You also want an ePaper? Increase the reach of your titles
YUMPU automatically turns print PDFs into web optimized ePapers that Google loves.
1<br />
ومسيرة<br />
شهداء<br />
<br />
<
2<br />
ومسيرة<br />
شهداء<br />
<
3<br />
ومسيرة<br />
شهداء<br />
على أن إعطاء صفة التاريخ لهذا العمل لا ينطبق عليه تماماً فهو بالمقياس المنهجي التاريخي لا<br />
يستحق أن يحمل هذه الصفة، أو في أحسن الحالات، يمكن أن يحمل قدراً متواضعاً جداً منها. فالكتاب<br />
بمقياس الكتابة التاريخية يفتقر إلى التوثيق والتسلسل في تناول الأحداث، ويخلو من التعرض إلى<br />
الأسماء ذات العلاقة سلبياً أو إيجابياً بتجربته عدا أسماء بعض شهدائه. ويرجع ذلك إلى صعوبات<br />
ناشئة عن رغبة البعض في عدم ذآر أسمائهم، ومن ناحية أخرى، تجنب التعرض لأشخاص واجههم<br />
التيار حتى لا يحمل ذلك تجنياً لا سيما في نقل أفكارهم. وإذا آان ما تقدم يترك فراغات آثيرة بحاجة<br />
إلى أن تملا من قبل المؤرخ الذي يهمه الدخول في الأزقة والدهاليز ومختلف التفاصيل، إلا أنه سجل<br />
تاريخه الفكري والنظري والسياسي من جهة، آما سجل من جهة أخرى، أفكار عدد من التيارات<br />
ومواقفها وشعاراتها وما دار من صراعات فكرية وسياسية في ذلك الحين. ومن هنا، وعلى الرغم<br />
مما يحمله العمل من نواقص ستشغل بال المؤرخ الذي يهمه تسلسل الأحداث والتفاصيل والأفراد<br />
الذين لعبوا دوراً في تلك المرحلة، غلا أنه سيظل ذا فائدة لمن سيكتب عن تجربة الثورة الفلسطينية<br />
في أثناء الحرب الأهلية في لبنان.<br />
أما عن الصراعات التي دارت داخل فتح والساحة الفلسطينية والعربية خلال السبعينات والثمانينات،<br />
فإن من يقرأ هذا الكتاب وما سجله حول مرحلة تمتد من 1988 قد يتصور أن تيار أبي<br />
حسن، وحمدي، وإخوانهما قد آان محور الأحداث أو أنه لعب الدور الرئيسي فيها. وهو تصور<br />
يجافي الحقيقة طبعاً، ويؤدي إلى المبالغة في تقويم ذلك الدور.<br />
1973 إلى<br />
وهو ما يحدث عادة عندما يقرأ المرء مذآرات إنسان عاصر مراحل تاريخية معينة وشارك بشكل أو<br />
بآخر في أحداثها. فطبيعة آتابة المذآرات الخاصة لفرد أو لحزب أو تيار تقود إلى التصور، إن<br />
المعني، حتى لو لم يقصد ذلك قطعاً، آان ذا دور عظيم وآان مرآز الأحداث ولهذا يرجى التنبيه إلى<br />
أن هذا الكتاب لا يريد الوصول بقارئه إلى هذه المبالغة وإن آان يريد أن يرفع عن تيار أبي حسن<br />
وحمدي وإخوانهما، ما ناله من ظلم وتجاهل وإنكار وعقوق.<br />
هذا ويعترف مؤلف هذا الكتاب أنه يحمل سمة المذآرات. لأنه سجل متابعته لمسيرة هذا التيار، وإن<br />
آان قصّر أآثر ما قصر في مجال سجله العلمي بسبب غياب آثير من التفاصيل عنه أو عدم مواآبته<br />
لها. ولكنه نال شرف المساهمة في أغلب النقاشات التي خاضها أبناء هذا التيار وقد أسهم في آتابة<br />
محصلة عدد من النقاشات التي أصدرها بكتب ومقالات ودراسات، آما حدث على سبيل المثال<br />
بالنسبة إلى النقاشات التي دارت حول قضية المرأة، وقد أصدرها بكراسة حملت اسم "حول نضال<br />
المرأة". ولعل ما يكنه من حب خاص وتقدير آبير لأبي حسن وحمدي وسعد وعلي أبي طوق وأبي<br />
خالد جورج وأبي محمود ومروان والحاج حسن وأبي يعقوب، وعدد آخر من إخوانهم الشهداء ممن<br />
عرفهم جيداً، يسمح بإبعاد عمله هذا عن صفة الموضوعية بمعناها البحثي اللامبالي والبارد، فهي<br />
منير شفيق│ نيسان ١٩٩٤<br />
مؤسسة الوفاء
4<br />
ومسيرة<br />
شهداء<br />
آتابة منحازة ومجرحّة بحبها وصداقتها ووفائها، ولهذا يجب أن يؤخذ الكتاب على هذا المستوى عند<br />
قراءته وتقويمه.<br />
تساءل بعض الذين حاول المؤلف الاستعانة بهم، ممن عاصروا التجربة في مختلف مراحلها العملية<br />
عن الفائدة من آتابة هذا النص أو بالأحرى ما الفائدة منه ولمن هو موجه؟ الإجابة هنا تفرض العودة<br />
إلى إعطائه سمة تاريخية، (ولو بحدود)، للخاصة ممن يهمهم أن يعرفوا شيئاً من دور أبي حسن<br />
وحمدي ومروان، وسمير وإخوانهم، في تلك المرحلة لا سيما وأن عدداً من شهداء هذا التيار أصبحوا<br />
رموزاً على مستوى الثورة الفلسطينية والشعب الفلسطيني واللبناني والعربي، بل أآثر من ذلك،<br />
أصبحوا جزءاً من المشروع الإسلامي والصحوة الإسلامية.<br />
أم من جهة أخرى، فإن في هذه التجربة آثيراً من العِبر التي قد تفيد على صُعد متعددة، لا سيما إذا ما<br />
فهمت بروحيتها ومنهجيتها وعقليتها، ولم تفهم بحرفيتها، وتقلد تقليداً بليدًا. بل يمكن القول أن أهمية<br />
تيار أبي حسن وحمدي وإخوانهما، لا تكمن فيما أدوه من دور فحسب، وإنما أيضاً في آونه مدرسة<br />
آذلك، وهذا ما قد يسمح لمن يريد أن يتعلم منهم، ويواصل طريقهم ونهجهم، بأن يحيط جيداً<br />
بتجربتهم، ويتعرف أآثر إلى روحيتهم ومنهجيتهم وعقليتهم، ويكون قصده المواصلة بإبداع لا بتقليد،<br />
فيمسك بالجوهر لا بالشكل، والأهم أن يدرك خطورة أن يحمل المرء راية هذا النهج بلا مبدئية<br />
وصدقية وتضحية، لأن ترآها أفضل من تلطيخها بالمطامع الشخصية والجشع أو الوهن والجبن أو<br />
العجز والكسل، أو التراجع والانكفاء، فهذه الراية آانت شديدة في تمسكها بالثوابت والمبادئ وحازمة<br />
في سلوك طريق التحرر والتغيير والنهوض والبحث عن الحقيقة.<br />
وإذا آان هنالك من عبروا في أآثر من مناسبة عن أنهم سيكونون ورثة هذا الخط، فإن عليهم أن<br />
يثبتوا ذلك بالأفعال ومكارم الأخلاق وحسن المقال وصحة السياسة والمواقف وعدم الخوف من<br />
الصعوبات والتضحيات، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.<br />
آلمة أخيرة، وهي اعتذار مرة أخرى، للثغرات التي حملها هذا الكتاب وقد حدث بعضها عن وعي<br />
وقصد، وبعضها عن قلة حيلة وعجز، وبعضها عن نقص في المعلومات والإحاطة. ولعل ما يمكن<br />
أن يكون قد تضمنه من إيجابيات وفوائد يشفع لبعض تلك الثغرات. أما الاعتذار الحقيقي فهو لأبي<br />
حسن وحمدي وإخوانهما، لما يكون قد قصّر به هذا الكتيب بحقهم لا سيما في مجال الممارسة وذآر<br />
ما سطروه من مآثر وبطولات، أو في مجال إبراز بعض المجالات الفكرية والنظرية المنهجية التي<br />
سَهَا عنها، آما لا بد من الاعتذار للشهداء، وذويهم ممن لم يحضره ذآرهم، أو لم يعطوا حقهم آما<br />
يجب، فمؤلف هذا الكتاب يعترف أنه تابع الصراعات الفكرية متابعة دقيقة، بينما آان بعيداً عن آثير<br />
من التفاصيل في الممارسة العملية، والتي لا يستطيع أن يكتب عنها إلا من عايشوها في الواقع يومًا<br />
منير شفيق│ نيسان ١٩٩٤<br />
مؤسسة الوفاء
5<br />
ومسيرة<br />
شهداء<br />
بعد يوم، فثمة تاريخ تفصيلي يجب أن يُسجل للسرية الطلابية وآتيبة الجرمق، وثمة تاريخ تفصيلي<br />
يجب أن يُكتب عن أبي حسن وحمدي في عملهما في الأرض المحتلة، سواء أآان في مرحلة لجنة<br />
77 أم في مرحلة سرايا الجهاد الإسلامي، وأن من سيقوم بذلك يُكمل هذا الكتاب ويَسد نواقِصه أو<br />
يُصبح أصلاً، ويُصبح هذا الكتاب مُكملا له.<br />
ورحمة االله على أبي حسن، وحمدي، وسمير، ومروان، وإخوانهم من شهداء هذا التيار، ورحمة االله<br />
على آل الشهداء، وأسكنهم فسيح جنانه.<br />
١٩٩٤ │١٤١٤ <br />
<br />
منير شفيق│ نيسان ١٩٩٤<br />
مؤسسة الوفاء
6<br />
ومسيرة<br />
شهداء<br />
<
7<br />
ومسيرة<br />
شهداء<br />
لعل أبرز ما يذآره الكثيرون عن أبي حسن وحمدي وسعد والشهداء الآخرين هو ذلك الجانب العملي<br />
في حياتهم أي انكبابهم على الممارسة واتسامهم بالشجاع والنشاطية وإخضاع حياتهم الخاصة للعمل<br />
والقضية. وهذه مزايا ليست بالهينة أو البسيطة فهي ذات قيمة آبيرة بالنسبة إلى القائد والقدوة وهو<br />
يشق طرقاً جديدة. ولهذا، فالذين يبرزون هذه الجوانب ليسوا مخطئين لا في إبرازها في هؤلاء<br />
الشهداء العظام ولا في إعطائها أهمية معيارية عالية.<br />
بيد أن تلك المزايا لا تقع بالنسبة إليهم في المقام الأول من بين مزاياهم الأخرى. فالبعض إما عن قلة<br />
معرفة، وإما عن قصد مدغول، يبرز تلك المزايا، على أهميتها وخطورتها، في الشهداء دون أن<br />
يتوقف آما ينبغي له أمام مزايا أخرى هي في المقام الأول بالنسبة إلى شخصياتهم أو بالنسبة إلى<br />
الخط الذي آانوا يجسدون. بل أن المزايا العملية المتعلقة بالنشاطية والممارسة آانت نتاجاً لتلك<br />
الصفات الأخرى التي لم تشتهر آما يجب في أولئك الشهداء، فالذين لا يرون في أبي حسن وحمدي<br />
ومروان وأبي محمود وسعد مروان وأبو خالد وغالبية الشهداء الآخرين مفكرين ومنظرين وصاحبي<br />
منهج، ولا يرون أن ثمة خطاً سياسياً وأيديولوجياً آان يهدي ممارستهم ونشاطيتهم وآانوا هم في<br />
مقدمة واضعيه لا يكونون قد عرفوا الشهداء. فالمسألة من هنا تبدأ وبهذا تنتهي. وهي تمر بسيرتهم<br />
العملية فلو أخذنا على سبيل المثال ما آان يتسم به هذا التيار من اهتمام في المسائل الفكرية والنظرية<br />
لوجدنا ذلك غير مقتصر على المسائل الفكرية والنظرية التي آانت تعني الثورة الفلسطينية خلال<br />
السبعينات فحسب، وإنما آان الاهتمام يمتد أيضاً إلى المسائل الفكرية والنظرية التي آانت تعني<br />
الوضع العربي آله بل العالم. فقد آان النقاش مع التيارات الفكرية والنظرية والسياسية العالمية<br />
والعربية والفلسطينية يتم بأعلى درجات الجدية والاهتمام، ويعطى من الوقت ما لا يعطيه له المثقفون<br />
المحترفون. وإلا آيف آان لهذا التيار أن يصوغ آل ذلك التراث الفكري والنظري والسياسي الذي<br />
اتسم به خلال السبعينات والثمانينات. أما نوعيته فمسألة ستظل خلافية، ولكنها في آل الأحوال آانت<br />
تتسم بالجدية والمبدئية والتجديد ومحاولة التعمق والإحاطة والاقتراب من الصواب قدر الإمكان. ولو<br />
لم يكن الأمر آذلك لما تطور هذا التيار بأغلبيته من مرحلة فكرية ونظرية إلى أخرى وصولاً إلى<br />
الوقوف على أرض الإسلام. فهذه العملية ما آانت لتحدث لو لم يكن أبو حسن وحمدي وزملاؤهما<br />
على درجة عالية من الاهتمام بالمسائل الفكرية والنظرية والعقدية، ولو لم تكن التجربة العملية التي<br />
مارسوها، أو التي آانت تجري من حولهم فلسطينياً وعربياً وإسلامياً وعالمياً محط تقويم نظري<br />
وفكري وسياسي مستمر حتى آان بالإمكان الاقتراب أآثر فأآثر من فهم الواقع المحلي والإقليمي<br />
والعالمي، آما الاقتراب أآثر فأآثر من الإمساك بالحقائق الكونية والكلية.<br />
بكلمة أخرى، ما آانت الممارسة بالنسبة إلى أبي حسن وحمدي ومعهما مروان والآخرون غاية بحد<br />
ذاتها، ولم تكن انجرافاً مع تيار الثورة، وإنما آانت وسيلة لتحقيق غايات وأهداف أآبر منها بكثير.<br />
منير شفيق│ نيسان ١٩٩٤<br />
مؤسسة الوفاء
8<br />
ومسيرة<br />
شهداء<br />
<
9<br />
ومسيرة<br />
شهداء<br />
الإستراتيجية بعيدة المدى، إذ أثبت المسار الذي خُطّ منذ قرار المجلس الوطني بتبني برنامج النقاط<br />
العشر أن نهايته آانت اتفاق أوسلو ولعل المستقبل يخبئ ما هو أسوأ، أي بقاء الاحتلال عملياً وتحويل<br />
الدفة الفلسطينية نحو حكم ذاتي أو شبه دويلة ستكون "بندوستانا" فلسطينياً إن لم تكن رأس جسر<br />
لعبور المشروع الصهيوني عليه إلى البلاد العربية والإسلامية. بينما لو حافظت فتح على أهدافها<br />
ومبادئها ومنطلقاتها آما آان يرى أبو حسن وحمدي وسعد ومروان وإخوانهم لما آان من حل ممكن<br />
للضفة الغربية وقطاع غزة ولا سيما القدس أمام الدول العربية والمجتمع الدولي غير الانسحاب<br />
الإسرائيلي آما هو الشأن بالنسبة إلى سيناء والجولان، أو آان بقاء الكرة بالنسبة إلى قرار<br />
الملعب الإسرائيلي والأمريكي والروسي والأوروبي ومجلس الأمن، ومن ثم آانت الثورة الفلسطينية<br />
والشعب الفلسطيني في الحالتين في الموقع الأقوى والأسلم. أما إبراز الشخصية الفلسطينية آما آان<br />
يفهمه أبو حسن وحمدي وإخوانهما فقد آان الهدف منه مواجهة الاغتصاب الصهيوني من خلال<br />
استخدامه عنواناًلعدالة القضية وآان حجم هذه الشخصية (م.ت.ف.) في هذه الحالة بحجم القضية أي<br />
أآبر بكثير من أية دولة قطرية. أما أنا أريد من ذلك البحث عن دويلة، أو آيانية قطرية، فسيعني ذلك<br />
مساراً آخر غير المسار الذي عبرت عنه فتح في منطلقاتها أو م. ت. ف في ميثاقها. فالكيانية في<br />
الحالة الفلسطينية. أي ضمن معادلات الوضع فشي فلسطين والوضع العربي والعالم لا ب لها من أن<br />
تخرج، في أحسن حالاتها، أآثر اهتراء من أية دول قطرية عربية هزيلة.<br />
242 في<br />
منير شفيق│ نيسان ١٩٩٤<br />
مؤسسة الوفاء
10<br />
ومسيرة<br />
شهداء<br />
11<br />
ومسيرة<br />
شهداء<br />
وإن آان هو نفسه من بينهم. المهم أن تحقق الوحدة أية وحدة وبعد ذلك يكافح من أجل التغيير<br />
تصحيحاً للمعوج وإنقاذاً. من خطر العودة إلى التجزئة.<br />
لقد آان هذا الموقف من العروبة والوحدة في أساسات نشأة التيار الذي لم يكن ليفهم منطلقات فتح أو<br />
يقدمها لم إلا منسجمة وهذا الموقف ومعززة له.<br />
أما انتقال التيار، فيما بعد، إلى الموقع الإسلامي فقد جعله يرى في الإسلام شرطاً في فهمه للعروبة<br />
والوحدة العربية آما رأى فيه ضمانة لمواصلة الطريق الفلسطيني دون انكفاء إلى الإقليمية الضيقة<br />
ودون تراجع عن الثوابت والأساسيات فقد أصبحت القضية الفلسطينية وفي مقدمتها تحرير القدس<br />
جزءاً من العقيدة وأصبح الجهاد لتحرير فلسطين وإعلاء المقاومة ضد الاحتلال واجباً وفرضاً. وهذا<br />
آله طريق يسهم في العملية الكبرى الشاملة لتحرير شعوب الأمة واستقلالها ونهضتها ووحدتها<br />
وتحقيق العدالة.<br />
íèâ^Û¢]æ
12<br />
ومسيرة<br />
شهداء<br />
وهنا يمكن أن يلحظ أن الشعارات المعتدلة والمواقف المرنة التي تبناها التيار في آثير من المواقف<br />
السياسية اليومية فلسطينياً ولبنانياً وعربياً آانت تقوم على أساس متين من الالتزام الشعبي الجماهيري<br />
الثوري. فالمرونة لم تنبع من ميوعة، والاعتدال لا ينبع من انتهازية، والنظرة التي تجمح بين<br />
المتناقضين لا تصدر من تلفيقية، والترآيز على أولوية ما لا يعني بيع ما عداها. فقد آان انتماء<br />
أصيلاً وحازماً للجماهير العريضة وللثورة والتغيير<br />
13<br />
ومسيرة<br />
شهداء<br />
على أن تمرير برنامج النقاط العشر لم يتم بصورة أساسية بسبب المهارة والمناورة والتلاعب<br />
بالشروط المقيدة وإنما بسبب التقاء بين تيارين أساسيين في الساحة الفلسطينية والعربية والدولية:<br />
التيار الذي يراعي الموقف المصري أو الموقف العربي الرسمي عموما والتيار الذي يعبر عن موقف<br />
الاتحاد السوفياتي الذي أخذ يمد بنفوذه إلى الساحة الفلسطينية. فقد تزعمت آل من مصر والاتحاد<br />
السوفياتي في ذلك الوقت حملة التغيير المطلوب في برنامج م. ت. ف. وقد التقيا على ذلك على<br />
الرغم من الصراع الذي أخذ يتعاظم بينهما في ذلك الوقت. أي آان التقاء بين هذين التوجهين<br />
المصري والسوفياتي وإن من موقفين وهدفين مختلفين. فمصر بعد حرب تشرين آانت تريد الاندفاع<br />
بطريق التسوية الأمريكية، ولهذا ضغطت باتجاه التغيير المذآور، ولم يكن انعقاد المجلس الوطني<br />
الذي أقر النقاط العشر في القاهرة خالياً من المغزى. أما الاتحاد السوفياتي فكان يرى بهذا التغيير<br />
إزالة عقبة آبيرة آانت تقف بينه وبين بسط نفوذه على الساحة الفلسطينية أو ممارسة التأثير فيها. لأن<br />
ذلك شرط الانسجام مع اعترافه بالدولة الإسرائيلية وحقها بالوجود وتبنيه لقرار آما أنه<br />
سيضيف من خلال ذلك قوة رئيسية إلى موقفه في عملية الصراع ضد الانفراد الأمريكي بالتسوية بل<br />
في مواجهة خط السادات نفسه.<br />
.<br />
242<br />
إن الالتقاء بين هذين الاتجاهين الأآثر تأثيراً في المعادلة الفلسطينية في ذلك الوقت هو الذي سمح،<br />
مع عملية التجميل والتعمية الضرورية للبرنامج، أن يشق طريقه وسط معارضة آبيرة بل أآبر من<br />
المؤيدة، داخل الساحة الفلسطينية، ووسط تحفظ، أو معارضة، من قبل عدد من الدول العربية آانت<br />
متصارعة فيما بينها.<br />
لقد شُنت حملة واسعة في ذلك الوقت ضد رفض برنامج النقاط العشر عموماً وضد التيار الذي جسده<br />
الشهداء أبو حسن وحمدي ومروان رحمهم االله، ولاسيما داخل فتح، وعلى الخصوص من قبل<br />
الاتجاهات الداعية إلى التحالف مع السوفيات آما من قبل قيادة فتح المتقاطعة أآثر مع الموقف<br />
المصري. وقد ارتكزت الحملة على اعتبار الاستمساك بالمنطلقات الأساسية لفتح ورفض<br />
الموضوعات المتعلقة بالمرحلية الموهومة بأنه عدمية سياسية، أو لا واقعية تتجاهل حقائق موازين<br />
القوى العالمية.<br />
وجاء رد أبي حسن وحمدي وسعد وعلي أبي طوق ومروان الكيالي وأبي خالد جورج عسل والحاج<br />
نقولا عبود وإخوانهم على هذه الموضوعات أولا بملاحظة أن أنصار السوفيات بحماستهم المنقطعة<br />
النظير لتغيير برنامج فتح وم.ت.ف. عموماً من شعار التحرير الكامل إلى شعار السلطة الوطنية إنما<br />
يراد منه إزالة عقبة آبيرة تقف أمام احتواء الاتحاد السوفياتي لمنظمة التحرير الفلسطينية. فالاتحاد<br />
السوفياتي آان حاسماً وثابت باعترافه بالكيان الإسرائيلي وحصره التناقض وإياه ظاهراً.<br />
242، ولكن<br />
242<br />
حول ضرورة تنفيذ قرار مجلس الأمن حقيقة بسبب تواطؤ الحكومة الإسرائيلية<br />
والولايات المتحدة الأمريكية في الحرب الباردة. المهم آان التعديل في الشعار لا يمثل واقعية مرحلية<br />
إذ لم يكن هنالك في الأفق أي تطبيق لقرار على الأرض الفلسطينية، وإنما آان المطلوب إيجاد<br />
شرط انحياز م.ت.ف. إلى المعسكر السوفياتي إن لم يكن رسمياً فعمليًا. ومن هنا آان الصراع قد<br />
احتد في مواجهة أنصار التحالف والاتحاد السوفياتي لا على أساس واقعية برنامج النقاط العشر أو<br />
عدم واقعيته.<br />
منير شفيق│ نيسان ١٩٩٤<br />
مؤسسة الوفاء
14<br />
ومسيرة<br />
شهداء<br />
-<br />
أما ثانيا، فقد لاحظوا أن تمرير البرنامج سيصب في نهاية المطاف في الخط الساداتي. لأن ما في<br />
جعبة السوفيات هو "اللاسلم واللاحرب" ولهذا لا بد للجدية في البحث عن سلطة وآيانية من أن تقود<br />
إلى جعبة مصر ضمن تسوية أمريكية. ومن هنا آان للصراع الذي خاضه ذلك التيار، أو تعرض له،<br />
رأسان أحدهما موجه للخط السوفياتي والآخر للخط الساداتي. وإن غلبت في الظاهر معرآته مع<br />
التيار الذي آان يدعو للتحالف والسوفيات. ويرجع ذلك لتصديه الأشد شراسة وعلنية وهجومية ضد<br />
تيار أبي حسن وإخوانه بينما آانت الأطراف الأخرى تنهج سياسة "ترك الفُخّار يكسر بعضه"، ولكن<br />
ضمن تحالف مع التيار الأول وضرب تحت الحزام ضد تيار أبي حسن وإخوانه دون أن يصل إلى<br />
حد التصفية حتى يظل الفُخّار يكسر بعضه. لأن قيادة فتح آانت تشعر دائماً بمخاوف من سيطرة<br />
التيار الأول السوفياتي ومن دفعه إياها لمعاداة مصر ودول الخليج لكنها ما آانت تواجهه مباشرة.<br />
ولعل ذلك آان واحداً من الأسباب التي حالت دون تصفية تيار أبي حسن وحمدي وإخوانهما منذ<br />
وقوفهم الحازم والعلني ضد برنامج النقاط العشر وسياساته.<br />
أما وجهة نظر أبي حسن وحمدي ومروان وإخوانهم في مناقشة موضوع برنامج النقاط العشر من<br />
زاوية الواقعية أو اللاواقعية، فقد استند إلى اعتبار أن الانحياز إلى الاتحاد السوفياتي سيعني من<br />
ناحية واقعية تجميد الوضع وليس تحقيق حل مرحلي لأن الإستراتيجية الحقيقية للاتحاد السوفياتي<br />
آانت في تلك المرحلة هي "اللاسلم واللاحرب" في المنطقة ومن ثم فان التغيير لا يشكل خطوة<br />
باتجاه تحقيق برنامج مرحلي. وإنما سيشكل انتكاسة، فقط في إستراتيجية فتح و م.ت.ف. من<br />
إستراتيجية الحرب إلى إستراتيجية "لاسلم ولاحرب".<br />
وقد آان الأخوة واضحين هنا في التقاط خطر هذا التحول، آما لاحظوا من جهة أخرى أن هذا<br />
التحول إذا تم، وإذا ما وجدت م.ت.ف. نفسها غارقة في حالة "لا سلم لا حرب" بينما أصبحت شهيتها<br />
مفتوحة. إلى السلطة والكيانية! فقد تجد طريقها مع مصر تدريجاً إلى فتح الأبواب لأمريكا والعدو<br />
الإسرائيلي اللذين بيدهما الخروج من حالة "لاسلم لاحرب" باتجاه تسوية سياسية تعطي شيئا إن آان<br />
لها أصلاً أن تعطي شيئاً للفلسطينيين وقد أثبتت تجربة السادات هذه المقولة. فإسقاط إستراتيجية<br />
الحرب والانتقال إلى إستراتيجية اللاسلم واللاحرب (السوفياتية أساساً) سيؤدي إلى اختناق يدفع إلى<br />
البحث عن تسوية أمريكية إسرائيلية. وهو مصير آان ينتظر م.ت.ف. وقد راحت تسعى إليه،<br />
بصورة حثيثة، بعد الخروج من لبنان في خريف فالذي يجري الآن من اقتراب متواصل<br />
نحو الحل الأمريكي - الإسرائيلي لم يكن نتاج حرب الخليج أو انهيار الاتحاد السوفياتي فحسب،<br />
وإنما آان أيضا قد مهد له مع تقرير البرنامج المرحلي، لا سيما منذ توقف سفينة ياسر عرفات<br />
الخارجة من طرابلس (لبنان)، في بورسعيد والتقائه القيادة المصرية، وهو في طريقه إلى تونس.<br />
وآان في ذلك قد خرق المقاطعة العربية للقاهرة بسبب المعاهدة المصرية - الإسرائيلية عام<br />
وآان الخروج إلى تونس يعني موضوعياً التحرر من العوائق التي آانت تمنع من السير على نهج<br />
القاهرة، أي العائق السوفياتي والسوري والمحلي اللبناني والفلسطيني. أي اتخذت الواقعية التي حملها<br />
برنامج النقاط العشر مسارها الطبيعي في القفز من حالة اللاسلم واللاحرب إلى حالة البحث عن السلم<br />
المصري، ومن خلاله السلم الأمريكي<br />
، 1979<br />
.<br />
1983<br />
- الإسرائيلي.<br />
هذا دون الحديث عن أن الواقعية الثانية أي واقعية البرنامج المتوافق والإستراتيجية الأمريكية في<br />
المنطقة ومن ثم الإستراتيجية الإسرائيلية، بالضرورة، سواء أآان بوعي أم بلا وعي، لا يشكل<br />
منير شفيق│ نيسان ١٩٩٤<br />
مؤسسة الوفاء
15<br />
ومسيرة<br />
شهداء<br />
برنامجاً مرحلياً بمعنى تحرير الضفة والقطاع أولاً أو أي جزء ينسحب منه العدو، ثم نأتي إلى<br />
برنامج المرحلة الثانية لتحرير اللد والرملة، ثم برنامج المرحلة الثالثة تحرير يافا وحيفا. فهذه<br />
المرحلية: وآما أظهرت التجربة المريرة والقاسية، غير واقعية إلا بقدر. ما هي واقعية للتخلي عن<br />
نفسها في مصلحة واقعية أخرى تعتبر غزة وأريحا مرحلة أولى تليها في أحسن الحالات مرحلة تمس<br />
بعض أجزاء الضفة الغربية في ظل سيطرة أمنية إسرائيلية على الوضع آله أو بقاء الاحتلال عملياً<br />
حتى على الضفة وغزة. ناهيك عن أن لسان الواقعيين لم يعد الآن، يستطيع التحدث، ولو همساً، عن<br />
تحقيق أهداف فتح وم.ت.ف. ومنطقاتهما أي التحرير الكامل مرحلة بعد مرحلة.<br />
أما السلطة المقاتلة فأصبحت السلطة المجردة من السلاح والباحثة عن قوات دولية حفاظاُ على أمنها<br />
من المستوطنين، أو عن ضمانات إسرائيلية مع مراقبين دوليين، عدا قوات شرطة لضبط الأمن<br />
الداخلي ومنع الصدام بالعدو.<br />
تكمن الإشكالية هنا في أن نظرية المرحلية لا علاقة لها منذ طرح برنامج النقاط العشر في أواخر<br />
وأوائل بمرحلية تحرير آامل فلسطين بحدودها قبل فنظرية المرحلية<br />
استخدمت غطاء نظرياً للرد على المستمسكين بالمنطلقات الأساسية ليس إلا. وهذا الأمر يتكرر الآن<br />
مع نظرية غزة وأريحا أولاً والتي توحي آأن ثانياً سيعني الانسحاب الإسرائيلي من آل الأراضي<br />
المحتلة عام بما في ذلك القدس الشرقية، والتي يشملها القرار 242، آما سيعني إقامة دولة<br />
فلسطينية مستقلة على أنقاض ذلك الانسحاب. فأولاً هنا لا علاقة لها في واقع الحال بكل ذلك حتى لو<br />
حصرناه في الأراضي المحتلة بعد وإنما له علاقة بترتيبات شبيهة بما يجري الآن بالنسبة<br />
إلى غزة وأريحا قد تشمل بعض المدن والقرى عدا القدس ومنطقتها، وعدا الطرق والنقاط<br />
الإستراتيجية، وعدا مسؤولية الأمن على الحدود وعلى الوضع عموماً، أما إقامة دولة فلسطينية<br />
مستقلة ذات سيادة على الأرض والحدود فهذا غير الكيان الذي سيقوم باسم الحكم الذاتي حتى لو سمي<br />
الأخير، في المستقبل، اختراقاً وتجاوزاً "دولة".<br />
.<br />
1947<br />
.1967<br />
1974<br />
1967<br />
1973<br />
بكلمة، إن مشروع النقاط العشر، آما أآدت السنوات العشرين الماضية، لا علاقة له بالتحرير<br />
المرحلي لفلسطين ولا بالواقعية السياسية أو الثورية. وهذا ما لاحظه الشهيدان وإخوانهما في حينه<br />
وآان واحداً من الأسس التي قام عليه رفضهم لها بل اعتبروا أن الواقعية الحقيقية المرحلية إذا شئت،<br />
هي احتفاظ فتح وم.ت.ف. بالبرناج الأساسي، أي بالمنطلقات والثوابت والميثاق، وترك موضوع<br />
التسوية والصراعات العربية والدولية حولها شأناً من شؤون مؤتمرات القمم العربية والدول العربية،<br />
بينما الفلسطينيون يبقون حالة مقاومة، ويبقون مستمسكين بالحقوق الأساسية في فلسطين، ويستمرون<br />
شاهداً حياً على جريمة الاغتصاب الصهيوني لفلسطين. فهم بهذه الواقعية يكونون قد استعادوا للشعب<br />
الفلسطيني شخصيته وآيانيته المعنوية والشاملة لكل الفلسطينيين، من خلال شخصية الشعب المقاتل<br />
من أجل التحرير، والممثل لجانب العدالة في الصراع، هذا فضلاً عن أدائه لدور الحافز على التغيير<br />
العربي، والصارخ في وجه التخاذل والتفريط، والناقد لعدم وضع آل الجهود في خدمة القضية<br />
المرآزية أو القضية المقدسة الأولى للعرب والمسلمين. أما من جهة أخرى فإن هذه الواقعية تجنب<br />
فتح وم.ت.ف.<br />
منير شفيق│ نيسان ١٩٩٤<br />
مؤسسة الوفاء
16<br />
ومسيرة<br />
شهداء<br />
الصراع مع الأردن حول الضفة الغربية أو التمثيل. وهو الذي آان يسميه أبا حسن رحمه االله لماذا<br />
نتقاتل على جلد الدب قبل أن نصيده. وقد آان يرى هو وحمدي المنغمسان في العمل في مهمات<br />
المقاومة في الداخل أن تأزيم الأجواء مع الأردن والدخول في حرب داخلية لا يخدم تصعيد المقاومة<br />
السياسية والعسكرية ضد العدو. وآانا يستشهدان بالخسارة، أو بالنكسة التي مني بها الكفاح المسلح،<br />
ولاسيما، في قطاع غزة، بعد أحداث أيلول والخروج من الأردن. فقد آانت الإستراتيجية الصحيحة<br />
تقتضي الترآيز على مقاومة الاحتلال وإعطائه الأولوية وإخضاع علاقات م.ت.ف. بالدول العربية،<br />
وخصوصاً بالأردن لهذه الأولوية.<br />
وآانا يريان أن التشديد المبالغ فيه على موضوع السلطة الوطنية، والتمثيل الفلسطيني، ومن ثم السعي<br />
للدخول في اللعبة السياسية الدولية، يؤدي إلى تعكير العلاقات الفلسطينية - اللبنانية آما الفلسطينية<br />
السورية. فإستراتيجية المبادئ والمنطلقات لفتح وم.ت.ف. آانت تقضي بأن يكون لبنان "قاعدة<br />
وممراً للمقاومة بينما رأينا إستراتيجية النقاط العشر قد اتجهت إلى السيطرة على ما أمكن من لبنان<br />
واتخاذ ذلك ورقة للوجود على خريطة الشرق الأوسط آما ذآر جهاراً، فقد راجت مقولة معبرة وذات<br />
مغزى، بعد الخروج من لبنان، وهي: "أن لبنان آان رهينة بأيدينا نفاوض عليه، والآن فقدنا هذه<br />
الورقة". ولا يخفى أن هذه الإستراتيجية آلفت الشعب الفلسطيني والشعب اللبناني الكثير الكثير، وإن<br />
آان من غير السليم تحميلها آل المسؤولية إذ أن هنالك إستراتيجيات أخرى آانت تعمل في لبنان<br />
وأدت بدورها إلى ما حدث في لبنان لكل من الشعبين الشقيقين. ويفسر هذا، الفجيعة التي أصيب بها<br />
آثير من اللبنانيين بعد إعلان اتفاق أوسلو إذ أحسوا أنهم خدعوا بشعارات الثورة الفلسطينية التي<br />
جعلتهم يبذلون الكثير تحت راياتها باعتبارها راية تحرير آل فلسطين أو هي صاعق التغيير العربي،<br />
وليس باعتبارها مشروعاً في هذه القامة التي ما آانت تستحق آل ما قدم من تضحيات لبنانية<br />
وفلسطينية في لبنان.<br />
-<br />
-<br />
أما على جبهة العلاقات الفلسطينية السورية فقد آان برنامج النقاط العشر أحد العوامل الهامة<br />
لتدهور تلك العلاقات، وما زال النهج الذي خطه ذلك البرنامج وما أدى إليه عاملاً هاماً في دهورة<br />
تلك العلاقات. وإن آان من الخطأ أن تلقى في ذلك آل المسؤولية عليه.<br />
لأن السير في برنامج التسوية آان يقضي بالانشداد المستمر إلى السياسة المصرية، ولاسيما بعد<br />
توقيع المعاهدة المصرية - الإسرائيلية، ومن خلال ذلك البحث عن طريق فلسطيني "منفرد" لا محالة<br />
في مخاطبة أمريكا والكيان الإسرائيلي.. وهي عوامل آانت تعني الصدام بسوريا إلى جانب عامل<br />
محاولة السيطرة على الشطر اللبناني غير الماروني.<br />
ولهذا آان الاستمساك الحاسم بسياسة مقاومة الاحتلال دون الدخول في زحمة التسوية السياسية<br />
والبحث عن موقع على الخريطة - حكم ذاتي أو أقل من ذلك، آان سيقلل الكثير من<br />
الصراعات الفلسطينية - الأردنية والفلسطينية - السورية، والفلسطينية - اللبنانية، وحتى الفلسطينية<br />
المصرية (لأن برنامج النقاط العشر في مرحلته الأولى، أو واقعيته الأولى، أو الاحتمال الأقوى<br />
لمساره، آان باتجاه الانحياز للسوفيات موضوعياً. في وقت آانت فيه مصر تخفف من علاقاتها<br />
السوفياتية وتقترب باتجاه التفاهم والولايات المتحدة الأمريكية).<br />
-<br />
- دولة - آيان<br />
منير شفيق│ نيسان ١٩٩٤<br />
مؤسسة الوفاء
17<br />
ومسيرة<br />
شهداء<br />
وبالمناسبة احتار بعض الذين ردوا بالتشهير ضد هذا التيار فيما يصفونه، أو على من يحسبونه، فتارة<br />
اتهم بالعمالة للأردن وآان رد أبي حسن "إذن آانت فتح عميلة للأردن من إلى<br />
وتارة أتهم بالعمالة لسورية، وأخرى بالعمالة لمصر. وآان الرد "ألم يكن هذا موقفكم دائماً قبل طرح<br />
برنامج النقاط العشر"!!، آان الرئيس الراحل جمال عبد الناصر قد وجد حلاً مثالياً للثورة الفلسطينية<br />
في مرحلة المنطلقات والمبادئ وذلك حين أعلن موافقته على مشروع روجرز إذ قال من حق<br />
الفلسطينيين أن يرفضوا مشروع روجرز، وقرار مجلس الأمن 242، ولكن ليس من حقهم أن<br />
يحاربوا مصر بسبب ذلك. فالإستراتيجية الأحكم هنا آانت تقضي بأن تتمسك الثورة الفلسطينية<br />
بمنطلقاتها وأهدافها وبمواصلة مقاومة الاحتلال إلى جانب تمسكها بحقها في رفض مشاريع التسوية<br />
لأن ما من مشروع منها يحقق الحد الأدنى من الحقوق الأساسية الثابتة في فلسطين. ولكن مع ترك<br />
الدول العربية تسعى إلى "إزالة آثار العدوان"، أو استعادة الأراضي المحتلة في<br />
مقدمتها القدس. وبهذا يكون خطها عدم الدخول في صراعات المحاور العربية، ولا في زحمة<br />
صراعات الحرب الباردة.<br />
"..1974<br />
1967، وفي<br />
1965<br />
طبعاً هذا لا يعني أنها آانت ستنجو من الضغوط العربية الرامية إلى فرض الانحياز عليها<br />
واستخدامها في صراعات المحاور، آما أن التحريض لضربها، وعدم السماح لها بالتحرك من<br />
الحدود العربية آانت سياسة أمريكية - إسرائيلية ثابتة. وآانت هنالك استعدادات عربية للاستجابة<br />
لذلك. ولكن آان ما سيقع أقل آثيراً من الذي وقع بسبب برنامج النقاط العشر والتمثيل الأوحد للشعب<br />
الفلسطيني والدخول في لعبة التسوية أو محاولة إيجاد مكان في المعادلة العربية والدولية.<br />
وتتمثل أهمية هذه الإستراتيجية في أن الثورة ستكون في الموقع الأقوى في آل تلك الصراعات حين<br />
يكون دافعها من الطرف العربي هو الاستجابة لضغوط خارجية أو لإخراج الثورة من حياديتها<br />
واستقلاليتها بالنسبة إلى الصراعات المحورية العربية أما في الحالة الأولى أي محاولة<br />
التحول إلى نظام عربي ومحاولة استخدام الأوراق المختلفة، والتحالفات والمناورات السياسية من<br />
أجل الاشتراك في التسوية من خلال التقرب من السوفيات أولاً ثم أمريكا فإسرائيل ثانياً، آان يزيد<br />
على ما ذآر من عوامل للصراع في الحالة الثانية عوامل المنافسة المباشرة حول التمثيل والضفة<br />
الغربية، والمنافسة المباشرة لسوريا في لبنان، وفي الانحياز إلى مصر.<br />
- العربية.<br />
بكلمة، لا يمكن أن يوصف موقف الشهداء أبي حسن وحمدي ومروان وإخوانهم من إشكالية برنامج<br />
النقاط العشر بالعدمي أو باللاوقعي، فهو بالإضافة إلى أساساته المبدئية، نبع من إدراك أعمق للواقع<br />
العربي والدولي ولاتجاه مسارات التسوية. ومن ثم آان يرفض رفضاً قاطعاً ألا يكون هو الأآثر<br />
واقعية وعملية والأفضل نتائج على أرض الواقع.<br />
تبقى إشكالية واحدة هنا آانت تجابه هذا التيار وهي ماذا سيحدث لو تحققت تسوية واستعادت الدول<br />
العربية المعنية، مصر وسوريا والأردن، ما آان بحوزتها من أرض قبل حزيران 1967؟<br />
هنا آان يحضر منذ ذلك الوقت جوابان، الأول هو أن الأولوية يجب أن تعطى لاستعادة الأراضي<br />
ولاسيما القدس. ومن ثم فتحقيق ذلك سيكون نصراً حتى لو خرجت م.ت.ف. من المولِد بلا حمّص<br />
آما يقول المثل أو آما آان يخاف البعض من حدوثه. وقد أثبتت الوقائع أن دون ذلك خرط القتاد<br />
منير شفيق│ نيسان ١٩٩٤<br />
مؤسسة الوفاء
18<br />
ومسيرة<br />
شهداء<br />
وليس بالأمر الذي آان على أجندة التنفيذ الواقعي. وإذا ما قورن بما نشهده اليوم من شروط للتسوية<br />
راحت توافق عليها م.ت.ف. آان سيكون، وبلا جدال، خياراً أفضل.<br />
وإذا آانت مصر لا تظهر مشكلة في الحالتين بسبب حرصها على عدم الوجود العسكري المباشر في<br />
القطاع. وإن آانت حريصة علي أن يبقى القطاع موالياً لها، فإن الإشكال يبقى بالنسبة إلى السؤال<br />
يتعلق بالعلاقات الفلسطينية - الأردنية في الضفة الغربية. وهنا آانت ثمة عدة خيارات مطروحة<br />
ويمكن أن يتفق عليها مسبقاً من أجل الذين يحرصون على عدم الخروج من "المولد بلا حمص".<br />
وهي خيارات تراوحت بين المملكة المتحدة إلى الكونفدرالية. وهي خيارات، على الرغم من الممثل<br />
الشرعي والوحيد وشعارات الدولة الفلسطينية المستقلة بقيت جزءاً من برنامج الطرح الفلسطيني<br />
الذي لم يستطع من الناحية النظرية والعملية والسياسية القفز عليها. لأن الخيار المقابل الذي أفرزه<br />
مسار التسوية آان حكماً ذاتياً ضمن السيادة الأمنية الإسرائيلية أو آونفدرالية فلسطينية - إسرائيلية أو<br />
آونفدرالية فلسطينية - إسرائيلية وهذه جميعاً أسوأ الخيارات، وأسوأ حتى من إذابة الشعب<br />
الفلسطيني وفقدانه لأية هوية سياسية رسمية فلسطينية.<br />
- أردنية<br />
أما الجواب الثاني، فكان يرى أن أية تسوية يمكن أن تعقدها الدول العربية، ولو من وراء ظهر<br />
م.ت.ف.، لم تعد تستطيع عدم استرضاء الفلسطينيين حتى دون أن يسعوا من جانبهم إلى ذلك. لان<br />
مجرد الوقوف الصامت والمتأني من قبل م.ت.ف. والشعب الفلسطيني تارآين لعملية التسوية أن تأخذ<br />
مجراها فيما بين الدول أمر لا تستطيعه المعادلة العربية أو الدولية أو الإسرائيلية، ذلك بأن من<br />
شروط العملية الحصول على موافقة فلسطينية وهو أمر ضروري للأطراف العربية أولاً بسبب ما<br />
يمكن أن تحمله التسوية من تنازلات. فالورقة الفلسطينية الصامتة هنا أقوى ألف مرة، من ناحية<br />
عملية، من برنامج النقاط العشر وما تبعه من برامج وصولاً إلى اتفاق أوسلو. لأنك في الحالة الأولى<br />
تكون مطلوباً ومسترضى وفي الحالة الثانية تكون طالباً بل متوس ًلا. وتكون: آل أوراقك في الحالة<br />
الأولى بيديك بينما تكون في الحالة الثانية أغلب أوراقك إن لم تكن آلها قد فقدت من يديك، أو<br />
أصبحت مكشوفة.<br />
آما أن القبول الفلسطيني أو الاسترضاء على الرغم مما آان يظهر على السطح سيكون مطلوباً<br />
أمريكياً وأوروبياً وإسرائيلياً لا لتغطية الموقف العربي والمشاريع القادمة فحسب وإنما أيضاً لنزع<br />
الفتيل الفلسطيني أو اللغم الفلسطيني المتفجر تحت أية تسوية تدوسه تحت أقدامها.<br />
المهم أن البقاء في مواقع المنطلقات والمبادئ من الناحية النظرية والأيديولوجية والسياسية والبقاء في<br />
مواقع المقاومة والثورة من الناحية العملية والأخلاقية والقيمية وإبقاء الأولوية لدحر الاحتلال آانا<br />
الخيار الأفضل وآان مردودهما أقل خسائر وتضحيات بالنسبة إلى الشعب الفلسطيني وأآثر فائدة<br />
ونفعاً لمستقبل التغيير العربي وللمستقبل الفلسطيني وللوضع العربي الرسمي عموماً. بل حتى للهوية<br />
الفلسطينية ونوع الكيانية ولكن ذلك آله آان بحاجة إلى خيال وحساب معادلة مرآبة وإلى صبر<br />
جميل.<br />
هذا الإدراك المعمق والشمولي الذي حمله أبو حسن وحمدي وأبو محمود وسعد ومروان وأبو خالد<br />
جورج وإخوانهم الذي ينم عن رؤية نظرية ومبدئية وسياسية عملية الذي ميزهم عن أغلب القوى<br />
منير شفيق│ نيسان ١٩٩٤<br />
مؤسسة الوفاء
19<br />
ومسيرة<br />
شهداء<br />
الفلسطينية والعربية الرافضة في ذلك الوقت، وهو الذي يفسر السبب الذي جعلهم وإخوانهم يثبتون<br />
عليه طوال المراحل اللاحقة بينما شهدت فصائل م.ت.ف. التي رفضت مشروع النقاط العشر تراجعاً<br />
تلو الآخر أولاً باتجاه السلطة الوطنية ثم باتجاه الموافقة على الانخراط في هذا أو ذاك من مشاريع<br />
التسوية. ولهذا آان الشهيد القائد أبو حسن يردد المثل الفلسطيني "دجاجة حفرت على رأسها عفرت"<br />
مدللاً علي أن التخبط في هذا الطريق الذي شقه مشروع برنامج النقاط العشر هو سير على طريق<br />
خراب البيت الفلسطيني والعربي. وهو ما آان يلحظه مع تلاحق المراحل التي مرت بها م.ت.ف. منذ<br />
1974، بصورة خاصة، حتى يوم استشهاده بصحبة حمدي ومروان في 14 شباط<br />
(فبراير 1988).<br />
1974<br />
