Create successful ePaper yourself
Turn your PDF publications into a flip-book with our unique Google optimized e-Paper software.
ثورة الزّيتون
1
ثورة الزّيتون لسيت وليدة السّ نة…. إنّها بنت العشر سنني على األقل،
كانت مجرّد حكاية أنشأتها مع أختي لنمأل وقت الظّهيرة الّذي يطول كثيرا في فصل الصّ يف.
قرّرنا فجأة إيجاد قصّ ة بطلتها فتاة بالطّبع، نجمع فيها الحبّ و التّضحية و شيئا من الخيال..
و ليس أقدس من حبّ الوطن في زمن يعيش فيه اإلنسان أزمة انتماء، خاصّ ة إذا كان من دول
العالم الثّالث…
فتراه مبهورا باملساحيق الّتي تجمّل الدّول األوربيّة، و هي الّتي ما أوجدتها إالّ لتخفي حقيقة
مجتمعاتها الّتي نخرها السّ وس و تركها كأعجاز النّخل الخاوية.
و أكثر ما أتمنّاه اللّحظة، أن يكون حبّنا ألوطاننا أفعاال و ليس أقواال نتغنّى بها في األعياد و
املناسبات الوطنيّة.
2
تتدافع الكلمات في رأسي و ال تجد سبيال للخروج بطريقة منمّقة…
لعلّك تنتظر مولودي بفارغ الصّ بر و لكنّ املخاض عسير، نظرات القلق بادية على وجهك الشّ احب و
صوت خطواتك الّتي تسابق دقّات قلبك لم يهدأ منذ وجدت نفسك وحيدا مع امرأة على وشك
الوالدة.
أنت تحاول أن تهدأ لتفكّر بطريقه جيّدة، جلست في ركن الغرفة و أغمضت عينيك قليال ثمّ فتحتهما
في قرية الزّيتون، و رأيت األطفال يتسابقون بطائراتهم الورقّية الّتي سرعان ما اختفت خلف
الضّ باب الكثيف.
هذا كان حال القرية منذ سنوات, و هؤالء األطفال وُلدوا وسط الضّ باب و اعتادوا وجوده.
كان السّ يّد عماد رجال قويّ البنية, أسمر البشرة ذو شعر بنّيّ مجعد و حاجبني كثيفني, كانت عيناه
واسعتان شديدتا السّ واد برّاقتان, تعطي ملن يحادثه األمان؛ أمّا زوجته أمينة، فقد كانت امرأة
هادئة الطّبع، حسنة الخَلق و الخُلق، كان صوتها الهاديء العميق و عيناها الواسعتان مالذ السّ يّد
عماد بعد يومه الشّ اقّ في املنجم.
لم يمرّ على زواج عماد و أمينة فترة طويلة، و كان خبر حملها أكثر شيء أدخل السّ عادة على
بيتهما املتواضع في ظلّ االحتالل الّذي يجثم على سكّان قرية الزّيتون.
بدأ األمر قبل أكثر من خمسني سنة ….
في ذلك اليوم املشؤوم، إستيقظ سكّان القرية على ضباب كثيف أحاط بكلّ مكان، حتّى أنّ أحدهم
ال يكاد يرى من أمامه هل هو عدوّ أم صديق.
بقيت القرية على هذا الحال شهرا كامال، و النّاس ال يدرون أهي لعنة السّ ماء أم نهاية العالم….
دخل السّ كان في حالة اكتئاب، و بدأت أشجار الزّيتون تفقد لونها األخضر املبهج، و لم يستطع
أحد إيجاد تفسير ملا يحدث، إلى أن ظهر مجموعة من األشخاص الغرباء.
3
فتحتَ عينيك على صوت صراخ الطّفل الّذي اعادك للواقع….
الدّماء تمأل املكان و املرأة تنظر إليك بوجه شاحب متعب و عينني غائرتني أحاط بهما السّ واد؛
إنّها تشير إليك أن تقترب..
قم و استجمع قواك، فليس للمسكينة أمل سواك، و حياة اإلثنني معلّقة بك…
لقد وضعك القدر في هذا املكان لتخفّف أملا و تنقذ روحا لم تكن تر العيش إالّ أمال زائفا… و هو
عادة ما يحسن االختيار،
يداك ترتجفان بشدّة، تماسك! و ابحث عن شيء لتلفّ به الطّفل و تضعه على صدري،
نظرت حولك فلم تجد شيئا… املكان خال تماما إال من بعض ريش الحمام املتناثر على األرض و
بعض األواني الحديديّة الّتي أكلها الصّ دأ.
أنت لم تتخيّل نفسك أبدا في موقف كهذا املوقف… فالحياة تضعنا أمام تحدّيات غريبة نخرج
منها أقوياء أحيانا، و أحيانا تقسم ظهورنا و ال تقوم لنا بعدها قائمة.
حملتَ الطّفل بحذر شديد و لففته بقميصك، ثمّ وضعته علر صدر امّه لينال الدّفء، و جلستَ تنتظر
اإلسعاف.
4
لم يكن املحتلّون بشرا عاديّني، كانت أجسامهم متناسقة بطريقة مبالغ فيها، و شعورهم رماديّة، أمّا
لون بشرتهم فقد كان شاحبا كأنّهم وُلدوا من الضّ باب. كانت تقاسيم وجوههم قاسية و كأن شفاهم
لم تعرف اإلبتسام من قبل.
لم تكن هذه املخلوقات محبّة للدّماء، بل كان يكفيهم أن يصبح الجميع عبيدا لديهم، و كلّ شخص
يحاول املقاومة يدخلونه في حالة اكتئاب شديد تقوده إلى اإلنتحار.
ساد الفقر سكّان القرية و لم يعد أحد يملك شيئا يُذكر، فهم يعملون مقابل قوتهم اليوميّ كلّ حسب
جهده؛
فصار في القرية طبقتان، طبقة العمّال الّذين هم السّ كان األصليون، و طبقة املالكني الّذين عُرفوا
بالضّ بابيّني.
توالت السّ نوات على هذا الحال، و ظهرت مقاومات شعبيّة قادها أبطال قرية الزّيتون بشجاعة…
دُفن كلّ أصحابها تحت التّراب.
لم تكن األسلحة التّقليديّة تؤثّر في هؤالء الغاصبني، فالرّصاص كان يخترق أجسادهم دون أن
يترك أيّ أثر، كذلك الرّماح و السّ يوف و القنابل لم تعط أيّ نتائج تُذكر.
لقد سيطروا على السّ كان بالحزن و الرّماديّة الّتي أحاطت بكلّ مكان، حتّى أصبحوا كاألجساد
الخالية من األرواح، يعيشون من أجل العيش فقط. لقد فقدوا األمل في رؤية السّ ماء الزّرقاء من
جديد، أو العشب األخضر و األزهار الّتي كانت تزيّن أراضيهم في فصل الرّبيع،
حتّى الحيوانات لم تصبر على العيش في هذا الجوّ الكئيب…
كان عمّال املناجم يتميّزون عن غيرهم بالفطنة و بعض اإليجابيّة؛ لم يُعرف السّ بب في بداية األمر،
فقد كانوا يستيقظون صباحا كغيرهم من السّ كان، و يذهبون إلى العمل بطريقة آليّة؛ و في آخر
اليوم، يعودون أكثر نشاطا و راحة نفسيّة، و كأنّ أدران قلوبهم غُسلت بماء الثّلج.
