31.12.2022 Views

Sans titre (2)

Create successful ePaper yourself

Turn your PDF publications into a flip-book with our unique Google optimized e-Paper software.

ثورة الزّيتون

1


ثورة الزّيتون لسيت وليدة السّ‏ نة….‏ إنّها بنت العشر سنني على األقل،‏

كانت مجرّد حكاية أنشأتها مع أختي لنمأل وقت الظّهيرة الّذي يطول كثيرا في فصل الصّ‏ يف.‏

قرّرنا فجأة إيجاد قصّ‏ ة بطلتها فتاة بالطّبع،‏ نجمع فيها الحبّ‏ و التّضحية و شيئا من الخيال..‏

و ليس أقدس من حبّ‏ الوطن في زمن يعيش فيه اإلنسان أزمة انتماء،‏ خاصّ‏ ة إذا كان من دول

العالم الثّالث…‏

فتراه مبهورا باملساحيق الّتي تجمّل الدّول األوربيّة،‏ و هي الّتي ما أوجدتها إالّ‏ لتخفي حقيقة

مجتمعاتها الّتي نخرها السّ‏ وس و تركها كأعجاز النّخل الخاوية.‏

و أكثر ما أتمنّاه اللّحظة،‏ أن يكون حبّنا ألوطاننا أفعاال و ليس أقواال نتغنّى بها في األعياد و

املناسبات الوطنيّة.‏

2


تتدافع الكلمات في رأسي و ال تجد سبيال للخروج بطريقة منمّقة…‏

لعلّك تنتظر مولودي بفارغ الصّ‏ بر و لكنّ‏ املخاض عسير،‏ نظرات القلق بادية على وجهك الشّ‏ احب و

صوت خطواتك الّتي تسابق دقّات قلبك لم يهدأ منذ وجدت نفسك وحيدا مع امرأة على وشك

الوالدة.‏

أنت تحاول أن تهدأ لتفكّر بطريقه جيّدة،‏ جلست في ركن الغرفة و أغمضت عينيك قليال ثمّ‏ فتحتهما

في قرية الزّيتون،‏ و رأيت األطفال يتسابقون بطائراتهم الورقّية الّتي سرعان ما اختفت خلف

الضّ‏ باب الكثيف.‏

هذا كان حال القرية منذ سنوات,‏ و هؤالء األطفال وُلدوا وسط الضّ‏ باب و اعتادوا وجوده.‏

كان السّ‏ يّد عماد رجال قويّ‏ البنية,‏ أسمر البشرة ذو شعر بنّيّ‏ مجعد و حاجبني كثيفني,‏ كانت عيناه

واسعتان شديدتا السّ‏ واد برّاقتان,‏ تعطي ملن يحادثه األمان؛ أمّا زوجته أمينة،‏ فقد كانت امرأة

هادئة الطّبع،‏ حسنة الخَلق و الخُلق،‏ كان صوتها الهاديء العميق و عيناها الواسعتان مالذ السّ‏ يّد

عماد بعد يومه الشّ‏ اقّ‏ في املنجم.‏

لم يمرّ‏ على زواج عماد و أمينة فترة طويلة،‏ و كان خبر حملها أكثر شيء أدخل السّ‏ عادة على

بيتهما املتواضع في ظلّ‏ االحتالل الّذي يجثم على سكّان قرية الزّيتون.‏

بدأ األمر قبل أكثر من خمسني سنة ….

في ذلك اليوم املشؤوم،‏ إستيقظ سكّان القرية على ضباب كثيف أحاط بكلّ‏ مكان،‏ حتّى أنّ‏ أحدهم

ال يكاد يرى من أمامه هل هو عدوّ‏ أم صديق.‏

بقيت القرية على هذا الحال شهرا كامال،‏ و النّاس ال يدرون أهي لعنة السّ‏ ماء أم نهاية العالم….‏

دخل السّ‏ كان في حالة اكتئاب،‏ و بدأت أشجار الزّيتون تفقد لونها األخضر املبهج،‏ و لم يستطع

أحد إيجاد تفسير ملا يحدث،‏ إلى أن ظهر مجموعة من األشخاص الغرباء.‏

3


فتحتَ‏ عينيك على صوت صراخ الطّفل الّذي اعادك للواقع….‏

الدّماء تمأل املكان و املرأة تنظر إليك بوجه شاحب متعب و عينني غائرتني أحاط بهما السّ‏ واد؛

إنّها تشير إليك أن تقترب..‏

قم و استجمع قواك،‏ فليس للمسكينة أمل سواك،‏ و حياة اإلثنني معلّقة بك…‏

لقد وضعك القدر في هذا املكان لتخفّف أملا و تنقذ روحا لم تكن تر العيش إالّ‏ أمال زائفا…‏ و هو

عادة ما يحسن االختيار،‏

يداك ترتجفان بشدّة،‏ تماسك!‏ و ابحث عن شيء لتلفّ‏ به الطّفل و تضعه على صدري،‏

نظرت حولك فلم تجد شيئا…‏ املكان خال تماما إال من بعض ريش الحمام املتناثر على األرض و

بعض األواني الحديديّة الّتي أكلها الصّ‏ دأ.‏

أنت لم تتخيّل نفسك أبدا في موقف كهذا املوقف…‏ فالحياة تضعنا أمام تحدّيات غريبة نخرج

منها أقوياء أحيانا،‏ و أحيانا تقسم ظهورنا و ال تقوم لنا بعدها قائمة.‏

حملتَ‏ الطّفل بحذر شديد و لففته بقميصك،‏ ثمّ‏ وضعته علر صدر امّه لينال الدّفء،‏ و جلستَ‏ تنتظر

اإلسعاف.‏

4

لم يكن املحتلّون بشرا عاديّني،‏ كانت أجسامهم متناسقة بطريقة مبالغ فيها،‏ و شعورهم رماديّة،‏ أمّا

لون بشرتهم فقد كان شاحبا كأنّهم وُلدوا من الضّ‏ باب.‏ كانت تقاسيم وجوههم قاسية و كأن شفاهم

لم تعرف اإلبتسام من قبل.‏

لم تكن هذه املخلوقات محبّة للدّماء،‏ بل كان يكفيهم أن يصبح الجميع عبيدا لديهم،‏ و كلّ‏ شخص

يحاول املقاومة يدخلونه في حالة اكتئاب شديد تقوده إلى اإلنتحار.‏

ساد الفقر سكّان القرية و لم يعد أحد يملك شيئا يُذكر،‏ فهم يعملون مقابل قوتهم اليوميّ‏ كلّ‏ حسب

جهده؛


فصار في القرية طبقتان،‏ طبقة العمّال الّذين هم السّ‏ كان األصليون،‏ و طبقة املالكني الّذين عُرفوا

بالضّ‏ بابيّني.‏

توالت السّ‏ نوات على هذا الحال،‏ و ظهرت مقاومات شعبيّة قادها أبطال قرية الزّيتون بشجاعة…‏

دُفن كلّ‏ أصحابها تحت التّراب.‏

لم تكن األسلحة التّقليديّة تؤثّر في هؤالء الغاصبني،‏ فالرّصاص كان يخترق أجسادهم دون أن

يترك أيّ‏ أثر،‏ كذلك الرّماح و السّ‏ يوف و القنابل لم تعط أيّ‏ نتائج تُذكر.‏

لقد سيطروا على السّ‏ كان بالحزن و الرّماديّة الّتي أحاطت بكلّ‏ مكان،‏ حتّى أصبحوا كاألجساد

الخالية من األرواح،‏ يعيشون من أجل العيش فقط.‏ لقد فقدوا األمل في رؤية السّ‏ ماء الزّرقاء من