وإذا آان من الصحيح أن يرى قرار القمة العربية في الرباط عام باعتبار م. ت. ف. الممثل<br />
الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني مكملاً أو متكاملاً مع البرنامج المحلي، فقد حاول أبو حسن<br />
وحمدي وإخوانهما أن يعطوه، مع تحفظهم عليه أساسا، بعداَ نضاليا يشدد على الشخصية الفلسطينية<br />
المقاتلة وعلى ضرورة احترام قرار الشعب الفلسطيني باختيار طريق الكفاح المسلح لتحرير<br />
فلسطين، وأن يستخدم ضد أي تفريط عربي بالحقوق الثابتة في فلسطين. وقد أثبتت الوقائع أن قرار<br />
التمثيل الوحيد غير المشروط آان يخفي من بعض القيادات العربية في قمة الرباط خبثاً تكاد تزول<br />
منه الجبال. وهو إيجاد المسوغ لإلغاء المسؤولية العربية والإسلامية إزاء قضية فلسطين، أو حتى<br />
بالنسبة إلى استعادة آل الأراضي المحتلة عام وفي مقدمتها القدس. ومن ثم تدفع م.ت.ف إلى<br />
تقديم التنازلات المطلوبة أمريكياً وإسرائيلياً بعد استنزافها وتدويخها بالحصار والضغوط المختلفة،<br />
ليصبح شعار الدول العربية "نرضى بما يرضى به الفلسطينيون". وبهذا "يتحررون" من عبء<br />
"قضية العرب المرآزية" أو "قضية العرب والمسلمين الأولى" فتصبح القضية قضية الشعب<br />
الفلسطيني فقط، والذي يعبر عنه في ذلك م. ت. ف الممثل الشرعي والوحيد.<br />
1967<br />
أما من جهة أخرى فقد أثبتت والوقائع صحة آل تلك المعارضة لهذين التوجهين: "البرنامج المرحلي<br />
وإشكالية الممثل الشرعي والوحيد للقضية الفلسطينية" فهذان التوجهان أديا، في نهاية المطاف إلى أن<br />
يصبح البحث في الكيان الفلسطيني والتمثيل الفلسطيني مقدمين على الانسحاب الإسرائيلي الكامل من<br />
الضفة والقطاع والقدس وتفكيك المستوطنات لا سيما من القدس الشرقية وما حولها. ويؤدي هذا،<br />
بدوره إلى الالتفاف على شعار الأرض مقابل السلام ليصبح الحكم الذاتي بقيادة الممثل الشرعي<br />
والوحيد مقابل السلام. وهو ما عبرت عنه اتفاقية أوسلو، والتي حملت اسم "غزة أريحا أولا" أي<br />
الحكم الذاتي أولا، ولو على جزء، ولو تحت أية شروط.<br />
منير شفيق│ نيسان ١٩٩٤<br />
مؤسسة الوفاء
20<br />
ومسيرة<br />
شهداء<br />
21<br />
ومسيرة<br />
شهداء<br />
هنا يجب أن تدرك حقيقة أساسية، وهي أن مرحلة الثمانينات التي شهدت ولادة سرايا الجهاد<br />
الإسلامي في فلسطين آان لأبي حسن وحمدي الدور المميز فيها، علماً أنهما آانا يهربان من<br />
الأضواء آما من المديح والإطراء، ويقدمان دائماً الآخرين تشجيعاً لهم. وان الإشارة إلى هذا الدور لا<br />
يقلل ولا بشكل من الأشكال من الأدوار التي قامت به عدة جماعات وشخصيات إسلامية، جنباً إلى<br />
جنب، وبالتعاون مع الشهيدين، لإنجاح المشروع.<br />
وبالمناسبة حاول الشهيدان أبو حسن وحمدي أن يعطيا لعملية الدبويا العسكرية الشهيرة أسماً إسلاميًا<br />
آرمز لوحدة العمل الإسلامي والوطني الفلسطيني في ذلك الوقت من عام وهي المرحلة التي<br />
آانت الثورة الفلسطينية تواجه فيها مفترق طرق. وآانت إحداها تدل على بداية صحوة إسلامية<br />
آبيرة، آما آانت إحداها تدل على دوران في المكان إن لم يكن الخروج من لبنان، وأخرى على<br />
تراجعات باتجاه التسوية وأخرى تشير إلى متغيرات إقليمية وعالمية آبيرة. فقد رأى الشهيدان في تلك<br />
المرحلة ضرورة إحداث انعطافة في سياسات الثورة الفلسطينية من خلال العودة إلى المنطلقات،<br />
والتحالف والصحوة الإسلامية والاستناد إلى المرجعية الإسلامية بدلاً من التقاذف في مهب الرياح.<br />
وبدلاً من التآآل الداخلي. ولكن ما آان ذلك مجرد اقتراحات إذا تبلت آان به وان لم تقبل تبقى الأمور<br />
على حالها. أي دون أي اختيار من جانبهما للطريق الذي اقترحاه واعتبراه ضرورة لإنقاذ الثورة من<br />
طمع الطامعين إقليمياً ودولياً. آما ضرورة لإنقاذها من نفسها بعد أن أخذت علائم الترهل تظهر هنا<br />
وهناك. وتهدد بالتفشي والتفاقم لا من الناحية السياسية والمبدئية فحسب وإنما أيضاً، من ناحية القيم<br />
والمناقب الثورية والأخلاقية.<br />
1980<br />
على أن توصلهما وأغلبية ممن شارآهم البحث والمداولة إلى الوقوف على أرض الإسلام لم يأت<br />
لأسباب عملية بقصد تجديد شباب الثورة الفلسطينية من علائم الترهل ومخاطر التخلي عن المنطلقات<br />
والمبادئ والأهداف. فهذا الأمر جاء نتاجاً لاحقاً ولم يكن سبباً ودافعاً فقد اقتضت عملية الوصول إلى<br />
تلك النتيجة سلسلة طويلة من المناقشات والجدل والمقارنات ومحاولات استقاء العبر من التجارب<br />
المحلية والإقليمية والعالمية في تقويم طرق العلمنة لاسيما طريق المارآسية الليفينية حتى في وجهها<br />
الأآثر جاذبية بالنسبة إلى الثورة في بلدان العالم الثالث أي ما عرف باسم أفكار ماوتسي تونغ. وإلى<br />
حد أبسط أفكار موتشي منه ومنهجيته في التعامل والقضايا الجزئية للتجربة.<br />
بكلمة، آان الانتقال أو بالأصح التطور أو التقدم باتجاه المرجعية الإسلامية قد تم عبر عملية تاريخية<br />
صاحبت تلك التجربة وأفكارها وتنظيراتها ما يقارب العقد من السنين. وإذا آان البعض قد نظر إلى<br />
هذا التحول بعين ساخطة، وتجنى عليه باتهامه بالتقلب في المواقف أو بالتنقل الهوائي أو العشوائي،<br />
فقد أخطأ في ذلك. لأن ما حدث آان مسار. متماسكاً باتجاه اآتشاف الحقيقة لا الحقيقة الكونية فحسب<br />
وإنما أيضاً الحقائق التاريخية والاجتماعية والأيديولوجية والمفهومية. فقد اتسم التيار الذي وقف في<br />
مقدمته أبو حسن وحمدي بالتوتر القلق الدائم في البحث عن الحقيقة والموقف السياسي والأيديولوجي<br />
الصحيح. وآان هذا يقضي إبقاء العيون مفتحة على آل ما اعتبر من المسلمات، وإبقاءها متوقدة في<br />
تقويم نتائج آل تجربة أو فكرة أو نظرية، فالتعامل والمارآسية الليفينية لم يبدأ في هذه التجربة<br />
بالطريقة الجامدة المدرسية التي آان عليها أن تبتلع نتاج النظرية بكلمته وتفصيلاته، وغالباً بشكل<br />
شديد التبسيطية، وإنما بالتعامل وإياها من خلال نقد صارم للتجربة السوفياتية، ولتجارب الأحزاب<br />
الشيوعية واليسارية إقليمياً وعالمياً، والأهم بدأت بنقد صارم للمرآزية الأوروبية في بنية النظرية<br />
منير شفيق│ نيسان ١٩٩٤<br />
مؤسسة الوفاء
22<br />
ومسيرة<br />
شهداء<br />
المارآسية الليفينية، ومن هنا آان التعامل والنظرية منذ اللحظة الأولى تعاملاً نقدياً، مع محاولة دائمة<br />
لوضعها على محك التاريخ العربي، والواقع العربي، مما آان يدفع باستمرار إلى الخروج<br />
بموضوعات ذات أصالة نسبياً ومختلفة جوهرياً عن آثير من الموضوعات التي تبنتها الحرآات<br />
اليسارية الفلسطينية والعربية والأوروبية، لاسيما في التفسير الطبقي التبسيطي للتاريخ، والواقع<br />
العربي القائم أو التفسير الطبقي الساذج للظاهرة الصهيونية في فلسطين والعالم.<br />
ولعل مراجعة للرسالة التي نشرت باسم الشهيدين تحت عنوان "رسالة من وراء القضبان"، والملحقة<br />
بهذا الكتيب، لتكشف من جهة عن جوانب من البعد الفكري. - النظري لدى الشهيدين مما<br />
يدحض حصرهما في الجانب الجزئي التطبيقي العملي، ولتكشف من جهة أخرى عن نهجهما وما<br />
وجهاه من النقد للمارآسية الليفينية وتجاربها.<br />
- الثقافي<br />
1976<br />
في الواقع لم يكد عام يشرف على الانتهاء حتى آان الشهيدان ومعهما عدد هام من المنتسبين<br />
لهذا التيار قد أخذوا يصفّون الحساب مع المارآسية الليفينية تماماً، وآانت الشعرة التي قصمت ظهر<br />
البعير سقوط تجربة الثورة الثقافية في الصين. وإن آان النقد الأساسي الذي وجهاه لها غير النقد الذي<br />
وجه لها رسمياً من قبل القيادة الصينية اللاحقة. فقد اعتمد نقدهما على الروحية الأوروبية التخريبية<br />
التي حكمت جانباً هاماً من الطرح النظري للثورة الثقافية لاسيما اعتماد الموضوعة النظرية الواردة<br />
في البيان الشيوعي لمارآس وانجلز، والقائلة بضرورة القطع التام مع الماضي بكل أوجهه وليس فقط<br />
مع البرجوازية. فقد لاحظ الشهيدان ومعهما أغلب إخوانهما روحاً تخريبية عالية في طرح نظرية<br />
الثورة الثقافية وممارستها بالرغم من شعبويتها ونفسها الجماهيري ومعارضتها للبيروقراطية وتسلط<br />
الحزب والدولة على الشعب، والتي اتهمت بالغلو واللاتوازن بسبب سياسات القادة الأربعة للثورة<br />
الثقافية ("عصابة الأربعة" وفقاً لنعت قيادة الحزب الشيوعي الصيني اللاحقة).<br />
لقد آانت هذه التجربة مناسبة للتعمق أآثر فأآثر في عدد من المواضيع النظرية مثل موضوعة خط<br />
الجماهير، وموضوعة الاستقلالية، والأصالة في فهم خصوصية الثورة والتغيير في آل بلد، آما<br />
صحب ذلك سقوط تام لهالة المارآسية الأوروبية ابتداء من مارآس وانجلز ولينين وصولاً إلى<br />
مراجعة صارمة للفلسفة المادية والمنهج الديالكتيكي والمادية التاريخية والاشتراآية العلمية، وأصبح<br />
التيار المذآور مطالباً بطرح مشروع مواز في آل تلك المجالات وإزاء مختلف تلك المواضيع. وهنا<br />
تطلب الأمر القيام بدراسات حول التجربة الإسلامية الواقعية والتي بدأت بقيادة الرسول صلى االله<br />
عليه وسلم وما تلاها من تجارب إسلامية شروط ضرورية لبناء نظري وأيديولوجي أصيل. لقد آانت<br />
هذه الدراسات وإلى جانبها حوار مفتوح متعدد الأطراف والمشارآين حول هذه الإشكاليات محاولة<br />
لاآتشاف القوانين التي تحكمت في التاريخ العربي قديمه وحديثه ولاآتشاف القوانين المتعلقة بالمنهج،<br />
وأخيراً إجراء قراءة أآثر تعمقاً للواقع العربي الراهن وصولاً لاآتشاف سمات الثورة في بلادنا..<br />
سمات التغيير الذي يخرج الأمة من حالة التجزئة والتبعية والوجود الصهيوني في فلسطين ويسمح<br />
لها بالوصول إلى الوحدة والعدالة الاجتماعية والنهوض الحضاري والثقافي والنمو الاقتصادي<br />
والعلمي والتقني.<br />
آانت هذه البداية السليمة نسبياً وهي التحرر المبكر جداً، بل منذ ولادة التيار، من المارآسية<br />
السوفياتية، آما من اليسراوية الأوروبية والتي ترعرعت في النصف الثاني من الستينات بصورة<br />
منير شفيق│ نيسان ١٩٩٤<br />
مؤسسة الوفاء
23<br />
ومسيرة<br />
شهداء<br />
خاصة، قد حصنته من جهة ضد سلسلة من الشعارات المخطئة لا سيما المغامرة والطفولية ودفعته<br />
إلى الأصالة والاعتماد على الذات من جهة ثانية. وهذا ما جعله يدخل الصراع لا مع التيارات<br />
السوفياتية فحسب وإنما أيضا مع التيارات اليسراوية الأوروبية، والتروتسكية، أو الماوية، أو الثورية<br />
المسلحة، وغيرها وامتداداتها في الساحتين الفلسطينية والعربية. بكلمة لقد آانت لها إطلالتها المستقلة<br />
والأصيلة على المارآسية، بما في ذلك أفكار ماوتسي تونغ والتجربة الفيتنامية. وقد انسحب هذا حتى<br />
على المسائل الصغيرة وذات الطابع الشكلي فمنذ البداية على سبيل المثال لم يستخدم لقب "رفيق"<br />
مطلقاً وإنما نداء الأخ والأخت. فهذا على بساطته آان يعتبر شذوذاً في مختلف المدارس المارآسية<br />
وبإجماع.<br />
هنا بدأت العقول والأبواب تفتح على مصراعيها لدراسة الإسلام والتجربة الإسلامية التاريخية وقد<br />
صحب ذلك تدفق الجماهير إلى الشوارع في إيران وهي ترفع راية "االله أآبر" و"لا اله إلا االله"،<br />
وتمضي إلى غايتها بحزم وتصميم لا مثيل لهما. ولكن أآثر ما أثر في الإسراع بالتقاط الإشكالية<br />
المتعلقة بالإسلام ودوره في المعرآة ضد السيطرة الامبريالية العالمية وفي مواجهة الطغاة والعملاء<br />
وفي إلهام الشعب في مساره للتغير والنهوض آان رد الفعل الذي استقبلت به الجماهير الفلسطينية<br />
والعربية نداء "االله أآبر" المتصاعد من طهران. فقد تبين من خلال نظرة ثاقبة أن هذا النداء يسكن<br />
أعماق جماهير الأمة العربية، ومن ثم فإن آل بحث عن خط الجماهير، أو خصوصية سمات الثورة<br />
في بلادنا لن يصيب آبد الحقيقة أبداً ما لم يدرك الحقيقة الإسلامية المزروعة في أساسات التكوين<br />
العربي الراهن. وبهذا بدأت الأمور تتداعى باتجاه فهم أعمق لا لدور الإسلام وأهميته في عملية<br />
التحرير والانعتاق والنهوض في بلادنا أي الجانب الحضاري السياسي<br />
فحسب وإنما أيضاً لفهم الإسلام نفسه وإدراك بنيته الداخلية أقرب ما يكون لما جاء عليه في القرآن<br />
والسنة. وآان هذا يقضي بعدم الاقتصار على إدراك النظريات الإسلامية في التاريخ والاجتماع<br />
والاقتصاد ومعالجة قضايا الإنسان أو الإمساك بالمنهج الإسلامي الذي يتسم، فيما يتسم به، بقانون<br />
التوازن والعدل وإنما التوقف أمام مسألة العقيدة ودورها المحوري في بنية الإسلام آله، إذ أن آل<br />
الجوانب المتعلقة بالإشكاليات الحضارية والثقافية والمنهجية والتغيير تنبعث من محور العقيدة ولا بد<br />
من أن تظل مشدودة إلى ذلك المحور.<br />
- التحريضي<br />
- الثقافي -<br />
هنا دخلت العملية مرحلة أخرى منطقية بالنسبة إلى ما تقدم آان لا بد من الوصول إليها، آما آان<br />
الحال فيما حدث من تتابع منطقي للموضوعات السابقة. وتأتي هذه المنطقية في سياق متماسك<br />
صاحب منهجية الشهيدين وإخوانهما من أول يوم بدأ يتشكل به هذا التيار. ويمكن أن يشار هنا إلى<br />
جانب هام وهي أن هذا التيار لم يحول نفسه منذ البداية إلى تنظيم مرآزي تخضع فيه الأقلية للأغلبية<br />
والمستويات الدنيا للمستويات العليا، ولم يتشكل على أساس وجود رئيس وأمين عام ومكتب سياسي<br />
ولجنة مرآزية. لأنه لو آان آذلك لما تمكن من انتهاج ذلك النهج النقدي - والقلق في<br />
البحث عن الحقيقة والصواب. فما آان أسهل من أن يكبت أي رأي نقدي أو فكرة جديدة، أو محاولة<br />
نظرية، من خلال التصويت أو من خلال نظرية الأغلبية والأقلية. فعلى العكس، آان إبقاء الأبواب<br />
مفتوحة على مصاريعها للنقد وللتجديد والتنظير سمح دائماً بإخصاب الفكر والتجربة وإغنائهما وهو<br />
الذي سمح أن يتحول ما آان وليداً في صدور قلة قليلة إلى آثرة آاثرة مع الزمن والنقاش الأخوي<br />
الودي الصبور. ودون أن يؤثر ذلك في مسار الجانب العملي التطبيقي الذي آان موضوعه ثابت أي<br />
- التطوري<br />
منير شفيق│ نيسان ١٩٩٤<br />
مؤسسة الوفاء
24<br />
ومسيرة<br />
شهداء<br />
مواجهة العدو الصهيوني سواء أآان في النشاط على الحدود من جنوبي لبنان أم آان من خلال دور<br />
الشهيدين في القطاع الغربي والعمل في الداخل.<br />
فالتيار في حقيقته قام على أساس نواة متفاهمة متحابة متماسكة تحكمها ثقة متبادلة عميقة، ولم تكن<br />
نواة مغلقة وإنما آانت نقاشاتها مفتوحة، ولم تكن ذات هيكل تنظيمي، أو نظام داخلي.. ففي آل ما<br />
يتعلق بالمسائل الفكرية والنظرية والعقدية والسياسية والمواقف آان خطها مفتوحاً على العشرات<br />
والمئات بل على آل مشارك حتى لو آان يحمل وجهات نظر مناقضة، أو يمثل تياراً آخر. وما آانت<br />
لتحصر في مكان بعينه ومناسبة بعينها وإنما آانت تجري حيثما وجد اثنان أو أآثر. ومن ثم آان<br />
النتاج النظري والسياسي محصلة لجملة واسعة من النقاشات في آل المواقع. أما الممارسة العملية<br />
فكانت تتم وفق للقناعة الفردية. وقد ترك قرار المشارآة ومستواها لضمير آل فرد وقناعته دون أن<br />
يترتب على عدم المشارآة أية إجراءات تأخذ شكل العقاب والمحاسبة، أو التشهير وإنما آان عدم<br />
المشارآة يعني فقدان الدور، تلقائيا وبلا قرار، في مجال التطبيق، وهو دور آان يمكن أن يستعاد،<br />
في المقابل، بمجرد العودة إلى الممارسة وقد يصار إلى تخطيه إذا ما قامت ممارسة تستحق ذلك. أي<br />
آان النهج المتبع يسمح بتبادل تلقائي لمواقع "القيادة" أو بالأصح أهمية الدور، وفقاً للدور العملي،<br />
وليس وفقاً القرار من فوق! ولعل السبب الذي جعل مثل هذا النهج ناجحاً يعود إلى مجموعة من<br />
الأسباب آما إلى طبيعة المخاطر القصوى التي آان يتضمنها الدور العملي.. ولهذا ليس من السهل<br />
استخدامه في ظروف أخرى بالطريقة نفسها. أو بكلمة أخرى يجب ألا يعتبر هذا النهج قانوناً عاماً،<br />
أو هو الأصح دائما، وبصورة مطلقة، لأن إشكاليات التنظيم وألوانه أو إشكالية العلاقات داخل تيار<br />
معين يجب أن تخضع لظروف آل حالة وما يناسبها.<br />
وآان الشهيدان حريصين على محاربة الاتجاهات التي آانت تحاول المساس بمن يتخلف عن<br />
الممارسة أو الإساءة إليه، وذلك لإبقاء روح العلاقة أخوية بلا حزازات شخصية، ولإبقاء الأخ<br />
مشدوداً للتيار عموماً وفي حالة احترام بداخله، ومن ثم إبقاء الباب مفتوحاً أمامه لمراجعة موقفه<br />
وامتلاك القناعة الذاتية بضرورة المشارآة العملية والتجرؤ على التضحية. فالقتال آره للإنسان وفيه<br />
الكثير مما يناقض الحرص على الحياة والمصالح وصون الأمل والولد، والأمر آذلك بالنسبة إلى<br />
السجن والتشريد.<br />
وآان الشهيدان حريصين على أن يبقيا خط التواصل ممدوداً مع جميع الأخوة الذين استمسكوا<br />
بالوضع السابق ورفضوا تقبل الإسلام عقيدة ومرجعية، فمن جهة حافظوا على روح الأخوة واللقاء<br />
الودود والحوار الودي، وإن أمكن إبقاء التعاون في الممارسة. فالعقول الفردية والتجارب الذاتية<br />
ليست سواء بين الناس. ومن ثم يحتاج البعض إلى وقت أطول وتجارب أآثر حتى يصل ما وصل<br />
إليه السابقون. آما أن هنالك إشكالات في مواقع الحرآة الإسلامية نفسها ليست مشجعة دائماً لمن هو<br />
خارجها لولوجها، آما أن ثمة ضغوطاً هائلة معادية لا تشجع آذلك. ولهذا لا بد من طول النفس في<br />
معالجة الكثير من الحالات. بل أن من لا يقتنع سيظل مشدوداً إليك بهذا القدر أو ذاك إذا ما حافظت<br />
على التواصل والإخاء والود والرفق.<br />
وجاءت التجربة العملية لتؤآد أن هذا النهج أتى في الحالتين أآلاً طيباً، فكثيرون تخلفوا عن القتال<br />
والعمل في هذه المناسبة أو ذاك، أو لهذا السبب أو ذاك، ولكنهم عادوا بعد حين أشد مضاء، وأآثر<br />
منير شفيق│ نيسان ١٩٩٤<br />
مؤسسة الوفاء
25<br />
ومسيرة<br />
شهداء<br />
استعدادا للتضحية. وآثيرون تأخروا عن تقبل الإسلام، ولأسباب مختلفة، عادوا إلى رحابه وأصبح<br />
حالهم أفضل من بعض ممن سبقهم تُقىً وثباتاً واستقامةً وعم ًلا.<br />
منير شفيق│ نيسان ١٩٩٤<br />
مؤسسة الوفاء
26<br />
ومسيرة<br />
شهداء<br />
<br />
xjÊ
27<br />
ومسيرة<br />
شهداء<br />
<
28<br />
ومسيرة<br />
شهداء<br />
آان أبو حسن قد فقد ثقته تماماً بقيادة فتح منذ الخروج من الأردن في تموز (يوليو) وبدأ 1971.<br />
يبحث عن بدائل أخرى من داخل التيارات التي أخذت تتنامى داخل فتح نتيجة لمراجعة تجربة<br />
الأردن. وقد انتقل إلى بغداد حيث مكث فيها حوالي السنتين وآانت تعج بالنقاشات والبحث عن مخرج<br />
من الأزمة بعد الرحيل من الأردن. ومن هناك انتقل أبو حسن إلى بيروت حيث أصبحت مرآز الثقل<br />
في فتح. وقد راح يخوض في حوارات مطولة مع مختلف الكوادر والقيادات في بيروت حول البحث<br />
عن مخرج من الأزمة.<br />
آان الوضع في بيروت يعج بآراء لا حصر لها، وآان المشارآون في النقاشات من داخل فتح ألواناً<br />
وألواناً، بعضهم آان في أعلى مستويات المسؤولية في اللجنة المرآزية وأآثرهم من المجلس الثوري<br />
في حينه ومن الكوادر الأخرى في الصف الثاني والثالث. وآانت الحرآة الطلابية بدورها تتأجج<br />
نشاطاً وهي تبحث عن مخرج من الأزمة آذلك.<br />
فالبعض راح يطرح تشكيل تنظيم مارآسي لينيني على النمط اليسراوي، وآخرون سعوا لتشكيل تكتل<br />
تقدمي باتجاه التحالف مع الاتحاد السوفياتى والجبهة التقدمية العربية والبعض راح يطرح تكتلاً أو<br />
تنظيماً فتحاوياً حديدياً من أجل تكريس نظام داخلي مرآزي ديمقراطي ينقذ التنظيم مما آان يسمى<br />
بالعقلية الفردية والعشائرية.<br />
وآان ثمة إرهاصات متواضعة لتفكير آخر أخذ منذ البداية موقفاً نقدياً، من آل هذه التيارات<br />
باعتبارها إجابات مخطئة على لإشكالية فتح وما يواجهها من أزمة. فإن تشكيل تنظيم مارآسي<br />
لينيني على النمط اليسراوي لا يمكنه أن ينقذ الوضع وإنما قد يزيد الوضع الداخلي تأزماً. فالإشكالية<br />
في جوهرها ليست تنظيمية أو متعلقة بالنظرية الثورية، الأمر الذي يجعل هذا التناول مرتجلاً وليس<br />
له أرآان. آما أن تيار التحالف مع الاتحاد السوفياتي والقوى التقدمية ينحرف بفتح عن منطلقاتها<br />
ومنهجها وسياساتها. ويكفي أن يحكم عليه بدراسة تجربة ما يسمى بالقوى التقدمية المتحالفة مع<br />
السوفيات وما أفرزته على أرض الواقع. فتبنّي مثل هذا الخط رسمياً يدمر فتح قطعاً، وبهذا يكون<br />
الحل آالهارب من الدلف إلى المزراب. والأخطر أنه يتضمن الاتجاه مستقبلاً للتوافق وقرار مجلس<br />
الأمن 242 لأن التحالف والاتحاد السوفياتي لا يستقيم وهدف تحرير فلسطين.<br />
-<br />
آما أنه رد على التكتلات الرامية إلى الخروج من الأزمة من خلال وضع نظام داخلي لفتح وهو ما<br />
تم وفقاً لتصور المعنيين في المؤتمر الثالث أواخر وقد التقت في هذا المؤتمر التوجهات<br />
اليسراوية والسوفياتية والإصلاحية آافة فقرر مبدأ "المرآزية الديمقراطية" ووضع نظاماً داخلياً<br />
استعير من المبادئ العامة للأنظمة الداخلية في الأحزاب الشيوعية. فكان حلاً لا علاقة له بالحالة<br />
الفتحاوية المشكلة تاريخياً على صورة محددة. ولم يكن من الصعب أن يلحظ أن أغلب الداعين إلى<br />
إصلاح فتح وإعادة بنائها على أساس تنظيم ثوري وحديدي إن هو إلا وهم غير قابل للتنفيذ إلا إذا<br />
استبدل ناسها من القمة إلى القاعدة بغير ناسها الحاليين. فإن الدعوة إلى الإصلاح على الرغم من أنها<br />
تلقى هوى وصدى لدى غالبية أبناء فتح إلا أنها آانت غير واقعية ولا تؤدي إلا إلى تأجيج<br />
الصراعات الداخلية. وقد أراد البعض استخدامها لتحسين وضعه الداخلي. فكانت تجمد في أغلب<br />
الحالات، بعد الوصول إلى المواقع المطلوبة لتعود الأمور داخل فتح سيرتها الأولى وربما أسوأ.<br />
.1971<br />
منير شفيق│ نيسان ١٩٩٤<br />
مؤسسة الوفاء
29<br />
ومسيرة<br />
شهداء<br />
وفي الواقع أثبتت التجربة العملية أن آل تلك التيارات ما آانت تستطيع مجتمعة أو منفردة أن تخرج<br />
فتح من جلدها أو تغير طبيعة ترآيبتها الداخلية، أو العقلية السائدة فيها في إدارة وضعها الداخلي.<br />
فالمحاولات التي أرادت بناء التنظيم الثوري المارآسي سرعان ما تطايرت في اتجاهات شتى بعضها<br />
انضم إلى انشقاق وبعضها بصم بالعشرة لقيادة ياسر عرفات في تونس. ولكنها في الحالتين<br />
تخلت عن مشروعها التي قامت عليه وأصبحت مقولاتها السابقة في خبر آان. أما التيار السوفياتي<br />
فقد تعاظم نفوذه داخل فتح ومجلسها الثوري لاسيما في سنوات الحرب الأهلية. وذلك لما امتلك من<br />
دعم دولي وعربي ومساندة من القوى التقدمية اللبنانية التي تعاظم نفوذها في أثناء الحرب الأهلية<br />
اللبنانية وإن آان ذلك، بداية، بالاتكاء على فتح وفصائل م.ت.ف.. فقد آانت قيادة فتح تجد في تلك<br />
الجبهة غطاء لنفوذها وسلطتها المتنامية في لبنان بعد انفجار الحرب الأهلية في نيسان (ابريل)<br />
وآان الثمن الذي دفع هو تعظيم دور تلك القوى لاسيما منظمة العمل الشيوعي والحزب<br />
الشيوعي اللبناني على حساب الإسلام السياسي السني التقليدي وبعض الناصريين والحرآة الإسلامية<br />
السنّية في بيروت وصيدا وطرابلس، وعلى حساب القيادة الشيعية السياسية التقليدية وحرآة<br />
المحرومين ثم حرآة أمل الشعبية في المناطق الشيعية من لبنان، لاسيما الجنوب. ولكن هذا الاستقواء<br />
الذي امتلكته جبهة القوى والأحزاب التقدمية عاد بدوره فمارس تأثيره في توازنات فتح الداخلية<br />
وراح يرجّح من دفة القوى الأآثر اتجاهاً نحو السوفيات ومعسكرهم عالمياً وجبهة القوى التقدمية<br />
عربياً وتقدمياً. أما الدخول السوري إلى لبنان والمعارضة المغالية التى ووجه بها من قبل جبهة القوى<br />
والأحزاب التقدمية اللبنانية والفلسطينية، بما فيها تلك التي في فتح فقد سمح بإضعاف قوة التيار<br />
"التقدمية" داخل فتح نفسها لاسيما بعد هزيمته العسكرية في الجبل في منطقة عينطورة أمام القصف<br />
السوري. وآانت تعتبر القاعدة المحررة وسميت بالجيب الأحمر.<br />
،<br />
1983<br />
.1975<br />
على آل حال انتهى تيار القوى التقدمية بألوانه المختلفة في فتح بعد الانشقاق الذي حدث عام 1983<br />
لا سيما بعد انتقال قيادة فتح إلى تونس. ولكن يجب أن يسجل له أنه آان ماضياً آالصاروخ في<br />
السيطرة على فتح في ظروف المنتصف الثاني من السبعينات على مستوى معادلة الحرب الباردة<br />
والوضع اللبناني والصراعات العربية لاسيما مع انتهاج القاهرة سياسة عزلة عربية ولبنانية منذ فك<br />
الاشتباآين الأول والثاني وصولاً إلى المعاهدة المصرية فالانشقاق أثبت أنه استطاع أن<br />
يحشد حوله قوى آثيرة وإن لم تكن آلها من الاتجاه نفسه. بيد أنه أثبت من جهة أخرى عدم قدرة على<br />
التحول إلى بديل بل عدم قدرة على المحافظة على قواه التي بدأ منها الانشقاق. أما من الجهة الأهم<br />
فإن التجربة أثبتت أن نقطة الانطلاق التي تشكلت على أساسها تلك التوجهات أي تحت دعوى<br />
إصلاح فتح وإعادة بنائها على أساس تنظيم ثوري لم تكن واقعية أو جادة من هذه الزاوية، وهذا ما<br />
جعلها تتحول الى مسار آخر مع أولى خطواتها.<br />
- الإسرائيلية.<br />
منير شفيق│ نيسان ١٩٩٤<br />
مؤسسة الوفاء
30<br />
ومسيرة<br />
شهداء<br />
31<br />
ومسيرة<br />
شهداء<br />
."<br />
"<br />
آكل. آما قد يؤدي إلى اقتراح مبادرات إنقاذية على جبهة الصراع ضد العدو يمكن تنفيذها من قبل<br />
ثلة من المناضلين دون أن يكون بمقدرة أحد معارضتها أو منعها.<br />
ومن هنا آانت بدايات تيار أبي حسن وإخوانه متحررة من إغراءات الشعارات الكبرى المتعلقة<br />
بالنظرية الثورية والحزب الثوري أو التنظيم الحديدي الثوري، وآانت تحمل إرهاصاً إيجابياً في<br />
مواجهة الأزمة المستعصية على الحل والتي ستتواصل إلى أمد طويل قادم. هذا وآان في جعبتهاً<br />
عشرات الأمثلة لتجارب عالمية توفرت لها تلك الشروط ولم تدخل أزمة خانقة فحسب وإنما أيضاً<br />
اجتثت من جذورها. فلم تكن آل التجارب هي فيتنام أو الصين أو ثورة أآتوبر. فتجارب الفشل أآثر<br />
عشرات المرات ابتداء من آومونة باريس إلى انتفاضات برلين ووارسو وشنغهاي إلى الحروب<br />
الأهلية في اليونان والملايو والفلبين وإلى الثورات في أمريكا اللاتينية وغيرها، ومن ثم يجب عدم<br />
الوقوع بإغراء الشعارات الكبرى التي تجتذب حديثي العهد بالمارآسية والآتين من عالم الفتحاوية<br />
التبسيطية أو القومية الطوباوية.<br />
هذا النقد الذي وجه إلى تلك التيارات ارتكز من ناحية إيجابية على البدء ببلورة مشروع مقابل انطلق<br />
من أن فتح غير قابلة للإصلاح بمعنى إعادة بناء تنظيمها على الأسس التي يتحدث عنها المصلحون<br />
ولطالما آان أبو حسن يردد فالج لا تعالج فما من حرآة يمكن أن تغيّر إلا من خلال قيادتها أو<br />
إزاحة قيادة وإحلال قيادة أخرى. وآان هذان الخياران غير واردين لا من ناحية واقعية أو نظرية ولا<br />
من ناحية الظروف العربية والدولية. آما أن بقاء القيادة آان يعني بقاء منهجها وعقليتها لا محالة.<br />
وهذا ما أثبتت صحته التجربة على الرغم مما يبدو عليه من مظهر قسوة وتشاؤم. والأخطر، أنه آان<br />
يعني إما القبول بواقع فتح من حيث الأساس وواقع قيادتها، وإما البحث عن بديل خارجها. ولكن<br />
محاولة تغيير الظاهرة بما يناقض تكوينها الأساسي نشأةً وقيادةً وترآيباً، سيؤدي إلى تعمق أزمتها<br />
الداخلية إن لم يؤد إلى التمزيق والانشقاق أو زيادة الشلل. آما أن عدم ملاحظة العلاقة بين فتح<br />
والوضع العربي في محصلته تمنع من رؤية علاقة مستقبل أي مشروع فلسطيني بالوضع العربي<br />
والمعادلة العربية والدولية. ومن ثم فإن الواقع الموضوعي والذاتي فلسطينياً وعربياً، وإلى أمد بعيد،<br />
سيبقي فتح على حالها من حيث الجوهر. وإذا آان هنالك من إمكان لتغيير هذا الوضع فمستقبله<br />
المنظور سيتوقف على مدى تعاظم النفوذ السوفياتي دولياً وعربياً وتمكنه من فتح. وهو الخيار الذي<br />
آان خيار إبقاء القيادة وفتح على حالهما، وعلى ما بهما، أفضل منه بالنسبة إلى الصراع ضد العدو،<br />
آما بالنسبة إلى تنامي حرآة التغيير العربي، والحفاظ على منطلقات فتح ومبادئها.<br />
<
32<br />
ومسيرة<br />
شهداء<br />
ثم يمكن القول بينما آانت التيارات التي راحت تتشكل في تلك المرحلة تقدر الوضع من زاوية جزئية<br />
أحادية الجانب آان يتنامى تيار.....<br />
وبدأ هنا أبو حسن يقتنع به ويتقدم صفوفه يسعى لتقويم الوضع تقويماً شمولياً يلحظ الايجابيات آما<br />
يلحظ السلبيات. ويميل إلى ترجيح الايجابيات على السلبيات. ففتح ومن خلال قرارات قيادتها صنعت<br />
انطلاقة الثورة الفلسطينية، وهي التي أعادت المبادرة للكفاح المسلح والمقاومة بعد حرب حزيران<br />
(يونيو) ، وهي التي أخذت قرار الصمود والمواجهة في الكرامة، وهي التي حمت استمرارية<br />
البنادق وخط الكفاح المسلح حتى حينه، وهي التي وقفت في مقدمة الصدامات والعدو الصهيوني،<br />
وهي التي جمعت في صفوفها الحشد الأآبر من الكفاءات والقدرات الثورية، وهي التي قدمت أآبر<br />
التضحيات في الأرض المحتلة آما على خطوط التماس في الأردن ولبنان، فكيف ينسى آل ذلك ولا<br />
يحسب في رصيد قيادتها وتكوينها بمجموعه مقابل ما يوجه من النقد للعشائرية التنظيمية وللنيات<br />
الدفينة، وحماية بعض الفاسدين، وعدد لا يستهان به من نواقص هنا وهناك. وآان الحكم في نهاية<br />
التحليل أعلاه يؤدي إلى موقف إيجابي من وضع فتح إذا أخذ بكليته وشموليته. وهنا نشأت مقولة<br />
حملها أبو حسن وسعد وأبو محمود وحمدي وعلي أبو طوق ومروان وأبو خالد جورج والحاج حسن<br />
ومحمد علي وغيرهم، وقد أخذت تتحول إلى تيار، تقول: أن فتح تتقدم، منذ عام<br />
الكرامة، على الأقل، وفقاً لقانون "المحصلة" "أي خروج محصلة عامة من خلال تصارع عدة قوى<br />
واتجاهات داخلها، ومثلها مؤثرة من الخارج فيها. فهي لا تعمل ضمن خط صارم ينتظم الجميع بلا<br />
استثناء آما هو الحال في الأحزاب الشيوعية أو أحزاب البعث التي تحرص على وحدة الموقف من<br />
القمة إلى القاعدة ووحدة المسلك ووحدة المظهر ووحدة الممارسة. ففتح تتقدم على أساس نظام<br />
محصلة القوى. ففي داخلها اجتهادات متعددة وأحياناً متضاربة في الأيديولوجية والسياسة والممارسة<br />
وثمة تنوع مشهود من جهة الأصول التي جاءت منها قياداتها وآوادرها وقواعدها. فقد آانت أحياناً<br />
تعكس في داخلها الوضع العربي آله رسمياً وشعبياً والوضع الفلسطيني بمختلف تياراته، فهي حالة<br />
معقدة مرآبة. وآان الحكم عليها أولها يتجه دائماً إلى أحادية الجانب أي الترآيز على جانب أو<br />
جوانب دون سواها. فعلى سبيل المثال آان تيار أبي حسن يرد على الذين يشيرون إلى بعض<br />
الفاسدين أو النفعيين داخل فتح بالقول لماذا لا ترون في داخلها ذلك الحشد الهائل من المستقيمين<br />
والصادقين والمناضلين. واذا آنتم تتهكمون على قانون "المحبة" في معالجة عدد من الإشكاليات<br />
الداخلية باعتباره قانوناً عشائرياً، فإنه قانون صحيح ويجب ألا يخلو منه تنظيم محترم، بل هو من<br />
إيجابيات فتح وإبداعاتها فلا تنظروا إلى بعض سلبياته حين يتسامح هو حالات فاسدة فقط، وإنما<br />
انظروا إلى شمول ايجابيته على المستوى العام. بكلمة إنه أفضل من قاعدة المرآزية الديمقراطية في<br />
الأحزاب الشيوعية(ا).<br />
، بعد<br />
1968<br />
1967<br />
وهكذا أخذ التيار المذآور يتكون على أساس تلك النظرة إلى فتح وراح يجدد القناعة التامة بصحة<br />
المنطلقات والأهداف وبصحة الإستراتيجية والتكتيك للوصول إلى تلك الأهداف. وإذا آان التطبيق<br />
العملي خلال السنوات السابقة قد أثبت إيجابيات آثيرة لفتح وإدارتها للصراع واتخاذها للقرارات<br />
المناسبة في الأوقات المناسبة عموماً من حتى وإذا آانت بنيتها تعكس حالة شعبية<br />
معقدة ومرآبة وآانت ذات طابع شعبي وآانت الأقرب إلى خط الجماهير، وإذا آان الوضع الذاتي<br />
والموضوعي فلسطينيناً وعربياً ودولياً غير مهيأ لولادة بديل أفضل فإن الحكمة والموقف الصحيح<br />
.1973<br />
1965<br />
منير شفيق│ نيسان ١٩٩٤<br />
مؤسسة الوفاء
33<br />
ومسيرة<br />
شهداء<br />
يفرضان البقاء في هذا الموقع الثوري الذي يعمل بمحصلته. وإن محصلته حتى الآن (ما بين -<br />
تسير بالاتجاه الصحيح ويتوقع لها الاستمرار على هذا المنوال حتى الأمد المنظور في الأقل.<br />
72<br />
(73<br />
بيد أن هذا الفهم لوضع فتح وما يحيطها من معادلات آان يفترض انتهاج خط داخلها يأتي، بصورة<br />
واعية، باتجاه المحصلة الصحيحة. ومن ثم فإن المطلوب إتباع سياسات وممارسات تدفع المحصلة<br />
العامة إلى أمام. فإذا آان من غير الممكن تغيير واقع فتح ومن غير الممكن إصلاحها بالجملة من<br />
قاعدتها حتى قمتها فإن من الممكن، وهو ما تسمح به ترآيبة فتح، أن ينمو فيها تيار يدفع باتجاه<br />
العوامل الايجابية ويخفف موضوعياً من تأثير العوامل السلبية. فإذا آان التشكّي يمس إشكالية<br />
الاستمرار في القتال أو الحزم فيه ضد العدو فلينشأ تيار يدفع بهذا الاتجاه وينميه ويمارسه، ولا<br />
يعامله مجرد اقتراح وعلى الآخرين تنفيذه، أو يعارض تحت رايته "وآفى االله المؤمنين القتال". وإذا<br />
آان التشكّي من تدهور في القيم الثورية والأخلاق فلينشأ تيار يتحلى بأعلى القيم الثورية ويستمسك<br />
بالأخلاق الحميدة. وإذا آان التشكّي من سوء العلاقة بالجماهير وبضرورة الالتصاق بها وحفزها<br />
للمشارآة. فلينبر المعنيون إلى تنفيذ ذلك وتطبيقه عملياً بدلاً من استخدامه شعاراً لمعارضة القيادة، أو<br />
بعضها دون أن يقدم المثل الحي على ذلك.<br />
هنا بدأ الخط يتبلور ضمن معادلة فتح نفسها وبما يتناسب وإياها واقعياً، وبما يتيح له الاندماج فيها<br />
أآثر، وبما يكون في خيرها وخير القضية والشعب الفلسطيني والأمة العربية. بينما راحت أغلب<br />
التيارات الأخرى تجنح إلى التعامل والوضع من خلال تشكيل نوع من المعارضة الداخلية الشبيهة<br />
بالمعارضة البرلمانية، وهي في ظروف ثورة والثورة لا تناسبها مثل هذه المعارضة، آما لا يجدي<br />
تآمر انقلابي يتجه إلى السيطرة على الوضع أو الانشقاق في ظروف شتات فلسطيني لا ينفع معه<br />
انقلاب ولا ينقذه الانشقاق، فكل انشقاق يحتاج بالضرورة إلى حاضن عربي وآان ذلك يكفي ليفقد<br />
الكثير من مصداقيته، والأهم يفرض عليه تحولاً غير الذي آان يريده في البدء.<br />
وحدث في تلك المرحلة أن أخذ العدو يعد لانتخابات بلدية. وخشيت قيادة فتح من شبح القيادة البديلة.<br />
وهنا تحرك الشهيد آمال عدوان وآان عضواً في اللجنة المرآزية. وأصبح مسؤولاً عن القطاع<br />
الغربي في فتح. وآان رحمه االله قائداً فذاً وذآياً جداً، وحيوياً، وقد أحس بالحاجة إلى ارسال عدة<br />
مجموعات مقاتلة إلى داخل الارض المحتلة من جنوبي لبنان. وذلك ليؤآد على قوة فتح ووجودها<br />
أمام الشائعات التي آانت تدعي انتهاءها بعد الخروج من الأردن وانحسار العمل المسلح. ومن ثم<br />
توجيه انذار غير مباشر لكل من قد ينقاد وراء "مؤامرة القيادة البديلة". وفوجئ الشهيد آمال عدوان<br />
بعد تجواله في القواعد في جنوبي لبنان بقلة عدد المستعدين للتطوع في هذه المهمة، فالمعنويات آانت<br />
مهتزة وفوجىء بتضاؤل عدد الأدلاء الذين يعرفون الحدود ومناطق الجليل معرفة جيدة. وعندما شاع<br />
خبر هذه الجولة ونتيجتها آثرت ملاحظات تلك التيارات في إبراز فشل القيادة، وسوء عملها الذي<br />
أدى إلى آل ذلك. ولكن السؤال الذي طرح في المقابل: إذا آان الأمر آذلك لماذا لا يتقدم أصحاب<br />
نظرية التنظيم الثوري الحديدي أو الحزب الثوري والنظرية الثورية، وتدعيم خط القتال فيتولون هم<br />
تشكيل مجموعات أو مجموعة أو اثنتان، على الأقل، بقيادة بعضهم لتنفيذ المهمة فيؤآدون على أرض<br />
الواقع صحة دعواهم ومصداقيتها. ويثبتون جدارة نقدهم للقيادة وواقعيته؟<br />
منير شفيق│ نيسان ١٩٩٤<br />
مؤسسة الوفاء
34<br />
ومسيرة<br />
شهداء<br />
أثار السؤال حنق أغلب تلك الاتجاهات وآان الجواب أن المسألة بحاجة إلى إمكانات وإعداد، أو<br />
بكلمة أخرى بحاجة، إلى أن يكونوا مكان القيادة حتى يمكن تنفيذ ذلك. ولكن مثل هذا السؤال ضرب<br />
عند أبي حسن على وتر حساس، لما آان يتسم به نظر ثاقب وعزيمة عملية استثنائية. فقد التقطه<br />
لينشىئ خطاً آاملاً على ضوئه وليزيد من الفراق بينه وبين مثل تلك المدارس في معالجة الأزمة في<br />
فتح. هنا أصبح منهج أبي حسن وسعد وأبي خالد جورج والحاج حسن يتجه نحو القول ولماذا لا نضع<br />
نحن آل ثقلنا لسد هذه الثغرة أو تلك في عمل فتح والثورة ما دمنا مقتنعين بصحة ذلك بدلاً من البقاء<br />
في مواقع المعارضة في المكاتب واللقاءات الليلية هنا وهناك؟ من هنا بدأ يتبلور ذلك التيار أو الخط<br />
المتميز. وآان لا بد من أن يجتذب العناصر الأآثر رغبة في الممارسة والقتال وميلاً إلى ذلك. بل<br />
استطاع أن يستعيد عدداً من الكوادر إلى العمل من جديد في صفوف فتح بعد أن غادرتها، أو آانت<br />
في الطريق إلى ذلك، بسبب النقمة على الأوضاع أو القيادة.<br />
فما دامت فتح تسمح بالمبادرات على اختلافها وأحيانا تشجعها فلماذا لا يجد مثل هذا الخط مكاناً له<br />
وذلك من خلال فرض نفسه وممارسته على الواقع. وإذا آان لا بد من الانفصال بسبب اجتهاده<br />