الحظ السّ يّد جميل هذا التّغيّر في املزاج لعمّال املناجم خاصّ ة، فأصبح يذهب خلسة إلى املنجم
في غير أوقات العمل.
كان يتفحصّ الجدران و األحجار واحدا تلو اآلخر، و في أحد األيّام الحظ وجود حجر أسود باهت
اللّون ال يلقي النّاظر إليه باال… أمسك الحجر و نظر إليه بتمعّن، فشعر و كانّ طاقة إيجابيّة تُحقن
في جسده و تغير مزاجه إلى األحسن، عندها أيقن السيّد جميل أنّه يمسك خالص القرية بني
يديه.
5
كان السيّد جميل رجال متّزنا آثر التّمهل و دراسة األمر عن كثب؛ فصار يأخذ الحجر معه أينما
ذهب و يجرّبه على من حوله دون أن يثير الشّ كوك؛ و بعد ان تاكّد من األمر، ذهب إلى السّ يّد
عارف كبير قرية الزّيتون.
عُرف السّ يّد عارف في القرية بالحكيم، فقد كان ثاقب النّظرة، سديد الرّأي، متأنّيا قبل اتّخاذ
القرارات.
كان له شاربان طويالن و عينان حادّتان، أصلع الرّأس معتدل الطّول، يظهر عليه الوقار؛ جمع في
قبو منزله كتب األوّلني من أسالفه، و كلّ أسرار القرية محفوظة عنده.
كان الوقت متأخّرا عندما طرق السّ يّد جميل بابه متهلّل الوجه مبتسما،
أبشر يا سيّد عارف فالخالص قريب…
تأخّرت سيّارة اإلسعاف، و نار القلق تتأجّ ج داخلك لكنّك ال تجد لها ماءا يطفئها…
نظرتَ إلى املرأة أمامك و إذا هي متماسكة رابطة الجأش و كأنّ من يفقد حياته شخص غيرها..
عجيب أمر النّساء، فرغم رقّتهنّ و ضعف بنيتهّن إالّ أنّهنّ في كثير من األحيان أقوى من الرّجال، و
خير مثال على ذالك األمّهات، و في حالة نكران الذّات الّتي يعشنها مع أوالدهنّ تُؤلّف كتب و تُروى
حكايات…
و بني القلق و التّعجب، سمعتَ صوت املروحيّة أمام البيت املهجور.
6
تفضّ ل يا سيّد جميل ال تطل الوقوف أمام الباب
أحمل بني يديّ الخالص من مستنقع الضّ باب الّذي غرقنا فيه يا سيّد عارف… أمسك هذا الحجر
و ستفهم ما أقصده.
أمسك السّ يد عارف الحجر و أخذ يتفحّ صه، ثمّ رفع بصره و بريق عينيه يفصح عمّا في داخله
صدقت يا سيّد جميل، لعلّه بصيص النّور للخروج من هذا النّفق، و لو حاز من سبقنا من
املحاربني هذا الحجر ما وصلنا إلى هذا الحال.
هبّت نسائم ربيع هذا العام تحمل رائحة أوراق الزّيتون على غير العادة، و انحسر الضّ باب عن
رأس الجبل األخضر في القرية حتّى صارت قمّته ناصعة البياض تظهر لكلّ آت من بعيد.
أستبشر السّ كان خيرا، خاصّ ة و أنهم يشعرون منذ مدّة بالحياة تعود ألجسادهم و بالدّماء تتدفّق
في عروقهم و تطرد الشّ حوب عن وجوههم.
لقد أصبحت مجوهرات السّ يد عارف مشهورة في القرية، فقد كان ثمنها مناسبا للسّ كان، يتهادونها
بينهم في املناسبات.
لم تكن أحجارها ذات ملعان يأخذ األلباب، و إنّما كانت سوداء باهتة تبعث على الرّاحة و الهدوء، و
كانت تصنع خصّ يصا حسب الطّلب.
أصبح األمر مقلقا للضّ بابيّني، فهم يالحظون أنّ الجوّ السّ ائد في القرية بدأ يتغيّر؛ و كان انحسار
الضّ باب عن رأس الجبل األخضر إشارة لهم أنّ وجودهم أصبح مهدّدا بالزّوال.
و رغم األموال الّتي جمعوها و البنايات الّتي شيّدوهاعلى أكتاف القرويّني إالّ أنّ الجشع ال يعرف
الشّ بع، كالثّقب األسود الّذي يمتصّ كلّ شيء يعترضه دون أن يكتفي، و لكنّ أمر ذوي القلوب
املريضة أشدّ، فهم يصبحون أكثر ظلم و عدوانيّة إذا شعروا بالتّهديد.
7
إقترب موعد والدة السّ يّدة أمينة، و أصبح بطنها يتشنّج كثيرا في اآلونة األخيرة، و رغم التّعب و
التّورمات إالّ أنّها كانت دائمة اإلبتسام في وجه السّ يّد عماد الّذي كان يبدو عليه التّوتر و القلق.
دخلت طبيبة اإلسعاف إلى الغرفة و أنتَ تزاحمها…
هل هي بخير؟ هل ستنجو؟ و ماذا عن الطّفل؟
سأفعل ما بوسعي يا سيّدي، لقد فقدت الكثير من الدّماء
أرجو أن تنجو هذه املسكينة فقد عاشت كابوسا و هي أسيرة بني يدي ذلك املجنون.
نبض األمّ ضعيف جدّا، علينا االستعجال…
كانت والدة السّ يّدة أمينة عسيرة، و في تلك األيّام، أعلن الضّ بابيّون عن حالة الطّواريء ابتداءا من
السّ اعة الخامسة مساءا.
كانت الشّ مس على وشك الغروب عندما اشتدّ على أمينة ألم املخاض، و كان من املستحيل أن ينقل
عماد زوجته إلى املستشفى، فأخذ يتنقّل بني الجيران كاملجنون طلبا للمساعدة.
لم يتجرّأ أحد على مرافقته إلى بيته خوفا من خرق قانون الطّواريء و بعد طول انتظار… وجد
عجوزا قبلت أن تسعف زوجته.
8
لميتبقّ في جسد أمينة قوّة لدفع املولود إلى الخارج فقد استنزفت قواها تماما و هي تحاول منذ
املساء إلى منتصف اللّيل،
يجب أن تحاولي مجدّدا يا ابنتي و إالّ مات مولودك قبل أن يرى النّور.
