطح واحدًا منهم خفيف الوزن من

قدميه،‏ كي يتَّخذه األطفال سلَّمًا بشريًّا يتشبَّثون به،‏ بعد أن يرفعهم احلسن

عاليًا حنوه.‏ التقط الشباب على السطح األطفال الواحد تلو اآلخر،‏ ومل متضِ‏

دقائق حى كان اجلميع على سطح النسَّ‏ اج من جديد.‏

قال احلسن ملصطفى ورجب:‏ ‏»أنتما صغريان؛ ال حتمال األطفال.‏ وزهنم ثقيل

عليكما.‏ قد تقعان هبم عندما تقفزون عن األسطح«.‏

وانتظر مصطفى ورجب جانبً‏ حى محل كلُّ‏ شابٍّ‏ طفالً‏ على ظهره،‏ ومحل

متيم بالطبع أخته.‏ بقي طفالن فقط مل جيدا من حيملهما،‏ الحظ مصطفى

أن أحدمها كان شعره أشقر جَ‏ عْدًا،‏ طويالً‏ وحنيالً‏ . هل تراه يكون جعفرًا،‏

الطفل الذي كان يسأل عنه أبوه سرَّاج اجلامع؟

أسرع مصطفى حنوه وسأله:‏ ‏»هل أنت جعفر؟«.‏

فأجابه:‏ ‏»نعم«.‏

ابتسم مصطفى وقال:‏ ‏»أبوك بانتظارك يف اجلامع الكبري«.‏

جعفر كان أصغر قليالً‏ من مصطفى،‏ ومل يكن حيتاج إىل أن حيمله أحد،‏ لكنَّ‏

الطفل اآلخر كان صغريًا جدًّا.‏ قلب شفتيه وهمَّ‏ أن يبكي؛ فأسرع مصطفى

قبل أن يفضحهم ومحله وقال:‏ ‏»ال ختف.‏ أنا أمحلك«.‏

مث الْتفت حنو أصحابه وقال:‏ ‏»لنذهبْ‏ يف طريق العودة من سطح محَّام

النعيم،‏ كي ال منرَّ‏ على سطح الفندق مرَّةً‏ أخرى.‏ األطفال على ظهورنا قد

يُصدِرون صوتًا فيتنبَّه لنا نزالء الفندق.‏ الْحقوا يب من هنا«.‏

وافقه اجلميع وانطلقوا عائدين،‏ خيوط فضِّ‏ ية من هالل منكسر ارتسمت


حوهلم،‏ جمموعة من فتيان شجعان،‏ يتشبَّث بأكتافهم أطفال صغار،‏ حيثون

الطريق حنو األمان.‏

تقدمهم مصطفى.‏ الطفل على كتفيه مل يكن ثرثارًا،‏ ومل حيسن إالَّ‏ االبتسام.‏

كان مصطفى كلَّما قفز من سطح إىل آخر متسَّ‏ ك الولد بأذنيه،‏ وشهق شهقة

مكتومة.‏

قال له مصطفى:‏ ‏»لن أُوقعك،‏ ال ختف«.‏

فأجابه:‏ ‏»ال أخاف،‏ لكنَّ‏ وجنيّ‏ تردان«.‏

كادت تفلت من مصطفى ضحكة لكنه كتمها.‏ ما أمجل األطفال!‏ هكذا جيب

أن يقضوا طفولتهم،‏ حممولني على األكتاف،‏ تداعبُ‏ وجناتِهم النسمات.‏ ملاذا

يضعون يف رقاهبم أطواق العبودية فيمضون طفولتهم يكنسون ويدعكون مسك

املَرجان بالزعفران،‏ ويتلقَّون ضربات من سوط جلدي لئيم عند كل هفوة؟!‏

عندما ظهر سطح محَّام النعيم فوجئ مصطفى بأنه كان مُضاءً‏ تتصاعد منه

القهقهات.‏ الطوَّافون،‏ ال بدَّ‏ أهنم جاؤوا يَشغلونه هو أيضً‏ هذه الليلة.‏ كيف

فات مصطفى هذا؟ احلمَّامات العربية حيلم باالستحمام فيها كلُّ‏ من يسمع

عنها.‏ نظر حنو احلسن،‏ فوجده يضع سبَّابته على شفتيه كي يصمت اجلميع

مث يشري إىل مصطفى بذراعه أن ميضي قدمًا.‏ تراجع مصطفى عدَّة خطوات

ومتتم:‏ ‏»بسم اهلل«،‏ مث ركض وقفز فحطّ‏ على سطح احلمام بسالم،‏ وتبعه

أفراد جمموعته الواحد تلو اآلخر.‏ وصل مصطفى إىل قبَّة احلمَّام،‏ فرأى

النافذة الي جبانبها مُضاءةً.‏ أنزل الطفل الصغري من على ظهره وركع على

أربع،‏ وصار يزحف حريصً‏ ا على أن يبقى رأسه حتت مستوى النافذة،‏ والصغري

يزحف أمامه،‏ حى جتاوزاها.‏

مهس الصغري:‏ ‏»أحبُّ‏ هذه اللعبة«.‏

أشار مصطفى بأصابعه إىل شفتيه كي يصمت الصغري،‏ فهزَّ‏ رأسه موافقًا.‏

أراد مصطفى أن يكمل طريقه،‏ لكنَّ‏ كلماتٍ‏ خرجت من نافذة قبَّة احلمَّام

استرعت انتباهه.‏ انتصب واقفًا،‏ وألصق وجهه بالقبَّة،‏ واقترب من النافذة،‏

28


29

وأصاخ السمع جيِّدًا،‏ فسمع صوتًا يقول:‏ ‏»جو لينفي كاو ليكويت«.‏

اتسعت عينا مصطفى من الرعب.‏ هذه اجلملة كان مصطفى حيفظها عن

ظهر قلب،‏ فعنق الثور كان يهدِّده هو وأخته هبا ليل هنار.‏ حاول أن ينظر

من طرف النافذة،‏ لكنَّ‏ خبار املاء كان ميأ احلمَّام.‏ تنصّ‏ ت من جديد فسمع

اجلملة نفسها:‏ ‏»جو لينفي كاو ليكويت«.‏

ختدَّرت أصابع مصطفى على الزجاج الذي غشيه البخار،‏ وشَ‏ لَّت حركته متامًا.‏

زحف إليه احلسن وشدَّه من ثيابه حى نزل على ركبتيه،‏ وسأله:‏ ‏»ما بك؟!«.‏

أجابه مصطفى:‏ ‏»أظنُّ‏ أنَّ‏ الطوَّافني سوف...‏ سوف يرمون أسرانا يف عُرْض

البحر!«.‏

- 7 -

عندما دخل مصطفى ورجب مع األطفال من باب اجلامع،‏ صدحت التكبريات

من كلِّ‏ جوانبه.‏ هال مصطفى عددُ‏ اآلباء واألمَّهات يف اجلامع.‏ يبدو أنَّ‏ اخلر

ذاع يف غَيبتهم عن أطفال عُثر عليهم،‏ فغامر األهايل وجاؤوا إىل اجلامع أمالً‏

يف أن يكون أطفاهلم بني هؤالء املحظوظني.‏

مشى مصطفى بني غابة من األذرع تربِّت على كتفيْه وتدقُّ‏ على ظهره.‏ افتقد

رجبًا قربه،‏ فبحث عنه يف أرجاء اجلامع حى وجده مستندًا إىل اجلدار

يف العمق،‏ يراقب من بعيد.‏ رجب أمضى أكثر عمره يف الطرقات بعد غرق

سفينة أبويه وهي عائدة من احلجّ،‏ وبينه وبني األهايل وقعت مشادَّات كثرية

يف املاضي،‏ لذلك كان دائمًا يتجنَّب االختالط بالناس.‏

استند أبو بالل الكفيف إىل عكَّازه بيد،‏ وعانق بيده األخرى طفلةً‏ كانت بني

األطفال.‏ تذكَّر مصطفى أنَّ‏ هذه الطفلة كانت حفيدته.‏ بنت مسراء بثوب

أصفر.‏ أبو بالل كان مؤذِّن اجلامع،‏ وحفيدته هي عيناه على الدنيا.‏ مل يتذكَّر

مصطفى هُويتها حى رآها بني ذراعَيْ‏ جدِّها.‏ بعض األهال اآلخرون عثروا

على أطفاهلم فمأت هتافاهتم أركان اجلامع.‏ اقترب منه الرجل ذو القَلَنْسُ‏ وة

ومعه جعفر ذو الشعر األجعد األشقر،‏ وقال ملصطفى:‏ ‏»لن أنسى لك فضلك


ما حييت«،‏ مث مدَّ‏ إليه يده ليصافحه،‏ فصافحه مصطفى.‏

قاطعتهما أمٌّ‏ شابَّة لفَّت وشاحً‏ ا خمطَّ‏ طً‏ ا حوهلا،‏ وسألته:‏ ‏»هل كان معك بنتان