جديد،‏ أو العشب األخضر و األزهار الّتي كانت تزيّن أراضيهم في فصل الرّبيع،‏

حتّى الحيوانات لم تصبر على العيش في هذا الجوّ‏ الكئيب…‏

كان عمّال املناجم يتميّزون عن غيرهم بالفطنة و بعض اإليجابيّة؛ لم يُعرف السّ‏ بب في بداية األمر،‏

فقد كانوا يستيقظون صباحا كغيرهم من السّ‏ كان،‏ و يذهبون إلى العمل بطريقة آليّة؛ و في آخر

اليوم،‏ يعودون أكثر نشاطا و راحة نفسيّة،‏ و كأنّ‏ أدران قلوبهم غُسلت بماء الثّلج.‏

الحظ السّ‏ يّد جميل هذا التّغيّر في املزاج لعمّال املناجم خاصّ‏ ة،‏ فأصبح يذهب خلسة إلى املنجم

في غير أوقات العمل.‏

كان يتفحصّ‏ الجدران و األحجار واحدا تلو اآلخر،‏ و في أحد األيّام الحظ وجود حجر أسود باهت

اللّون ال يلقي النّاظر إليه باال…‏ أمسك الحجر و نظر إليه بتمعّن،‏ فشعر و كانّ‏ طاقة إيجابيّة تُحقن

في جسده و تغير مزاجه إلى األحسن،‏ عندها أيقن السيّد جميل أنّه يمسك خالص القرية بني

يديه.‏

5


كان السيّد جميل رجال متّزنا آثر التّمهل و دراسة األمر عن كثب؛ فصار يأخذ الحجر معه أينما

ذهب و يجرّبه على من حوله دون أن يثير الشّ‏ كوك؛ و بعد ان تاكّد من األمر،‏ ذهب إلى السّ‏ يّد

عارف كبير قرية الزّيتون.‏

عُرف السّ‏ يّد عارف في القرية بالحكيم،‏ فقد كان ثاقب النّظرة،‏ سديد الرّأي،‏ متأنّيا قبل اتّخاذ

القرارات.‏

كان له شاربان طويالن و عينان حادّتان،‏ أصلع الرّأس معتدل الطّول،‏ يظهر عليه الوقار؛ جمع في

قبو منزله كتب األوّلني من أسالفه،‏ و كلّ‏ أسرار القرية محفوظة عنده.‏

كان الوقت متأخّرا عندما طرق السّ‏ يّد جميل بابه متهلّل الوجه مبتسما،‏

أبشر يا سيّد عارف فالخالص قريب…‏

تأخّرت سيّارة اإلسعاف،‏ و نار القلق تتأجّ‏ ج داخلك لكنّك ال تجد لها ماءا يطفئها…‏

نظرتَ‏ إلى املرأة أمامك و إذا هي متماسكة رابطة الجأش و كأنّ‏ من يفقد حياته شخص غيرها..‏

عجيب أمر النّساء،‏ فرغم رقّتهنّ‏ و ضعف بنيتهّن إالّ‏ أنّهنّ‏ في كثير من األحيان أقوى من الرّجال،‏ و

خير مثال على ذالك األمّهات،‏ و في حالة نكران الذّات الّتي يعشنها مع أوالدهنّ‏ تُؤلّف كتب و تُروى

حكايات…‏

و بني القلق و التّعجب،‏ سمعتَ‏ صوت املروحيّة أمام البيت املهجور.‏

6


تفضّ‏ ل يا سيّد جميل ال تطل الوقوف أمام الباب

أحمل بني يديّ‏ الخالص من مستنقع الضّ‏ باب الّذي غرقنا فيه يا سيّد عارف…‏ أمسك هذا الحجر

و ستفهم ما أقصده.‏

أمسك السّ‏ يد عارف الحجر و أخذ يتفحّ‏ صه،‏ ثمّ‏ رفع بصره و بريق عينيه يفصح عمّا في داخله

صدقت يا سيّد جميل،‏ لعلّه بصيص النّور للخروج من هذا النّفق،‏ و لو حاز من سبقنا من

املحاربني هذا الحجر ما وصلنا إلى هذا الحال.‏

هبّت نسائم ربيع هذا العام تحمل رائحة أوراق الزّيتون على غير العادة،‏ و انحسر الضّ‏ باب عن

رأس الجبل األخضر في القرية حتّى صارت قمّته ناصعة البياض تظهر لكلّ‏ آت من بعيد.‏

أستبشر السّ‏ كان خيرا،‏ خاصّ‏ ة و أنهم يشعرون منذ مدّة بالحياة تعود ألجسادهم و بالدّماء تتدفّق

في عروقهم و تطرد الشّ‏ حوب عن وجوههم.‏

لقد أصبحت مجوهرات السّ‏ يد عارف مشهورة في القرية،‏ فقد كان ثمنها مناسبا للسّ‏ كان،‏ يتهادونها

بينهم في املناسبات.‏

لم تكن أحجارها ذات ملعان يأخذ األلباب،‏ و إنّما كانت سوداء باهتة تبعث على الرّاحة و الهدوء،‏ و

كانت تصنع خصّ‏ يصا حسب الطّلب.‏

أصبح األمر مقلقا للضّ‏ بابيّني،‏ فهم يالحظون أنّ‏ الجوّ‏ السّ‏ ائد في القرية بدأ يتغيّر؛ و كان انحسار

الضّ‏ باب عن رأس الجبل األخضر إشارة لهم أنّ‏ وجودهم أصبح مهدّدا بالزّوال.‏

و رغم األموال الّتي جمعوها و البنايات الّتي شيّدوهاعلى أكتاف القرويّني إالّ‏ أنّ‏ الجشع ال يعرف

الشّ‏ بع،‏ كالثّقب األسود الّذي يمتصّ‏ كلّ‏ شيء يعترضه دون أن يكتفي،‏ و لكنّ‏ أمر ذوي القلوب

املريضة أشدّ،‏ فهم يصبحون أكثر ظلم و عدوانيّة إذا شعروا بالتّهديد.‏

7


إقترب موعد والدة السّ‏ يّدة أمينة،‏ و أصبح بطنها يتشنّج كثيرا في اآلونة األخيرة،‏ و رغم التّعب و

التّورمات إالّ‏ أنّها كانت دائمة اإلبتسام في وجه السّ‏ يّد عماد الّذي كان يبدو عليه التّوتر و القلق.‏

دخلت طبيبة اإلسعاف إلى الغرفة و أنتَ‏ تزاحمها…‏

هل هي بخير؟ هل ستنجو؟ و ماذا عن الطّفل؟

سأفعل ما بوسعي يا سيّدي،‏ لقد فقدت الكثير من الدّماء

أرجو أن تنجو هذه املسكينة فقد عاشت كابوسا و هي أسيرة بني يدي ذلك املجنون.‏

نبض األمّ‏ ضعيف جدّا،‏ علينا االستعجال…‏

كانت والدة السّ‏ يّدة أمينة عسيرة،‏ و في تلك األيّام،‏ أعلن الضّ‏ بابيّون عن حالة الطّواريء ابتداءا من

السّ‏ اعة الخامسة مساءا.‏

كانت الشّ‏ مس على وشك الغروب عندما اشتدّ‏ على أمينة ألم املخاض،‏ و كان من املستحيل أن ينقل

عماد زوجته إلى املستشفى،‏ فأخذ يتنقّل بني الجيران كاملجنون طلبا للمساعدة.‏

لم يتجرّأ أحد على مرافقته إلى بيته خوفا من خرق قانون الطّواريء و بعد طول انتظار…‏ وجد

عجوزا قبلت أن تسعف زوجته.‏

8


لميتبقّ‏ في جسد أمينة قوّة لدفع املولود إلى الخارج فقد استنزفت قواها تماما و هي تحاول منذ

املساء إلى منتصف اللّيل،‏

يجب أن تحاولي مجدّدا يا ابنتي و إالّ‏ مات مولودك قبل أن يرى النّور.‏

استجمعت أمينة كلّ‏ قوّتها و حبّها لزوجها و شوقها لرؤية مولودها و غضبها على املحتلّني ثمّ‏