استجمعت أمينة كلّ قوّتها و حبّها لزوجها و شوقها لرؤية مولودها و غضبها على املحتلّني ثمّ
أمسكت بيدي زوجها و صرخت صرخة سُ مع بعدها بكاء طفل…
تهلّل وجه عماد و الدّموع تمأل عينيه، ثمّ التفت إلى زوجته ليعانقها…. فلم يجد إالّ جسدا دون
حراك.
لم يستوعب األمر في البداية،
ال بدّ أنها نامت من تعبها الشّ ديد
لم تستطع العجوز أن تعقّب، فقد حبست الدّموع صوتها و لم يُسمع إالّ أنينها.
أمينة! أفيقي لترضعي الطّفل… أال تسمعني صراخه؟
أمينة…
هدوؤها مخيف… و برودة أطرافها بدأت تتسلّل بهدوء لتلسع يد عماد و هو ممسك بيدها.
لقد أحرقت الحقيقة قلب عماد قبل أن تحرق البرودة يده…
أمسك ابنتك يا بنيّ و أعطها الدّفء الّذي لن تناله إالّ منك،..أنظر، إنّها فتاة
نظر عماد إلى ابنته نظرة حبّ و خوف و شفقة، ثم ابتسم لصغر حجمها و تقاسيم و جهها البريء،
و فجأة… أجهش بالبكاء و هو يراها تبحث بفمها الصّ غير عن أيّ شيء لتلتقمه.
إحتضن عماد ابنته بقوّة، ثمّ نظر إلى العجوز نظرة دهشة،
هل الحظت الوحم على كتفها؟
إنّه أوّل شيء رأيته يا بنيّ…. عليك أن تتجهّز فحِملك ثقيل.
إنهار عماد تماما، فال مهرب من الكابوس الّذي يعيشه اللّحظة، و كأنّ األرض و السّ ماء تطبقان
على صدره، فمع فقد زوجته و سنده في الحياة، وُلدت له ابنة بعالمة النّبل املميّزة للمحاربني.
9
كم هي قاسية هذه الحياة، لقد أخذت من عماد سبب سعادته الوحيد، ووضعت على كاهله ثقال ال
يقوى على حمله رجل في أتمّ العافية، فكيف برجل جريح…
أرجو أن تكتمي األمر يا سيّدتي
ال تقلق، لن يعلم أحد.
ال أدري إن كان يجوز لي أن أقول لحسن حظّ السّ يّد عماد كان جاره السّ يّد جميل قد رُزق حديثا
بمولود جديد، و لكنّه القدر الّذي يفرض علينا الحلول الّتي تناسبه، و ال نملك إالّ الطّاعة و الرّضا.
السّ يّد عماد واقف أمام باب جاره مطأطيء الرّأس يحمل ابنته بني ذراعيه…
فتح السّ يّد جميل الباب عند سماعه بكاء طفل،
ما الّذي حدث يا عماد ما هذه الحالة؟
توفّيت أمينة إثر الوالدة…
أقبلت السّ يدة سناء زوجة السّ يّد جميل مسرعة و أخذت الفتاة من أبيها و احتضنتها بشدّة،
ال تقلق يا سيّد عماد، إبنتك ابنتي، و لن ينقصها شيء ما دمت على قيد الحياة.
لو تأخّرنا أكثر لفقدنا األمّ
لقد بقيت أيّاما في غرفة مظلمة، و لوال وصولي في الوقت املناسب، لكان املجنون قتلها و طفلها
دون تردّد
ما الّذي حدث بالضّ بط، ملاذا اختطفها و أحضرها إلى هذا املكان املوحش
إنّه مريض نفسيّ، فقد زوحته وهي حامل في حادث سير، فصار يختطف النّساء الحوامل و
يقتلهّنّ كنوع من اإلنتقام.
10
أنا عاجزة مرّة أخرى عن تقييم الحظّ هل هو سيّء أم حسن… لن أستعمل كلمة الحظّ مجدّدا،
إنّه القدر الّذي وضعها في طريق مريض نفسيّ ثمّ ساقك إليها لتنقذها، و ال وجود لقدر سيّء و
آخر حسن، إنّما هو القدر… املهيمن الوحيد في السّ احة.
كبرت الفتاتان معا كأختني حقيقيّتني تتشاركان في كلّ شيء.
لقد اكتسبت حبيبة ابنة عماد من اسمها نصيبا وافرا، فقد كانت قريبة إلى القلب لها جاذبيّة
عجيبة، ورثت عن أبيها شعره البنّي املجعد و عن أمّها البشرة البيضاء املشرّبة بحمرة، و العينني
الواسعتني ذات األهداب الكثيفة. كان لها فم واسع، كثيرة الكالم والحركة. أمّا سالف ابنة جميل
فقد كانت على عكسها فتاة هادئة قليلة الكالم تميل إلى االنطواء و العزلة، كان لها شعر أسود
ناعم و عينان عسليّتان.
بدأت الغيرة تتسلّل إلى قلب سالف و تكبر بمرور األعوام، و رغم أنّ أمّها سناء الحظت األمر، إالّ
أنّها لم تعره اهتماما و لم تحاول معالجة املشكلة قبل أن تتفاقم.
أصبحت سالف شديدة الحساسيّة، كثيرة البكاء دون أن تفصح عن السّ بب؛
فمرّة بينما كانت منعزلة في غرفتها، طرقت حبيبة الباب
إنّ ماما سناء تناديك لتناول العشاء
ليست أمّك و لست جائعة
حسنا! ال داعي للتّوتر… أمّك سناء تناديك لتناول العشاء
11
قلت اذهبي…. لست جائعة
هل أكلت خلسة؟! أنا أموت جوعا
هل تذهبني أم أترك لك املكان؟
سأذهب…. و أعود باألكل
بعد فترة قصيرة طرقت السّ يّدة سناء الباب و هي تحمل الطّعام
هل هناك ما ال أعرفه يا ابنتي؟
ال يوجد شيء، أريد فقط أن أبقى بمفردي
هل ازعجتك حبيبة دون قصد؟
و من هي لتزعجني… كلّ ما في األمر أنّي لست جائعة
تعلمني يا سالف أنّك ابنتي الوحيدة، و لن أبّدلك بكنوز العالم، لكّن حبيبة أيضا في مثابة…..
حبيبة ! حبيبة!، أنتم أساسا ال ترون غيرها
لقد قطعت وعدا ألبيها يا ابنتي، هل تريدين أن أصبح مخلفة للوعود!.
إزداد األمر سوءا بمرور الوقت، حتّى أنّ السّ يّد عماد الحظ النّار التي كانت تحرق كلّ شعور جميل
في قلب سالف و تحوّله إلى رماد، فعيون الغيرة كبيرة ترى ما ليس حقيقيّا و تصدّقه؛ عندها قرّر
أن يحلّ املشكلة من جذورها.
لقد كبرت حبيبة بما فيه الكفاية يا صديقي لتعمتد على نفسها،
ماذا تقول يا أخي! هل تريد أن تفرّق ابنتنا عنّا؟
لم تكن هذه نيّتي أبدا، ولكن يجب أن تتعلّم تحمّل املسؤوليّة، و ستزوركم بني الحني و اآلخر.