وسياساته وعمله فليأت القرار من قيادة فتح لا منه. وآما آان يقول أبو حسن: "نحن نعلن ما نراه<br />
صحيحاً في السياسة والمواقف ونمارس ما نراه صحيحاً ولا نبالي أوجد ذلك قبولاً من القيادة أو لم<br />
يجد، ولنترك لهم أن يقرروا بقاءنا في فتح وتحمل هذا الخط المتميز أو عدم بقائنا. وإذا آنا راغبين<br />
في البقاء ونراه الخيار الأفضل فإننا لا نخشى من إلقائنا خارجًا".<br />
منير شفيق│ نيسان ١٩٩٤<br />
مؤسسة الوفاء
35<br />
ومسيرة<br />
شهداء<br />
<
36<br />
ومسيرة<br />
شهداء<br />
المثال، آيف تطور عسكري براغماتي مثل منغستو هايلي مريام من مغامر إلى حليف للسوفيات<br />
وحول أثيوبيا إلى قاعدة سوفياتية ثم مع إنهيار الاتحاد السوفياتي راح يبحث عن سيد أمريكي أو<br />
غربي أو إسرائيلي وآان مستعداً أن يتحول إلى أي شيء ويطبق أي خط، فإنه لا يعرف آيف يجب<br />
أن تفهم مثل هذه الحالات.<br />
والسؤال هل آان من الحكمة، على سبيل المثال، أن يعامل منغستو هايلي مريام في أواخر السبعينات<br />
باعتباره عميلاً أمريكياً أو إسرائيلياً أي باعتبار ما سيؤول إليه لا باعتباره آما آان عليه في حينه؟<br />
وبالمناسبة ألا نرى في هذا الزمن عشرات الظواهر عربياً ودولياً وعالمياً آانت في ظروف معينة<br />
وضمن موازين قوى معينة في مقدمة القيادات المعادية للامبريالية والحاملة لواء الثورية والتقدمية<br />
وهي الآن تنقلب إلى التعلق بذيول الامبريالية الأمريكية وتطأطئ، رأسهاً أمام الصهيونية والعنصرية<br />
الإسرائيلية لتمثل أحط ألوان الاستسلام والعداء للأمة.<br />
فالمنهجية التي جسدها أبو حسن وإخوانه منذ عام 1973 آانت تستند إلى التعامل وظاهرة القيادة<br />
الفلسطينية باعتبارها وطنية ومخلصة دون أن يمنع ذلك توقع انعطافات خطيرة من قبل بعضها وفقًا<br />
لتطورات ميزان القوى. فالتوقع الوحيد لم يكن، على أية حال، هو ما آلت إليه الآن لأن تغيراً باتجاه<br />
الإنحياز الشديد نحو السوفيات آان الأآثر احتمالاً في حينه، وذلك إذا ما حسبت معادلة ميزان القوى<br />
الدولي والمعادلة العربية، وهذا ما حدث فعلاً. وآان من الممكن أن يقع التغيير بهذا الاتجاه أآثر لو<br />
جاءت تطورات الوضع الدولي والعربي على هذه الصورة، ولم يكن بلا مغزاً حين أشاع بعض<br />
اليساريين التقدميين في فتح، فيما بعد، أنه يتوقع من ياسر عرفات أن يكرر تجربة هايلي مريم أو<br />
تجربة آاسترو في الثورة الفلسطينية.<br />
لقد آان وراء هذه المنهجية في تقويم وضع القيادة الفلسطينية تلك الدروس القاسية التي تلقتها<br />
الأحزاب الشيوعية وعدداً من الأحزاب القومية حين آانت تخطيء في تقويم ظاهرة القيادات<br />
الوطنية، والتي آان يحلو لها أن تسميها القيادات البرجوازية الوطنية. وذلك حين قام التقويم لعبد<br />
الناصر في العام و باعتباره دآتاتوراً وعميلاً لأمريكا ثم انقلب بعد صفقة الأسلحة<br />
التشيكية وتأميم قناة السويس إلى قائد القومية العربية العظيم، والمعادي الأول للأحلاف العسكرية<br />
والامبريالية الأمريكية. ولكن ما أن دخل عام وتأزمت علاقاته بعراق عبدالكريم قاسم<br />
والاتحاد السوفياتي وبدأ تقارباً وأمريكا، حتى أصبحت تهمته الانتقال إلى أحضانها وإلقاء أعلام<br />
القومية والتقدمية ومعاداة الإمبريالية بعيداً في البحر وتكرر الانقلاب في التقويم مع زيارة<br />
خروتشوف وبولغانين لمصر وافتتاح السد العالي عام - 1963 1964.<br />
1959<br />
1954<br />
1953<br />
وإذا به يتعدى أن يكون قائداً وطنياً وقومياً آبيراً معادياً للامبريالية إلى أن يصبح قائداً تقدمياً اشتراآياً<br />
ثم عادوا وعدلوا هذا التقويم بعد سقوط خروتشوف.<br />
المهم هنا أن التقويم آان في آل مرة يستند إلى الوجه السائد في سياسة عبد الناصر دون أن تلحظ أن<br />
موازين القوى تحمل في طياتها تأثيراً مباشراً في الاتجاهات التي تأخذها السياسة البراغماتية. أما في<br />
المقابل فكان هنالك من حكموا على ظاهرة عبد الناصر منذ اليوم الأول بأنه عميل لأمريكا وبقوا على<br />
منير شفيق│ نيسان ١٩٩٤<br />
مؤسسة الوفاء
37<br />
ومسيرة<br />
شهداء<br />
1970<br />
ذلك، وانتهوا بعد موافقته على مشروع روجرز إلى التأآيد بأنهم آانوا دائماً على صواب.<br />
ولكنهم لم يلحظوا أن السياسة حين تعامل على هذه الصورة لا تستطيع أن تفسر آل الحالات التي تمر<br />
بها الظاهرة. ولا تسمح بمعالجة آل حالة، فتترك صاحبها بلا فعل يومي ايجابي مع الأحداث فإما<br />
تدفعه إلى الجمود والعزلة العملية وإما إلى المغامرة والتطرف والبعد عن الجماهير. فإذا آانت<br />
القيادات الاجتماعية أو السياسية التي تنقلب من حال إلى حال، سلباً أو إيجاباً، بسبب اجتماع<br />
البراغماتية فيها وتغيرات موازين القوى هي آثيرة ومتكررة، فإن من الخطأ تثبيت حكم واحد عليها<br />
لا يتغير، أو الحكم عليها بأنها آيلة إلى مآل بعينه بغض النظر عن تغيرات موازين القوى والتي تحمل<br />
في الغالب، أآثر من احتمال لتغيرها، إلا إذا آان قد رأى على بعد عشرين سنة مسبقاً ما ستؤول إليه<br />
الأوضاع وموازين القوى محلياً وإقليمياً ودولياً وأخذ بحتمية تاريخية فجة.<br />
ثم هناك الإشكالية الأخرى التي تبرز في هذا الصدد آذلك ألا وهي منهجية التعامل وظاهرة مرآبة<br />
ومعقدة بسبب تشكلها من عدة أوجه وجوانب أو تكونها من عدة عناصر. فثمة منهجية الحكم عليها<br />
حكماً أحادي الجانب استناداً إلى جانب أو أآثر، أو عنصر أو أآثر فيها ومن ثم تجاهل، أو عدم<br />
إدخال، الجوانب والأوجه والعناصر الأخرى في الحساب أو في الحكم. بينما منهجية التعامل وإياها<br />
من خلال الاجتهاد بتوزين مختلف أوجهها وجوانبها وعناصرها المكونة وإقامة حكم عام يرجح<br />
الإيجابيات على السلبيات أو العكس وذلك من أجل أن يكون بمقدوره تدعيم الايجابيات ومقاومة<br />
السلبيات. ولكن مع ذلك ستظل ثمة صعوبة آبرى في التعامل السياسي اليومي في أن يقبل منك<br />
الآخرون هذه المنهجية أو في عدم اتهامك بتأييد ما هو سلبي في الظاهرة أو إلصاقك به، وأنت حاول<br />
تأييد ما هو إيجابي فقط وتعارض ما هو سلبي.<br />
منير شفيق│ نيسان ١٩٩٤<br />
مؤسسة الوفاء
38<br />
ومسيرة<br />
شهداء<br />
V
39<br />
ومسيرة<br />
شهداء<br />
وهكذا آان حساب أغلب قيادة فتح في محصلته دائماً في مصلحة بقاء هذا التيار داخل صفوفها<br />
بالرغم من امتعاضها الدائم منه وسعيها لتقليمه وتحجيمه وحتى تصفيته إن أمكن. بينما آان حساب<br />
أبي حسن وحمدي وإخوانهم، في المقابل، هو البقاء ما دامت فتح في مواقع المواجهة وآانت<br />
محصلتها العامة باتجاه فلسطين. وما دام البقاء فيها لا يؤثر من قريب أو بعيد في استقلالية الموقف<br />
الفكري والسياسي والعملي بما في ذلك محافظته على الاستقلالية في نسج العلاقات الشعبية خارجها.<br />
أما من جهة أخرى آان البقاء في الداخل يخدم أبا حسن وحمدي من موقعهما في القطاع الغربي من<br />
حيث تغطية مالية حاجة العمل في الداخل المحتل حتى لو آانت تلك التغطية شحيحة وإن حجبت<br />
تماماً أحياناً. فقد آان هنالك حذر دائم من أن يؤدي الخروج من فتح إلى الوقوع تحت رحمة المحاور<br />
العربية أو رحمة البحث عن تغطية للعاملين وللعمل في الأرض المحتلة. ولهذا آان ثمة حرص على<br />
عدم طلب الخروج من فتح، أو الدفع باتجاهه، وإن لم يكن ثمة خوف منه. بل آان هنالك استعداد دائم<br />
لاستقباله، لاسيماً بعد أن طرح مشروع الجهاد. وأصبح الوضع يختلف عما آان عليه في السبعينات<br />
اختلافاً جوهرياً، خصوصاً، وأن التنازل عن منطلقات فتح ومبادئها من جانب المجالس الوطنية<br />
وقراراتها أصبح متسارعاً فلم تعد المنطلقات والمبادئ هي الجامع للفتحاويين وقد راح يحل محلها<br />
العصبوية الفتحاوية والطموح المشترك للوصول إلى السلطة في الأرض المحتلة، واقتسام بعض<br />
الغنائم، وضمان المستقبل الفردي والعائلي ضمن برنامج سياسي جديد يختلف بمستوى درجة<br />
عن برنامج فتح الأول الجامع.<br />
180<br />
في الواقع أخذت قيادة فتح بحجب الموازنة التي آانت مخصصة للجنة التنظيم في القطاع الغربي،<br />
والتي آان يشرف عليها أبى حسن وحمدي حجباً صارماً منذ أواخر العام مما يعني تجميد<br />
وضعهما في الحرآة دون قرار بالفصل. ولكن ذلك لم يمنعهما من مواصلة نشاطهما العملي دون أن<br />
يلتفتا إلى ما حدث، أو يترك فيهما أثراً مثبطاً أو سيئاً أو يدفعهما إلى العودة الصاغرة للقيادة. واستمر<br />
هذا الوضع حوالي الثلاث أو الأربع سنوات. وقد لجأ الشهيدان للتعويض الجزئي عن ذلك إلى<br />
التعاون مع عدد من الأفراد والشخصيات الذين يحترمونهما ويقدرون جهدهما وخطهما وراحوا<br />
يقدمون لهما ما يستطيعون، على شحه، وقد أسهم ذلك إسهاماً آبيراً في بقائهماً في الميدان. ويكفي أن<br />
يذآر أن عملية البراق وعملية عطاف عليان وعملية الشجاعية تمت في تلك المرحلة الضيقة من<br />
الناحية المادية، والفسيحة من ناحية الإيمان والعطاء والروح الجهادية.<br />
.1984<br />
لقد حاول الشهيد أبو جهاد، بعد اندلاع الانتفاضة، وبسببها، آما بسبب تصاعد العمليات الجهادية<br />
ورسوخها في الأرض، والبداية القوية لبروز حماس، وربما مع تفاقم خلافه مع ياسر عرفات. فضلاً<br />
عن الإدراك بأن حجب الموازنة عن أبي حسن وحمدي لم يجد شيئاً، أن يلطف الجو معهما. وقد<br />
طرح أن تعود المياه إلى مجاريها من حيث التعاون في مجال الانتفاضة والمقاومة ضد العدو إلا أن<br />
ذلك لم يتم فقد قتل الشهداء الثلاثة بعد ذلك بأسبوعين واستشهد أبو جهاد بعدهما ببضعة أسابيع.<br />
فكان ذلك آأنه المحاولة اليائسة لاستعادة مرحلة آانت قد آذنت على الانتهاء بالنسبة إلى ما مثله<br />
الشهيد القائد أبو جهاد وما مثله أبو حسن وحمدي من جهة ثانية، لتبدأ في المقابل، مرحلة الانتفاضة<br />
وحماس من ناحية ومرحلة فتح مؤتمر مدريد ومفاوضات واشنطن واتفاق أوسلو من ناحية ثانية.<br />
منير شفيق│ نيسان ١٩٩٤<br />
مؤسسة الوفاء
40<br />
ومسيرة<br />
شهداء<br />
آانت منطلقات فتح ومبادئها بالنسبة إلى أبي حسن وحمدي وإخوانهما مرجعية أساسية في الإطلالة<br />
على الوضع الفلسطيني واللبناني والعربي. فكان لهم اجتهادهم المتميز بالنسبة إلى عدد من القضايا<br />
التي أصبحت محط صراع فكري وسياسي داخل فتح والساحة الفلسطينية والعربية. وآثيراً ما آان<br />
اجتهادهم يأتي متعارضاً والموقف الرسمي الذي تعلنه قيادة فتح، فكانوا يعتبرون أنفسهم في هذه<br />
الحالة هم الذين يعبرون عن الموقف الفتحاوي الأصيل والصحيح. وآانوا يخوضون من هذا الموقع،<br />
وعن قناعة تامة، مختلف الصراعات المتولدة عنه. وقد احتد هذا الأمر، بصورة خاصة، في أثناء<br />
الحرب الأهلية اللبنانية، وقبلها بالنسبة إلى الموقف من التضامن العربي في حرب تشرين وما تلاها<br />
من مواقف مست الحظر النفطي الذي قادته السعودية. ولعل الدخول في التفصيل والتحديد حول ما<br />
خاضه هذا التيار من صراعات سياسية وفكرية ليعطي صورة واضحة عن خط حافظ على روح<br />
المنطلقات والمبادئ في آل مناسبة، وآان، من وجهة نظره، الأآثر دقة في التعبير السياسي والفكري<br />
عن الموقف الصحيح لفتح والثورة الفلسطينية ومصلحتهما. وذلك على الرغم من موقف قيادة فتح<br />
الذي آان آثيراً ما يحمل تأويلاً آخر. ومن ثم يتهم أبا حسن وحمدي وإخوانهما بالخروج على فتح.<br />
فالبعض آان يعتبر فتح هي ما تعبر عنه القيادة ويتعامل وإياها من خلال القيادة. أما أبو حسن<br />
وحمدي وإخوانهما فكانوا يجتهدون ويأخذون المواقف آأنهم هم قادة فتح والمسؤولون عنها. ومن هنا<br />
لم يتشكل منهجهم في المعارضة من خلال المزايدة أو طرح الشعارات الأآثر تطرفاً وإنما من خلال<br />
أن تضع نفسك مكان القيادة وتتصرف بهذا المستوى من المسؤولية، وبعد ذلك تقترح ما تراه مناسبًا.<br />
وهو ما آان يجعل خط أبي حسن وحمدي وإخوانهم يبدو في آثير من الأحيان آأنه يقف على "يمين<br />
القيادة"، آما آان يبدو للنظرة السطحية بل آان أآثر مرونة منها في التعاطي والأزمة اللبنانية أو<br />
الصراعات العربية ولنقف عند بعض الأمثلة على ما تقدم.<br />
- العربية.<br />
وخلاصة، لم يكن تحليل وضع القيادة والعلاقة بفتح يقوم على إصدار حكم نهائي وإن انطلق من<br />
اعتبارها قيادة وطنية وثورية. ولكن دون اعتباره شهادة دائمة وأبدية. وبلا مراعاة لاحتمالات<br />
تطورات ميزان القوى والمعادلات. فالتقدير الذي قام على أساس معاملتها باعتبارها قيادة وطنية<br />
استند إلى تاريخها وحاضرها أما التوقع بالنسبة إلى المستقبل المنظور - لنقل عشر سنوات<br />
يرى استمرار التقدير نفسه. أما الدافع للتوقف طويلاً أمام هذه المسألة، فكان بسبب الصراعات التي<br />
دارت داخل الاتجاهات الإصلاحية، لاسيما أآثرها تطرفاً يسارياً وتقدمياً، وهي الاتجاهات التي قامت<br />
موضوعاتها على التشكيك إلى حد التخوين. وقد رفض أبو حسن وإخوانه في ذلك الوقت المساومة<br />
بأن يميز بين ما يعلن وما يقال "داخلياً" إذ أصروا أن يكون الموقف واحداً. فإذا آان من غير<br />
الضروري أن يقول الإنسان آل ما عنده إلا أن من الخطأ أن يقول شيئاً يخالف أو يناقض ما احتفظ به<br />
ولم يقله. وقد اعتبروا هذه مسألة منهجية من الدرجة الأولى، آما أنها مسألة أخلاقية ومسلكية. أما<br />
الاتجاه الداعي للتحالف والسوفيات فكان مزدوجاً في حكمه على قيادة ياسر عرفات. فأحياناً يميل إلى<br />
التشكيك الشديد، ويشجع الأطراف اليسارية على الضغط بهذا الاتجاه، وأحياناً يتملقها آلمً آان يريد<br />
موقعاً جديداً.أو مواقف محدودة.<br />
- فكان<br />
في الواقع آان موقف أبي حسن وحمدي وإخوانهم من هذه المسألة واضحاً حتى بدا آأنه يدافع عن<br />
القيادة آلما دخل في حوار حاد مع الاتجاهات المشككة. وما آان له أن يماشيها بتحليلها، لا ظاهراً ولا<br />
باطناً، لأنه آان حريصاً دائماً، علي أن يكون متماسكاً ومنطقياً في موقفه ويبتعد عن لعبة النفاق أو<br />
الموقف المزدوج الذي يناقض ظاهره أو باطنه أو تناقض ممارسة نظريته. فلو قبل هؤلاء الأخوة<br />
منير شفيق│ نيسان ١٩٩٤<br />
مؤسسة الوفاء
41<br />
ومسيرة<br />
شهداء<br />
ذلك التحليل لما قبلوا لأنفسهم أن يبقوا يوماً واحداً في فتح، لأنهم لا يقبلون أن يكون موقفهم النظري<br />
والعملي ذا وجهين في اللحظة الواحدة.<br />
أما بالنسبة إلى ما يمكن أن يحمله المستقبل من تطورات في وضع القيادة وموقفها وتحالفاتها<br />
وسياساتها فأمر يقرر في حينه على ضوء الوقائع الملموسة. وليس على ضوء التكهنات، أو المظنة<br />
والشكوك لأن إقامة التحريض السياسي على التكهنات والمظنة والشكوك واعتبار ما سيكون ولو<br />
بعد عشرين سنة يضعف الموقف في أعين الجماهير التي تحكم على ضوء التجربة التاريخية على<br />
الراهن، بل تتأخر في تغيير هذا الحكم حتى تتراآم وقائع متتالية وملموسة.<br />
)<br />
íé×}]‚Ö]
42<br />
ومسيرة<br />
شهداء<br />
لقد حلل أبو حسن وسعد وحمدي وإخوانهم الوضع في داخل فتح تحليلاً دقيقاً منذ البداية. وهذا ما<br />
سمح لهم أن يستمروا آل تلك الفترة وذلك على الرغم من خروجهم على واحد من الخطوط الحمراء<br />
ألا وهو الإفلات من سيطرة هذا القائد أو ذاك عليهم وانتهاجهم خطاً مستقلاً تماماً عن القيادة.<br />
فقد آان التقليد في التيارات القاعدية داخل فتح أن تجد لها حماية أو رعاية من أحد من القيادات الأآثر<br />
نفوذاً، آما جرى التقليد أن يتشكل التيار الكادري والقاعدي نزولاً من أعلى إلى أسفل أي من قبل أحد<br />
القيادات الأآثر نفوذاً. ولكن من جهة أخرى فإن استقلالية التيار وعدم اتصاله بأي من المحاور<br />
والدول خارج فتح، وعدم تلقيه أية مساعدات مالية من هذه الدولة أو تلك خفف من ذلك الخروج على<br />
ذلك الخط الأحمر. آما أن منهجه في عدم التعرض للقيادة، بل عدم رده في آثير من الأحيان على<br />
قيادات تطاولت عليه من وراء ظهره بالشتائم والاتهامات الظالمة آان يخفف ذلك من الاحتكاك، ثم<br />
تأتي مواقفه السياسية والعملية ذات الاستقلالية العالية لتمنحه الحماية الأآبر بصورة مباشرة، وغير<br />
مباشرة.<br />
ويمكن أن يلحظ هنا أن تلك السمة الخاصة بأخلاقيات القيادة في التعامل مع بعضها بعضاً، أو<br />
صراعات التيارات الأخرى الداخلية ضد هذا القائد أو ذاك آانا يؤججان تناقضات داخلية فيما بينها<br />
حادة جداً أين منها التناقض مع تيار أبي حسن وإخوانه. ويجب أن يضاف إلى هذا العامل تتابع<br />
الأزمات التي آانت تواجههاً فتح. الأمر الذي آان يستبقي حاجة إلى هذا التيار لا سيما في لحظات<br />
المواجهات العسكرية.<br />
وبالمناسبة لم تستطع الأطراف المعارضة عربياً لقيادة فتح أو التيارات الداخلية أن تبني علاقات<br />
ايجابية مع هذا التيار بالرغم من التقائه وإياها في آثير من المواقف السياسية أو بالرغم من معاداة<br />
القيادة له وإساءاتها المتكررة بحقه. فالإشكالية هنا، في الحقيقة، لم تنبع من رفض ذلك التيار التعاون<br />
وأياً من تلك الأطراف. بل آان مستعداً حتى للتعاون والمنشقين عام 1983 ضد الاحتلال الإسرائيلي<br />
في لبنان، وآان من الممكن أن تبنى معهم جسور التنسيق. ولكن الإشكالية آانت في سياسة التعاون<br />
والتنسيق، فتيار أبي حسن وإخوانه ما آان ليدخل في مواجهات أو تعاون أو تحالفات إلا في مجال<br />
مواجهة العدو الصهيوني. أي المحافظة على اتجاه البوصلة مؤشراً نحو فلسطين وضد العدو<br />
الصهيوني، بينما آانت الأطراف الأخرى تريد جبهات وتحالفات ضد القيادة أو ضد هذا الطرف أو<br />
ذاك من أطراف القيادة، وهو ما آان مرفوضًا. ولو تحلى بعضها بالخيال، أو الحسابات المرآبة التي<br />
امتازت بها قيادة فتح، وقبل بمد خيوط التعاون، ولو محصوراً في دعم الصمود الداخلي تحت<br />
الاحتلال وفي مقاومة العدو الصهيوني، وهو أمر ما آان تيار أبي حسن وحمدي ليرفضه، وإلا<br />
ناقض نفسه واختل موقفه المتوازن، لأدى ذلك إلى تعميق الشكوك من قبل القيادة بنيات أبي حسن<br />
وإخوانه، ولرعرعت أوهاما حول طبيعة تلك العلاقات. الأمر الذي آان سيدفعها إلى تعجل الخلاص<br />
منه.<br />
منير شفيق│ نيسان ١٩٩٤<br />
مؤسسة الوفاء
43<br />
ومسيرة<br />
شهداء<br />
<br />
<
44<br />
ومسيرة<br />
شهداء<br />
-<br />
45<br />
ومسيرة<br />
شهداء<br />
وأخذ يطالب بالفرز العربي على أساس تقدمي ورجعي بدلاً من الموقف الأصلي لفتح الذي يفرز على<br />
أساس من مع فلسطين ومن ضدها، من يدعم الثورة عسكرياً أو مادياً أو سياسياً أو معنوياً ومن<br />
ضدها.<br />
وراح موقف التيار التقدمي داخل فتح لبنانياً يشن هجوماً شديداً على الإمام موسى الصدر رحمه االله<br />
والقيادة السياسية السنية التقليدية من رؤوساء الوزراء السابقين مروراً بالجماعة الإسلامية والعلماء<br />
وبعض الناصريين والشخصيات وانتهاءً بدار الإفتاء وبعض الممثلين السياسيين للشيعة. ولم ينج من<br />
الهجوم السيد محمد حسين فضل االله وعدد هام من العلماء النشطين لا سيما قيادة المجلس الإسلامي<br />
الشيعي الأعلى.<br />
ووصلت الحملة إلى داخل فتح إذ ترآزت على من آانوا يتهمون "باليمينية" أو "بجماعة الخليج" أو<br />
الفتحاويين "المتخلفين". وقد وجهت ضربة مبكرة لتنظيم فتح في لبنان، والذي آان مرآز قوة ضمن<br />
حدود المنطلقات والمبادئ.<br />
أما على أرض الصراع فقد أصبح التيار الفتحاوي العريض الذي يريد أن يحافظ على المنطلقات<br />
والمبادئ الأساسية في الإطلالة على الوضع الدولي والعربي واللبناني والفلسطيني في حالة انحسار<br />
وارتباك وتراجع أمام ضخامة الهجمة التي أخذ يشنها "اليساريون والتقدميون" داخل فتح وخارجها.<br />
أما التيار السائد في القيادة أو الذي تراوح في مواقفه بين الموقفين فكان يتعرض بدوره إلى ضغوط<br />
متعاظمة للتخلي عن التيار الفتحاوي المسمى "باليميني" والتسليم للتيار التقدمي. فقد آان، وبسبب<br />
البراغماتية العالية، آثيراً ما ينحني أمام الضغط حتى لو آان ضده شخصياً، وآثيراً ما آان في<br />
المواقف المعلنة وعدد آبير من المواقف العملية يميل إلى تبني خطاب التيار" التقدمي" ومواقفه إلا<br />
أنه آان غير راض، عملياً، أن يصبح أسيراً أو مطوقاً، ولا يكون صاحب الكلمة المقررة. وآان<br />
يشعر بخطورة أن تضرب علاقاته بمصر أو بدول الخليج أو المغرب فكان يلجاأ إلى السياسة<br />
المزدوجة والمواقف المزدوجة. آما آان هذا حاله بالنسبة إلى الداخل اللبناني حيث آان يتسلل سراً<br />
لإبقاء بعض العلاقات بالاتجاهات اللبنانية المختلفة التي آانت جبهة الأحزاب والقوى التقدمية تريد<br />
استخدام فتح لتهميشها وضربها، وقد نجحت في ذلك، مؤقتاً طبعاً، إلى حد بعيد لاسيما بين<br />
-1975<br />
.1982<br />
آانت منطلقات فتح ومبادئها وخطها الاستقلالي الضحايا الفعلية، الأولى والأخيرة، في قلب هذا<br />
الخضم. فقد ضاعت تماماً أمام ضجيج الشعارات "التقدمية" و"اليسارية" وتحت ضربات "فلسطين<br />
الثورة" ومنشورات الإعلام التابع لفتح وضاعت أآثر من خلال مواقف القيادة البراغماتية التي ما<br />
آانت لتقيم وزناً آبيراً لما يقال أو يطرح. لأن المهم بالنسبة إليها آان الإمساك بمفاتيح القوة<br />
و"التكتكة" السياسية والبقاء على الواجهة في آل المناسبات. أما الاتجاهات الفتحاوية التي آانت<br />
تحسب على "اليمينية أو الرجعية أو التخلف" وهي العبارات التي آانت الستار في الحقيقة للهجوم<br />
على المنطلقات والمبادئ الأساسية، فقد آانت في أغلبها مكبلة اليدين، أو مبعدة، أو مدافعة علناً دفاعًا<br />
خجولاً، وإن آانت وراء الكواليس أآثر صراحة وهجومية.<br />
منير شفيق│ نيسان ١٩٩٤<br />
مؤسسة الوفاء
46<br />
ومسيرة<br />
شهداء<br />
2<br />
هنا يمكن القول أن أبا حسن وحمدي وإخوانهما حملوا عبئاً غير قليل في الاستمساك بالمنطلقات<br />
والمبادئ وخط الاستقلالية من الناحيتين النظرية والسياسية في مواجهة تلك الهجمة القوية والمتنفذة<br />
والحازمة وذات الصوت العالي، والجريئة على الاتهام بلا حساب. وآانوا في المقدمة مع من<br />
اصطلوا بنارها، وتعرضوا للقمع على يديها بصورة مباشرة أو غير مباشرة، ونالهم الكثير من<br />
التشهير والتهميش.<br />
فعلى المستوى الدولي آان خط أبي حسن وحمدي وإخوانهما يمتلك مناعة مضاعفة من السقوط في<br />
فخ التيار السوفياتي إذ لم يكن موقفهم من الاتحاد السوفياتي، والنابع أساساً من الموقف الأصلي لفتح،<br />
قد اقتصر على نقد الموقف السوفياتي من القضية الفلسطينية فحسب وإنما أيضاً لفت انتباههم بوقت<br />
مبكر ما آانت توجهه الحرآة الماوية من اتهام للاتحاد السوفياتي بالامبريالية. وقد اقتنعوا فعلاً بهذه<br />
الحقيقة لأنه آان من المهم أن يفسر ما الذي آان وراء الموقف السوفياتي في دعم قيام الدولة<br />
الإسرائيلية وتسليحها، ولماذا تحول إلى موقف مبدئي لا يتزحزح. وقد بدأت موضوعة الامبريالية<br />
السوفياتية تعطي تفسيراً لهذا الموقف. آما آان هذا الموقف، بدوره، يشير إليها بإصبع الاتهام أي لم<br />
ينبع ذلك من مجرد خطأ أو خلل في تقدير يحمل آل النيات الثورية النقية!<br />
ثم تحصّن هذا الفهم لطبيعة الدولة السوفياتية أآثر مع مراجعة الموقف الروسي من الجمهوريات<br />
الإسلامية ودول أوروبا الشرقية حيث بدأت تفوح رائحة بطرس الأآبر في مشروع الدولة السوفياتية<br />
نفسه، وفي معسكر حلف وارسو.<br />
ولكن مع ذلك آان أبو حسن وحمدي وإخوانهم، (وعلى الضد من اتهام "تقدميي فتح" لهم بالعداء<br />
للاتحاد السوفياتي وبوضع الاتحاد السوفياتي وأمريكا على قدم المساواة، وبأنهم مجرد صدى للموقف<br />
الماوي)، جريصين على اعتبار رأيهم حول طبيعة الدولة السوفياتية مسألة لا علاقة لفتح فيها، وما<br />
ينبغي لفتح أن تتبناها مطلقاً، آما أنهم بدورهم، ومن موقعهم في فتح والساحة الفلسطينية والعربية لا<br />
يطالبون، أو يقترحون، أن يعامل الاتحاد السوفياتي عدواً، أو وضعه في سلة واحدة وأمريكا.<br />
فالموقف الذي صيغ استناداً إلى المنطلقات والمبادئ والى تقدير الموقف المعطى فلسطينياً ودوليًا<br />
وعربياً، وإلى حسن ترتيب الأولويات والتمييز فيما بين التناقضات، آان يقتضي من فتح أن تعتبر<br />
الاتحاد السوفياتي صديقاً ولكن ليس حليفاً استراتيجياً، وإقامة علاقات تقوم على الاستقلالية والتوازن<br />
وإياه وتكون نقاط الاتفاق والاختلاف واضحة فيما يتعلق بالسياسات الفلسطينية والعربية والدولية.<br />
هذا مع التشديد على عدم تبني مواقفه في الساحة الدولية أو العربية أو في صراعه مع الصين لأن<br />
الصين يجب أن تبقى تعامل صديقاً آذلك. ويكون الموقف فيما يتعلق بصراعهما هو الحياد وعدم<br />
الانحياز لأي من الطرفين ضد الآخر. أما على مستوى أمريكا فكان لا بد من التمييز بينهما بقدر ما<br />
هي مميزة علاقة آل منهما بالعدو الصهيوني أو بالشعب الفلسطيني. وهذا ما يضع أمريكا في موقع<br />
العدو رقم بعد العدو الصهيوني (إسرائيل والحرآة الصهيونية العالمية) ولا ينبغي لها أن تساوى<br />
ضمن المعادلة السابقة والاتحاد السوفياتي، بل يجب أن نميز بينها وبين أوروبا عموماً في هذه<br />
المرحلة التاريخية آذلك. أما موضوع الامبريالية السوفياتية فقد آان في مجال الفهم النظري لطبيعة<br />
الدولة السوفياتية، مع إبقائه في موقع القناعة الخاصة، والمعلنة إذا ما اقتضى الأمر، والتي لا مكان<br />
لها في الأدبيات أو في الشعارات المطلوب تبنيها من قبل الثورة ولم يكن برأيهم من المناسب أن<br />
تتبنى فتح مثل هذه المقولة تماماً آما لا يجوز أن تتبنى مقولة الحليف الاستراتيجي.<br />
منير شفيق│ نيسان ١٩٩٤<br />
مؤسسة الوفاء
47<br />
ومسيرة<br />
شهداء<br />
◄<br />
على آل حال إن مثل هذا الموقف من الاتحاد السوفياتي آان يكلف في ذلك الوقت، غالياً في الساحة<br />
الفلسطينية واللبنانية. وآان لا يقوى عليه إلا من يضع دمه على آفه ويكون شديد المبدئية وغير مبال<br />
بمصالحه الضيقة.<br />
وبالمناسبة، يجدر أن يلحظ هنا أصالة الموقف من هذا الموضوع وتمييزه عن الموقف الماوي الذي<br />
آان يعتبر الاتحاد السوفياتي عدواً رقم 1 للشعوب، أو في أحسن الحالات آان يضعه في مرتبة واحدة<br />
والامبريالية الأمريكية.<br />
لعل التأمل في موقف أبي حسن وحمدي وإخوانهم من إشكالية الاتحاد السوفياتي في ذلك الوقت<br />
وضمن تلك الظروف من موازين القوى يستطيع أن يدرك عمق الاستقلالية في خطهم من جهة، وهي<br />
التي أخذت تصبح غريبة في فتح، وشدة الحساسية في خطهم للجهر بالحقيقة والموقف السياسي<br />
والفكري الصحيح الذي فيه مصلحة فتح والثورة والشعب والأمة العربية (وفقاً لمصطلحات تلك<br />
المرحلة). ولو آان ثمن ذلك وقوفاً في وجه التيار والتعرض للمخاسر والمخاطر.<br />
وفي المقابل، آانت أعصاب تقدميي فتح مستثارة ومستفزة إلى أقصى حد بسبب هذا الخط الذي<br />
يواجهها جهاراً. وينشر أفكاره بكتب معلنة واسعة الانتشار. وقد راحت تشن حرباً شعواء لتجريد<br />
أصحاب هذا التيار من آل موقع في فتح وللدفع باتجاه إخراجهم منها والتضييق عليهم بكل سبيل. أما<br />
قوة أهل هذا الخط فقد نبعت في ذلك الوقت من سمات ذاتية آانوا قد تحلوا بها ومن مستوى<br />
التضحيات التي آانوا يقدمونها في المعارك والمواجهات. آما ساعدهم على البقاء الرضا الداخلي<br />
الذي آان يستشعره عدد من قيادة فتح وهم يشاهدون الاشتباك الحامي الوطيس بين الطرفين، ولعل<br />
البعض آان شعاره دعهم "فخار يكسر بعضه"، وقد أآسبه هذا بعض الحماية بصورة غير مباشرة.<br />
أو في الأقل جعل تيار "تقدميي فتح" يحسب أنه محمي داخلياً فينتقل للهجوم على من يظنهم يحمونه.<br />
وما آان ليقتنع أنه لا حماية له داخلياً بالرغم من هجوم القيادة المتواصل عليه. فكان متصور دائماً أن<br />
للقيادة موقفاً مزدوجاً. وهو بالفعل آان آذلك. ولكن لو وصل الأمر إلى بسط الحماية لاآتشف أن<br />
القيادة ما آانت تمنحه حماية أو دعماً، بل آانت مواظبة على معاداته وتقليمه. ولعل تجنب تيار أبي<br />
حسن وحمدي وإخوانهم الدخول في جوقة التهجم على القيادة بالرغم من إساءاتها المباشرة لهم، قد<br />
ساعد علي أن يعمى تيار "تقدمي فتح" عن التقدير الصحيح للوضع. لقد آان أبو حسن رحمه االله<br />
يقول : "دعهم يتوهموا بوجود هذه الحماية، فهذا يخيفهم ويخفف عنا دون أن يكلفنا شيئأً". ومن ثم<br />
آانت تغذية هذا الوهم وعدم إزالته مفيدة عملياً، وذلك بالرغم من بعض الضرر السياسي الذي آان<br />
ينجم عن ذلك إذ وقع بالوهم نفسه آخرون ما آان يجب أن يقعوا فيه.<br />
êe†ÃÖ]
48<br />
ومسيرة<br />
شهداء<br />
مصر وإلى حد أقل نسبياً ضد سوريا حتى أن حرب تشرين هوجمت ولم ينظر إليها نظرة ايجابية،<br />
وذلك على الرغم من مشارآة فتح و م.ت.ف فيها أيضاً. طبعاً خلفية الموقف آان عدم رضا الاتحاد<br />
السوفياتي عنها وعن السادات، وقد أعطى السادات لهم فيما بعد آل الأسلحة الضرورية للهجوم عليه<br />
والطعن بحرب تشرين التي وقف أبو حسن وحمدي وإخوانهم إلى جانبها بكل قوة واعتبروها إنجازًا<br />
هاماً جداً. لأنها حققت إنجازاً عسكرياً لا يستهان به ضد جيش العدو. بل أذل جيش العدو، لأول مرة،<br />
في الميدان من قبل جيشين عربيين (مصر وسوريا) ولم ينقذه إلا التدخل الأمريكي عبر الجسر<br />
الجوي والضغط السياسي والتهديد. ولأن قرارها آان مستقلاً عن السوفيات والأمريكان وحمل تجرؤاً<br />
على القتال في ظروف عسكرية ودولية غير مؤاتية. ولكن سياسات السادات التي اتسمت بالتراجع<br />
تلو التراجع في الموقف من أمريكا وفي عملية التسوية مع الكيان الإسرائيلي بما في ذلك تخريب<br />
التضامن العربي وإنجازاته في تشرين وفي معرآة حظر النفط، وتهديمه للتحالف المصري<br />
السوري آانت آفيلة بتشويه صورة حرب تشرين. وهكذا آان خط أبي حسن وحمدي وسعد والحاج<br />
حسن ومحمد علي (أبو يعقوب) وإخوانهم مع التضامن العربي<br />
-<br />
الذي تجلى في حرب تشرين، وفي حظر النفط، ومع خط المواجهة والقتال آما شجبوا آل سياسة<br />
تخريبية لهذا التضامن أو متراجعة أمام العدو الصهيوني أو متواطئة مع أي من الدول الكبرى على<br />
حساب خط الاستقلال وعدم الانحياز. وبهذا آان الموقف دائماً متوازناً ومتماسكاً. ويقوم على معايير<br />
ثابتة هي في أساسها منطلقات فتح، وعلى حسن تقدير الموقف في حينه.<br />
آما راح التيار "التقدمي" في فتح وعل الساحة اللبنانية يعمق في التناقض الذي نشاً بين سورياً وفتح<br />
في لبنان لا سيما في العام ويدعو إلى شن حرب لا هوادة فيها ضد دمشق وحتى إلى إسقاط<br />
النظام وآان يسقى ليدفع فتح بهذا الاتجاه.<br />
1976<br />
هنا أيضاً أخذ أبو حسن وحمدي وسعد وأبو محمود وأبو خالد جورج ومروان آيالي والحاج نقولا<br />
عبود ونسيم سعيد وشوقي الظنط وعبدالوهاب الحسن (أبو طارق)، ووجدي العنداري وفؤاد تلمسان.<br />
وإخوانهم موقف معلناً وشجاعاً في معارضة هذا الخط المدمر. وطالبوا بموقف دفاعي محدود في<br />
المجال العسكري مع بذل المساعي لرأب الصدع وعودة التضامن ووقف التدمير الذاتي للقوى التي<br />
يفترض بها أن تكون في جبهة واحدة ضد العدو الصهيوني ولإنقاذ وحدة لبنان وأنهم الآن جميعاً في<br />
ذمة االله، رحمهم وأوسع لهم في رحمته.<br />
فكان هذا الموقف النابع من منطلقات فتح ومن المصالح العليا لفتح والشعب الفلسطيني والثورة آما<br />
سوريا ولبنان والموقف العربي آله محط لهجوم شديد حتى وصل الأمر باتهام الخط بالتبعية لسوريا،<br />
آما اتهم من قبل بالساداتية. وتندر البعض على أبي حسن في تمرآزه مع السرية الطلابية إلى جانب<br />
القوات الأخرى في بحمدون بأنه ذهب لا ليدافع وإنما ليستقبل الدبابات السورية بالورود.<br />
1976<br />
إنه مجرد الجهر، في ذلك الوقت من عام ، بأن سوريا ليست عدواً وأن الحرب معها يجب أن<br />
توقف، وأن العلاقات يجب أن تصحح، وفقاً لشعار "آل البنادق نحو العدو الصهيوني"، آان يحتاج<br />
إلى درجة عالية من الفدائية والاستشهادية أمام آل تلك المغالاة التي آانت سائدة في صفوف القوى<br />
التقدمية اللبنانية والفلسطينية ضد سوريا.<br />
منير شفيق│ نيسان ١٩٩٤<br />
مؤسسة الوفاء
49<br />
ومسيرة<br />
شهداء<br />
< <<br />
وتواصلت حلقات هذه المواقف والمواقف المضادة عند تقويم قرار حظر النفط الذي تزعمه الملك<br />
فيصل رحمه االله، إذ ووجه بحملة شعواء من قبل التيارات التقدمية دون أن يدرك مغزاه وأبعاده<br />
الحقيقية. ثم يدرك بعمق أآبر شعار التضامن العربي باعتباره ضرورة في المواجهة ضد العدو<br />
الصهيوني وفي الدفاع، على الأقل، عن الحد الأدنى من الحقوق والمصالح العربية. وقد وصل الأمر<br />
بإطلاق تسمية تهكمية على أبي حسن وحمدي وإخوانهم وهي "جماعة التضامن العربي". فيا لها من<br />
تهمة! ولكن مع ذلك آانت تهمة حقيقية وخطيرة حين توجه ضد أحد في تلك الظروف وتلك الأيام.<br />
ولكن آان جواب أبي حسن وحمدي وإخوانهم، نعم نحن مع التضامن العربي، ومع عقد القمم العربية.<br />
لأن هذه القمم تقوم على أساس الحد الأدنى المشترك فيما بين الدول العربية المختلفة من يسار إلى<br />
يمين ولهذا آانت المحصلة في ذلك الوقت إيجابية بالضرورة. فهي بالضرورة لا تخرج أمريكية أو<br />
سوفياتية. ومن ثم تأتي أقرب إلى الاستقلالية. فكل دولة عربية وحدها لها حساباتها وظروفها<br />
وارتباطاتها ونقاط ضعفها تجاه الضغوط الخارجية وينطبق هذا، إلى حد ما، على المحاور آذلك.<br />
بينما حين آانت تجتمع المعادلة العربية في تلك الظروف آانت تخرج المحصلة بمجموعها أفضل<br />
نسبياً لأن الموقف الجماعي وإن عبّر عن نقاط الضعف المشترآة إلا أنه يعبر عن نقاط إيجابية نابعة<br />
من طبيعة التجمع. وإذا آانت التجربة قد أثبتت أن التضامن لم يحرر فلسطين. ولم يزل آثار العدوان<br />
إلا أن عكسه لم يفعل آذلك. ولكن التضامن حقق شيئاً ولو جزئياً في آل مرة. ويكفي أن نلحظ أن<br />
التضامن العربي حتى في ظروف ما بعد حرب الخليج الثانية وانهيار الاتحاد السوفياتي وهي أسوأ<br />
من الظروف السابقة بالنسبة إلى معادلة الدول العربية، ما زال، مع ذلك، مقاوماً من قبل أمريكا<br />
والصهيونية. وما زال أفضل من أن تترك آل دولة وحدها ليستفرد بها.<br />
المهم، أن يلحظ أن خط التضامن العربي آان هو الذي يمثل منطلقات فتح ومبادئها آما آان يجسد<br />
السياسة التقليدية الصحيحة لفتح في تلك الظروف والمعادلات. لكن مع ذلك آان الصوت الأعلى<br />
داخل فتح وم.ت.ف ضده، ودون أن يتورع بإدانة آل من دعا له، أو حتى لم يشجبه لأنه آان يعتبر<br />
خط السادات والسعودية والأردن والمغرب.<br />
وبالمناسبة، يجب أن يعاد التأآيد هنا أن أبا حسن وحمدي ومحمد علي وإخوانهم لم يكونوا وحدهم في<br />
آل ما مرّ من مواقف فقد تصدى في ذلك الوقت من داخل فتح عدد من القيادات والكوادر لكل هذه<br />
القضايا. وما آان موقفهم أقل فدائية وشجاعة، وما آان معرضاً أقل للهجمات والحملات الظالمة. فقد<br />
آانت الساحة على الرغم من سيطرة التيار التقدمي في ذلك الوقت وشدة غلوائه في محاربة خصومه،<br />
تعج بمثل تلك المواقف ولعل عذر آاتب هذه السطور في عدم ذآر الأسماء يستند من جهة إلى<br />
الترآيز على الشهداء أبي حسن وحمدي ومروان وإخوانهم والحاجة إلى تبيان مواقفهم، آما يستند من<br />
جهة أخرى إلى ترك حق ذآر الأسماء لأصحابها وقد انطبق هذا عند الحديث عن مختلف التيارات.<br />
وذلك حتى لا يكون في الإشارة تعريضاً شخصياً بأحد عند النقد، أو إحراجاً شخصياً لأحد عند<br />
التقريظ والإشادة، أو إساءة في دقة نقل الموقف حين يشار إلى شخص بعينه.<br />
ومن هنا، يتوجب التنويه، مرة أخرى، إلى أن هذا الكتيب يغطي جزءاً متواضعاً من صورة تلك<br />
المرحلة الغنية المترامية الأطراف، واللامتناهية في تعددها وتلاوينها.<br />
منير شفيق│ نيسان ١٩٩٤<br />
مؤسسة الوفاء
50<br />
ومسيرة<br />
شهداء<br />
1975<br />
<
51<br />
ومسيرة<br />
شهداء<br />
وقد حدث ذلك فعلاً في مناسبتين، على الأقل، حيث أبدى الطرف الماروني استعداداً للاتفاق، ولكن<br />
قرار العزل آان يدين حتى أي اتصال أو مفاوضة. أي آان قراراً مكبلاً ليدي جنبلاط وعرفات من<br />
جني أية مكاسب أو الخروج من الأزمة وإعادة اللحمة للوضع على أساس اتفاق جديد. ولعل من<br />
تداعيات هذا القرار آان التدخل السوري والأزمة بين سوريا والقوات اللبنانية الفلسطينية<br />
المشترآة، وصولاً إلى حرب حزيران ، 1982 طبعاً لا تفسر آل هذه التداعيات بسبب القرار لأن لها<br />
بدورها ظروفها وعواملها العربية والدولية، لكنه آان ممهداً لها ومساعداً عليها، ويجب أن يحسب<br />
حسابه عند تقويم مختلف أوجه الحرب الأهلية في لبنان.<br />
-<br />
آان الوقوف ضد قرار العزل وانتقاده يبدو ضرباً من الجنون في ظروف جريمة مجزرة عين<br />
الرمانة. وما صحبها من قعقعة للسلاح وانتشار للميليشيات وانتقال الحزب الشيوعي اللبناني الداعي<br />
دائماً إلى الطريق السلمي إلى "حربجي" من الدرجة الأولى، وانتقال منظمة العمل الشيوعي صاحبة<br />
التحليل الطبقي للبنان و"دولة إلى الحديث عن الانعزالية المارونية والدولة الطائفية. هذا دون<br />
الحديث عن المقاومة الفلسطينية التي وجدت نفسها فجأة في موقع المسيطر على الشارع اللبناني<br />
السني وقد راحت بكل فصائلها تجند الميليشيات وتوزع السلاح. وقد وصف البعض هذا<br />