توأمان على أنفيهما منش؟«.‏

هزَّ‏ مصطفى هلا رأسه بالنفي،‏ فخرَّت على ركبتيها تبكي،‏ وجتمَّع الناس حوهلا

يواسوهنا.‏ كثريون غريها مل جيدوا أطفاهلم تعالت أيضً‏ ا شهقاهتم وأصوات

بكائهم.‏ مشاعر خمتلطة غمرت مصطفى.‏ مزيج من الفرح ملن عثر على

أوالده،‏ واألسى على مَن افتقدهم.‏ مل يدرِ‏ ملاذا صار صدره ينتفخ ويتسطَّ‏ ح

وينتفخ ويتسطَّ‏ ح بسرعة؟!‏ مث فرَّت الدموع من عينيه.‏ أحسَّ‏ بكفٍّ‏ دافئة على

كتفه،‏ فرفع رأسه ليجد الشيخ أبا الزين واقفًا ينظر إليه وذراعه األخرى على

كتف رجب.‏

قال هلما الشيخ:‏ ‏»جزاكما اهلل عن هؤالء األطفال كلَّ‏ خري يا مصطفى أنت

ورجب.‏ لقد فعلتما ما يف وسعكما بل أكثر«.‏

أجاب مصطفى خبجل:‏ ‏»الطوَّافون يف احلمَّام يقولون أهنم سريمون األسرى

الذين يف أيديهم يف البحر!«.‏

مل يكن صوت مصطفى مرتفعًا،‏ لكنه كان واقفًا قرب السُّ‏ دَّة،‏ فتوزَّع صوته

على أرجاء اجلامع بسبب التقعر يف القبَّة.‏ هدأ اجلميع ثواينَ‏ بعد أن قال

عبارته،‏ مث اجتاحت موجةٌ‏ من اآلهات والعويل أرجاءَ‏ اجلامع مرَّةً‏ أخرى.‏ مل

ينطق الشيخ أبو الزين بكلمة واحدة،‏ بل شخص بناظريْه من النافذة إىل

جنوم السماء حلظاتٍ‏ ، مث قال:‏ ‏»صار وقت الفجر.‏ أذِّن يا أبا بالل«.‏

ساد الصمت بعد ما قاله الشيخ أبو الزين.‏ الصالة هي الشيء الوحيد الذي

كان يف قدرهتم فعله.‏ أذَّن أبو بالل،‏ وجاء املزيد من أهل صفاقس لصالة

الفجر.‏ أقامها احلسن،‏ مث صلَّى والده أبوالزين بأهل املدينة ركعتني مأهتما

السكينة،‏ وأطال.‏ مث دعا بدعاء يقطر منه التذلُّل هلل،‏ رقَّت له القلوب،‏ ووقف

يف وسط أهل مدينته،‏ ومسَّ‏ د حليته بأصابعه ثواينَ‏ مث قال:‏ ‏»سأعيد إليكم

األسرى إن شاء اهلل قبل هناية هذا اليوم.‏ لقد عسكر قائد الطوَّافني قرب

30


31

الباب اجلبلي.‏ استدعِه يل فورا أيُّها احلسن«.‏

- 8 -

يف الرحبة خارج أسوار اجلامع وقف أعيان مدينة صفاقس على رأسهم الشيخ

أبو الزين،‏ ومعهم وقف مصطفى ورجب.‏ حدَّق مصطفى بفرقة الطوَّافني

الي كانت تقترب ترجُّ‏ األرض خبطواهتا الرتيبة،‏ وتتسربل يف خيالء بدروعها

املنيعة.‏ ما أشدّ‏ مقته هلم ولتلك الراية ذات الطائر والشمس امللتهبة!‏ كان

رجل بوشاح مرقط يشبه جلد الفهد يتقدَّمهم،‏ ال بدَّ‏ أنه كان رئيسهم،‏ وإىل

جانب الفرقة مشى رجل بعمامة بيضاء وعباءة،‏ يغذُّ‏ السري حماوالً‏ أن يسرع

خبطواته كي جياري اجلند.‏ ماذا يفعل رجل مبالبس عربية مع كتيبة من

الطوَّافني؟!‏ وقفت الفرقة وتقدَّم رئيسها خبطوة،‏ فتقدَّم إليه الشيخ أبو الزين

خبطوة هو اآلخر.‏ بدأ الشيخ أبو الزين احلديث فقال:‏ ‏»أهلونا وأوالدنا أسرى

لديكم،‏ فأعيدوهم إلينا حاالً«.‏

مهس الرجل ذو العمامة لقائد الطوَّافني املرقّط بكلمات،‏ ففهم مصطفى أن

هذا الرجل يترجم من اللغة العربية إىل لغة الطوَّافني.‏ أنصت له القائد

املرقّط حلظات،‏ مث أجاب بصوت جَ‏ هْوَريٍّ‏ بكلمات مل يفهم منها مصطفى

شيئًا،‏ لكنَّ‏ االبتسامة اللزجة الي ظهرت على وجهه كانت كفيلة بأن تُشعِر

مصطفى بالقلق.‏

أجاب املترجم:‏ ‏»األسرى سيبقَون يف سفننا ضمانةً،‏ كي تبقى صفاقس حتت

إمرتنا.‏ سنرمي األسرى يف البحر لدى أول حركة شغب تُصدرها املدينة«.‏

ما مسعه مصطفى على سطح احلمَّام كان صحيحً‏ ا إذًا.‏ اقشعرَّ‏ بدنه،‏ لكنَّ‏

ابتسامةً‏ على وجه الشيخ أيب الزين أعادت إليه الطمأنينة.‏ أجاب أبو الزين

وهو ينظر يف عينَي القائد:‏ ‏»هل تظنُّ‏ أنَّ‏ هذه املدينة ستكترث لبعض نساء

وأطفال لو أرادت أن تثور وتسترد حريتها؟ ضمانتكم احلقيقية هي أنا!«،‏ مث

ضرب على صدره بقوَّة.‏

شهق أهل املدينة الذين ملؤوا األزقَّة،‏ ونظر احلسن إىل والده جبزع.‏ ترجم


املترجم للقائد،‏ فأجابه بكلمتني ال ثالث هلما ترمجهما املترجم بقوله:‏ ‏»ماذا

تقصد؟«.‏

أجاب الشيخ:‏ ‏»أنا زعيم املدينة ومديني تكنُّ‏ يل والء كبريًا،‏ وحترص على

سالمي أكثر من حرصها على بضعة نساء وأطفال.‏ أعيدوا األطفال قبل

مغرب مشس اليوم،‏ وسأسلِّمكم أنا نفسي ضمانةً‏ بدالً‏ منهم«.‏

ترجم املترجم للقائد،‏ فصمت حلظاتٍ‏ طويلةً‏ يفكِّر.‏ مل يعرف مصطفى ماذا

يتمنَّى أن يكون جوابه،‏ إذا وافق القائد فلن ترى املدينة زعيمها احلبيب مرَّة

أخرى!‏ وإذا رفض فلن ترى أطفاهلا!‏

ثرثر القائد بكلمات كثرية،‏ كلمات أشبه بأزيز دَبُّور حاقد،‏ مث ختمها بكلمة

‏»كاكيدو«.‏

ملَّا انتهى قال املترجم:‏ ‏»إنَّ‏ ملك الطوَّافني أمر بأن نُحسن إىل أهل إفريقيَّة،‏

وأن نرفق هبم؛ لذلك سنعيد إليكم أسراكم،‏ وسنأخذ زعيمكم بدالً‏ منهم

ضمانةً.‏ وعلى اجلميع أن يفهم أنَّ‏ مَن جند لديه سالحً‏ ا يُقتل فورًا.‏ اتَّفقنا؟«.‏

شعر مصطفى بقبضة رجب تشدُّ‏ على ساعده حى أوجعه.‏ نظر حنوه،‏ فرأى

عينيه قلقتني متعلِّقتيْن بفم الشيخ تنتظران جوابه.‏

أجاب الشيخ وعيناه على عينَي القائد:‏ ‏»اتَّفقنا«.‏

شهق رجب من كلمات الشيخ،‏ وفرَّ‏ واختفى داخل اجلامع.‏ كان عُمْرُ‏ رجب تسع

سنوات عندما حاول أن يسرق رطل اللحم من يد الشيخ يف أثناء خروجه من

عند اجلزَّار،‏ لكنه انزلق على األرض امللطَّ‏ خة بدماء اخلرفان ووقع.‏ عندئذ

أمسك به أهل السوق واهنالوا عليه بالضرب بنعاهلم.‏ ترك الشيخ الناس

تؤدّب رجبً‏ قليالً،‏ مث تدخَّ‏ ل لنصرته وعفا عنه.‏ بعد ذلك اتَّفق مع اجلزَّار

على أن يعمل رجب أجريًا عنده،‏ ومنذ ذلك اليوم ورجب حيبُّ‏ الشيخ كجدِّه.‏

ناول الشيخُ‏ القائدَ‏ صحيفة عليها أمساء األطفال والنساء املختطفني،‏ واشترط

إعادهتم مجيعً،‏ وانصرف القائد مع مترمجه وفرقته مُحدثًا اجللبة نفسها

الي أحدثها لدى قدومه.‏

32


33

سأل احلسن أباه:‏ ‏»هل لديك خطَّ‏ ة؟ أنت ال تنوي الذهاب معهم،‏ أليس كذلك؟!‏

سنستعيد األسرى مث نقاتل الطوَّافني.‏ لن أمسح ألحد منهم أن يضع أصبعًا

واحدًا عليك!«.‏

صمت اجلميع يف انتظار ما سيُجيب به زعيمهم الذي قال:‏ ‏»يا بي،‏ قد كرتُ‏

وشارفت على املوت،‏ واليوم أتصدَّق بنفسي على أهل مديني.‏ فإن أمْكَنَتْكُم

الفرصة من هؤالء الطوَّافني بعد ذلك،‏ فانتهزوها،‏ وإن قتلوين.‏ هل تَعِدُين أن

تفعل ذلك؟«،‏ فأشاح احلسن بوجهه بعيدًا ومل جيب.‏

أمسك الشيخ بذقن ابنه وقال:‏ ‏»أيُّها احلسن،‏ يف غيايب ستكون أنت زعيم

املدينة.‏ احصل ألهل مدينتك على السالح يف اخلفاء،‏ وانتفضوا ضدَّ‏ الطوَّافني

وإن قتلوين.‏ ليست صفاقس باملدينة الي تذعن للغزاة.‏ أتعدين بذلك؟«.‏

عضَّ‏ احلسن على شَ‏ فَته مث أجابه:‏ ‏»أَعِدُك«.‏

- 9 -

مل تغب الشمس بعدُ‏ عندما أسند مصطفى ورجب ظهريهما إىل قبَّة اجلامع

الكبري،‏ ودلَّيا أرجلهما خارج الشرفة املربَّعة الضيِّقة الي الْتفَّت حول القبَّة.‏

جلسا ينتظران وصول األسرى وتسليم الشيخ أيب احلسن،‏ عملية التبادل

تلك كان موعدها عند مغيب الشمس الي كانت قد مالت حتث طريقها حنو

املبيت.‏ أهل صفاقس كلُّهم كانوا قد احتشدوا يف األزقَّة يريدون توديع زعيمهم

املحبوب،‏ لكنَّ‏ مصطفى ورجب مل يُرِيدا أن يكونا بينهم.‏ قلبامها مل يكونا

ليحتمالن هذا املشهد.‏

قرَّب إليه رجب طبقًا فيه كرات من جوز أخضر،‏ لكنَّ‏ مصطفى أبعده عنه.‏

لقد فقد شهيته.‏

قال رجب:‏ ‏»أنا أيضً‏ ليس يل شهية على األكل...‏ الشيخ أرسل إلينا هذا

الطبق جزاء صنيعنا مع األوالد«.‏

لقد كان الشيخ دائمًا حيسب حسابه وحساب رجب كلَّما طهت زوجته طبقًا

مميَّزً‏ ا.‏ الشيخ أبو الزين كان يشتري هلما أيضً‏ ا حُ‏ لَّتني جديدتني كلَّ‏ عيد،‏ مع


نعلني جديدين من ‏)سوق النعال(.‏ كان يستصْ‏ حبهما ليُعيناه يف مركبه عندما

تتوق نفسه إىل أن يصطاد مع أوالده،‏ ويعطيهما لدى عودهتما أكر مسكة

حتظى هبا شِ‏ باكه.‏ أصدر مصطفى زفرةً‏ عميقة من صدره ودَّ‏ لو أهنا حترق

كلَّ‏ ما حوله.‏ الطوَّافون حيرمونه كلَّ‏ مَنْ‏ يهتمَّ‏ هبم وحيبهم!‏

الحظ مصطفى أنَّ‏ الناس بدأت متوج،‏ فثبَّت عينيه جيِّدًا جتاه بوَّابة الديوان يف

السور،‏ كي يستقصي ما حيدث.‏ الحظ اللون األمحر الناري ألثواب الطوَّافني

وخلفهم فوج األسرى جيرُّ‏ أقدامه.‏ مرُّوا عر سوق السمك،‏ مث أكملوا طريقهم

حنو الرحبة قرب اجلامع.‏

شاهد من مكانه على القبَّة الشيخَ‏ وهو يسلِّم مينة ويسرة آخر الركعتني يف

صحن اجلامع الكبري وخلفه الناس،‏ مث شاهده خيتفي مع ابنه داخل بناء

اجلامع،‏ مث يعود إىل الظهور من جديد يف الرحبة خارجه.‏ أحسَّ‏ خبدر يسري

يف رؤوس أصابعه،‏ وصقيع لئيم يستشري يف أوصاله.‏ وصلت فرقة احلرس مع

األسرى إىل حيث وقف الشيخ،‏ فأطلق الطوَّافون سراح مَن معهم من األسرى

من النساء واألطفال،‏ فهُرِعوا إىل اجلامع مسرعني،‏ يف حني مكثت الفرقة

مع رئيسها يف اخلارج.‏ عانق الشيخ أبو الزين ابنه احلسن،‏ وتركه يقبِّل كفَّيه

وكتفيه،‏ مث شاهد القائد املرقَّط يشري إليه برأسه كي يتقدَّمه.‏ مشى الشيخ

أبو الزين اللوزي برأس مرفوع،‏ تشقُّ‏ الكتيبة الطريق أمامه بني احلشود

املتململة.‏

صرخ رجب بغضب:‏ ‏»إشارة واحدة من يد الشيخ تكفي كي يشتبك الناس مع

اجلند!‏ ملَ‏ ال يأمرهم بذلك؟!«.‏

أجابه مصطفى:‏ ‏»الطوَّافون جرَّدوا اجلميع من أسلحتهم.‏ ماذا متلك الصدور

العارية جتاه السيوف القاطعة؟!«.‏

مل يكن الشيخ أبو الزين ليسمح لأبرياء بأن ميوتوا بسببه.‏ قال مصطفى يف

استسالم:‏ ‏»لن يرى احلسن والده مرَّةً‏ أخرى.‏ ال أحد يعرف الطوَّافني أكثر

مي.‏ يقتلون ويأسرون ويستعبدون،‏ ويفرِّقون بني األخ وأخته،‏ والوالد وولده«.‏

أحسَّ‏ مصطفى بالدموع تتدفق من عينيه لكنه منعها أن تتدحرج على خدَّيه،‏

34


35

فتسلَّلت إىل أنفه وبلعومه فخنقته.‏ سعل سعاالً‏ خفيفًا،‏ مث مسح أنفه بطرف

كمُِّه.‏

قال رجب:‏ ‏»نعم يفعلون؛ ولذلك جيب أن نتخلَّص منهم«.‏

ضرب مصطفى على القبَّة خلفه وأجابه:‏ ‏»نتخلَّص منهم؟!‏ كيف؟!‏ انظر إىل

املدينة،‏ حمالُّها وبيوهتا منهوبة،‏ رجاالهتا استُشهدوا،‏ أسلحتها صُ‏ ودِرَت.‏ لقد