لم يلحّ جميل كثيرا على بقاء حبيبة، فهو يعلم حقيقة األمر، و وجد أنّه الحلّ املناسب للحفاظ على
العالقة بني العائلتني.
12
كانت حبيبة تزور جارتهم سناء بني الحني و اآلخر، و رغم أنّها لم تكن تطيل البقاء إالّ أن وجودها
كان مزعجا لسالف، و أكثر شيء كانت تتمنّاه هو أن تختفي حبيبة من حياتها تماما.
و في أحد األيّام بينما كان السّ يّد عماد يسّ ر إلى صديقه مخاوفه، استمعت سالف حديثهما خلسة
إنّ قلقي يزداد كلّ يوم يا أخي، فحبيبة تكبر،و قدراتها بدأت تظهر، و إذا اكتشف الضّ بابيّون
أنّها تحمل عالمة املحاربني تخلّصوا منها على الفور
أنتمحقّ في قلقك يا صديقي، و لكن ال أحد غيرنا يعلم باألمر، إضافة أنّ الضّ بابيّني منغمسون
في البحث عن سرّ عدم تأثير موجاتهم السّ لبيّة.
أرجو أن يكون األمر كذلك…
لقد تعلّمتَ الصّ بر في قرية الزّيتون؛
خرجتَ من الضّ باب و أقسمت أن تحارب كلّ من يحتمي به أو بالظّالم أو حتّى من يختبئ تحت
صندوق من ورق.
صرتَ تحبّ الوضوح و الشّ فافيّة في كلّ شيء، و تكره الرّماديّة و الغموض أينما وجدا.
لقد أخذ الضّ باب منك والدك و هو شابّ في مقتبل العمر؛
في تلك اللّيلة، كنتم مجتمعني على طاولة العشاء عندما توقّفت سيّارة رباعيّة الدّفع أمام البيت،
دخل جماعة من الضّ بابيّني دون استئذان، و أخذوا والدك دون توضيح السّ بب…
بعد مرور أسبوع، عاد والدك كأنّه دمية متحرّكة…
أصبح شاحب اللّون ال يتكلّم إالّ نادرا، يؤثر الجلوس وحده في الظّالم.
13
و في أحد األيّام، عندما كنت عائدا من املدرسة سمعتَ طلقا ناريّا…. خفتَ كثيرا، و لكن البدّ من
مواجهة املوقف.
دخلتَ إلى املنزل بحذر، فوجدت والدك ممدّدا على األرض وسط بقعة كبيرة من الدّماء و املسدّس
في يمينه.
كيف استطعتَ أن تجد املجرم
أنا أالحقه منذ مدّة، لقد استطاع الهرب في املرّة السّ ابقة، لكن البدّ للمجرمني من هفوة نمسك بها
طرف الخيط
و أين هو اآلن؟
لقد أصبته إصابة بليغة، لن يستطيع الصّ مود كثيرا، و الشّ رطة تقوم بتمشيط املنطقة بحثا عنه.
وصلنا إلى املستشفى، علينا اإلسراع.
كانت الفتاتان تقصدان مدرسة القرية معا، و في أحد األيّام قرّرت سالف كشف سرّ صديقتها
للعلن؛ فبينما كانت الفتيات مجتمعات وقت االستراحة قالت
من منكنّ تتميّز بشيء عن غيرها من الفتيات، أنا مثال صوتي كالعندليب و أجيد الغناء، ماذا
عنكن
أنا أجيد تأليف القصص الخياليّة
ماذا عنك يا حبيبة؟
ال شيء أبدا… لست مميّزة
رأيت مرّة عالمة مميّزة على كتفك، إنّها جميلة جدّا، أرهم إيّاها
اتقصدين هذا النّبل!، إنّه وحم عاديّ
14
نظرت إحدى الفتيات إلى عالمة حبيبة باهتمام، ثمّ انسحبت بهدوء.
توجّ هت جاسوسة املدرسة مباشرة إلى مقرّ القيادة،
لقد حُ دّد الهدف يا سيّدي، يجب أن نتحرّك بسرعة.
بعد نهاية الدّوام املدرسي، آثرت سالف أالّ ترافق حبيبة الطّريق إلى املنزل…
لن أستطيع العودة معك اآلن يا حبيبة، لقد وعدت صديقتي أن أرافقها لشراء بعض املستلزمات
ال بأس بذلك.. استمتعي بوقتك
15
لم تكن حبيبة تدرك الخطر الّذي يراودها،… و بينما كانت تمشي بكل ثقة في طريقها إلى املنزل،
اعترضتها سيارة سوداء و أدخلها رجالن عنوة من الباب الخلفي ثمّ قاما بتخديرها قبل أن تقوم
بأيّ حركة مفاجئة.
سقطت حبيبة دون أدنى مقاومة، وبينما هي ملقاة على الكرسي الخلفي أخذ أحد الضّ بابيني ينظر
إليها باستغراب..
هل أنتم متأكدون من الخبر، ال يبدو أن هذه الفتاة الصغيرة تملك أيّا من قدرات املحاربني فكيف
تكون أقواهم…
فتحت حبيبة عينيها و إذا هي في غرفة زجاجية ذات جدران سميكة…
نظرت حولها باستغراب و عينني تائهتني و كأن مفعول املخدّر لم يختف تماما ثم توجهت مترنحة
نحو الجدار الزجاجي و اخذت تنادي بأعلى صوتها علّ أحد الواقفني يلتفت إليها…
ملاذا احتجزتموني في هذا املكان؟ أريد العودة إلى البيت…
ال جدوى من الصراخ يا آنسة.. وفّري طاقتك للساعات املتبقية، فلن تحتاجي إليها بعد ذلك.
أثار هذا الصوت البارد القشعريرة في جسد حبيبة فجلست و أغمضت عينيها و أخذت تفكر في
أبيها و غرفتها… و فجأة بدأ الوحم على كتفها في التوهج … شعرت حبيبة بشيء يلسعها و كأنّ
شرارة كهربائية تولّدت من كتفها و انتشرت في جميع جسدها..ثمّ، و في ملح البصر، إنتقلت من
الغرفة الزجاجية إلى غرفتها، و عندما زال الشعور الغريب، فتحت عينيها و إذا هي جالسة على
سريرها و كأنّ شيئا لم يحدث.
حبيبة ال تدرك شيئا، هل كان ما عاشته مجرد كابوس!…
أخذت حبيبة تتحسّ جسدها و الوحم على كتفها ثمّ هرعت إلى غرفة أبيها…
حبيبة!… متى وصلت؟ لم أرك و أنت تدخلني إلى البيت!