التطور للأحداث أن لبنان يتجه ليكون بمثابة فيتنام الشمالية التي شكت قاعدة تحرير فيتنام الجنوبية!!.<br />
"% 4<br />
)<br />
- الشيعي.<br />
هذا دون الحديث عن غليان الشارع السني والشيعي والدرزي بذآريات الامتيازات التي تمتع بها<br />
الموارنة والحرمان في المناطق الشعبية لا سيما الشيعية.<br />
من هنا آانت المجاهرة بموقف سياسي حازم ضد قرار العزل واعتباره خطا مبدئياً وسياسياً،<br />
والدعوة إلى أن يكون هدف آل مواجهة دفاعياً وفتح الباب للمفاوضة بل السعي لإعادة اللحمة ووقف<br />
الانقسام ومنع انهيار الدولة والوصول إلى درجة أعلى من العدالة والتفاهم اللبناني - اللبناني الداخلي<br />
يحد من الامتيازات ومن الحرمان سواءً بسواء، آان ذلك قد قوبل بحملة شعواء.<br />
على أن هذا الطرح، أمام آثرة معارضيه، فرض فرزاً جديداً. ووضع تيار أبي حسن وسعد جرادات<br />
وأبي محمود (هلال رسلان) وأبي خالد (جورج عسل) وعلي أبي طوق ومروان آيالي، ومعهم بضع<br />
عشرات في موقع متميز، وخلصه من التداخل في المواقف الناجعة عن طبيعة العلاقات والصداقات<br />
المتشابكة داخل فتح. ويمكن القول أن هذه المناسبة شكلت نقطة الانطلاق الحقيقية لذلك التيار،<br />
وسمحت له من الآن فصاعداً، بأن يتحمل وحده مسؤولية مواقفه وما سيطبعه من سمات.<br />
لقد جاءت المبادرة في هذه المسالة أي في فرض التمايز والانطلاق على أسس جديدة) من قبل عدد<br />
من الإخوة ممن أصبحوا يتحملون على مضض، بسبب العلاقات المتداخلة، توجهات الخط في<br />
منهجية العمل وفي موضوع التضامن العربي وحرب تشرين والموقف من الاتحاد السوفياتي. وفي<br />
تقويم القيادة وفي غيرها من القضايا، فوجدوا في معارضة قرار العزل موقفاً غير صحيح وغير<br />
معقول. ويثير على صاحبه الشبهة. فانبروا لحسم العلاقة على أساس: "من مع قرار العزل ومن<br />
ضده". ومن ثم آان على أبي حسن وإخوانه أن يبدؤوا مرحلة جديدة يبلورون فيها خطهم النظري<br />
والسياسي والعملي، بلورة متماسكة مميزة غير متداخلة بتوجهات وخطوط أخرى ومنهجياتها<br />
وسياساتها.<br />
منير شفيق│ نيسان ١٩٩٤<br />
مؤسسة الوفاء
52<br />
ومسيرة<br />
شهداء<br />
لقد حسب بعض المقربين أن مقاومة قرار العزل سينهي هذا التيار ويصفيه إذ آيف يعقل أن يرفع<br />
مثل هذا الشعار، بل آيف يعقل أن يكون هنالك صمود في مثل تلك الظروف التي تهب رياحها في<br />
مصلحة قرار العزل؟ على أن الوقائع أثبتت العكس تماماً فصحة الموقف والتحليل إزاء هذا<br />
الموضوع، آما إزاء المواضيع الأخرى اللاحقة آانت حاسمة في مضاعفة قوى هذا الخط حتى<br />
ضمن تلك الظروف. فقد أصبح التيار قطب جذب لقوى شابة، أساساً، طلابية، فلسطينية ولبنانية تتسم<br />
بالذآاء والنضج والشجاعة والحيوية والاستعداد لدخول غمار القتال وعدم الخوف من التضحيات،<br />
ومهيأة للإمساك بهذا الخط إمساآا مبدئياً عالياً وخوض الصراع النظري والفكري والسياسي. فالذي<br />
لم يلحظ، في ذلك الوقت، أن معارضة عزل الكتائب ما جاء عرضاً، وإنما آان جزءاً من منظومة<br />
متماسكة من المواقف والسياسات تبدأ من منطلقات فتح ومبادئها لتشمل مختلف القضايا من الوضع<br />
الدولي إلى الوضع العربي إلى الوضع اللبناني إلى الوضع الفلسطيني. وتتناول آل الإشكاليات<br />
الفلسفية والفكرية والأيديولوجية والمنهجية والتجارب الثورية التي تواجه العمل والتغيير.<br />
ولهذا إذا آان لا بد من أن يؤرخ لليوم الذي خرج فيه هذا الخط من مرحلة الإرهاصات وتداخل<br />
الخطوط والاتجاهات والعلاقات المختلطة إلى مرحلة التبلور الذي أصبح معروفاً عليه فسيكون يوم<br />
تبنيه لخط معارضة قرار العزل، وما تلاه أساساً من تداعيات أنهت المرحلة الأولى. وهو اليوم الذي<br />
انتعلت فيه ثلة من الخيرة إلى مواقع القيادة والمسؤولية يقلّبون الأمور ويتخذون القرارات والمواقف<br />
وينفذون.<br />
53<br />
ومسيرة<br />
شهداء<br />
- العربية.<br />
الصراعات العربية وآان ينظر إلى آل انحياز لهذا الطرف أو ذاك، ومهما آان مسوغه،<br />
باعتباره خسارة في عملية التحشيد ولا يخدم القضية الفلسطينية في مرحلتها الراهنة آنذاك.<br />
طبعاً تعرضت هذه المنطلقات إلى سلسلة طويلة من الانتقادات ومن مختلف الأطراف. والكل يذآر<br />
الحملات التي شنت على شعار "قضية فلسطين فوق الصراعات العربية - العربية"، أو شعار "عدم<br />
التدخل في الشؤون الداخلية للدول العربية"، أو شعار "آل البنادق نحو العدو الصهيوني"، أو شعار<br />
"تكوين الجبهات لمساندة فتح والثورة الفلسطينية". فكان رأي فتح الأصلي أنهاً تطل على الثورة<br />
العربية والثورة العالمية أو على إشكالية التغيير العربي والنضال العالمي ضد الامبريالية من خلال<br />
ترآيزها على الصراع ضد العدو الصهيوني، أي من فوق أرضها وليس من خلال الانتقال إلى<br />
خنادق أخرى، والدخول في تكتلات وجبهات ذات غايات الأخرى. لقد فهم شعار، أو منطلق، فلسطين<br />
طريق الوحدة العربية، أو طريق التغيير العربي، بأنه جزء لا يتجزأ من علاقة تبادلية وتكاملية بين<br />
فلسطين والوحدة والتغيير. فما ينبغي للسعي لتحرير فلسطين أن يلغي، أو يغيب السعي للوحدة أو<br />
التحرر أو التغيير العربي، بل عليه أن يكون العامل المساعد على ذلك. وهذا من أهم مسوغات العمل<br />
على الساحة الفلسطينية. آذلك آان الحرص على عدم التدخل في الشؤون الداخلية ينبع، من وجهة<br />
نظر أبي حسن وحمدي وإخوانهما من حرص على إطلاق طاقات التغيير العربي بصورة مستقلة<br />
ومتوازنة ومتكاملة دون وصاية أو إلحاق من قبل الثورة الفلسطينية. وفي المقابل أن الحرص على<br />
استمرارية الثورة الفلسطينية يتطب الحرص على استقلاليتها ورفض الاحتواء والإلحاق. أي آان<br />
المطلوب طرح سياسات حكيمة وصحيحة لضبط العلاقة التبادلية التأثير بين التحرير والتغيير، أو<br />
التحرير والوحدة العربية وآان الشعار "أن على فتح ألا تترك خنادقها وتذهب إلى خنادق أخرى مهما<br />
تعاطفت وإياها".<br />
وآان أبو حسن وسعد وحمدي وإخوانهم يرون أن هذا الخط هو الأآثر ثورية والأآثر صحة من حيث<br />
نتائجه لا على مستوى مصلحة قضية فلسطين أو الثورة الفلسطينية وإنما على مستوى التغيير العربي<br />
وتحشيد الموقف العربي الرسمي من أجل قضية فلسطين، آما على النضال العالمي من أجل تحرير<br />
الشعوب من الهيمنة الامبريالية والصهيونية العالمية. ولهذا فإن آل موقف سياسي حمل خروجاً على<br />
هذه المنطلقات آان يصطدم بالنقد ويواجه بسياسة بديلة من قبلهم حتى لو آان ذلك قد صدر، عن قيادة<br />
فتح وم.ت.ف.<br />
وجدت هذه الإشكالية أشد حالاتها تأزماً منذ 1973<br />
الحرب الأهلية.<br />
في لبنان لاسيما في السنتين الأوليين من اندلاع<br />
آان من الواضح أن ثمة ترآيزاً من جانب التيار "التقدمي" (بما في ذلك اليساري) في داخل فتح<br />
والثورة الفلسطينية يرمي إلى تقديم مفهوم للجبهة والعلاقات داخل لبنان مناقضة لمنطلقات فتح<br />
ومفهومها الأساسي حول الموضوع أو مناقضة لما آان معمولاً به في لبنان خلال المراحل الأولى<br />
من وجود فتح قبيل اتفاق القاهرة وبعده، آما آان معمولاً به، بصورة مرآزة، منذ<br />
بعد حزيران 1967 حتى أواسط السبعينات.<br />
، 1965 لاسيما<br />
منير شفيق│ نيسان ١٩٩٤<br />
مؤسسة الوفاء
54<br />
ومسيرة<br />
شهداء<br />
فبدلاً من أن تفتح فتح ذراعيها وتتعاون وآل القوى اللبنانية المستعدة لدعمها والوقوف إلى جانب<br />
قضيتها، وبغض النظر عن هويتها الطائفية أو السياسية أو الحزبية، صار مطلوب أن تضم ذراعيها<br />
على القوى التقدمية واليسارية وبعض القوى القومية فقط، وتغلق الباب في وجه الآخرين آلهم إن لم<br />
تسهم في إضعافهم.<br />
إن نظرة سريعة إلى حجم القوى الفعلي على الأرض والمطلوب نبذها أو تلك المطلوب التحالف<br />
وإياها من خلال ذلك النهج تدل على خلل آبير في السياسة والمنطق وعلى تفريط في المصلحة<br />
العليا، واستخدام لفتح في غير مقاصدها.<br />
فإذا آان الخط التقليدي لفتح مفتوحاً في السابق على الجميع في لبنان، بما في ذلك الموارنة، فإن الخط<br />
الجديد، لاسيما، في ظروف اندلاع الحرب الأهلية قام على عزل الكتائب والموارنة، أولاً ثم اتجه<br />
ثانياً، وبقوة أآبر إلى عزل قيادات الشيعة بكل فئاتهم عدا قلة من الأفراد المنتمين للأحزاب اليسارية<br />
والتقدمية، آما اتجه إلى عزل أغلب الأطراف السنية من القيادات السياسية التقليدية إلى الحرآات<br />
الشعبية الإسلامية إلى دار الإفتاء إلى الاتجاهات الناصرية عدا بعض فئاتها المنضمة إلى جبهة<br />
القوى والأحزاب التقدمية.<br />
وآانت حرآة المحرومين التي أطلقها الإمام موسى الصدر قد لقيت في المراحل الأولى بعض<br />
التجاوب من قيادة فتح ثم أخذت العلاقة بها بعد اندلاع الحرب الأهلية تتدهور وإن لم تنقطع بالسر من<br />
البعض لأن العلنية آانت تُعرض صاحبها إلى التشهير به من قبل تقدميي فتح وجبهة الأحزاب<br />
والقوى التقدمية اللبنانية. وآانت هنالك قلة، من بين آوادر فتح وقياداتها حافظت على علاقات حسنة<br />
بها، ورفضت مقاطعتها أو التهجم عليها ورأت أن ذلك مخالف لمبادئ فتح ومخالف لمصلحتها لاسيما<br />
وجود قواتها في الجنوب. وآان تيار أبو حسن وحمدي وسعد وإخوانهم حاسماً في التحدي في هذا<br />
الموضوع ودخل في صراعات داخلية شديدة دفاعاً عن موقفهم ونقداً للموقف الآخر. وقدموا جسور<br />
التعاون علنا، وحرآة المحرومين. والتي أصبحت "أمل" وآان الشهيد أبو حسن قد أرسل الشهيد<br />
مجاهد الضامن ليدرب بعض شباب حرآة المحرومين من أجل تدعيم المقاومة ضد العدو الصهيوني<br />
وقد انفجرت به قنبلة فاستشهد جنباً إلى جنب مع أحد القيادات العسكرية لحرآة المحرومين. وقد<br />
أعلنت حرآة "أمل" أثر تلك الحادثة وهو اختصار لاسم "أفواج المقاومة اللبنانية". ووصل الأمر أن<br />
أخذ القرار في قيادة فتح لتشكيل لجنة تحقيق مع بعض الكوادر القيادية ن فتح و م. ت. في بسبب<br />
علاقاتهم بحرآة أمل أو بالتيارات الإسلامية الأخرى التقليدية والشعبية. وإذا آانت اللجنة قد تشكلت<br />
بضغط التيار التقدمي داخل فتح إلا إنها انفجرت على قاعدتها مع أول لحظات التحقيق لأنها ما آانت<br />
تستطيع أن تناقش من مواقع فتحاوية مثل هذه السياسة لأن موقفها آان ضعيفاً من هذه الزاوية وليس<br />
لديه من سلاح غير الإرهاب الفكري والتشكيك وإلقاء الشُبه جزافاً. ولكن ما آان أخطر، فقد تمثل في<br />
الصراعات التي خاضها تيار أبي حسن وحمدي ومروان وعلي أبي طوق وإخوانهم في الجنوب،<br />
لاسيما، بعد نزول السرية الطلابية التي أسسها وقادها الشهيد سعد وغادرها مبكرًا. وقد تحولت إلى<br />
آتيبة الجرمق في الجنوب. وآانت المرحلة التالية ل مرحلة هجوم شديد من قبل جبهة<br />
الأحزاب والقوى التقدمية للسيطرة على قرى الجنوب التي ليس لهم فيها من، مرتكزات أو قواعد<br />
تذآر، وآان يراد أن تستخدم قوات الثورة الفلسطينية ومعها القوات اللبنانية التقدمية لهذه الغاية. فكان<br />
على آتيبة الجرمق إلى جانب مهمتها الأولى في مواجهة العدو الصهيوني على خط التماس، أن تدافع<br />
1977<br />
منير شفيق│ نيسان ١٩٩٤<br />
مؤسسة الوفاء
55<br />
ومسيرة<br />
شهداء<br />
عن القرى الشيعية وحرآة أمل في الجنوب. وقد وصل الأمر أحياناً إلى أن يرتفع سلاح فتح في<br />
مواجهة بعضه بعضاً. ولولا حكمة قيادة آتيبة الجرمق وحزمها لحدثت اشتباآات. آما حدث حين<br />
تصدى مروان وعلي أبي طوق مع قوات من آتيبة الجرمق لوقف هجوم القوات المشترآة حين دآت<br />
الأخيرة بالمدفعية دير قانون عام لان الكتيبة آانت مصممة لا على طرح موقف سياسي<br />
مقابل فحسب وإنما أيضاً، على تنفيذه، وهي مقتنعة آل القناعة أن في خطها مصلحة عليا لفتح<br />
والثورة الفلسطينية آما لأهل الجنوب ولبنان آله في حين آان خط تسليط جبهة القوى والأحزاب<br />
التقدمية على قرى الجنوب يحمل تدميراً لمعادلة الصراع داخل لبنان وتدميراً لفتح نفسهاً فيه. ويجب<br />
أن يذآر هنا الشهيدان مروان الكيالي وعلي أبو طوق اللذان شكلا من خلال موقعهما القيادي في<br />
آتيبة الجرمق، إلى جانب دفاعهما عن الخط الصحيح ضميراً لفتح ومنطلقاتها في وقت آانت الرياح<br />
تهب في الاتجاه الآخر.<br />
.1978<br />
ولم يكن الوضع مختلفاً بالنسبة إلى الدفاع عن علاقات فتح بالإسلام السني السياسي والشعبي لأن<br />
المناطق السنية في بيروت وطرابلس وصيدا والبقاع آانت أول ما استهدف من خلال سياسات العزل<br />
قبل أن تنتقل النار إلى الجنوب. هنا أيضاً آان الإصرار من جانب أبي حسن وسعد وحمدي وأبي<br />
خالد وإخوانهم على ترآيز العلاقات مع آل القوى الاجتماعية الأساسية التي يراد استبعادها،<br />
وأصبحت في حالة الاستضعاف وهي التي آانت قد شكلت سنداً لفتح من إلى أواسط<br />
السبعينات. ولشد ما آانت بعض القيادات العليا في فتح تلقى من هجمات عليها بمجرد محافظتها على<br />
علاقات خجولة بالقيادات السنية السياسية التقليدية مثل رؤساء الوزراء السابقين ودار الإفتاء أو<br />
الحرآات الشعبية مثل الجماعة الإسلامية وعدد من العلماء والتجمعات المحلية وبعض الناصريين<br />
والعروبيين، أو بعلماء المجلس الشيعي الأعلى أو السيد حسين فضل االله، وغيرهم وغيرهم، فكانت<br />
تمارس تلك العلاقات بالسر قدر الإمكان، وتعطي وعوداً بلا أفعال، بينما آان الموقف الرسمي<br />
والساعد الضاربة الفعلية أسيرين لجبهة القوى والأحزاب التقدمية.<br />
1968<br />
هنا آان خط أبي حسن وحمدي وسعد وإخوانهم قد بلور سياسة للجبهة المطلوب تشكيلها والعمل من<br />
خلالها لإخراج لبنان من أزمته تتألف من دار الإفتاء والمجلس الشيعي الأعلى ومن القيادات السنية<br />
والشيعية السياسية التقليدية ومن العلماء ومن القوى الشعبية الإسلامية والعروبية ومن جبهة القوى<br />
والأحزاب التقدمية والقومية ومن الشخصيات ورجال الدين المسيحيين ممن يمكن حشدهم من أجل<br />
الضغط باتجاه وقف الحرب الأهلية ومنع التقسيم وإعادة بناء المعادلة اللبنانية مع فتح باب الحوار مع<br />
البطريرآية المارونية وحزب الكتائب وحزب الأحرار والكسليك وآل من يقبل الحوار ولا يعزل غير<br />
المتواطئين مع العدو الصهيوني. وذلك لتكون المحصلة في مصلحة إعادة اللحمة إلى الوضع اللبناني<br />
على شكل يحقق عدالة أآبر وتماسكاً أشد فيما بين مختلف طوائفه وقواه السياسية، هذا من جهة وأما<br />
من جهة أخرى فمن أجل تحقيق أآبر إجماع لبناني وراء وجود الثورة في لبنان ووراء القضية<br />
الفلسطينية.<br />
ويجدر أن يشار هنا إلى أن هذا التيار نتهج سياسة مشابهة بالنسبة إلى القوى السياسية العربية<br />
والإسلامية والأوروبية التي أخذت توصد في وجهها أبواب فتح بسبب صراعاتهاً مع التيار<br />
السوفياتي. إما من مواقع إسلامية أو قومية أو ماوية أو يسارية أوروبية. فبالموازاة وبعض<br />
الفتحاويين، بقيادة الشهيد أبي جهاد رحمه االله، استمر هذا التيار من جانبه، وباستقلالية، يسعى لفتح<br />
منير شفيق│ نيسان ١٩٩٤<br />
مؤسسة الوفاء
56<br />
ومسيرة<br />
شهداء<br />
الجبهة العريضة على مصراعيها عربياً وإسلامياً ودولياً، وذلك بالرغم من السياسة الرسمية المعلنة<br />
التي راحت تحصر أو تحاصر في حدود التيارات التقدمية واليسارية (لا سيما المؤيدة للسوفيات).<br />
آان هذا هو التوجه المعلن والمطبق، رضي من رضي، وغضب من غضب. وهو الذي تحول إلى<br />
سمة مميزة لخط أبي حسن وحمدي ومروان وإخوانهم فلسطينيين ولبنانيين، وآان اللبنانيون في هذا<br />
التيار يشكلون شطراً مساوياً للشطر الفلسطيني عدداً ودوراً وقيادياً وعملاً وتضحيات، وآانوا من آل<br />
الطوائف والمناطق اللبنانية تقريباً، وقد استطاعوا أن ينسجوا أمتن العلاقات، في المناطق الإسلامية<br />
من لبنان، بالقوى المقهورة التي تتخطفها ميليشيات القوات المشترآة الفلسطينية - اللبنانية التي آانت<br />
تحت سيطرة جبهة القوى والأحزاب التقدمية.<br />
قد يبدو أن تيار أبي حسن وسعد وحمدي وإخوانهم آان معادياً لجبهة القوى والأحزاب التقدمية، وآان<br />
يريد من فتح أن تعزلها، ولكن هذا غير صحيح ولم يكن يوماً آذلك. فقد آانوا يحملون احتراماً خاصاً<br />
للمرحوم آمال جنبلاط وآانوا ينظرون إليه بأنه الوحيد في تلك الجبهة الذي آان يمثل شطراً حقيقياً<br />
في مكونات المعادلة اللبنانية، وما آانوا يحملون بالنسبة إلى الأطراف الأخرى نيات عدائية أو<br />
سياسات اقصائية. بل أن عدداً مهماً من الشباب اللبناني في قلب هذا التيار آان قد انحدر من منظمة<br />
العمل الشيوعي وقد حافظ على صداقاته وسعى دائماً لاستمرار الحوار والتعاون. وإن آان باب<br />
منظمة العمل هو الذي أوصد بعد الإنخراط في جبهة الأحزاب والقوى التقدمية. فالموقف الفتحاوي<br />
آان يقتضي أن تكون الأذرع مفتوحة إلى جميع أولئك آذلك. فالصراع آان ضد الخط السياسي<br />
والعملي الخاطئ الذي تبنته جبهة القوى والأحزاب التقدمية في إدارة الصراع في الأزمة اللبنانية.<br />
فموقف تيار أبي حسن آان متماسكًا، مستنداً إلى المنطلقات ومن تقدير للمصلحة العليا ولحسن إدارة<br />
الصراع ولم يكن وجهاً آخر لعملة التيار التقدمي واليساري داخل فتح الذي آان أحادي الجانب<br />
ومتجهاً لطرف واحد بعينه في لبنان وضارباً عرض الحائط بالأطراف الأخرى جميعاً. أي آان خط<br />
أبي حسن وحمدي وسعد وأبي خالد وأبي محمود ومحمود الحسنية وإخوانهم يريد من فتح أن تتعاون<br />
وجبهة الأحزاب والقوى التقدمية، بما في ذلك الحزب الشيوعي، ولكن ليس على حساب التعاون مع<br />
القوى الأخرى أو عزلها أو ضربها.<br />
1982<br />
1983<br />
ولعل من المآسي المبكيات أن فتح في حرب حزيران ومي تواجه الضغوط السياسية<br />
والعسكرية للخروج من لبنان، آما من طرابلس عام ، لم تنل من جبهة الأحزاب والقوى<br />
التقدمية عشر معشار ما آانت تتوقعه منها أ. والأنكى أن مؤتمر الكوادر الذي عقد في بنزرت في<br />
أثناه الحصار على طرابلس والتعرض للهجوم العسكري أرسل التحية للقوى والأحزاب التقدمية<br />
اللبنانية التي آانت في معظمها في الطرف المقابل، بينما شق عليه أن يوجه إلى حرآة التوحيد<br />
الإسلامية مثل تلك التحية مع العلم أنها آانت حليفاً لفتح في طرابلس. إن هذه الواقعة تشير إلى أي<br />
مدى أخذت فيه الهوة تتسع بين فتح ومنطلقاتها.<br />
57<br />
ومسيرة<br />
شهداء<br />
.<br />
8<br />
شارك في التيار آذلك عدد آخر من أخوة عرب لعب بعضهم دوراً أساسياً، هذا إلى جانب علاقات<br />
حوار وتعاون مع عدد من الأطراف العربية وغير العربية فكان ما يطرح من خط موضع اهتمام<br />
واسع، بل آان نتاج حوار مستمر مع مختلف الأفراد والتجمعات المذآورة.<br />
على أن الميزة التي انفرد بها اللبنانيون في هذا التيار آونهم انخرطوا فيه لا من أجل دعم نشاطهم<br />
المحلي اللبناني، أو من أجل تأمين الدعم له بين الجماهير اللبنانية، آما آان حال أغلب المشارآات<br />
اللبنانية في ذلك الوقت، وإنما من أجل أن يشارآوا في المشروع الفلسطيني نفسه، باعتباره القضية<br />
الأولى للأمة آلها. أي آانوا أقرب إلى الاهتداء بنموذج الشهيد عزالدين القسام (السوري المنشأ) أو<br />
المرحوم القاوقجي (اللبناني الجنسية). وإن آان هذا الخط قد واجه باستمرار من داخله اللبناني<br />
اتجاهات للتحول إلى حرآة لبنانية أو إلى النشاط اللبناني والإفادة من الحالة الفلسطينية في دعم<br />
متبادل.<br />
وقد عرفت التجربة هنا عدة محاولات في مجال إيجاد أطر لبنانية وآانت ناجحة نسبياً، آما عرفت<br />
انخراطاً آاملاً من قبل الأخوة اللبنانيين في مشروع السرية الطلابية وآتيبة الجرمق وآان لهم دور<br />
في ذلك يكاد يفوق الدور الفلسطيني. أما على مستوى تلك المحاولات أو التي لم تبعد آثيراً عن هذا<br />
التوجه العام فقد عرفت النور قبل تجربة الجبهة الوطنية على مستوى الحرآة الطلابية في<br />
الجامعة اللبنانية، وآان من روادها مروان الكيالي والمرحوم نذير الاوبرى، وتجربة الثانويات التي<br />
آان من قادتها الشهيد علي أبو طوق، ثم تشكلت تجارب اللجان الوطنية وتجربة حرآة لبنان العربي<br />
وآان على رأسها الشهيد الدآتور عصمت مراد<br />
1975<br />
وبالمناسبة واجه السياق اللبناني داخل هذا التيار تغيراً أساسياً بعد الانتقال إلى رض الإسلام. فقد<br />
واجه بعد أن حسم هذا الموضوع إشكالية في استمراره بمعنى هل يستمر تياراً داخل الساحة<br />
الإسلامية، أم لا؟.<br />
- "لا"<br />
وقد اتجه النقاش منذ ذلك الوقت إلى الإجابة حاسمة عن السؤال. ومن ثم آان على أفراد هذا<br />
التيار أن يبحثوا آل حسب اجتهاده وضميره في الساحة الإسلامية عن علماء يأخذون عليهم دينهم<br />
وحرآات وجماعات ينخرطون فيها عملاً وجهاداً. ولكن آان ثمة إصرار على الاحتفاظ بما هو قائم<br />
على الساحة الفلسطينية بالنسبة إلى آتيبة الجرمق أو العمل في الأرض المحتلة. لأن التخلي عن ذلك<br />
وحلّه قبل أن تتوفر بدائل، وفي مستواه، قد يشكل خطأً آبيراً يفيد منه العدو الصهيوني، أو قد يجعل<br />
حال التيار "جبارين في الجاهلية خوارين في الإسلام" إذا ما تخلوا عن مواقع القتال على خط التماس<br />
أو الجهاد والمقاومة المسلحة في فلسطين.<br />
1982<br />
وقد أدى ذلك إلى توزع أغلب اللبنانيين، لا سيما بعد ، على مواقع جديدة من خلال اجتهاد<br />
فردي مستقل، وقد أصبحت لبعضهم خطوط مختلفة تماماً، ولم تحافظ حتى على التشاور وتبادل<br />
(8)<br />
. <br />
. <br />
منير شفيق│ نيسان ١٩٩٤<br />
مؤسسة الوفاء
58<br />
ومسيرة<br />
شهداء<br />
الرأي. لكن بقى، في المقابل، بعض اللبنانيين الذين أصروا على الانخراط في المشروع الفلسطيني<br />
الجهادي ضمن حالته الجديدة، وضمن الرؤية السابقة نفسها حول علاقة القضية الفلسطينية والجهاد<br />
الفلسطيني بالتغيير والوحدة والنهوض في الأمة وآان في مقدمة هذا التوجه الشهيد سمير الشيخ<br />
فالتحول إلى الطريق الإسلامي لم يغير في جوهر المعادلة السابقة وإنما وسعها لتشمل الأمة العربية<br />
والإسلامية ولربما آانت هنالك ضرورة مستقب ًلا لوقفة تقويمية بالنسبة إلى ما حدث بعد<br />
خصوصاً، بعد بالنسبة إلى أفراد هذا التيار من لبنانيين وعرب عندما ترآوه ليخوضوا في<br />
الساحة الإسلامية تجارب أخرى من منطلقات ومواقع أخرى وضمن منهجية مختلفة، فبعضها آان<br />
ناجحاً وايجابياً وبعضها آان سلبياً.<br />
.<br />
9<br />
.1980<br />
1982<br />
. (9)<br />
. <br />
منير شفيق│ نيسان ١٩٩٤<br />
مؤسسة الوفاء
59<br />
ومسيرة<br />
شهداء<br />
<
60<br />
ومسيرة<br />
شهداء<br />
آان أبو حسن وحمدي وإخوانهما استندوا إلى تقدير الموقف هذا فاعتبروا أن الخط الأسلم هو ترآيز<br />
آل الجهود على الأرض المحتلة. وقرر أبو حسن وحمدي أن ينتقلا إلى عمّان علماً أنهما في السابق<br />
آانا يتناوبان الوجود فيها، ولو سراً، بسبب ترآيزهما الدائم على الأرض المحتلة، وإن آانا في<br />
المنتصف الثاني من السبعينات قد توزعا بين الأردن ولبنان. أما آتيبة الجرمق فقد أعادت تنظيم<br />
قواتها في البقاع إثر حرب حزيران 1982ً من أجل تحويلها إلى قوات ضاربة خلف قوات العدو<br />
الصهيوني الذي آان يحتل أغلب لبنان، لقد واجهت قيادة آتيبة الجرمق بعد أن وقع الانشقاق داخل<br />
فتح في ربيع أزمة وحرجاً فعلى الرغم من خلافياتها السابقة مع أطرافه وأغلبهم آانوا من<br />
التيار التقدمي واليساري في فتح، وعلى الرغم من رفضها للانشقاق من حيث المبدأ، إلا أنها حاولت<br />
تحييد نفسها وتجنب الدخول في اقتتال وصراع عسكري ليبقى هدفها الوحيد من الوجود في البقاع هو<br />
مقاومة الاحتلال الإسرائيلي. ولكن قادة الانشقاق آان ينقصهم الخيال في التعامل وهذه الظاهرة. وقد<br />
أصروا عليها أن تحدد موقفاً وتنحاز، وهذا ما فرض على آتيبة الجرمق الانسحاب إلى طرابلس،<br />
والدخول في صراع لا تريده حتى الخروج منها.<br />
1983<br />
لقد آان التوجه الأساسي للخط هو الترآيز الكلي على الأرض المحتلة بعد 1982، أما البقاء في لبنان<br />
فيجب أن يكون ثانوياً مقتصراً على مقاومة العدو الصهيوني. ولكن ما آان لقيادة فتح أن تسلم<br />
بالحقائق والوقائع الجديدة، والتي تقتضي منها أما أن تتفاهم مع وسوريا، وأما أن تنسحب من لبنان<br />
وتتجنب الصراع مع سوريا. ومن ثم ترآز على تصعيد المقاومة في الأرض المحتلة. وآان هذان<br />
الخياران غير واردين في نهج أغلب قيادة فتح التي سيطر على عقلها حلم العودة إلى لبنان وراح<br />
يغذيه دخولها المحور العراقي – المصري في حرب الخليج الأولى. وهي السياسة التي أصبحت<br />
رسمية وسائدة طوال الثمانينات.<br />
آان توجه الخط عند أبي حسن وحمدي أن يترك لبنان ولا يُعاد بناء آتيبة الجرمق فيه، وأن ترآز آل<br />
الجهود على الأرض المحتلة، وآان مشروع إطلاق الجهاد الإسلامي في فلسطين هو شغلهما الشاغل<br />
في هذه المرحلة. أما من ناحية أخرى فقد اعتبر تحالف م.ت.ف مع العراق والدخول في معاداة إيران<br />
مخالفاً للمنطلقات وخطأ أساسياً، لأن بوصلة م.ت.ف يجب أن تبقى متجهة إلى فلسطين، ودور فتح<br />
يجب أن يكون وسيط خير بين العراق وإيران، واعتبر موقف م.ت.ف المؤيد للاحتلال السوفياتي<br />
لأفغانستان خطأ فادحاً آذلك، ولا يمكن تسويغه بأي شكل من الأشكال، آما أن الإصرار على العودة<br />
إلى لبنان بكل سبيل والتأزيم مع سوريا يشكلان خطأين آخرين مهما قيل عن الموقف السوري لتسويغ<br />
ذلك. ومن هنا يلحظ أن الهوة في الخلاف في الموقف السياسي والعملي ووضع الأولويات وفهم<br />
روحية منطلقات فتح قد راحت تتسع خلال الثمانينات. ولكن بالرغم من آل ما تقدم فقد بقيت نقطتا<br />
تقاطع: -الأولى، العمل في الأرض المحتلة وضرورة الإفادة من ذلك لإطلاق الجهاد الإسلامي، ومن<br />
ثم تصعيد المقاومة عموماً.<br />
- الثانية، بقاء مكان لإبداء الرأي الصحيح آاملاً من داخل فتح بما في ذلك الجهر في نقد السياسات<br />
المذآورة، وفي الإعلان عن الموقف الإسلامي، بلا مواربة.<br />
ونما إلى جانب هذا الخط العام توجه داخله يدعو إلى العودة إلى لبنان بهدف مقاومة العدو الصهيوني<br />
في جنوبي لبنان وآان الشهيد علي أبو طوق ومروان آيالي وبعض إخوانهما في الكتيبة من<br />
منير شفيق│ نيسان ١٩٩٤<br />
مؤسسة الوفاء
61<br />
ومسيرة<br />
شهداء<br />
المبادرين إلى العودة إلى لبنان من أجل هذه الغاية. وهي غير الغاية الأخرى التي أرادتها قيادة فتح<br />
من العودة إلى لبنان وقد ارتكزوا على حسن علاقاتهم ومتانتها بحرآة أمل وحزب االله ومختلف<br />
القوى الشعبية في لبنان. وبالفعل وجدوا من آل أولئك ترحيب فكانوا يميزون بينهم وبين سياسة<br />
القيادة وذلك انطلاقاً من تجربة السبعينات.<br />
على أن خللاً حدث في معادلة الوضع الجديد في لبنان مع أواخر عام 1984 وأوائل عام 1985 جعل<br />
قبضة إغلاق الأبواب في وجه فتح الرسمية تتراخى قصداً. فبدأ مطار بيروت يستقبل الوافدين<br />
زرافات ووحداناً وبدأ السلاح يباع أو يهرب لمخيمات بيروت. ولم تمض بضعة أسابيع حتى بدا آما<br />
لو آانت المخيمات في بيروت ستعيد سيرتها الأولى. وهنا سرعان ما عادت تلك المعادلة لتنقلب مرة<br />
أخرى فتفتح حرب المخيمات في أواسط 1985 وتبدأ مرحلة جديدة من الصراع الجهنمي فيما بين<br />
من آان يفترض بهم أن يكونوا في جبهة واحدة. وقد جاءت التطورات اللاحقة وما حل في المخيمات<br />
من آوارث لتؤآد صحة التحليل الأساسي الذي آان يدعو إلى تناول جديد للوضع في لبنان يختلف<br />
آلياً عما آان عليه في السابق.<br />
لقد استشهد في حرب المخيمات علي أبو طوق شريك الشهداء سعد وأبي حسن ومروان في تشكل<br />
السرية الطلابية والقائد الميداني البارز في آتيبة الجرمق، والذي لعب دوراً ريادياً آبيراً في إطلاق<br />
أولى العمليات الموجعة في مقاومة الاحتلال الإسرائيلي للبنان، انطلاقاً من البقاع. وجاء استشهاده في<br />
المكان الذي ما أحب أن يستشهد فيه وعلى أيدي من لم يعتبرهم يوماً أعداءه. واضطر إلى الدخول في<br />
حرب المخيمات اضطراراً. فبينما توجه إلى لبنان ليسهم في المقاومة ضد العدو الصهيوني في جنوبه<br />
وجد نفسه واقعاً في الشرك ولم يعد له من مسوغ في البقاء غير الدفاع عن الناس البسطاء في المخيم<br />
والعمل على وقف هذا الاقتتال فيما بين الأخوة.<br />
آان أبو حسن وحمدي وإخوانهم يرون إشكالية آبرى في آل ما يجري في الداخل اللبناني من<br />
صراعات ابتداء بالحرب الأهلية وانتهاء بحرب المخيمات. فقد آانت أغلب تلك الحروب تشبه<br />
الحروب بالوآالة. فلبنان منذ ترآبت معادلته الطائفية، هذا دون الرجوع إلى تاريخ أطول، آان ولم<br />
يزل شديد التأثر بالمعادلة العربية والدولية من حوله. وهو تأثر يأخذ شكلاً مباشراً وسريعاً. ولا يبالغ<br />
المرء إذا ربط آل تطور في ميزان قواه الداخلي بتطور موازٍ في ميزان القوى من حوله. لأن طبيعة<br />
المعادلة الحساسة فيما بين طوائفه تشكلت عبر معادلة عربية ودولية محددة. وأخذت شكل اتفاق<br />
داخلي. ولهذا ما آانت المعادلة من حوله تتغير حتى آان يواجه أزمة بحجم التغيير المطلوب منه أن<br />
يحدثه. فعندما تراجع النفوذ الفرنسي الذي أشرف على معادلة وأخذ النفوذ البريطاني ومن<br />
خلال حلف الشرق الأوسط ثم حلف بغداد يتعاظم مع أوائل الخمسينات حتى حدثت أزمة آبرى<br />
أطاحت بالشيخ بشارة الخوري وجاءت بكميل شمعون حليف نوري السعيد إلى سدة الرئاسة. ولكن ما<br />
أن بدأت معادلة النفوذ البريطاني تتراجع لحساب المد الناصري من جهة والنفوذ الأمريكي من جهة<br />
أخرى حتى واجه لبنان حرباً أهلية عام أودت بكميل شمعون، وجاءت بالشهابية. وجاءت هذه<br />
الأخيرة لتعكس معادلة الوضع في المنطقة في أواخر الخمسينات لاسيما فيما بين مصر الناصرية<br />
والولايات المتحدة الأمريكية. وما أن اهتزت المعادلة المذآورة اهتزازًا. جوهرياً بعد حرب<br />
حتى سقطت الشهابية لحساب الحلف الثلاثي. وبدأت معادلة ميزان القوى داخل لبنان تتشكل على<br />
أساس المعادلة العربية- الدولية الجديدة. وهي المعادلة التي سمحت بدخول م.ت.ف. إلى لبنان وعقد<br />
1967<br />
.1943<br />
1958<br />
منير شفيق│ نيسان ١٩٩٤<br />
مؤسسة الوفاء
62<br />
ومسيرة<br />
شهداء<br />
اتفاق القاهرة. وفي المقابل آان النفوذ الأمريكي من جهة والخليجي والعراقي من جهة أخرى يتعاظم<br />
فيه، على حساب مصر وسوريا. ولكن ما أن اندلعت حرب تشرين وما تحقق فيها من إنجاز ازداد<br />
موقع آل من مصر وفتح وسورياً في معادلة ميزان القوى، آما أن الاتحاد السوفياتي، راح يضغط<br />
لتعزيز موقعه أو قوته في المشرق العربي بعد أن أخذ موقعه يضعف في مصر. الأمر الذي أدخل<br />
لبنان في حرب أهلية طويلة الأمد. وآان السبب في طول أمدها أن التوازن الرجراج في معادلة<br />
ميزان القوى العربي والدولي (والإسرائيلي طبعاً) ما بين نيسان 1975 إلى اتفاق الطائف ما<br />
آان ليتيح أن تبنى ترآيبة داخلية جديدة لدولة لبنان وإنما آانت تدفع باتجاه استمرار الحروب الداخلية<br />
فيه. فقد آانت تلك المعادلة تسمح لكل طرف رئيس أن يقول، لا، ويخرّب أي اتفاق لإعادة ترآيبه.<br />
وما آانت الأطراف الرئيسة أو بعضها في وضع القادر على فرض معادلة جديدة للدولة. وهذا ما بدأ<br />
يتغير مع معادلة اتفاق الطائف ثم معادلة حرب الخليج الثانية ومن ثم هذا ما سمح ببناء دولة موحدة<br />
في لبنان وأقام معادلة جديدة. وأن هذا القانون هو ما يجعل لبنان معرضاً للاهتزاز مرة أخرى إذا ما<br />
اهتزت معادلة ميزان القوى المذآورة.<br />
1990<br />
بكلمة أخرى، أن آل من يعمل في لبنان عليه أن يدرس الوضع من خلال معادلة الخارج، إذ أن آل<br />
ما ينشأ في داخله، من صراعات واشتباآات وحروب، واغتيالات أو أزمات سياسية وتظاهرات<br />
وإضرابات، أو سقوط حكومات أو تغيير للرئاسة، يمر من خلال معادلة الخارج، ومن ثم لا بد<br />
للمتعاطي والشأن اللبناني من أن يجتهد في التقاط الدوافع أو العوامل الخارجية الدافعة إلى ذلك.<br />
من هنا آان خط أبي حسن وسعد وحمدي وإخوانهم، يميل باستمرار إلى أن يتجنب قدر الإمكان<br />
التورط في صراعات لا يكون هدفها محاربة العدو، وإنما صراعات عربية عربية أو داخلية<br />
قطرية. وآان هدفهم من أية مشارآة في الصراعات داخل اللبنان أن تكون بهدف التوجه إلى مقاتلة<br />
العدو، أو التهيئة إلى ذلك أو رفع العقبات التي تحول دونه. فقد شارآوا في الحرب الأهلية بعد حادثة<br />
عين الرمانة مكرهين.<br />
-<br />
وما آانوا يريدون المشارآة أآثر من أن تكون دفاعية ومؤقتة وسريعة وألا تصبح تورطاً ومن ثم<br />
تضعف الترآيز على العدو الصهيوني. وما آان من مسوغ يسمح بتلك المشارآة غير حماية الوضع<br />
الذي يسمح بإبقاء المواجهة والمقاومة ضد العدو الصهيوني، وغير ردع التوجهات المستجيبة<br />
لضغوط أمريكا أو الجيش الإسرائيلي في ضرب المقاومة وتصفيتها.<br />
ويجب أن يلاحظ هنا أن سياسة عدم التورط في الصراعات اللبنانية - اللبنانية أو الصراعات العربية<br />
- العربية أو صراعات الحرب الباردة بين السوفيات والأمريكان آان يمثل خطاً أساسياً لأبي حسن<br />
وحمدي وسعد وأبي خالد وإخوانهم. وآان التورط لهذا الحد أو ذاك محصوراً بالدفاع عن وجود<br />
الثورة الفلسطينية. وآان المسوغ لهذا التورط حيثما وقع هو استخدامه لاستمرار مقاومة العدو<br />
الصهيوني. هذا إلى جانب الدفاع عن الجماهير الفلسطينية واللبنانية حيثماً آانت تتعرض لهجمات<br />
الإبادة الطائفية، أو الاعتداء عليها، ولكن في آل الأحوال آان الهدف فلسطين وآان خط التعبئة هو<br />
باتجاه فلسطين.<br />
منير شفيق│ نيسان ١٩٩٤<br />
مؤسسة الوفاء
63<br />
ومسيرة<br />
شهداء<br />
أماً من جهة أخرى، فقد آان الإدراك المعمق للوضع اللبناني يسمح لأبي حسن وحمدي ومروان<br />
وسعد وأبي خالد جورج وإخوانهم أن يمسكوا بالقوانين التي تحكم لعبة الصراع فيه. ومن ثم أدرآوا<br />
سلفاً أن آل شي ء يبنى هناك يبنى على رمال فهو يقوم في ظل ميزان قوى محدد خارجه. ويذهب<br />
وفقاً لميزان قوى محدد ترسم ملامحه الأساسية خارجه آذلك.<br />
ومن ثم فإن من الحكمة أن تدار السياسة في لبنان وفقاً لميزان القوى الذي تتشكل من حوله، فتحسب<br />
حساباً دقيقاً جدا، والتي يجب ألا يقع خطأ فيها وإلا آان الثمن غال. لأن الدم تسهل إراقته فيه،<br />
والرؤوس "يطيب" قطافها هناك.<br />
منير شفيق│ نيسان ١٩٩٤<br />
مؤسسة الوفاء
64<br />
ومسيرة<br />
شهداء<br />
<br />
<
65<br />
ومسيرة<br />
شهداء<br />
<
66<br />
ومسيرة<br />
شهداء<br />
المساعد" في المعادلات الكيمائية أي ألا نكون طرفاً في المعادلة وإنما "طرف" في المساعدة لبناء<br />
معادلة ايجابية أو الحفز عليها. أي العمل مع الأطراف المختلفة ذات النزعات أو السياسات التي تعتبر<br />
إيجابية من أجل تشجيعها ودفعها إلى أمام فتحاوياً وفلسطينياً ولبنانياً أولاً، وعربياً ثانياً وإقليمياً ودولياً<br />
ثالثاً. فالمطلوب أن يكون التيار داخل فتح عاملاً مساعدًا. على الوحدة، وفي المحافظة على المنطلقات<br />
والمبادئ، وفي دفع محصلة الكفاح ضد العدو، وفي تشجيع الاستقلالية والقيم الفتحاوية الثورية<br />
والمناقبية الأخلاقية الحميدة. وفي طرح سياسات بديلة حيثما آان ثمة خلل في السياسات الرسمية، أي<br />
تقديم آل من يعمل بهذا أو ذاك من هذه الجوانب إلى أمام، ولو على حساب الأخوة ومواقعهم<br />
ونضالهم وتضحياتهم.<br />
آانت هذه المنهجية فعّالة جداً في تحشيد قوى آثيرة بالاتجاه الصحيح وآانت فعّالة في تحقيق ما<br />
يوضع من أهداف جزئية. ولكنها آانت قليلة المردود على نفوذ التيار أو أفراده أو شهرته أو دوره<br />
الخاص لأن الذين آانوا يدفعون إلى أمام آثيراً ما آان أغلبهم يجيّر المردود لنفسه أو جماعته. وآان<br />
البعض بعد حين يدير ظهره، إن لم ينقلب على الأخوة المعنيين في التيار. لقد حدث هذا في الساحة<br />
اللبنانية والساحة الفلسطينية وفي ساحات أخرى. وقد حدث خلال السبعينات آما حدث مع تجربة<br />
العمل مع بعض القوى الجهادية الإسلامية فيما بعد.<br />
آانت المقولات التي آانت تدعم هذه المنهجية تقول: المهم المبادئ، المهم الأهداف والثورة والشعب،<br />
المهم النتائج الإيجابية على الأرض في تحقق الأهداف وانجاز المهمات المحددة، وليس مهماً من<br />
يقطف ثمرات الثورة أو السمعة أو النفوذ، أو المكاسب المادية. وليكن ديدننا، "أن نكون الجنود<br />
المجهولين"، وقد أصبحت هذه المقولات بعد الوقوف على أرض الإسلام ذات معنى عندما أصبح<br />
التيار يتأمل مفهوم "العمل في سبيل االله" أو "العمل لوجه االله" وأبعاده. وقد أصبح هذا المفهوم يعطي<br />
راحة للأخوة من ذلك القلق الذي آان يساورهم في السابق من منهجية التمسك بالمثل والقيم والمبادئ<br />
ومفاهيم التجرد عن المصلحة الخاصة من أجل الثورة والشعب والأهداف. ثم يرون غيرهم يقطفون<br />
الثمار بينما هم آانوا أآثر من أعطى وجاهد وتفانى في العمل ودفع الدم، وبلا مردود على المستوى<br />
الذاتي. أما الآن فقد أصبح هذا التفاني له الجزاء الأآبر عند رب العالمين ولو لم ينل صاحبه نصيباً<br />
من الدنيا.<br />
لقد أسهمت هذه المنهجية حين وجدت أرضها الخصبة في القرآن والسُنة دوراً فعالاً عند التعامل في<br />