أمسكت بيدي زوجها و صرخت صرخة سُ‏ مع بعدها بكاء طفل…‏

تهلّل وجه عماد و الدّموع تمأل عينيه،‏ ثمّ‏ التفت إلى زوجته ليعانقها….‏ فلم يجد إالّ‏ جسدا دون

حراك.‏

لم يستوعب األمر في البداية،‏

ال بدّ‏ أنها نامت من تعبها الشّ‏ ديد

لم تستطع العجوز أن تعقّب،‏ فقد حبست الدّموع صوتها و لم يُسمع إالّ‏ أنينها.‏

أمينة!‏ أفيقي لترضعي الطّفل…‏ أال تسمعني صراخه؟

أمينة…‏

هدوؤها مخيف…‏ و برودة أطرافها بدأت تتسلّل بهدوء لتلسع يد عماد و هو ممسك بيدها.‏

لقد أحرقت الحقيقة قلب عماد قبل أن تحرق البرودة يده…‏

أمسك ابنتك يا بنيّ‏ و أعطها الدّفء الّذي لن تناله إالّ‏ منك،..أنظر،‏ إنّها فتاة

نظر عماد إلى ابنته نظرة حبّ‏ و خوف و شفقة،‏ ثم ابتسم لصغر حجمها و تقاسيم و جهها البريء،‏

و فجأة…‏ أجهش بالبكاء و هو يراها تبحث بفمها الصّ‏ غير عن أيّ‏ شيء لتلتقمه.‏

إحتضن عماد ابنته بقوّة،‏ ثمّ‏ نظر إلى العجوز نظرة دهشة،‏

هل الحظت الوحم على كتفها؟

إنّه أوّل شيء رأيته يا بنيّ….‏ عليك أن تتجهّز فحِملك ثقيل.‏

إنهار عماد تماما،‏ فال مهرب من الكابوس الّذي يعيشه اللّحظة،‏ و كأنّ‏ األرض و السّ‏ ماء تطبقان

على صدره،‏ فمع فقد زوجته و سنده في الحياة،‏ وُلدت له ابنة بعالمة النّبل املميّزة للمحاربني.‏

9


كم هي قاسية هذه الحياة،‏ لقد أخذت من عماد سبب سعادته الوحيد،‏ ووضعت على كاهله ثقال ال

يقوى على حمله رجل في أتمّ‏ العافية،‏ فكيف برجل جريح…‏

أرجو أن تكتمي األمر يا سيّدتي

ال تقلق،‏ لن يعلم أحد.‏

ال أدري إن كان يجوز لي أن أقول لحسن حظّ‏ السّ‏ يّد عماد كان جاره السّ‏ يّد جميل قد رُزق حديثا

بمولود جديد،‏ و لكنّه القدر الّذي يفرض علينا الحلول الّتي تناسبه،‏ و ال نملك إالّ‏ الطّاعة و الرّضا.‏

السّ‏ يّد عماد واقف أمام باب جاره مطأطيء الرّأس يحمل ابنته بني ذراعيه…‏

فتح السّ‏ يّد جميل الباب عند سماعه بكاء طفل،‏

ما الّذي حدث يا عماد ما هذه الحالة؟

توفّيت أمينة إثر الوالدة…‏

أقبلت السّ‏ يدة سناء زوجة السّ‏ يّد جميل مسرعة و أخذت الفتاة من أبيها و احتضنتها بشدّة،‏

ال تقلق يا سيّد عماد،‏ إبنتك ابنتي،‏ و لن ينقصها شيء ما دمت على قيد الحياة.‏

لو تأخّرنا أكثر لفقدنا األمّ‏

لقد بقيت أيّاما في غرفة مظلمة،‏ و لوال وصولي في الوقت املناسب،‏ لكان املجنون قتلها و طفلها

دون تردّد

ما الّذي حدث بالضّ‏ بط،‏ ملاذا اختطفها و أحضرها إلى هذا املكان املوحش

إنّه مريض نفسيّ،‏ فقد زوحته وهي حامل في حادث سير،‏ فصار يختطف النّساء الحوامل و

يقتلهّنّ‏ كنوع من اإلنتقام.‏

10


أنا عاجزة مرّة أخرى عن تقييم الحظّ‏ هل هو سيّء أم حسن…‏ لن أستعمل كلمة الحظّ‏ مجدّدا،‏

إنّه القدر الّذي وضعها في طريق مريض نفسيّ‏ ثمّ‏ ساقك إليها لتنقذها،‏ و ال وجود لقدر سيّء و

آخر حسن،‏ إنّما هو القدر…‏ املهيمن الوحيد في السّ‏ احة.‏

كبرت الفتاتان معا كأختني حقيقيّتني تتشاركان في كلّ‏ شيء.‏

لقد اكتسبت حبيبة ابنة عماد من اسمها نصيبا وافرا،‏ فقد كانت قريبة إلى القلب لها جاذبيّة

عجيبة،‏ ورثت عن أبيها شعره البنّي املجعد و عن أمّها البشرة البيضاء املشرّبة بحمرة،‏ و العينني

الواسعتني ذات األهداب الكثيفة.‏ كان لها فم واسع،‏ كثيرة الكالم والحركة.‏ أمّا سالف ابنة جميل

فقد كانت على عكسها فتاة هادئة قليلة الكالم تميل إلى االنطواء و العزلة،‏ كان لها شعر أسود

ناعم و عينان عسليّتان.‏

بدأت الغيرة تتسلّل إلى قلب سالف و تكبر بمرور األعوام،‏ و رغم أنّ‏ أمّها سناء الحظت األمر،‏ إالّ‏

أنّها لم تعره اهتماما و لم تحاول معالجة املشكلة قبل أن تتفاقم.‏

أصبحت سالف شديدة الحساسيّة،‏ كثيرة البكاء دون أن تفصح عن السّ‏ بب؛

فمرّة بينما كانت منعزلة في غرفتها،‏ طرقت حبيبة الباب

إنّ‏ ماما سناء تناديك لتناول العشاء

ليست أمّك و لست جائعة

حسنا!‏ ال داعي للتّوتر…‏ أمّك سناء تناديك لتناول العشاء

11


قلت اذهبي….‏ لست جائعة

هل أكلت خلسة؟!‏ أنا أموت جوعا

هل تذهبني أم أترك لك املكان؟

سأذهب….‏ و أعود باألكل

بعد فترة قصيرة طرقت السّ‏ يّدة سناء الباب و هي تحمل الطّعام

هل هناك ما ال أعرفه يا ابنتي؟

ال يوجد شيء،‏ أريد فقط أن أبقى بمفردي

هل ازعجتك حبيبة دون قصد؟

و من هي لتزعجني…‏ كلّ‏ ما في األمر أنّي لست جائعة

تعلمني يا سالف أنّك ابنتي الوحيدة،‏ و لن أبّدلك بكنوز العالم،‏ لكّن حبيبة أيضا في مثابة…..‏

حبيبة ! حبيبة!،‏ أنتم أساسا ال ترون غيرها

لقد قطعت وعدا ألبيها يا ابنتي،‏ هل تريدين أن أصبح مخلفة للوعود!.‏

إزداد األمر سوءا بمرور الوقت،‏ حتّى أنّ‏ السّ‏ يّد عماد الحظ النّار التي كانت تحرق كلّ‏ شعور جميل

في قلب سالف و تحوّله إلى رماد،‏ فعيون الغيرة كبيرة ترى ما ليس حقيقيّا و تصدّقه؛ عندها قرّر

