08.11.2014 Views

Book_1-1

Book_1-1

Book_1-1

SHOW MORE
SHOW LESS

You also want an ePaper? Increase the reach of your titles

YUMPU automatically turns print PDFs into web optimized ePapers that Google loves.

العمران والبنيان<br />

يف منظور الإسالم<br />

دكتور مهندس<br />

يحيى وزيري<br />

2


مهندس يحيى وزيري:‏<br />

من مواليد مصر،‏ حاصل على ماجستري ودكتوراه يف العمارة البيئية،‏ ومهندس<br />

استشاري يف جمال التصميم الداخلي،‏ وخبري يف جمال العمارة الإسالمية<br />

والبيئة ومباين املعوقني.‏ له اإنتاج علمي غزير،‏ ومن موؤلفاته:‏ ‏»موسوعة عناصر<br />

العمارة الإسالمية«،‏ و»املجتمع وثقافة العمران«،‏ و»العمارة الإسالمية والبيئة«‏<br />

و»التطور العمراين والرتاث املعماري ملدينة القدس الشريف«...‏<br />

نهر متعدد ... متجدد<br />

مشروع فكري وثقايف واأدبي يهدف اإىل الإسهام النوعي يف اإثراء املحيط الفكري والأدبي<br />

والثقايف باإصدارات دورية وبرامج تدريبية وفق روؤية وسطية تدرك الواقع وتستشرف املستقبل.‏<br />

وزارة الأوقاف والسوؤون الإسالمية<br />

قطاع السوؤون الثقافية<br />

اإدارة الثقافة الإسالمية<br />

‏ص.ب:‏ 13 الصفاة - رمز بريدي:‏ 13001 دولة الكويت<br />

الهاتف:‏ )+956( 2487106 - فاكس:‏ )+965( 2468134<br />

الربيد الإلكرتوين:‏ rawafed@islam.gov.kw<br />

1


مت طبع هذا الكتاب يف هذه السلسلة للمرة الأوىل،‏<br />

ول يجوز اإعادة طبعه اأو طبع اأجزاء منه باأية وسيلة اإلكرتونية اأو غري<br />

ذلك اإل بعد احلصول علىموافقة خطية من الناشر<br />

الطبعة الأوىل - دولة الكويت<br />

يونيو ‎2008‎م / جمادى الآخرة 1429 ه<br />

الآراء املنشورة يف هذه السلسلة ل تعرب بالضرورة عن راأي الوزارة<br />

كافة احلقوق حمفوظة للناشر<br />

وزارة الأوقاف والسوؤون الإسالمية<br />

املوقع الإلكرتوين www.islam.gov.kw:<br />

مت احلفظ والتسجيل مبكتبة الكويت الوطنية<br />

رقم الإيداع:‏‎192‎ 2008 /<br />

ردمك:‏‎978-99906-678-1-3‎<br />

2


7<br />

13<br />

19<br />

24<br />

25<br />

33<br />

37<br />

44<br />

44<br />

56<br />

71<br />

75<br />

75<br />

80<br />

86<br />

95<br />

97<br />

100<br />

105<br />

111<br />

111<br />

117<br />

128<br />

فهرس املحتويات<br />

تصدير ....................................................................<br />

تقدمي .....................................................................<br />

· الفصل الأول:‏ اأسس العمران والبنيان فى القراآن ................<br />

املبحث الأول:‏ ‏ضوابط عمارة الأرض يف ‏ضوء القصص القراآين ...<br />

- اأول:‏ التحذير من املمارسات الإعمارية الفاسدة ....................................<br />

- ثانيا:‏ تقوى اهلل اأساس املمارسات الإعمارية الصاحلة .............................<br />

- ثالثا:‏ الغاية من اإقامة املدن والقرى ................................................<br />

املبحث الثانى:‏ اأنواع املباين واملصطلحات املعمارية يف القراآن ......<br />

- اأول:‏ ‏شمولية حصر اأنواع املباين املعمارية ..........................................<br />

- ثانيا:‏ الدقة يف التفرقة بني املصطلحات املعمارية والعمرانية ......................<br />

· الفصل الثانى:‏ مميزات العمران والبنيان الإسالمي:‏ .............<br />

املبحث الأول:‏ التوجه اإىل القبلة واأثره على العمران والبنيان .....<br />

- اأول:‏ اأدلة التوجه اإىل القبلة وعالقة ذلك بالعمران والبنيان ........................<br />

- ثانيا:‏ ما الذي يخسره العمران الإسالمى بعدم توجهه اإىل القبلة؟ .................<br />

- ثالثا:‏ قضايا عمرانية تتعلق بالتوجه اإىل القبلة .....................................<br />

املبحث الثانى:‏ توافق العمران مع الظروف البيئية ...............<br />

- اأول:‏ مراعاة اختيار مواقع التجمعات العمرانية ....................................<br />

- ثانيا:‏ اأهمية الظالل كاأحد وسائل حتقيق الراحة احلرارية .........................<br />

- ثالثا:‏ منوذج قراآين يوضح فكرة التصميم البيئي ..................................<br />

املبحث الثالث:‏ توظيف الإبداع اجلمايل يف املعمار ..................<br />

- اأول:‏ مفهوم اجلمال يف الروؤية الإسالمية ...........................................<br />

- ثانيا:‏ اإسهام الأمر والنهي يف الرتقاء باجلوانب اجلمالية ..........................<br />

- ثالثا:‏ استكشاف اأسلوب حتقيق الإبداع اجلماىل يف العمائر الإسالمية ............<br />

3


139<br />

142<br />

143<br />

144<br />

145<br />

149<br />

151<br />

152<br />

157<br />

157<br />

159<br />

163<br />

164<br />

168<br />

169<br />

173<br />

177<br />

177<br />

178<br />

179<br />

180<br />

181<br />

183<br />

183<br />

185<br />

· الفصل الثالث:‏ تاأثري املنهج الإسالمي على تصميم املباين:‏ ...<br />

املبحث الأول:‏ ‏ضوابط عمارة املساجد ..................................<br />

اأول:‏ اأسس اختيار موضع املسجد ..................................................<br />

- ثانيا:‏ تاأثريالتوجه اإىل القبلة على ‏شكل املساجد ..................................<br />

- ثالثا:‏ اأسلوب تصميم حائط القبلة ................................................<br />

- رابعا:‏ كراهية املنابر الطويلة ......................................................<br />

- خامسا:‏ اأفضلية وجود فراغ معماري واحد بدون اأعمدة ...........................<br />

- ‏سادسا:‏ كراهية الزخارف والكتابة على حوائط املسجد ..........................<br />

- ‏سابعا:‏ حكم املقاصري والقواطيع ..................................................<br />

- - ثامنا:‏ املاآذن ......................................................................<br />

تاسعا:‏ غرس الأشجار واإقامة الربك املائية يف ‏صحون املسجد ...................<br />

- عاشرا:‏ امليضة ودورات املياه ......................................................<br />

- حادي عشر : معايري وتفاصيل اأخرى متنوعة .....................................<br />

- املبحث الثانى:‏ ‏ضوابط عمارة املساكن ...............................<br />

اأول:‏ اخلصوصية ‏)سرت العورة(..................................................‏<br />

- ثانيا:‏ القتصاد مع الإتقان والبعد عن الإسراف والتبذير .........................<br />

- ثالثا:‏ اأفضلية املسكن الواسع لتوفري عدد مناسب من الغرف .....................<br />

- رابعا:‏ اأفضلية توجيه غرف املسكن جهة القبلة ....................................<br />

- خامسا:‏ اأفضلية عدم استقبال اأو استدبار القبلة يف دورات املياه ..................<br />

- ‏سادسا:‏ النهي عن اجللوس على جلود السباع واحلرير الطبيعي وسرت اجلدران به ...<br />

- ‏سابعا:‏ النهي عن تصوير الكائنات احلية .........................................<br />

- ثامنا:‏ النهي عن استعمال اآنية الذهب والفضة وما يقاس عليهما .................<br />

- تاسعا:‏ توفري اللمسات اجلمالية ...................................................<br />

- عاشرا:‏ النهي عن التطاول يف البنيان .............................................<br />

- حادي عشر:‏ الفصل بني عناصر التصال الراأسية للرجال والنساء ..............<br />

- 4


187<br />

187<br />

194<br />

197<br />

200<br />

204<br />

املبحث الثالث:‏ حمددات تخطيط املدينة املعاصرة ................<br />

- اأول:‏ حمددات اختيار مواقع املساجد باملدن ......................................<br />

- ثانيا:‏ وحدة اجلوار يف املجتمع الإسالمي .........................................<br />

- ثالثا:‏ فصل مصادر التلوث عن املناطق السكنية ..................................<br />

- رابعا:‏ الهتمام بالطرق والفراغات العامة ........................................<br />

- خامسا:‏ توفري احلدائق وتنسيق املواقع ............................................<br />