الساحة الإسلامية من أجل إطلاق الجهاد الإسلامي في فلسطين، فهي من جهة أشعرت الآخرين<br />
بالاطمئنان أن وراء أبي جسن وحمدي. وإخوانهما مشروعاً في سبيل االله فعلاً، وليس مشروعاً خاصاً<br />
بهم ليصبحوا طرفاً أو تنظيماً مقابلاً ينافس على الزعامة والقيادة أو رآوب الموجة. فقد آان يهمهم<br />
أن تُجمّع القوى والإمكانات. وأن يتقدم آل من يستطيع أن يتقدم مدعوماً مشجعاً. وراحت التعبئة<br />
الفكرية تشدد على الابتعاد عن لعبة الفصائل الفلسطينية العلمانية التي وقعت بالفئوية الضيقة،<br />
واستخدمت العمليات المسلحة سلماً لتقوية التنظيم والفئة.<br />
ولكن آان هنالك دائماً في الساحة الإسلامية آما في الساحة الفتحاوية والقومية من ذاتيته أو فئويته،<br />
أو سعيه للمكاسب المادية الضيقة، أو الثورة أو السلطة أو النفوذ، هو المتغلب على الهدف والمبادئ،<br />
والقيم، أو على مبدأ "العمل في سبيل االله أو لوجه االله". الأمر الذي عرّض أبا حسن وحمدي<br />
منير شفيق│ نيسان ١٩٩٤<br />
مؤسسة الوفاء
67<br />
ومسيرة<br />
شهداء<br />
وإخوانهما مرة، فمرة، إلى ما آابدوه دائماً من إغماط لدورهم وانتهاباً لجهدهم (حتى بعد<br />
استشهادهما). وهو ما آان يضعهم عند آل تجربة من هذا النوع أمام خيار إما الانكفاء عن هذا النهج<br />
الناجح من ناحية العمل وتحقيق الأهداف، والفاشل من ناحية المكاسب الذاتية وإما الاستمرار فيه،<br />
وهو ما آان يحتاج إلى قوة روحية هائلة، وبعد نظر ثاقب، حتى يكون مستعداً مرة أخرى لمصير<br />
مماثل: اغماطاً لدوره، وانتهاباً. لعمله.<br />
ولهذا عندما آانت ترتفع بعض الأصوات تجأر بالاحتجاج على هذا الجانب من جوانب الخط آان<br />
جواب أبي حسن وحمدي دائماً. :المهم ماذا تحقق على الأرض، وفي الواقع، فإذا آان الهدف<br />
المنشود، على صغره أو آبره، قد تحقق فذلكم هو المطوب، أما ما عدا ذلك فهو حطام لا تعبأوا به،<br />
مهما آان مجحفاً. فواصلوا العمل بهذه الروحية، ولا تبحثوا عن مكاسب آما يبحث البعض.<br />
في الحقيقة آان هذا النهج يشكل جوهراً في بنية ذلك التيار وعقليته، وما آان من الممكن ان يتغير،<br />
مهما تكررت خيبات الأمل، وعلا الاحتجاج ولو شمل الأغلبية. لأن تغييره يعني القيام ببناء شيء<br />
آخر مختلف تماماً له سماته المختلفة.<br />
وبالمناسبة تأثر التيار منذ بداياته بالنظرية الأولى التي آانت وراء تجربة المرابطين في المغرب، أي<br />
فكرة سد الثغور. فأينما وُجد ثغر معرض للهجوم أو السقوط من جانب العدو وآان ينقصه من يذهب<br />
للوقوف عليه أو لتدعيم الواقفين عليه، يجب أن يصار إلى التوجه هناك. لقد آانت الروح المثالية في<br />
بداية تشكل حرآة المرابطين في المغرب ونهجيتهم في الهجرة إلى الثغور قد أثرت تأثيراً خاصاً في<br />
التيار وطبعت جانباً هاماً من منهجيته. وهو مثل آخر على المنهجية الأصيلة الاستقلالية التي تعاطى<br />
بها التيار والتاريخ العربي والنظرية المارآسية في ذلك الحين.<br />
منير شفيق│ نيسان ١٩٩٤<br />
مؤسسة الوفاء
68<br />
ومسيرة<br />
شهداء<br />
>Ù^jÏÖ]
69<br />
ومسيرة<br />
شهداء<br />
-8<br />
-9<br />
-12<br />
6- نقد النواقص والسلبيات والأخطاء "ضرورة إنماء روحية تقويم العمل والتجارب والتشجيع على<br />
روح النقد بأخوية ونزاهة وحرية وتعميق البحث عن الحقيقة".<br />
7- التخلص من العادات السيئة: "محاربة الاتجاه الذي يعتبر أن عاداته يجب ألا تتغير ومن ثم علينا<br />
أن نسعى لامتلاك القدرة على الحساب العادات الأفضل في آل المجالات".<br />
لنقض على نزعة التذمر: "هنالك نزعة واسعة الانتشار تتسم بالتذمر المستمر من آل شيء<br />
،وهدم الرضا بما عندك أو بما أنت عليه، وتجعلك تظهر التأفف من الشعب والناس البسطاء وإلى<br />
غير ذلك، الأمر الذي يقضي بضرورة التخلص من نزعة التذمر فينا". أو في الأصح "وإما بنعمة<br />
ربك فحدث".<br />
نزعة الأستذة والوصاية: "أبعد عنه نزعة الأستذة والوصاية فيما بين صفوف الأخوة أو مع<br />
الآخرين، فلا بد من التواضع مهما امتلكنا من معرفة وتفوق نظري أو فكري أو عملي".<br />
10- البحث عن الانسجام المزاجي: "هنالك أخوة يميزون فيما بينهم وفي علاقاتهم ببعضهم بعضاً أو<br />
بالآخرين وفقاً للمزاج، بدلاً من تغليب روح العمل والتعاون والانفتاح والصبر".<br />
11- لنقض على نزعة الانفلات والاستخفاف بالنظام والانضباط:"إن الخط الفكري الصحيح ينطلق<br />
من إعطاء الديمقراطية محتوى يقوم على أساس التمسك بالديمقراطية التي يجب أن تتحلى، إلى<br />
جانب تحليها بحرية الفكر والنقد، بقيم الاتحاد والانضباط والنظام والعمل الموحد".<br />
خطان في مواجهة المسؤولية: "خط يراه موقعاً يعطي صاحبه سطوة ونفوذاً ومنافع خاصة<br />
وامتيازات ومكاسب، وآخر وهو الصحيح يعاملها باعتبارها موقعاً يتيح للمرء أن يقدم خدمة أآبر<br />
ويضحي أآثر فلا يتسلط ولا يتجبر ولا يتكبر".<br />
13- التعلم من الأشياء البسيطة وممن هم دوننا في المسؤولية.<br />
.(<br />
14- الصدق والصراحة في التعامل فيما بين الأخوة (المهم التطبيق والترجمة الصحيحة ولكن يجب<br />
أن يشحن الصدق والصراحة بالأخوة الدافئة والمحبة).<br />
15- رفع مستوى التحمل والصبر ومعالجة مشكلة تأخر البديل (البديل المقصود هنا هو الذي يجيء<br />
ليقوم مقام مقاتل آخر في الموقع<br />
16- مراعاة الإصابة والمرض. وقد آتبت هذه الموضوعة بحق الشهيدين حمدي وعلي أبي طوق<br />
اللذين غادرا الفراش قبل أن تشفى إصابتهما، الأول في صدره والثاني في ساقه، ليعودا إلى الموقع. )<br />
فكان المطلوب محاربة نزعة الاستهتار بفترة العلاج الضرورية ولو آان الدافع هو العمل والعطاء).<br />
وبالمناسبة لم يتخلص الشهيدان حمدي وعلي أبو طوق وغيرهما، من هذه النزعة، على الرغم من<br />
تسليمهما بها. الأمر الذي آان يتطلب تشديداً أآبر عليها.<br />
منير شفيق│ نيسان ١٩٩٤<br />
مؤسسة الوفاء
70<br />
ومسيرة<br />
شهداء<br />
17- نقل الحدث آما هو دون مبالغة (وقد آتبت من أجل محاربة المبالغة في نقل الأخبار والأحداث<br />
من أجل تعلم الدقة المتنافية لكي يحسن اتخاذ القرارات<br />
.(<br />
)<br />
آتبت ضد نزعة التباهي، في الشوارع أو أمام الأهل والأصحاب، بحمل<br />
18- السلاح لقتال العدو في<br />
في لبنان، آما سبق وسادت قبل أيلول السلاح وقد سادت هذه النزعة بعد نيسان الأردن).<br />
1970<br />
1975<br />
)<br />
-19<br />
المحافظة على ما في أيدينا آتبت ضد نزعة الاستهتار في استخدام ما هو أملاك عامة مثل<br />
السيارات أو الكتب والأثاث..والسعي الدائم للصيانة والرعاية).<br />
20- التغلب على الصعوبات.<br />
اقتحامها وتذليلها.<br />
أي التشرب بروحية مواجهة الصعوبات مهما آبرت، وإذآاء روحية<br />
-21<br />
-22<br />
نذهب حيث المهمات أصعب: "إن الأعمال داخل الوضع الواحد متفاوتة من جهة سهولتها<br />
وصعوبتها، فالموقف الأفضل هو أن تختار لنفسك الأصعب والأخطر بدلاً من أن تختار ما هو أسهل<br />
وتترك لأخيك الأصعب أو الأخطر".<br />
نقتل ونتحرك بما هو في أيدينا (آان الأخوة يعانون دائماً من نقص بالأسلحة والآليات<br />
والإمكانات وآانت هنالك محاربة لهم إلى حد جعلهم يستخدمون، في الغالب، أنواعاً قديمة أو تعبة.<br />
الأمر الذي آان يثير تذمراً من قبل البعض، وأحيانا يؤدي إلى انسحابهم بسبب ذلك، ولهذا رفع شعار<br />
يجب علينا أن نستخدم ما هو متوفر في أيدينا على أحسن وجه، وعدم اشتراط الأفضل لكي ننخرط<br />
في العمل أو نتقنه).<br />
23- مواجهة سقوط الشهداء آتبت أثر سقوط عدد من الشهداء الذين ساهموا في تأسيس الخط وقيادته<br />
وعلى فترات متقاربة مما ولّد إحساساً عند البعض بالتشاؤم واقتراب نهايته، بينما حثت الموضوعة<br />
على أن الموقف الصحيح لا يكون بالتشاؤم وإنما بأخذ مكانهم ومواصلة طريقهم.<br />
أما الفصل الثاني من الكتاب فقد تناول المنهاج والسياسة مرآزاً على<br />
:<br />
:<br />
-1<br />
الخط السياسي والتماسك: أآد على أهمية الخط السياسي الصحيح المتماسك وأهمية التحليل<br />
الصحيح للوضع العام ولميزان القوى مع موقف مبدئي يحمل أآبر درجة من الثبات : "إن المبادئ<br />
ليست شيئاً مؤجلاً، آما أن الإستراتيجية ليست مسألة بعيدة قائمة بذاتها لا علاقة لها بالتكتيك اليومي.<br />
فالمبادئ والإستراتيجية يجب أن تظلا حاضرتين في التكتيك دائماً وفي آل المراحل وفي آل يوم<br />
"ويترجم هذا من خلال الخط السياسي الصحيح والخط الفكري الصحيح".<br />
2- ليس السلاح هو العامل الحاسم جاءت رداً على الرأي الذي يعطي الأولوية لتوفر السلاح والمال<br />
لكسب الأنصار بينما الأولوية "يجب أن تبقي، على أهمية السلاح والإمكانات والعدد، للخط السياسي<br />
الصحيح والخط الفكري الصحيح".<br />
منير شفيق│ نيسان ١٩٩٤<br />
مؤسسة الوفاء
71<br />
ومسيرة<br />
شهداء<br />
-<br />
-<br />
-4<br />
-5<br />
-7<br />
3- لا تستهتر بالعدو تكتيكياً: "إذا آان الانتصار سيكون في النهاية من نصيب الأمة فلا يجب اعتبار<br />
نفسك في حالة انتصار الآن فتستهتر بالعدو وقوته".<br />
ضد سياسة هجوم هجوم، وتقدم تقدم: وهي رد على نزعة مزايدة تقدس الهجوم والتقدم<br />
وتريدهما أن يبقيا مستمرين حتى حين تكون هناك ضرورة للتوقف والتقاط الأنفاس أو التخلي حتى<br />
عن بعض المواقع، "الهجوم والدفاع يشكلان وحدة الضدين اللذين يتحول الواحد منهما إلى الآخر".<br />
لتنطبق أفكارنا على الواقع: "وهي ضرورة أن نمسك بالحقيقة آما هي، وندرك الواقع آما<br />
هو،ونجعل ممارستنا واقعية ،وخطنا السياسي منطبقاً على إمكانات الواقع، لاسيما، في معالجة<br />
المعضلات والمشاآل والتحديات، أي اآتشاف القوانين الأدق في ممارسة المواجهة والعمل".<br />
6- حول المساومة: "وهي موضوعة ترد على الاتجاه اليسراوي الذي يرفض سلفاً آل مساومة مع<br />
القوى التقليدية أو على مستوى الأزمة اللبنانية، بينما يفترض الخط الصحيح أن نعرف متى تُرفض<br />
المساومة ومتى يُقبل بها".<br />
آل صراع متعرج: وهي موضوعة ترد على الذين لا يحتملون التراجعات أو الانتكاسات<br />
ويريدون التقدم دائماً علماً أن ما من تقدم يمكن أن يمضي إلا عبر خط متعرج يمر عبر النجاح<br />
والإخفاق، مرة بعد مرة، آما عبر الظروف المؤاتية والظروف غير المؤاتية.<br />
8- الظروف المؤاتية، والظروف غير المؤاتية.<br />
تقديراً صحيحاً للموقف وحسن إدارة للصراع.<br />
إن آلاً من الظروف المؤاتية وغير المؤاتية تتطلبان<br />
9- لكل عمل وجه رئيسي: "إذا آانت آل ظاهرة وآل عمل يتشكل من عدة أوجه وجوانب فإن من<br />
الخطأ معاملة الجوانب جميعاً آأنها متساوية وعدم إدراك الرئيس والثانوي فيها وأن وضع آل<br />
الأوجه والعوامل على قدم المساواة أو محاولة إعطاء آل منها قدراً مساوياً للآخر في المعالجة،<br />
يشكل نظرة تسطيحية ويؤدي إلى ممارسة تبسيطية متخبطة".<br />
10- الحرب لها قوانينها والسياسة لها قوانينها:"ضرورة التعامل والحرب وفقاً لقوانينها والسياسة<br />
ووفقاً لقوانينها. أما الخلط، وإن تشابهت بعض القوانين بينهما، فيؤدي إلى ارتكاب الأخطاء الفادحة".<br />
أما الفصل الثالث والأخير فيتناول أساليب العمل والتنظيم مرآزاً على<br />
:<br />
1- العمل الأفقي والترآيز: وهو دعوة للاهتمام المرآّز في العمق، بالفرد وإعطائه الوقت الكافي<br />
وتجنب أسلوب التعبئة العامة السطحية، وهذا ينطبق على عدة مجالات آذلك أي ضرورة الترآيز<br />
وعدم "الشلفقة"؟ أو الألشقة.<br />
2- حول الاجتماع التنظيمي في فتح: "وهو ضد نزعة الرتابة والتعامل والموضوع بحرفية وشكلية<br />
أو آأنه غاية، بينما الأصح أن يرآن في آل لقاء باعتباره الجسر الذي تعبر النظرية من خلاله إلى<br />
منير شفيق│ نيسان ١٩٩٤<br />
مؤسسة الوفاء
72<br />
ومسيرة<br />
شهداء<br />
الممارسة ثم تعبر الممارسة من خلاله بعد تقويمها، إلى النظرية.<br />
السياسة والنظرية والعمل.<br />
أي يجب أن يكون بحثاً حياً في<br />
3- المتابعة وعدم الإهمال: "إن المتابعة وعدم الإهمال هما جوهر آل عمل جاد ومنظم<br />
عدم التقليل من أهمية القيام بالأعمال الصغيرة والبسيطة".<br />
"وضرورة<br />
:<br />
:<br />
:<br />
:<br />
-7<br />
4- الرآض وراء الكسب السريع: وهي موضوعة ضد الذين يسارعون للارتقاء أو الكسب السريع<br />
وجني الثمرات. "فالخط الفكري الصحيح يتطلب أن يحمله المقاتلون الحقيقيون الذين لا يدعون ولا<br />
يبالغون ولا يسعون إلى الكسب الرخيص وإنما يلتزمون بقول الصدق و الحقيقة ويزدادون تواضعاً<br />
آلما ازدادت مآثرهم ولايدخلون المنافسة مع خط الكذب والمبالغة أي بالترويج للنفس والمبالغة<br />
والادعاء، وإنما عليهم أن يستمروا في العمل الحقيقي الجاد بكل تواضع ودون ضجيج، وينتظروا في<br />
صبر انكشاف الحقيقة حتى ولو استغرق ذلك بعض الوقت، ولو عضوا على الجرح طويلاً. فهم على<br />
آل حال لا يرجون غير خدمة الشعب وانتصار ثورة الشعب. الشعب الذي هو وحده البطل الحقيقي".<br />
5- لكل جواد آبوة هي موضوعة لتكريس المحبة بين الأخوة ومقاومة روح "الاستشفاء" أو روح<br />
الشماتة بالأخ الذي يضعف أو يرتكب خطأ أو يتقاعس. فالمطلوب اعتبار ذلك مثل الكبوة واعتبار<br />
المخطئ، مثل الجواد الذي يجب أن يساعد على النهوض من الكبوة.<br />
6- لنهتم بالدراسة تتناول هذه الموضوعة أن يبقى الاهتمام بالسياسة والدراسات النظرية والفكرية<br />
مستمراً في ظل الفرق في الممارسة. وعدم جعل الممارسة سبباً لإهمال التعلم المستمر والدراسة<br />
والاطلاع.<br />
برامج التثقيف وهي موضوعة تتطلب أن ترتبط برامج التربية والتثقيف بحاجة الممارسة<br />
والمهمات التي يطلع بها الأخوة في آل مرحلة إلى جانب برامج التثقيف العامة.<br />
8- ضرورة إجراء التحقيقات: أي ضرورة التعلم ألا يؤخذ شيء بلا تدقيق وتأآد، سواء أجاء ذلك من<br />
خصوم أصدقاء، أم من قبل من تحب وتحترم وتثق به. آما يجب ألا يحكم على ظاهرة أو تعالج قبل<br />
جمع المعلومات وإجراء التحقيقات اللازمة من أجل الخروج بالرأي الصحيح لمعالجة صحيحة.<br />
9- آيف نجري التقويم إذا آان الجميع متفقاً على موضوعة ضرورة إجراء التقويم فإن الإشكالية<br />
تبقى آيف يجري التقويم؟ وبأية منهجية نصل إلى تقويم صحيح. أي ضرورة الدراسة الدقيقة للواقع<br />
والمعطيات أولاً ثم يقوم العمل ثانياً. فالتقويم بلا منهجية صحيحة ينتهي إلى نتائج مخطئة ومضرّة.<br />
10- توضيح المهمة : "لقد تعلمنا من تجربتنا في هذه الحرب الأهلية إن من الخطأ تحريك المناضلين<br />
والمقاتلين بأسلوب الالتزام وإصدار الأوامر، أو بأسلوب التخجيل والإحراج آذلك. إنه من الخطأ<br />
تكليفهم بمهمة من المهمات دون أن تشرح لهم أهميتها من الناحيتين السياسية والعسكرية أو دون<br />
توضيح طبيعتها وما ينتظرهم في أثناء تنفيذها".<br />
منير شفيق│ نيسان ١٩٩٤<br />
مؤسسة الوفاء
73<br />
ومسيرة<br />
شهداء<br />
هذه خلاصة سريعة خاطفة لواحد من النتاج الفكري والنظري الذي أسهم أبو حسن وسعد وأبو خالد<br />
جورج وحمدي وأبو محمود وعلي أبو طوق ومروان نسيم أبو سعيد فايز وعشرات الشهداء في<br />
صياغتها ومعايشة أحداثها ومناقشاتها حرفاً حرفاً والإشراف على التعبئة وفقاً لها. ولعل من يتأمل في<br />
هذا النص وعلى الرغم مما في متنه الأصلي من منهجية طبقية مارآسية يستطيع أن يلمس عمق<br />
انغراس منطلقات فتح وتجربتها الثورية فيه آما عمّق انغراس قيم أخلاقية دينية فيه آذلك. الأمر الذي<br />
يعطي تفسيراً للمسار الذي آل بأهل هذا التيار في نهاية المطاف إلى التخلي عن المارآسية والوقوف<br />
على الأرض الإسلامية. فالمنهجية المارآسية آانت هنا تحت تصرف التيار خاضعة للتجربة الواقعية<br />
ولروح الشعب والثورة والقيم الأخلاقية والسلوآيات الحميدة ومنهجية البحث الموضوعي العلمي ولم<br />
يكن خاضعاً لها ناقلاً لمسلماتها. وآانت هنالك أسس من الثوابت القيمية والأخلاقية في هذا النص<br />
تلتقي وما يقول الإسلام في موضوعاتها وإن لم ترتكز إلى الإسلام عند آتابتها. فكان هذا أيضاً من<br />
العوامل التي جعلت الوقوف، فيما بعد، على الأرض الإسلامية سهلاً ميسوراً لا يحتاج إلى معاناة<br />
للتخلص من مسلكيات وأخلاقيات مرذولة حتى يكون بالإمكان التحلي بالأخلاقيات والمسلكيات<br />
الإسلامية. فلم يكن هذا التيار غريباً عن قيم الصدق والمبدئية والاستقامة والإخلاص للحقيقة، والوفاء<br />
بالعهد، والشجاعة في قول الحق، وفي البحث عن الحقيقة. فقد آان هذا التيار بعيداً عن الانتهازية<br />
السياسية، أو الرآض وراء المكاسب الشخصية، أو تعاطي الخمر والزنا والميسر أو عدم البر<br />
بالوالدين، أو احترام الأآبر سناً أو رعاية الأهل، أو التحلي بالتواضع والكرم وحب التعلم، والغيرة<br />
على الشعب والأوطان. أما الإشكال الحقيقي في تلك التجربة بالنسبة إلى المعيار الإسلامي فكان<br />
يتمثل بالجوانب العقدية والفلسفية والنظرية والفكرية وآل ما له علاقة بالمادية التاريخية والمادية<br />
الديالكتيكية، والاشتراآية العلمية، والنظرة إلى الغرب والثورة الصناعية وحرآات التحرر القومي،<br />
والثورة العالمية. وهي ولا شك خطيرة، ولا يمكن الاستهانة بها أو التقليل من شأنها. وأن أمثالها تمنع<br />
الكثيرين حتى هذه اللحظة من الاقتراب من الإسلام. ولكن سبق أن أشير إلى أهمية الجانب المنهجي<br />
عند أبي حسن وحمدي وإخوانهما ودوره في عملية هذا التحول الكبير. فقد اتبع ومنذ البدء، منهجاً<br />
وضع المارآسية على محك التجربة والمساءلة على مستوى التجربة العالمية والتاريخية، لاسيما<br />
بالنسبة إلى بلدان أسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، وخصوصاً التجربة العربية التاريخية. وهو الذي<br />
مهد الطريق إلى النقد وإلى التخلص خطوة فخطوة من مختلف مرتكزات النظرية المارآسية. ولم يبدأ<br />
أبو حسن وحمدي وإخوانهما، آما سبقت الإشارة إليه، يطرقون باب الإسلام ليفتح لهم إلا بعد أن<br />
آانوا متحررين تماماً أو يكادون من ذلك الإرث. وآانوا في طريقهم إلى توليد مرتكزات نظرية<br />
وفكرية من اجتهادهم.<br />
< ìfl†¢]
74<br />
ومسيرة<br />
شهداء<br />
المناسب الذي تضع الحصوة فيه نفسها. وهنا آانت إشكالية حسن تقدير الموقف وتحديد مرآز الثقل<br />
في المواجهة والتجرؤ على الوجود فيه يشكل الشرط الأساسي بالنسبة إلى نجاح هذا المنهاج وفعاليته.<br />
ولهذا فإن من يراجع سيرة هذا التيار فسيجده قد سعى دائماَ إلى أن يكون حصوة في الموقع المناسب،<br />
ففي أيار1973 آان أبو حسن يقود في موقع الجامعة العربية أو "دوار الكولا" حيث تصدى هو<br />
وزميل أخر له (غيفارا) لأول دبابة تقدمت من دوار الكولا باتجاه الجامعة العربية وآان من ورائها<br />
رتل من الدبابات يتبعها.<br />
وقد أوقف الهجوم مع تحطمها. فكانت تلك النقطة، إلى جانب غيرها من الجهود في تلك الأزمة،<br />
حاسمة في إنهائها وفي المساهمة في حماية الثورة. وآان موقع أبي حسن وسعد في البرجاوي في<br />
المنتصف الثاني من عام عاملاً هاماً إلى جانب مواقع أخرى في تماسك جبهة بيروت<br />
وصمودها، لاسيما أمام شبح ما حدث في منطقة عين الرمانة وفي منطقة النبعة والكرنتينا. وآان<br />
الصعود بعد ذلك إلى الجبل فصنين يهدف إلى حماية تل الزعتر من التصفية. وهنا يجب أن تذآر<br />
دماء الشهداء سعد وأبي خالد (جورج عسل) وحسن ومحمود الحسنية ونسيم أبو سعيد وزهير<br />
العنداري ومحمد شبارو وطوني النمس وأحمد وجمال القرى وحماد حيدر وأيمن أبو عبداالله،<br />
وحسنين، وحرب جمجوم الذين ما استشهدوا إلا بهدف وقف المجازر والتصفية والتطهير الطائفي<br />
للمناطق، وآان الهدف فتح جبهة أو ممارسة الضغط لإنقاذ مخيم تل الزعتر من الإبادة آما حدث في<br />
الكارنتينا والنبعة ومخيم ضبية فكان هذا هو الهدف بالنسبة إلى موقف التيار من الوجود في الجبل<br />
وصنين وقد نجح هذا الضغط جزئياً في تدعيم صمود تل الزعتر، ولكن آان الأفق السياسي المكمل<br />
مسدوداً أو محبطاً بسبب قرار العزل والتأزيم غير المتوازن مع سوريا ويجدر أن يذآر هنا الدور<br />
الاستثنائي الذي لعبه أبو وجيه أمين العنداري في اختراق الحصار ليلياً عبر طريق في الجبل<br />
والوادي من العبادية إلى تل الزعتر.، آان يتسم بصعوبة ما آان لأحد أن يجتازها إلا تحت قيادته<br />
الفذة، وقد استشهد بعد ذلك بسنتين في حرب في معرآة مارون الراس ببنت جبيل، وقد أبلى<br />
بها خير بلاء.<br />
1978<br />
1975<br />
10<br />
وبالمناسبة لا بد من أن يشار هنا إلى واقعة آادت تحدث أزمة عميقة داخل فتح وذلك حين آان قائد<br />
المجموعة التي أفرزتها السرية الطلابية للمساهمة مع القوات الفلسطينية اللبنانية المشترآة لفتح<br />
طريق الدامور، وذلك لأهميته الحاسمة في ربط بيروت بخطوط التماس في الجنوب. وهو الشهيد أبو<br />
الراتب (اسماعيل خضر) الذي انسحب من القتال بمجموعته التي آانت من أوائل مقتحمي الخط<br />
الأمامي، احتجاجاً على قتل الأسرى، بما في ذلك الأطفال والنساء، وأبلغ القيادة الميدانية أنه<br />
سينسحب إذا لم تعط أوامر صارمة بوقف قتل الأسرى لا سيما من النساء والأطفال والمسنين والعزل<br />
من السلاح. فعاد بمجموعته إلى بيروت على الرغم من تهديده بتقديمه ومجموعته لمحاآمة عسكرية<br />
ميدانية. فاتخذ الشهيد سعد جرادات موقفاً حاسماً في دعمه، وفي الاحتجاج على انتهاج سياسة شبيهة<br />
بسياسة القوات اللبنانية المارونية في التطهير وقتل المدنيين والأسرى. وآان التيار في ذلك مستعداً<br />
للمضي في هذا الصراع الداخلي إلى أبعد مدى ومهما آلف الأمر. ولكن الموضوع لفلف. وعلق<br />
(10)<br />
<br />
.<br />
منير شفيق│ نيسان ١٩٩٤<br />
مؤسسة الوفاء
75<br />
ومسيرة<br />
شهداء<br />
الشهيد أبو أياد لسعد<br />
ضمير فتح".<br />
"إنكم بالرغم من خلافي معكم وربما آرهي لكم أقول أنكم تعبرون بهذا عن<br />
آان أبو حسن ومروان آيالي وعلي أبو طوق وبقية شباب السرية من لبنانيين وفلسطينيين على<br />
مشارف عالية بعد أربعة أيام من القتال في منطقة بحمدون حين أعلن عن اتفاق الرياض بين سوريا<br />
ومنظمة التحرير الفلسطينية. فما آان منهم إلا أن تنفسوا الصعداء خلاصاً من ورطة هذا الصراع<br />
الجانبي الذي ألحق ابلغ الأضرار السياسية والمعنوية ناهيك عن المادية والبشرية، بأطرافه آافة. آما<br />
رحبوا أشد ترحيب منذ اللحظة الأولى بالاتفاق بينما تعالت أصوات تقدميي فتح ونظرائهم اللبنانيين<br />
بإدانته، والبعض راح يهاجم مبادرة السرية الطلابية بالتحرك فوراً بعد إعلان اتفاق الرياض، نحو<br />
الجنوب. وآان الجنوب في ذلك الوقت يتساقط أمام قوات لحد سعد حداد المدعوم من العدو<br />
الإسرائيلي. وبالفعل لقد تحرآت السرية الطلابية حتى قبل أن يصار إلى تثبيت وقف إطلاق النار بين<br />
السوريين والقوات الفلسطينية - اللبنانية باتجاه بنت جبيل التي آانت قد تلقت إنذاراً باحتلالها من قبل<br />
قوات لحد - سعد حداد وقد أثار ذلك لغطاً حول ترآهم للمواقع في تلك الفترة الحرجة بل اتهمهم<br />
البعض بأن ثمة مؤامرة على الشباب الجيد والثوري في السرية الطلابية لقتلهم "بين مطرقة<br />
الإسرائيليين وسندان السوريين" بالحرف الواحد. ولكنهم آانوا بتقديرهم للموقف وحسابهم للمعادلة<br />
في تلك اللحظة الحرجة قد حسموا بأن تلك مرحلة انتهت وبدأت مرحلة المواجهة في الجنوب. هذا<br />
فضلاً عن أن خيار المواجهة في الجنوب أمام زحف القوات الإسرائيلية آان دائماً صحيحاً بل<br />
الأصح.<br />
-<br />
-<br />
ولكن تلك الزوبعة سرعان ما تبخرت من داخل فتح وخارجها ضد أبي حسن وإخوانه بعد أن ثبت<br />
فعلاً أن تلك المرحلة من الحرب قد انتهت وبدأت مرحلة جديدة، لاسيما بعد أن تكرست اتفاقات<br />
الرياض باتفاق القاهرة الذي جاء ضمن الخطوط نفسها.<br />
آان استقرار السرية في بنت جبيل وتلة شلعبون في ذلك الوقت قد لبى عدة حاجات. الأول آان<br />
الوقوف في الموقع الصحيح والمنسجم مع الخط من أساساته. والثاني، الحاجة التي أصبحت ملحة إلى<br />
وقف زحف قوات لحد - سعد حداد. والثالث تطور وضع السرية، على الرغم من نزيفها المستمر،<br />
والذي أسقط درراً من تاجها، إلى آتيبة فكأنما آان االله يبارك لها ويزيدها قوة وعدداً، والأهم رسخت<br />
في أرض الجنوب، وأصبحت جزءاً من تاريخه حتى حرب حزيران 1982.<br />
آان الوجود في ذلك الموقع المناسب والمستند إلى خط سياسي صحيح قد سمح للسرية الطلابية بأن<br />
تتحول إلى هيبة محترفة ضمت إلى قوات العاصفة، وآانت في الواقع، شأنها شأن تكوين هذا التيار<br />
من بداياته، لبنانية فلسطينية في آوادرها القائدة وقواعدها. هذا دون ذآر عشرات ومئات من<br />
المتطوعين العرب وغير العرب الذين آانوا قد شارآوا إخوانهم من خلالها شرف القتال ضد العدو<br />
الصهيوني.<br />
ويجب أن يسجل هنا أن هذا التيار أضاف إلى قوات العاصفة في الجنوب آتيبة انحدرت من الطلاب<br />
وخريجي الجامعات أساساً، في الوقت الذي آانت تلك القوات تعاني من نزيف معاآس في ترك<br />
المواقع القتالية في الجنوب. وبدلاً من أن يرى هذا الخط إيجابياً يعطي ولا يأخذ. ويزيد من قوى فتح<br />
منير شفيق│ نيسان ١٩٩٤<br />
مؤسسة الوفاء
76<br />
ومسيرة<br />
شهداء<br />
ولا ينقص منها أو يخذلها ظل ملاحقاً بالتشكيك والتضييق عليه. وآثيراً ما واجهت آتيبة الجرمق<br />
تقتيراً بالإمكانات المادية وأحياناً حتى بالخبز والتموين. ويجب أن يذآر بهذه المناسبة للشهيد جواد<br />
أبي الشعر الذي آان قائد الأوسط في الجنوب ثم آان قائد الميليشيا في بيروت أنه تعاطف والسرية<br />
الطلابية وهرب لها الكثير من قطع السلاح. وقد آان يمثل بدوره اتجاهاً فتحاوياً آخر سليم الطوية<br />
فعالاً.<br />
ولعل أول مواجهة ثبتت أرآان الكتيبة في بنت جبيل آانت معرآة تلة شلعبون ضد قوات الجيب<br />
العميل ثم معرآة مارون الراس ضد العدو الصهيوني فقد سطرت في هاتين المعرآتين مآثر مشهوداً<br />
لها من أهل المنطقة ومن بعض تعليقات صحف العدو. وأصبحت تلك "الحصوة" بعد هاتين<br />
المعرآتين مهابة سواء أآان ذلك من قوات الجيب العميل أم القوات الإسرائيلية. ولعل السياسات<br />
والمسلكية التي مارستها الكتيبة مع الأهالي من حولها، في بنت جبيل نفسها جعلتها تحاط بالحب<br />
والاحترام حتى من أوساط آانت دائماً ناقمة على المقاومة الفلسطينية أو آانت متألمة منها. فالكتيبة<br />
وهي تتبنى في نهجها خط احترام الجماهير، والدفاع عنها ومساعدتها، وعدم التحول إلى ثقل عليها،<br />
نمت في صفوفها روح احترام الصلاة والصيام في رمضان، واحترام تقاليد الناس فيما يتعلق<br />
بالأخلاق والنظرة إلى المرأة والرجال المسنين. ويكفي شهادة على ذلك أن البعض في الجنوب سمى<br />
آوادرها "بالحسينيين"، وآانت التسمية لافتة للنظر بالنسبة إلى فكر آان يتشرب من المارآسية<br />
والتجارب العالمية أآثر من التجربة الإسلامية التاريخية. ولم تفهم هذه الشهادة بعمقها وأبعادها إلا<br />
فيما بعد، وبأنها فعلاً تستحق من آتيبة الجرمق أن تعتز بها.<br />
12<br />
آان التحرك السريع من الجبل وأخذ المواقع في منطقة بنت جبيل (في أقل من ساعة) قد أربك<br />
خطة سعد حداد وأوقف امتداد الشريط الحدودي، لا سيما بعد أن تلقى هزيمة قاسية في معرآة تلة<br />
شلعبون. الأمر الذي أبقى الجيب العميل مشطوراً إلى قسمين رقعة مرجعيون من جهة وعين ابل<br />
ورميش من جهة ثانية. وأدى لحاق قوات الثورة الفلسطينية بعد ذلك من الجبل وبيروت إلى الجنوب<br />
بعد اتفاق شتورة إلى نشوء وضع جديد تمثل بوجود رقعتين تحت سيطرة قوات سعد حداد (الجيب<br />
العميل) ويقابلها مناطق واسعة تموضعت فيها قوات الثورة الفلسطينية، (آانت هنالك مشارآة لبنانية<br />
بدأت تتسع بعد إغلاق ملف الجبل).<br />
:<br />
-<br />
وقد نشأ إلى جانب خطي المواجهة، حالة رمادية تمثلت بوجود مجموعة من القرى الحدودية، في<br />
وضع حيادي "أرض حرام" لا تتمرآز فيها قوات الثورة، ولا قوات سعد حداد، أو القوات<br />
الإسرائيلية وقد اشتهرت من بينها قرى مارون الراس وميس الجبل وحولا وعيترون وغيرها.<br />
لقد أصبحت هذه القرى الحدودية الحيادية "الأرض الحرام"، في تلك المرحلة، نقطة الصراع<br />
المرآزية في محاولة آل طرف لاجتذاب أهلها إليه. الأمر الذي ولد صراعاً حاداً بين خطين داخل<br />
الثورة الفلسطينية (القوات. المشترآة الفلسطينية اللبنانية). إزاء التعامل وهذه الحالة الجديدة<br />
والمعقدة.<br />
-<br />
تجسد الخط الأول بالسياسات التي اتبعتها السرية الطلابية والتي أصبحت الآن آتيبة الجرمق. وقد<br />
رمى إلى العمل على تعزيز وحدة الأهالي داخل هذه القرى - وحدة العائلات والقوى المتنفذة إلى<br />
منير شفيق│ نيسان ١٩٩٤<br />
مؤسسة الوفاء
77<br />
ومسيرة<br />
شهداء<br />
جانب الشباب المسيس، ومن ثم التصدي لمحاولات سعد حداد لدخولها تصدياً يعتمد على النضال<br />
الجماهيري الواسع المستند إلى إجماع داخلي. وقد افترض هذا الخط أن تعمل قوات الثورة من<br />
الناحية السياسية والاجتماعية والتعبوية على تشجيع هذا التوجه ودعمه، في حين يجب أن يكثف<br />
الاستعداد العسكري لمواجهة قوات سعد حداد أو قوات العدو الصهيوني إذا ما حاولت احتلالها بالقوة.<br />
وسيكون الموقف الجماهيري العام، في هذه الحالة، إلى جانب قوات الثورة ضد الطرف المعتدي<br />
الذي خرق حيادها وأمنها. وقد شهدت بالفعل، قرى الجنوب إشكالا هامة من المقاومة الشعبية<br />
اللاعنفية تمثل في اعتصام الأهالي بمنازلهم أو في مساجدهم وحسينياتهم حين آانت القوات<br />
الإسرائيلية أو قوات سعد حداد تدخل تلك القرى. فتواجه برفض التعاون وإياها بل حتى رفض<br />
الحديث معهم. وقد فقد العدو نتيجة ذلك ورقة هامة، وهي الإفادة من تقسيم الصفوف الداخلية، آما<br />
سمح لقوات الجرمق، بفضل صحة الخط السياسي وحسن المسلك والتصرف بأن تحقق في منطقتها<br />
تفوقاً سياسياً ملموساً عليه. الأمر الذي اضطره في نهاية المطاف إلى احتلال مارون الراس عسكرياً،<br />
وهي قرية مرتفعة ذات موقع استراتيجي بالنسبة إلى آل من جنوبي لبنان وشمالي فلسطين، وآان<br />
يشرف على بنت جبيل ويمسك بخناقها.<br />
وقد فوجئ العدو بتسلل وحدات من الجرمق وراء خطوطه في القرية مع بدء هجوم على عدة نقاط<br />
في الواجهة. الأمر الذي أوقعه في ارتباك فمن جهة لم يتوقع الهجوم ومن جهة لم يتوقع التسلل الذي<br />
راح يشتبك من الداخل وراء الخط الأمامي، فاضطر إلى الانسحاب وقد ترك وراءه أسلحة وآليات<br />
وجثثاً. وازداد إرباآه حين اآتشف أن قوات الجرمق انسحبت من القرية فوراً للمحافظة على حيادها<br />
آما آان يرغب أهلوها الذين أسدوا لها في تلك المعرآة عدة خدمات أساسية، والبعض شارك آذلك.<br />
فقد آانت إعادة احتلالها من قبل قوات العدو تشكل إحراجاً سياسياً شديداً وتبطل آل التعبئة التي آانت<br />
تنشر في الجنوب لتحريض الأهالي على قوات الثورة الفلسطينية، أما الخط الثاني، والذي حوصر<br />
سياسياً من قبل آتيبة الجرمق في منطقة بنت جبيل والمنطقة الرمادية حولها، فكان يتبع سياسات في<br />
تلك القرى ترمي إلى سيطرة الشباب الحزبي من جبهة الأحزاب والقوى التقدمية على القرى<br />
والاصطدام بالقيادات التقليدية والوجهاء والعلماء. ولم يكن بعيداً عن استخدام عضلاته في تحقيق ذلك<br />
من خلال التسلل بالسلاح إلى تلك القرى. مما آان يولد استفزازاً واحتكاآاً داخلياً باستثارة بعض<br />
الحزازات القديمة أو إلقاء التهم جزافاً على هذا وذاك من الوجهاء، وآانت هذه التصرفات غير<br />
حكيمة حتى لو آان في التهمة بعض الصحة. لأن طرح خط صحيح يحرج حتى المتواطئين أما<br />
الاتهامات فقد تستفز عائلاتهم للدفاع عنهم.<br />
لقد آانت حجة هذا الخط تستند إلى ضرورة سيطرة القوات المشترآة عسكرياً على تلك القرى وعدم<br />
ترآها لقمة سائغة للعدو. وقد تصدت آتيبة الجرمق لهذا الخط واعتبرته فقيراً أو سطحياً في تقدير<br />
الموقف العسكري والسياسي وفي جس نبض الناس. الأمر الذي يضع الحب في طاحونة العدو من<br />
حيث يظن أنه الأشد ثورية في مواجهته.<br />
أما من جهة أخرى فقد آان الخط السياسي والمسلكي الذي طبق بالنسبة إلى المناطق الرمادية جزءًا<br />
من خط أشمل طبقته آتيبة الجرمق في الجنوب عموماً، فها هنا، أيضا، تدعّم المسلك الحسن مع<br />
الجماهير بالموقف السياسي الذي انحاز إلى جانب الأهالي والعلماء وحرآة أمل أمام محاولة سيطرة<br />
القوات اللبنانية - الفلسطينية المشترآة التقدمية على قرى الجنوب. فكانت الكتيبة ملجأ ومصدر حماية<br />
منير شفيق│ نيسان ١٩٩٤<br />
مؤسسة الوفاء
78<br />
ومسيرة<br />
شهداء<br />
2<br />
ضد التسلط. وآانت رادعاً، إن لم تكن شاهداً على سياسة مخطئة آان يراد لها أن تمرر بصمت.<br />
وهكذا، تجمّع في الكتيبة أربع مزايا في آن واحد خط سياسي صحيح، وقوة شكيمة وذآاء في القتال<br />
ضد العدو، وحسن مسلك ومعاملة في العلاقة بالناس، ووقوف شجاع ضد سياسة بعض الاتجاهات<br />
اللبنانية والفلسطينية التي حاولت السيطرة بالقوة على الجنوب دون سند شعبي.<br />
1978<br />
لقد اعتبرت معرآة مارون الراس في آذار (مارس) واحدة من الأسباب التي دفعت العدو<br />
لارتكاب مغامرة حرب 1978 لتلعب الكتيبة دوراً ملموساً امتد عبر تكتيك قتالي تراجعي من مارون<br />
الراس حتى نهر الليطاني. وقد استطاعت أن تحافظ على مجموعات استمرت في القتال وراء صفوف<br />
العدو، وتمكنت أن تعود وتلام صفوفها، بسرعة، لتأخذ موقعها في الجنوب هذه المرة في قلعة<br />
الشقيف وما حولها. وإذا آانت قد قامت ما يزيد على أربعين شهيداً ما بين خريف وخريف<br />
فلا بد من أن يذآر، بصورة خاصة، استشهاد أبي خالد الشحيمي وأبي وجيه العنداري في<br />
معارك تلة شلعبون ومارون الراس وذلك للدور الهام الذي لعباه.<br />
1976<br />
1978<br />
إذا آان التموضع في بنت جبيل ومحيطها مرآزاً ونقطة ثقل في المواجهة ضد العدو والجيب العميل<br />
في المرحلة ما قبل اجتياح الجنوب من قبل جيش العدو عام ، فقد أصبحت النبطية ومحيطها<br />
مرآز ثقل هام بعد ذلك، حتى معرآة الاجتياح الثاني في حزيران ، حيث دارت فيها معارك<br />
مشهورة آانت أخرها وأهمها معرآة الشقيف التي استشهد قائدها الشهيد راسم وزميله الشجاع عبد<br />
القادر "اليمني" وعدد آخر من الخيرة. وبالمناسبة آان علي أبو طوق في الحقيقة هو بطل تحصين<br />
قلعة الشقيف وقد جعلها قادرة على استقبال حرب بكل تلك الجدارة. فقد آان الشهيد على أبو<br />
طوق عالي الهمة في أمور التحصين والتدريب وآل ما له علاقة بالعمل الشاق والمضني، فضلاً عن<br />
علو همته في رعاية إخوانه وخدمتهم ليل نهار، إلى جانب شجاعته الفائقة وذآائه الحاد وتصميمه<br />
الحازم في القتال.<br />
1978<br />
1982<br />
1982<br />
11<br />
لقد تجمع في آتيبة الجرمق ثلة من الكوادر السياسية والمتمكنة نظرياً ومنهجياً، وقد اآتسبت، عبر<br />
القتال والدراسة وتقويم التجارب، المهارة التكتيكية والقدرة على التحصين والتخطيط والتمويه<br />
وامتلاك روح المبادرة ومفاجأة العدو، وقد أضافت آل ذلك إلى ما تحلت به من سمات الذآاء<br />
والشجاعة والمبدئية ونكران الذات وحب الجماهير.<br />
ويكفي أن ترى واحدة من ثمرات ذلك في معرآة الشقيف التي، وبشهادة عدد من القيادات العسكرية<br />
في لواء الغولاني، آانت من أقسى المواجهات التي مني بها المهاجمون بأآثر من محاولة فاشلة،<br />
وعل الرغم من قصفها بالطيران قصفاً عنيفاً يفقد الدفاع توازنه أو يزعزع وذلك بفضل ما بذل من<br />
جهد في التحصين والتمويه. ولم يتحقق احتلالها إلا بعد خسائر جسيمة في مقدمتها مقتل قائد الهجوم<br />
نفسه الرائد غيورا هيرمك المشهور (بغوني) وقد اقتحمها بالمشاة من قوات الصاعقة المميزة من<br />
لواء غولاني بعد أن فشل اقتحامها بالآليات مرة فمرة<br />
.<br />
12<br />
(11) هو "" <br />
_ – ." " _ " " (12)<br />
.( ) .1993 - <br />
منير شفيق│ نيسان ١٩٩٤<br />
مؤسسة الوفاء
79<br />
ومسيرة<br />
شهداء<br />
يلحظ، مرة أخرى، من آل هذا المسار أهمية الدور الذي لعبه هذا التيار حين طبق منهجية "العامل<br />
المساعد"، "ونظرية" الحصوة التي تسند الخابية تطبيقاً سليماً آان شرطه الأول، بعد سمة نكران<br />
الذات، القدرة على التحرك على هدي تقدير صحيح للموقف وفقاً لكل وضع وحالة.<br />
<
80<br />
ومسيرة<br />
شهداء<br />
أبو خلدون (خالد صابر الديك) بعد معرآة دامت عدة ساعات مع قوات العدو. وقد أحدث ذلك،<br />
بدوره، أثرا إيجابياً في الوضع الفلسطيني العام. وقد آان من الممكن لهاتين التجربتين أن تحدثا نقلة<br />
آبيرة أو تصبحا نهجاً في العمل لولا أنهما جاءتا سباحة ضد التيار الذي أخذ يعتبر الداخل مرتبة ثانية<br />
بعد لبنان ويتعامل والمقاومة المسلحة باعتبارها مرتبة ثانية بعد الاهتمام بالعمل السياسي النقابي<br />
والعلني لخدمة برنامج النقاط العشر. ولكن يجب أن يسجل أن باب العمل العسكري في الداخل آان<br />
مفتوحاً ومشجعاً لمن أراد.<br />
آان أبو حسن وحمدي حريصين على ترآيز الجهود خلال تلك المرحلة في نقطتين، الأولى من خلال<br />
العمل داخل الأرض المحتلة والثانية من خلال جنوبي لبنان. وبهذا يكون أهل هذا الخط الأآثر<br />
انسجاماً مع منطلقات فتح وإستراتيجيتها الأساسية بعيداً قدر الإمكان عن المعارك الجانبية.<br />