أن يحلّ‏ املشكلة من جذورها.‏

لقد كبرت حبيبة بما فيه الكفاية يا صديقي لتعمتد على نفسها،‏

ماذا تقول يا أخي!‏ هل تريد أن تفرّق ابنتنا عنّا؟

لم تكن هذه نيّتي أبدا،‏ ولكن يجب أن تتعلّم تحمّل املسؤوليّة،‏ و ستزوركم بني الحني و اآلخر.‏

لم يلحّ‏ جميل كثيرا على بقاء حبيبة،‏ فهو يعلم حقيقة األمر،‏ و وجد أنّه الحلّ‏ املناسب للحفاظ على

العالقة بني العائلتني.‏

12


كانت حبيبة تزور جارتهم سناء بني الحني و اآلخر،‏ و رغم أنّها لم تكن تطيل البقاء إالّ‏ أن وجودها

كان مزعجا لسالف،‏ و أكثر شيء كانت تتمنّاه هو أن تختفي حبيبة من حياتها تماما.‏

و في أحد األيّام بينما كان السّ‏ يّد عماد يسّ‏ ر إلى صديقه مخاوفه،‏ استمعت سالف حديثهما خلسة

إنّ‏ قلقي يزداد كلّ‏ يوم يا أخي،‏ فحبيبة تكبر،و قدراتها بدأت تظهر،‏ و إذا اكتشف الضّ‏ بابيّون

أنّها تحمل عالمة املحاربني تخلّصوا منها على الفور

أنتمحقّ‏ في قلقك يا صديقي،‏ و لكن ال أحد غيرنا يعلم باألمر،‏ إضافة أنّ‏ الضّ‏ بابيّني منغمسون

في البحث عن سرّ‏ عدم تأثير موجاتهم السّ‏ لبيّة.‏

أرجو أن يكون األمر كذلك…‏

لقد تعلّمتَ‏ الصّ‏ بر في قرية الزّيتون؛

خرجتَ‏ من الضّ‏ باب و أقسمت أن تحارب كلّ‏ من يحتمي به أو بالظّالم أو حتّى من يختبئ تحت

صندوق من ورق.‏

صرتَ‏ تحبّ‏ الوضوح و الشّ‏ فافيّة في كلّ‏ شيء،‏ و تكره الرّماديّة و الغموض أينما وجدا.‏

لقد أخذ الضّ‏ باب منك والدك و هو شابّ‏ في مقتبل العمر؛

في تلك اللّيلة،‏ كنتم مجتمعني على طاولة العشاء عندما توقّفت سيّارة رباعيّة الدّفع أمام البيت،‏

دخل جماعة من الضّ‏ بابيّني دون استئذان،‏ و أخذوا والدك دون توضيح السّ‏ بب…‏

بعد مرور أسبوع،‏ عاد والدك كأنّه دمية متحرّكة…‏

أصبح شاحب اللّون ال يتكلّم إالّ‏ نادرا،‏ يؤثر الجلوس وحده في الظّالم.‏

13


و في أحد األيّام،‏ عندما كنت عائدا من املدرسة سمعتَ‏ طلقا ناريّا….‏ خفتَ‏ كثيرا،‏ و لكن البدّ‏ من

مواجهة املوقف.‏

دخلتَ‏ إلى املنزل بحذر،‏ فوجدت والدك ممدّدا على األرض وسط بقعة كبيرة من الدّماء و املسدّس

في يمينه.‏

كيف استطعتَ‏ أن تجد املجرم

أنا أالحقه منذ مدّة،‏ لقد استطاع الهرب في املرّة السّ‏ ابقة،‏ لكن البدّ‏ للمجرمني من هفوة نمسك بها

طرف الخيط

و أين هو اآلن؟

لقد أصبته إصابة بليغة،‏ لن يستطيع الصّ‏ مود كثيرا،‏ و الشّ‏ رطة تقوم بتمشيط املنطقة بحثا عنه.‏

وصلنا إلى املستشفى،‏ علينا اإلسراع.‏

كانت الفتاتان تقصدان مدرسة القرية معا،‏ و في أحد األيّام قرّرت سالف كشف سرّ‏ صديقتها

للعلن؛ فبينما كانت الفتيات مجتمعات وقت االستراحة قالت

من منكنّ‏ تتميّز بشيء عن غيرها من الفتيات،‏ أنا مثال صوتي كالعندليب و أجيد الغناء،‏ ماذا

عنكن

أنا أجيد تأليف القصص الخياليّة

ماذا عنك يا حبيبة؟

ال شيء أبدا…‏ لست مميّزة

رأيت مرّة عالمة مميّزة على كتفك،‏ إنّها جميلة جدّا،‏ أرهم إيّاها

اتقصدين هذا النّبل!،‏ إنّه وحم عاديّ‏

14


نظرت إحدى الفتيات إلى عالمة حبيبة باهتمام،‏ ثمّ‏ انسحبت بهدوء.‏

توجّ‏ هت جاسوسة املدرسة مباشرة إلى مقرّ‏ القيادة،‏

لقد حُ‏ دّد الهدف يا سيّدي،‏ يجب أن نتحرّك بسرعة.‏

بعد نهاية الدّوام املدرسي،‏ آثرت سالف أالّ‏ ترافق حبيبة الطّريق إلى املنزل…‏

لن أستطيع العودة معك اآلن يا حبيبة،‏ لقد وعدت صديقتي أن أرافقها لشراء بعض املستلزمات

ال بأس بذلك..‏ استمتعي بوقتك

15

لم تكن حبيبة تدرك الخطر الّذي يراودها،…‏ و بينما كانت تمشي بكل ثقة في طريقها إلى املنزل،‏

اعترضتها سيارة سوداء و أدخلها رجالن عنوة من الباب الخلفي ثمّ‏ قاما بتخديرها قبل أن تقوم

بأيّ‏ حركة مفاجئة.‏

سقطت حبيبة دون أدنى مقاومة،‏ وبينما هي ملقاة على الكرسي الخلفي أخذ أحد الضّ‏ بابيني ينظر

إليها باستغراب..‏

هل أنتم متأكدون من الخبر،‏ ال يبدو أن هذه الفتاة الصغيرة تملك أيّا من قدرات املحاربني فكيف

تكون أقواهم…‏

فتحت حبيبة عينيها و إذا هي في غرفة زجاجية ذات جدران سميكة…‏

نظرت حولها باستغراب و عينني تائهتني و كأن مفعول املخدّر لم يختف تماما ثم توجهت مترنحة

نحو الجدار الزجاجي و اخذت تنادي بأعلى صوتها علّ‏ أحد الواقفني يلتفت إليها…‏

ملاذا احتجزتموني في هذا املكان؟ أريد العودة إلى البيت…‏

ال جدوى من الصراخ يا آنسة..‏ وفّري طاقتك للساعات املتبقية،‏ فلن تحتاجي إليها بعد ذلك.‏

أثار هذا الصوت البارد القشعريرة في جسد حبيبة فجلست و أغمضت عينيها و أخذت تفكر في

أبيها و غرفتها…‏ و فجأة بدأ الوحم على كتفها في التوهج … شعرت حبيبة بشيء يلسعها و كأنّ‏


شرارة كهربائية تولّدت من كتفها و انتشرت في جميع جسدها..ثمّ،‏ و في ملح البصر،‏ إنتقلت من

الغرفة الزجاجية إلى غرفتها،‏ و عندما زال الشعور الغريب،‏ فتحت عينيها و إذا هي جالسة على

سريرها و كأنّ‏ شيئا لم يحدث.‏

حبيبة ال تدرك شيئا،‏ هل كان ما عاشته مجرد كابوس!…‏

أخذت حبيبة تتحسّ‏ جسدها و الوحم على كتفها ثمّ‏ هرعت إلى غرفة أبيها…‏

حبيبة!…‏ متى وصلت؟ لم أرك و أنت تدخلني إلى البيت!‏

لن تصدّق ما حدث يا أبي…‏ و ال أستطيع أن أجزم أنّ‏ ما حدث حقيقة و ليس مجرّد أوهام

أنتِ‏ ترتجفني يا ابنتي،‏ ماذا حدث؟

لقد كنت محتجزة في غرفة زجاجية محاطة بالضّ‏ ابيني،‏ و عندما شعرت بالخوف أغمضت عينيّ‏ و