لن تصدّق ما حدث يا أبي… و ال أستطيع أن أجزم أنّ ما حدث حقيقة و ليس مجرّد أوهام
أنتِ ترتجفني يا ابنتي، ماذا حدث؟
لقد كنت محتجزة في غرفة زجاجية محاطة بالضّ ابيني، و عندما شعرت بالخوف أغمضت عينيّ و
إذا بي جالسة على سريري في املنزل
تغيّر وجه السيّد عماد و شحُ ب لونه و كأنّ الدّم جفّ في عروقه
علينا مغادرة املنزل في الحال ال وقت للشرح
نترك املنزل!
قلت أسرعي ال وقت نضيّعه…
توجّ ه السيّد جميل إلى قبو منزله ثمّ فتح بابا في أرضية الغرفة
باب سرّيّ !! ملاذا ال أعلم شيئا عن األمر
ال تكثري األسئلة سأشرح عندما نصل
16
لم تكن هذه أول ضحية تنقذها و لن تكون األخيرة…فاملجرمون و املرضى النفسيّون منتشرون
بكثرة في الشوارع يبحثون عن أية لقمة سائغة تشبع غرائزهم املريضة في القتل و إثارة الرعب، و
لعلّ أغلبهم كانوا ضحايا من قبل ..و لضعف فيهم، حوّلوا مآسيهم ألى كوابيس على رؤوس
الخلق…
نحن ال نملك أن نكون سعداء أو أشقياء ، ال نملك أن نكون أحرارا أو سجناء و لكن نملك أن
نتعايش مع الظروف و نحولها إلى دروس تفيدنا في التقدم إلى األمام…
ال يجب أن نقف عاجزين أمام القدر و لكن يجب أن نتّخذه صديقا و مرشدا إلى طريق النّجاة..
هذا ما تعلمته و أنت تعيش في ظلّ احتالل لم تختر أبدا أن تكون من ضحاياه، و لعلّ فقدك ألبيك
في سنّ مبكرة دفعك إلى السّ يد عارف لتتّخذه أبا و تكون له االبن الذي لم يرزق به أبدا.
كانت كلّ منازل الثّوار في القرية تحوي مداخل سرّيّة لألنفاق املؤدّية إلى مقرّ القيادة.
عماد يحاول التقدم بسرعة في النّفق ممسكا بيد ابنته و كأنّه يجرّها جرّا… حبيبة تمشي و الدّموع
تنهمر من عينيها اللتني تنظران إلى أبيها نظرة عتاب.
و فجأة توقّفت حبيبة عن التّقدم و جلست على األرض….
لن أصدّقك بعد اليوم،… ألم تخبرني أنّ ما يميّز عالقتنا كأب و ابنته هو الصّ داقة، و أنّه ال مكان
لألسرار بني األصدقاء.
كان يجب أن أحميك قبل كلّ شيء… و هذا واجبي كأب و صديق
17
ممّ تحميني؟
سأوضّ ح كلّ شيء عندما نصل يا ابنتي…أال تثقني بي!
قامت حبيبة من مكانها و عانقت أباها بشدّة… ثمّ واصال السّ ير إلى أن وصال إلى مقرّ القيادة.
كان الجرح الذي فتحته في بطن املجرم بليغا أفقده الكثير من الدّماء، و من عجائب القدر أنّ
املجرمني ال يموتون بسرعة….و كأنّ أرواحهم تتغذّى من آالم البشر.
و بعد أن توغّل في الغابة و أيقن أنّه من الصّ عب إيجاده بني األشجار الكثيفة… سمح للنّوم أن يلج
جفونه املرتخية.
سقطت قطرات النّدى على جبينه امللّطّخ بالدّماء فقام مرتعبا…
نظر حوله و إذا أشعّة الشمس تسلّلت بني أوراق األشجار الكثيفة لتزاحم الظّالل، ثمّ رفع بصره و
إذا بعصفور يغنّي أجمل األلحان، و هذا سنجاب قد أمّن فطور الصباح، يعدو بحبّة البندق بني
يديه ليخفيها في بيته أعلى الشّ جرة.
إتّسعت عينا املجرم و كأنّ البؤبؤ صار يسبح في هالة بيضاء دون أن يجد له مستقرّا،
و كأنّ املنظر أغاظه و آمله أكثر من جرح بطنه.
أخذ يبحث حوله عن شيء يبدّد السّ عادة في املكان ثمّ تذكّر القدّاحة املوجودة في جيبه،
فأمسكها مبتسما و كأنّه وجد ضالّته.
قام من مكانه متمايال يستند ألى األشجار و يبحث عن األوراق الجافّة و األغصان اليابسة، و
عندما جمع كومة أشعرته بالرّضا… ألقى قدّاحته املشتعلة لتلتهب النّيران.
18
ما هذا املكان يا أبي؟ كيف استطعتم أن تخفوا كلّ هذا عن الضّ بابيني؟
إذا انحصر سرّ بني أشخاص ثقات صعب على العدو التسلل،
لم نكن نبحث عن الكنوز في املناجم طوال اليوم.. بل كنّا نبني األنفاق و نصنع األسلحة و نطوّرها
في انتظار وصول املحارب الخامس.
املحارب الخامس!!
نعم يا ابنتي، آخر محاربي قرية الزيتون و أقواهم
أنظري من هناك….
سيّد جميل، عمّي عارف…
أقبل السيّد عارف نحو حبيبة و وضع يده على شعرها املتطاير
أهال بك يا ابنتي، كنّا ننتظر هذا اليوم منذ سنوات
جلست حبيبة على األرض كعادتها و أخذت تدور ببصرها في املقرّ.
املكان آمن…. لن اتحرّك من هنا قبل أن أفهم كلّ شيء.
اقترب السيّد عماد من ابنته و أشار إلى مكان الوحم…
هذا يا حبيبة ما كان يبحث عنه الضّ بابيّون، و هذا سبب انتقالك من مكان إلى آخر في ملح
البصر….. أنتِ املحارب الخامس يا ابنتي
شعرت حبيبة بالدّهشة و الحماس في نفس الوقت، ثمّ نظرت إلى السّ يّد عارف..
إذا أنا من كنتم تنظرونه كلّ هذا الوقت!!! … أنا رهن إشارتك يا عمّ، لن نضيّع املزيد من الوقت
هذا جواد في مثابة إبني…. سيرشدك إلى املدرّبني الّذين سيعلّمونك كيف تستخدمني قواك.
نظرت حبيبة إلى أبيها معاتبةً…. كيف تؤمّنونه على أسراراكم و هو أصغر منّي سنّا… سأتذكر
هذا دائما.
تبسّ م السّ يّد عماد و السّ يّد عارف من قولها،
أوّل شيء عليك التّحكم به هو لسانك الّذي ال يكفّ عن الحركة.