209<br />

اخلامتة ..................................................................<br />

215<br />

فهرس املوضوعات واملراجع ............................................<br />

5


تصدير<br />

7


احلمد هلل رب العاملني،‏ والصالة والسالم على ‏سيد املرسلني وعلى اآله<br />

وصحبه اأجمعني.‏<br />

استوعبت الروؤية الإسالمية خمتلف مناحي حياة الإنسان املسلم ، يف<br />

عالقته بنفسه وربه واأسرته وحميطه القريب والبعيد،ومنحته ‏»البوصلة«‏<br />

املنهجية واحلضارية والسلوكية ليحقق اإنسانيته العابدة يف جو من النسجام<br />

والتوازن والعتدال .<br />

ولعل من اأبرز املجالت التي تعكس استيعاب الروؤية الإسالمية لالأبعاد<br />

املختلفة لالإنسان ، اأمناط العمران والبنيان التي ابتدعها املسلم ، وسخرها<br />

لتوؤدي له وظائف الراحة والسكينة واخلصوصية واجلمالية واحلماية ، ‏سواء<br />

يف املسجد اأو البيت اأو املدينة اأو السوق اأو احلدائق واملنتزهات.‏<br />

وكان مستنده الأساسي يف كل ما اأبدع وابتكر هدايات القراآن وسنة<br />

النبي عليه السالم،‏ فحقق لنفسه اأقصى درجات التوازن بني ‏ضرورات<br />

احلياة وجمالياتها.‏<br />

والأمر حمتاج اإىل دراسات جتلي اأسرار ذلك الإجناز احلضاري املتمثل<br />

يف الهتداء يقيم الإسالم وتوجيهاته يف بناء خمتلف مفردات العمران ، من<br />

البيت اإىل املسجد اإىل املدينة اإىل الأسواق..‏ وغريها.‏<br />

ويف هذا السياق،‏ فاإن قطاع السوؤون الثقافية بوزارة الأوقاف والسوؤون<br />

الإسالمية بدولة الكويت يجدد التذكري باأهمية البحث يف املوضوع من خالل<br />

اإقدامه على نشر كتاب ‏»العمران والبنيان يف منظور الإسالم«‏ للمهندس<br />

د.‏ يحيى وزيري،‏ ‏ضمن اإصدارات مشروع « روافد « الهادف اإىل اإثراء الساحة<br />

الفكرية والأدبية والفنية،‏ باعتبار اأن البحث العلمي الرصني ، القائم على<br />

بصرية من الدليل ، هو الكفيل بتاأكيد الدور احلضاري للروؤية الإسالمية .<br />

لقد حرص هذا الكتاب على اأن يقوم بسياحة دللية يف اآيات القراآن<br />

الكرمي،‏ ليربز كيف اأن اخلطاب القراآين اأشار اإىل العديد من املفردات<br />

املتصلة بالعمران والبنيان،‏ ووصفها وصفا دقيقا،‏ وقدم معايري لتحقيق<br />

9


10<br />

التوازن بني البعد الوظيفي للبنيان والعمران والبعد اجلمايل،واأنساأ موازين<br />

للوقاية من ‏شرور النحراف جهة قصد املتعة والعبث بعيدا عن هدايات<br />

الدين،‏ وانسياقا وراء املمارسات الإعمارية الفاسدة .<br />

وقد استنتج العديد من املعايري يف هذا الصدد ، اأهمها اأن تقوى اهلل<br />

من مقاصد العمران،‏ واأن التوازن مطلوب بني القيم الوظيفية والقيم<br />

اجلمالية.‏<br />

ومن اأبرز ما توصل اإليه الباحث ‏،بني يدي استقرائه للمفردات الدالة<br />

على العمران والبنيان يف القراآن الكرمي،‏ اأن اخلطاب القراآين امتاز بشمولية<br />

حصر خمتلف اأنواع املباين املعمارية ، كما امتاز بدقة وصفها والتفريق<br />

بينها.‏<br />

ومل يفت الباحث تفصيل القول يف مميزات العمران والبنيان الإسالمي،‏<br />

اإذ عقد مباحث لإبراز العديد من املميزات،‏ ويف مقدمتها التوجه اإىل القبلة،‏<br />

وتوافق العمران مع الظروف البيئية،‏ ومراعاة اخلصوصية،‏ واستثمار<br />

العنصر اجلمايل يف البناء .<br />

وقدم وقفات تطبيقية تدلل على تاأثري الروؤية الإسالمية العمرانية على<br />

تصميم املباين،‏ مثل تصميم املسجد والبيت واملدينة.‏<br />

اإن اخليط الناظم لكتاب:»‏ العمران والبنيان يف منظور الإسالم«‏ يتمثل<br />

يف توضيح العناصر الآتية:‏<br />

‏-التذكري باعتناء الروؤية الإسالمية مبوضوع البنيان والعمران رعاية<br />

ملقاصد الشريعة ممثلة يف التيسري والسكينة والتقوى واجلمال.‏<br />

- لفت اأنظار الدارسني للخطاب القراآين واملهندسني واملعماريني اإىل اأن<br />

القراآن الكرمي احتوى على العديد من املفردات املتصلة بالبنيان والعمارة،‏<br />

وقدم فروقا دقيقة بينها ، وقدم « روؤية » متوازنة جتعل البنيان خادما للقيم<br />

الإنسانية وليس ميدانا للعبث والإفساد.‏


- اإبراز مميزات العمارة والبنيان يف املنظور احلضاري الإسالمي يف<br />

خمتلف العناصر والوحدات،‏ يف التوجه اإىل القبلة،‏ ويف اختيار مواقع البناء،‏<br />

وتوافقه مع الظروف البيئية،‏ ويف استثمار عناصر الطبيعة ممثلة يف املياه<br />

والأشجار والظالل،‏ مع النهي عن الإسراف .<br />

- التاأكيد على اأن الإسالم ليقتصر على املظهر املادي للبناء،‏ بل يقدم<br />

اإضاءات حول الغاية التي من اأجلها يقوم الإنسان باإعمار الأرض،‏ ، وهي<br />

غاية مرتبطة باإشعاع تعاليم الإسالم يف املحيط العمراين اخلاص والعام<br />

قصد اإسهام عناصرها يف ‏صالح الأفراد واجلماعة والأمة نفسيا وبدنيا<br />

واجتماعيا ، ‏صحيا وجماليا.‏<br />

- تقدمي مالمح تطبيقية توؤكد الصلة الوثيقة بني الروؤية الإسالمية<br />

والعمران احلضاري الذي حتقق عرب املسرية الطويلة لالإنسان داخل البيئة<br />

الإسالمية يف ‏شرق العامل وغربه.‏<br />

والأمل معقود على اأن تتضافر جهود الباحثني واملختصني للبحث يف<br />

‏سبل اإدراج هذه املعطيات احلضارية الدقيقة ‏ضمن برامج تلفزية ومقررات<br />

دراسية ، تساعد عموم املطلعني على اإدراك القيم الإيجابية يف اعتماد الروؤية<br />

الإسالمية يف تصميم املباين واملدن والأسوا ق واحلدائق واملنتزهات .<br />

ومن املفيد الإشارة اإىل اأن املوؤلف يحيى وزيري اهتم،‏ يف كتابه،‏ باإبراز<br />

املالمح العمرانية الإسالمية،‏ لذا ، مل تتح له فرصة اللتفات اإىل بعض<br />

القضايا املرتبطة باإشكالية العمارة الإسالمية يف العصر احلديث،‏ فهل<br />

يستحيل قيام عالقة بني العمارة الإسالمية والعمارة احلديثة؟ ما هي<br />

حدود الإفادة التي ميكن اأن تقدمها العمارة الإسالمية للمدارس احلديثة<br />

يف تصميم املباين؟ هل الدعوة اإىل رعاية الروؤية الإسالمية يف البنيان هي<br />

نفي للحداثة املهيمنة يف العمران املعاصر؟<br />

وغريها من الأسئلة التي توؤكد اأن املوضوع خصب وغني ومرشح لأن<br />

يثري العديد من الإشكالت والستفسارات،‏ وهذا مظنة حصول حوار علمي<br />

11


12<br />

بناء يقدم روؤى متنوعة توؤكد احتضان احلضارة الإسالمية لكل تنوع منتج<br />

وفعال.‏<br />

ويسر قطاع السوؤون الثقافية اأن يقدم هذا الكتاب اإىل القراء الكرام<br />

‏ضمن الإصدار الرابع من « اإسهام » ، اخلاص بالساأن الفني والأدبي يف<br />

مشروع ‏»روافد«.‏<br />

واهلل الهادي اإىل ‏سوا ء السبيل.‏


تقدمي<br />

13


يف اإطار البحث وحماولة اإعادة املجتمعات العربية والإسالمية اإىل هويتها<br />

الفكرية والثقافية،‏ يصبح التفكري يف اأسلوب عمران وعمارة هذه املجتمعات<br />

فرضاً‏ على كل متخصص اأو مثقف،‏ حيث يعترب ‏شكل واأسلوب العمران<br />

والتعمري اأحد دعائم وركائز الثقافة املادية لهذه املجتمعات،‏ والذى يحمل يف<br />

طياته العديد من الثوابت واملضامني الفكرية والإبداعية الإسالمية،‏ وهذه<br />

املضامني هي التي ‏سبق واأن اأسهمت يف تشكيل املظهر املادى وجوهر احلياة<br />

يف املدينة الإسالمية فى عصور ازدهار احلضارة الإسالمية.‏<br />

لقد ناقشت العديد من الكتب والدراسات موضوع العمارة الإسالمية<br />

باأسلوب يدخل يف نطاق تاريخ العمارة اأو الدراسات الأثرية،‏ وهذا ‏شيء<br />

مطلوب،‏ ولكن خصائص التفكري يف جوانب العمارة والعمران من منظور<br />

اإسالمي معاصر حتتاج اإىل جانب تغطية اجلوانب التاريخية والأثرية اإىل ما<br />

هو اأهم من ذلك،‏ ونقصد حتديدا الضوابط والثوابت التي يجب اأن يتاأسس<br />

عليها الفكر املعماري الإسالمي،‏ وهذه الضوابط تستمد اأساسا من الكتاب<br />

والسنة،‏ ولكننا اآثرنا يف هذه الدراسة اأن يكون القراآن الكرمي هو الأساس<br />

الذي ترتكز عليه مع الستعانة يف بعض املواضع ببعض الأحاديث النبوية<br />

الشريفة.‏<br />

وبذلك تكمن اأهمية هذه الدراسة يف اأنها حماولة لتوضيح بعض ‏ضوابط<br />

العمران والبنيان بروؤية مستمدة اأساسا من القراآن الكرمي،‏ مع اإعطاء مناذج<br />

فكرية وتطبيقية لكيفية الستفادة من اإمكانيات احللول املعمارية الرتاثية<br />

الإسالمية لستيفاء العديد من متطلبات العصر احلديث ومستجداته.‏<br />

لقد مت تقسيم هذه الدراسة اإىل ثالثة فصول اأساسية،‏ الفصالن الأول<br />

والثاين منها ميثالن املستوى العام من هذا البحث،‏ حيث يحتويان على<br />

بعض اأهم الأسس واملميزات العامة للعمران والبنيان من منظور قراآين،‏ اأما<br />

الفصل الثالث فيعطي اأفكارا ومعايري تفصيلية وتطبيقية لكل من املسجد<br />

15


وبيت املسلم املعاصر،‏ لأهمية هذين النوعني من املباين يف املجتمعات املسلمة<br />

على مر العصور،‏ كما اأن هذه املعايري والأفكار ميكن اأن يقاس عليها ويطبق<br />

ما يصلح منها،‏ على اأغلب املباين العامة التي ميكن اأن تقام يف املجتمع<br />

الإسالمي،‏ مع مراعاة الختالفات التي تنساأ لختالف الوظيفة التي يوؤديها<br />

كل مبنى اأو النشاط الذي ميمٌ‏ ‏َارس داخله،‏ كما يوضح املبحث الأخري من هذا<br />

الفصل حمددات تخطيط املدينة املعاصرة من وجهة نظر الروؤية الإسالمية<br />

التى تتاأسس على القراآن والسنة والآراء الفقهية.‏<br />

واإذا كانت هذه الدراسة قد اتخذت من القراآن الكرمي اأساساً‏ ومنبعا<br />

رئيسيا لها،‏ من اأجل اإبراز اأحد جوانب عظمة هذا الكتاب القيم املنزَّ‏ ل من<br />

عند اهلل جل يف عاله،‏ فاإن هذا ل ينفي اأن يف السنة النبوية املطهرة الكثري<br />

من الأحاديث الشريفة التي اأعطت العديد من الضوابط واملفاهيم التي<br />

تعترب دليال للعمران والبنيان الإسالمي،‏ وهو ما يعني اأن هذا املوضوع ما<br />

زال يف اأشد احلاجة اإىل املزيد من الدراسات والأبحاث.‏<br />

لقد حاولنا يف هذه الدراسة اأن نستكشف العديد من ‏ضوابط العمران<br />

الإسالمي وثوابته،‏ والتي ل تتغري باختالف املكان والزمان،‏ لأنها مستنبطة<br />

من القراآن الكرمي الذي تكفل رب العاملني بحفظه من التبديل اأو التحريف،‏<br />

وهذا ل يعني اأن يتم وضع العمران والبنيان الإسالمي يف قوالب جامدة<br />

كما ميكن اأن يفهم البعض،‏ ولكن هذا يعني اأن يتم اللتزام بهذه الضوابط<br />

مع اإعطاء احلرية للفكر البشري يف وضعها يف الإطار املادي الذي يتناسب<br />

مع املجتمعات املسلمة يف مشارق الأرض ومغاربها،‏ حسب الظروف املادية<br />

والبيئية والثقافة املحلية لكل جمتمع،‏ مبا ل يتعارض مع قواعد الدين<br />

احلنيف.‏<br />

اإن موضوع ‏ضوابط العمران والبنيان ميس حياة وثقافة املسلم املعاصر<br />

الذي يحتاج اإىل املبنى واملعنى اأيضا يف اإطار املدينة واملجتمع الإسالمي<br />

16


املعاصر،‏ كما يحتاج اإىل احلفاظ على هويته الدينية والثقافية يف ظل املفهوم<br />

اجلديد للعوملة،‏ والذي يحاول اأن يقتلعه من جذوره الثقافية والرتاثية،‏ وهذا<br />

ل يعني اأنها حماولة لالنفصال عن العامل الذي يحيط بنا،‏ ولكنها حماولة<br />

حتسب يف اإطار كيفية الستفادة من عطاء الدين والترتاث احلضاري<br />

الإسالمي خلدمة املجتمعات العربية الإسالمية بصفة خاصة،‏ والإسهام يف<br />

التقدم الثقايف واحلضاري للمسرية الإنسانية من جانب اآخر،‏ ملن اأراد اأن<br />

يتواصل مع هذا النموذج الإسالمي للبناء والتعمري الذي يتاأسس على تقوى<br />

اهلل،‏ والتاأكيد على املمارسات الإعمارية التي تصلح ول تفسد يف الأرض.‏<br />

د/‏ يحيى وزيري<br />

القاهرة – ‎2007‎م<br />

17


الفصل الأول<br />

اأسس العمران والبنيان<br />

يف القراآن<br />

19


يهدف هذا الفصل اإىل استنباط الأسس والقواعد العامة للعمران<br />

والبنيان يف منظور الإسالم،‏ وحتديدا يف القراآن الكرمي املصدر الرئيسي<br />

للتشريع عند املسلمني،‏ لذلك فاإنه من الالزم اأول اأن نحدد مفهوم هذا العلم<br />

وجمالته.‏<br />

يشرح ابن خلدون يف مقدمته مفهوم العمران باأنه:‏ ‏»هو التساكن والتنازل<br />

يف مصر اأو حلة لالأنس بالعشري واقتضاء احلاجات،‏ ملا فى طباعهم من<br />

التعاون على املعاش كما نبينه،‏ ومن هذا العمران ما يكون بدويا وهو الذي<br />

يكون يف الضواحي واجلبال،‏ ويف احللل املنتجعة يف القفار واأطراف الرمال،‏<br />

ومنه ما يكون حَ‏ ‏ضَ‏ ريا وهو الذى بالأمصار والقرى واملدن واملدر،‏ لالعتصام<br />