احتلُّوا السور وسَ‏ قائفه ورِباطات احلراسة فيه.‏ كيف نتخلَّص منهم؟!‏ أجبْي

كيف؟!«.‏

نظر مصطفى يف عينَيْ‏ رجب ينتظر جوابًا،‏ لكنه مل جيب حبرف،‏ بل قام

وأخرج من جيب قميصه مقالعه،‏ ووضع فيه حجرًا وشدَّ‏ حبله إىل أن اقترب

من أنفه،‏ وصوَّب باتِّجاه فرقة احلرس،‏ مث أفلت احلجر.‏ بعد ثوانٍ‏ طارت

خوذة قائدهم املرقط من مكاهنا.‏ نظر أفراد الفرقة حوهلم يف كلِّ‏ االتِّجاهات

وقد شَ‏ هَروا سيوفهم.‏ الناس حول الفرقة بدأت تضجّ،‏ فأعطى القائد جنوده

بضعة أوامر أسرعوا بعدها ومعهم الشيخ حنو البوَّابة،‏ وخرجوا به خارج

األسوار حنو سفنهم الراسية.‏

ضم رجب قبضته وقرّهبا من ذقنه ولوَّح مبقالعه قائالً‏ : ‏»هكذا نتخلَّص

منهم...‏ هكذا«.‏

- 10 -

أسرع مصطفى ورجب سريمها يريدان أال يتأخرا على اجلزّار الذي يعمالن

عنده كي يبدآ الذبح وتقطيع اللحم وبيعه.‏ يوم احتلّ‏ الطوَّافون صفاقس

قبل مخس سنوات،‏ تأذَّى ساعد اجلزَّار يف القتال ومنذ ذلك اليوم ورجب

يذبح اخلرفان.‏ يوم غزو صفاقس كان عمر مصطفى ورجب ثالث عشرة سنة

واليوم مها يف الثامنة عشرة.‏ السنوات اخلمس الي تفصلهم عن ذلك اليوم

املشؤوم كانت مخسً‏ ا عجافًا حزينة،‏ بسط الطوَّافون فيها ظلمهم.‏ ليت البحر

يبتلعهم مجيعًا!‏

أول ما وصل الشابان إىل دكان اجلزار مدّ‏ رجب ذراعه حتمل الساطور باتِّجاه


مصطفى،‏ وقال له:‏ ‏»جرحتُ‏ يدي أمسِ‏ . خذ اذبح أنت اخلرفان بدالً‏ مي«.‏

أبعد مصطفى يد رجب وقال:‏ ‏»أنت تذبح وتسلخ،‏ وأنا آخذ الصوف إىل ‏)سوق

الطعمة(‏ ليغزلوه،‏ واجللود إىل ‏)سوق الصبَّاغني(‏ و)سوق النعال(‏ ليصبغوها

ويَخِ‏ يطوها.‏ هذا اتِّفاقنا مع اجلزَّار«.‏

سأله رجب:‏ ‏»كيف أذبح بيد واحدة؟!‏ ها؟ أال يكفي أن اجلزار اقتطع عليّ‏ من

أجر الصوف الذي لوّثته بدمي أمس؟ تريدين أن ألوّث اللحم اليوم أيضً؟!‏

يالك من جبان ختشى السكاكني!«.‏

قرب مصطفى فمه من أذن رجب وابتسم وقال:‏ ‏»هل تعلم أين وضعت يف نعل

اجلزار جنادب ميتة؛ ألنه حسم عليك من األجر؟!‏ ختيل شعوره عندما تلمس

قدمه احلافية قشور اجلنادب اخلشنة.‏ فعلتها ألنتقم لك،‏ واآلن تقول عي

جبان!«.‏

كتف رجب ذراعيه وأجابه:‏ ‏»كيف أذبح اخلرفان اآلن؟ هل تريدين أن أقول

للخروف:‏ خرويف األبيض العزيز،‏ أرجوك تعالَ‏ منْ‏ بأمان يف حِ‏ ضي ريثما

أذحبك؟!‏ أال تفهم؟!‏ حى تذبح خروفًا حتتاج إىل كفَّني اثنتني،‏ اثنتين!«.‏

‏»وحى تفرَّ‏ بعيدًا عن صديقك اللحوح حتتاج إىل قدمني اثنتني،‏ اثنتين!«‏

قاهلا مصطفى وفرَّ‏ بسرعة،‏ وسحب العربة املَأْ‏ ى باجللود واألصواف،‏

ودحرجها بعيدًا قبل أن يسمع من رجب كالمًا ال يعجبه.‏ غريب أن يطلب إليه

رجب أن يستعمل الساطور وهو يعرف أنه ال يطيق أن حيمل بيديه ال ساطورًا

وال سيفًا،‏ وال حى خنجرًا.‏ مُذ أن أوقع اخلنجر من يده على أرض الصُّ‏ وَان

يف تلك الليلة املشؤومة،‏ وأصابعه ترجتف كلَّما اقتربت من أيِّ‏ شيء آخِ‏ رُه

نصل يلمع.‏ مل يكد يبتعد بالعربة حى ملح سوسن تقترب.‏ حاول أالَّ‏ يراقبها

بوضوح وهي تقترب منه،‏ لكنه يف الوقت نفسه مل يتركها تغادر ساحة رؤيته.‏

سوسن بلغَت الرابعة عشرة من عمرها قبل أيام،‏ وصارت طويلة ورشيقة.‏

صارت صبية ختفي ضفريتيها حتت قَلَنْسُ‏ وة إزارها.‏ أسرع ووقف عربته أمام

36


َّ

37

دكان احلالق موسى،‏ ودخله وحيَّاه.‏ نظر يف املرآة مث بصق على كفَّيه،‏ ومسَّ‏ د

هبما موجات شعره الذي كان يسترسل حى كتفيه العريضتيْن.‏ نفخ صدره

كي يبدو عمالقً،‏ ومشَّ‏ ط حليته مبشط احلالَّ‏ ق،‏ وعطَّ‏ ر مالبسه من زجاجة

وجدها قرب املقصّ‏ ، وقبل أن يرشَّ‏ رذاذها على رأسه،‏ سحبها موسى من يده

وقال:‏ ‏»هيه هيه!‏ على رسْ‏ لك؛ مسْ‏ كٌ‏ غالٍ‏ من كبد احلوت!«.‏

شكره مصطفى وخرج من الدكَّان يف ملحة كما دخله ليجد سوسن تنتظره عند

العربة.‏ دسَّ‏ ت رغيفًا يف جيبه،‏ وأعطته قطعة جنب ملفوفة بورق املوز،‏ وقالت:‏

‏»اجلنب من عزنيت بيضاء،‏ وجدَّيت تسلِّم عليك«.‏

تناول اجلنب منها وقال:‏ ‏»اشكري يل عزنتك بيضاء،‏ وسلِّمي يل على جدَّتك

العزيزة«.‏

مخس سنوات مضت منذ أن أنقذ مصطفى سوسن من الطوَّافني يوم

استصحبها إىل نفق باب الغدر،‏ وهي منذ ذلك اليوم تأتيه يف كثري من

األحيان بشطائر جدهتا اللذيذة.‏

قالت له وهي تناوله نقودًا:‏ ‏»جدَّيت تريدك أن تُحضر لنا من ‏)سوق الفاكهة(‏

نصف رطل موز،‏ وربع رطل متر.‏ لو أوصت متيمًا ألكل نصفها يف الطريق.‏

هل تفعل؟«.‏

أجاهبا:‏ ‏»سأفعل،‏ ولن آكل إالَّ‏ ربعها فقط«.‏

ضحكت سوسن وضحك معها.‏ كان يودُّ‏ لو يثرثران أكثر،‏ لكنه دائمًا ينسى

الكالم عندما يكون بصحبتها.‏ أخرته أهنا ستُحضر له يف الغد حلوى الزبيب

الي حيبُّها،‏ مث انصرفت وهي تدندن:‏ ‏»مسكُك يا حوتُ‏ يعطِّ‏ رين...‏ لو أنك

يومًا تفهمي«.‏

تابعها بعينيه حى اختفت.‏ كانت تقصده بكلماهتا.‏ ارجتزهتا بعد أن مشّت

عطره.‏ ما أذكاها!‏ متنَّى لو بقيت أكثر.‏ رجب أخره أنَّ‏ الشاب عندما يتمنَّى

أن تبقى الفتاة أكثر،‏ وينسى الكالم بصحبتها،‏ فذلك يعي أنه حيبُّها؛ لذلك

كان مصطفى يظن أنه حيبُّها،‏ وينوي عندما تكر أكثر أن يتزوَّجها.‏


صوت رجب قطع عليه أفكاره ملَّا وصل إليه يقول:‏ ‏»تعشق وتغازل بدالً‏ من أن

تذبح يل اخلرفان؟!«.‏

أجابه مصطفى بلكمه على كتفه،‏ فصرخ رجب.‏

قال:‏ ‏»ملاذا حلقت يب أيها اجلاسوس؟!«.‏

مرَّت فرقة من الطوَّافني يف دوريتها املعهودة،‏ فابتعدا عن طريقها.‏ مدَّ‏ رجب

يده حنو مصطفى بسلَّة قشّ‏ ، وقال له وهو يغمزه:‏ ‏»ال أجتسس عليك،‏ بل

جئتك بقطعة اللحم هذه الي يف السلَّة لتأخذها للحدَّاد نعيم السماوي؛

أوصانا هبا«،‏ مث ناوله سلَّةً‏ أخرى تلتفُّ‏ داخلها لفَّة من أمعاء اخلروف،‏ وأكمل:‏