19
سيّد جواد… هناك دخان كثيف يتصاعد من الغابة الّتي يختبيء فيها املجرم
ال بدّ أنّه وراء هذا… أعلِموا مركز اإلطفاء، علينا محاصرة النّيران قبل أن تنتشر في كلّ أنحاء
الغابة
لم أكلّف نفسي أبدا أن أبحث عن إسم لهذا املجرم… فهو اليستحقّ أن يذكر على لسان من
يقرأ…
لقد كان تجسيدا ألذى يمشي على رجلني، لم يسلم بشر و ال طير من حقده…
وقف ينظر إلى النّيران منتشياً و إلى السّ نجاب الذي ترك بيته و مؤونته و فرّ هاربا، ثمّ إلى العشّ
الّذي يسقط بهدوء ثمّ تلتهمه النّيران قبل أن يصل إلى األرض… و تصاعدت ألسنة اللّهب لتدرك
الطّير قبل أن يبتعد و تضمّه إلى قائمة الضّ حايا…
لم يدرك املجرم في سكرة نشوته أنّ النّيران اقتربت منه كثيرا. و النّيران جاحدة ال تعرف لها سيّدا
فتتحاشاه ألسنتها… و عندما شعر بحرّها يالمس وجهه الشّ احب حاول الهرب بسرعة قبل أن
يحترق… و لكنّ السّ يف سبق العذل، فإصابته بليغة و حركته بطيئة، فامتدّت ألسنتها إلى رجليه ثمّ
أمسكته من قميصه املمزّق و أحاطته بأصابعها الطّويلة لتتركه كومة من الرّماد…
وصل رجال اإلطفاء إلى الغابة و قام مجموعة منهم بقطع األشجار املحيطة بالنّيران ليسهل
حصارها، ثمّ وصلت املروحياّت و الشّ احنات القاذفة للمياه، فنجحوا بعد عناء كبير في إخمادها
قبل أن تتحوّل إلى كارثة.
20
نظر رجال اإلطفاء إلى السّ واد الّذي خلّفته النيران في بضع ساعات فقط… و إلى الحيوانات
املتفحّ مة هنا وهناك ثمّ وجدوا جثّة املجرم امللقاة على األرض و قد طمست النّيران مالمح البشرية
التي كانت تخفي حقيقته.
كانت حبيبة فتاة مجتهدة حملت على عاتقها السّ نوات التّي كان الثّوار يعملون فيها بجهد منتظرين
قدوهما، و كان أكثر شيء ركّز عليه املدّربون هو الرّماية.
في هذا الوقت، كان الضّ بابيّون يستشيطون غيظا و يبحثون عن املحارب الخامس في كلّ مكان
يخطر على بال.
قاموا أوال بمداهمة بيت السّ يد عماد، فلم يتركو حجرا إال و رفعوه و ال فرشا إال و مزّقوه، ثمّ توجّ هوا
إلى منزل السّ يّد جميل و فعلوا نفس الشّ يء…
ذعرت سالف لرؤية الضّ بابيّني و هم يدمّرون منزلهم فذهبت إلى أبيها في املنجم
أدركنا يا أبي… دمّر الضّ بابيّون منزلنا
ال تقلقي يا ابنتي، ال يسعهم إالّ التّدمير و أمّك تعلم تماما ما عليها فعله…
كلّ هذا بسبب حبيبة
حبيبة! و ما أدراك أنّهم يبحثون عنها؟
خمّنت ذلك فقط …فهي مختفية منذ يومني.
أنتِ ال تدركني شيئا… إن كان لنا أمل في التحرر من العبوديّة فهو حبيبة…
و كيف ذلك؟
إن الوحم على كتفها عالمة للمحاربني، و ليس في مقدور غيرهم إنهاء أمر الضّ بابيّني
أطرقت سالف برأسها و امتألت عيناها بدموع الحسرة و النّدم و لم تعقّب على أبيها بكلمة
واحدة…
21
كان برنامج التّدريب شاقّا، فقد كانت حبيبة تستيقظ منذ الخامسة صباحا و تتدرّب على الرّماية
حتى ترتفع الشّ مس في كبد السّ ماء.. ثمّ تقوم بتمارين للتّحكّم في الطّاقة الدّاخلية و بذلك تستطيع
اختيار الوقت املناسب و املكان الّذي عليها التّنقل إليه… و في آخر اليوم، يطلعها السّ يّد عارف
على أسرار من سبقها من املحاربني و كيف كانت نهايتهم
بعد مرور شهر من التّدريب املكثّف أحسّ ت حبيبة بجاهزيّتها للمهمّة، فاستيقظت في الصّ باح
الباكر و توجّ هت مباشرة إلى غرفة السّ يّد عارف…
صباح الخير يا عمّ عارف
صباحك سعيد يا ابنتي تفضّ لي بالدّخول
لم أعد أستطيع الجلوس أو الوقوف في مكاني…. أشعر أنّ الوقت قد حان… فال تدعنا ننتظِر
أكثر، لقد اجتزت كلّ االمتحانات بنجاح و أنا في أتمّ الجاهزيّة…
نظر السّ يّد عارف إلى حبيبة نظرة فخر و اعتزاز، فكيف لفتاة في هذا العمر أن تمتلك هذه
الشّ جاعة…
ال بأس يا ابنتي، أيقظي أباك و انتظاراني أمام املكتب.
كانت حبيبة و والدها ينتظران أمام املكتب عندما وصل السّ يّد عارف حامال صندوقا من خشب
تفضّ ال بالدّخول…
هل تعلمان ما يوجد في هذا الصّ ندوق؟
و كيف لنا أن نعلم يا سيّد عارف!
إنّه السّ هم املنقذ، و هو خاص بكلّ محارب.. أمسكيه يا ابنتي
و لكنّه يبدو صغيرا يا عمّ
هو كذلك يا ابنتي و لكن ال بدّ أن أخبرك شيئا في حظور أبيك،… إنّه السّ هم الوحيد الذي يمكنه
قتل زعيم الضّ بابنيّ ، و لكن يجب أن تعلمي أنّه إذا فارق قوسه و أصاب الهدف سيستلّ روح مطلقه
تماما كروح هدفه…
22
ما الّذي تقوله يا سيّد عارف، أال يمكنني أن أطلقه بدال عن ابنتي..
لقد أخبرتك يا سيّد عماد أنّ لكلّ محارب سهما خاصّ ا ال يمكن لغيره إطالقه
لن أسمح بهذا أبدا…
أمسكت حبيبة بيد أبيها و قبّلتها
لقد ولدت ألكون محاربة…. هذا قدرنا يا أبي
أجهش السّ يّد عماد بالبكاء
هذا يفوق طاقتي… أال تدركان ذلك
أنا راضية بهذا يا أبي، سأموت و أنا موقنة أنّ أرضنا أصبحت حرّة،…. ال تراجع بعد اآلن لقد
بتّ القدر في األمر منذ والدتي
أعلن السّ يّد عارف عن اجتماع للقادة في املقر،
كان هدف االجتماع تحديد تاريخ للقيام بالثّورة، و من أجل ذلك كان على جميع القادرين على
القتال أن يتقدّموا إلى املقّر و كان يجب تأمني النّساء و األطفال و العجائز في املخابئ السّ رّيّة مع
األخذ في عني االعتبار توفير املؤن الالّ زمة من طعام و ماء و دواء.