بها والتحصن بجدرانها«‏ )1( .<br />

كما وضع املتخصصون واخلرباء العديد من التعريفات لعلم العمارة اأو<br />

‏»البنيان«‏ كما نطلق عليه يف دراستنا هذه،‏ من اأبسط واأعم هذه التعريفات<br />

اأن ‏»العمارة علم وفن«،‏ ومنها ما يرى اأن فن العمارة هو:‏ ‏»الفضاء املحصور<br />

بني اجلدران«‏ )2( . ومن وجهة نظر معينة،‏ ميكن تعريف العمارة باأنها:‏<br />

‏»اأسلوب توجيه احلركة داخل الفراغات املعمارية«‏ )3( ، اإىل جانب العديد من<br />

التعريفات الأخرى والتي ل تخرج عن املعاين واملفاهيم السابقة.‏<br />

ويرى الباحثون واملتخصصون اأن جمال ونطاق علوم العمران والبنيان<br />

ميكن اأن يتضح من خالل التعريفات والتخصصات الدقيقة التالية )4( :<br />

- العمارة ‏)البنيان(:‏ فن علمي لإقامة الكتل يف اأبعاده الثالثة،‏ بشرط<br />

توفري احتياجات الناس.‏<br />

)1( مقدمة ابن خلدون ‏)بدون تاريخ (. موؤسسة دار الشعب،‏ القاهرة،‏ ‏ص 38،37.<br />

)2( يحيى وزيري )2002(، املجتمع وثقافة العمران،‏ موؤسسة دار الشعب،‏ القاهرة،‏ ‏ص‎5‎‏.‏<br />

)3( يحيى وزيري )1992(، التعمري يف القراآن والسنة،‏ القاهرة،‏ ‏ص‎111‎‏.‏<br />

)4( هشام اأبو ‏سعدة )2003(، مهنة عمارة البيئة،‏ النشرة العلمية لبحوث العمران،‏ عدد)‏‎3‎‏(،‏ كلية<br />

التخطيط الإقليمي والعمراين،‏ جامعة القاهرة،‏ ‏ص‎45‎‏.‏<br />

21


- التصميم الداخلي:‏ فن علمي اأيضا لتنظيم الفراغ داخل الكتلة،‏<br />

وحتقيق الوظيفة واجلمال.‏<br />

- تخطيط املدن:‏ علم توزيع استعمالت الأراضي املعدة لستقبال<br />

الكتل عليها،‏ واختيار اأماكنها،‏ ووضع ‏سياسات واشرتاطات التوزيع.‏<br />

- تخطيط املواقع:‏ علم توزيع الكتل على الأرض وتنظيم تشكيل<br />

الفراغ،‏ وفن متطلبات املستعملني.‏<br />

- التصميم العمراين اأو عمارة املدن:‏ علم تنظيم العالقة بني الكتلة<br />

والفراغ،‏ بشرط احرتام السلوك الإنساين للجماعة الواحدة،‏ ‏سواء يف<br />

املناطق القائمة بالفعل للحفاظ عليها اأو املناطق اجلديدة لتنميتها.‏<br />

- عمارة البيئة اأو التصميم اخلارجي:‏ فن علمي لتنظيم الأمكنة<br />

اخلارجية املفتوحة على الأرض ‏)ومنها الفراغ حول الكتل وبينها(،‏ بشرط<br />

احرتام اعتبارات قوى الطبيعة والإنسان والبناء املصنوع مبعرفة الإنسان،‏<br />

لدعم اجلمال وحتقيق الحتياج يف اخلارج واحلفاظ على البيئة الطبيعية<br />

والصطناعية.‏<br />

وبروؤية اأكرث ‏شمولية،‏ فاإن جمال علوم العمران والبنيان يبداأ من مستوى<br />

تخطيط املدن وتنسيق حدائقها وفراغاتها اخلارجية وينتهي ببناء املباين<br />

وتصميمها الداخلي،‏ ولكي يتم اإجناز عمل متقن لكل مستوى من هذه<br />

املستويات،‏ فاإن التخصص يكون لزماً‏ يف اإطار التكامل والتداخل بينها يف<br />

غالب الأحوال،‏ ولكن يظل التخصص الدقيق مطلوباً‏ وبخاصة يف العصر<br />

احلديث مع اتساع نطاق املعارف الإنسانية بصفة عامة.‏<br />

ورمبا يعتقد الكثريون،‏ ومنهم بعض املتخصصني فى جمال العمران<br />

والبنيان،‏ اأنه ل توجد اأصال نصوص قراآنية اأو نبوية تتحدث اأو تضع اأسسً‏ ا<br />

22


وقواعد لعمارة الأرض،‏ ومن جانب اآخر فاإن البعض الآخر يعتقد اعتقاداً‏<br />

جازماً‏ باأن اهلل ‏سبحانه وتعاىل قد اأنزل القراآن تبيانا لكل ‏شيء،‏ مصداقا<br />

لقوله تعاىل:{‏ { ‏)النحل اآية 89(<br />

ولقوله عز وجل:‏ }<br />

{ ‏)الكهف اآية 54( ولكنهم ميرون على بعض<br />

الآيات القراآنية ذات الصلة مبوضوع الدراسة ويغفلون عما جاء بها من<br />

توجيهات جليلة لعمارة الأرض.‏<br />

لذلك فقد مت تخصيص هذا الفصل لبيان وتوضيح واستنباط الأسس<br />

العامة لعمارة الأرض فى القراآن،‏ ومن اأجل هذا فقد مت تقسيم هذا الفصل<br />

اإىل مبحثني اأساسيني،‏ وهما:‏<br />

1- املبحث الأول:‏ ‏ضوابط العمران والبنيان يف ‏ضوء قصص القراآن.‏<br />

2- املبحث الثاين:‏ اأنواع املباين واملصطلحات املعمارية يف القراآن.‏<br />

23


املبحث الأول<br />

‏ضوابط العمران والبنيان يف ‏ضوء قصص القراآن<br />

قص علينا القراآن الكرمي من خالل بعض ‏سوره واآياته قصصا حلضارات<br />

جاءت قبل بعثة النبي اخلامت ‏صلى اهلل عليه وسلم،‏ وقد اأوضح العلماء<br />

واملفسرون قصة الصراع بني احلق متمثال يف رسل واأنبياء اهلل ومن اتبعوهم<br />

باإحسان،‏ وبني الباطل متمثال يف القرى والأقوام الظاملة التي كفرت باأنعم<br />

اهلل وصدت عن ‏سبيل احلق،‏ يف حماولة منهم لإظهار الدروس والعرب التي<br />

حواها القصص القراآين مصداقا لقوله تعاىل:‏ }<br />

{ )1( ، ومل يكتف القراآن بذلك بل اأمر املسلمني بالسري<br />

يف الأرض والنظر يف اآثار الأمم السابقة،‏ وكيف كان عاقبة املكذبني بالرغم<br />

مما وصلت اإليه هذه الأمم من تقدم حضاري وعمراين مل يغنِ‏ عنها من اهلل<br />

‏شيئا،‏ ونلمح هذا الأمر واملعاين السابقة،‏ يف قوله ‏سبحانه وتعاىل:‏ }<br />

. )2( {<br />

كما حمل القصص القراآين يف طياته العديد من الضوابط واملفاهيم<br />

اخلاصة بعمارة وعمران الأرض،‏ والتي تعترب مبثابة القواعد والأسس التي<br />

يسرتشد بها املسلمون يف كل زمان ومكان من اأجل عمارة الأرض العمارة<br />

الصاحلة الفاضلة،‏ كما اأرادها اهلل ‏سبحانه وتعاىل واأكد عليها رسله واأنبياوؤه<br />

يف دعوتهم على مر العصور،‏ لذلك فاإن الهدف من هذا املبحث هو حماولة<br />

)1( ‏سورة يوسف:‏ من الآية 111.<br />

)2( ‏سورة الروم:‏ الآية 9.<br />

24


استنباط بعض ‏ضوابط العمران والبنيان يف ‏ضوء ما ورد ببعض القصص<br />

القراآين،‏ وهو ما نوضحه يف املحاور التالية:‏<br />

اأول:‏ التحذير من املمارسات الإعمارية الفاسدة:‏<br />

يلفت القراآن الكرمي النظر اإىل ما حدث لثالث حضارات معمارية كربى<br />

حادت عن طريق احلق وطغت يف البالد وبطرت معيشتها،‏ حيث يقول ‏سبحانه<br />

وتعاىل:‏ }<br />

{ )1( ، فما املمارسات الإعمارية الفاسدة التي<br />

جعلت املوىل ‏سبحانه وتعاىل يصب العذاب على هذه احلضارات ‏صبًّا؟.‏<br />

بالنسبة اإىل قوم ‏»عاد«‏ فقد كانوا يسكنون الأحقاف،‏ وهي جبال الرمل،‏<br />

وكانت باليمن بني عمان وحضرموت )2( ، وكانت لهم حضارة معمارية<br />

عظيمة وصفتها الآيات القراآنية باأنها مل يخلق مثلها يف البالد فاغرتوا بنعم<br />

اهلل عليهم واستكربوا يف الأرض،‏ ‏شكل )1(، وفى ذلك يقول اهلل ‏سبحانه<br />

وتعاىل:{‏<br />

. )3( {<br />

ومن مناذج املمارسات الإعمارية الفاسدة اأنهم اأقاموا مباين العبث<br />

والفجور،‏ وقد اأخرب بذلك القراآن الكرمي على لسان نبيهم ‏سيدنا ‏»هود«‏<br />

)1( ‏سورة الفجر:‏ الآيات من 6 اإىل 14.<br />

)2( احلافظ ابن كثري،‏ قصص الأنبياء،‏ دار احلديث،‏ القاهرة،‏ ‏ص 89.<br />

)3( ‏سورة فصلت:‏ الآية 15.<br />

25


مستنكرا عليهم ذلك يف الآيات الكرمية التالية:‏ }<br />

{ )1( ، فاهلل ‏سبحانه وتعاىل ينعى على ‏»عاد«‏ قومِ‏<br />

‏»هود«‏ اأنهم كانوا يبنون بكل ريع،‏ اأي مكان مرتفع،‏ اآية اأي بناءً‏ ظاهراً‏ كالعلم<br />

لقصد العبث مبن مير يف الطريق من الناس )2( ، وفى ذلك استخدام لالأبنية<br />

يف غري ما ‏شرع اهلل بناءها،‏ كما يفهم من الآية اأيضا اأنهم كانوا يبنون<br />

يف الأماكن املرتفعة ليعرف بذلك غناهم تفاخرا فنهوا عنه ونسبوا اإىل<br />

العبث )3( .<br />

وبذلك ميكن القول اإن استنكار الآيات السابقة للسلوك الإعماري لقوم<br />

عاد يرتكز على قضيتني اأساسيتني متالزمتني نتجتا عن اضطراب يف<br />

التصور العقائدي )4( :<br />

القضية الأوىل:‏ عبثية الغاية من البناء والإعمار،‏ فعاد قد بنت املباين<br />

العظيمة بقصد املباهاة واإظهار القوة ومل تنبِ‏ للحاجة ول لغرض ‏سليم،‏<br />

ولهذا استنكر عليهم نبيهم عليه السالم ذلك،‏ لأنه تضييع للزمان واإتعاب<br />

لالأبدان،‏ واشتغال مبا ليجدي يف الدنيا ول يف الآخرة.‏<br />

القضية الثانية:‏ غياب التصور الصحيح الذي تستند عليه املمارسات<br />

الإعمارية،‏ فالبناء والإعمار اإمنا هو لسد خلة الباين وحاجته فرتة بقائه<br />

)1( ‏سورة الشعراء:‏ الآيات من 128 اإىل 131.<br />

)2( الرازي )1990(، التفسري الكبري ‏)مفاتيح الغيب(،‏ دار الكتب العلمية،‏ بريوت.‏<br />

)3( اأحمد ‏سعد )2003(، ‏ضوابط بناء املساكن يف الفقه الإسالمي.‏ موؤمتر الجتهاد يف قضايا<br />

الصحة والبيئة والعمران،‏ جامعة الريموك-‏ اأربد،‏ الأردن.‏<br />

)4( عبد اجلليل اأبو ‏ضمرة )2003(. فقه الإعمار وضوابطه يف الفقه الإسالمي،‏ موؤمتر الجتهاد يف<br />

قضايا الصحة والبيئة والعمران،‏ جامعة الريموك ‏-اأربد،‏ الأردن.‏<br />

26


وبنيه يف هذه الدنيا،‏ لذا فاملبالغة فى البناء حتى يظن اأن الباين خملد<br />

يف دنياه يستدعى بذل لالأموال واإتعاباً‏ لالأبدان وصرفاً‏ للوقت عن املهمة<br />

الأعظم والدور الأكرب من تعبيد اخللق لبارئهم والإعداد ليوم لقائه.‏<br />

‏شكل )1(: جانب من اأسوار واآثار مت اكتشافها فى نهاية القرن العشرين فى موقع مدينة<br />

تسمى الآن ‏»شيصار«،‏ ويرجح اأنها بقايا مدينة ‏»اإرم«‏ املذكورة فى القراآن الكرمي.‏<br />