إذا بي جالسة على سريري في املنزل

تغيّر وجه السيّد عماد و شحُ‏ ب لونه و كأنّ‏ الدّم جفّ‏ في عروقه

علينا مغادرة املنزل في الحال ال وقت للشرح

نترك املنزل!‏

قلت أسرعي ال وقت نضيّعه…‏

توجّ‏ ه السيّد جميل إلى قبو منزله ثمّ‏ فتح بابا في أرضية الغرفة

باب سرّيّ‏ !! ملاذا ال أعلم شيئا عن األمر

ال تكثري األسئلة سأشرح عندما نصل

16


لم تكن هذه أول ضحية تنقذها و لن تكون األخيرة…فاملجرمون و املرضى النفسيّون منتشرون

بكثرة في الشوارع يبحثون عن أية لقمة سائغة تشبع غرائزهم املريضة في القتل و إثارة الرعب،‏ و

لعلّ‏ أغلبهم كانوا ضحايا من قبل ‏..و لضعف فيهم،‏ حوّلوا مآسيهم ألى كوابيس على رؤوس

الخلق…‏

نحن ال نملك أن نكون سعداء أو أشقياء ، ال نملك أن نكون أحرارا أو سجناء و لكن نملك أن

نتعايش مع الظروف و نحولها إلى دروس تفيدنا في التقدم إلى األمام…‏

ال يجب أن نقف عاجزين أمام القدر و لكن يجب أن نتّخذه صديقا و مرشدا إلى طريق النّجاة..‏

هذا ما تعلمته و أنت تعيش في ظلّ‏ احتالل لم تختر أبدا أن تكون من ضحاياه،‏ و لعلّ‏ فقدك ألبيك

في سنّ‏ مبكرة دفعك إلى السّ‏ يد عارف لتتّخذه أبا و تكون له االبن الذي لم يرزق به أبدا.‏

كانت كلّ‏ منازل الثّوار في القرية تحوي مداخل سرّيّة لألنفاق املؤدّية إلى مقرّ‏ القيادة.‏

عماد يحاول التقدم بسرعة في النّفق ممسكا بيد ابنته و كأنّه يجرّها جرّا…‏ حبيبة تمشي و الدّموع

تنهمر من عينيها اللتني تنظران إلى أبيها نظرة عتاب.‏

و فجأة توقّفت حبيبة عن التّقدم و جلست على األرض….‏

لن أصدّقك بعد اليوم،…‏ ألم تخبرني أنّ‏ ما يميّز عالقتنا كأب و ابنته هو الصّ‏ داقة،‏ و أنّه ال مكان

لألسرار بني األصدقاء.‏

كان يجب أن أحميك قبل كلّ‏ شيء…‏ و هذا واجبي كأب و صديق

17


ممّ‏ تحميني؟

سأوضّ‏ ح كلّ‏ شيء عندما نصل يا ابنتي…أال تثقني بي!‏

قامت حبيبة من مكانها و عانقت أباها بشدّة…‏ ثمّ‏ واصال السّ‏ ير إلى أن وصال إلى مقرّ‏ القيادة.‏

كان الجرح الذي فتحته في بطن املجرم بليغا أفقده الكثير من الدّماء،‏ و من عجائب القدر أنّ‏

املجرمني ال يموتون بسرعة….و كأنّ‏ أرواحهم تتغذّى من آالم البشر.‏

و بعد أن توغّل في الغابة و أيقن أنّه من الصّ‏ عب إيجاده بني األشجار الكثيفة…‏ سمح للنّوم أن يلج

جفونه املرتخية.‏

سقطت قطرات النّدى على جبينه امللّطّخ بالدّماء فقام مرتعبا…‏

نظر حوله و إذا أشعّة الشمس تسلّلت بني أوراق األشجار الكثيفة لتزاحم الظّالل،‏ ثمّ‏ رفع بصره و

إذا بعصفور يغنّي أجمل األلحان،‏ و هذا سنجاب قد أمّن فطور الصباح،‏ يعدو بحبّة البندق بني

يديه ليخفيها في بيته أعلى الشّ‏ جرة.‏

إتّسعت عينا املجرم و كأنّ‏ البؤبؤ صار يسبح في هالة بيضاء دون أن يجد له مستقرّا،‏

و كأنّ‏ املنظر أغاظه و آمله أكثر من جرح بطنه.‏

أخذ يبحث حوله عن شيء يبدّد السّ‏ عادة في املكان ثمّ‏ تذكّر القدّاحة املوجودة في جيبه،‏

فأمسكها مبتسما و كأنّه وجد ضالّته.‏

قام من مكانه متمايال يستند ألى األشجار و يبحث عن األوراق الجافّة و األغصان اليابسة،‏ و

عندما جمع كومة أشعرته بالرّضا…‏ ألقى قدّاحته املشتعلة لتلتهب النّيران.‏

18


ما هذا املكان يا أبي؟ كيف استطعتم أن تخفوا كلّ‏ هذا عن الضّ‏ بابيني؟

إذا انحصر سرّ‏ بني أشخاص ثقات صعب على العدو التسلل،‏

لم نكن نبحث عن الكنوز في املناجم طوال اليوم..‏ بل كنّا نبني األنفاق و نصنع األسلحة و نطوّرها

في انتظار وصول املحارب الخامس.‏

املحارب الخامس!!‏

نعم يا ابنتي،‏ آخر محاربي قرية الزيتون و أقواهم

أنظري من هناك….‏

سيّد جميل،‏ عمّي عارف…‏

أقبل السيّد عارف نحو حبيبة و وضع يده على شعرها املتطاير

أهال بك يا ابنتي،‏ كنّا ننتظر هذا اليوم منذ سنوات

جلست حبيبة على األرض كعادتها و أخذت تدور ببصرها في املقرّ.‏

املكان آمن….‏ لن اتحرّك من هنا قبل أن أفهم كلّ‏ شيء.‏

اقترب السيّد عماد من ابنته و أشار إلى مكان الوحم…‏

هذا يا حبيبة ما كان يبحث عنه الضّ‏ بابيّون،‏ و هذا سبب انتقالك من مكان إلى آخر في ملح

البصر…..‏ أنتِ‏ املحارب الخامس يا ابنتي

شعرت حبيبة بالدّهشة و الحماس في نفس الوقت،‏ ثمّ‏ نظرت إلى السّ‏ يّد عارف..‏

إذا أنا من كنتم تنظرونه كلّ‏ هذا الوقت!!!‏ … أنا رهن إشارتك يا عمّ،‏ لن نضيّع املزيد من الوقت

هذا جواد في مثابة إبني….‏ سيرشدك إلى املدرّبني الّذين سيعلّمونك كيف تستخدمني قواك.‏

نظرت حبيبة إلى أبيها معاتبةً….‏ كيف تؤمّنونه على أسراراكم و هو أصغر منّي سنّا…‏ سأتذكر

هذا دائما.‏

تبسّ‏ م السّ‏ يّد عماد و السّ‏ يّد عارف من قولها،‏

أوّل شيء عليك التّحكم به هو لسانك الّذي ال يكفّ‏ عن الحركة.‏

19


سيّد جواد…‏ هناك دخان كثيف يتصاعد من الغابة الّتي يختبيء فيها املجرم

ال بدّ‏ أنّه وراء هذا…‏ أعلِموا مركز اإلطفاء،‏ علينا محاصرة النّيران قبل أن تنتشر في كلّ‏ أنحاء

الغابة

لم أكلّف نفسي أبدا أن أبحث عن إسم لهذا املجرم…‏ فهو اليستحقّ‏ أن يذكر على لسان من