‏»وأَوصل هذه إىل ‏)سوق الصبَّاغني(‏ ألنَّ‏ غِ‏ ربال بوحسام قد تلف،‏ وهو حيتاج

إىل أمعاء جديدة كي جيدِّد ثقوبه«.‏ تناول مصطفى سلَّتَي القشِّ‏ بإحدى يدَيه

وقال بسخط:‏ ‏»غِ‏ ربال وأمعاء قشّ‏ ! أال ترى أين مشغول؟!«،‏ مث اختطف عمامة

رجب بيده األخرى،‏ ووضعها على رأسه وفرَّ‏ مسرعًا وهو يقول:‏ ‏»عمامتك

ستقيي احلرّ.‏ سأعيدها إليك عندما أعود«.‏

أسرع حنو ‏)سوق احلدَّادين(‏ وناول احلدّادَ‏ نعيمً‏ السلَّةَ،‏ الذي قلبها بأصابعه

مث مشَّها فتجعَّد أنفه وقال:‏ ‏»ما هذا اللحم؟!‏ ليس طازجً‏ ا!‏ خذه من وجهي.‏

أعطِ‏ ه بيت أمِّ‏ حامد؛ فهي تشتري دائمًا اللحم البائت«،‏ ودفع بالسلَّة إىل

مصطفى.‏ تلفَّت مصطفى حوله جيِّدًا مث حتسَّ‏ س داخل السلَّ‏ ة،‏ فوجدت أصابعه

نصال احلديد احلادَّة الي أسقطها احلدَّاد توًّا وعمدًا يف السلَّة عندما قلب

اللحم.‏ هذه النصال كان مصطفى وغريه من الشباب يتسلّموهنا يف اخلفاء

من احلدادين،‏ مث يوزِّعوهنا يف السرِّ‏ على أهل صفاقس،‏ كي يثبِّتوها يف رؤوس

العِصِ‏ يِّ‏ اخلشبية فيحوِّلوها إىل رماح؛ استعدادًا ملعركتهم املرتقَبة مع الطوَّافني.‏

وهذه التمثيلية الي أدَّاها مصطفى مع احلدَّاد كانت الطريقة الوحيدة كي

يأخذ النِّصال الي صنعها احلدَّاد دون أن يشعر به حرس الطوَّافني املتربِّصني،‏

فقد كانوا جيوبون ‏)سوق احلدَّادين(‏ ليل هنار وبأعني مفتوحة،‏ حى يضمنوا

أالَّ‏ يصنع أحد منهم أيَّ‏ سالح.‏

تعثَّر مصطفى بقضيب حديد كان على األرض،‏ فوقع وسقطت عمامته عن

38


39

رأسه،‏ وسقطت منه السلتان.‏ ‏»أبعد أغراضك عن الطريق يا نعيم!«.‏ قاهلا

مصطفى وهو يُعيد عمامته على رأسه.‏ واللحم واألمعاء إىل السلتني.‏

أجابه نعيم وهو يُبعد القضيب:‏ ‏»بل أنت افتح عينيك يا أخرق!«.‏

ملّا خرج مصطفى من ‏)سوق احلدَّادين(،‏ استوقفه حارس من الطوَّافني وقال:‏

‏»حلمورا...‏ ملاذا؟«.‏

احلارس كان يسأل:‏ ملاذا أعاد نعيم اللحم؟ هؤالء األغبياء،‏ مخس سنوات

يعيشون بينهم وما زالوا يسمُّون اللحم ‏)حلمورا(!‏ شمَّ‏ مصطفى السلَّة مث

جعَّد أنفه كي يفهم هذا البليد أنَّ‏ اللحم غري طازج،‏ لذلك أعاده نعيم،‏ لكنَّ‏

احلارس مدَّ‏ يده يريد أن يفحص السلَّتني بنفسه.‏ مسح مصطفى املكان حوله

بعينيه ليقرِّر أين يهرب إذا اضطُ‏ رَّ‏ إىل ذلك.‏ كان حارسان يقفان يف الرحبة

الي تشكَّلت من اجتماع أزقَّة سوق الصبَّاغني واحلدَّادين واجلزَّارين يف ساحة

واحدة.‏ مدخل جامع بوشويشة قريب منه،‏ وعلى بابه ميضأة وسبيل ماء.‏

لو اكتشف احلارسان النصال،‏ فسيجري منهما ليصعد على الصنبور،‏ ومنه

إىل القوس حول الباب،‏ مث السطح،‏ ومن هناك سيفرّ.‏ لكزه أحد احلارسني

بطرف سيفه يستعجله،‏ فاستجاب مصطفى وسلَّمه سلَّي اللحم واألمعاء.‏

فتَّش احلارس سلَّة اللحم جيِّدًا وهزَّها وتلمَّسها،‏ مث ابتسم وناوهلا صاحبه

مع السلَّة الي فيها األمعاء،‏ فأفرغ صاحبه ما يف السلَّتني من حلم وأمعاء

يف دلو كبري قربه،‏ كان حيوي أشياء يصادرها هؤالء املرتزِقة من السوق بقوَّة

أسلحتهم،‏ مث يتقامسوهنا آخر النهار.‏

صرخ األول يف وجه مصطفى:‏ ‏»هيَّا،‏ ايزهاب مني هنار«،‏

فتراجع مصطفى خطوتني،‏ مث أدار هلما ظهره وابتعد.‏

على باب بيت أمِّ‏ حامد دقَّ‏ ثالث دقَّات مث دقَّة ودقَّة.‏ فتحت أمُّ‏ حامد الباب،‏

فناوهلا عمامته.‏ كم كانت ثقيلة بكلِّ‏ تلك النصال فيها!‏ قال هلا:‏ ‏»هل

تتصدَّقني عليَّ‏ حبَفنة خبز يا خالة؟ لقد صادر الطوَّافون رزقي«.‏

تناولت أمُّ‏ حامد منه العمامة وربَّتت عليها بكلتا يديها،‏ وابتسمت مُجيبةً‏ إيَّاه:‏


‏»ال بأس.‏ سأحاول أن أجد لك بضع كِسرات.‏ انتظرين هنا«.‏ وغابت قليالً‏ مث

عادت بالعمامة وفيها اخلبز.‏ تناوهلا منها بعد أن صارت خفيفة.‏ لقد أحسن

إذ أخفى النصال فيها حلظة تظاهر بالتعثُّر بالقضيب وأوقع السالل أرضً‏ ا يف

حانوت احلداد،‏ ولوال ذلك لكان اآلن مستلقيًا على أرض السوق،‏ ورمح طويل

يبزغ من صدره.‏ شكر تلك العجوز الشجاعة الي تساعدهم وجتمع النصال

عندها قبل توزيعها على رغم سنِّها وضعفها.‏ اتَّجه مصطفى حنو اجلامع

الكبري ليلحق بدرسه وهو يبتسم.‏ بضع سالل أخرى من حلم وأمعاء،‏ ويصبح

األهايل جاهزين لالنتفاضة.‏

- 11 -

وجد مصطفى رجبًا جالسً‏ ا على السجَّ‏ اد قرب حمراب اجلامع الكبري،‏ وحوله

باقي املجموعة.‏ قرأ يف عينَي رجب القلق من تأخُّ‏ ره،‏ فغمزه وابتسم كي

يطمئنه على جناح مَهمَّته.‏ أعاد إىل رجب عمامته على رأسه،‏ وجلس إىل

جانبه.‏ قبالة مصطفى جلس متيم الذي احتلَّ‏ مكان شخصني بعد أن ازدادت

يف اآلونة األخرية بدانته،‏ وعلى ميينه جعفر وقد احتلَّ‏ مكان نصف شخص

بعد أن ازداد حنوله.‏ كان معهم يف املجموعة منصور ابن تاجر اجلِرَار من

جَ‏ رْبة،‏ ومنصور آخر أيضً‏ ا،‏ كان ابن صاحب الفندق الذي كان التجَّ‏ ار الطَّ‏ لْيان