رفع السّ يّد جميل يده طلبا للكلمة
نحن نعلم جيّدا أن الحرارة املرتفعة تبدّد الضّ باب الكثيف، و هذا واضح من نشاط املحتلّ في
الشّ تاء و خموله في فصل الصّ يف، أضيفوا إلى ذلك أنّنّا ال نحتاج الكثير من املؤن من لباس و
طعام في هذا الفصل لذلك أقترح أن تقوم الثّورة في شهر جويلية
وافق الجميع على اقتراح السّ يّد جميل…. فأعلن السّ يّد عارف الفاتح من جويلية أوّل يوم النطالق
ثورة الزّيتون.
كان الجميع منهمكني في التّحضيرات، و كان قلب السّ يّد عماد يقطر دما كلّمّا أشرقت شمس يوم
جديد… أمّا حبيبة فكانت تستعمل قدرة التّنقل من مكان إلى آخر للتّسلّل و جمع املعلومات،
23
حتّى سالف كانت تساعد أمها في جمع الطّعام و تعليبه ليحفظ أطول مدّة ممكنة.
و في املقّر كان السّ يّد جميل و مجموعة من العلماء قد طوّروا سالحا حراريّا قادرا على تفكيك أيّ
ذرّتني متّصلتني.
إنّه الخامس و العشرون من شهر جوان…. أيقن الضّ بابيّون أنّ القرويّني يحضّ رون أمرا خطيرا،
خاصّ ة بعد اختفاء حبيبة و أبيها و عائلة جميل عن األنظار…لم يتوقّفوا أبدا عن البحث، و كانوا
يضيّقون الخناق على السّ كان، فكثرت االعتقاالت دون مبرّرات و انتقلوا من التّأثير باملوجات
السّ لبية إلى القتل بالرّصاص الحيّ…
رغم كلّ هذا الطّغيان لم يتراجع السّ كان عن قرار الثّورة، فالشّ عب يصبر كثيرا مخافة فقد األحبّاء،
و لكنّه يوم يقرّر حمل السّ الح لن يضعه حتّى يحرّر أرضه أو يموت دون ذلك.
تختفي فجاة القَناعات و اإلنتماءات، و يتوحّ د الجميع تحت راية حبّ الوطن، فيصبح دينا و مذهبا،
و تصبح أنفاسهم حراما في سماء العبوديّة.
في ليلة الفاتح من جويلية ذهب السّ يّد عماد إلى غرفة ابنته لتوديعها…. فتحت حبيبة الباب و
عانقت أباها بشدّة و أخذت تستنشق رائحته و تقبّل يديه باكية…
أنت يا أبي خير أب و خير صديق، و ال أطيب عندي من ريحك إال ريح الحرّية… و ال أقبّل بعد
يديك إالّ تراب قريتنا وقد انقشع عنها الضّ باب… هالّ سامحتني
بل أنا من أطلب منك السّ ماح يا ابنتي و إن كان لي رجاء فهو أن أموت قبلك فال أفجع بفقدك
أبدا…
كان هذا يوم الوداع بني األحبّاء و التّسامح بني املتخاصمني، فتوجهت سالف إلى حبيبة
لقد آملتك كثيرا يا حبيبة… هالّ سامحتني!
ما الّذي تقولينه!، أنت أختي الّتي لم تلدها أمّي.. و أنت سامحيني إن أخطأت في حقّك
24
تعانقت األختان عناقا كبيرا و افترقتا عن قلوب صافية.
بزغت أولى خيوط فجر الفاتح من جويلية، و كان الجميع في تمام االستعداد إلطالق مدافع اإلنذار
معلنني عن الثّورة….
إستيقظ الضابيّون على ضجيج املدافع…..فاتجه زعيمهم إلى نافذة غرفته في أعلى البرج
الزّجاجي لينظر ما يحدث.
الهدوء مخيف… و ال وجود ملتحرّك يدبّ على األرض.
ما الّذي يحدث؟ أين السّ كان؟
لم نر أحدا منذ بزوغ الفجر يا سيّدي لقد اختفى الجميع
أعلِنوا حالة الطّوارئ بسرعة و استعدّوا لألسوء.
كان الهدوء مخيفا… و لكنّ رؤية القرويّني يتقدّمون بخطى ثابتة نحو البرج الزّجاجي أثارت الهلع
في قلوب الضّ بابيّني،
من أين ظهر هؤالء؟ متى أنشأوا هذا الجيش؟
كانوا يتقدّمون بخطى متناغمة و قلوب نبضها عشق الوطن، مردّدين بأصوات زلزت أرضية البرج
الزّجاجي نشيد قرية الزّيتون…
..………
أحاط الثّوار بالبرج الزّجاجي من كلّ االتجاهات ثمّ أطلقوا قنبلة حراريّة فالهواء لتبدد الضّ باب
الكثيف و تترك املجال ألشعّة الشمس لتحتلّ املكان.
تسلّلت أشعّة الشمس من نوافذ البرج و كأنّها تمسح عن أجساد الضّ بابيّني لونهم الرّماديّ الكئيب،
فأحدثت فيهم الهون و الخمول،
25
لم يتجرّأ أحد منهم على الخروج ملواجهة الثّوار فشرعوا في إطالق النّيران من النّوافذ دون تمييز
األهداف بدقّة،
لم يترك القادة في الثّورة مكانا للحظّ، فقد كانوا مجهّزين بسترات مضادّة للرّصاص لها أزرار
صنعت من أحجار املنجم السّ وداء،و كانت حبيبة قد أمّنت كلّ املعلومات عن أعداد الضّ بابيّني
املنتشرين في كلّ طابق و عن طبيعة أسلحتهم و ذخائرهم…..ولكنّ ال بدّ للمعارك من ضحايا…
كان الهدف إدخال أكبر عدد من الثّوار إلى البرج حتّى تستطيع حبيبة الدخول إلى غرفة الزّعيم و
إنجاز املهمّة، فكانوا يطلقون القنابل أساسا على الباب الرّئيسي
26
أمر الزّعيم جنوده بالنّزول إلى أسفل البرج كي يمنعوا الثّوار من الصّ عود و لم يترك معه إال بضعة
من الرّجال.
إستطاع الثّوار بعد عناء كسر الباب و الدّخول، عندها الحظ السّ يد عارف أنّ عدد الضّ بابنيّ كبير
في البهو فأشار إلى حبيبة كي تستعّد لالنتقال،
كانت األسلحة الحراريّة تفتك بالضّ بابينيّ و تحوّلهم إلى بخار، .. و لكنّ عدد القتلى في جانب
الثّوار كان كبيرا
نظرت حبيبة من حولها إلى الجثث املتناثرة على األرض، فقرّرت الصعود إلى غرفة الزّعيم. و قبل
أن تنتقل رأت أباها ملقى على األرض وهو مصاب إصابة بليغة…
همّت حبيبة بالذّهاب إلسعاف أبيها، لكنّه أومَأ برأسه رافضا، و وضع يده على قلبه عالمةً للرّضا.