يقرأ…‏

لقد كان تجسيدا ألذى يمشي على رجلني،‏ لم يسلم بشر و ال طير من حقده…‏

وقف ينظر إلى النّيران منتشياً‏ و إلى السّ‏ نجاب الذي ترك بيته و مؤونته و فرّ‏ هاربا،‏ ثمّ‏ إلى العشّ‏

الّذي يسقط بهدوء ثمّ‏ تلتهمه النّيران قبل أن يصل إلى األرض…‏ و تصاعدت ألسنة اللّهب لتدرك

الطّير قبل أن يبتعد و تضمّه إلى قائمة الضّ‏ حايا…‏

لم يدرك املجرم في سكرة نشوته أنّ‏ النّيران اقتربت منه كثيرا.‏ و النّيران جاحدة ال تعرف لها سيّدا

فتتحاشاه ألسنتها…‏ و عندما شعر بحرّها يالمس وجهه الشّ‏ احب حاول الهرب بسرعة قبل أن

يحترق…‏ و لكنّ‏ السّ‏ يف سبق العذل،‏ فإصابته بليغة و حركته بطيئة،‏ فامتدّت ألسنتها إلى رجليه ثمّ‏

أمسكته من قميصه املمزّق و أحاطته بأصابعها الطّويلة لتتركه كومة من الرّماد…‏

وصل رجال اإلطفاء إلى الغابة و قام مجموعة منهم بقطع األشجار املحيطة بالنّيران ليسهل

حصارها،‏ ثمّ‏ وصلت املروحياّت و الشّ‏ احنات القاذفة للمياه،‏ فنجحوا بعد عناء كبير في إخمادها

قبل أن تتحوّل إلى كارثة.‏

20


نظر رجال اإلطفاء إلى السّ‏ واد الّذي خلّفته النيران في بضع ساعات فقط…‏ و إلى الحيوانات

املتفحّ‏ مة هنا وهناك ثمّ‏ وجدوا جثّة املجرم امللقاة على األرض و قد طمست النّيران مالمح البشرية

التي كانت تخفي حقيقته.‏

كانت حبيبة فتاة مجتهدة حملت على عاتقها السّ‏ نوات التّي كان الثّوار يعملون فيها بجهد منتظرين

قدوهما،‏ و كان أكثر شيء ركّز عليه املدّربون هو الرّماية.‏

في هذا الوقت،‏ كان الضّ‏ بابيّون يستشيطون غيظا و يبحثون عن املحارب الخامس في كلّ‏ مكان

يخطر على بال.‏

قاموا أوال بمداهمة بيت السّ‏ يد عماد،‏ فلم يتركو حجرا إال و رفعوه و ال فرشا إال و مزّقوه،‏ ثمّ‏ توجّ‏ هوا

إلى منزل السّ‏ يّد جميل و فعلوا نفس الشّ‏ يء…‏

ذعرت سالف لرؤية الضّ‏ بابيّني و هم يدمّرون منزلهم فذهبت إلى أبيها في املنجم

أدركنا يا أبي…‏ دمّر الضّ‏ بابيّون منزلنا

ال تقلقي يا ابنتي،‏ ال يسعهم إالّ‏ التّدمير و أمّك تعلم تماما ما عليها فعله…‏

كلّ‏ هذا بسبب حبيبة

حبيبة!‏ و ما أدراك أنّهم يبحثون عنها؟

خمّنت ذلك فقط ‏…فهي مختفية منذ يومني.‏

أنتِ‏ ال تدركني شيئا…‏ إن كان لنا أمل في التحرر من العبوديّة فهو حبيبة…‏

و كيف ذلك؟

إن الوحم على كتفها عالمة للمحاربني،‏ و ليس في مقدور غيرهم إنهاء أمر الضّ‏ بابيّني

أطرقت سالف برأسها و امتألت عيناها بدموع الحسرة و النّدم و لم تعقّب على أبيها بكلمة

واحدة…‏

21


كان برنامج التّدريب شاقّا،‏ فقد كانت حبيبة تستيقظ منذ الخامسة صباحا و تتدرّب على الرّماية

حتى ترتفع الشّ‏ مس في كبد السّ‏ ماء..‏ ثمّ‏ تقوم بتمارين للتّحكّم في الطّاقة الدّاخلية و بذلك تستطيع

اختيار الوقت املناسب و املكان الّذي عليها التّنقل إليه…‏ و في آخر اليوم،‏ يطلعها السّ‏ يّد عارف

على أسرار من سبقها من املحاربني و كيف كانت نهايتهم

بعد مرور شهر من التّدريب املكثّف أحسّ‏ ت حبيبة بجاهزيّتها للمهمّة،‏ فاستيقظت في الصّ‏ باح

الباكر و توجّ‏ هت مباشرة إلى غرفة السّ‏ يّد عارف…‏

صباح الخير يا عمّ‏ عارف

صباحك سعيد يا ابنتي تفضّ‏ لي بالدّخول

لم أعد أستطيع الجلوس أو الوقوف في مكاني….‏ أشعر أنّ‏ الوقت قد حان…‏ فال تدعنا ننتظِر

أكثر،‏ لقد اجتزت كلّ‏ االمتحانات بنجاح و أنا في أتمّ‏ الجاهزيّة…‏

نظر السّ‏ يّد عارف إلى حبيبة نظرة فخر و اعتزاز،‏ فكيف لفتاة في هذا العمر أن تمتلك هذه

الشّ‏ جاعة…‏

ال بأس يا ابنتي،‏ أيقظي أباك و انتظاراني أمام املكتب.‏

كانت حبيبة و والدها ينتظران أمام املكتب عندما وصل السّ‏ يّد عارف حامال صندوقا من خشب

تفضّ‏ ال بالدّخول…‏

هل تعلمان ما يوجد في هذا الصّ‏ ندوق؟

و كيف لنا أن نعلم يا سيّد عارف!‏

إنّه السّ‏ هم املنقذ،‏ و هو خاص بكلّ‏ محارب..‏ أمسكيه يا ابنتي

و لكنّه يبدو صغيرا يا عمّ‏

هو كذلك يا ابنتي و لكن ال بدّ‏ أن أخبرك شيئا في حظور أبيك،…‏ إنّه السّ‏ هم الوحيد الذي يمكنه

قتل زعيم الضّ‏ بابنيّ‏ ، و لكن يجب أن تعلمي أنّه إذا فارق قوسه و أصاب الهدف سيستلّ‏ روح مطلقه

تماما كروح هدفه…‏

22


ما الّذي تقوله يا سيّد عارف،‏ أال يمكنني أن أطلقه بدال عن ابنتي..‏

لقد أخبرتك يا سيّد عماد أنّ‏ لكلّ‏ محارب سهما خاصّ‏ ا ال يمكن لغيره إطالقه

لن أسمح بهذا أبدا…‏

أمسكت حبيبة بيد أبيها و قبّلتها

لقد ولدت ألكون محاربة….‏ هذا قدرنا يا أبي

أجهش السّ‏ يّد عماد بالبكاء

هذا يفوق طاقتي…‏ أال تدركان ذلك

أنا راضية بهذا يا أبي،‏ سأموت و أنا موقنة أنّ‏ أرضنا أصبحت حرّة،….‏ ال تراجع بعد اآلن لقد

بتّ‏ القدر في األمر منذ والدتي

أعلن السّ‏ يّد عارف عن اجتماع للقادة في املقر،‏

كان هدف االجتماع تحديد تاريخ للقيام بالثّورة،‏ و من أجل ذلك كان على جميع القادرين على

القتال أن يتقدّموا إلى املقّر و كان يجب تأمني النّساء و األطفال و العجائز في املخابئ السّ‏ رّيّة مع