يزنلون به عند قدومهم للتجارة إىل صفاقس.‏ املجموعة كانت دائمًا تكتمل

قبل وصول أستاذهم الشيخ احلسن اللوزي،‏ ألنَّ‏ أحدًا مل يكن جيرؤ أن يتأخَّ‏ ر.‏

صحيح أنَّ‏ الشيخ احلسن مل يرفع عصاه عليهم وال مرَّةً‏ من قبل،‏ لكنه لوَّح

هبا عدَّة مرَّات،‏ ومصطفى مل يكن راغبًا يف أن يكون أول من جيرِّب لسعتها.‏

كان مصطفى قد وعد نفسه منذ فرَّ‏ من عنق الثور منذ سبع سنوات أنه لن

يسمح ألحد أن يضربه مرَّة أخرى ما عاش.‏ أخرجه وصول الشيخ احلسن من

تأمُّالته،‏ وملَّا قاموا يقبِّلون كتفه قال هلم:‏ ‏»اليوم سنذهب إىل الشاطئ؛ مركب

والدي حيتاج إىل املزيد من اإلصالح والتشحيم،‏ وأحتاج إىل مساعدتكم«.‏

هتلَّل وجه اجلميع؛ إصالح املركب وتشحيمه هو يف احلقيقة تدريب سرِّي

على املبارزة والعراك.‏ حلقت املجموعة بالشيخ احلسن،‏ واتَّجه اجلميع حنو

أحذيتهم ليلبسوها قبل اخلروج،‏ وعلى رفِّ‏ األحذية وجدوا بانتظارهم قِدْرًا

40


41

دافئة فيها قمح ومتر مهروس.‏ انقضَّ‏ متيم على القدر يعانقها وقال:‏ ‏»أنا

أمحل هذه عنكم.«.‏

قطع اجلميع الزقاق الطويل ومرُّوا بسوق السمك،‏ حى خرجوا من باب

الديوان واتَّجهوا حنو البحر.‏ مركب الشيخ أيب الزين كان متَّكئًا على رمال

الشاطئ يف مكان بعيد،‏ بسبب اإلمهال واألعطال الي أصابته بعد أن أسر

الطوَّافون صاحبه قبل مخس سنوات.‏ خلف ذلك القارب صخرة كبرية فيها

كهف صغري،‏ وبني الكهف والقارب والبحر كان الفتيان خيتفون عن األعني

ليتدرَّبوا على القتال.‏ كان الشيخ احلسن يأخذ تباعًا كلَّ‏ اثنني من الشباب

الستَّة خلف القارب،‏ يدرِّهبما يف فسحة الكهف الصغرية،‏ ويأمر األربعة الباقني

بتشحيم القارب للتمويه،‏ إن كانت عيون لئيمة تراقبهم.‏ كان متيم وجعفر مها

أول مَن استدعامها هذه املرَّة،‏ مث ملَّا عادا استدعى بعدمها املنصورين.‏ اهنمك

مصطفى يف تدليك خشب القارب بالشحم.‏ غمس قطعة صوف يف الدلو،‏

وصار يدلِّك هبا األلواح اخلشبية أسفل القارب.‏ ملمس الشحم على أصابعه

أحيا ذكرى ذلك اليوم الذي جاءته فيه أخته ‏»سدرة املنتهى«‏ تبكي،‏ ذلك اليوم

كان يفرك خشب سفينة عنق الثور بالشحم أيضً‏ ا،‏ وأخرته سدرة أهنا مسعت

عنق الثور يتَّفق مع صاحبه ذي الفروة احلمراء على أن يبيع مصطفى له.‏ مل

جيبها مصطفى يومئذ حبرف واحد،‏ بل استمرَّ‏ يف الفرك.‏ شدَّت كتف قميصه،‏

وسألته مرَّة تلو مرَّة:‏ ‏»ماذا ستفعل؟!«،‏ ويف كل مرة مل يكن جييبها.‏ وماذا

يف قدرة صي يف احلادية عشرة من العمر بأصابع ميأها الشحم أن يفعل

عندما يريد صاحبه أن يبيعه؟!‏ ماذا يف قدرته أن يفعل غري أن يهرب؟!‏ يهرب

ويترك أخته خلفه؟!‏ ازدادت أصابعه ضغطً‏ ا على قطعة الصوف،‏ وصار يفرك

بسرعة أكر.‏ شعر باخلشب يسخن حتت أصابعه.‏ مل يندم يف حياته على فعل

قدْرَ‏ ندمه على أنه فرَّ‏ وترك أخته وحيدةً‏ لدى هذا الثور.‏ مل يفوِّت فرصةً‏

سنحت له منذ وصول الطوَّافني إىل صفاقس قبل مخس سنوات،‏ إالَّ‏ وجاء

فيها إىل الشاطئ هنا وتصفَّح وجوههم على أمل أن تَسُ‏ وق األمواج ذلك الثور

البغيض إىل صفاقس،‏ فيجد أثرًا ألخته على سفينته.‏

‏»مصطفى ورجب،‏ دوركما اآلن«.‏ قاهلا الشيخ احلسن مقاطعً‏ أفكار مصطفى.‏


دسَّ‏ مصطفى أصابعه يف رمل الشاطئ ليزيل الشحم عنها،‏ مث توجَّ‏ ه إىل خلف

القارب مع رجب.‏ رمى هلما الشيخ احلسن بعصويْن،‏ وقال:‏ ‏»عندما تبدأ

املعركة مع الطوَّافني سنثبِّت النصال الي جنمعها على رؤوس تلك العِصِ‏ يّ،‏

وهبا سنقاتل.‏ املعركة قريبة،‏ فتجهزّا«.‏

قال رجب حبنق:‏ ‏»الطوَّافون سيقتلون الشيخ أبا احلسن حلظةَ‏ أن نثور!«.‏

أطرق احلسن وقال:‏ ‏»تعلم أنَّ‏ والدي جعلي أَعِدُه يومَ‏ سلَّم نفسه إليهم،‏ أن

نثور حلظة أن نقتي السالح الالزم،‏ ولو أدَّى ذلك إىل قتله،‏ ولن أُخلف وعدي

أليب«.‏

مل يعجب هذا الكالم رجبًا،‏ الذي مل ينسَ‏ حمبَّته للشيخ طَ‏ وال سي غيابه،‏

لكن مل يكن باليد حيلة.‏

وجَّ‏ ه احلسن أصبعه حنو مصطفى وقال:‏ ‏»سأدرِّبك أوالً‏ «.

خلع مصطفى قميصه ورماه على الرمل،‏ واقترب من الشيخ احلسن،‏ وتناول

منه عصً‏ ا كان قد مدَّ‏ ذراعه حنوه هبا.‏ قبض مصطفى على العصا بكفَّيه،‏

ورفعها أفقيًّا جاهزًا ليتلقَّى ضربات السيف اخلشي الذي يلوِّح به احلسن

بيده.‏ كان نصله مغموسً‏ ا يف مسحوق الفليفلة احلمراء،‏ وانتبه مصطفى إىل

أنَّ‏ عصاه أيضً‏ ا كان السائل األمحر يقطر من إحدى حافَتيها.‏

قال الشيخ احلسن:‏ ‏»درْسنا اليوم امسه:‏ اقتلْ‏ عدوَّك«.‏

بعد ذلك مل يقل حرفًا واحدًا،‏ بل هجم بسيفه على مصطفى.‏ قبل أن يتمكَّن

مصطفى من أن يتحرَّك خطوةً،‏ كان سيف الشيخ قد ضربه على عضده،‏ مث

أعلى ركبته،‏ فأفقده توازنه فجثا على األرض.‏ قال الشيخ:‏ ‏»لو كان هذا سيفًا

حقيقيًّا لصرت من أول دقيقة أَكْتَعَ‏ أعرجَ!«.‏ نظر مصطفى إىل آثار الفليفلة،‏

فوجدها متأ ركبته ومرفقه.‏ سائل الفليفلة كان يساعدهم على معرفة عدد

إصاباهتم.‏ هبَّ‏ مصطفى واقفًا.‏ وجَّ‏ ه إليه احلسن ضربة سيف باتِّجاه كتفه،‏

لكنه صدَّها بسرعةٍ‏ بعصاه.‏ صدَّ‏ عدَّة ضربات أخرى،‏ لكنَّ‏ الشيخ كان سريعًا،‏

ومل متضِ‏ دقائق حى أصاب سيفُه مصطفى يف أسفل ذقنه مث يف بطنه

42


43

بإصابتني قويتني رمتاه أرضً‏ ا.‏

قال الشيخ:‏ ‏»لقد متَّ‏ للتوّ:‏ ميتة يف بطنك،‏ وميتة يف عنقك!‏ ما بالك؟!‏ أهكذا

تقاتل عدوَّك؟!«‏

مث لكزه مبشط قدمه فانتفض واقفًا من جديد.‏ بَشَ‏ رتُه الي أصاهبا مسحوق

الفليفلة بدأت تغلي.‏

قال الشيخ:‏ ‏»ما دام مهُّك الدفاع فلن تفوز.‏ اهجم يا فى!‏ اهلجوم خري

طريقة تدافع هبا عن نفسك«.‏

صرخ مصطفى مغتاظً‏ ا وهجم على الشيخ بالعصا يريد أن يغرزها يف بطنه،‏

لكنَّ‏ ضربةً‏ من سيف الشيخ أوقعت العصا من يده.‏

سأله الشيخ:‏ ‏»هل تقتل عدوَّك بصراخك؟ ألين ال أراك تُحسِ‏ ن غريَه«.‏

احنى مصطفى ليلتقط العصا،‏ لكنَّ‏ الشيخ احلسن رفسها بقدمه بعيدًا

عن مصطفى.‏ تبعها مصطفى ليلتقطها،‏ فعاجله الشيخ احلسن بضربة يف

خاصرته أوقعته أرضً‏ ا.‏ ضربات السيف اخلشي كانت تؤمل مصطفى.‏ كتفه

ورجله وبطنه وظهره،‏ كلُّ‏ جسمه كان يصرخ أملًا وحرقةً.‏ زحف على ركبتيه

ليهرب من ضربات معلِّمه،‏ الذي عاجله برفسة قلبته على ظهره وناوله شربة

ماء مث جثا إىل جانبه وقال:‏ ‏»والدي الشيخ جعلي أعِدُه أن أسلّح املدينة

وأحررها عند أول فرصة لكي انتظرت كل تلك السنني.‏ هل تعرف ملاذا؟«‏

هز مصطفى رأسه بالنفي فأكمل احلسن:‏ ‏»ألين كنت جبانً،‏ وأخلفت وعدي

أليب.‏ آثرت أن نبقى حتت االحتالل على أن يقتلوه«.‏

ارتفع حاجبا مصطفى دهشً.‏ كان مصطفى يعتقد أن احلسن كان ينتظر

الفرصة املناسبة ليسلّح مدينته وليس ألنه كان خياف على حياة والده.‏

احلسن ال خييفه شيء،‏ والكل كان يعرف عنه ذلك،‏ فكيف يعترف ملصطفى

اآلن جببنه؟!‏

ابتلع احلسن ريقه مث أكمل:‏ ‏»كنت جبانً‏ حى جاء اليوم الذي رأيت فيه

قائد احلرس ينحر مهرة ‏”أيب معروف“‏ املدللة.‏ هل تذكرها؟«‏


مصطفى كان يذكر تلك املهرة جيدًا ألنه حى وقت قريب كان ينام يف زريبة

أيب معروف،‏ ويذكر فجيعة صاحبها هبا يوم أن حنروها.‏

علّق مصطفى:‏ ‏»كانت هذه املهرة أغلى على صاحبها من كل عياله«.‏

هز احلسن برأسه وقال:‏ ‏»حنرها رغم أن أبا معروف دفع له اإلتاوة كاملة.‏

قتلها فقط ليكسر إرادته.‏ يوم أن رأيت تلك املهرة أدركت أنه ال شيء يدفع

عنا أذى هؤالء الغزاة،‏ ولن أهترب من مواجهة عدوي بعد اآلن،‏ ولن أجنب.‏ ال

يهرب الرجل من مواجهة عدوه…بل يقتله«.‏

انتفض احلسن واقفً‏ مث ضرب بالسيف على كتف مصطفى وصرخ:‏ ‏»الْتقطِ‏

العصا!‏ لن أُفلتَكَ‏ حى تصبغَ‏ مالبسي باألمحر«.‏ انتبه مصطفى إىل أنَّ‏

مالبس الشيخ احلسن ما زالت نظيفة.‏ هذا يعي أنَّه ال مصطفى وال أحدًا

من أصحابه أصابه حى اآلن.‏ احلسن مبارز بارع منذ طفولته.‏ الفارس

احلقيقي يعجز أن يصيب احلسن،‏ فكيف يصيبه مصطفى؟!‏ انتفض مصطفى

على وقع ضربة ثانية على فخذه،‏ فالْتقط عصاه بسرعة وهبَّ‏ واقفًا،‏ وهجم

هبا عليه.‏ جتنَّب احلسن ضربته وعاجله مبثلها،‏ لكنَّ‏ مصطفى هذه املرَّة فتل

يف مكانه وجتنَّبها هو أيضً‏ ا.‏

أمره الشيخ احلسن:‏ ‏»اطعن يف بطي!«‏

فأطاعه وهجم،‏ لكنَّ‏ احلسن صدَّ‏ ضربته بسيفه.‏

أمره من جديد:‏ ‏»اهجم كأنك تدافع عن أختك!«.‏

فسدَّد مصطفى ضربة إىل قلب الشيخ احلسن بكلِّ‏ ما أويت من حقد،‏ فأصابته

حى صرخ ووقع أرضً‏ ا يتلوَّى،‏ تشدُّ‏ أصابعه على عظام صدره.‏ انتبه مصطفى

إىل أنه آمله كثريًا،‏ فدنا منه واعتذر إليه،‏ ومدَّ‏ يده له،‏ وساعده على أن يقوم،‏

فوقف يترنَّح وابتسم قائالً‏ : ‏»نعم...‏ هكذا تقتل عدوك!«.‏

44


45

- 12 -

أهنى الفتية تدريباهتم،‏ مث تناولوا القمح بالتمر على الشاطئ،‏ يف وقتٍ‏ كانت

الشمس فيه توشك أن تغرق يف صفحة املياه الالزوردية،‏ فتصبغها عند األفق

بلون برتقايل مجيل.‏ لوال سفن الطوَّافني اجلامثة بثِقَلها قرب الشاطئ لبدا

ساحرًا جبماله!‏ تناول مصطفى وصحبه الطعام وكأهنم مل يأكلوا منذ شهر

من شدَّة تعبهم،‏ مث دفنوا العِصِ‏ يَّ‏ يف الرمال.‏ ناوهلم احلسن قمصانًا نظيفة

خالية من بقع الفليفلة احلمراء،‏ فارتدَوها وعادوا إىل املدينة.‏ أخرهم احلسن

أنَّ‏ املعركة أقرب ممَّا يتصوَّرون،‏ وجيب أن يكونوا مستعدين يف أيِّ‏ حلظة.‏

بالقدر الذي كان مصطفى ينتظر هذا اليوم،‏ كان قلقًا بشأنه.‏ النصال كانت

نفيسة غالية،‏ ومل يكن على يقني:‏ أَيستحقُّ‏ أن حيمل أحدها أم ال؟!‏ تُرى هل

يستطيع أن يطعن أحدًا حبَرْبة حقيقية آخرها نصل معدين قاطع؟!‏

ملّا وصلوا إىل البوَّابة كانت دوريّات النهار من حرس الطوَّافني تزنل من

السَّ‏ قيفتني اللتني فوق باب الديوان من جهة،‏ ومن برج رِباط احلراسة من

جهة أخرى،‏ لتترك مكاهنا لدوريّات الليل.‏ حرس الطوَّافني كانوا حريصني

على أن ينتشروا على طول السور وعلى أبراج احلراسة طَ‏ وال النهار والليل؛

ألنَّ‏ مَن ميلك السور حيكم املدينة بال منازع.‏ من أعلى السور كانت تسهل

مراقبة أهل صفاقس والسيطرة عليهم،‏ أو رميهم بالسهام إن لزم األمر.‏ ومن

باب الديوان أيضً‏ ا كانوا يقبضون أموال ‏)اجلُمْرُك(‏ أو الضريبة الباهظة من

كلِّ‏ شخص يدخل املدينة وخيرج منها،‏ وهبذا املال كانوا يُدجِّ‏ جون جندهم

بالسالح.‏ لكنَّ‏ هذا كلَّه سيتغيَّر قريبًا،‏ أو هذا ما كان يرجوه مصطفى.‏ عند

البوَّابة افترق األصحاب.‏ جعفر كان عليه أن يُسرع إىل اجلامع كي يضيء

سُ‏ رُجَ‏ ه،‏ ليساعد والده قبل أن حيلَّ‏ الظالم،‏ واحلسن كان عليه أن يؤمَّ‏ الناس