1982<br />
عندما شن الجيش الإسرائيلي حرب حزيران (يونيو) آان حمدي على رأس عدد من<br />
المجموعات من آتيبة الجرمق والشباب اللبناني يخوض قتالاً متواصلاً من الجبل حتى البقاع.<br />
وآانت لهذه المجموعات عدة إنجازات في عرقلة تقدم قوات العدو شأنها شأن سائر مجموعات آتيبة<br />
الجرمق التي قاتلت من موقع إلى موقع خلال تلك الحرب ابتداءً من قلعة الشقيف وصولاً إلى البقاع.<br />
أما أبو حسن فأصبح، آعادته في الأزمات، قائداً ميدانياً يقود واجهة المدينة الرياضية في أثناء هجوم<br />
الجيش الإسرائيلي على بيروت وحصارها. وقد قصفها أآثر من ثلاثة وثمانين يوماً قصفاً تندك لهوله<br />
الجبال.<br />
لعل من الأهمية بمكان أن تجد مآثر آتيبة الجرمق ومن قبلها السرية الطلابية، آما تجد إنجازات أبي<br />
الحسن وحمدي على مستوى العمليات العسكرية في الأرض المحتلة في مستوى حربي و<br />
في لبنان من يؤرخ لها تفصيلاً ويسجل لكل شهيد من شهدائها بطولاته وإنجازاته. وذلك من<br />
أجل سد النواقص التي حملها هذا الكتيب الذي غطى الاتجاه العام وقصر في وصف الوقائع<br />
وتفصيلها.<br />
1978<br />
1982<br />
وثمة عمليات نوعية عدة قام بها إخوان أبي حسن وحمدي ومروان إما مباشرة وإما بالتعاون مع<br />
مناضلين آخرين، آانت بارزة في مدلولاتها وفي الروح المعنوية العالية التي اتصف بها هذا التيار.<br />
منها على سبيل المثال لا الحصر العملية البطولية في رويسة البلوط حيث تم أسر ثمانية من أفراد<br />
جيش العدو الإسرائيلي ونقلهم إلى الخطوط الخلفية وقد جرى تبادلهم بعد وقت بالإفراج عن المئات<br />
من المعتقلين في السجون الإسرائيلية. وآذلك عمليات العاقبية وعالية وعرمون وعيناب ويتسامون<br />
والسمقانية وعين الحلزون وغيرها وقد استشهد خلالها عدد من أخوة أبي حسن وحمدي وأبي محمود<br />
هلال رسلان وأبي فايز محمود الحسينة. ويمكن أن يذآر ممن آان لهم دور هام في التصدي لقوات<br />
الاحتلال الشهداء نبيل مكارم وأسعد فياض وغيرهما. وأسهم الشباب اللبنانيون في الفرار الذي حصل<br />
في سجن أنصار في جنوب لبنان.<br />
منير شفيق│ نيسان ١٩٩٤<br />
مؤسسة الوفاء
81<br />
ومسيرة<br />
شهداء<br />
1982<br />
على أن الانتهاء من حرب حزيران (يونيو) والخروج من لبنان بعد ذلك بحوالي ثلاثة أشهر<br />
جعل المسار يتواصل، بأعلى درجات الزخم، في الجهد الكثيف الذي بذله أبو حسن وحمدي،<br />
خصوصاً، وإخوانهم عموماً، لإطلاق شعلة الجهاد الإسلامي في فلسطين.<br />
1983<br />
.<br />
لقد آانت المرحلة الممتدة من أوائل عام حتى تاريخ استشهاد أبي حسن وحمدي ومروان<br />
الكيالي وإخوانهم هي مرحلة العمل الدؤوب لحشد القوى من أجل إطلاق الجهاد الإسلامي والتحضير<br />
لسلسلة من العمليات الكبيرة، والتي أرادوها أن تكون مدوية حتى تليق بحمل اسم الجهاد.<br />
وعلى الرغم من النقص الفادح بالإمكانات المالية، استطاعت أنوية سرايا الجهاد الإسلامي، وبفضل<br />
الكثيرين ممن شارآوا فيها (جماعات وأفرادًا) أن تجد لنفسها موقعاً مرموقاً على الخريطة العسكرية<br />
في الأرض المحتلة ويمكن أن يذآر هنا، بصورة خاصة. عملية البراق الناجحة والكبيرة التي<br />
أثخنت بالجراح أآثر من سبعين جندياً من قوات غولاني وآانت العملية التي أعلنت، بمناسبتها، سرايا<br />
الجهاد الإسلامي أول بيان حمل اسمها. وآان أبو حسن وحمدي قد سهرا عليها سهراً متواصلاً حتى<br />
آتب لها ذلك النجاح المدوي واتبعاها بالتحضير لعملية استشهادية آبرى خطط لها أن تتوجه إلى<br />
مجمع رئاسة الوزراء الإسرائيلية وتنفذ من خلال سيارة حملت آميات آبيرة من المتفجرات تزيد<br />
على المائتي آيلو غرام وآانت المجاهدة عطاف عليان قد تهيأت للشهادة في سبيل االله. فصممت على<br />
اقتحام الموقع وبنفسها حتى لا تترك فرصة للفشل. وشاء القدر أن تكشف العملية قبل تنفيذها. ولكن<br />
على الرغم من ذلك فقد ترآت أثراً إيجابياً آبيراً حين عرفت أبعاد العملية وما حملته السيارة من<br />
متفجرات، وشاع خبر الفتاة الاستشهادية. ولكن الشهيد حمدي مر بعذاب نفسي شديد بسبب فشل<br />
العملية وراح يحمّل نفسه مسؤولية الخطأ إلى حد آاد يعتزل معه العمل القيادي الذي آان يقوم به.<br />
ولولا تاثير أبي حسن عليه وعزيمته على لأم الجراح والتعلم من الأخطاء، وهو الذي آان يتألم مثل<br />
حمدي وآان بحاجة إلى حمدي وللسبب نفسه، لما استطاع هذان الفارسان الفذان أن يعودا ليواصلا<br />
دورهما القيادي في سرايا الجهاد ويمدا شهداء عملية الشجاعية بالسلاح والدعم بعد أن فروا من<br />
السجن وقد جاء استشهادهم بعد معرآة بطولية تمهيداً مبارآاً، من بين عوامل أخرى، لانطلاقة<br />
الانتفاضة.<br />
يجب أن يذآر هنا أن الانخراط في مشروع إطلاق الجهاد الإسلامي جاء استمراراً لذلك الالتقاط<br />
الذآي والمناسب للموقع الذي يكون فيه أبو حسن وحمدي وإخوانهما، أفضل ما يكون الالتقاط. لقد<br />
تكثّف ترآيزهما على إطلاق الجهاد الإسلامي في فلسطين، والذي أصبح يشكل، موضوعياً، مرآز<br />
الثقل في مرحلة الثمانينات. وقد أتى أآله المرجوة على أفضل وجه، وآان له إلى جانب عوامل<br />
أخرى إسهامه الملحوظ في اندلاعة الانتفاضة المبارآة. وإذا آان أبو حسن وحمدي ومروان قد<br />
آحّلوا عيونهم برؤية هذه الانتفاضة في الأشهر الثلاثة الأولى من اندلاعتها، ورأوا فيها الشكل<br />
الأرقى في مواجهة العدو وذلك بسبب طابعها الجماهيري الواسع، واستقبلوا براحة آبرى انخراط<br />
حرآة حماس في الانتفاضة واندفاعها للتصدي لمهماتها ولعب دور قيادي رائد فيها. وقد رأوا في<br />
ذلك انتصاراً آبيراً للأمام آما آان انتصاراً للمقاومة بمجموعها ضد العدو. فقد آانوا يرون ضرورة<br />
أن تفتح فتح ذراعيها لاستقبال الظاهرة الإسلامية المجاهدة في فلسطين بدلاً من أن تتنامى فيها<br />
اتجاهات العداء للإخوان المسلمين ولفصائل الجهاد الإسلامي. وقد ذآروا بعضاً من آوادر فتح في<br />
منير شفيق│ نيسان ١٩٩٤<br />
مؤسسة الوفاء
82<br />
ومسيرة<br />
شهداء<br />
إحدى نقاشاتهم قبيل استشهادهم، قائلين إذا آنتم قد وجهتم النقد للإسلاميين عموما.<br />
المسلمين<br />
وللإخوان<br />
خصوصاً لأنهم لم ينخرطوا بالكفاح المسلح في فلسطين فأين منطقكم حين تزدادون نقداً وتهجماً حين<br />
ينخرطون في الجهاد والانتفاضة وينفخون روحاً عظيمة في المقاومة ضد العدو الصهيوني؟<br />
في الحقيقة لو أراد المرء أن يتابع النهج الذي اختطه أبو حسن وحمدي قبل استشهادهما، سواء أآان<br />
من حيث وضع الأولوية للهدف والمبدأ وللمواجهة ضد العدو، أم آان من ناحية انتهاج منهجية لعب<br />
دور العامل المساعد أو الحصوة التي تسند الجرة، أو الوقوف على الثغر الذي يحتاجك أآثر، لكانا<br />
الآن في الخندق الأمامي إلى جانب حماس وقوات عز الدين القسام ولاعتبرا ذلك هو الترجمة<br />
المستمرة للوجود في الموقع الذي يكون فيه المرء أآثر فعالية وأآثر انسجاماً مع المبادئ والأهداف<br />
والمقاومة وتحرير فلسطين وإنهاض الأمة. بل لاعتبرا ذلكم هو التواصل وجهاد شعب فلسطين منذ<br />
العشرينات حتى اليوم مروراً بانطلاقة<br />
.1965 / 1 / 1<br />
<
83<br />
ومسيرة<br />
شهداء<br />
14<br />
.<br />
15<br />
13<br />
عالجت موضوع دور المرأة، فأشرآها الإسلام، بشكل أو بآخر، في الجهاد وحثها على اعتناق<br />
الإسلام والدعوة له وقد نجح الإسلام في الارتقاء بدورها فنقلها من وضع إلى وضع أرقى. أو ما<br />
عرف في تاريخنا بالانتقال من الجاهلية إلى الإسلام، ولم تكن المرأة بعيدة عن المساهمة في عملية<br />
هذا الانتقال التاريخي العظيم" ولوحظ أن مشارآة المرأة في تاريخنا تعاظمت في مرحلة الكفاح<br />
ضد التتار والصليبيين ثم ضد الاستعمار القديم الذي غزا بلادنا منذ أوائل القرن التاسع عشر فقد<br />
عرفت آل البلاد العربية مشارآة المرأة في النضال. في آل الثورات والانتفاضات الشعبية منذ ذلك<br />
الوقت حتى الآن. فالمرأة آانت تتصرف باعتبارها جزءاً من الأمة وتتقدم إلى المواجهة. فالنساء لم<br />
يحملن قضية خاصة بهن، وإنما آن يحملن دائماً قضية الشعب آله ومع الشعب آله. فذلك هو الذي<br />
شغل بالهن وراح يدفعهن إلى النضال. ولهذا فإن محاولة البعض إعطاء أولوية لقضية ما يسمى<br />
بتحرير المرأة أو مساواتها بالرجل، لا ينسجم والمجرى التاريخي أو خط الجماهير، والأهم يشكل<br />
محاولة لإعطاء أولوية، عملياً إن لم يكن نظرياً، فوق أولوية القضية المرآزية. ومن ثم فإنه<br />
يدفع"بالتناقضات الثانوية لتطغى على التناقض الرئيسي" وتكون النتيجة الغرق في صراعات لا<br />
طائل من ورائها ولا مكان لها. وتؤدي إلى العزلة عن الجماهير. بل لا تشجع على مشارآة القسم<br />
الأعظم من نساء الشعب في العمل حين يراد لتلك المشارآة أن تتم تحت عنوان آبير هو "الصراع<br />
ضد الرجل".<br />
وهنا طرح التيار خطا نقد من خلاله الاتجاهات المحافظة التي تعارض آل مشارآة للمرأة في الثورة<br />
الفلسطينية أو التغيير في الأمة من جهة. آما وجه نقداً أشد إلى شعارات اليسارية الطفولية، بسبب<br />
آونها في ذلك الوقت الأعلى صوتاً، وذلك لرفعها إشكالية المساواة، بصورة تجريدية ومنفرة، أو<br />
طرحها لقضية المرأة باعتبارها معرآة رئيسية "ضد التقاليد أو ضد الدين أو ضد المؤمنين ومن<br />
يحملون هذه التقاليد. أي ضد غالبية الشعب" .ومن ثم فالاتجاه الأخير يزيد على الاتجاه الأول في<br />
إقصائه لأوسع جماهير النساء عن المشارآة الفعلية، وسلخت "الطليعة النسائية والرجالية نفسها عن<br />
جماهير الشعب نساء ورجا ًلا". وذلك بضربها أسوأ مثل للجماهير في معالجة "موضوع المرأة" إذ<br />
حولت "القضية عملياً إلى صراع من اجل الحرية الفردية والانفلات من قيود الروابط العائلية واتهام<br />
نساء الشعب ورجاله بالتخلف والتأخر والعقل الرجعي. فالبعض قلد الاتجاهات المنحرفة لدى اليسار<br />
الأوروبي والبعض قلد العصرية الأوروبية وغرق في الفسق والفجور والتهتك أو بالمظاهر السطحية<br />
لمدنية برجوازية استعمارية زائفة"<br />
يجب أن يلحظ هنا أيضاً المنهجية الأصيلة التي تحلى بها تيار أبي حسن وحمدي ومروان وإخوانهم،<br />
والمرتكز إلى المارآسية في ذلك الوقت، في معالجة موضوع المرأة لا سيما في تقويم الإسلام<br />
والتجربة الإسلامية من موضوع المرأة لحظنا أعلاه، وهو منهج غريب تماماً عن آل التيارات<br />
المارآسية المعروفة. ولهذا لم يكن بلا مغزى أن يتهم من قبل الكثيرين من اليساريين ومنذ أولى<br />
" (13)<br />
. 1977 (62 ) - " " " <br />
. (14)<br />
. (15)<br />
منير شفيق│ نيسان ١٩٩٤<br />
مؤسسة الوفاء
84<br />
ومسيرة<br />
شهداء<br />
توجهاته "بعدم العلاقة بالمارآسية". وهي تهمة آانت تستفزه في ذلك الوقت وآان يرد عليها بأن<br />
موضوعاته هي المارآسية الحقيقية لأنها الأآثر قرباً من الواقع الموضوعي والذاتي لبلادنا وشعبنا،<br />
والأآثر دفعاً للعملية التغيرية الكبرى.<br />
وعودة إلى موضوع المرأة فقد شدد الخط في ذلك الوقت على ضرورة إشراك النساء في النشاط<br />
العملي مشارآة فعالة. وذلك بربط تلك المشارآة بالقضية العامة تماماً آما هو الحال بالنسبة إلى<br />
الرجال (وهذا يتضمن برأيه أعلى درجات المساواة)، وبجعل الهدف العملي، بل مقياس النجاح، هو<br />
إشراك أوسع جماهير النساء الشعبيات واللواتي يشكلن الغالبية الساحقة من نساء الأمة، في الثورة<br />
وفي العمل السياسي عموماً. وهذا يختلف عن منهج النساء اللواتي يعتبرن أنفسهن "متقدمات" في<br />
الوعي والعمل فيطرحن الإشكالية على مقاسهن ووفقاً لحاجاتهن، بدلاً من أن يطرحنها على مقاس<br />
جماهير النساء الشعبيات وحاجاتهن.<br />
أما من جهة أخرى، فيما يتعلق بالتقاليد والقيم والأفكار السائدة حول المرأة أو حول علاقة الرجل بها<br />
"فإن بعض تلك التقاليد والقيم والأفكار يحمل طابعاً شديد السلبية في هو مواجهة عملية استنهاض<br />
جماهير النساء للمشارآة في نضال الشعب. وقد جاء هذا البعض من عصور الانحطاط ومن الغزاة<br />
والمستعمرين آاحتقار المرأة ومعاملتها بمهانة وهو غريب عن التقاليد والقيم والأفكار التي طرحها<br />
الإسلام. ولهذا يجب أن نفرق بين ما هو غريب مستورد وسلبي وبين ما هو إيجابي في تقاليدنا وقيمنا<br />
وأفكارنا. آما أن احترام تقاليد الشعب وقيمه وأفكاره مسألة أساسية في النجاح بمهمة استنهاض<br />
جماهير النساء للنضال. لأن من غير الممكن أن يفرض على الشعب شي ء أو أن يعامل الشعب بتحد<br />
وتعال، فالشعب هو الذي إذا اقتنع غيّر، لأنه هو الذي يصنع الثورة وهو الذي يحقق الانتصارات"<br />
وعلى الرغم من أن الإحاطة بكل الموضوعات التي طرحت في حينه لمعالجة قضية المرأة والإجابة<br />
عن مختلف التساؤلات يضيق بها هذا المكان. فقد طرحت اثنتا عشرة نقطة في آيفية معالجة<br />
الموضوع ثم رآز بعد ذلك على ضرورة أن يرتكز التوجه لجماهير النساء من خلال القضية<br />
السياسية أي القضية أو القضايا التي تهم الأمة آلها. ومن ثم نقد الاتجاهات التي تتصور أن المسائل<br />
السياسية الكبرى المطروحة على الشعب آله هي فوق مستوى استيعاب جماهير النساء وأن استيعابها<br />
يحتاج إلى مستوى من "التعليم" و"الثقافة" عالٍ مثل الذي يتمتع به أصحاب تلك الاتجاهات. إنها<br />
نزعة الأستذة على الشعب والنظرة العليائية إلى جماهير الشعب. إنها نظرة البرجوازية إلى الجماهير<br />
الكادحة فالتجارب التاريخية القديمة والمعاصرة أثبتت أن استنهاض جماهير النساء آان يرتبط<br />
بالقضايا الكبرى التي تحرك جماهير الشعب للقيام بالثورة والانتفاضات.<br />
.<br />
16<br />
وقد شن التيار حملة في الوقت نفسه ضد ظاهرة "الطليعة" النسائية "المتحررة" إذ راحت بعض<br />
الطليعيات وبتشجيع من زملائهن "الطيعيين" بتحرير أنفسهن آأفراد وتحقيق مساواتهن هن بالرجال.<br />
وذهبن بهذا السبيل إلى حد الاقتداء بكل ما يعمله زملاؤهن، وبصورة خاصة، العادات السيئة<br />
والسلبيات على أنواعها. وبهذا تحولت قضية المرأة إلى قضية ضيقة خاصة جداً تتعلق ببضع<br />
عشرات أو مئات من النساء أما الملايين فلا علاقة لهن بموضوع "التحرر"<br />
.<br />
17<br />
. (16)<br />
. (17)<br />
منير شفيق│ نيسان ١٩٩٤<br />
مؤسسة الوفاء
85<br />
ومسيرة<br />
شهداء<br />
18<br />
وصاحب ذلك نقد اتجاهات الاهتمام بالمساواة الشكلية والمظاهر، والاهتمام بالجزئيات لا بالجوهر<br />
مع رفض التقاليد وتحديها تحدياً استفزازياً للناس.<br />
أما من جهة أخرى فقد وجه تيار أبي حسن وحمدي نقداً ضد النزعة الخدماتية والاقتصادية في<br />
التوجه لجماهير النساء وذلك حين لا يكون ذلك ضمن الاهتمام بالقضايا الكبرى والعمل السياسي،<br />
وإنما على حسابهما أو بتجاهلهما. آما نقد نزعة رفض العمل المنزلي والتأفف من تربية الأطفال<br />
تحت حجة الاهتمام بالعمل العام بدلاً من حسن التوفيق والموازنة بين هذين الجانبين الأساسيين. ومن<br />
ثم آان هنالك تشديد خاص بالنسبة إلى فتيات التيار ونسائه لإعادة صياغة أفكارهن وممارستهن وفقاً<br />
لهذه الخطوط فيتخلصن مما هو مخطئ أو منحرف أو مضر من الأفكار والعادات والممارسات<br />
ويتحلين بأسمى القيم وأفضل السمات الثورية، فلا تغريهن بهارج الحياة ولا تخيفهن التضحية، ولا<br />
تقعدهن المشاق والصعوبات وبهذا "يصبحن جديرات باسم الطليعة وبشعبهن ووطنهن ويصبحن<br />
جديرات بأن يكن حفيدات أم حبيب ونسيبة بنت حارث وأم سلمة وخولة الكندية"<br />
.<br />
19<br />
86<br />
ومسيرة<br />
شهداء<br />
القليل من الرجال المجاهدين حملة المبدأ والرسالة وأصحاب الفكر وأمل العزيمة في العمل<br />
والممارسة.<br />
أما حمدي رحمه االله فقد آان، أيضاً، من الرجال المجاهدين حملة المبدأ والرسالة وأصحاب الفكر<br />
وأهل العزيمة في العمل وفي اللحظات التي تمتحن فيها معادن الرجال. وقد أجهد أعصابه وأتعب<br />
جسده هو الآخر وقد راح يعمل ليل نهار من أجل القضية التي حملها وقد لاقى ربه وهو يتضور ألماً<br />
من مرض آان يفترض منه بأن يكون على فراش المستشفى بدلاً من أن يكون في ليماسول. وآان<br />
حاد الذآاء. متعدد المواهب آثير الأصدقاء، بما في ذلك خارج المحيط الذي عمل فيه يداً بيد مع أبي<br />
حسن. فقد تميز بقلب يشعر محدثه أنه يلفه بالود والحب والإخلاص. ومن هنا آان شديد التأثير في<br />
الرجال مقنعاً حتى لمخالفيه بالرأي، وما أسرعه في أن يكسب احترام خصمه لو قدر للأخير أن<br />
يناقشه ويتحدث إليه. بكلمة آان دافئاً ودوداً وهو متمسك برأيه وموقفه المبدئي دون أن يدلس، أو<br />
ينافق، أو يُمالئ.<br />
لقد آان اجتماع أبي حسن وحمدي آأنه قدر االله ليتكاملا في وحدة رائعة من المزايا الاستثنائية التي<br />
جعلتهما بجدارة يربيان جيلاً من الرجال والنساء. ويشقان طريقاً سيظل في قلب الشعب الفلسطيني<br />
وذاآرته ما ذآرت ثورة فلسطين وما ذآرت المقاومة، وما ذآر الجهاد في فلسطين. وأحسب أن<br />
أثرهما، بصورة مباشرة، أو غير مباشرة، سيتعدى حدود فلسطين ولبنان حين يدرس ما أسهما به من<br />
نتاج فكري ومنهجي، وتجربة وطنية وعروبية وإسلامية فذة.<br />
إذا آان أبو حسن وحمدي ومروان وإخوانهم قد انتهجوا نهجاً بعيداً. عن الطموح بالتحول إلى تنظيم<br />
مستقل أو طرف يطمح إلى القيادة فقد زاد هذا التوجه عمقاً بعد الوقوف على أرض الإسلام. فقد<br />
ازداد، هاهنا، الاتجاه نحو لعب دور "العامل المساعد"، ودور الحصوة التي تسند الخابية (الجرة)<br />
ودور الوقوف على الثغر المهجور أو الذي بحاجة إلى تدعيم وتعزيز. وقد أصلح ذلك هو ترجمتهم<br />
لكيفية فهمهم العمل لوجه االله أو الجهاد في سبيل االله أي دون أن يكونوا مثقلين بالتصور أن العمل<br />
لوجهه أو في سبيله تبارك وتعالى يعني تعزيز ذاتهم أو جماعتهم أو لا يمر إلا من خلالهم. هذا من<br />
جهة أما من الجهة الأخرى فما آان يحزنهم"أن يخرجوا من المولد بلا حمص" أو آما آان يتندر<br />
البعض بالمثل"احرث وادري لبطرس".<br />
على أنهم إلى جانب هذه المنهجية، أو العقلية في العمل رفضوا آما ذآر سابقاً التعامل وقيادة الثورة<br />
من خلال النقد المستمر أو التحول إلى ما يشبه المعارضة البرلمانية، وإنما آان منهجهم أمام أية<br />
مشكلة أو قضية أو سياسة تواجه الثورة بمجموعها يبدأ بسؤال أنفسهم لو آنا نحن القيادة، أو لنتصور<br />
إننا في مكان القيادة، فما هي السياسة أو الخط الأصح الذي يجب أن نتبناه على ضوء الظروف<br />
المعطاة وموازين القوى القائمة. ولهذا آان الخط يبلور موافقة التكتيكية من موقع المشارآة<br />
بالمسؤولية. والشعور بها حتى لو آانت القيادة تكيد له آيداً، ولم يكن له موقع في صنع القرار أو<br />
المسؤولية ومن هنا تميز تاريخهم في معظمه بالوقوف ضد التيار، آما لو آانوا طرفاً يطرح نفسه<br />
لقيادة الوضع. فقد راحوا يحملون السلّم بالعرض آما يقال في مواجهة أعباء القتال ضد العدو، أو في<br />
الدفاع عن منطلقات فتح ومبادئها أو الدفاع عن الثورة، أو الوقوف إلى جانب الجماهير الإسلامية<br />
المقهورة في لبنان وضد التقسيم والحرب الطائفية أو الحرب بالوآالة. أو في الصمود إلى جانب الخط<br />
منير شفيق│ نيسان ١٩٩٤<br />
مؤسسة الوفاء
87<br />
ومسيرة<br />
شهداء<br />
السياسي والفكري الصحيح في مواجهة السوفيات وأنصارهم، أو في مواجهة خط التخلي عن<br />
منطلقات فتح والسير على طريق التسوية والتنازلات، أو في الترآيز على تدعيم الصحوة الإسلامية<br />
في مواجهة التغريب، والحملات الظالمة، أو تعزيز الجهاد والانتفاضة ومختلف أشكال المقاومة في<br />
فلسطين. إنه تاريخ مميز حقاً، فهو مؤثر فيما حدث من غير إعلان مدوّ، وهو موجود وغير موجود،<br />
يعمل عمل الجندي المجهول، ولا يعرف إلا حين يرتطم به التيار المسيطر ليضطهده أو يشهر به.<br />
أما من ناحية الجوهر فكان تاريخ هذا التيار سلسلة متواصلة من الوقوف إلى جانب الحرآات<br />
الجماهيرية والتغيير الأصيل والولاء للمبادئ والقيم والمثل العليا... والبحث عن الحقيقة. وآان في<br />
معارضة دائمة لاتجاهات الطفولية اليسارية، والاتجاهات المتطرفة التي تلجأ إلى العنف الخارجي أو<br />
الاغتيال الفردي أو الاعتماد على عضلات النخبة بدلاً من العمل السياسي الصبور بين الجماهير<br />
والرأي العام. وقد آان يميل دائماً إلى الابتعاد عن الغلو والمغالاة.<br />
لقد لعب هذا النهج دوراً مرموقاً، وأحيانا مفصلياً، في مرحلة السبعينات وقد زاده الإسلام رسوخًا<br />
وتبلوراً ووضوحاً وتألقاً في مرحلة الثمانينات. وآان من الممكن أن يكون العطاء آبيراً آذلك في<br />
مرحلة التسعينات لو لم يشأ قدر االله تبارك وتعالى أن يُقتل الشهداء الثلاثة أبو حسن وحمدي ومروان<br />
قبل ست سنوات في ليماسول عبر قنبلة فجرها الموساد الإسرائيلي في السيارة التي آانت تقلهم ليختم<br />
بهذا تاريخ خمسة عشر عاماً. وإننا لندعو االله تبارك وتعالى أن يحتسب لهم ولبقية الشهداء فيه<br />
استشهادهم وما فعلوه من خير وما آان في مرضاته ويغفر لهم ما آان في غير مرضاته.<br />
أما جنازة أبي حسن وحمدي في عمّان وجنازة مروان الكيالي في بيروت، فقد جاءتا من حيث<br />
الحشود آماً ونوعاً خير ما يجازى به شهداء قتلوا ونيتهم وعملهم أن يكونا في سبيل االله، وأمضوا<br />
حياتهم عملاً وجهاداً من أجل تحرير فلسطين وتوحيد أمة العرب والمسلمين. فقد سار وراء نعوشهم<br />
وصورهم المكللة بالسواد آبار العلماء والقادة الإسلاميين وآبار المفكرين والصحفيين والشخصيات<br />
الوطنية والقومية واليسارية من مختلف الاتجاهات السياسية والفكرية. وآان ذلك آله شهادة لخطهم<br />
وتاريخهم وما عبّروا عنه ومثلوه. بل أن الوحدة الواسعة التي تحققت في تلك اللحظات وهم يوارون<br />
فيها التراب مثلت الجبهة التي آانوا يحلمون أن تتشكل من أجل فلسطين وفي الرد على التحديات التي<br />
تواجه الأمة. رحمهم االله وأسكنهم فسيح جنانه، وإنا الله وإنا إليه راجعون.<br />
88<br />
ومسيرة<br />
شهداء<br />
قد تبتعد بنتائجها تماماً عن النتائج المماثلة التي عبّر عنها فكر ماوتسي تونغ حين استخدم ذلك<br />
الأسلوب في اآتشاف الحقائق المتعلقة بطبيعة الثورة ونظريتها في الصين. ولعل من الدوافع وراء<br />
الإعجاب بهذه المنهجية، على الرغم مما قد تكشفه من حقائق، وإن آانت غير صالحة لكشف آل<br />
الحقائق، آان ما تعنيه من روح استقلالية ومن ابتعاد عن ابتلاع الشعارات والنظريات الجاهزة حول<br />
الثورة والآتية من موسكو، أو العواصم الغربية أو من بكين أو هانوي أو بيونغ يانغ أو تيرانا. فقد<br />
آانت مدخلاً للتعاطي والواقع الفلسطيني والعربي بصورة متحررة من النظريات والشعارات الجاهزة<br />
والجامدة. أي آانت مدخلاً لإخضاع المارآسية لنتائج دراسة الواقع الفلسطيني والعربي لا إخضاع<br />
هذا الواقع لمقولات المارآسية اللينيينة..<br />
بكلمة أخرى عمقت فكرة، أو نظرية، خط الجماهير، على تلك الصورة، من روح الأصالة المتحررة<br />
من أي قيد نظري جاهز في البحث، لا سيما في محاولة اآتشاف سمات الثورة في بلادنا، أو نظرية<br />
الثورة وآيف يمكن أن تنجز. هنا أصبحت ثمة مسؤولية لكسب معرفة أعمق وأدق بالنسبة إلى<br />
تاريخنا وإلى التجارب السابقة لشعوبنا وإلى التجارب الواقعية الراهنة لجماهير الأمة وأفكارها<br />
وتوجهاتها. وقد راحت نتائج ذلك تبتعد أآثر فأآثر عن المنظومات السوفياتية أو الغربية المارآسية أو<br />
الصينية أو الفيتنامية حول الثورة ونظريتها في بلادنا أو حول فهم تاريخ الأمة العربية والإسلامية<br />
وتقويم تجاربها الثورية. وهذا ما أسس التيار منذ بدايته على احترام تقاليد الجماهير وأخلاقها<br />
والتعامل وإياها بشفافية عالية، بل تجنب إتباع أية أخلاق أو مسلكية تتصادم وتلك التقاليد والأخلاق.<br />
وآان هذا يعني منذ اليوم الأول التحلي بروح احترام الإسلام والدين عموماً، وتقويم التجربة<br />
الإسلامية العربية تقويماً إيجابياً. فكان المطلوب الاقتراب أآثر فأآثر من نبض الجماهير وخطها.<br />
ولكن مع ذلك بقي التيار أسيرا لمفهوم الثورة الوطنية الديمقراطية ثم الثورة الاشتراآية، فالمفهوم<br />
الأول لم يخضع، بصورة مبكرة، إلى المراجعة والتقويم، فقد آان منسجماً واعتبار فتح لنفسها حرآة<br />
تحرير وطني ورفعها لشعار الدولة الديمقراطية في فلسطين، وارتبط الثاني بالخلفية العروبية القومية<br />
للتيار وبالمرجعية المارآسية.<br />
آان لاندلاع التظاهرات الشعبية العريضة في إيران، آما ذآر سابقاً، ورفعها لشعارات االله أآبر، ولا<br />
إله إلا االله، وتحولها إلى ثورة تغييرية أطاحت بالنظام الشاهنشاهي وإلى جانبها، وربما بأهمية أآبر،<br />
آان للتجاوب الجماهيري الفلسطيني والعربي غير المعتاد مع تلك الشعارات، أثرا مهماً في تطبيق<br />
نظرية خط الجماهير تطبيقاً خلاقاً. هنا برز رأي داخل التيار يقول "منذ سنوات ونحن نبحث عن خط<br />
الجماهير وهو أمام أعيننا ولكن ما آنا نراه. أنظروا أليس الإسلام هو خط الجماهير في بلادنا؟ فبأي<br />
منطق نبحث عن سمات الثورة بالقول أنها وطنية ديمقراطية (بمعنى برجوازية من النمط الغربي<br />
والمعدل ماوياً) أو أنها اشتراآية بينما هي هنا إسلامية أردنا أو لم نرد. فإن هذه الأحشاء التي ستلد<br />
الثورة في بلادنا.. أي هذه المجتمعات، هي مجتمعات إسلامية تحمل المخزون التاريخي الإسلامي،<br />
وتحمل الأماني والتطلعات ذات الطبيعة الإسلامية. وسواء أعجبنا ذلك أم لم يعجبنا يجب أن نقر بهذه<br />
الحقيقة إذا ما آنا نريد أن نمسك بخط الجماهير، أو نكتشف سمة الثورة في بلادنا.<br />
وبالمناسبة آان لمارآس رأي يصف فيه الطيعة بأنها مثل القابلة القانونية التي تقوم بمساعدة الطبقة<br />
على الولادة أي ولادة الثورة. فهي لا تخترع هذه الثورة ولا تأتي بها من عندها وإنما هي تقوم<br />
منير شفيق│ نيسان ١٩٩٤<br />
مؤسسة الوفاء
89<br />
ومسيرة<br />
شهداء<br />
بتوليدها لأن سمات الثورة تتشكل في أحشاء المجتمع المعطى والطبقة المعنية. أي آان مارآس ينظر<br />
إلى الثورة باعتبارها مسألة موضوعية أساساً.<br />
أما الدور الذاتي فهو مساعد على الولادة وقد يعطي بعض التلاوين الخارجية لها. ولكنها من حيث<br />
الجوهر مستقلة عنه. هنا أيضا خرج رأي من داخل التيار يقول إذا آانت الطليعة مثل القابلة القانونية<br />
التي تساعد على إخراج الوليد ولكنها لا تستطيع أن تغير شيئاً من سماته التكونية الأساسية. فلماذا<br />
نجعل تطبيقنا مناقضاً؟ ولهذا فثورتكم ستحمل التكوين الإسلامي والمولود هنا سيخرج إلى الحياة وهو<br />
يقول لا إله ألا االله، واالله أآبر.. فإذا لم يعجبكم ذلك فابحثوا عن المشارآة في عملية ولادة أخرى في<br />
غير هذه البلاد العربية والإسلامية.<br />
ففي البلاد العربية لن تخرج الثورة بشعر أشقر وعينين زرقاوين أو بوجه أصفر وعينين مشقوقتين<br />
فمن أراد الخيار الذي في عقله المارآسي فليذهب إلى السويد أو إلى الصين أو فيتنام.<br />
آانت الموضوعة على بساطتها الظاهرية، ومن قبلها المقولة التي تعتبر أن خط الجماهير في بلادنا<br />
وآذلك طبيعة الثورة يتسمان بالإسلامية أولاً وقبل آل شيء، ثم بعد ذلك يمكن أن تعطي سمات أآثر<br />
خصوصية في آل حالة من حالات البلاد العربية والإسلامية قد سهلا الانفتاح على الموضوع<br />
الإسلامي والقبول به من الزاوية السياسية والحضارية والثقافية، آما الانفتاح على تقويم أآثر إيجابية<br />
للإسلام والتجربة الإسلامية الأولى.<br />
في الواقع، لقد ساعد رسوخ فكرة خط الجماهير وموضوعية الثورة لدى أآثرية أفراد هذا التيار،<br />
على عملية الانتقال سواء أآان بالتجرؤ على ارتياد أآثر تفتحاً وتحرراً وموضوعية للتاريخ العربي<br />
أم للواقع العربي. ومن ثم على صياغة موضوعات نظرية حلت محل آثير من الموضوعات<br />
المارآسية النظرية السابقة والتي آان أآثر ما قد تم الانتهاء منه قبل ذلك. ثم ساعد على تقبل<br />
موضوعة إسلامية خط الجماهير وإسلامية الثورة حتى لو آان المرء لا يعجبه ذلك بسبب استمرار<br />
التعارض والمنهجية "العلمية" أو "الديالكتكية"، أو بسبب التعارض وعدد من النظرات الراسخة لدى<br />
البعض حول حرية المرأة ومساواتها بالرجل أو حرية الفرد. فقد آان عدد من المشارآين في<br />
النقاشات قد درسوا في الغرب وفتحت أعينهم على المارآسية في الغرب، وآان عدد آخر قد انحدر<br />
من خلفيات دينية غير الإسلام وبعضهم آان راسخاً في الإلحاد. ومن ثم آان لدى هؤلاء عوائق فكرية<br />
ونفسية آثيرة إزاء قبول ما هو أآثر من التسليم من ناحية موضوعية بأن خط الجماهير في بلادنا<br />
إسلامي وآذلك طبيعة الثورة.. إلا أن هذا التسليم حتى ضمن هذه الحدود شكّل لدى البعض من أولئك<br />
خطوة إلى أمام باتجاه تجاوز تلك العوائق فيما بعد والاقتراب أآثر من المفاهيم الإسلامية بما في ذلك<br />
الجانب العقدي.<br />
منير شفيق│ نيسان ١٩٩٤<br />
مؤسسة الوفاء
90<br />
ومسيرة<br />
شهداء<br />
<br />
Üè‚Ïi<br />
آتب هذا النص آرسالة أريد منها أن تجيب عن أسئلة أو تساؤلات آان قد أرسلها عدد من السجناء<br />
السياسيين في سجون العدو الصهيوني إلى الشهيدين محمد محمد بحيص (أبو حسن قاسم) ومحمد<br />
باسم سلطان (حمدي). وقد يعجب القارئ من المستوى النظري الذي طرحت فيه التساؤلات وآتبت<br />
فيه الرسالة، ولا سيما حين يعلم أن التساؤلات صدرت عن فدائيين فلسطينيين قضوا في السجون<br />
بسبب قيامهم بعمليات عسكرية مدداً تتراوح بين سنوات و 15 سنة، أو حين يعلم أن الإجابة<br />
جاءت من قبل قائدين ميدانيين عرفا بانجازاتهما القتالية والميدانية والتنظيمية خصوصاً، والعملية<br />
عموماً، أي نحن أمام نص لم يصدر عن مثقفين محترفين. آما أن التساؤلات لم تصدر عن مثقفين<br />
محترفين آذلك.<br />
10<br />
ويبقى جانب إيضاحي آخر لابد من الإحاطة به آخلفية آمنت وراء التساؤلات والإجابة؛ إلا وهو<br />
طبيعة العلاقة بين السائلين والمجيبين. فقد آانت علاقة أخوة وزمالة وعمل ضمن خط واحد ردحاً<br />
طويلاً من الزمان وآان الشهيدان يمثلان قيادة له. وآان هذا الخط يستند في أساسه إلى منطلقات فتح<br />
في النظر إلى القضية الفلسطينية والثورة الفلسطينية وما نشأ عنهما، ومن حولهما، من مسائل وقضايا<br />
لها علاقة بالوضعين العربي والعالمي. أما الخلفية النظرية فكانت تنتسب للمارآسية اللينينية ضمن<br />
مفهوم استقلالي عن المحاور الدولية أوالحزبية، وفي ظل سعي دائب للوصول إلى فهم للخصوصية<br />
الفلسطينية والعربية. فالعلاقة بالمارآسية آانت بالنسبة إلى هذا الخط، ومنذ البداية، ذات طابع مميز<br />
يختلف عن طابعها بالنسبة إلى مختلف الاتجاهات المارآسية ولعل أهم سمات ذلك الطابع<br />
آانت سمة إخضاع الموضوعات المارآسية، باستمرار، إلى حكم الواقع والوقائع والتاريخ، على<br />
مستوى العالم عموماً، وعلى المستوى العربي خصوصاً.<br />
- اللينينية.<br />
ومن هنا آانت تلك الموضوعات في" قفص الاتهام" باستمرار. ويا ويل الموضوعة التي لا تقوى<br />
على إثبات مصداقيتها، في مواجهة الواقع والتاريخ والوقائع. فقد آانت تنفل من أساسها، وبلا رحمة،<br />
وتحل محلها، إن أمكن موضوعة أو موضوعات أخرى حتى لو آانت غريبة عن المارآسية، وغير<br />
مقبولة من المارآسيين. وهكذا اتسم مسار هذا الخط من الناحية النظرية بعملية صراع مستمرة بين ما<br />
يحمل من أفكار وموضوعات وبين الاحتكام إلى الوقائع، أو هو صراع يحكمه البحث عن الحقيقة<br />
بحثاً لا ينقذ ولا يكل أو بكلمة أخرى آانت مارآسية هذا الخط صراعاً ضد المارآسية نفسها.. فما<br />
آانت هنالك من موضوعة واحدة في المارآسية غير قابلة للنقد، أو آانت تعامل آحقيقة يمكن التسليم<br />
بها ولها تماماً. وإنما آانت تعامل آموضوعة تبدو صحيحة حتى إشعار آخر. فثمة شك مستمر في<br />
احتمال عدم صحتها في حقيقة الأمر. ولهذا آانت المارآسية - اللينينية في حقيقتها وجوهرها وبنيتها<br />
الأساسية مهتزة غارقة بالنظرات المغالطة، والموضوعات غير العملية، والأفكار السطحية أحادية<br />
الجانب، فقد راحت موضوعاتها تتهاوى الواحدة بعد الأخرى، وعلى مدى عدة سنوات في نظر<br />
أصحاب ذلك الخط، وفي مقدمتهم أبو حسن وحمدي. وهذا ما جعل الهوة تتسع باستمرار بين<br />
الشهيدين وبين عدد من زملائهما، ولا سيما أولئك الذين آانوا بعيدين عنهم وراء القضبان لا يواآبون<br />
منير شفيق│ نيسان ١٩٩٤<br />
مؤسسة الوفاء
91<br />
ومسيرة<br />
شهداء<br />
ما يجري من نقاش يومي وتغيرات نظرية مستمرة، أو آانوا يتسمون بالجمود والعصبية<br />
الإيديولوجية. وبلغ الأمر مداه عندما انتهت مسيرة ذلك الخط، بأغلبية إلى نقد المارآسية<br />
بل نقضها من أساسها النظري. أي من المادية الديالكتيكية إلى المادية التاريخية إلى الاقتصاد<br />
السياسي والاشتراآية العملية، وليس فقط نقد التجارب العملية للحرآات والدول التي قامت على ذلك<br />
الأساس. وهو أمر أدى إلى مفاصلة مع عدد من الذين آانوا مستعدين للتخلي عن آثير من<br />
موضوعات المارآسية عدا المنهج على الأقل. ثم تفاقم الوضع حين توجت تلك المسيرة من<br />
موضوعات بتبني الإسلام عقيدة ومنهاجاً ونظاماً، أو بعبارة أدق تبني الإسلام قرآناً وسنة.<br />
- اللينينية،<br />
ويمكن بعد هذا الإيضاح للخلفية التي حكمت التساؤلات والإجابات أن يدخل القارئ إلى هذا النص<br />
دخولاً مريحاً أو في الأصح وهو ملم بالظروف التي أحاطت بكتابته. أما من جهة أخرى فلابد من أر<br />
يدرك المتأمل في هذا النص، ممن أعجب بالشهيدين محمد بحيص (أبو حسن قاسم) وباسم سلطان<br />
التميمي (حمدي) باعتبارهما قائدين فذين في الممارسة العملية، إنه أمام مناضلين شديدي الاهتمام<br />
بالمسائل الفكرية والنظرية والسياسية. ولهما باع في آل ذلك يسند باعهما في الممارسة العملية. فقد<br />
آان اهتمام الشهيدين شديداً بتلك المسائل إذ آانا يدرآان تماماً أن الممارسة بلا عقيدة سليمة، ومفاهيم<br />
نظرية صحيحة، وخط فكري وسياسي سليم قد تضل ضلالاً بعيداً، تؤدي بصاحبها إلى ارتكاب<br />
الأخطاء الفادحة وربما إلى الانحراف والسقوط. ومن هنا يخطئ من تعود أن يراهما غارقين في<br />
الممارسة العملية، ليل نهار، حين لا يلحظ ترآيزهما المكثف قبل ذلك، وفي أثنائه وبعده على العقيدة<br />
والنظرية والمنهج والفكر والسياسة والقيم الأخلاقية (ولا سيما القيم الأخلاقية التي يجب أن تتسم بها<br />
الممارسة عملاً لا قولاً فقط).<br />
وأخيراً لا بد من أن يلحظ أن التطورات الراهنة على المستويين العالمي والعربي، ولا سيما، في<br />
المعسكر الاشتراآي جاءت تؤآد الموضوعات التي طرحها هذا النص الذي آتب عام ولعل<br />
الذين وجه إليهم في ذلك الوقت ولم يستوعبوا آل أبعاده، يمكنهم اليوم أن يعودوا إلى قراءته بعقول<br />
أآثر تفتحاً بعد أن فك أسر أغلبهم، وبعد أن أجمعت جماهير آل البلدان التي حكمت بأنظمة اشتراآية<br />
على رفضها من أساسها ووصل الأمر ببعضها إلى المطالبة بتحريم الأحزاب التي حكمتها. وما زال<br />
في جعبة المستقبل الكثير مما لم يقله بحق تلك الأنظمة التي هي ثمرات طبيعية ومحتومة للنظرية<br />
المارآسية والمنهج المارآسي ولا مهرب من ذلك، لأنه من الهزل أن تعزى مسؤولية تلك الأنظمة<br />
والأحزاب إلى التطبيق لا إلى النظرية. فالفشل في التطبيق حين يكون عاماً وشاملاً، بلا استثناء،<br />
يفرض أن تراجع النظرية التي اهتدى بها واتخذها دليلاً. وهناً أمامه خيارات لا مفر منها: فإما أن<br />
تكون النظرية مستعصية على التطبيق وفوق عقول البشر وإمكاناتهم وقدراتهم، وإذا آانت آذلك فما<br />
الحاجة إليها وما قيمتها، وإما أن يكون الخلل قد جاء ابتداءً من النظرية نفسها وهو الأمر المحتم بدليل<br />
أنهم يصرون على القول أن النظرية في جوهرها صحيحة ولكن الخطأ جاء من آل هؤلاء الذين<br />
تبنوها وحملوها إلى الواقع، ومن ثم فهي بانتظار عباقرة من طراز استثنائي ليحسنوا إدراآها أو<br />
التقاطها وتطبيقها خيراً مما فعل لينين وستالين وخروتشوف وبريجينف وغورباتشوف أو ماوتسي<br />
تونغ وشوان لاي وتينغ تشاو بينغ أو آاسترو وجيفكوف وهونيكر، وانتهاءً بذلك الحشد الذي لا ينتهي<br />
من الأمناء العامين في سائر بلدان العالم، وبالمناسبة يمكن الإثبات أيضا أن مارآس وإنجلز غرقا في<br />
الأخطاء والفشل في ممارستها العملية آذلك. ومن ثم لا يمكن أن يعزى ذلك إلى سوء التطبيق، وعدم<br />
فهم جوهر النظرية المارآسية في عرف القائلين أن الخلل في الممارسة لا في النظرية. وهنا لا بد من<br />
.1984<br />
منير شفيق│ نيسان ١٩٩٤<br />
مؤسسة الوفاء
صحي<br />
92<br />
ومسيرة<br />
شهداء<br />
أن يهنأ آل من يعجب بذآائه إلى حد يحسب معه لأنه قادر اليوم أن يخرج من النظرية المارآسية<br />
أفضل مما أخرج آل أولئك من الذين يمكن أن يوصفوا بالجهابذة من ناحية قدراتهم العقلية وعزائمهم<br />
ومثابرتهم. وإن آان فيهم من نقض فهو فيما حملوا من عقيدة ونظرية ومنهج. ولا يمكن أن تكون<br />
علتهم في الذآاء والقدرة على الفهم. وذلك في الأقل من ناحية استيعابهم للنظرية ومهارتهم التطبيقية.<br />
فالمشكل في النظرية وفي ارتباطهم الحضاري ولعل إصرار أغلب المارآسيين، لا سيما في بلادنا<br />
العربية على تبني المارآسية وعدم الاقتراب من الإسلام، وبالرغم من آل العواصف التي هبت وهي<br />