األخذ في عني االعتبار توفير املؤن الالّ‏ زمة من طعام و ماء و دواء.‏

رفع السّ‏ يّد جميل يده طلبا للكلمة

نحن نعلم جيّدا أن الحرارة املرتفعة تبدّد الضّ‏ باب الكثيف،‏ و هذا واضح من نشاط املحتلّ‏ في

الشّ‏ تاء و خموله في فصل الصّ‏ يف،‏ أضيفوا إلى ذلك أنّنّا ال نحتاج الكثير من املؤن من لباس و

طعام في هذا الفصل لذلك أقترح أن تقوم الثّورة في شهر جويلية

وافق الجميع على اقتراح السّ‏ يّد جميل….‏ فأعلن السّ‏ يّد عارف الفاتح من جويلية أوّل يوم النطالق

ثورة الزّيتون.‏

كان الجميع منهمكني في التّحضيرات،‏ و كان قلب السّ‏ يّد عماد يقطر دما كلّمّا أشرقت شمس يوم

جديد…‏ أمّا حبيبة فكانت تستعمل قدرة التّنقل من مكان إلى آخر للتّسلّل و جمع املعلومات،‏

23


حتّى سالف كانت تساعد أمها في جمع الطّعام و تعليبه ليحفظ أطول مدّة ممكنة.‏

و في املقّر كان السّ‏ يّد جميل و مجموعة من العلماء قد طوّروا سالحا حراريّا قادرا على تفكيك أيّ‏

ذرّتني متّصلتني.‏

إنّه الخامس و العشرون من شهر جوان….‏ أيقن الضّ‏ بابيّون أنّ‏ القرويّني يحضّ‏ رون أمرا خطيرا،‏

خاصّ‏ ة بعد اختفاء حبيبة و أبيها و عائلة جميل عن األنظار…لم يتوقّفوا أبدا عن البحث،‏ و كانوا

يضيّقون الخناق على السّ‏ كان،‏ فكثرت االعتقاالت دون مبرّرات و انتقلوا من التّأثير باملوجات

السّ‏ لبية إلى القتل بالرّصاص الحيّ…‏

رغم كلّ‏ هذا الطّغيان لم يتراجع السّ‏ كان عن قرار الثّورة،‏ فالشّ‏ عب يصبر كثيرا مخافة فقد األحبّاء،‏

و لكنّه يوم يقرّر حمل السّ‏ الح لن يضعه حتّى يحرّر أرضه أو يموت دون ذلك.‏

تختفي فجاة القَناعات و اإلنتماءات،‏ و يتوحّ‏ د الجميع تحت راية حبّ‏ الوطن،‏ فيصبح دينا و مذهبا،‏

و تصبح أنفاسهم حراما في سماء العبوديّة.‏

في ليلة الفاتح من جويلية ذهب السّ‏ يّد عماد إلى غرفة ابنته لتوديعها….‏ فتحت حبيبة الباب و

عانقت أباها بشدّة و أخذت تستنشق رائحته و تقبّل يديه باكية…‏

أنت يا أبي خير أب و خير صديق،‏ و ال أطيب عندي من ريحك إال ريح الحرّية…‏ و ال أقبّل بعد

يديك إالّ‏ تراب قريتنا وقد انقشع عنها الضّ‏ باب…‏ هالّ‏ سامحتني

بل أنا من أطلب منك السّ‏ ماح يا ابنتي و إن كان لي رجاء فهو أن أموت قبلك فال أفجع بفقدك

أبدا…‏

كان هذا يوم الوداع بني األحبّاء و التّسامح بني املتخاصمني،‏ فتوجهت سالف إلى حبيبة

لقد آملتك كثيرا يا حبيبة…‏ هالّ‏ سامحتني!‏

ما الّذي تقولينه!،‏ أنت أختي الّتي لم تلدها أمّي..‏ و أنت سامحيني إن أخطأت في حقّك

24


تعانقت األختان عناقا كبيرا و افترقتا عن قلوب صافية.‏

بزغت أولى خيوط فجر الفاتح من جويلية،‏ و كان الجميع في تمام االستعداد إلطالق مدافع اإلنذار

معلنني عن الثّورة….‏

إستيقظ الضابيّون على ضجيج املدافع…..فاتجه زعيمهم إلى نافذة غرفته في أعلى البرج

الزّجاجي لينظر ما يحدث.‏

الهدوء مخيف…‏ و ال وجود ملتحرّك يدبّ‏ على األرض.‏

ما الّذي يحدث؟ أين السّ‏ كان؟

لم نر أحدا منذ بزوغ الفجر يا سيّدي لقد اختفى الجميع

أعلِنوا حالة الطّوارئ بسرعة و استعدّوا لألسوء.‏

كان الهدوء مخيفا…‏ و لكنّ‏ رؤية القرويّني يتقدّمون بخطى ثابتة نحو البرج الزّجاجي أثارت الهلع

في قلوب الضّ‏ بابيّني،‏

من أين ظهر هؤالء؟ متى أنشأوا هذا الجيش؟

كانوا يتقدّمون بخطى متناغمة و قلوب نبضها عشق الوطن،‏ مردّدين بأصوات زلزت أرضية البرج

الزّجاجي نشيد قرية الزّيتون…‏

..………

أحاط الثّوار بالبرج الزّجاجي من كلّ‏ االتجاهات ثمّ‏ أطلقوا قنبلة حراريّة فالهواء لتبدد الضّ‏ باب

الكثيف و تترك املجال ألشعّة الشمس لتحتلّ‏ املكان.‏

تسلّلت أشعّة الشمس من نوافذ البرج و كأنّها تمسح عن أجساد الضّ‏ بابيّني لونهم الرّماديّ‏ الكئيب،‏

فأحدثت فيهم الهون و الخمول،‏

25


لم يتجرّأ أحد منهم على الخروج ملواجهة الثّوار فشرعوا في إطالق النّيران من النّوافذ دون تمييز

األهداف بدقّة،‏

لم يترك القادة في الثّورة مكانا للحظّ،‏ فقد كانوا مجهّزين بسترات مضادّة للرّصاص لها أزرار

صنعت من أحجار املنجم السّ‏ وداء،و كانت حبيبة قد أمّنت كلّ‏ املعلومات عن أعداد الضّ‏ بابيّني

املنتشرين في كلّ‏ طابق و عن طبيعة أسلحتهم و ذخائرهم…..ولكنّ‏ ال بدّ‏ للمعارك من ضحايا…‏

كان الهدف إدخال أكبر عدد من الثّوار إلى البرج حتّى تستطيع حبيبة الدخول إلى غرفة الزّعيم و

إنجاز املهمّة،‏ فكانوا يطلقون القنابل أساسا على الباب الرّئيسي

26

أمر الزّعيم جنوده بالنّزول إلى أسفل البرج كي يمنعوا الثّوار من الصّ‏ عود و لم يترك معه إال بضعة

من الرّجال.‏

إستطاع الثّوار بعد عناء كسر الباب و الدّخول،‏ عندها الحظ السّ‏ يد عارف أنّ‏ عدد الضّ‏ بابنيّ‏ كبير

في البهو فأشار إلى حبيبة كي تستعّد لالنتقال،‏

كانت األسلحة الحراريّة تفتك بالضّ‏ بابينيّ‏ و تحوّلهم إلى بخار،‏ .. و لكنّ‏ عدد القتلى في جانب

الثّوار كان كبيرا

نظرت حبيبة من حولها إلى الجثث املتناثرة على األرض،‏ فقرّرت الصعود إلى غرفة الزّعيم.‏ و قبل

أن تنتقل رأت أباها ملقى على األرض وهو مصاب إصابة بليغة…‏

همّت حبيبة بالذّهاب إلسعاف أبيها،‏ لكنّه أومَأ برأسه رافضا،‏ و وضع يده على قلبه عالمةً‏ للرّضا.‏