يف صالة املغرب.‏ املنصوران ذهبا إىل بيتيهما،‏ وبقي متيم مع مصطفى ورجب.‏

ما زال مصطفى ورجب ال يؤويهما بيت يف الليل،‏ لكنهما مل يعودا ينامان يف

الزريبة.‏ فمنذ أن صارا طالبَني يف اجلامع الكبري صارا يستطيعان أن يناما

يف املدرسة امللحَ‏ قة باجلامع،‏ املخصَّ‏ صة لنوم الطالَّ‏ ب الغُرَباء الذين جاؤوا من

خارج صفاقس ليدرسوا فيها.‏ جتَّار صفاقس كانوا يَعُدُّون اإلنفاق على هؤالء


الطالَّ‏ ب من ماهلم زكاةً‏ عنهم،‏ ومع قلَّة املال وانتشار الفقر بني الناس بسبب

الغزاة مل تُغلَق أبواب تلك املدرسة يف وجه طالَّ‏ هبا يومًا واحدًا.‏

قال مصطفى لتميم:‏ ‏»احكِ‏ ألختك سوسن وجلدَّتك كيف صرعتُ‏ احلسن

أرضً‏ ا،‏ وخضبت صدره بالدم!«.‏

وضع رجب كفَّه على فم مصطفى وأسكته وقال:‏ ‏»بل احكِ‏ هلما يا متيم كيف

سدَّد احلسن ملصطفى ألف ضربة،‏ قبل أن يصيبه مصطفى بضربة واحدة

يتيمة!«.‏

وجَّ‏ ه مصطفى صفعةً‏ إىل عنق رجب،‏ وقال:‏ ‏»على األقلِّ‏ كانت لديَّ‏ اجلرأة

ألبارز الشيخ،‏ ومل أتقوقع حتت ضرباته وأنا أردِّد:‏ لن أقاتل الطوَّافني إالَّ‏

مبقالعي،‏ سأقاتلهم مبقالعي!‏ آه آه،‏ أرجوك توقّفْ‏ ، أرجوك توقّفْ‏ !«.