تحمل البراهين على بطلان ذلك الإصرار وخلطه يشكل دليلاً جديداً، ولو بالمعاآسة، على عظمة تلك<br />
السمات التي تحلى بها الشهيدان أبو حسن وحمدي في احترام عقليهما، وفي احترام الحقيقة واحترام<br />
الوقائع والدافع والتاريخ والنظرة العملية، آما في امتلاك الصدق مع النفس والناس، وأخيراً لا آخراً،<br />
في امتلاك الشجاعة في الخروج من الظلمات إلى النور. من المارآسية إلى الإسلام فسلام عليهما.<br />
. <br />
DÐv×ÚE<br />
93<br />
ومسيرة<br />
شهداء<br />
(74<br />
فلو آان الأمر عند حدود هذا السؤال آما يفهم من ظاهر آلماته فلا خلاف بيننا، دون أن نكون قد<br />
ترآنا موقعنا من فوق أرض الإسلام أو نكون قد تراجعنا عن تبنينا للإسلام ومنهجه. وآذلك إذا قلتم<br />
أن "مشروعية المنهج"، ولعلكم تقصدون صحته، تتقرر من مدى استجابته لاحتياجات المرحلة<br />
المعاصرة ومتطلبات الواقع، فسوف نتفق أيضاً على حدود هذا السياق دون أن نكون قد ترآنا موقعنا<br />
من فوق أرض الإسلام. أو نكون قد تراجعنا عن تبنينا للإسلام ومنهجه، لأن الإسلام أو منهجه برأينا<br />
يجيبان أيضاً عن احتياجات المرحلة المعاصرة ومتطلباتها وهذا ما يمكن أن نثبته وندافع عنه، آما<br />
ويمكننا أن نثبت عدم صلاحية المنهج المارآسي عموماً، أو بالنسبة إلى الإجابة عن احتياجات<br />
المرحلة المعاصرة ومتطلباتها، أما الجزء الأخير من تساؤلكم فلا خلاف حين تقولون "إذا آان<br />
الإسلام قد امتزج بتاريخنا وتراثنا آعرب فليس له من موقع في التراث الفكري لشعوب أمريكا<br />
اللاتينية آما أنه لا يشكل جزءاً من تراثها ووعيها". ولكن هل يفهم من هذا استبعاد موضوع الإسلام<br />
بالنسبة إلينا ما دام ليس جزءاً من التراث الفكري لشعوب أمريكا اللاتينية؟ وهذا ينطبق على تراث<br />
الكثير من الشعوب بما يوحي بالقمل، آما يريد التساؤلى ان تراث آل شعب من الشعوب يجب<br />
استبعاده لأنه لا يحمل سمة عامة مشترآة لكل الشعوب، ومن ثم يجب إتباع طريق عالمي يتخطى<br />
خصوصيات الشعوب، أو منهج يحلق فوق الخصوصيات وهي نظرة مارآسية آوزموبوليتيكية (لا<br />
وطنية) وتتنكر لخصوصيات الوطنية، ويبدو من روحية هذه التساؤلات أنكم فهمتم من طرحنا<br />
لموضوع الإسلام، أو طرحنا لموضوع علاقتنا بتاريخنا وتراثنا وحضارتنا، إن حجتنا الوحيدة أو<br />
الرئيسية في الصراع تستند إلى مجرد نظرة تراثية، أو نظرة تعتبر أن ما هو تراث هو صحيح، وهو<br />
المناسب ومن ثم دارت أسئلتكم حول هذه النقطة لإثبات خطئها أو سطحيتها أو عدم حيويتها، وهو<br />
أمر نوافقكم عليه لو آانت حجتنا تقوم على هذا الأساس، أو آان بعض حجتنا يقوم عليه وتذآروا أن<br />
القرآن الكريم يقطع بفساد حجة الذين احتجوا بآبائهم وأجدادهم لإثبات صحة طريقهم ومنهجهم بقوله<br />
تعالى: "إنا وجدنا آبائنا على امة وإنا على آثارهم مقتدون" (الزخرف 23). "وقالوا حسبنا ما وجدنا<br />
عليه آباؤنا"(المائدة "قالوا أجئتنا لتلفتنا عما وجدنا عليه آباءنا"(يونس 78). "قالوا بل وجدنا<br />
آباءنا آذلك يفعلون"(الشعراء ومن هنا نتفق أيضاً على أنه ليس آل ما جاء عن الآباء والأجداد<br />
أو آان من التراث هو صحيح ومناسب تلقائياً والأهم أننا نتفق على أنها ليست الحجة المنطقية التي<br />
يرد بها على حجة أخرى. ولكن ليتنا نتفق أيضاً أنه ليس آل ما يورثه الآباء مرفوض ولا يحمل حجة<br />
أو يجب أن يترك باعتباره قديم ورجعي وسلفي. لأن السؤال من هم آباؤك وما آانوا يفعلون؟. فعلى<br />
الأقل يجب أن نتذآر أن ما من علم أو فكرة أو رأي أو نظرية تولد اليوم إلا وتصبح ويجب أن ننهج<br />
على نهجه.<br />
،(104<br />
1- ليس آل ما هو تراث علم وصحيح ويجب أن ننهج على نهجه.<br />
2- ليس آل ما هو تراث مرفوض باعتباره ماضياً وسلفياً.<br />
3- دائماً هنالك ما هو صحيح عقيدة ومنهجاً ونظرية بينما هو في الوقت نفسه تراث وقد حمله الآباء<br />
والأجداد. وهذا لا ينطبق على آل الحالات بالنسبة لكل الشعوب، ولا ينطبق على الشعب المحدد<br />
بالنسبة إلى آل ما توارثه وإنما بالنسبة إلى بعض ما توارثه. وفي هذا الصدد نرى أن الإسلام بالنسبة<br />
إلينا يشكل تراثنا الرئيسي وتاريخنا، ويحدد السمات الخاصة بشعبنا وحضارتنا. هذه حقيقة بعضكم<br />
غير موافق عليها للأسف. وهو في الوقت نفسه صحيح أصلاً عقيدة وشريعة ومنهاجاً سواء أآان<br />
منير شفيق│ نيسان ١٩٩٤<br />
مؤسسة الوفاء
94<br />
ومسيرة<br />
شهداء<br />
21<br />
تراثاً لنا أو لم يكن، وهو آذلك بالنسبة إلى من ليس تراثاً لهم. أما من جهة شعبنا فثمة تطابق بين<br />
الأمرين في حالتنا الخاصة، أما إذا أريد الخوض في الحجج التي نستند إليها في إثبات هذه الصحة<br />
فهو ما سنتناوله لاحقاً عند تناولنا موضوع المنهج الذي آما يبدو تضعون له أهمية خاصة.<br />
95<br />
ومسيرة<br />
شهداء<br />
.<br />
23<br />
22<br />
الإسلام، بنظرنا، هو مجرد الخطوة الأولى الضرورية للاتجاه الصحيح، ولكن بعد ذلك ثمة<br />
معضلات ومشكلات آثيرة. وانتكاسات وتعرجات وصعوبات، ودموع ودماء، وفشل ونجاح، وربما<br />
إخفاقات متتالية، بل يمكن القول أن الانتقال إلى أرض الإسلام بالنسبة إلينا ليس انتقالاً إلى الموقع<br />
الأسهل أو الطريق الأسهل، أو الشعبية السريعة الرخيصة، بل بالعكس انه انتقال إلى الموقع<br />
الأصعب، والجهاد الأآثر تضحيات، والشعبية الأآثر تعقيداً، والأبعد منالاً.<br />
أما بالنسبة إلى اليمن الديمقراطي فيمكن أن يقال آل شيء في تلك التجربة عدا النجاح، سواء من<br />
الناحية الشعبية للحكم أو من الناحية الاقتصادية أو من الناحية الاستقلالية، فيا لقسوة تلك التقديرات<br />
التي تقول أن حوالي ثلثي سكان اليمن الجنوبي هاجروا شمالاً وانتشروا في الخارج، أما الباقون فلا<br />
أظن أن أحداً عاد يتحدث بحماسة عن الثورة ومنجزاتها بعد إعدام سالمين ونفي عبد الفتاح<br />
إسماعيل آما لا أحد يتحدث عن انجازات اقتصادية فالشعب أصبح يأآل أقل آثيراً، ولم يعد يسمع<br />
بالسمك إلا نادراً، أما الاستقلالية فاليمن أصبحت آأنها في وضع المحمية السوفياتية، وانتظروا سماع<br />
أزمات فالأزمات هناك بلا نهاية إلا بانتهاء النظام فمن أين جاء تصورآم حول نجاح اليمن الجنوبي<br />
فهذا تصور لا علاقة له بالواقع<br />
96<br />
ومسيرة<br />
شهداء<br />
وتنظيم الاقتصاد والمجتمع. أي لو قدر لها أن تتلافى ما تسجلونه عليها من أخطاء وتحظى على تأييد<br />
الجماهير وتقودها في معرآة التحرير والاستقلال، فإنها سرعان ما تتحول إلى دولة بيروقراطية<br />
طاغية معزولة، هي والحزب الطليعي، عن الناس. بل ستصبح قمعية، مصادرة لأدنى أشكال<br />
الحريات الفكرية، والسياسية، ويصبح عليها حراسة حدودها لئلا تفرغ بلادها من شعبها الذي<br />
سيسعى للهرب زرافات ووحدانا، لأن المشكلة تكمن في فهمها الخاطئ للتاريخ والإنسان ولمفهوم<br />
العدالة وللملكية وللدولة، فضلاً عن فساد فلسفتها ومنهجها، إنه لا يكفي أن تنال شهادة النجاح حين<br />
نثبت الوجه البشع للرأسمالية واستغلالها وموبقاتها. لأن عليها أن تقدم بديلاً، لا يأتي وجهاً آخر للعملة<br />
نفسها. وهذا ما خدع الكثيرين حين قامت على نقد الرأسمالية وهي أسوأ منها. فهي بدلاً من معالجة<br />
الموضوع المذآور انطلاقاً من نظرة ومنهجية متوازنة تشكل بديلاً حقاً نقلت الملكية الفردية<br />
الرأسمالية الطاغية إلى ملكية الدولة البيروقراطية، أو نقلت الطغيان السياسي للسياسيين الفاسدين<br />
الرأسماليين إلى طغيان قلة في قيادة الحزب الذين لا يسمحون بنقد أو مناقشة، وتجري آل أمورهم<br />
وصراعاتهم في غرف مغلقة وراء الكواليس، فترى أهم تطور يحرزه بلد اشتراآي يكمن في تطور<br />
الجيش وأجهزة القمع والأسلحة والدولة، أما الشعب فتتبخر من أمامه تدريجياً أحلام "الاشتراآية"<br />
والعدالة والحياة الأفضل، "والديمقراطية الأفضل من ديمقراطية الرأسمالية" (لأنها، آما ادعوا<br />
تصبح ديمقراطية اقتصادية واجتماعية). وهكذا يبدأ الشعب يفقد حماسه، خصوصاً جماهير الفلاحين<br />
والعمال والبسطاء، إن حدث وآانت هناك حماسة، وبهذا تدخل البلاد في دورة جهنمية تصل في آثير<br />
من الأحيان بالناس إلى أن يتمنوا العودة إلى العهود السابقة أو إلى الرأسمالية، فأمريكا مكروهة في<br />
آل مكان إلا في أوروبا الشرقية والشعب الذي قاتل الأمريكيين بقيادة الحزب الشيوعي في فيتنام،<br />
بكل بسالة، أصبح في وضع سيء جداً الآن بعد عشر سنوات من نجاح الثورة، فدعك مما يجري<br />
وجرى من انتهاآات آانت لمبادئ "الاخوة" في العدوان على آمبوديا ولاوس، فالشعب في فيتنام<br />
نفسها أصبح يهرب بالآلاف ولا يردعه إلا رصاص حرس الحدود أو الأمواج العالية التي التهمت<br />
وتلتهم العشرات من الذين يهربون بقوارب من صنع أيديهم، وهؤلاء ليسوا الرأسماليين أو<br />
البرجوازية الصغيرة لأن الأخوين لهم وسائلهم الأخرى في الهرب. ثم الدور السوفياتي في أرتيريا<br />
وأفغانستان الآن، وقبل ذلك الكثير في الماضي آي يشكل فضيحة آبرى للمارآسية ولا يجعل المسألة<br />
مجرد أخطاء أو نزوات طاغية اسمه "ستالين" أو خروتشوف أو بريجينيف فالحكومات المارآسية<br />
صادرت آل الحقوق الخاصة بالإنسان والشعب تحت دعوى أنها ممثلة الشعب وتقرر له ما هي<br />
مصلحته وقامت إمبراطوريات ظالمة تحت شعار "الأممية" ولهذا نرى أن البديل الحقيقي<br />
للمارآسية، في المقابل ليس الرأسمالية أو العكس. وإنما منظومة عقدية منهجية نظرية تجمع بين<br />
الجوانب الروحية والأخلاقية والتوازن والالتزام بالمثل العليا وهي تعالج الجوانب المتعلقة بالحياة<br />
المادية وعمليات الإنتاج، والصراع السياسي. ولا بد من الجمع بين الملكية الفردية المحدودة<br />
والملكيات الاجتماعية "جمعيات ومؤسسات شعبية، بلديات، ملكيات عائلية وجهوية وأرض مشاع<br />
"على مستوى القرية مع عدم اللجوء إلى ملكية الدولة إلا في الحالات التي لا يمكن أن تقوم بها إلا<br />
الدولة، وذلك من أجل بناء المجتمع قوياً في مواجهة الدولة ليمنع طغيانها، وإبقاء الدولة ناصراً للعدل<br />
ومتدخلة ضد الطغيان إذا وقع في المجتمع.<br />
أما إذا أصبحت الدولة آل شيء تصبح هي الخصم والحكم. ثم هنالك المسألة التي يجب عدم<br />
الاستهتار بها وهي المتعلقة بحقوق الناس وآرامتهم. بما في ذلك حق المعارضة السياسية المنظمة<br />
والعلنية، وحق التنافس الشريف في انتخابات حرة، وسائر حقوق الإنسان فيما يتعلق بالمعتقد وحرية<br />
منير شفيق│ نيسان ١٩٩٤<br />
مؤسسة الوفاء
97<br />
ومسيرة<br />
شهداء<br />
الرأي وعدم تعريض الناس وآراماتهم لعسف رجال المخابرات والشرطة أو التعرض للتعذيب، أو<br />
مصادرة حرياتهم بدعوى الشبهة وهكذا، وإننا نرى أن آل هذه يضمنها الإسلام ويمكن أن تؤسس<br />
على أرضه وهي نابعة من جوهر نظريته التي لا تضع المسألة إما ملكية فردية أو ملكية الدولة وإما<br />
ليبرالية رأسمالية أو دآتاتورية دولة البروليتاريا، أما التخلي عن الحياة المادية وإما الولوغ فيها بلا<br />
رادع أو وازع. وآذلك لا تفسر التاريخ من وجهة نظر أحادية الجانب قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج<br />
أو صراع الطبقات أو حصر التاريخ بالمراحل الخمسة، فالظواهر التاريخية يجب أن ترى بصورة<br />
شمولية تجمع فيها مختلف الجوانب والعوامل. ولا يوجد عامل يلعب العامل الحاسم في آل الحالات<br />
والمراحل فأنت لا تستطيع أن تفسر مثلاً ثورة الإسلام الأولى وبناءه المعنوي، الفكري، الاقتصادي،<br />
في البحث عن أدوات الإنتاج وترى الإنتاج وعلاقات الإنتاج، وما حدث فيها من تطور في الجزيرة<br />
العربية، حتى الذين يضعون أهمية لتحول طريق التجارة إلى الحجاز يكونون قد ادخلوا عاملاً غير<br />
عامل أدوات الإنتاج وقوى الإنتاج. ولا يدخل ضمن نظرية صراع الطبقات النابعة من الموقع في<br />
العملية الإنتاجية القاعدية. إذا آان الإسلام وتجربته انعكاساً لواقع المجتمع المكي والقبلي المتخلف،<br />
فكيف يكونان على هذا المستوى من العمق والشمول إلى حد يبز أرقى الأفكار والنظريات التي مادتها<br />
الحضارة المعاصرة. ولو عدتم إلى منطوق النظرية المارآسية بالنسبة إليها لوجدتم أن هذه الأفكار<br />
مجرد انعكاس لوضع معين، وتعبر عن أفكار طبقة التجار. ومن ثم لم تعد في سجل التاريخ إلا شيئاً<br />
من الماضي. وإذا آانت لها من استمرارية فهي استمرارية قوة التقاليد بالمعنى السلبي للكلمة. ولكن<br />
هل الأمر آذلك أم فوق ذلك بكثير؟ في الواقع إن تطبيق المنهج المارآسي في تفسير التاريخ يؤدي<br />
إلى الاضطراب والأخطاء في آل المجالات تقريباً، فالمارآسيون آم تخبطوا خبط الشعراء وهم<br />
يفسرون تاريخ المسلمين، أو هم يفسرون تاريخ آسيا وإفريقيا بل أوروبا نفسها. مما يدل على أن<br />
المنهج المذآور ليس تلك العصا السحرية التي تمسك بناصية التاريخ وقوانينه. بل أثبتت من مظاهر<br />
الضعف أآثر بكثير ما أثبتت من مظاهر القوة. وآم سنكون سعداء لو دلنا أحد على آتاب تاريخ<br />
لمارآسي واحد عاش خمس سنوات صامداً حتى في نظر المارآسيين أنفسهم. تصورا أن تاريخ<br />
الحزب الشيوعي في الاتحاد السوفياتي تعاد آتابته مع آل موت لأمين عام بما في ذلك الأحداث التي<br />
وقعت سنة مثلاً. أظن آن الأوان لنتخلص من ذلك الوهم الكبير (الإرهاب الفكري) بأن<br />
المارآسية هي "المنهجية العلمية الموضوعية وبيدها أسرار الحقيقة والمعرفة". فهذا ادعاء لم يثبته<br />
الواقع لا من خلال المارآسيين الفلسطينيين والعرب الذين تعرفون مدى علميتهم وموضوعيتهم<br />
من خلال غيرهم، انظروا إلى اتهامات السوفييت للصينيين و الشيوعيين الإيطاليين واليوغسلاف<br />
وانظروا الاتهامات الموجهة للسوفييت من مارآسيين آثيرين.. تجدوا أن آل طرف يؤآد أن الآخر<br />
أحادي الجانب ومتافيزيقي، وغير علمي، وغير موضوعي هذا دون التعرض للاتهامات المتعلقة<br />
باتهامه بالبرجوازي والبرجوازية الصغيرة أو الشوفينية أو التوسعية والاستبداد والفساد.. الخ. أظن<br />
أن هذه الظواهر ليس لها تفسير في النظرية وإنما لها تبريرات، بينما ترون في الإسلام تفسيراً لكل<br />
حالة انحراف تحدث من قبل المسلمين، ولا مجال لتبرير جرائم أو قتل بلا حق أو مفاسد أو مظالم.<br />
فنصوص القرآن والسنة هي التي تشكل المعيار الفاصل بين الحلال والحرام، والهدى والضلال،<br />
والعدل والظلم، وهي التي تكشف حقيقة عن أهم سنن االله في الناس والآفاق.<br />
- ولا<br />
-<br />
1902<br />
لا تنسوا أيها الإخوة أننا واجهنا آل هذه المسائل في الماضي بالتبريرات مثلكم اليوم. وآنا نظن أن<br />
المشكلة في الأفراد وفي سوء التطبيق. ولكن عندما تكون الأخطاء هي الظاهرة العامة لكل الحالات<br />
ومع آل الأفراد أفلا يحق أن نبحث عن الخلل في جوهر النظرية والفكر. وإلى متى يبقى هنالك ذلك<br />
منير شفيق│ نيسان ١٩٩٤<br />
مؤسسة الوفاء
98<br />
ومسيرة<br />
شهداء<br />
المارآسي المغرور الذي يتصور أنه الوحيد الذي يفهم، أو سيفهم، جوهر المارآسية وتطبيقها بينما<br />
الجميع قد أساؤوا فهمها وتطبيقها ابتداءً من ستالين وخروتشرف ومروراً بماوتسي تونغ وآيم ايل<br />
سونغ وآاسترو وانتهاءً ببرجينف. بكلمة أخرى على المارآسيين أن يقروا بأن هذه هي المارآسية<br />
وهذه تجلياتها وثمارها، ولن يخرج منها أفضل ما خرج منها، هذا إذا لم يكن المسار التقهقري أآثر<br />
فأآثر وهو آذلك على آل حال، فرجالها المعاصرون الآن "أقزام" بالمقارنة لمن سبقهم والآتون<br />
سيكونون أصغر، لأن المارآسية دخلت منذ زمن طويل الطريق المسدود حتى بمقاييسها الكلاسيكية،<br />
ولا بد لها من رصاصة الرحمة.<br />
<br />
ì…^–£]
99<br />
ومسيرة<br />
شهداء<br />
(2<br />
(3<br />
خذوا مثلاً، إن الذي يدقق بأصول القانون الروماني الذي هو أساس التشريع في الحضارة الغربية<br />
تراه يختلف في الجوهر عن أصول التشريع الإسلامي. والتشريع يعني البناء القانوني والحقوقي،<br />
يعني تكوين اجتماعي مختلف حين يختلف مع نظيره.<br />
الحديث عن أنماط حضارية مختلفة لا يعني وضع مفرزات آل حضارة في سلة واحدة، فالتفريق<br />
فيما بينها ضروري وأساسي حين يتعلق الأمر بدراسة التفاصيل ولكن في الوقت نفسه من أصول<br />
العلم أن ترى الأصول المشترآة إن آانت هناك أصول مشترآة - فمارآس لم يخجل من أن يعتبر<br />
المارآسية ابنة الفلسفة الألمانية الاشتراآية الفرنسية والاقتصاد السياسي الانجليزي. وهل يمكن لأحد<br />
أن يفهم مارآس دون الرجوع إلى الفلسفة الإغريقية حتى هرقليطس. ولكن لن تروا في طريقكم وأنتم<br />
تتبعونه أية صلة بمحمد صلى االله عليه وسلم ولا حتى بابن رشد وابن سينا وابن خلدون، فهؤلاء<br />
أصلاً ليسوا في قاموسه، ناهيك عن علاقته بالأصول الحضارية الأخرى. إن عدم رؤية الطابع<br />
الأوروبي لمارآس وأنجلز ولينين بما في ذلك تأثرهم باليهودية والمسيحية بإطارهما الأوروبي،<br />
يظلمهم ويبسط الأمور آثيرًا. ففي علم الأحياء يبدأ العالم بتقسيمها إلى الأجناس ثم الآرومات وفصال<br />
حتى تصل إلى التفريق بين آل فرد، ولكن إذا أخطأت في التقسيم الأول سيظل الخطأً وراءك وأنت<br />
تدخل في الأآثر تحديداً وتفصيلاً. فمن يخطيء في التمييز بين الحضارات في عمومها، يخطيء وهو<br />
ينتقل إلى الأآثر تفصيلاً وتحديداً. أما إذا آان هذا التقسيم الواسع قد يقود البعض إلى نتائج مضللة،<br />
آالفشل في التمييز بين الحالات المختلفة المتناقضة فهذا ذنب ذلك البعض وليس ذنب التقيد الصارم<br />
بحقائق الواقع والتاريخ والعلم. وبالمناسبة وفي آل الحالات يجب الانتباه دائماً عند معالجة حالات، أو<br />
إيديولوجيات مختلفة ومتناقضة، التمييز بين التناقض الناشئ بين طبيعة مختلفة والتناقض الناجم عن<br />
اختلاف بين وجهي عملة واحدة.<br />
إن طمس حقيقة تعدد الأنماط الحضارية ومحاولة اعتبار مسار النمط الحضاري الأوروبي<br />
باعتباره القانون العالمي أدى بمارآس إلى القول:"إن أمام بريطانيا مهمة تاريخية مزدوجة تؤديها في<br />
الهند، الأولى تحطيم البنى القديمة، والثانية زرع الحضارة الأوروبية". ولو قبلنا بحسن النيات التي<br />
آانت تتصور أن تحطيم البنية الحضارية الثقافية والنمط الاجتماعي التقليدي للشعوب الأخرى<br />
وإحلال الحضارة الأوروبية مكانها يعني التقدم وولادة الرأسمالية، قد أثبتت الوقائع أن نتائج هذه<br />
العملية آانت تعني، وأدت بالفعل إلى خلق الأنماط المتغربة التابعة للمرآز الرأسمالي والإمبريالي،<br />
ولم تؤد لا إلى نهضة برجوازية ولا إلى استقلال حقيقي. إن تحطيم البنى الحضارية والثقافية<br />
الاجتماعية التقليدية للشعوب الأخرى آان الشرط لتحطيم استقلالها وهذا خلق حالة التبعية الدائمة<br />
التي استمرت بعد الاستقلال بل زادت بعد الاستقلال، والى جانبها حالة تبعية البلدان التي سارت على<br />
"الطريق اللا رأسمالي- للاتحاد السوفياتي - بغض النظر عن التبعية التي تعاني منها غالبية بلدان<br />
العالم الثالث. ومن ثم، إن ارتباط الاستقلال الحقيقي بمسائل الهوية والنمط الثقافي والحضاري أصبح<br />
الآن حقيقة يعترف بها حتى آثير من المارآسيين، وما الندوة التي نشرتها مجلة الحرية لعلماء<br />
سوفيات تحت عنوان "الهوية والنمط الثقافي والحضاري" إلا اتجاهاً محرجاً للمارآسية<br />
والمارآسيين. أنهم راحوا يعترفون الآن بحقيقة آثيراً ما لفوا وداروا حولها وعملوا على تجاهلها<br />
ولكنها أصبحت اليوم تصدمهم في عقر دارهم، فضلاً عن تجلياتها في البلاد الإسلامية والهند<br />
والصين وإفريقيا.<br />
منير شفيق│ نيسان ١٩٩٤<br />
مؤسسة الوفاء
100<br />
ومسيرة<br />
شهداء<br />
-4<br />
لهذا فإن ملاحظتكم حول الموضوع الحضاري تحتاج إلى إعادة تدقيق من جانبكم وإلا فاتكم القطار<br />
حتى غلاة المارآسيين الذين يسعون الآن الخروج من مآزقهم النظري الخطير. خصوصاً بعد الضوء<br />
الأخضر الذي أطلقته لهم الندوة المذآورة "من حيث الاهتمام بالتقليدي ومحاولة المزاوجة بينه وبين<br />
المعاصر"، طبعاً سيزيدون تخبطاً لأنهم ما زالوا يدورون في الفلك نفسه.<br />
إن محاولة فرض النمط الحضاري الأوروبي بوجهه الرأسمالي أو الاشتراآي على الشعوب<br />
الأخرى من الخارج، أو من خلال النخبة المتسلطة في الدولة، أثبت فشله في التجربتين الرأسمالية<br />
والاشتراآية لأن التغير (التطور أو الثورة) إذا لم يكن ناتجاً من الأعماق وتتمسك به الجماهير،<br />
سينتهي إلى التبعية والفشل والقمع وأبشع أشكال الدآتاتورية. وبالمناسبة في مرحلة من مراحل<br />
تفكيرنا ونحن نناقش هذه المسائل آنا نستند إلى مقولة مارآسية تقول "أن النظام الجديد<br />
يخرج من أحشاء الطبقة المجتمع المعني" فالعملية تتكون هناك وتنضج هناك لأنها مسألة<br />
موضوعية" ومن هنا آنا نسأل: أي نوع من الثورة تحملها أحشاء الأمة العربية أي نظام جديد، أي<br />
تغيير؟ وما هي سماتها بغض النظر عن رغباتنا وأفكارنا ولهذا منذ البدء لم يكن في منهجنا اختراع<br />
ثورة من الكتب المارآسية أو من عقولنا، لأنها ستكون محاولة فرض رغباتنا وتصوراتنا على الواقع<br />
وتسميتها ثورة. إن هذه المسألة عمل بعكسها في الفكر المارآسي من مارآس وإنجلز ولينين حتى<br />
ماوتسي تونغ واستبدلت بوضع برامج للثورة غير نابعة من أعماق الأمة، أما المجالات التي نجح بها<br />
بعض المارآسيين، آماوتسي تونغ وهوتشي منه، بتوليد ثورة فقد واجهوا آثيراً من العنت وهم<br />
يحاولون تطبيع أفكارهم المارآسية مع تراثهم وتاريخهم وحضارتهم وروح شعبهم. وقد أثبت الواقع<br />
عبث هذه المحاولات في ظل تبني المارآسية. ومع ذلك لعلكم ترددون عبارة "التطبيق الخلاق على<br />
الظروف الخاصة". اذهبوا حتى النهاية في فهم هذه الظروف الخاصة، واذهبوا حتى النهاية في<br />
مسألة التطبيق الخلّاق، تجدوا أنفسكم، في ظروف بلادآم الإسلامية في مواجهة مع الإسلام فيكف<br />
يمكن أن يكون هناك تطبيق خلاق وأنتم تحملون المارآسية المتصادمة مع الإسلام.<br />
- الثورة<br />
.<br />
-<br />
بكلمة أخرى، إذا بحثنا في سمات الثورة في بلادنا سنجد أنها سمات إسلامية فلا نظاماً جديداً في<br />
أحشاء مجتمعنا غير النظام الإسلامي. هذه حقيقة توصلنا إليها ونحن غير راغبين فيها، في البداية،<br />
ولم تكن تلتقي مع رغباتنا وهوانا وأفكارنا ونظرياتنا، فكان علينا أن نبذل الجهد لدراسة الإسلام.<br />
وآان علينا أن نضحي بكثير مما بنيناه في المجال الفكري والسياسي من أجل مواصلة التقدم في<br />
اآتشاف الحقيقة، فاغلبنا اقتنع بهذه الحقيقة دون أن يكون قد اقتنع بالثورة الإسلامية، أو آان متعاطفا<br />
مع الجانب السياسي، والحضاري في الإسلام فقط. والبعض وجد أنه غير مستعد للمساعدة على ولادة<br />
ثورة تنزل من أحشاء المجتمع، وهي تهتف "االله اآبر"، فآثر الابتعاد والاهتمام بأموره الخاصة بعد<br />
أن اقتنع بعدم وجود ثورة أخرى في تلك الأحشاء. ومن هنا بدأت المسيرة الجديدة عبر حوار طويل<br />
حتى انتهت بعدد لا بأس به من الإخوة إلى الاقتناع الضميري الذاتي بالعقيدة أيضًا. فأصبح الموضوع<br />
بالنسبة إليهم يقوم على أسس غير المقولات آنفة الذآر حول الحضارة والتغريب وفشل التجارب<br />
المارآسية في البلدان الإسلامية على وجه الخصوص وحول الثورة وسماتها الخاص، لذلك يمكن<br />
القول أن البعض يقف على أرض الإسلام وقوفاً خالصاً إيماناً بعقيدته وانطلاقاً من قناعة بصحته.<br />
وبغض النظر عن سائر الاعتبارات. ولا يبالي هذا البعض، ونحن منهم، بكل تلك الحجج التي<br />
أوردناها، وهناك بعض آخر حسم قناعته بأن "لا ثورة في بلادنا إلا ثورة إسلامية" وهو يتعامل مع<br />
الموضوع تعاملاً سياسياً وحضارياً فقط. وهنالك بعض ما زالوا يناقشون ويجادلون ويطرحون<br />
منير شفيق│ نيسان ١٩٩٤<br />
مؤسسة الوفاء
101<br />
ومسيرة<br />
شهداء<br />
التساؤلات الشبيهة بتساؤلاتكم. وآل ذلك أمر طبيعي وصحي، ما دام العمل الجهادي ضد العدو<br />
الصهيوني مستمراً والرجال الأشداء في الميدان ليسوا فقط عضلات قوية، وإنما هم أيضاً عقول<br />
متفتحة تفكر وتناقش وتتسائل وتتعذب في البحث عن الحقيقة.<br />
-<br />
إن الخط الصحيح في معالجة هذا الوضع يقضي أولاً: مواصلة النضال وعدم الخوف من<br />
التضحيات وتصعيد العمل والجهود، ثانياً: المحافظة على روح الأخوة والوحدة والتعاون والثقة فيما<br />
بيننا لمواصلة الكفاح، والجهاد على أحسن وجه، ولخوض الحوار الجاد على أحسن وجه، ثالثًا: فتح<br />
النوافذ والأبواب في عقولنا ونفوسنا ونحن نناقش أفكارنا من حولنا، وتجاربنا وتجارب من حولنا<br />
ونحن نختلف ونتفق، وبهذا الصدد علينا ألا نخاف من الاختلاف، وإنما من الجمود، وألا نخاف من<br />
تعدد الآراء وإنما من مصادرة الآراء وآبتها، علينا أن نتعلم بناء وحدة ضمن التعدد والاختلاف<br />
والصراع لا وحدة الطوب الذي يصنع على قالب واحد ويكدس فوق بعضه بالإسمنت والحديد<br />
ويصبح بيتاً قابلاً لأن يكون خمارة أو إسطبلاً أو يكون مدرسة أو مستشفى، على ضوء ما يرى ذلك<br />
من بيده المفاتيح. وفي هذه الحالة لا تعجبكم قوة الجدران وإنما انظروا إلى ما أصبحت تخدمه. أو<br />
الأهداف التي تسعى إليها وفي المقابل، المطلوب بنيان مرصوص يشد بعضه بعضاً، ولكنه ليس من<br />
طوب وإنما من بشر أخوة مؤمنين مسلمين يتكافلون ويتعاونون ويجتهدون ويختلفون. فلا يجب أن<br />
يسمح للوحدة أن تصادر الفكر ولا يجب أن يسمح لحرية الفكر أن تصادر الوحدة.<br />
†}`jÖ]æ
102<br />
ومسيرة<br />
شهداء<br />
ويجب ألا يفهم منها أن استمرار الطريق الإسلامي آان سيبقي الأمور حيث بقيت منذ مائة سنة، فقد<br />
آان من الممكن أن تحدث عدة تطورات. مثلاً آان من الممكن أن تقوم أنظمة استبدادية تحاول<br />
التلاعب بالشرع لتعطي صيغة احتيالية للربا وللاستغلال الفاحش أو الملكيات الكبيرة. وقد جرت مثل<br />
هذه المحاولات في السابق ولكن آانت تواجه ولو بعد حين بمقاومة للعودة إلى الشرع وآان هذا دائمًا<br />
خط آبار العلماء والثورة وخط الجماهير المسحوقة فيما آان خط الطغاة والاستغلاليين والعساآر<br />
والجباة إقطاعي ضمن قانون الإرث الإسلامي. ومن هنا آان يجب تعطيل الشرع حتى يقوم مثل هذا<br />
النظام ويستقر وتتوارث، ولم يكن من الممكن أن يقام حتى نظام إقطاعي جبائي، لا ملكية إقطاعية في<br />
أسوأ الحالات، دون تغيير في الشرع. ولكن من آان يجرؤ قبل السيطرة الاستعمارية على الجهر<br />
بتعطيل الشرع أو التخلي عنه؟ لذلك آان الشرع قادراً دائماً على استعادة صفائه آلما طغى عليه<br />
بعض الرآام. وقد أثبت التاريخ الطويل للأمة الإسلامية، أن ثمة دورة لكل حوالي مائة عام تشهد<br />
ثورة شعبية للعودة إلى تطبيق الشرع والإطاحة بالظلم والترف الفاسق والاستغلال وقد جاء في<br />
الحديث الصحيح عن رسول االله صلى االله عليه وسلم "أن االله يبعث آل مائة عام لأمتي من يجدد<br />
دينها". ولاحظ هذا الأمر حتى "انجلز" في معرض تعقبيه على ثورة المهدي في السودان وسماه<br />
المودة إلى الشرع من قبل الفقراء آل مائة عام.<br />
ومن ثم نرى أن مسار التطور التاريخي عند الضرورة ما آان سيأخذ المسار الذي اتخذته أوروبا.<br />
وقد أثبت الواقع الحديث أن فرض الحضارة الأوروبية جاء من الخارج وبالعنف أساساً فالاستعمار لا<br />
يؤدي إلى قيام مراآز عالية موازية وذات سيطرة وإنما يؤدي إلى تكريس التبعية لمراآزه هو. وفي<br />
المقابل يترك للمستعمرات التبعية الحضارية في ذل مقيم للغرب.<br />
ولهذا لابد من مشروع عالمي ثوري وجذري يتضمن فعلاً عملية انفلات من هذه المراآز الرأسمالية<br />
الاحتكارية (أمريكا والغرب)، ورأسمالية الدولة الاحتكارية ودآاتورية الحزب الواحد (الاتحاد<br />
السوفياتي). وهنا يصبح موضوع إعادة الصياغة النظرية لتاريخ العالم بعيداً عن التفسيرات الغربية<br />
الليبرالية والمارآسية أمراً ملحاً، بحيث تنزع النظارات الغربية عن الأعين ليرى التاريخ الموضعي<br />
الحقيقي للشعوب، ولرؤية مسارات التغير وتحقيق الاستقلال للشعوب المقهورة. هنا ستقولون ولكن<br />
آيف تضعان المدرستين المارآسية والليبرالية في سلة واحدة بالرغم مما بينهما من اختلاف.<br />
جوابنا إن آلاً من المدرستين، بالرغم مما بينهما من خلاف، وتناقض تتسمان بالمرآزية الأوروبية<br />
(أي النظرة المضخمة للذات الأوروبية والمتمحورة حولها). ولهما جذور مشترآة، على الأقل في<br />
رؤية آل منهما لنموذجه الأوروبي والتاريخ الأوروبي باعتباره المعيار والنموذج للقياس العالمي،<br />
ولكن إذ نسأل هل يمكن أن يوضع في سلة واحدة طماطم وبصل وتفاح وفجل أم لا؟ ونقول فع ًلا<br />
تستطيعون أن تضعوها آلها على بسطة خضار واحدة ويمكنكم أن تضعوا قواطع بينها ولكن من على<br />
تلك البسطة (الحضارة نفسها) فكل بسطة حضارية فيها هذا النوع المتناقض مع بقاء التفريق بين<br />
البصل والفجل والتفاح، وبهذه المناسبة ثمة قواسم مشترآة آثيرة فيما بين الحضارات المختلفة ولكنها<br />
ليست تلك التي ترسمها المارآسية بصورة سطحية رأسمالية وعمال أو قطاع وفلاحين. أو فكر<br />
برجوازي وفكر بروليتاري.<br />
منير شفيق│ نيسان ١٩٩٤<br />
مؤسسة الوفاء
103<br />
ومسيرة<br />
شهداء<br />
فمثلاً مسألة الفطرة وتعبيراتها المختلفة في آل الحضارات، ومسألة الانحراف عن الفطرة وتعبيراتها<br />
المختلفة، ولو جئنا للتطبيق العملي، تنطلق المارآسية في تقويم الاستغلال واستعباد الإنسان للإنسان<br />
من نظرية اقتصادية مرتبطة بتطور قوى الإنتاج، فالنظام العبودي تراه تقدمياً ومشروعاً في مرحلة<br />
تاريخية وتسوغ ما ارتكبه من جرائم جماعية حتى يمكن وضع النير في رقاب العبيد ويقول<br />
"أنجلز"" "آان لابد من أساليب وحشية للخلاص من الوحشية"، وآذلك بالنظرة إلى الاستغلال<br />
الإقطاعي والرأسمالي والاستعماري فثمة مرحلة تقدمية مع آل عهد ثم يصبح رجعياً ويجب الخلاص<br />
منه. وهذا ما يسمح الآن آما سمح في السابق، أن تداس إرادة الشعوب الإسلامية وغيرها، لتقع تحت<br />
نير الحكم السوفياتي. وإلا آيف يفسر ما يجري في أفغانستان ويسوغونه؟ أما النظرة الإسلامية فهي<br />
ترى الاستغلال والاستعباد والإقطاع والاستعمار وآل ظلم مناقضاً للفطرة الأصلية للإنسان،<br />
وترفضه من حيث المبدأ والأساس وإن آان المنهج الإسلامي قد عالج بعض تلك الانحرافات بطريق<br />
تدرجي مثل الخلاص من حالة الاسترقاق والعبيد بعد أن آانت قد استفحلت قبل مجيئه، آما يرى<br />
الإسلام على سبيل المثال أن عدم إقامة توازن بين مختلف حاجات الإنسان الروحية والمادية<br />
والغريزية وترك الحبل على الغارب للرآض وراء الشهوات المادية ومنازع الهوى والأنانيات يشكل<br />
انحرافاً عن النظرة الإنسانية. مما يسمح للإنسان أن يخاطب أبناء الحضارات الأخرى بلغة إقامة<br />
نظام التوازن في حياة الفرد والمجتمع والشعوب، وعدم الانسياق وراء النظرة المادية،أو إطلاق<br />
الغرائز. والانغماس بالملذات، وجعلها غاية. وتكفي نظرة إلى ما يجري من انسياق وراء هذه<br />
الجوانب في الحضارة الغربية والجرائم والانحرافات والشذوذ والعري والإباحة، وتفكك أواصر<br />
العائلة والعلاقات الإنسانية، وما ينجم عن ذلك من قلق وخوف، والشعور بالوحدة والعزلة.وانقطاع<br />
التواصل الإنساني (بالمناسبة ثمة آتابات أخذت تظهر تشير إلى بروز آيات لهذه الظواهر في<br />
المجتمع السوفياتي وقد لمحت إلى ذلك حتى البرافدا) ولكن الأخطر في الاتحاد السوفياتي نفسه في<br />
انتشار السكر والتسكع والانحلال العائلي فضلاً عن المظالم الاجتماعية وفقدان حرية الفكر واستعباد<br />
الشعوب. ومن هنا آان لدى الإسلام ما يواجه به تلك الشعوب وآان لديه مشروعه للإسهام في صلاح<br />
آثير من الأوضاع وهذا يفسر بعض الظواهر المذهلة في الغرب من<br />
----------<br />
اندفاع عدد من آبار المثقفين نحو اعتناق الإسلام إلى جانب أعداد ملفتة للنظر من تحول الشاب نحو<br />
الإسلام، بهذا فنكون قد اقتربنا من إعطاء جواب أآثر تحديداً حول السؤال. لا يرى الإسلام، آما تفعل<br />
المارآسية طريق التطور والتقدم والرقي محكوماً بتطور أدوات الإنتاج وقوى الإنتاج. ومن ثم لا<br />
يرى أن هذه الأخيرة هي التي تحكم سائر الأبنية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والفكرية وآأنها<br />
الخيول التي تجر العربة، وهي خيول تتحكم أيضاً بسائسها الذيعليه أن يوجه رأسه بالاتجاه الذي<br />
ترآض نحوه. طبعاً إن تقدم أدوات الإنتاج وقوى الإنتاج والعلوم والتكنولوجيا لها دور رئيسي في<br />
تطور الحياة المادية للإنسان آوسائل حصوله على حاجاته معاشه أو تأمين مواصلاته أو مواجهة<br />
الأمراض والمصاعب الطبيعية ولكنها ليست معيار العدل والظلم ولا ما هو حلال وما هو حرام، ولا<br />
يحق لها أن تتحكم بمختلف جوانب الحياة الأخرى.<br />
بل إن الانسياق من ورائها آما حدث في الرأسمالية والاشتراآية دون ضوابط أخرى أدى إلى انتكاسة<br />
الوضع العام للإنسان من النواحي الإنسانية والعدالية والإسلامية والروحية والأخلاقية والنفسية،<br />
منير شفيق│ نيسان ١٩٩٤<br />
مؤسسة الوفاء
104<br />
ومسيرة<br />
شهداء<br />
فضلاً عن استفحال المظالم تجاه الشعوب الضعيفة واستفحال التنافس على السيطرة العالمية في ظل<br />
إطلاق العنان للجشع والنوازع القومية والأنانية وسباق التسلح مما أصبح يهدد العالم بالدمار الشامل.<br />
إن الإسلام يهتم بالإنسان ويجعله معياراً للتقدم والتأخر، وهو أمر يختلف جوهرياً عن اعتبار الإنسان<br />
تابعاً لتطور القوى المادية للإنتاج. فهذا القانون الإسلامي ينطلق من القانون الذي يحدد الثوابت<br />
والمتغيرات في الإنسان والثوابت هذه لا تعترف بها المارآسية، وإن أقرت بها، لا تعطيها ما تستحق<br />
من أهمية، هذه الثوابت هي ثوابت الفطرة والغرائز والنوازع الطبيعية الأساسية، وهي ما يصحب<br />
الإنسان طوال وجوده التاريخي إلى أبد الدهر وهي مشترآة في آل بنى الإنسان بغض النظر عن<br />
ألسنتهم وانحدارهم الحضاري. وإن آانت تتجلى بإشكال ونسب مختلفة من وضع إلى وضع ومن<br />
نمط عقدي حضاري إلى نمط عقدي حضاري.وهي موجودة في آل مستويات تطور أدوات الإنتاج<br />
وقوى الإنتاج والأنظمة والعمل. أما المتغيرات فهي تلك التجليات المختلفة التي تتخذها وهي تنجم<br />
عن أسباب آثيرة من بينها التطورات المادية والعلمية، أو ما يمكن أن يحل من نمط سياسي ثقافي، أو<br />
ينشأ من صراعات على أسس العصبيات الإقليمية أو الطبقات، أو الكوارث أو الاآتشافات الجغرافية<br />
وغيرها.<br />
ومن هنا وضع الإسلام منهجاً لتنظيم هذه الثوابت وضبطها على أفضل وجه، آخذاً بعين الاعتبار ما<br />
يحدث من تغيرات ورقي في حياة الإنسان وتجربته على مختلف المستويات المادية والسياسية<br />
والفكرية والاجتماعية. وفي هذا يكون الإنسان نقطة البداية وغاية المعالجة ووسيلتها وهو القادر على<br />
التحكم والضبط وإحداث التوازن وفق التصور الصحيح، آما هو قابل إلى أن ينساق وراء الهوى<br />
والنوازع بسبب المطامع وحب السيطرة انسياقاً بلا عقل أو ضبط ليحيل العالم إلى غابة من الوحوش<br />
بالرغم مما يكون قد فعله من رقي مذهل في مضمار العلوم والتقنيات آما يشهد عالمنا اليوم. ومن هنا<br />
آان المعيار الأول للتقدم والرقي يعتمد على النظرة الشاملة إليه، فينطلق من وضع الإنسان في<br />
موضوع التقدم. وهذا يتحقق بمقياس ذلك التوازن العادل الذي يجب أن يسود بين مختلف الجوانب،<br />
فإذا حوصرت النوازع السلبية آالجشع والطمع والتراآض على الشهوات.. الخ. وإذا أشبعت الغرائز<br />
الطبيعية، والحاجات الأساسية بصورة سليمة ودقيقة، ولم يسمح لها بالفجور والتحكم بالجوانب<br />
الأخرى، وإذا قام نظام العدل بين الناس وفيما بين الشعوب، بما ينسجم مع الفطرة وخير الناس آافة<br />
وإذا دارت حرآة العمل والنشاط لتطور الحياة المادية والعلوم ووسائل الإنتاج ضمن إطار المنفعة<br />
الإنسانية والارتفاع بالإنسان والرقي بوضعه الكلي فإننا نكون حيال تقدم ورقي حقيقيين وفق<br />
المنظور الإسلامي. وهو أمر ينطبق على آل الحالات الإنسانية إن آان الإنسان في الصحراء أو في<br />
سيبيريا أو وهو وراء المحراث أو التراآتور أو المصنع الالكتروني وهو يحمل الخنجر والسيف أو<br />
وهو يحمل الار. بي. جي. أو عندما آان يرآب الحمار والجمل وأصبح يرآب الصاروخ والنفاثة<br />
والغواصة والقطار. إن آل هذه الحالات يحمل الإنسان فيها نظرته التي فطره االله عليها، ويحمل<br />
طبيعته المتعددة النوازع والحاجات والغرائز والشهوات والتي وضعها االله في تكوينه ويحمل فيها<br />
عقلاً الذي وهبه االله وحاجاته الروحية والنفسية آما أنه في آل الحالات ضعيف "خلق الإنسان<br />
ضعيفا"، أشد ما يكون الضعف، وقوي (وهبه االله آل أسباب امتلاك القوة) أشد ما تكون القوة.. الخ.<br />
تشكل هذه الثوابت وعلاقتها بالمتغيرات أساساً لفهم الإنسان والتاريخ واآتشاف المنهج السليم<br />
الصحيح في معالجتها ومواجهتها واقتراح الحلول لها. أما حصر التاريخ في متابعة المتغيرات، أو<br />
منير شفيق│ نيسان ١٩٩٤<br />
مؤسسة الوفاء
105<br />
ومسيرة<br />
شهداء<br />
67<br />
حصر التاريخ في رؤية تغير واحد (الاقتصاد مثلاً) وتجاهل تلك الثوابت الأساسية وعدم الربط بين<br />