27


اأما ‏»ثمود«‏ فقد كانوا يسكنون احلجر الذي بني احلجاز وتبوك،‏ وقد مر<br />

به رسول اهلل عليه الصالة والسالم وهو ذاهب اإىل تبوك مبن معه من<br />

املسلمني،‏ وكانوا بعد قوم عاد وكانوا يعبدون الأصنام كاأولئك،‏ وكانت لهم<br />

حضارة مادية عظيمة تتجلى يف بناء القصور الفخمة يف السهول،‏ ونحت<br />

البيوت يف اجلبال،‏ ‏شكل )2(، يشري اإىل ذلك قوله تعاىل:‏ }<br />

. )1( {<br />

لقد متيزت حضارتهم بالرفاهية العمرانية فاتخذوا قصوراً‏ يف السهول<br />

حيث طبيعة البيئة واملناخ تختلف عن اتخاذ البيوت املنحوتة يف اجلبال،‏<br />

واأقاموا اأماكن ‏صيفية واأخرى ‏شتوية لرفاهيتهم )2( .<br />

ومل تقتصر احلضارة الثمودية على الرفاهية العمرانية فقط،‏ بل حولوا<br />

السهول اإىل جنات وارفة الظالل متنوعة الثمار،‏ فجمعوا بذلك بني فخامة<br />

العمران واإنشاء احلدائق وغرس اجلنان،‏ وفى هذه املعاين يقول ‏سبحانه<br />

وتعاىل:‏ }<br />

{ )3( ، فاهلل<br />

‏سبحانه وتعاىل اأنعم عليهم وجعلهم يف اأمن من املحذورات واأنبت لهم من<br />

اجلنات،‏ وفجر لهم العيون اجلاريات واأخرج لهم من الزروع والثمرات،‏ كل<br />

ذلك اإىل جانب البيوت القوية الآمنة ‏سواء كانت منحوتة يف اجلبال اأو مقامة<br />

يف السهول.‏<br />

وياأتي القصص القراآين موؤكداً‏ املعاين السابقة من خالل الصراع بني<br />

احلق والباطل،‏ بني ‏سيدنا موسى وهارون عليهما السالم من جانب وفرعون<br />

)1( ‏سورة الأعراف:‏ الآية 74.<br />

)2( يحيى وزيري )1992(، التعمري يف القراآن والسنة،‏ القاهرة،‏ ‏ص‎14‎‏.‏<br />

)3( ‏سورة الشعراء:‏ الآيات من 146 اإىل 149.<br />

28


وهامان رموز الكفر والباطل من جانب اآخر،‏ فهاهو فرعون يغرت بنعم اهلل<br />

عليه وبدل من اأن يشكر يفتخر ويتعاىل على قومه،‏ كما اأخربنا بذلك ‏سبحانه<br />

وتعاىل يف قوله:‏ }<br />

جنانا واأنهارا جتري من حتت قصوره«.‏<br />

{ )1( ، قال قتادة )2( ‏:»كانت<br />

بعض واجهات املقابر املنحوتة يف اجلبال.‏<br />

)1( ‏سورة الزخرف:‏ الآية 51.<br />

( 2( انظر تفسري الآية 51 يف اجلامع لأحكام القراآن لالإمام القرطبي.‏<br />

29


بعض الأعمدة املنحوتة.‏<br />

.<br />

‏شكل )2(: بعض بقايا اآثار احلضارة الثمودية مبنطقة ‏»العال«‏ بالسعودية<br />

لقد اغرت فرعون باملُلْك والنعم التي مَ‏ نّ‏ اهلل بها عليه وكفر باإنعامه،‏<br />

وكانت النتيجة الفساد يف العقيدة،‏ وانعكس ذلك على انحراف املمارسة<br />

املعمارية..فماذا حدث؟،‏ يخربنا القراآن الكرمي باأن فرعون قد اأمر وزيره<br />

هامان اأن يوقد له على الطني ليبني ‏صرحاً،‏ وهو القصر العايل اأو البناء<br />

العايل الذاهب يف السماء )1( ، ليظهر لرعيته كذب دعوة موسى يف اإثبات<br />

الألوهية هلل تبارك وتعاىل،‏ وهو ما يشري اإليه قوله ‏سبحانه وتعاىل:‏ }<br />

)1( انظر:‏ املعجم الوجيز )2000(، طبعة خاصة بوزارة الرتبية والتعليم،‏ جممع اللغة العربية،‏<br />

جمهورية مصر العربية،‏ ‏ص‎363‎‏.‏<br />

30


، )1( {<br />

ومرة اأخرى يقرتن الفساد العقائدي والستكبار يف الأرض مع انحراف<br />

املمارسة الإعمارية،‏ ويصبح ‏»الصرح«‏ املعماري اأداة لالستهزاء من دعوة<br />

موسى والصد عن ‏سبيل اهلل.‏<br />

لقد اأوضحت العديد من الآيات القراآنية اأن الظلم وارتكاب املعاصي<br />

والكفر باهلل من اأهم اأسباب حلول اخلراب واإهالك القرى والأمصار مهما<br />

بلغت من درجات الرقي احلضاري والعمراين،‏ والآيات الدالة على ذلك<br />

كثرية نذكر بعضا منها يف مقامنا هذا،‏ حيث يقول ‏سبحانه وتعاىل:‏<br />

{ )2( ، وقوله تعاىل:‏ }<br />

{ ( )3 ، وقوله تعاىل:‏ }<br />

. )4( {<br />

}<br />

وفى اأحيان اأخرى يجعل اهلل ‏سبحانه وتعاىل النتاج املعماري لبعضٍ‏ من<br />

هذه القرى واحلضارات الكافرة عربة ملن بعدها من الأمم،‏ ومن اأشهر هذه<br />

احلضارات حضارة عاد وثمود حيث يلفت القراآن نظر املوؤمنني اإىل ما تركوه<br />

من مساكن واآثار يف قوله تعاىل:‏ }<br />

)1( ‏سورة القصص:‏ الآية 38.<br />

)2( ‏سورة احلج:‏ الآية 45.<br />

)3( ‏سورة القصص:‏ من الآية 59.<br />

)4( ‏سورة هود:‏ الآية 117.<br />

)5( ‏سورة العنكبوت:‏ الآية 38.<br />

{ )5( ، فلقد جاء يف السنة النبوية عن ابن عمر قال:‏ ‏»ملا نزل<br />

31


رسول اهلل [ بالناس على تبوك،‏ نزل بهم احلجر عند بيوت ثمود،‏ فاستقى<br />

الناس من الآبار التي كانت تشرب منها ثمود،‏ فعجنوا منها ونصبوا القدور،‏<br />

فاأمر رسول اهلل فاأهرقوا القدور وعلفوا العجني الإبل،‏ ثم ارحتل بهم حتى<br />

نزل بهم على البئر التي كانت تشرب منها الناقة ‏)ناقة ‏صالح(،‏ ونهاهم<br />

اأن يدخلوا على القوم الذين عذبوا،‏ فقال:»اإين اأخشى اأن يصيبكم مثلُ‏ ما<br />

اأصابهم فال تدخلوا عليهم«‏ )1( .<br />

ومدائن ‏صالح الآن هي اإحدى حمطات السكة احلديدية احلجازية،‏ ولقد<br />

زارها كثري من املستشرقني وكتبوا عنها،‏ وكان من اأهم ما عرثوا عليه من<br />

الآثار ما يعرف بقصر البنت وقرب الباشا والقلعة والربج،‏ وقد ‏شاهدوا<br />

نقوشاً‏ عليها باخلط املسند الآرامي ولغتها هي العربية الشمالية التي ل<br />

تختلف اإل قليال عن الفصحى )2( .<br />

اأما بالنسبة اإىل حضارة عاد،‏ ففي يناير من ‏سنة ‎1991‎م،‏ بداأت عمليات<br />

الكشف عن اآثار يف ‏صحراء الربع اخلايل باجلزيرة العربية يف منطقة<br />

‏»شيصار«،‏ ارجع لشكل )1(، واأعلن عن اكتشاف قلعة ثمانية الأضالع<br />

‏سميكة اجلدران باأبراج يف زواياها،‏ مقامة على اأعمدة ‏ضخمة يصل<br />

ارتفاعها اإىل 9 اأمتار وقطرها اإىل 3 اأمتار،‏ ويرجح العامل املصري الأستاذ<br />

الدكتور زغلول النجار اأن هذه الآثار رمبا تكون ملدينة ‏»اإرم«‏ التي جاء ذكرها<br />

يف القراآن الكرمي )3( .<br />

تلك هي اآثار وبقايا حضارات عمرانية عظيمة،‏ ولكنها كذبت رسلها<br />

)1( رواه البخاري واأحمد يف مسنده.‏<br />

)2( توفيق حممد ‏سبع ‏)بدون تاريخ(،‏ قيم حضارية يف القراآن الكرمي ‏)ج‎1‎‏(،‏ القاهرة،‏ ‏ص‎167‎‏.‏<br />

)3( للمزيد من التفاصيل ارجع اإىل:‏<br />

- زغلول النجار )1992(. اكتشاف مدينة اإرم ذات العماد التي حتدث عنها القراآن الكرمي منذ 14<br />

قرنا،‏ جريدة الأهرام املصرية )1992/4/10(.<br />

- زغلول النجار )2002(، من اأسرار القراآن،‏ جريدة الأهرام املصرية )2002/10/7(.<br />

32


وتشبثت بالكفر واأمعنت يف الظلم،‏ فجعلها اهلل ‏سبحانه وتعاىل بقدرته اأثرا<br />

بعد عني ول يخاف عقباها،‏ فبادت كما بادت ما قبلها واإن تنوعت الوسيلة،‏<br />

، )1( { }<br />

اإنه الإهالك على اأي حال،‏ وصدق اأمري الشعراء اأحمد ‏شوقي حني ربط بني<br />

خراب العمران واملستوى الأخالقي للمجتمعات الإنسانية يف قوله )2( :<br />

وليس بعامر بنيان قوم اإذا اأخالقهم كانت خراباً‏<br />

ثانيا:‏ تقوى اهلل اأساس املمارسات الإعمارية الصاحلة<br />

على اجلانب الآخر،‏ يعطينا القصص القراآين مناذج يحتذى بها يف<br />

املمارسة الإعمارية الصاحلة التي تدعو اإىل ‏سبيل احلق وعبادة الواحد<br />

الأحد،‏ فها هي الآيات الكرمية تصف لنا الصرح ‏»السليمانى«‏ الذي اأقامه<br />

‏سيدنا ‏سليمان لستقبال بلقيس ملكة ‏سباأ يف قوله تعاىل:‏ }<br />

{ )3( ، لقد كان هذا الصرح ‏صحناً‏ من زجاج حتته ماء وفيه احليتان<br />

لرييها ملكا اأعظم من ملكها.‏ وحكى اأبو عبيدة:‏ اأن الصرح كل بناءٍ‏ عالٍ‏<br />

مرتفع عن الأرض،‏ واأن املمرد املحكوك الأملس،‏ ومنه الأمرد )4( .<br />

فالآية الكرمية السابقة توضح اأن ‏سيدنا ‏سليمان عليه السالم قد<br />

استخدم هذا الصرح املعماري،‏ الذي يعكس قمة اجلمال والإبداع الفني،‏<br />

كوسيلة واأداة لدعوة ملكة ‏سباأ الكافرة للدخول يف الإسالم والإميان باهلل،‏<br />

وفى هذا املقام يصبح ‏»الصرح السليمانى«‏ املبني من الزجاج حمموداً‏ عند<br />

اهلل لسمو الغاية التي بني من اأجلها األ وهي الدعوة اإىل اهلل،‏ يف حني اأن<br />

)1( ‏سورة احلاقة:‏ الآيتان 6. 5،<br />

)2( يحيى وزيري )1990(. خواطر الشيخ الشعراوي حول عمران املجتمع الإسالمي،‏ مكتبة الرتاث<br />

الإسالمي،‏ القاهرة،‏ ‏ص‎20‎‏.‏<br />

)3( ‏سورة النمل : من الآية 44.<br />

)4( انظر تفسري الآية 44 من ‏سورة النمل يف اجلامع لأحكام القراآن لالإمام القرطبي.‏<br />