وجَّ‏ ه رجب ضربة مماثلة إىل عنق مصطفى جزاء سخريته،‏ وضحك الثالثة.‏

ودَّعهما متيم وأخذ الزقاق املؤدِّي إىل بيته،‏ ومل متضِ‏ ثوانٍ‏ حى مسع

مصطفى صوت خطوات خلفه.‏ الْتفت فوجد حارسً‏ ا من الطوَّافني حيمل يف

يديه سلَّتني كبريتني ميلؤمها مسك املَرجان.‏

مهس رجب:‏ ‏»اهلل أعلم من أيِّ‏ حبَّار مسكني سرق تلك السلَّتني!«،‏ لكنَّ‏

مصطفى مل جيبه.‏ كان يتأمَّل جيِّدًا وجه الرجل.‏ هذا الرجل مل تتغيَّر صورته

الي مل تغادر خميلته يومًا عدا بعض البياض يف شعره.‏ تيبَّس مصطفى يف

مكانه حلظاتٍ‏ ، فوقف الرجل ينظر إليهما برِيبة!‏

سحبه رجب من ذراعه ومهس له:‏ ‏»ما بك؟!«‏

فأجابه مصطفى:‏ ‏»عنق الثور!«.‏

سحبه رجب غصبًا خلف شجرة التني وقال له:‏ ‏»متيقّن؟«‏

هز مصطفى برأسه.‏

سأل رجب:‏ ‏»ماذا تنوي أن تفعل؟«.‏

46


47

أجابه مصطفى:‏ ‏»لنتبعْه«.‏

تبعاه هبدوء.‏ ساقا مصطفى كانتا ترتعدان.‏ ماذا لو عرفه عنقُ‏ الثور؟!‏ ماذا

لو نادى أصحابه الطوَّافني واعتقله وأعاده إىل العبودية؟!‏ لكنه اخليط الوحيد

الذي ميكن أن جيمعه بأخته،‏ ولن يتركه يغيب عن ناظرَيْه مهما كان الثمن.‏

تبعاه حى وصل إىل رحبة الرماد.‏ كان الظالم قد بدأ يسود،‏ وكلُّ‏ الدكاكني

كانت مغلقةً‏ عدا واحدًا،‏ فوقف الرجل يشتري رمادًا منه.‏ تذكَّر مصطفى كيف

كان جيعله هو وأخته يفركان القدور النحاسية بالرماد على ظهر السفينة،‏

حى تلمع كالذهب.‏ يبدو أنه مل يغيِّر عاداته حى بعد كلِّ‏ هذه السنني!.‏ أين

تراه سيذهب بعد رحبة الرماد؟ لن يكون باستطاعتهما أن يتبعاه مرَّةً‏ أخرى؛

ففي أزقَّة صفاقس يستحيل لشخص أن يتبع آخر دون أن يشعر.‏ كيف يتبعان

شخصً‏ ا يف اخلفاء يف زقاق عرضه ال يسع إالَّ‏ شخصً‏ واحدًا أو شخصني،‏

وميتدُّ‏ على طول عشرات البيوت؟!‏ خلْف ماذا سيختبئان؟ لكنَّ‏ مصطفى قرَّر

أالّ‏ يترك هذا الرجل يضيع منه مرَّةً‏ أخرى،‏ وإن كان هذا آخر عمل يعمله يف

حياته.‏

قال لرجب:‏ ‏»اذهب واعرض عليه أن نقلي له السمك ونوصله له إىل البيت،‏

واعرف منه عنوانه.‏ ال أستطيع أن أكلِّمه أنا،‏ أخاف أن يتذكَّرين.‏ سأنتظرك

هنا.‏ اذهب...‏ اذهب!«.‏

دفع مصطفى بكتف رجب،‏ فأسرع رجب يلبِّيه.‏ رجب شجاع ال يهاب شيئًا،‏

أضاف مصطفى هامسً:‏ ‏»رجب...‏ لو رفض هذا الثور عرضك،‏ اعرض عليه

الزعفران،‏ الطوَّافون يعشقون الزعفران«.‏

هزَّ‏ رجب رأسه وأسرع يتسكَّع قرب الرجل.‏ وضع كفَّيه يف جيبَي ثوبه،‏ فبدا

عليه أنه غري مبالٍ‏ بشيء.‏ نظر حنو مسكات عنق الثور وسأله:‏ ‏»هيييه...‏

طوَّاف...‏ هل نقلي لك السمكات مقابل درهم واحد فقط؟«،‏ وفتح كفَّيه على

شكل مقالة ليفهم.‏

أجابه عنق الثور:‏ ‏»جاريي سدرة تقليهار«.‏


ملَّا مسع اسم أخته،‏ تصبَّب مصطفى عرقً!‏ وكادت ركبتاه ختونانه.‏ استند إىل

جذع التينة كي حيفظ توازنه.‏ أخته خبري!‏ أخته قريبة من هنا!‏

قال له رجب:‏ ‏»حسنًا...‏ هل تريد زعفرانً؟ مسك املَرجان يطيب معه الزعفران

والليمون اليابس.‏ عندي زعفران رائع أمحر بلون النبيذ،‏ ناعم كاملخمل.‏ دَلِّكْ‏

مسكاتك به تصبحْ‏ لذيذة.‏ ثالثة دراهم فقط«.‏

حدّق مصطفى يف عنق الثور يريد أن يرى وقع كالم رجب عليه.‏ هل أكثر

رجب من الكالم؟!‏ كيف سيفهم عنق الثور كلَّ‏ هذا؟!‏

صمت عنق الثور ثواينَ‏ مث قال:‏ ‏»نعم...‏ زعفران...‏ زعفران«.‏

أجابه رجب:‏ ‏»سأجلبه حى باب بيتك،‏ خرين أين تسكن؟«.‏

لكم الرجل رجبًا يف صدره وقال:‏ ‏»هاهاها...‏ أنا طوَّافون.‏ أين يسكن طوَّافون؟

يا غي«.‏

سأل رجب:‏ ‏»فعالً‏ . أنا غي أحيانًا.‏ أين مساكن الطوَّافني؟«.‏

أجابه الرجل:‏ ‏»شجرة لَوْزار كبار كبار.‏ على باب هناك مشس وطار...‏ طار«،‏

مث فرد ذراعيه السمجتني مثل جناح..‏

مل يعد هذا احلقري يعيش يف سفينته.‏ صار له بيت اآلن!‏

قال له رجب:‏ ‏»حسنًا.‏ سآتيك به غدًا بعد الفجر«.‏

أضاف عنق الثور:‏ ‏»بعد الفجر أنا ليس هناك.‏ باب مقفول.‏ أنا يف السور.‏

جاريي هناك.‏ دراهم واحد اثنان ثالثة من نافذة«.‏

وافق رجب وانتظر حى ابتعد عنق الثور،‏ مث اقترب من مصطفى خلف

شجرة التني،‏ فسحبه مصطفى حنوه وضمَّه إليه بقوَّة وهو يتمتم:‏ ‏»سدرة

خبري!‏ احلمد هلل!‏ احلمد هلل!«.‏

48


49

- 13 -

مل يستطع مصطفى أن ينام حلظةً‏ واحدة طَ‏ وال الليل.‏ صُ‏ وَرٌ‏ من طفولته

الحقته حى أرهقته.‏ ذاكرته أعادت عليه أحداث الليلة املشؤومة.‏ صورة أمِّه

واخلنجر يف صدرها غارقة يف دمها مل تفارقه،‏ خياالت أصابعه وهي تفلت

اخلنجر فيقع من يده.‏ صوت ارتطام اخلنجر على خشب الصُّ‏ وَان،‏ وعبق

الصنوبر يفوح من بطَّ‏ انية الصوف.‏ لو أنه طعن الرجل باخلنجر يف ذلك

اليوم ملا وقع مع أخته يف العبودية،‏ وملا ماتت أمُّه باملجَّ‏ ان!‏ لقد أعاد على

نفسه ألف مرَّة ما سيقوله ألخته حلظةَ‏ تقع عيناه عليها.‏ سيقول هلا أنه

كان سيبقى معها وحيميها العمرَ‏ كلَّه لو مل يقرِّر الوغد أن يبيعه،‏ لو مل

يقفز يف املاء ويهرب لكان عبدًا يف سفينة ذي الفروة احلمراء حى اليوم.‏ أبو

فروة،‏ الرجل الغليظ العنيف القاسي.‏ هذا ما سيقوله هلا.‏ هل تصدِّقه؟!‏ هل

تسأله:‏ ملاذا مل تأخذين معك؟!‏ هو قفز يف املاء وسبح حى مرسى صفاقس،‏

لكنها مل تكن تُحسِ‏ ن السباحة.‏ هل تلومه ألنه مل حيملها على كتفيه؟!‏ كانا

حتمًا سيغرقان معًا.‏ ليتهما غرقا معًا ومل يتركها!‏ ليته صار عبدًا عند ذي

الفروة احلمراء،‏ لكان متكن من زيارهتا بني الفينة واألخرى عندما جيتمع

السيدان!‏ هذا ما كان عليه أن يفعله،‏ لو مل يكن جبانً!.‏ فرَّت الدموع من

عينيه.‏ يوم قرر عنق الثور بيعه كانت سدرة أشجع منه،‏ سرقت خنجرًا من

جعبة الوغد،‏ ومدَّت يديها الصغريتني به وقالت له:‏ ‏»اقتل عنق الثور عندما

ينام«،‏ لكنه وقف مشلوالً‏ أمام ذلك اخلنجر.‏ مل جيرؤ حى على ملسه.‏ خذهلا

مرَّة ثانية…‏

هل تقدر يومًا أن تساحمه؟!‏

عندما أُذِّن بالفجر،‏ أيقظ رجبًا وصلَّيا ركعتني دعا فيهما اهلل أن يعطيه الشيء

األهم الذي خسره يوم وقعت عيناه على أمه مطعونة…‏ الشجاعة!‏

ارتديا مالبسهما،‏ مث محل مصطفى إناء العسل الذي أحضراه من عند

سوسن أمسِ‏ ، ومهَّا بأن ينطلقا فجاءمها متيم وجعفر يلهثان...‏

أغلقا باب الغرفة خلفهما ومهس متيم:‏ ‏»جاءت األوامر باهلجوم.‏ املعركة


ستبدأ حاالً‏ ! فريق سيذهب إىل مساكن الطوَّافني،‏ وفريق سيقاتل احلرَّاس

على السور.‏ أحضرا سالحيكما وهيَّا بنا!«.‏

هُرِع مصطفى إىل فراشه،‏ وأخرج احلَرْبة من حتته،‏ أمَّا رجب فأخرج مقالعه

من حتت كومة مالبسه على الرفِّ‏ ، وسحب جرَّةً‏ من الزاوية كان قد مأها

بأحجار حبجم بيضة صغرية،‏ انتقاها بعناية كي يرميها باملقالع.‏

نظر رجب إىل مصطفى بعينني حائرتيْن،‏ فقال له مصطفى:‏ ‏»ال عليك.‏

سأذهب وحدي.‏ أنت اعتلِ‏ قبَّة اجلامع الكبري،‏ وارمِ‏ أعداءنا من هناك«.‏

قال متيم:‏ ‏»وأنا وجعفر سنذهب إىل السور«.‏

توجَّ‏ هت أنظار الثالثة حنو مصطفى،‏ فقال:‏ ‏»أنا ذاهب إىل زقاق الطوَّافني،‏

عندي أمر هامٌّ‏ سأُهنيه مث أنضمُّ‏ إليكم«.‏

مل يكترث للفضول يف عينَيْ‏ متيم وجعفر،‏ بل عانقهما مث عانق رجبًا وقال:‏

‏»يف محاية اهلل«،‏ وافترق عنهما.‏

مل يكد مصطفى يقطع زقاقني أو ثالثة،‏ حى بدأت األزقَّة تعجُّ‏ برجال

صفاقس،‏ كلٌّ‏ يف يده حَ‏ رْبة تشبه حَ‏ رْبته.‏ حِ‏ رَابً‏ ساعد هو وصحْ‏ به يف هتريب

نصاهلا إليهم.‏ الكلُّ‏ كان جيدُّ‏ يف السري،‏ يقطع األزقَّة املتَّجهة حنو السور أو

حنو مساكن الطوَّافني،‏ لكنَّ‏ مصطفى كان حتمًا أول من وصل إىل هناك.‏ اتَّجه

حنو اللوزة الكبرية،‏ وحبث عن باب عليه رمسة طائر ومشس،‏ فلم جيده.‏

حبث يف كلِّ‏ األبواب لكن مل جيده.‏ هل كان الرجل يكذب؟!‏ هل استشعر خطرًا

فخدعهم؟!‏ آآآخ…اللعنة على عنق الثور،‏ ملاذا مل يلحق مصطفى به حى باب

بيته ويتيقّن عنوانه بنفسه؟ األرض املرصوفة حتت قدميه تنخفض يف الوسط

لتشكِّل جمرًى للمطر.‏ متنَّى لو تذوب عظامه،‏ مث يسوقه املجرى إىل البحر

وخيتفي.‏ ضرب غصن شجرة التني بغيظ فاهتزَّت أوراقها العريضة،‏ ومع

اهتزازها الح خلفها بيت يف الركن يقف وحيدًا.‏ دار خلف جذع الشجرة الثخني

وهُرِع يتفقَّده.‏ على بابه رسم ما كان يبحث عنه:‏ مشس،‏ وطائر شرس!‏ قلبه

كاد خيرج من صدره من شدَّة االنفعال.‏ نقر الباب نقرات حاول أالَّ‏ تكون

50


51

جمنونة،‏ فجاءه صوت فتاة من الداخل تسأل:‏ ‏»مَنْ‏ بالباب؟«.‏

صوت أخته!‏ ومع أنه تغيَّر فقد عرفه.‏ فيه موسيقى خاصَّ‏ ةٌ‏ ال خيطئها!‏

مهس هلا مصطفى:‏ ‏»سدرةَ‏ املنتهى!‏ أنا مصطفى!«.‏

مسع الصوت من جديد يسأل:‏ ‏»مَنْ‏ ؟ مَنْ‏ ؟ مَنْ‏ بالباب؟«.‏

أجاهبا ثانيةً:‏ ‏»سدرة!‏ سدريت!‏ أنا مصطفى،‏ أخوكِ‏ !«.

مسع خطواهتا تسرع حنو النافذة،‏ مث رأى النافذة تُفتح.‏ النافذة كانت صغريةً‏

لكنه رأى وجهها منها.‏ كم صارت تشبه أمَّه!‏ سحب كفيها من النافذة وطفق

يقبلهما كأنه خيشى أن تفلت منه مرَّةً‏ أخرى.‏

صارت تردِّد:‏ ‏»مصطفى!‏ مصطفى!«.‏ ردَّدهتا ألف مرَّة،‏ ويف كلِّ‏ مرَّة كان جييبها:‏

‏»نعم...‏ مصطفى!«.‏

أخريًا قالت له:‏ ‏»الباب مُقفل.‏ ال تتركي هنا أرجوك!«.‏

فأجاهبا:‏ ‏»لن أترككِ‏ ثانيةً‏ ما حييت!‏ سأُخرجك من هنا«.‏

وصار يضرب بكعب احلربة ليفتِّت الطني حول النافذة فتكر فُتحتها،‏ مث

صار يضرب بنصله.‏ وعلى رغم أنَّ‏ جدار هذا البيت كان مصنوعًا من التراب

واخلشب،‏ فقد كان قاسيًا.‏ من خلف الشجرة كانت تصل إليه أصوات خُ‏ طً‏ ى

متسارعة،‏ دقَّات على األبواب،‏ صرخات وحشية،‏ كلمات غاضبة بلغة الطوَّافني،‏

وشتائم…‏ بالعربية!‏

‏»آن أوانكم أيُّها األنذال!«،‏

‏»عودوا إىل البحر الذي جئتم منه!«،‏

‏»حانت هنايتكم يا أوغاد!«.‏

مث تعالت أصوات شفرات السيوف تتصادم وتتخلَّلها صرخات أمل،‏ لكنَّ‏

مصطفى مل يكن ليسمح لكلِّ‏ ما جيري قريبًا منه أن يشتِّته.‏ كان يف ذهنه

أمر واحد:‏ أن يُخرِج أخته من ذلك البيت البغيض قبل أن يعود صاحبه.‏


الْتقط حجرًا مُذبَّبًا من األرض،‏ وصار حياول به أن يَنْقُب اجلدار،‏ لكن بعد

ضربات عديدة بالكاد ترك فيه ثقبً‏ صغريًا.‏ غرز أظافره يف الثقب،‏ وصار

ينبش اجلدار جبنون؛ ال بدَّ‏ له أن يدُكّ‏ هذا اجلدار بسرعة!‏ لو مسع عنقُ‏

الثور هبجوم أهل صفاقس على مساكن الطوَّافني لعاد إىل بيته فورًا لينقذ

ما ميلكه.‏ هذا الوغد ال يفرِّط أبدًا يف شيء وضع يديه عليه.‏

ما هلذا اجلدار ال يستجيب؟!‏

نادته أخته:‏ ‏»خذ،‏ استعمل هذه«.‏

أخرجت له من فُتحة النافذة فأسً‏ ا كبرية من النوع الذي يستعمله الطوَّافون

دائمًا.‏ الفرَج جاء.‏ تناوهلا وهوى هبا على اجلدار قرب حافَّة النافذة بضربات

قوية،‏ فتطايرت من اجلدار قطع كبرية.‏ ضرب هبا،‏ وضرب بكلِّ‏ الغضب الذي

دفنه داخله،‏ فتهاوت النافذة وهتاوى ما حوهلا.‏ رمى الفأس على األرض،‏ ومدَّ‏

ذراعيه حتت إبطَ‏ يْ‏ أخته ورفعها قليالً‏ ، مث سحبها خارجً‏ ا وضمَّها إليه بشدَّة!‏