الثوابت والتغيرات ورؤية قوانين العلاقة بينهما، سيؤدي إلى نظريات خاطئة فلسفياً وعملياً وسياسياً<br />
وفكرياً.....الخ.<br />
لنضرب مثلاً: يعتبر مارآس أن إزالة الملكية الفردية يزيل نوازع الاستغلال على مستوى الأمة<br />
الواحدة وعل مستوى الأمم (راجع البيان الشيوعي) ويزيل البغضاء والصراعات والعداوات، ويكون<br />
أساساً لعالم جديد. عندما أزيلت الملكية الفردية في الاتحاد السوفياتي بقيت آل ظواهر الجشع والطمع<br />
والبحث عن السطوة والقوة والنفوذ والاستغلال آما لم تزل عن الدولة في علاقتها مع الأمم الأخرى<br />
نوازع السيطرة والتحكم والنهب. فكان لابد من تبرير، فقيل أن إزالة الملكية ما زال في أول العهد، ثم<br />
هناك ما زالت ملكية الكولخوزات. ولكن تفاقم الوضع مع مجيء الجيل الثاني الذي ولد في العهد<br />
الجديد. وتفاقم أآثر مع مجيء الجيل الثالث والرابع. مما جعل تلك الموضوعة حول اعتبار الملكية<br />
الفردية والطبقات أو التخلف الإنتاجي أساس آل الشرور، موضوعة تبسيطية مسطحة لا أساس لها<br />
من العلم والحقيقة، وثقوا أن محاولة الرآض وراء الشهوات والطمع والجشع وظواهر الحسد<br />
والبغضاء والتنافس والصراعات فيما بين البشر لن تزول حتى أبد الدهر لأن منابعها في الإنسان<br />
نفسه في ثوابت خلقه ووجوده. وآل من يتجاهلها أو يعزيها لعوامل خارجية يجانب الحقيقة<br />
الموضوعية، آذلك يجب أن نلاحظ أن تفوق الإنسان وتطلعه إلى التوحيد والعدل والحق وضبط تلك<br />
النوازع وتطلعه للحرية والإخاء والمقومات الإنسانية السليمة، هي أيضاً ثوابت في فطرة الإنسان<br />
ومن ثم هو في صراع ونزال مع تلك الثوابت المقابلة. وهذه معرآة الصراع الأبدية أو الحرب<br />
الأبدية.<br />
لهذا جاء الإسلام ليقدم منهجاً يدل الإنسان على الموقف الصحيح في هذه المعرآة، ويعطيه أسلحة<br />
إدارة الصراع وطرق خوضه، فقدر له بداية على أن يقف إلى جانب الفطرة، ويقيم التوازن السليم<br />
والعادل ويشن الحرب الضروس ضد مظاهر الظلم والاستغلال والجوع.. الخ. ولم يقل له أنك إن<br />
دخلت الإسلام آفرد أصبحت في مأمن من نوازع الشهوات والانحراف وإنما عليك أن تواصل جهاد<br />
نفسك وتنقيتها بالإيمان واتباع مرضاة االله ولم يقل له أنك ستصبح السوبرمان. بل قال له خلقت على<br />
عجل ووهن وضعف.<br />
ولهذا لابد من الانتباه المستمر والصراع الدائم لبلوغ الحالة الإنسانية الحقة التي يعبر عنها الإسلام.<br />
وهذا ينطبق أيضاً على إقامة النظام الإسلامي والحكم الإسلامي حيث تظل في المجتمع الإسلامي آل<br />
نوازع الخروج على العدل والحق والتوحيد وسيظل السعي لإعادة سيطرة العصبيات والطبقات<br />
الظالمة الاستغلالية والمنافع التي تتبع هواها وشهواتها وتعبد القوة والسيطرة والثروة والشهوة، ولهذا<br />
لابد من الانتباه لخوض الصراع المستمر.. وهكذا فهي معرآة لا تنتهي إلى أبد الدهر.<br />
انظروا يا إخوتنا الفرق بين النظرة العلمية الواقعية إلى الإنسان والمجتمع والتاريخ والتي تؤآدها آل<br />
الوقائع وتلك النظرات التي بنيت على نظرية أحادية الجانب وقد قادها فسادها إلى استنتاج خيالي، أو<br />
وعد آاذب بإقامة المدينة الفاضلة أو العالم الفاضل. حيث تنتهي الشرور حين تنتهي الملكية وتنتهي<br />
الطبقات (بالمناسبة الاتحاد السوفياتي بعد سنة عاد يشجع الملكية الفردية في إدارة المصانع<br />
والمزارع ويدعو إلى عودة التنافس في السوق أو إعادة تشجيع المنافع الفردية على مستوى المنتجين.<br />
منير شفيق│ نيسان ١٩٩٤<br />
مؤسسة الوفاء
106<br />
ومسيرة<br />
شهداء<br />
أما في البلدان الاشتراآية الأخرى فإن ذلك الصراع أخذ شكل إرساء تنظيمات اقتصادية جديدة<br />
راحت تقترب أآثر فأآثر من المسوق شبه الحرة والتوسع بالإنتاج القائم على الملكية الفردية<br />
والمنافسة بين الأفراد وغير ذلك)، انظروا أنهم يحاولون أن يتوازنوا بين ما هو عام وما هو خاص،<br />
وبين الملكية العامة والمنافع الخاصة، والفردية والتنافس والجوائز.. الخ. وذلك بعد الفشل الذريع<br />
الذي منيت به الزراعة والمرافق الصناعية بسبب انتزاع الدولة للملكية واحتكارها. بينما راعى<br />
الإسلام نوازع الفرد نحو الملكية والعمل بنفسه ولمنفعته وتحقيق مطامعه الخاصة فلم يقل بإلغاء<br />
الملكية الفردية من حيث أتى. وإنما أبقاها وعمل على ضبطها وتنظيمها، وآذلك راعى ضرورة إقامة<br />
ملكيات عامة، ولكن لم يسمح للدولة باحتكارها والتحكم بها فترك بعضها شائعاً للناس وترك بعضها<br />
ملكيات على مستوى مجموعات من المنتجين (عائلات، قرى، جمعيات، مؤسسات) وترك بعضها<br />
أوقافاً وترك بعضها للدولة، آما لم يلغ السوق والتجارة الحرة وإنما أقام لكل ذلك ضوابط وروادع<br />
وأصولاً، وباعتقادنا أن آل تباهي المارآسيين في علم الاقتصاد، أثبتت الوقائع أن الإسلام تفوق<br />
عليهم ولم يستطيعوا اللحاق بذيوله. ولعل من أسباب ذلك، جهلهم أولاً وقبل آل شيء، بالإنسان وخلقه<br />
ومكوناته ومن يجهل هذا يسحب جهله إلى عالم الاقتصاد.<br />
إن لفت الانتباه لأهمية فهم الإسلام في معالجة الإنسان وموضوع الثوابت والمتغيرات يساعد على<br />
تلافي السلبيات التي يمكن أن تنجم عن رقي العلوم والتقيات وتطور الإنتاج والمواصلات، أفسح<br />
المجال رحباً لرقي التجربة الإنسانية في مجال التنظيم الاجتماعي والسياسي.. الخ. فالإسلام قدم<br />
مبادئ عامة ولم يدخل في التفصيلات تارآاً للاجتهاد أن يجيب على ما يستجد من متغيرات، ويرقى<br />
بتنظيم حياة الناس ضمن ما يبلغه الإنسان من رقي وتطور مادي، فعلى سبيل المثال أقر الإسلام مبدأ<br />
الشورى ولكنه لم يضع نظاماً ثابتاً في آيفية تحديد أهل الشورى أو آيفية إجرائها. فأهل الحل والعقد<br />
يمكن أن يكونوا على الشكل الذي طبق زمن الرسول صلى االله عليه وسلم والخلفاء الراشدين رضي<br />
االله عنهم، ويمكن أن يشكلوا من خلال انتخابات ومجلس شورى أو من خلال شكل يجمع بين<br />
الانتخابات وبين أهل العلم والاجتهاد والخبرة والاختصاص.. الخ. أو مثلاً وضع الإسلام مبدأ مراعاة<br />
المنفعة العامة أو دفع الضرر وهذه أيضاً ترك تحديدها وتطبيقها للمتغيرات ومراعاة ظروف الزمان<br />
والمكان وآذلك موضوع تنظيم الملكية في المجتمع وإدارة الإنتاج ومراقبة السوق وتحقيق التكافل<br />
الاجتماعي، فقد وضع المبادئ والمنهج وترك التفصيلات للمتغيرات واجتهاد أهل الإسلام.<br />
ومن هنا أيها الأخوة حين يعود الإسلام بعد ذلك الانقطاع سينشئ مجتمعاً أو مجتمعات إسلامية ليست<br />
صورة طبق الأصل وتفصيلية من المجتمعات الإسلامية الأولى بل ستكون هنالك متغيرات آثيرة.<br />
ولكن سيبقى الجوهر واحداً فإن آانت إسلامية حقاً فلا بد من أن تجدوا فيها عدل أبي بكر وعمر<br />
وعثمان وعلي وعمر بن عبد العزيز رضي االله عنهم، وستجدون فيها الإنسان المسلم المتوازن على<br />
المنهج الذي آان يزن عليه الرسول صلى االله عليه وسلم وأصحابه، ولكن ستجدون أيضاً مؤسسات<br />
وجمعيات شعبية لإدارة الإنتاج، والسياسة، والتعليم وأجهزة تختلف عما آان يجري في الزمن السابق<br />
من إشكال اجتماعية في إدارة الإنتاج والسياسة والتعليم، وستجدون دوراً للجامع يربط بين العبادة<br />
والسياسة وإقامة العدل والتنمية والدفاع عن الحق والإسلام.. ربما من طراز جديد أيضاً، يشكل<br />
استمراراً وتعميقاً وتطويراً لدوره الذي عرفه التاريخ الإسلامي السابق، وبالمناسبة أنه لمن البديهي<br />
القول أو المسلم به من أغلب المفكرين الإسلاميين أن أمام الإسلام اليوم عشرات المستجدات<br />
منير شفيق│ نيسان ١٩٩٤<br />
مؤسسة الوفاء
107<br />
ومسيرة<br />
شهداء<br />
والقضايا التي يجب على الفقهاء والعلماء والقادة أن يقولوا آلمتهم فيها بما يناسب العصر وما طرأ<br />
من متغيرات.<br />
فالذي يجب أن تدرآوه أن الانتقال إلى أرض الإسلام في معالجة قضايا الأمة لا يشكل غير الخطوة<br />
الأولى الصحيحة والضرورية التي تضعنا ضمن الاتجاه الصحيح، ولكن لا يعني ذلك أن أمامنا<br />
حلولاً جاهزة لمختلف القضايا والمعضلات ولا يعني أن تقديم تلك الحلول بصورة سليمة مسألة<br />
مضمونة من قبل من في يدهم أمر الفتوى والاجتهاد، فالعملية أعقد من ذلك بكثير، ولا يجب أن<br />
يحمل المرء أوهاماً بامتلاك مفتاح سحري.. فلو آان الأمر آذلك لكان الأمر محلولاً، فهذه ليست<br />
التجربة الأولى في محاولة اعتماد الإسلام لمواجهة التحديات المعاصرة فثمة قبلها عشرات<br />
المحاولات بعضها حقق نجاحاً جزئياً، وبعضها غلب على أمره، وبعضنا لم يوفق بما ذهب إليه. ولا<br />
تنسوا أن ما يمكن اقتراحه هو محاولة لتطبيق منهج الإسلام من خلال البشر، والبشر خطاؤون. ولا<br />
عصمة لأي من القادة والمجتهدين، ولهذا إن ما بين أيديكم محاولة لوضع الأمر على أول السكة<br />
الصحيحة ليس أآثر، ثم بعد ذلك لابد من البحث والعمل والتعلم والمحاولة. ولكن في آل الأحوال<br />
احتمال النجاح من خلال الإسلام أآيد في النهاية، أما المناهج والطرق الأخرى ففشلها أآيد من البداية<br />
إلى النهاية.<br />
لنعد مرة أخرى إلى مواصلة التأآيد على صحة المنهج الإسلامي الشمولي في معالجة الثوابت<br />
والمتغيرات ولنضع ذلك ضمن قاعدته الأساسية وهي مسألة الإيمان باالله وبالعقيدة وأهمية الضوابط<br />
والروادع الإيمانية والأخلاقية في إنجاح المعالجة الشمولية للإنسان. إن الشمولية الإسلامية في<br />
معالجتها لقضية الإنسان والحياة والمجتمع والإنسانية تتمرآز حول محور الإيمان باالله إذ بدون هذا<br />
المحور تفقد تماسكها وحياتها الداخلية وقوتها المحرآة، فالإيمان بوحدانية االله وبأن االله تعالى أآبر من<br />
آل خلق، تعطي الإنسان قوة في مواجهة نفسه وهواه وضعفه بل في مواجهة آل ما من شأنه أن<br />
يتحول إلى معبود يعبده الإنسان أو يخضع له أو يصبح عبداً له سواء أآان ذلك بشراً قائداً، أو حاآماً<br />
أو آان طبقة أو حزباً أو آان مالاً، أو بنين، أو فساداً، أو شهوات، أو هوى، فالعبودية الله وحده تسمح<br />
بإسقاط، أو تقضي في جوهرها بإسقاط، أية عبودية أخرى، والإيمان بأن لا اله إلا االله لا تسمح بتسلط<br />
بشر على بشر، أو بعبادة بشر لبشر، أو أن يقيم أحد نفسه "إله" على الناس إذ أن هذا الإيمان باالله<br />
الواحد الأحد ورفض أي شرك بهذا الإيمان أو بديل له هو الذي يسمح بإقامة نظام العدل والتوازن<br />
فيما بين مختلف الجوانب التي تتعلق بحياة الإنسان، وهو الذي يسمح بألا يطغي جانب على الجوانب<br />
الأخرى. فالتوحيد هو الذي يضبط وينظم الثوابت في الإنسان ويقيم التوازن فيما بين مختلف<br />
المتغيرات. فهذا التوحيد وما يصحبه من إيمان باليوم الأخر والتزام بمرضاة االله، واتباع أوامره<br />
ونواهيه يشكل الشروط الضرورية للتحرك في الحياة على صراط مستقيم، فلا يترك عقل الإنسان<br />
ليبرر هواه أو ليسوغ الأنظمة الطاغوتية والوحشية آما نشهد في عصر العقل الأوروبي. بينما يطلق<br />
العقل إلى أقصى مداه بعد أن يقوده التوحيد والإيمان والالتزام بمرضاة االله فيمتلك البوصلة التي تحدد<br />
له الاتجاه الذي يجعله يبدع ويخترع وينظم بعيداً عن الهوى والأنانية والشهوات. وهذا عماده الفطرة<br />
وعززه الوحي الذي وصل خاتمته بنزول القرآن وتمام رسالة محمد وسنته صلى االله عليه وسلم، أما<br />
هذا المحور، أي الإيمان باالله وما أنزل من آتب وبعث من رسل وأنبياء والإيمان باليوم الآخر آل<br />
ذلك يسمح بتنظيم هذا الشمول ويجعد له معنى ومغزى فيصبح سير الإنسان بمنهج التوازن والعدل<br />
ليس مجرد قناعة بمنهجية علمية فحسب، ولا يصبح مجرد خيار أفضل من بين المناهج أحادية<br />
منير شفيق│ نيسان ١٩٩٤<br />
مؤسسة الوفاء
108<br />
ومسيرة<br />
شهداء<br />
الجانب فحسب وإنما أيضاً يكون خضوعاً الله فلا يكفي ألا تعتدي على غيرك حتى تكون مقتنعاً<br />
بضرر ذلك من ناحية إنسانية وإنما يجب بالإضافة إلى ذلك أن يكون أمراً إلهياً لا خيار لك فيه حتى<br />
لا تترك الحبل على الغارب للمعتدين أو حتى عندما يحدث اعتداء تكون الأبواب مغلقة في وجهه،<br />
على الأقل، من الناحية النظرية والفكرية ولهذا آان من أصعب الأمور على الظالمين والفاسقين<br />
والمعتدين في التاريخ الإسلامي أن يجعلوا ما يفعلونه قانوناً. فالإقطاعي أو السيد أو الرأسمالي أو<br />
الدولة الاشتراآية، جعل هو وضعه شرعياً دستورياً قانونياً. وأصبح آل خروج عليه هو خروج على<br />
القانون، أما في التاريخ الإسلامي لم يستطع الذين خرجوا على الشرع من خلفاء وسلاطين وحولوا<br />
الحكم إلى ملك عضوض، أن يبطلوا الشرع أو يعطوا الشرعية لقانونهم. فكان بإمكانهم أن يحكموا<br />
بالغلبة والسيف، وان يكبتوا الأنفاس، ويرهبوا العلماء والناس، ولكنهم لم يستطيعوا أن يكرسوا ذلك<br />
بالدستور والقانون. لأن الشرع آان لهم بالمرصاد. وآان بقاؤهم يتعلق بميزان القوى حتى يأتي من<br />
يعلن اعتبارهم خارجين على الشرع، أي هم الذين خرجوا على قانون االله، وبهذا آانت الثورة تحمل<br />
شرعيتها دون استئذان.<br />
ثم ما الذي يقنعك ألا تطغى، أو لا تترك لشهواتك العنان إذا لم يكن لك مرجع يحرم الطغيان واتباع<br />
الشهوات. ولهذا تراهم الآن في الغرب ضعيفي الحجة أمام الذين يطالبون بجعل اللواط قانونياً. إن<br />
الاستناد إلى المصلحة العامة، أو الإنسانية تظل مسألة خلافية بالرغم من أهميتها، ولا قدرة لها إن لم<br />
تكن هنالك قوة تسندها. تذآرون أن المراحل الأولى في حياة الاشتراآيين والشيوعيين والثوريين<br />
والعلمانيين حملت قناعات عندهم بأخلاق إنسانية ومثل إنسانية (أو بروليتارية) واسماها البعض<br />
الأخلاق الثورية، فبدلاً من أن يكون الصدق بمنزلة الأمر الإلهي، حولوه إلى مبدأ ثوري، ولكن<br />
سرعان ما تبخرت هذه المبادئ لأنها فقدت مرتكزاتها. وأصبح من يتمسك بها يسمى"شاعراً<br />
وخيالياً"، وحل محلها فن النفعية وما يحقق المصالح السياسية والحزبية أو الفردية ولم يعد من<br />
ضوابط العلاقات بين المرأة والرجل إلا ما يضعه آل لنفسه من ضوابط، عدا الحالات التي تنجم<br />
عنها فضائح، فتقاوم لا لذاتها وإنما لما تلحقه من أضرار بسبب الفضائح.<br />
لاحظوا أيها الإخوة قوله تعالى: "إن الإنسان ليطغى" وهذا ينطبق حتى على الذين يؤمنون باالله وما<br />
أنزل على محمد صلى االله عليه وسلم، فالمنع من الطغيان يحتاج إلى إيمان ولا يترك الأمر للاجتهاد.<br />
ويحتاج إلى روادع أخرى آالخوف من جهنم والخوف من إقامة الحد، ويحتاج إلى وضع القوانين<br />
الرادعة والمانعة فإذا آان الإيمان لا يكفي لوحده لضبط المجتمع والأفراد فكيف بدونه؟ إن معالجة<br />
الإنسان آما يلحظ المنهج الإسلامي مسألة على غاية من التعقيد وبحاجة إلى تناول آل مشكلة من عدة<br />
زوايا حتى يتوفر إمكان لضبطها، لا نهائياً ولا آلياً، وإنما نسبياً، الإيمان أولاً والخوف من جهنم<br />
ثانياً، ثم الحدود والقوانين ثم توفير الشروط الإيجابية لإقامة العدل العام والتوسع بتأسيس الحاجات<br />
الضرورية للإنسان.. الخ. آل ذلك يحقق من النتائج لخير الإنسان والإنسانية أفضل من أي منهج آخر<br />
يقتصر على معالجة لهذه المشكلة أو تلك من زاوية أو زاويتين فقط آالودع القانوني أو الإغراء<br />
المادي أو تأمين شروط اقتصادية أفضل.<br />
أيها الإخوة، إن آل هذه الملحوظات تستحق منكم أن تتأملوها وتحاولوا فهمها من آل جوانبها قبل أن<br />
تردوا عليها، ولا بد أن تلحظوا أنكم، آما آنا نحن إلى حين، تحملون أفكاراً مسبقة ومفاهيم تظنونها<br />
من العلم اليقين. ومن ثم تسرعون إلى محاآمة الإسلام على ضوئها. ولكن ثقوا أنها قابلة للهز هزاً<br />
منير شفيق│ نيسان ١٩٩٤<br />
مؤسسة الوفاء
109<br />
ومسيرة<br />
شهداء<br />
قوياً لأنها ليست من العلم اليقين، وتذآروا أن أجيالنا منذ سبعين عاماً في الأقل، لا تتعلم في مدارسنا<br />
ولا تقرأ أو تسمع أو تشاهد في إعلامنا، ولا تسمع ممن في يدهم السلطة، غير أفكار الحضارة الغربية<br />
المسيطرة علينا. ولا تظنوا أن معرآتنا مع الغرب الاستعماري آانت فقط معرآة عسكرية، أو أن<br />
الاستعمار هو فقط نهب الثروات والاحتكار وتقسيم العالم (أو إذا شئتم السمات الخمسة التي وضعها<br />
لينين للاستعمار) إنه أآثر من ذلك، أنه أيضاً سحق للشخصية والهوية والثقافة والحضارة المقابلة<br />
الأخرى، ليفرض حضارته على الشعوب حتى تجعله قبلتها في آل شيء. ومن ثم يصبح عليها، حتى<br />
وهي تعارضه، أن تختار أدوات المعارضة من بعض بضاعته، طبعاً قد تقولون أن الغرب ليس فقط<br />
الاستعمار والرأسمالية وإنما الغرب هم البروليتارية أيضاً. ولكن ألم يحن الوقت الذي تنتهي فيه هذه<br />
الأآذوبة لكي ترى البروليتارية شريكاً وجزءاً من عملية الاستعمار. وإلا لما آان من الممكن أن<br />
يتحقق الاستعمار، أو يبقى حتى اليوم وبالمناسبة لاحظوا أن النظرة المارآسية الماوية تقول: "أن<br />
مرآز الثورة العالمية انتقل إلى العالم الثالث" تمثل اعترافاً بصورة غير مباشرة بانهيار مقولة<br />
البروليتارية في البلدان الرأسمالية المتقدمة.<br />
حقاً هنالك صراعات بين الطبقات والاتجاهات السياسية الإيديولوجية في الغرب (نستثني الاتجاهات<br />
النابعة من دوافع الفطرة، والتي لا يعبر عنها الآن إلا تعبيراً ضعيفاً جدا.). فنقابات العمال والأحزاب<br />
المختلفة تتصارع في الداخل لاقتسام المكاسب ولكنها في شراآة بالنسبة إلى العالم الثالث الآخر،<br />
ولنجعل من قضية فلسطين مثلاً آشافاً، أفلا تلحظون أن جميع تلك القوى الرأسمالية والبروليتارية في<br />
الغرب والشرق والسوفياتي، متفقة على بناء دولة إسرائيل وشارآوا في إقامتها ولو بنسب متفاوتة،<br />
وما زالوا شرآاء في رفض آل تصفية لها. ثم هم يختلفون بعد ذلك حول الحدود التي يمكن أن تكون<br />
عليه دولتها، ويختلفون حول حقوق الشعب الفلسطيني. ويختلفون في السياسة، لمن تتبع إسرائيل.<br />
انظروا وتأملوا جيداً في المواقف بالنسبة إلى هذه القضية تستطيعوا أن ترفعوا الغشاوة عن بعض<br />
العيون فترون لماذا يجب أن نضع أولئك الجميع في سلة واحدة ونحن نفرق بين تفاصيل مواقفهم.<br />
وقد نفيد تكتيكاً، بعض الشيء من هذا التفريق. ولكن لا يمكن أن تكون جزءاً من إحدى الجبهتين<br />
هناك، وإنما نبحن طرف ثالث بكل ما تحمل الكلمة من معنى، إذا آان مثال فلسطين أآثر وضوحاً<br />
بالنسبة إلينا لكي نفهم الوضع فيمكن أن نجد هذا الأمر نفسه يطبق على الموقف من الإسلام.. وعلى<br />
الموقف من المعرآة الحضارية،. أليسوا متفقين علي أن حضارتنا يجب أن تحطم.. أليسوا متفقين<br />
على أننا يجب أن نتبع المرآز العالمي للحضارة الذي هو هم، أم علينا أن نخدع حيث يختلفون أشد<br />
الاختلاف على من يأآلنا منهم، وعلى من يتبعنا إليه. إن مثل هذا الاختلاف يجعلكم تقولون لا<br />
تضعوهم في سلة واحدة، فهذا آله مفهوم ويمكن ملاحظته جيداً.<br />
أيها الأخوة فسروا لنا هذا الموقف الإجماعي من "إسرائيل" وقبل،ذلك فسروا لنا لماذا مصطفى<br />
أتاتورك ورضا بهلوي والد شاه إيران السابق اللذان افتتحا المعرآة ضد الإسلام واندفعا نحو<br />
العصرية الغربية، أيدا من قبل لينين آما مجدا من الفكر الغربي الليبرالي والمارآسي إجمالاً؟ وفي<br />
الوقت نفسه لماذا تحمس مارآس للمهمة المزدوجة للاستعمار البريطاني في الهند لتحطيم المجتمع<br />
التقليدي الأسيوي وزرع الحضارة الأوروبية، وهو تعبيره المباشر بينما آان "بالمرستون" ينفذ ذلك<br />
بحد السيف، ويوغل بدماء المسلمين الهنود؟ وبالمناسبة هل تعلمون ما هو التفسير المارآسي لشراآة<br />
البروليتاريا رأسمالييها بالنسبة إلى العالم الثالث، يقولون أن الرأسماليين رشوا فئاتها العليا، ثم قالوا<br />
منير شفيق│ نيسان ١٩٩٤<br />
مؤسسة الوفاء
110<br />
ومسيرة<br />
شهداء<br />
بل الرشوة آانت أشمل من خلال ما تم التنازل عنه للبروليتاريا الغربية من ضمانات ومكاسب، ولكن<br />
الذي يقبل بالرشوة القليلة فهل سيعف عن أآل الحصة الأخرى حين تتاح له، أي القيام بالنهب المباشر<br />
هو نفسه حين يصبح بالسلطة (الاشتراآية).<br />
ومن هنا فإن التأمل العميق في الموضوعات أعلاه المتعلقة بانطلاق الإسلام من الإنسان وما يتسم به<br />
من ثوابت وتغيرات، وما قدمه من منهجية شمولية في معالجة مختلف الجوانب وإقامة التوازن على<br />
أساس العدل والمساواة فيما بينها، ندرك جوهر عالمية النظرة القرآنية، وهي عالمية لا تقوم على<br />
أساس ظرف تاريخي محدد آالعالمية الرأسمالية أو البروليتارية مث ًلا. لأنها عالمية تتعامل مع الإنسان<br />
في جوهره لا مع جانب من جوانب المتغيرات في تاريخه، وإن آانت قادرة على احتواء المتغيرات<br />
وضبطها ضمن العالمية الإسلامية. ويجب أن نتذآر هنا أن الإسلام قدم نموذجاً على مستوى تطبيقي<br />
ناجح من خلال ثورته الأولى ودولته الأولى بقيادة الرسول العظيم صلى االله عليه وسلم. ونماذج<br />
الحكم التي قدمها عهد الخلفاء الراشدين وعدد من الحالات المشابهة التي آانت ثمرات ثورات بقيادة<br />
علماء أو فقهاء أو نماذج للمقاومة المستمرة طوال الأربعة عشر قرناً الماضية آان بمثابة قطب<br />
الجذب والمنارة العالمية للإسلام، حيث آان النموذج مصدر جذب عالمي. وما الفتوحات الإسلامية<br />
التي انطلقت من ذلك النموذج أو على هديه آانت تحريراً للشعوب التي افتتحت أراضيها آما جاءت<br />
تجاوباً مع فطرتها عندما أقيم حكم الإسلام. وهذا يفسر لماذا أسلمت وعربت آل هذه المناطق التي<br />
تغطي الآن البلاد العربية ولماذا انتشر الإسلام وانغرس في إيران وترآيا ومناطق آسيا وأعماق<br />
إفريقيا.<br />
لقد ذهبت قوة الفاتحين وبقي الإسلام في آل تلك البلاد ليس آدين عبادة فحسب وإنما آنموذج للعدل<br />
الاجتماعي وللعالمية والإنسانية ولمعالجة قضايا الإنسان، ولهذا ترى اليوم مئات من الشعوب<br />
الإسلامية تتحرك في صحوة عارمة من أجل خلع أنظمة التغريب عنها وإقامة نظام الإسلام والدعوة<br />
إلى الأخوة الإسلامية والوحدة الإسلامية والعالمية الإسلامية. ولكن يجب الوقوف هنا لتأمل تجربة<br />
الفتح. فالإسلام يقدم نموذجاً للعالمية الإسلامية فيما بين شعوب منتشرة في آسيا وإفريقيا وأوروبا لم<br />
تنشأ بعدها أية عالمية تضاهيها أو تقارن بها منذ أربعة عشر قرناً. وذلك بالرغم مما بلغته الإنسانية<br />
اليوم من تقدم في العلوم والتقنيات ووسائل المواصلات والإنتاج، فهذا يفرض التفكير جيداً بهذه<br />
الحقيقة من جهة، آما يجعل من المشروع القول أن العالم الذي يرآض إلى دماره اليوم وبأيدي مراآز<br />
الحضارة الغربية هو أشد ما يكون حاجة إلى إعادة إحياء العالمية الإسلامية، بداية عن طريق استعادة<br />
الإسلام لنموذجه فوق الديار الإسلامية. ثانياً من خلال الإسهام المباشر مع جميع مستضعفي العالم<br />
لوقف الدمار المسمى بالحضارة الغربية المعاصرة إنها أسباب تلف الإنسان روحياً، وجسدياً،<br />
وعلاقات دولية، دون الحديث عما تحمله من مظالم أو فساد.ومن هنا فثمة مسؤولية أمام العلماء<br />
والمفكرين والقادة الإسلاميين لمواجهة مسؤولية إعادة صياغة شروط الحياة المعاصرة المطبوعة<br />
بالرؤيا الحربية وذلك من خلال إعادة بناء النموذج الإسلامي في الديار الإسلامية، آما بالنسبة إلى<br />
سمات توليد العالمية الإسلامية الجديدة.<br />
منير شفيق│ نيسان ١٩٩٤<br />
مؤسسة الوفاء
111<br />
ومسيرة<br />
شهداء<br />
<br />
< <<br />
112<br />
ومسيرة<br />
شهداء<br />
ابن خلدون العلمية نراها مشحونة بصورة صراع العصبيات بينما نرى نهج مارآس مشحون بصورة<br />
طبقات العبيد والأسياد في أثينا وروما وإقطاع أوروبا وأقنانها وبرجوازيتها وعمالها. إن المنهج الذي<br />
لا فكرة لديه عن صراع العصبيات القبلية في مرحلة من تاريخنا مثلاً أو صراع البادية والمدينة أو<br />
صراع الجهويات والقبائل الإسلامية في إسبانيا حيث عمت تجربة حضارية عالمية في ظروف<br />
انعزل فيها الفاتحون المسلمون عن بقية جسم الدولة الإسلامية منذ العباسي. لكن مع ذلك استطاعت<br />
أن تتعايش فع السكان الأصليين وأن تنغرس في الأرض الإسبانية وتولد حضارة أثارها مشهودة حتى<br />
اليوم.<br />
وبالمناسبة لم تهزم الدولة الإسلامية في إسبانيا بعد مئات السنين إلا في ظروف انحلال الحكام<br />
وانقسامهم إلى دويلات ثم اشتداد الدعم الخارجي لفئة صغيرة من الإسبان. لكن الأهم من ذلك فإن<br />
الإسلام انتزع عبر عمليات الإبادة والاجتثاث من الجذور التي أصابت مئات الألوف من المسلمين<br />
العرب والإسبان، ولولا ذلك لبقي الإسلام منغرساً في الأرض حتى بعد أن فقد سلطته السياسية<br />
وقدرته العسكرية.<br />
ثم إذا أخذنا بعين الاعتبار خطورة تلك التأثيرات السلبية على العالمية الإسلامية، والمتمثلة ببعض<br />
القيود الظالمة والمظاهر الفاسدة في ظل الحكومات التي تلت العهد الراشدي، فسوف ندرك أهمية<br />
النموذج الإسلامي الراشدي الأصلي، وأهمية العمل الإسلامي القاعدي الذي يمارسه العلماء<br />
والمجاهدون والأتقياء دون اعتماد على سلطة الدولة لكي يكرسوا العالمية الإسلامية، بينما لا تستطيع<br />
العالمية المعاصرة أن تبقى إلا من خلال سلطة الدولة، فماذا سيحدث للاشتراآية لو رفعت سلطة<br />
الدولة وعلى التحديد سلطة الجيش؟ فهل ستبقى تلك المجتمعات متمسكة بالنمط الاجتماعي السائد،<br />
إزاء المارآسية الرسمية السائدة أم سينتهي أمر هذا النموذج بسبب تناقضه مع الإنسان، مع فطرته<br />
وجوهره. ومن ثم مع العديد من جوانب حياته الروحية والفكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية.<br />
هذا آله يؤآد لا علمية المنهج المارآسي وعدم قدرته على الديمومة والبقاء عشر معشار بقاء<br />
الإسلام. ومن هنا لم تحسنوا التقاط موضوعات آتاب "الإسلام في معرآة الحضارة" ولهذا لا يجوز<br />
بالاستناد إلى لا علمية المارآسية ولا عالميتها من جهة ولا عالمية المارآسية، أو الليبرالية الأوروبية<br />
من جهة أخرى، بسبب محدوديتهما وخصوصيتهما التاريخية إلى نقل تهمتها نفسها إلى تلك<br />
الموضوعات بالقول "أنها تعتبر العلمية تنبع من الخصوصية الحضارية وشهادة المنشأ". إن الجواب<br />
آان سيكون مقبولاً لو دحضتم تلك الموضوعات من خلال إثبات عالمية المارآسية وعلميتها. فتلك<br />
الموضوعات أثبتت أحادية النظرة في المنهج المارآسي والمناهج الأوروبية الأخرى بسبب قيامها<br />
على أساس التجربة الخاصة التاريخية لحضارة واحدة محددة، هي الحضارة الأوروبية، وإنها لم<br />
تشق من دراسة التجربة التاريخية للعالم أو أغلبيته، هذا ويمكن البرهنة أن معلومات تلك المناهج<br />
حول الحضارات الأخرى وتجاربها التاريخية وبنائها الفكري ومعلومات إما خاطئة أو مجاملة أو<br />
سطحية فمارآس وإنجلز، مثلا، حيث يعتبران الثورة الإسلامية الأولى، ردة فعل بدوية، لا يكونان<br />
يعبران عن نظرة علمية وإنما ينطلقان من نظرة المرآزية الأوروبية الضيقة. وهذا في أحسن حالات<br />
التفسير لسبب مثل هذه الأحكام التي هي من منهجهما المسمى العلمي والعالمي والذي يدعي أنه فوق<br />
الحدود الحضارية أو التاريخية المحددة لقارة معينة. ولهذا فإن إغناء الحوار بيننا يحتاج من جانبكم<br />
منير شفيق│ نيسان ١٩٩٤<br />
مؤسسة الوفاء
نوأ<br />
113<br />
ومسيرة<br />
شهداء<br />
إلى التدقيق في تلك الموضوعات الواردة في آتاب "الإسلام في معرآة الحضارة"<br />
نختلف أو نتفق على ما جاء فيها فعلاً لا على ما لم يكن فيها.<br />
ثم مناقشتها حتى<br />
-1<br />
ح- إن مشروعية المنهج الموضوعي أو علميته يجب أن تأتي من قدرته على أن يكون تقييماً حقيقياً<br />
صحيحاً للتجربة التاريخية العالمية للإنسانية أو على الأقل لحضاراتها الرئيسية، وليس أن يقيم تجربة<br />
جزئية محدودة (التجربة الأوروبية) ويعتبرها قانوناً عاماً. أما مشروعية المنهج الإسلامي وعلميته<br />
فقد وصلنا في البداية لهما من خلال الأسس نفسها التي تعاملون بها المنهج المارآسي ولكن الإسلام<br />
جاء في أصوله عن طريق ألوحي، من هنا تأتي مشروعيته وعلميته بالنسبة لمن امن باالله،<br />
محمداً رسوله صلى االله عليه وسلم ونحن اليوم من هؤلاء المؤمنين والحمد الله. أما بالنسبة لمن لا<br />
يستند إلى هذا البرهان فنحن يمكن أن نقنعه آما اقتنعنا نحن بادئ ذي بدء من خلال إثبات صحة<br />
النظرة الإسلامية والمنهجية الإسلامية وعالميتها، وقد حاولنا إثبات ذلك أعلاه، بل آان ذلك هو<br />
طريقنا إلى الإيمان والعقيدة، فعندما ثبت لنا بالبرهان صحة الإسلام ومنهجه وعالميته تساءلنا:آيف<br />
يكون الإسلام على هذا القدر من الصحة والعالمية ويكون قادراً على مواجهة الفكر الأوروبي<br />
المعاصر. ويكون في الوقت نفسه من صنع بشر أبناء تجربة تاريخية محدودة ومتواضعة آما آان<br />
الحال في القرن الثامن في الجزيرة العربية. أي لابد من أن يكون مصدر هذه الصحة والمنهجية<br />
العلمية والعالمية وحي يتعدى الزمان والمكان المحدودين.<br />
د- الآن سنأتي إلى موضوعة التراث والتاريخ والحضارة وتأثيرها آقانون عام على الشعوب آافة<br />
ويمكن هنا، أن نلاحظ ما يلي.<br />
القسم الأعظم من بلدان العالم الثالث إن لم يكن جميعها زادت تبعية بعد الاستقلال من ناحية<br />
الاعتماد على الخارج حتى في مجال القمح والغذاء وهناك اليوم إجماع على أن مشاريع التنمية لم<br />
تحقق الأهداف المرجوة وقد زادت الديون حتى بلغت حداً أشرفت الدول على رهن نفسها، أو إعلان<br />
الإفلاس.<br />
2- أثبتت التجربة أيضاً أن البلدان التي تبنت الاشتراآية أو سارت على ما يسميه السوفييت "الطريق<br />
اللا رأسمالي"، واجهت المصير نفسه ولم تحقق التنمية الموعودة وتدهورت أآثر من غيرها من<br />
ناحية الغذاء والزراعة والصناعة والتجارة الداخلية والخدمات والديون الخارجية.<br />
3- أجمع أغلب الذين عالجوا هذه الظاهرة على القول أن السبب يرجع إلى عزلة مشاريع التنمية عن<br />
الجماهير، خصوصاً جماهير الفلاحين والعمال المسحوقين وقد أقرت لجنة العلماء السوفييت في<br />
ندوتها المشار إليها أعلاه بهذه الحقيقية أيضاً وفسرتها بأن النخبة الطليعية سرعان ما تجد نفسها في<br />
عزلة وتناقض مع "التقليدي" فالتقدم يأخذ شكل النزول من الأعلى إلى الأسفل. أي من النخبة والدولة<br />
من فوق بينما لا تكون "القاعدة التقليدية" مهيأة له، وهذا ما حداهم إلى التأآيد بعد فوات الأوان طبعاً<br />
على ضرورة الانتباه إلى المواءمة بين العصرنة و"التقليدي". وهي المعضلة التي لم يجد العلمانيون<br />
حلاً لها في البلدان التي استطاعت فيها الأحزاب ألمارآسية أن تقود الشعب (التقليدي) في معرآة<br />
التحرير الوطني آالصين وفيتنام وآمبوديا، وإن آانت هذه التجارب أفضل نسبياً من هذه الناحية.<br />
منير شفيق│ نيسان ١٩٩٤<br />
مؤسسة الوفاء
114<br />
ومسيرة<br />
شهداء<br />
4- إن الحقيقة العلمية التي أصبحت الآن مقبولة حتى من قبل بعض آبار المارآسيين والليبراليين<br />
تقول أن تكريس الاستقلال بعد آسب معرآته ضد المستعمر وتحقيق تنمية حقيقية مستقلة (ناهيك عن<br />
العدل والحرية والديمقراطية) لا يمكن أن يتم بمعزل عن تبني الجماهير لهما. وهذا غير ممكن ضمن<br />
البرامج العلمانية المتغربة التي أثبتت أنها بالضرورة متعادية مع الجماهير ولا تخدم غير فئة النخبة<br />
من آبار الاحتكاريين من قادة الحزب والدولة في البلدان التي توسعت في التأميم. ولنذآرها هنا، أن<br />
الجماهير المستعاض عنها بعبارة "التقليدي" في ندوة العلماء السوفييت هي التي تختزن التاريخ<br />
والتراث والتقاليد للأمة، ومن ثم إذا لم تنبع مشاريع التنمية من قلب هذا الخزان ولم تلمس عقيدة<br />
الجماهير وقناعتها وقلوبها فعبثاً يصار إلى دفعها لتجعل من قضية الاستقلال والتقدم والتنمية<br />
قضيتها. أما إذا آانت قضية الاستقلال والتقدم والتنمية قضية ذات محتوى تغريبي علماني (ليبرالي<br />
أو اشتراآي) فالجماهير ستنظر إليها بحذر وستفقد حماسها رويداً رويدا، حتى يقع الانفصال النهائي.<br />
وهذا ما حدث حتى بالنسبة إلى القيادات التي آانت في المعارك الوطنية ضد الاستعمار تحظى على<br />
تأييد الجماهير ودعمها. وإذا بها تفقد ذلك التأييد وتتحول إلى معادية للناس بعد الوصول إلى الحكم<br />
وتطبيق برنامجها العلماني.<br />
5- من هنا يمكن أن تفهم المسالة الحضارية باعتبارها قضية مرآزية يتوقف على فهمها ومعالجتها<br />
مستقبل الثورات في العالم الثالث، عموماً وأن من يستطيع أن يفهمها في بلادنا فهماً عميقاً، ويلحظ<br />
مرآزية العقيدة الإسلامية بالنسبة إلى حضارتنا فيمتلك النهج الذي يستطيع أن يجيب على قضايا<br />
العصر وحاجاته، قضايا استقلال الشعوب وتقدمها وتنميتها وخلاصها من التبعية، قضية تحطيم<br />
مراآز السيطرة العالمية تفرض هيمنتها على الشعوب وتريدها أن تبقى في نير العبودية، والتي تهدد<br />
العالم بالدمار إذا ما تحرآت أزرارها النووية. لذا آان شرط البرنامج القادر على تحقيق الاستقلال<br />
والتنمية والحرية أن يكون قادراً على مس شغاف قلوب الأمة حتى تتبناه لتنهض من أجل تحقيقه،<br />
وإذا آان هذا الشرط لا يتحقق في بلادنا إلا من خلال الإسلام، فهل يكون تجاهل هذين الشرطين<br />
موقفاً علمياً أو منهجاً علمياً وعالمياً، أم يكون عكس ذلك تماماً، فالنهج العلمي الحقيقي هو الذي يوفي<br />
هذين الشرطين. ومن ثم إن تناول هذا الموضوع لا علاقة له بكسب الشعبية ولا بالضرب على الوتر<br />
العاطفي للجماهير. وإنما يجب أن يتعامل معه بصورة أآثر جدية باعتباره حقيقة قائمة بذاتها بغض<br />
النظر عما يسمى بكسب الجماهير أو عدم آسبها. المسألة هنا ليست مسألة نجاح في انتخابات، وإنما<br />
هي مسألة نجاح الأمة في تحقيق نهضتها في آل المجالات. إنها مسالة تقرر نجاح أمتنا في الحفاظ<br />
على استقلالها وتحقيق وحدتها وإنزال الهزيمة بعدوها الصهيوني وتحقيق نهضتها الحضارية<br />
والتنموية والثقافية إنها المسألة التي تقرر قيام نظام عادل شوري يصون حقوق العباد وحرياتهم<br />
ويطلق طاقاتهم الخيرة، ويكرس آرامتهم الإنسانية ويحقق التوازن في حياتهم ويسمح لهم بمواجهة<br />
العالم بمشروع حضاري متميز حقاً.<br />
6- إذا آانت هذه الموضوعات تنطبق بصورة صارخة على الشعوب الإسلامية فهي تنطبق آذلك<br />
على بقية الشعوب بما في ذلك شعوب أمريكا اللاتينية، أما إذا آان الإسلام غير مطروح بالنسبة إليها<br />
فإن من المؤآد أن مشاريع التغريب لم تلق عندما الحماسة المطلوبة ولهذا آان لابد من إيجاد برنامج<br />
هناك يراعي تراثها وتقاليدها وحضارتها. هذه قاعدة عامة صحيحة بالنسبة إلى أغلب الحالات ولعل<br />
من أبرز أمثلتها الناجحة التجربة اليابانية التي صنعت آل تقدمها ضمن المحافظة على تراثها وضمن<br />
المحافظة على الكثير من جوانبه الأساسية، ولهذا ما يجري من علاقة بين العمال في المصانع في<br />
منير شفيق│ نيسان ١٩٩٤<br />
مؤسسة الوفاء
115<br />
ومسيرة<br />
شهداء<br />
اليابان أو فيما بينهم وبين الرأسمالية يختلف اختلافاً نوعياً عن نظيره في أوروبا أو أمريكا. أما<br />
التجربة الثانية فهي نجاح الثورة الإسلامية في إيران ببلوغ الاآتفاء الذاتي، آما أعلن في القمح<br />
والكثير من المواد الغذائية منذ سنواتها الخمس الأولى، بينما آانت في زمن شاه إيران تستورد حاجة<br />
عشرة أشهر في السنة من القمح والكثير من المواد الغذائية. وآان المسجد في القرية هو الذي قاد<br />
عملية إحياء الإنتاج.<br />
7- أما القول: لاحظوا تعاظم دور رجال الدين الكاثوليك في ثورات أمريكا اللاتينية أو بولندا أو عدد<br />
من بلدان آسيا وإفريقيا وإذا آان الأمر آذلك، فكيف يحق لكم ألا تلحظوا دور الإسلامي في الثورة<br />
عندنا؟ وآيف يحق لكم الاستنتاج بالمقابل أن موضوع الإسلام ليس وارداً بالنسبة إلى أمتنا ما دام<br />
ليس بوارد بالنسبة لكاثوليك أمريكا اللاتينية. طبعاً إن هذا لا يتناقض مع طموح الإسلام بأن يطرح<br />
رسالته على الناس آافة ولهم أن يقبلوا أو يرفضوها، وآل سيجني ثمار ما زرعت يداه.<br />
8- وبهذا ترون أن من حق الشعوب الأخرى آما هو من حق أمتنا أن ترفض انسحاق شخصيتها<br />
وهويتها أمام الحضارة الغربية ومن حقها رفض التغريب ومن حقها أن ينبثق برنامجها من تراثها<br />
وتاريخها وظرفها الخاصة بل يمكن القول أنها إذا لم تفعل ذلك لن تكسب معرآة الاستقلال والحرية<br />
والتنمية أما من جهة أخرى، إن فعلت ذلك، خصوصاً، إذا نقبت عن ومضات الفطرة في تاريخها<br />
وحضارتها، فسوف يصبح الحوار بينها وبين الإسلام في العمق على مستوى أرقى من التعاون بين<br />
الشعوب المظلومة ضد الاستكبار الدولي فقط.<br />
وأخيراً أيها الإخوة اسمحوا لنا بكلمة أخيرة وهي أن لا تنسوا وحدتكم ضد عدوآم وأنتم تناقشون هذه<br />
القضايا أي وأنتم تتفقون وتختلفون حولها. ولا تنسوا المحافظة على روح الأخوة والتحلي بالحلم<br />
والحكمة والصبر بينما آل هنا يناقش من يخالفه الرأي. ولا تنسوا أن الإنسان يموت وهو يتعلم،<br />
وعليه أن لا يكل في تحصيل العلم والبحث عن الحقيقة وألا يخشى أن يغير رأيه حين يبين له خطأه،<br />
ولو آان قبل حين مستعداً للموت في سبيل ما آان يعتقده صحيحاً أو في الدفاع عنه.<br />
وفقكم االله إلى ما يرضيه وأبقاآم لشعبنا رمزاً في الصمود والتضحية والنقاء. وآخر دعوانا أن الحمد<br />
الله رب العالمين.<br />
منير شفيق│ نيسان ١٩٩٤<br />
مؤسسة الوفاء