33


الصرح ‏»الفرعوين الهاماين«‏ املبني من الآجر ‏)الطني املحروق(‏ مذموم<br />

عند اهلل؛ لأن الغاية من بنائه كانت السخرية والستهزاء من دعوة موسى<br />

والصد عن طريق احلق.‏<br />

ومن ذلك يتضح لنا معنى ومفهوم جليل يف عملية البناء واملمارسة<br />

الإعمارية،‏ فالعربة دائما بالهدف والغاية من عملية البناء بغض النظر عن<br />

فخامة املبنى اأو وضاعته،‏ اأو غنى املواد املستخدمة يف اإنشائه اأو فقرها،‏<br />

فالقضية ليست قضية مظهر خارجي بل هي اأعمق من ذلك،‏ حيث ترتبط<br />

بالتصورات العتقادية للمعمرين والهدف من املمارسة الإعمارية نفسها،‏<br />

والتي على اأساسها ميكن احلكم على البنيان والعمران بالصالح اأو<br />

الفساد.‏<br />

ويف مقارنة اأخرى بني منوذجني لبنائني على عهد ‏سيدنا اإبراهيم خليل اهلل<br />

يتضح لنا كيف يكون موقف السماء من املمارسات الإعمارية على الأرض،‏<br />

ففي احلالة الأوىل يرشد اهلل ‏سبحانه وتعاىل ‏سيدنا اإبراهيم ملكان البيت<br />

العتيق لريفع قواعده يف قوله تعاىل:‏ }<br />

، )1( {<br />

اأما عن رفع قواعد البيت فيقول ‏سبحانه وتعاىل:‏ }<br />

{ )2( ، اإن<br />

الآيات الكرمية السابقة توحي اإلينا باأهمية ارتباط املمارسة الإعمارية<br />

بالعقيدة السليمة ‏)األ تشرك بي ‏شيئا(‏ كشرط اأساسي،‏ اإىل جانب التقوى<br />

والتواضع هلل جل ‏ساأنه ‏)ربنا تقبل منا(،‏ ويف هذه احلالة فاإن السماء تُعْلي<br />

وتُبارك هذا البناء،‏ ‏شكل )3(.<br />

اأما يف حالة احلياد عن منهج اهلل،‏ وهى احلالة التي متثل النموذج الثاين،‏<br />

)1( ‏سورة احلج:‏ الآية 26.<br />

)2( ‏سورة البقرة:‏ الآية 127.<br />

34


فاإن النتيجة احلتمية هي تدمري البنيان والعمران كعقاب وعذاب ولو بعد<br />

حني،‏ ونلمح هذا املعنى يف قوله تعاىل:‏ }<br />

{ )1( ، قال ابن عباس وزيد بن اأسلم وغريهما:‏ ‏»اإنه<br />

النمرود بن كنعان وقومه،‏ اأرادوا ‏صعود السماء وقتال اأهلها فبنوا الصرح<br />

ليصعدوا منه،‏ ومعنى ‏»فاأتى اهلل بنيانهم«‏ اأي اأتى اأمره البنيان اإما زلزلة اأو<br />

ريحا فخربته«‏ )2( .<br />

رسم تخيلى للكعبة املشرفة على عهد ‏سيدنا اإبراهيم.‏<br />

)1( ‏سورة النحل:‏ الآية 26.<br />

)2( انظر تفسري الآية 26 من ‏سورة النحل يف اجلامع لأحكام القراآن لالإمام القرطبى.‏<br />

35


‏شكل )3(: الكعبة املشرفة اأول بيت وضع للناس على الأرض.‏<br />

اإن املقارنة السابقة بني رفع واإعالء بنيان الكعبة املشرفة وتدمري بنيان<br />

النمرود لتوؤكد وتوضح موقف السماء الثابت من عمليات الإعمار على<br />

الأرض،‏ فهي تبارك كل بنيان اأسس على تقوى اهلل من اأجل عمارة الأرض<br />

عمارة ‏صاحلة فاضلة تيسر للبشر اأمور العبادة واملعيشة،‏ كما تدمر اأو تعطل<br />

كل بنيان اأو عمران فاسد.‏<br />

36


اإن التقوى هي الأساس املعنوي لكل بنيان وعمران مصداقاً‏ لقوله<br />

تعاىل:‏ }<br />

{ )1( ، اأما بعد عمارة الأرض فال يجب اأن نفتنت باملساكن<br />

والدور والعشرية والأموال،‏ بحيث تصبح اأحب اإلينا من طاعة اهلل ورسوله<br />

واجلهاد يف ‏سبيله،‏ واإل ل نكون قد اعتربنا مبا حدث لالأمم املذكورة يف<br />

قصص القراآن،‏ لذلك يحذرنا اهلل ‏سبحانه وتعاىل من هذا بقوله:‏ }<br />

. )2( {<br />

ثالثا:‏ الغاية من اإقامة املدن والقرى<br />

يف عصرنا احلديث تبنى املدن اأو تقام التجمعات العمرانية اجلديدة<br />

من اأجل توفري واإيجاد املساكن والبيوت خاصة للشباب،‏ وبخاصة املتزوجني<br />

حديثا اأو املقبلني على الزواج،‏ وهو هدف طيب ل غبار عليه،‏ ولكن يف الروؤية<br />

القراآنية فاإن الغاية من اإقامة املدن والتجمعات العمرانية اجلديدة هي غاية<br />

اأكرث ‏سموا ورقيا ول تنحصر فقط يف اإيجاد املزيد من البيوت واملساكن.‏<br />

ففي ملمح قراآين يتاأكد لنا اأن الغاية من اإعمار الأرض واإقامة املجتمعات<br />

العمرانية واملدن هو عبادة اهلل ‏سبحانه وتعاىل واإقامة الصالة،‏ يقول<br />

)1( ‏سورة التوبة:‏ الآية 109.<br />

)2( ‏سورة التوبة:‏ الآية 24.<br />

37


}<br />

اهلل ‏سبحانه وتعاىل على لسان ‏سيدنا اإبراهيم اأبي الأنبياء:‏<br />

{ )1( ، فالغرض الأساسي من اإسكان ‏سيدنا اإبراهيم لزوجته<br />

هاجر وابنه اإسماعيل عند البيت احلرام هو اإقامة الصالة،‏ والصالة هنا<br />

هي رمز واأساس لكل العبادات الأخرى،‏ فمن اأقام الصالة فقد اأقام الدين،‏<br />

ومن هدمها فقد هدم الدين كما علمنا رسولنا الكرمي عليه اأفضل الصالة<br />

والتسليم،‏ ثم بعد ذلك تاأتي بقية الأهداف من اإقامة التجمعات العمرانية<br />

من توفري املاأوى وفرص العمل لالأجيال اجلديدة.‏<br />

ثم نلمح من الآية الكرمية السابقة اأن اأساس الإسكان والتجمع هو وجود<br />

بيت اهلل احلرام يف هذا الوادي الذى ليوجد فيه زرع وبالتبعية اأيضا ليوجد<br />

به ماء،‏ وكاأن الآية الكرمية تلفت النظر اأن بداية واأساس اأي جتمع عمراين<br />

هو وجود املسجد اأول.‏<br />

اإن فكرة وجود املسجد ‏)اأو املساجد(‏ كاأساس لإقامة التجمع العمراين،‏<br />

‏سواء كان قرية اأو مدينة،‏ تتاأكد اأيضا من تاأمل قوله تعاىل:{‏<br />

{ )2( ، فلقد اأشارت الآية<br />

الكرمية اإىل املسجد احلرام وهو اأساس التجمع العمراين يف اأم القرى مكة<br />

املكرمة،‏ ‏شكل )4(، واإىل اأن املسجد الأقصى اأساس التجمع العمراين يف<br />

بيت املقدس،‏ ‏شكل )5(.<br />

)1( ‏سورة اإبراهيم:‏ الآية 37.<br />

)2( ‏سورة الإسراء:‏ الآية 1.<br />

38


كما اأشارت اآية كرمية اأخرى اإىل اأن اأساس التجمع العمراين للمسلمني يف<br />

املدينة املنورة قد بداأ ببناء املساجد اأول،‏ وهو ما حدث بالفعل بعد هجرة<br />

الرسول عليه الصالة والسالم مباشرة اإىل ‏»يرثب«،‏ فقد كان اأول ما فعله<br />

عليه الصالة والسالم اأن قام ببناء مسجد ‏»قباء«،‏ ثم بعد ذلك مسجده<br />

عليه الصالة والسالم باملدينة املنورة،‏ ‏شكل )6(، لذلك فاإن اهلل ‏سبحانه<br />

وتعاىل اأمره بعدم الصالة يف مسجد ‏»الضرار«‏ الذي بناه املنافقون ‏ضراراً‏<br />

ملسجد قباء الذي اأُسس بنيانه على التقوى،‏ مصداقاً‏ لقوله تعاىل:‏ }<br />

. )1( {<br />

وقد ورد يف احلديث الشريف عن اأبي بن كعب اأن النبي [ قال )2( : ‏»املسجد<br />

الذي اأسس على التقوى مسجدي هذا«،‏ ول تعارض هنا بني الآية واحلديث،‏<br />

لأنه اإذا كان مسجد قباء قد اأسس على التقوى من اأول يوم،‏ فمسجد الرسول<br />

عليه الصالة والسالم اأوىل واأحرى اأن يوصف بذلك اأيضا.‏<br />

)1( ‏سورة التوبة:‏ الآية 108.<br />

)2( تفرد به الإمام اأحمد يف مسنده.‏<br />

39


‏شكل )4(: املسجد احلرام هو اأساس التجمع العمراين يف مكة املكرمة.‏<br />

‏شكل )5(: املسجد الأقصى هو اأساس التجمع العمراين مبدينة القدس.‏<br />

40


‏شكل )6(: مسجد املدينة هو اأساس التجمع العمراين يف املدينة املنورة.‏<br />

لقد اأوضح القصص القراآين اأن الأساس الذى اأقيمت عليه املدن الثالث<br />

املقدسة عند املسلمني،‏ مكة املكرمة وبيت املقدس واملدينة املنورة،‏ هو وجود<br />

املساجد الثالثة التي تشد اإليها الرحال،‏ وهي:‏ املسجد احلرام واملسجد<br />

الأقصى ومسجد الرسول عليه الصالة والسالم،‏ وذلك من اأجل اإقامة<br />

الصالة وعبادة الواحد الأحد.‏<br />

لقد فهم املسلمون الأوائل اأن عمارة الأرض وتاأسيس املدن والأمصار عمل<br />

تعبدي يف املقام الأول،‏ الهدف منه اإقامة ‏شرائع الدين وسنن النبيني،‏ وهذه<br />

املعاين وغريها جندها يف دعاء اإدريس الثاين ‏)عام ‎192‎هجرية(‏ عند قيامه<br />

ببناء مدينة ‏»فاس«‏ باملغرب،‏ ‏شكل )7(، يف قوله )1( : ‏»اللهم اإنك تعلم اأين ما<br />

اأردت ببناء هذه املدينة مباهاة ول مفاخرة ول رياء ول ‏سمعة ول مكابرة،‏<br />

واإمنا اأردت اأن تعبد بها ويتلى كتابك،‏ وتقام بها حدودك وشرائع دينك وسنة<br />

)1( البخالخي اأحمند )1994(، فاس ومراكش..مدن لها تاريخ،‏ جملة املنهل-‏ عدد 519، جدة،‏<br />

‏ص‎264‎‏.‏<br />

41


نبيك ما بقيت الدنيا..،‏ اللهم وفق ‏سكانها وقطانها للخري،‏ واأعنهم واكفهم<br />

موؤونة اأعدائهم وادرر عليهم الأرزاق،‏ واغمد عنهم ‏سيف الفتنة والشقاق،‏<br />

اإنك على كل ‏شيء قدير«.‏ هكذا قراأ املسلمون الأوائل اآيات القراآن وقصصه<br />

فتدبروها وفهموها واتعظوا مبا حدث لالأمم الغابرة،‏ وعرفوا اأن الغاية من<br />

العمران والبنيان اأن يكون يف خدمة الدين واإقامة ‏شرائعه وحدوده،‏ دون<br />

فخر اأو مباهاة اأو مكابرة.‏<br />

اإن الشاهد الأساسي من كل ما ‏سبق اأن طاعة اهلل ورسله عليهم اأفضل<br />

الصالة والسالم هي اأكرب ‏ضمان واأعظم حافظ للبنيان والعمران من<br />

اخلراب والهالك،‏ واأن العتبار مبا حدث لالأمم السابقة املكذبة التي ظلمت<br />

نفسها بالكفر وعدم طاعة اهلل واجب علينا ونحن نعمر الأرض،‏ كما اأن تقوى<br />

اهلل هي الأساس املعنوي الذي يجب اأن تقام عليه املدن،‏ والأمصار،‏ واأن<br />

الفتتان باملساكن والبيوت اأمر مرفوض من وجهة نظر القراآن،‏ لأنها وسيلة<br />

وليست غاية.‏<br />

لقد فهم املسلمون الأوائل املعاين السامية اجلليلة التي وردت يف اآيات<br />

القراآن الكرمي اخلاصة بعمارة الأرض،‏ فكانوا حريصني على التنبيه عليها<br />

وتطبيقها بقدر املستطاع،‏ فعلى ‏سبيل املثال نورد هنا خطبة جليلة لأبي<br />

الدرداء وجهها اإىل اأهل دمشق يف عصور ‏سابقة،‏ ملا راأى ما اأحدثه املسلمون<br />

يف الغوطة من البنيان ونصب الأشجار،‏ وما ورد يف هذه اخلطبة ينطبق على<br />

الكثري من املمارسات الإعمارية املنتشرة حاليا يف املجتمعات الإسالمية<br />

املعاصرة،‏ فقام يف مسجدهم فنادى يا اأهل دمشق،‏ فحمد اهلل واأثنى عليه،‏<br />

ثم قال )1( : ‏»األ تستحيون،‏ األ تستحيون،‏ جتمعون ما ل تاأكلون،‏ وتبنون ما<br />

ل تسكنون،‏ وتاأملون ما ل تدركون،‏ قد كانت قبلكم قرون يجمعون فيوعون،‏<br />

ويبنون فيوثقون،‏ وياأملون فيطيلون،‏ فاأصبح اأملهم غرورا،‏ واأصبح جمعهم<br />

)1( توفيق حممد ‏سبع )1984(، قيم حضارية يف القراآن الكرمي،‏ دار املنار،‏ القاهرة،‏ ‏)ج‎1‎‏(،‏<br />