قلب حبيبة يتمزّق حزنا و لكنّ وقت االنتقال قد حان…
أغمضت عينيها و ركّزت طاقتها لتجد نفسها في غرفة الزّعيم.
أثار ظهورها املفاجئ الخوف في قلوب من في الغرفة، و لكنّ الزّعيم حاول أن يمسك نفسه لكي ال
تظهر مخاوفه…
ال بدّ أنّك املحارب الخامس…. إذن أنتِ قادرة على التّنقل دون عناء
لم تبادله حبيبة الحديث فقد كانت موقنة أنّه يحاول إلهاءها ليستطيعوا اإلمساك بها..
أشار الزّعيم إلى رجاله ليهاجموا… فانتقلت في ملح البصر إلى ركن آخر من الغرفة
أنتِ صغيرة في السّ ن و ال تعلمني شيئا… لقد أصبحت الزّعيم ألنّني األقوى و لست كالجنود
الّذين يختفون بسالحكم الحراريّ
أثار الزّعيم حوله هالة من الضّ باب ليصعب عليها اإلقتراب منه… و لكنّ هالته لم تكن مركزّة بما
فيه الكفاية، فقد بلغت خيوط الشّ مس منه مبلغها من الهون… كان الضّ بابيون يستطيعون الرّؤية
في الضّ باب بوضوح، فأصابوا حبيبة برصاصة في رجلها…
أستطيع أن أنهي أمركِ برصاصة في الرّأس و لكنّني أريد االستمتاع قليال…
كانت حبيبة تتنقّل في الغرفة دون توقّف باحثة عن ثغرة لتحديد الهدف، و حتّى ال تكون هدفا سهال
لرجال الزّعيم، و لكنّ التّنقل الكثير و الدّماء الّتي فقدتها أشعرتاها بالتّعب الشّ ديد..
أغمضت حبيبة عينيها و حاولت تحديد الهدف عن طريق الصّ وت،
و فجاة… توقّفت عن الحركة و أخذت السّ هم من شعرها و أطلقته على صدر الزّعيم دون تردّد
كان عليك أن تتعلّم كيف تتحكّم بلسانك
إختفى الضّ باب من حول الزّعيم ثمّ بدأت أطرافه بالتّالشي شيئا فشيئا، و تالشى معه الضّ بابنيّ
واحدا تلو اآلخر
جثت حبيبة على ركبتيها و نظرت من نافذة البرج و إذا بالضّ باب الكثيف يختفي.. و إذا بقبّة
السّ ماء الزّرقاء تطلّ على قرية الزّيتون… و إذا بالقرويّني يخرجون من املخابيء و بالثّوار يخرجون
من البرج ليستنشقوا رائحة الحريّة…
حاولت تجميع ما تبقّى من قوّتها للتّنقل خارج البرج، و لكنّها لم تستطع، فهي تلفظ أنفاسها
األخيرة…
27
صعد السّ يد جميل ساندا السّ يد عماد إلى حبيبة
نظرت إلى أبيها و الدّموع بعينيها ثمّ اقتربت منه ووضعت رأسها على ركبته…
هل تتأملّني يا ابنتي
هزّت حبيبة رأسها نافية….
أخيرا… أشّ م ريح أبي مختلطا بريح الحريّة،
ثمّ أغمضت عينيها برفق و توقّفت عن الكالم…
أغمض السيّد عماد عينيه و ضمّ ابنته إلى صدره و غرق في صمته…
و كأنّ الزّمن توقف عنده،
و كأنّ كلّ شيء فقد معناه،
و كأنّ قلبه يضخّ الدّماء في جسد ميّت…
ال معنى للحياة بعد فراق األحباب، والسّ يّد عماد يختبر هذا الشّ عور للمرّة الثّانية…
الحظ السّ يّد جميل أن الوحم على كتف حبيبة لم يفقد توهّجهه تماما، فهرع إلى السّ يّد عارف
أدرك يا سيّد عارف هناك أمر غريب…
صعد السّ يّد عارف و السيّد جميل بأقصى سرعتهما ألعلى البرج،
كانت الدّقائق تمرّ و كأنّها ساعات، كلّ شيء يسير ببطء شديد إال أنفاس حبيبة الّتي تستعجل
على الرّحيل،
نظر السّ يّد عارف حوله فوجد مالبس الزّعيم على األرض…
يجب أن نجد السّ هم بسرعة..
أخذ السّ يّد جميل يبحث في مالبس امللقاة، فوجد السّ هم عالقا في القميص
إنّه هنا…. و هو لم يفقد ملعانه تماما..
أمسك السّ يّد عارف بالسّ هم و وضعه على وحم حبيبة..
السّ يّد عماد ينظر حوله كاملجنون دون أن يدرك شيئا ممّا يحدث
28
لقد اتّحدّ السّ هم مع الوحم… علينا االنتظار
أنظر يا سيّد عارف الوحم يختفي
شعر السّ يد عماد بيد ابنته تضغط على يده… نظر إليها و إذا بأهدابها الطّويلة ترتفع برفق ليرى
أجمل عينني على وجه األرض. و كأنّ تلك األهداب انتشلته من السّ قوط في الهاوية، و فتحت
مجاري الهواء لتملئ رئتيه بالهواء و يتنفّس الصّ عداء…
هل ما أراه حقيقة…. أخبرني يا سيّد عارف أرجوك…
ابتسم السّ يد عارف…
يبدو أن القدر أقوى من النّبوءات يا بنيّ
عاد القدر من جديد ليثبت وجوده وسلطته حتّى على األخبار الّتي توارثها األجيال،
و ليس لنا إال أن نقول رضينا و ال اعتراض.
……
29
هل يمكنني الدّخول…
تفضّ ل يا سيّد جواد،
لقد نجوت من موت محقّق للمرّة الثانية…
لو لم أفقد قدرة االنتقال في ذلك اليوم لسهّلت عملك… هل رأيت طفلي؟، لقد أسميته عماد
نظر جواد في املهد فلم يجد الطّفل
أنا ال أراه… هل أورثته القدرة على التّنقل
تبسّ مت حبيبة من قوله و تبسّ م جواد …ثمّ نظر من نافذة املستشفى إلى حقول الزّيتون …
إفتح النّافذة من فضلك… فال أطيب عندي من ريح قرية الزّيتون
30
رغم كلّ هذا الطّغيان لم يتراجع السّ كان عن قرار الثّورة، فالشّ عب يصبر كثيرا مخافة فقد األحبّاء، و لكنّه
يوم يقرّر حمل السّ الح لن يضعه حتّى يحرّر أرضه أو يموت دون ذلك.
تختفي فجاة القَناعات و اإلنتماءات، و يتوحّ د الجميع تحت راية حبّ الوطن، فيصبح دينا و مذهبا، و
تصبح أنفاسهم حراما في سماء العبوديّة.
31