طبع على جبينها ألف قبلة!‏

نفض الرمل األبيض الذي كسا وجهها،‏ ونفضته هي عن وجهه.‏ لن يسمح

ملكروه أن حيصل هلا بعد اليوم.‏

‏»الفأر عاد؟!«،‏ صوت غليظ جاءه من خلفه.‏

الْتفت مصطفى فوجد عنق الثور حيمل الفأس الي رماها للتوِّ‏ من يده،‏

وسيفه على خصره.‏ دفع مصطفى بأخته بعيدًا عن اخلطر،‏ والْتقط حَ‏ ربته

بسرعة فعاجله عنق الثور بضربة فأس جنا منها بفارق أُمنُلة!‏

مث تواجها…مصطفى،‏ وعنق الثور!‏

شابٌّ‏ حنيل بعصً‏ ا يف يده وقلب ينبض كجناح حنلة،‏ وثورٌ‏ هائج ضبط خصمه

حيوم قرب مرعاه،‏ يلوّح بفأس ثقيلة بني كفَّيه كأهنا يف خفَّة ريشة!‏

بني بالطات أرض الزقاق البيضاء بالطة وحيدة سوداء،‏ وحوهلا حترَّك

اخلصمان حبذر.‏ عينا مصطفى وقعتا على النصل آخر احلربة،‏ وختيَّل نفسه

52


53

يغرزه يف خصمه،‏ فشعر مبعدته تُقلب.‏ هل ما زال عاجزًا عن غرز النصال؟!‏

قلب احلربة رأسً‏ ا على عقب،‏ فصار كعبها اخلشي جهة خصمه،‏ فارتاح ملَّا

خرج النصلُ‏ من ساحة رؤيته.‏

‏»تكره خنجار،‏ ها؟«.‏ قاهلا عنق الثور وهو يهوي بالفأس قربه.‏

تذكَّر مصطفى يوم أَوْكَلَ‏ عنق الثور عليه تنظيف السمك بالسكني فلم يستطع

محلها،‏ وتلقَّى منه الضرب املرح بعد ذلك.‏

لكن احلسن علمه كيف يفوز:‏ اهجم على عدوِّك،‏ قال له!‏

وهذا ما سيفعله!‏

هجم مصطفى وداس البالطة السوداء وتقدَّم بغتةً،‏ وضرب بعصا احلَرْبة على

مرفق الوغد بغلظة،‏ فأطار الفأس من يده وقال:‏ ‏»امسه خنجر ال خنجار«،‏

مث طعنه مصطفى بكعب حربته يف صدره بقوَّة،‏ لكنَّ‏ درعه املسرود من حديد

وقاه.‏

قهقه عنق الثور خبشونة مث شهر سيفه الذي كان على خصره وباعد بني

قدميه،‏ وصار يلوّح ملصطفى بأصابعه يتحداه أن يقترب.‏ بدا هذا الوحش

ملصطفى ثابتًا كالطَّ‏ وْد فتجمد مكانه.‏ مل ينتظر عنق الثور مصطفى أن يهجم

بل عاجله بضربة سيف صدَّها مصطفى بعصاه.‏ رفع الرجل السيف ليهوي

به ثانيةً،‏ لكنَّ‏ مصطفى عاجله بضربة من عصاه على ذقنه أسالت الدم من

فمه.‏

قال عنق الثور بسخرية:‏ ‏»عصً‏ ا؟ هه!«،‏ مث بصق يف وجه مصطفى.‏

الرجل كان يسخر من العصا،‏ واحلقُّ‏ معه؛ ألن العصا ال تقتل أحدًا،‏ لكنَّ‏

مصطفى مل يكن ينوي قتله،‏ كلُّ‏ ما كان يريده هو أن يُوقِع عنق الثور أرضً‏ ا

بعيدًا عن دربه،‏ مث يسحب أخته ويهرب هبا سريعًا!‏

شقَّ‏ الرجل قبَّة قميصه ومسح هبا الدم من فمه.‏ على عنقه تدلَّت قالدة

توسَّ‏ طها نورس من أصداف!‏


مصطفى كان يعرف تلك القالدة جيدًا…زأر بغلظة:‏ ‏”هذه قالدة أمي الي

قتلتها أيها الوحش!“‏ تردد يف أذنيه صوت احلسن وهو يقول له:‏ ‏»اقتل

عدوك«.‏

ودون أن يشعر مصطفى بنفسه،‏ وجد كفَّيه تقلبان احلربة ليعود النصل جتاه

عدوِّه.‏ لقد غري خطته.‏ لن يأخذ أخته ويفرا بعيدًا عن العدو…بل سيقتله!‏

حلس عنق الثور شفتيه،‏ وأشار بيده يدعو مصطفى أن يقترب منه.‏

‏»اقتله مصطفى!«.‏ جاءه صوت أخته يشبه صوت أمِّه!‏

الحظ مصطفى أنَّ‏ حجرًا كبريًا من النافذة الي هدمها بالفأس كان خلف

قدم عنق الثور متامًا.‏ هجم على خصمه خبطوتني مفاجئتني،‏ فتراجع الوغد

بشكل عفْوي فتعثَّر باحلجر ووقع على ظهره أرضً‏ ا كما خطط مصطفى

متامً،‏ وقبل أن يتمكَّن من حتريك جفنه،‏ غرز مصطفى النصل بكلتا يديه

يف قلبه.‏

جثا مصطفى على ركبته،‏ وسحب نصله بيد ونزع عن عنق الوغد قالدة

أمِّه بيده األخرى.‏ نظر يف عينَيْ‏ عنق الثور ومهس له:‏ ‏»دعي أخرك أين

القلب…‏ القلب خلف الضلع متامًا!«.‏

مث تركه وأخذ أخته،‏ وغادراه غارقًا يف بركة من دمائه يلفظ أنفاسه األخرية.‏

- 14 -

توجَّ‏ ه مصطفى جنوب املدينة،‏ عند منطقة من السور تُسمَّى رِباط القَصَ‏ بة،‏

حيث يسكن قائد الطوَّافني املرقّط.‏ ال بدَّ‏ أنه سيجد احلسن يقاتل هناك.‏

بعد أن اطمأنَّ‏ على أخته يف اجلامع الكبري مع سوسن وجدَّهتا،‏ مل يعد مينعه

شيء من الدفاع عن صفاقس اليوم.‏ عندما عثر مصطفى على احلسن وجده

يرفس بقدمه جنديًّا بني نتوئني يف حافَة السور،‏ فيُطيح به خارجً‏ ا.‏ اقترب

رجل بلؤم منه من اخللف،‏ ينوي أن يغدر به،‏ فعاجلته حربة مصطفى بطعنة

بني لوحَ‏ يْ‏ كتفه أردته قتيالً‏ .

سأله احلسن وعيناه تبحثان عن ضحية أخرى:‏ ‏»ما الذي أخَّ‏ رك عنا؟«.‏

54


55

أجاب مصطفى:‏ ‏»عدوًّا قدميًا يل وجدته،‏ فقتلته«.‏

مث أشار احلسن إىل جمموعة من الطوَّافني كانت تصول وجتول فأسرع

االثنان ليتصدَّيا هلا،‏ لكن سرعان ما لَفَتت أنظارَ‏ مصطفى مالبسُ‏ بينهم

مرقَّطةً‏ كالفهد!‏

صرخ مصطفى:‏ ‏»القائد املرقط!«.‏

سأله الشيخ احلسن:‏ ‏»أين؟«.‏

دلّه مصطفى عليه،‏ وانطلق االثنان جتاهه.‏ حولَهما شباب صفاقس يشتبكون

مع حرس السور.‏ لو استردُّوا السور استردُّوا صفاقس.‏ الْتحم مصطفى والشيخ

احلسن بأوَّل مَن تصدَّى هلما من املجموعة.‏ قبض مصطفى بكلتا يديه على

حَ‏ ربته،‏ وصار يهوي هبا على كلِّ‏ ما تقع عيناه عليه من مالبس محراء بلون

النار.‏ مل يكن يهمُّه أين يغرز نصله،‏ ومل يكن هناك وقت للتسديد؛ فالقوَّة

الي تطعن هبا ذراعاه كانت كفيلةً‏ بأن تُطيح بأعدائه أرضً‏ ا.‏ مضى يضرب

حوله يَمنةً‏ ويَسرة.‏ وبعد حلظات قصرية،‏ أو ربَّما طويلة،‏ جتمَّع حوله أربعة

من املهامجني.‏ حاول التراجع بعيدًا عنهم لكنه احنصر بني مهامجيه وبني

نتوءات السور خلف ظهره.‏

‏»أنا جائع«.‏ جاءه صوت متيم من خلف ظهر رجل أشعث من املهامجني قبل

أن ينفر الدم من ذلك األشعث فيهوي فجأةً،‏ ليظهر متيم خلفه وهو يسحب

رحمه من ظهر املهاجم.‏

‏»أيها الشَّ‏ رِه!‏ أكلتَ‏ كلَّ‏ طعامي ومازلت جائعًا؟!«.‏ قاهلا جعفر لتميم وقد شغل

مهامجً‏ آخر عن مصطفى.‏

ظهورمها كان مفاجئًا ملصطفى،‏ وهذا ما شتَّت انتباهه ثواينَ‏ كانت كافيةً‏

خلصمه الثالث كي يضرب بسيفه على حربة مصطفى،‏ فتطري من يده.‏

احنى ليلتقطها،‏ فرفع خصمه ذراعيه بالسيف يهمُّ‏ أن يهوي به عليه.‏ نظر

مصطفى إىل السماء خلف الرجل.‏ غيوم خفيفة بيضاء كانت تتناثر فيها.‏ هل

ميوت اآلن؟ هوى اجلندي بالسيف حنوه،‏ لكن خوذته طارت عن رأسه وهوى


يف اللحظة املناسبة قبل أن يصل السيف إىل جسد مصطفى،‏ وقربه استقر

حجر حبجم بيضة...‏ رجب!‏

استعاد مصطفى حَ‏ رْبته وأجهز على الرجل.‏ حجب الشمس عن عينيه ونظر

حنو قبة اجلامع الكبري بعيدًا،‏ فرأى رجبًا يلوِّح له.‏ هذا الولد عفريت مبقالعه!‏

صرخة أمل شقَّت السماء ونشرهتا الريح على صفحة البحر الغاضب حى

األفق.‏ الْتفت مصطفى حنو مصدر الصرخة فرأى سيف احلسن مغروزًا يف

بطن قائد احلرس،‏ ومالبسه املرقَّطة خمضَّ‏ بة بالدماء،‏ وعلى وجهه أمارات

الدهش،‏ وكأنه فهدٌ‏ انقضَّ‏ على وعل،‏ فباغته وغرز قرنيه فيه.‏ بقفزات قليلة

اقترب مصطفى من الشيخ احلسن وربَّت على كتفه.‏

قال احلسن:‏ ‏»عدوًّا قدميًا يل…وجدته،‏ فقتلته!«،‏ مث ضحك االثنان،‏ وضحك

أصحاهبما.‏

صدح صوت قوي من املآذن ينادي:‏ ‏»لقد استعدنا صفاقس!‏ لقد حترَّرت

صفاقس!«.‏

‏»اهلل أكر!‏ اهلل أكر!«،‏ هتف الناس،‏ فهدر هتافهم عر األثري،‏ وشقَّ‏ فضاء

البحر،‏ ومضى بعيدًا يثري الرعب يف قلوب الغزاة.‏

يف الليلة التالية،‏ كانت املوائد متتدُّ‏ على طول أزقَّة صفاقس،‏ مأى بالتمور

والبطيخ والكُمَّثرى.‏ ذبائح شهية كانت متأ األطباق،‏ وأمساك مشوية طازجة

مجعها أهل صفاقس منذ الفجر من شِ‏ باك الزُّرُوب املنصوبة على املراسي.‏ أمَّا

جِ‏ رَار عصري العنب واملشمش فكانت تتنقَّل تسكب الكوب وراء الكوب يف أيدي

الناس.‏

قال متيم وهو يدلِّك بطنه:‏ ‏»ال بدَّ‏ أني يف الفردوس!«.‏

وضع مصطفى ذراعه على كتف أخته ومهس يف أذهنا:‏ ‏»أُعرِّفكِ‏ بتميم.‏ أَكُولُ‏

صفاقس األول«.‏

وسحبتها سوسن ومهست يف أذهنا األخرى:‏ ‏»بل أَكُولُ‏ بالد املغرب بأسرها«.‏

56


57

مل يعبأ متيم بكالمهم،‏ بل تناول مسكة مشوية من رأسها وصار يقضم بطنها

السمني غري آبه هبم.‏

قال جعفر:‏ ‏»سآتيكم مبشعل يضيء لنا األطباق الشهية«،‏ واختفى برشاقته

وحنوله.‏

اقترب رجب من سدرة وتلعثم ثواينَ،‏ مث مدَّ‏ يديه إليها بقطعة من صوف

أبيض مجيل،‏ وقال:‏ ‏»أخذهتا عند ‏)قيصريية(‏ القَصَ‏ بة،‏ وعاجلها ‏)القيصري(‏

هناك حى صارت ناصعة البياض،‏ مثل...‏ مثل وجهكِ‏ «.

وقبل أن جتيبه سدرة بكلمة،‏ سحبه مصطفى من ياقته وقال:‏ ‏»ما رأيك أن

جتد لك شيئًا مفيدًا تفعله؟ أن حترس األسوار مثالً‏ ، بدالً‏ من إحضار اهلدايا

للفتيات.‏ ال نريد للغزاة أن يُغافلونا ثانيةً،‏ أليس كذلك؟«.‏

أجابه:‏ ‏»بل سأبقى هنا وأستمتع بالعشاء.‏ أيُّ‏ غزاة سيتجرَّؤون علينا بعد

معركة األمس؟!«.‏

ابتسم مصطفى؛ حقًّا...‏ لن يدنس عدوّ‏ بعد اليوم أرض صفاقس،‏ وسيعيشون

أحرارًا وعندما يكر ويتزوج سوسن ويصبح له ابن منها سيسميه ‏”الزين“‏

وسيدسّ‏ يف كفه الصغرية خنجرًا باردًا أملس ثقيالً‏ وسيقول له:‏ ‏»اطعن

عدوك يف قلبه هنا«،‏ وسيمرر أصبعيه على قلبه عدّة مرّات…‏

وسيضيف…‏ ‏»فالقلب خلف الضلع متامًا«.‏


58

Hooray! Your file is uploaded and ready to be published.

Saved successfully!

Ooh no, something went wrong!