قلب حبيبة يتمزّق حزنا و لكنّ‏ وقت االنتقال قد حان…‏

أغمضت عينيها و ركّزت طاقتها لتجد نفسها في غرفة الزّعيم.‏

أثار ظهورها املفاجئ الخوف في قلوب من في الغرفة،‏ و لكنّ‏ الزّعيم حاول أن يمسك نفسه لكي ال

تظهر مخاوفه…‏

ال بدّ‏ أنّك املحارب الخامس….‏ إذن أنتِ‏ قادرة على التّنقل دون عناء


لم تبادله حبيبة الحديث فقد كانت موقنة أنّه يحاول إلهاءها ليستطيعوا اإلمساك بها..‏

أشار الزّعيم إلى رجاله ليهاجموا…‏ فانتقلت في ملح البصر إلى ركن آخر من الغرفة

أنتِ‏ صغيرة في السّ‏ ن و ال تعلمني شيئا…‏ لقد أصبحت الزّعيم ألنّني األقوى و لست كالجنود

الّذين يختفون بسالحكم الحراريّ‏

أثار الزّعيم حوله هالة من الضّ‏ باب ليصعب عليها اإلقتراب منه…‏ و لكنّ‏ هالته لم تكن مركزّة بما

فيه الكفاية،‏ فقد بلغت خيوط الشّ‏ مس منه مبلغها من الهون…‏ كان الضّ‏ بابيون يستطيعون الرّؤية

في الضّ‏ باب بوضوح،‏ فأصابوا حبيبة برصاصة في رجلها…‏

أستطيع أن أنهي أمركِ‏ برصاصة في الرّأس و لكنّني أريد االستمتاع قليال…‏

كانت حبيبة تتنقّل في الغرفة دون توقّف باحثة عن ثغرة لتحديد الهدف،‏ و حتّى ال تكون هدفا سهال

لرجال الزّعيم،‏ و لكنّ‏ التّنقل الكثير و الدّماء الّتي فقدتها أشعرتاها بالتّعب الشّ‏ ديد..‏

أغمضت حبيبة عينيها و حاولت تحديد الهدف عن طريق الصّ‏ وت،‏

و فجاة…‏ توقّفت عن الحركة و أخذت السّ‏ هم من شعرها و أطلقته على صدر الزّعيم دون تردّد

كان عليك أن تتعلّم كيف تتحكّم بلسانك

إختفى الضّ‏ باب من حول الزّعيم ثمّ‏ بدأت أطرافه بالتّالشي شيئا فشيئا،‏ و تالشى معه الضّ‏ بابنيّ‏

واحدا تلو اآلخر

جثت حبيبة على ركبتيها و نظرت من نافذة البرج و إذا بالضّ‏ باب الكثيف يختفي..‏ و إذا بقبّة

السّ‏ ماء الزّرقاء تطلّ‏ على قرية الزّيتون…‏ و إذا بالقرويّني يخرجون من املخابيء و بالثّوار يخرجون

من البرج ليستنشقوا رائحة الحريّة…‏

حاولت تجميع ما تبقّى من قوّتها للتّنقل خارج البرج،‏ و لكنّها لم تستطع،‏ فهي تلفظ أنفاسها

األخيرة…‏

27


صعد السّ‏ يد جميل ساندا السّ‏ يد عماد إلى حبيبة

نظرت إلى أبيها و الدّموع بعينيها ثمّ‏ اقتربت منه ووضعت رأسها على ركبته…‏

هل تتأملّني يا ابنتي

هزّت حبيبة رأسها نافية….‏

أخيرا…‏ أشّ‏ م ريح أبي مختلطا بريح الحريّة،‏

ثمّ‏ أغمضت عينيها برفق و توقّفت عن الكالم…‏

أغمض السيّد عماد عينيه و ضمّ‏ ابنته إلى صدره و غرق في صمته…‏

و كأنّ‏ الزّمن توقف عنده،‏

و كأنّ‏ كلّ‏ شيء فقد معناه،‏

و كأنّ‏ قلبه يضخّ‏ الدّماء في جسد ميّت…‏

ال معنى للحياة بعد فراق األحباب،‏ والسّ‏ يّد عماد يختبر هذا الشّ‏ عور للمرّة الثّانية…‏

الحظ السّ‏ يّد جميل أن الوحم على كتف حبيبة لم يفقد توهّجهه تماما،‏ فهرع إلى السّ‏ يّد عارف

أدرك يا سيّد عارف هناك أمر غريب…‏

صعد السّ‏ يّد عارف و السيّد جميل بأقصى سرعتهما ألعلى البرج،‏

كانت الدّقائق تمرّ‏ و كأنّها ساعات،‏ كلّ‏ شيء يسير ببطء شديد إال أنفاس حبيبة الّتي تستعجل

على الرّحيل،‏

نظر السّ‏ يّد عارف حوله فوجد مالبس الزّعيم على األرض…‏

يجب أن نجد السّ‏ هم بسرعة..‏

أخذ السّ‏ يّد جميل يبحث في مالبس امللقاة،‏ فوجد السّ‏ هم عالقا في القميص

إنّه هنا….‏ و هو لم يفقد ملعانه تماما..‏

أمسك السّ‏ يّد عارف بالسّ‏ هم و وضعه على وحم حبيبة..‏

السّ‏ يّد عماد ينظر حوله كاملجنون دون أن يدرك شيئا ممّا يحدث

28


لقد اتّحدّ‏ السّ‏ هم مع الوحم…‏ علينا االنتظار

أنظر يا سيّد عارف الوحم يختفي

شعر السّ‏ يد عماد بيد ابنته تضغط على يده…‏ نظر إليها و إذا بأهدابها الطّويلة ترتفع برفق ليرى

أجمل عينني على وجه األرض.‏ و كأنّ‏ تلك األهداب انتشلته من السّ‏ قوط في الهاوية،‏ و فتحت

مجاري الهواء لتملئ رئتيه بالهواء و يتنفّس الصّ‏ عداء…‏

هل ما أراه حقيقة….‏ أخبرني يا سيّد عارف أرجوك…‏

ابتسم السّ‏ يد عارف…‏

يبدو أن القدر أقوى من النّبوءات يا بنيّ‏

عاد القدر من جديد ليثبت وجوده وسلطته حتّى على األخبار الّتي توارثها األجيال،‏

و ليس لنا إال أن نقول رضينا و ال اعتراض.‏

……

29


هل يمكنني الدّخول…‏

تفضّ‏ ل يا سيّد جواد،‏

لقد نجوت من موت محقّق للمرّة الثانية…‏

لو لم أفقد قدرة االنتقال في ذلك اليوم لسهّلت عملك…‏ هل رأيت طفلي؟،‏ لقد أسميته عماد

نظر جواد في املهد فلم يجد الطّفل

أنا ال أراه…‏ هل أورثته القدرة على التّنقل

تبسّ‏ مت حبيبة من قوله و تبسّ‏ م جواد ‏…ثمّ‏ نظر من نافذة املستشفى إلى حقول الزّيتون …

إفتح النّافذة من فضلك…‏ فال أطيب عندي من ريح قرية الزّيتون

30


رغم كلّ‏ هذا الطّغيان لم يتراجع السّ‏ كان عن قرار الثّورة،‏ فالشّ‏ عب يصبر كثيرا مخافة فقد األحبّاء،‏ و لكنّه

يوم يقرّر حمل السّ‏ الح لن يضعه حتّى يحرّر أرضه أو يموت دون ذلك.‏

تختفي فجاة القَناعات و اإلنتماءات،‏ و يتوحّ د الجميع تحت راية حبّ‏ الوطن،‏ فيصبح دينا و مذهبا،‏ و

تصبح أنفاسهم حراما في سماء العبوديّة.‏

31

Hooray! Your file is uploaded and ready to be published.

Saved successfully!

Ooh no, something went wrong!