‏ص‎159‎‏.‏<br />

42


بورا،‏ واأصبحت مساكنهم قبورا،‏ األ اإن عادَّا ملكت ما بني عدنان وعمان<br />

خيال وركابا،‏ من يشرتى مني مرياث عاد بدرهمني«.‏<br />

هذه هي بعض ‏ضوابط العمران والبنيان املستنبطة من بعض ما ورد يف<br />

القصص القراآين،‏ تنري طريق املسلمني يف كل زمان ومكان وتضع اأمامهم<br />

الثوابت الواجب اتباعها عند عمارة الأرض،‏ حتى ل ينبهروا باملظاهر الكاذبة<br />

للمدنيات واحلضارات السابقة اأو احلالية والتي اتخذت من العمران رمزاً‏<br />

للتفاخر والتكرب لفساد عقيدتهم وابتعادهم عن الطريق القومي،‏ ولتكون<br />

املمارسات الإعمارية الصاحلة التي اأساسها تقوى اهلل هي السائدة يف<br />

املجتمعات الإسالمية،‏ والسبيل لرضاه ونيل السعادة يف الدارين.‏<br />

‏شكل )7(: مدينة فاس باملغرب.‏<br />

43


املبحث الثاين<br />

اأنواع املباين واملصطلحات املعمارية يف القراآن<br />

يلفت نظر املتاأمل والدارس لسور واآيات القراآن الكرمي يف جمال عمران<br />

وعمارة الأرض اأمران مهمان:‏ اأولهما:‏ ‏شمولية حصر الآيات القراآنية للعديد<br />

من اأنواع املباين املعمارية على اختالفها وتعددها،‏ وثانيهما:‏ دقة التفرقة<br />

بني املفاهيم واملصطلحات العمرانية واملعمارية.‏<br />

لذلك،‏ فقد راأينا اأن يتم تخصيص هذا املبحث لإظهار وتوضيح هذين<br />

الأمرين،‏ كاأحد اأسس علوم العمران والبنيان التي وردت يف القراآن الكرمي،‏<br />

لقد ‏صدق اهلل العظيم حيث يقول يف حمكم اآياته:‏ }<br />

اأول:‏ ‏شمولية حصر اأنواع املباين املعمارية<br />

. )1( » {<br />

من املعروف اأن الأنشطة الإنسانية املختلفة حتتاج اإىل مبانٍ‏ خمتلفة<br />

يتم ممارسة هذه الأنشطة فيها،‏ ومن الالفت للنظر اأن القراآن الكرمي قدم<br />

حصرا لأهم نوعيات املباين على اختالف وظائفها من خالل اآيات كرمية<br />

جاءت يف ‏سور متعددة،‏ وهو ما يعترب اأحد جوانب اإعجاز القراآن الكرمي يف<br />

هذا املجال،‏ وفيما يلي توضيح لذلك:‏<br />

1- مباين العبادة:‏<br />

مل يغفل القراآن الكرمي عن ذكر اأنواع مباين العبادة املختلفة عند اأهل<br />

الشرائع السماوية،‏ وهم اليهود والنصارى واملسلمني،‏ حيث يقول ‏سبحانه<br />

وتعاىل:‏ }<br />

)1( ‏سورة الكهف:‏ الآية 54.<br />

44


{ )1( ، اأي لول هذا الدفع لهدم يف زمن<br />

‏سيدنا موسى ‏»الصلوات «، وفى زمن ‏سيدنا عيسى ‏»الصوامع«‏ و»البيع«،‏ وفى<br />

زمن ‏سيدنا حممد عليه الصالة والسالم ‏»املساجد«.‏<br />

والصوامع جمع ‏صومعة وهي بناء مرتفع،‏ وكانت قبل الإسالم خمتصة<br />

برهبان النصارى وبعبَّاد الصابئني.‏ قال قتادة:‏ ثم استعمل يف مئذنة<br />

املسلمني،‏ والبيع جمع بيعة وهي كنيسة النصارى،‏ والصلوات هي كنائس<br />

اليهود،‏ فعلى ذلك فالصوامع للرهبان والبيع للنصارى،‏ والصلوات لليهود،‏<br />

واملساجد للمسلمني )2( .<br />

اأما بالنسبة اإىل املساجد،‏ فقد ورد ذكر لفظ ‏»املسجد«‏ معَّرفا يف اآيات<br />

القراآن الكرمي نحو ‏سبعة عشر مرة،‏ منها خمسة عشر مرة جاء لفظ<br />

املسجد موصوفا ‏»باحلرام ‏«اأي ‏»املسجد احلرام » )3( ، وهو ما يدل على اأنه<br />

اأهم مساجد الأرض على الإطالق واأعظمها قدسية ومكانة،‏ ومما يوؤكد ذلك<br />

اأنه اأول بيت وضع للناس على الأرض يقول ‏سبحانه وتعاىل:‏ }<br />

. )4( {<br />

وعن الشعبي عن علي رضي اهلل عنه قال:‏ ‏»كانت البيوت قبلة،‏ ولكنه اأول<br />

بيت وضع لعبادة اهلل«،‏ وزعم السدي اأنه اأول بيت وضع على وجه الأرض<br />

مطلقا،‏ والصحيح قول علي رضي اهلل عنه )5( .<br />

2- مباين السكن والإيواء:‏<br />

الإنسان بطبيعته البشرية ل يستطيع اأن يعيش يف احلياة بدون ماأوى<br />

)1( ‏سورة احلج:‏ من الآية 40.<br />

)2( انظر تفسري الآية 40 من ‏سورة احلج يف اجلامع لأحكام القراآن لالإمام القرطبي.‏<br />

)3( يحيى وزيري ( التعمري يف القراآن والسنة(:‏ مرجع ‏سابق،‏ ‏ص‎104‎‏.‏<br />

)4( ‏سورة اآل عمرن:‏ الآية 96.<br />

)5( انظر:‏ كتاب ‏»فتح الباري ‏شرح ‏صحيح البخاري » لالإمام ابن حجر العسقالنى،‏ واأيضا:‏ يحيى<br />

وزيرى،‏ املرجع السابق،‏ ‏ص‎105‎‏.‏<br />

45


يبيت فيه،‏ ليسرتيح من عناء العمل،‏ كما يلجاأ اإليه ليحميه من الربد واحلر<br />

والظروف املناخية الصعبة،‏ لذلك فاإن البيوت واملساكن تعترب اإحدى النعم<br />

التي مَ‏ نَّ‏ اهلل ‏سبحانه وتعاىل بها على البشر،‏ ويف هذا املعنى يقول اهلل جل<br />

يف عاله:‏ }<br />

. )1( {<br />

فالآية الكرمية السابقة من ‏سورة النحل فيها تعديد لنعم اهلل تعاىل على<br />

الناس يف البيوت،‏ فذكر ‏سبحانه وتعاىل بيوت املدن وهى الإقامة الطويلة،‏<br />

وقوله ‏»سكنا«‏ اأي تسكنون فيها وتهداأ جوارحكم من احلركة،‏ ثم ذكر بعد ذلك<br />

بيوت النقلة والرحلة وهي ‏»وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا تستخفونها«،‏<br />

اأي من الأنطاع والأدم بيوتا،‏ يعني اخليام والقباب يخف عليكم حملها يف<br />

الأسفار،‏ وقال اأبو زيد الأنصاري:‏ ‏»اأثاثا«‏ الأثاث متاع البيت واحدها اأثاثه،‏<br />

وقال الأموي:‏ الأثاث متاع البيت وجمعه اآثه واأثث،‏ اأي جعل لكم من ‏صوف<br />

الغنم ووبر الإبل وشعر املاعز ما تلبسون وتفرشون وتتمتعون اإىل حني املوت<br />

اأو اأن تبلى )2( .<br />

اأي اإن الآية الكرمية ذكرت بيوت املدن والقرى الثابتة،‏ وبيوت البدو<br />

املتنقلة واملتمثلة يف اخليام والقباب،‏ ثم تاأتي اآيات كرمية اأخرى لتوضح اأن<br />

من الأشكال الطبيعية ما ميكن اتخاذه كماأوى اأو بيت،‏ كما يف قوله تعاىل:‏<br />

} { )3( ، كما اأخرب ‏سبحانه وتعاىل عن اتخاذ<br />

قوم ثمود من اجلبال بيوتا يف قوله:‏ }<br />

{ )4( ، كما تشري اإحدى اآيات ‏سورة الكهف اإىل جلوء الفتية<br />

)1( ‏سورة النحل:‏ الآية 80.<br />

)2( انظر تفسري الآية 80 من ‏سورة النحل يف اجلامع لأحكام القراآن لالإمام القرطبي.‏<br />

)3( ‏سورة الكهف:‏ من الآية 63.<br />

)4( ‏سورة احلجر:‏ الآية 82.<br />

46


املوؤمنني اإىل هذا الكهف العجيب احتماء به من اأهل الكفر،‏ حيث يقول<br />

‏سبحانه وتعاىل:‏ }<br />

{ )1( ، وتشري الآية<br />

الكرمية اإىل الكهوف والغريان كاأحد اأشكال املاأوى الطبيعية التي ميكن اأن<br />

ياأوي اإليها البشر.‏<br />

اإن كتب ومراجع تاريخ العمارة والآثار )2( توضح اأن البشر يف مراحل زمنية<br />

معينة من التاريخ،‏ خاصة قبل انتشار القرى واملدن والتجمعات العمرانية،‏<br />

كانوا يتخذون من الأشكال الطبيعية كالصخور اأو اجلبال اأو الكهوف ماأوى<br />

ومسكناً‏ يعيشون فيه،‏ ‏شكل)‏‎8‎‏(.‏<br />

3- املباين الدفاعية واحلربية:‏<br />

جاء ذكر العديد من عناصر ومباين العمارة الدفاعية يف بعض الآيات<br />

القراآنية،‏ نفصلها فيما يلي:‏<br />

اأ-‏ الربوج املشيدة:‏ وهى احلصون املنيعة،‏ يقول اهلل ‏سبحانه وتعاىل:‏<br />

} { )3( ، والبرج يف<br />

املباين واحلصون الدفاعية عبارة عن عنصر معماري الغرض منه دعم<br />

اأسوار املدن اأو القالع اأوالقصور بغرض زيادة فاعلية هذه العناصر من<br />

الناحية الدفاعية،‏ وتزود هذه الأبراج عادة بغرف علوية ‏صغرية لقذف<br />

النار،‏ كما تزود مبزاغل راأسية لرمي السهام ومزاغل اأفقية لصب السوائل<br />

املحرقة )4( ، ‏شكل .)9(<br />

)1( ‏سورة الكهف:‏ اآية 16.<br />

)2( انظر على ‏سبيل املثال:‏ ثيا وريتشارد برجيز ‏)ترجمة:حممد توفيق حممود(‏ )1962(. من<br />

احلجارة اإىل ناطحات السحاب.‏ دار النهضة العربية،‏ القاهرة،‏ ‏ص 9،8.<br />

)3( ‏سورة النساء:‏ من الآية 78.<br />

)4( يحيى وزيري )1985(: العمارة الإسالمية احلربية وتاأثريها على العمارة املعاصرة،‏ جملة<br />

عامل البناء-‏ عدد 62، مركز الدراسات التخطيطية واملعمارية،‏ القاهرة،‏ ‏ص‎19‎‏.‏<br />

47


ب-‏ احلصون:‏ يقول اهلل ‏سبحانه وتعاىل:{‏<br />

{ )1( ، فاهلل جل وعال<br />

هو الذي اأخرج يهود بني النضري من مساكنهم باملدينة املنورة،‏ اأي يف اأول<br />

مرة حشروا واأخرجوا فيها من جزيرة العرب اإىل الشام،‏ وظنوا اأن حصونهم<br />

احلصينة متنعهم من باأس اهلل )2( ، والشاهد يف الآية الكرمية ذكر احلصون<br />

باعتبارها اأهم عناصر العمارة الدفاعية يف جمال العمارة احلربية.‏<br />

‏شكل )10(.<br />

)1( ‏سورة احلشر:‏ من الآية 2.<br />

)2( يحيى وزيري ‏)التعمري يف القراآن والسنة(:‏ مرجع ‏سابق،‏ ‏ص‎141‎‏.‏<br />

48


‏شكل )8(: بعض اأنواع املاأوى التي كان يلجاأ اإليها الإنسان قبل ظهور التجمعات العمرانية،‏ ومنها<br />

املاأوى الطبيعي كالكهوف واجلبال والصخور التي جاء ذكرها يف القراآن الكرمي.‏<br />

49


‏شكل )9(: اأبراج يف ‏سور قلعة نخل بسلطنة عمان.‏<br />

‏شكل )10(: قلعة نخل من اأجمل قالع املنطقة الداخلية بسلطنة عمان.‏<br />

50


ج-‏ الأسوار الدفاعية:‏<br />

تعترب الأسوار من اأهم التحصينات احلربية ‏سواء على مستوى املدن اأو<br />

املباين اأو احلصون،‏ فهي خط الدفاع الأول؛ لأن املهاجمني اإذا متكنوا من<br />

اقتحام اأسوار املدينة والنفاذ منها اإىل الداخل،‏ فاإن هذا يعني متكنهم من<br />

الستيالء على باقي املدينة ‏)اأو احلصن(‏ بسهولة ويسر.‏<br />

ولقد ورد ذكرُ‏ السد الذي بناه ذو القرنني باعتباره اأحد مناذج العمارة<br />

الدفاعية التي اأعطى القراآن الكرمي وصفا دقيقا له يف ‏سورة الكهف،‏ يقول<br />

اهلل تعاىل:‏ }<br />

. )1( {<br />

الردم هو السد،‏ والردم ما جعل بعضه على بعض حتى يتصل،‏ وقيل<br />

الردم اأبلغ من السد،‏ اإذ السد ما يسد به والردم وضع الشيء من حجارة اأو<br />

تراب اأو نحوه حتى يقوم من ذلك حجاب منيع.‏<br />

ومن الآيات القراآنية التي تتحدث عن مناذج للجدر الدفاعية قوله تعاىل:‏<br />

} { )2( ، ذكر ابن<br />

كثري ما خمتصره )3( : ‏»يعنى اأنهم من جبنهم وهلعهم ‏)يقصد اليهود(،‏<br />

ليقدرون على مواجهة جيش الإسالم،‏ بل اإما يف حصون اأو من وراء جدر<br />

حماصرين،‏ فيقاتلون للدفع عنهم ‏ضرورة«.‏<br />

)1( ‏سورة الكهف:‏ الآيات من 95 اإىل 97.<br />

)2( ‏سورة احلشر:‏ من الآية 14.<br />

)3( انظر تفسري الآية 14 من ‏سورة احلشر يف تفسري القراآن العظيم لالإمام ابن كثري.‏<br />

51


والشاهد يف الآية الكرمية السابقة ذكر القرى املحصنة،‏ واجلدر اأي<br />

الأسوار الدفاعية.‏<br />

4- املباين العامة:‏<br />

يقول اهلل ‏سبحانه وتعاىل:‏ }<br />

، )1( {<br />

وفى الآية الكرمية اإباحة رفع الستئذان يف كل بيت ل يسكنه اأحد،‏ لأن العلة<br />

يف الستئذان اإمنا هي لأجل خوف الكشفة على احلرمات،‏ فاإذا زالت العلة<br />

زال احلكم )2( .<br />

وفى ‏سبب نزول هذه الآية الكرمية روي عن اأبى بكر رضي اهلل عنه اأنه<br />

قال:‏ ‏»يا رسول اهلل،‏ اأفراأيت اخلانات واملساكن يف طرق الشام ليس فيها<br />

‏ساكن«‏ فاأنزل اهلل تعاىل:‏ ‏»ليس عليكم جناح اأن تدخلوا بيوتا غري مسكونة » )3( ،<br />

واملتاع املذكور هو النتفاع،‏ فالطالب يدخل اخلانكات وهي املدارس لطلب<br />

العلم،‏ والساكن يدخل اخلانات وهي الفنادق،‏ والزبون يدخل الدكان<br />

لالبتياع،‏ واحلاقن يدخل اخلالء للحاجة )4( .<br />

فالآية السابقة تشري اإىل املباين العامة ودور الضيافة واملدارس وما<br />

‏شابهها،‏ واأنه لينطبق عليها ما ينطبق على البيوت السكنية من اأهمية<br />

مراعاة الستئذان وعوامل اخلصوصية،‏ لأنها مباين عامة تخدم كل اأفراد<br />

املجتمع.‏<br />

ولقد ورد يف بعض الآيات القراآنية الأخرى ذكرُ‏ بعض مناذج من املباين<br />

العامة واملتنوعة،‏ نحاول اأن نلقي الضوء عليها فيما يلي:‏<br />

)1( ‏سورة النور:‏ الآية 29.<br />

)2( يحيى وزيري ‏)التعمري يف القراآن والسنة(:‏ مرجع ‏سابق،‏ ‏ص‎134‎‏.‏<br />

)3( انظر تفسري الآية 29 من ‏سورة النور يف اجلامع لأحكام القراآن لالإمام القرطبي.‏<br />

)4( املرجع نفسه.‏<br />

52


اأ-‏ الأسواق:‏ الأسواق عبارة عن جمموعة من الدكاكني مفتوحة على<br />

جانبي الطريق،‏ وكان لكل ‏صناعة وجتارة ‏سوق خاصة،‏ فهناك ما هو<br />

للصائغني اأو النحاسني،‏ وقد تكون السوق مسقوفة بكاملها اأو مبجموعة من<br />

دكاكينها يف بناء كبري واحد كاخلان اأو الوكالة )1( ، ‏شكل )11(.<br />

وقد ورد ذكر الأسواق يف قوله تعاىل:‏ }<br />

، )2( {<br />

وقد جاء ذكر السوق يف غري حديث،‏ ذكره اأهل الصحيح،‏ وجتارة الصحابة<br />

معروفة خاصة املهاجرين،‏ كما قال اأبو هريرة:‏ « اإخواننا من املهاجرين كان<br />

يشغلهم الصفق«‏ ‏)التبايع بالأسواق(‏ )3( .<br />

ب-‏ اخلانات وحمطات القوافل:‏<br />

من املباين العامة التي ورد ذكرها يف القراآن الكرمي حمطات القوافل<br />

التجارية اأو اخلانات،‏ وهي لفظة فارسية اأطلقت على مكان مبيت املسافرين،‏<br />

ونلمح هذه الإشارة يف قوله ‏سبحانه وتعاىل:‏ }<br />

. )4( {<br />

اأي جعلنا بني بالد ‏»سباأ«‏ وبني قرى الشام التي باركنا فيها للعاملني قرى<br />

متصلة من اليمن اإىل الشام،‏ يرى بعضها من بعض لتقاربها،‏ ظاهرة لأبناء<br />

السبيل،‏ وقلنا لهم ‏سريوا بني هذه القرى متى ‏شئتم ل تخافون يف ليل ول<br />

نهار،‏ قال الزخمشرى:‏ ‏»كان الغادي منهم يقيل يف قرية،‏ والرائح يبيت يف<br />

قرية اإىل اأن يبلغ الشام » )5( .<br />

)1( عبد الرحيم غالب )1988(: موسوعة العمارة الإسالمية،‏ جروس برس،‏ بريوت،‏ ‏ص‎231‎‏.‏<br />

)2( ‏سورة الفرقان:‏ الآية 7.<br />

)3( اأخرجه البخاري.‏<br />

)4( ‏سورة ‏سباأ:‏ الآية 18.<br />

)5( انظر تفسري الآية 18 من ‏سورة ‏سباأ يف ‏صفوة التفاسري ملحمد علي الصابوين.‏<br />

53


ويف الآية اإشارة اإىل حمطات القوافل التجارية واخلانات التي توجد على<br />

طرق القوافل التجارية اأثناء ‏سفرهم للتجارة والرتحال،‏ حيث كان ياأوي<br />

التجار اإىل هذه القرى الظاهرة املعروفة للخانات اأو املباين املخصصة<br />

للغرباء،‏ وذلك من اأجل الراحة اأو التزود باملاء واملوؤن التي تعني املسافرين<br />

والتجار على استكمال رحلتهم من بلد اإىل اآخر.‏<br />

ج-‏ السجون:‏<br />

السجون جمع ‏سجن وهو املحبس،‏ وقد كان يف كل مدينة ‏سجن واحد اأو<br />

اأكرث مستقل البناء اأو ملحق بسور اأو برج اأو قلعة )1( ، وقد جاء ذكر السجن يف<br />

قوله تعاىل:‏ }<br />

. )2( {<br />

)1( يحيى وزيري ‏)التعمري يف القراآن والسنة(:‏ مرجع ‏سابق،‏ ‏ص‎138‎‏.‏<br />

)2( ‏سورة يوسف:‏ الآية 42.<br />

54


‏شكل )11(: وكالة الغورى اململوكية بالقاهرة من اخلارج والداخل.‏<br />

55


ثانيا:‏ الدقة يف التفرقة بين املصطلحات املعمارية<br />

والعمرانية<br />

تزخر اآيات القراآن الكرمي بالعديد من املصطلحات والعناصر املعمارية<br />

والعمرانية،‏ وهي توضح اأحد مالمح الإعجاز القراآين يف تفسري املفهوم<br />

الدقيق لكل عنصر،‏ والفرق بينه وبني العناصر الأخرى.‏<br />

وسنحاول يف هذا املحور من البحث اأن نعطي اأمثلة متعددة لتوضيح<br />

دقة وعظمة القراآن يف هذا الساأن،‏ وفيما يلي تفصيل لعناصر العمران كما<br />

استنبطها بعض الباحثني من اآيات القراآن الكرمي )1( ، )2( :<br />

- البيت:‏ اإن معنى البيت هو البناء الذي له رب واحد يتصرف فيه كيف<br />

‏شاء،‏ لذلك ‏سميت الكعبة بيت اهلل احلرام،‏ وكذلك ‏سميت املساجد بيوت<br />

اهلل،‏ والبيت كلفظ مفرد ومعرف يعرب عن بيت اهلل احلرام مبكة املكرمة كما<br />

ورد يف اآيات القراآن الكرمي،‏ يقول تعاىل:‏ }<br />

، )3( {<br />

{ )4( ، وقوله تعاىل:‏<br />

وقوله تعاىل:‏ }<br />

. )5( { }<br />

والبيت يف معناه اللغوي يعرب عن الستقرار والدميومة،‏ كما يعرب عن<br />

ملكيته لأسرة واحدة تبيت فيه،‏ وميكن اأن نستلهم هذا املفهوم من قوله<br />

تعالى:‏ } { ( )6 ،<br />

)1( عبد العزيز عبد اهلل اأبا اخليل )1989(: الكتاب والسنة اأساس تاأويل العمارة الإسالمية،‏ ج‎1‎ ‏ص<br />

16 وما بعدها،‏ ‏شركة مطابع جند التجارية،‏ الرياض،‏ .<br />

)2( حممود حسن نوفل )2003(: العمران والبيئة من منظور اإسالمي،‏ اأبحاث موؤمتر الجتهاد يف<br />

قضايا الصحة والبيئة والعمران،‏ كلية الشريعة والدراسات الإسالمية-‏ جامعة الريموك،‏ الأردن.‏<br />

)3( ‏سورة قريش:‏ الآية 3.<br />

)4( ‏سورة البقرة:‏ من الآية 127.<br />

)5( ‏سورة البقرة:‏ من الآية 125.<br />

)6( ‏سورة الأحزاب:‏ من الآية‎33‎‏.‏<br />

56


وفى الآية الكرمية اأمر لنساء النبي عليه الصالة والسالم بالستقرار<br />

واملكوث يف بيوتهن،‏ كما قال تعاىل:‏ } { 1( ،<br />

وهى اإشارة اأيضا اإىل وجوب استقرار املطلقات يف البيوت حتى تنتهي<br />

عدتهن،‏ لذلك قال املوىل عز وجل:‏ ‏»من بيوتهن«‏ ومل يقل ‏»من بيوتكم«.‏<br />

والبيت يعرب عن كيان مادي منساأ،‏ ويظهر ذلك من قوله تعاىل:‏<br />

} { )2( ، واأيضا قول السيدة<br />

{ )3( ، فالنحت<br />

اآسية امراأة فرعون:‏ }<br />

والبناء من وسائل البناء املادي.‏<br />

كما اأن للبيوت حرمة وخصوصية معتربة،‏ يتضح ذلك من قوله تعاىل:‏<br />

}<br />

{ )4( ، ‏شكل .)12(<br />

كما تعود كلمة بيت على ماأوى كل املخلوقات ‏سواء الإنسان اأو احليوان،‏ كما<br />

يف قوله تعاىل:‏ }<br />

. )5( {<br />

- املسكن:‏ ‏سكن الشيء ‏سكونا ذهبت حركته وقر استقر وثبت،‏ واملسكن<br />

يف اللغة من ‏سكن السكون بعد احلركة،‏ وهو مبعنى اأن يكون البناء قد اأقيم<br />

على اأرض جديدة اأو موطن جديد بعد اأن مت النتقال من املوطن الأصلي اإىل<br />

موطن جديد،‏ يقول تعاىل:‏ }<br />

. )6( {<br />

)1( ‏سورة الطالق:‏ من الآية 1.<br />

)2( ‏سورة احلجر:‏ الآية 82.<br />

)3( ‏سورة التحرمي:‏ من الآية 11.<br />

)4( ‏سورة النور:‏ الآية 27.<br />

)5( ‏سورة النحل:‏ الآية 68.<br />

)6( ‏سورة اإبراهيم:‏ من الآية 37.<br />

(<br />

57


لقد كان للقراآن الكرمي السبق يف التحديد املبكر ملعنى البيت واملسكن،‏<br />

واأن البيت ليس كاملسكن،‏ حيث يقول جل يف عاله:{‏<br />

{ )1( ، فاهلل هو الذى جعل البيت مسكنا،‏ وورود البيت قبل املسكن فيه<br />

اإشارة واضحة اإىل اأنه لكي يصبح البيت ‏سكنا فهو بحاجة اإىل فرتة من<br />

الزمن حتى يتحقق الرتباط الذهني بني الساكنني والوسط الفيزيائي الذي<br />

هو البيت،‏ وعند اإسقاط هذا الإيضاح القراآين على اجلدل القائم باللغة<br />

الإجنليزية جند اأن البيت يتطابق مع كلمة )House( بينما املسكن،‏<br />

يتطابق مع كلمة .)Home(<br />

اإن البيت هو الوسط الفيزيائي للمسكن ول يعد البيت مسكنا اإل اإذا حدثت<br />

العالقة احلميمية التي يشري اإليها القراآن من خالل فعل السكن الذي هو<br />

عالقة اجتماعية زمنية،‏ وهذا ما توؤكده اإشارة اأخرى يف القراآن الكرمي حيث<br />

، )2( {<br />

يقول ‏سبحانه وتعاىل:{‏<br />

)1( ‏سورة النحل:‏ من الآية 80.<br />

)2( ‏سورة النور:‏ من الآية 29.<br />

58


جانب من الواجهات املطلة على فناء بيت السحيمي بالقاهرة القدمية.‏<br />

واجهة املقعد املطل على فناء بيت السناري بالسيدة زينب بالقاهرة.‏<br />

‏شكل )12(: مناذج لبيوت ومساكن اإسالمية قدمية متتاز بتوفري اخلصوصية لقاطنيها.‏<br />

59


ويف الآية الكرمية اإشارة واضحة اإىل اأن البيت ل يعد ‏سكنا اإذا فرغ من<br />

‏ساكنيه ويفقد قيمته كوسط له حرمته وخصوصيته،‏ اإن املسكن يحمل معنى<br />

اإنسانيا اأكرث من البيت )1( .<br />

ومن الإشارات واملعاين التي وردت يف القراآن الكرمي ملفهوم املسكن اأنه<br />

البيت املهجور،‏ فيقول ‏سبحانه وتعاىل:{‏<br />

{ )2( ، واملقصود<br />

هنا مساكن الأوليني املهجورة التي يجوب فيها من جاء بعدهم للعظة<br />

والعتبار،‏ كما ورد اأيضا يف نفس املعنى قوله تعاىل:‏ }<br />

. )3( {<br />

- املنزل:‏ من الفعل نزل،‏ والنزول هو الهبوط من اأعلى اإىل اأسفل،‏ فهو<br />

يعني املهبط اأو املقر الأخري،‏ واملنزل هو املكان الذي يتوفر فيه الفضل<br />

والعطاء والربكة،‏ يقول ‏سبحانه وتعاىل:‏ }<br />

. )4( {<br />

وجمع منزل منازل،‏ مبعنى موقع ومواقع ومما يوؤكد ذلك قوله تعاىل:‏<br />

{ )5( ، وقوله<br />

} { )6( .<br />

تعاىل:‏ } - الدار:‏ الدار من دار يدور من كرثة حركات الناس فيها،‏ فهي تدل<br />

)1( مشارى عبد اهلل النعيم )2001(: من املربع اإىل العذيبات..‏ روؤى واأفكار يف العمارة السعودية،‏<br />

كتاب الرياض-‏ عدد‎94‎‏،‏ موؤسسة اليمامة الصحفية،‏ الرياض،‏ ‏ص‎113‎‏.‏<br />

)2( ‏سورة طه:‏ الآية 128.<br />

)3( ‏سورة القصص:‏ من الآية 58.<br />

)4( ‏سورة املوؤمنون:‏ الآية 29.<br />

)5( ‏سورة يونس:‏ من الآية 5.<br />

)6( ‏سورة يس:‏ الآية 39.<br />

60


على كرثة عددهم وهو ما يحيط بسكانه،‏ وهو يعني جميع ما يف املوقع من<br />

عناصر البناء والفناء،‏ وهو مكان يشغله اأناس من عدة اأجناس،‏ وقد ‏سمى<br />

اهلل ‏سبحانه وتعاىل الآخرة بالدار:‏ } { 1( ،<br />

كما ‏سمى اجلنة بالدار:‏ } { )2( .<br />

كما تعني الدار البلد،‏ ولهذا ‏سمي البناء داراً‏ لكرثة ‏سكانها وتعددهم كما<br />

يتعدد ‏سكان البلد،‏ يقول تعاىل:‏ }<br />

{ )3( ، واملقصود بالدار يف الآية الكرمية املدينة املنورة،‏<br />

كما يقول ‏سبحانه وتعاىل اأيضا:{‏<br />

{ )4( ، واملقصود هنا قوم ثمود،‏ ودارهم املعنية هي قريتهم.ومما ‏سبق<br />

يتبني لنا اأن عمر الدار اأطول من عمر املسكن.‏<br />

- البناء والبنيان:‏ البناء هو كل منساأ مرتفع عن الأرض،‏ والدليل اأن<br />

البناء معناه الرتفاع اإىل اأعلى لقوله ‏سبحانه وتعاىل فيما يحكى عن فرعون:‏<br />

} { )5( ، ويوؤكد ذلك<br />

اأيضا اأن البناء يكون طبقات اإىل اأعلى حيث يقول ‏سبحانه وتعاىل:‏ }<br />

. )6( {<br />

ومرادف كلمة بناء يف القراآن الكرمي بنيان،‏ يقول اهلل ‏سبحانه وتعاىل:‏<br />

} { )7( ، وقد تاأتى للتعبري عن البناء<br />

)1( ‏سورة غافر:‏ من الآية‎39‎‏.‏<br />

)2( ‏سورة النحل:‏ من الآية 30.<br />

)3( ‏سورة احلشر:‏ من الآية 9.<br />

)4( ‏سورة هود:‏ من الآية 65.<br />

)5( ‏سورة غافر:‏ الآية 36.<br />

)6( ‏سورة الزمر:‏ من الآية‎20‎‏.‏<br />

)7( ‏سورة الكهف:‏ من الآية 21.<br />

(<br />

61


يف معناه الأفقي حيث يقول ‏سبحانه وتعاىل:‏ }<br />

{ )1( ، ثم ياأتي وصف قراآين ليوضح<br />

اأن البنيان عبارة عن منساأ متكامل له قواعد وسقف وبالتايل حوائط،‏ حيث<br />

يقول ‏سبحانه وتعاىل:‏ }<br />

. )2( {<br />

- القصر:‏ القصر يف اللغة يعني البيت الفخم الواسع،‏ وهو مقصور على<br />

‏ساكن واحد واأسرة واحدة،‏ وقد وصف اهلل تعاىل قوم ثمود بالغنى والرثاء<br />

يف قوله:‏ }<br />

{ )3( ، كما ورد اإيضاح<br />

الفخامة يف وصف القصر يف موضع اآخر من القراآن الكرمي يف قوله تعاىل:‏<br />

} { )4( ، حيث تدل كلمة ‏»مشيد«‏ على الفخامة واملغالة<br />

يف الزخرفة.‏<br />

- القرية:‏ القرية هي جمموعة من املساكن لقوم ينتسبون اإىل اأصل<br />

واحد مثل القبيلة وجنسهم واحد،‏ ‏شكل )13(، حيث يقول ‏سبحانه وتعاىل:‏<br />

} { )5( ، كما اأطلق اهلل<br />

‏سبحانه وتعاىل على مساكن قوم عاد وثمود اسم القرى يف قوله تعاىل:‏<br />

} { )6( ، كما اأطلق اسم القرية<br />

)1( ‏سورة الصف:‏ الآية 4.<br />

)2( ‏سورة النحل:‏ الآية 26.<br />

)3( ‏سورة الأعراف:‏ من الآية 74.<br />

)4( ‏سورة احلج:‏ من الآية 45.<br />

)5( ‏سورة يونس:‏ من الآية 98.<br />

)6( ‏سورة هود:‏ من الآية 102.<br />

62


على مساكن قوم لوط حيث يقول ‏سبحانه وتعاىل:‏ }<br />

. )1( » {<br />

كما يقول ‏سبحانه وتعاىل:‏ }<br />

{ )2( ، والقريتان هما مكة والطائف وسكانهما قريش وثقيف،‏<br />

كما اأطلق اهلل ‏سبحانه على مكة املكرمة مسمى ‏»اأم القرى«‏ فهي كبرية<br />

احلجم واملكانة،‏ ‏شديدة التاأثري فيما حولها،‏ وسكانها من اأقوام ينتسبون اإىل<br />

اأصل واحد،‏ يقول اهلل ‏سبحانه وتعاىل:‏ } { )3( .<br />

)1( ‏سورة الأنبياء:‏ من الآية 74.<br />

)2( ‏سورة الزخرف:‏ الآية 31.<br />

)3( ‏سورة الأنعام:‏ من الآية 92.<br />

قلعة بهالء واملساكن املحيطة بها يف ‏سلطنة عمان،‏<br />

63


منطقة البستكية القدمية بدبي.‏<br />

‏شكل )13(: مناذج لتجمعات عمرانية ينتسب قاطنوها اإىل اأصول واحدة.‏<br />

- املدن واملدائن:‏ املدينة هي مساكن لأقوام خمتلفي الأصل واجلنس<br />

ومن جتمعات لتربطها روابط الدم،‏ ‏شكل )14(، قال تعاىل يف قصة نبي<br />

اهلل موسى:‏ }<br />

)1( ‏سورة القصص:‏ من الآية 15.<br />

{ )1( ، والثابت تاريخيا اأن مدينة<br />

64


فرعون موسى كان يقيم بها اأقوام خمتلطو الأجناس من املصريني وبني<br />

اإسرائيل وغريهم،‏ ويوؤكد ذلك تسمية ‏»يرثب«‏ باسم ‏»املدينة«؛ لأنها جمعت<br />

قبائل العرب من املهاجرين والأنصار ‏)الأوس واخلزرج(‏ بالإضافة اإىل<br />

اليهود،‏ يقول اهلل تعاىل:‏ }<br />

. )1( {<br />

اأما عن املدائن فقيل اإنها جمع مدينة،‏ وسميت مدائن كسرى باملدائن<br />

لأنها كانت مكونة من عدة مدن متقاربة،‏ وقد جاء ذكر املدائن يف قوله<br />

{ )2( ، كما قال<br />

تعاىل:‏ }<br />

تعاىل:{‏ { )3( .<br />

- البلد:‏ هو اأي جمتمع عمراين مثل القرية اأو املدينة،‏ يقول ‏سبحانه<br />

وتعاىل واصفا مكة املكرمة اأم القرى بالبلد:‏ }<br />

{ )4( ، ويقول اأيضا:‏ }<br />

{ )5( ، ونستشعر هنا اأن كلمة بلد تعرب عن املكان والسكان اأي تدل<br />

على جمتمع عمراين.‏<br />

اأما البلدة فقد وردت يف بعض اآيات القراآن للدللة على املكان فقط،‏ حيث<br />

يقول تعالى:‏ }<br />

واملقصود يف الآية الكرمية حترمي مكة املكرمة على خلقه اأن يسفكوا فيها<br />

دما حراما اأو يظلموا فيها اأحدا اأو يصيدوا ‏صيدها اأو يقطعوا ‏شجرها )7( ،<br />

)1( ‏سورة التوبة:‏ من الآية 120.<br />

)2( ‏سورة الأعراف:‏ الآية 111.<br />

)3( ‏سورة الشعراء:‏ الآية 53.<br />

)4( ‏سورة البقرة:‏ من الآية 126.<br />

)5( ‏سورة البلد:‏ الآيتان 2،1.<br />

)6( ‏سورة النمل:‏ من الآية‎91‎‏.‏<br />

)7( نخبة من العلماء )1410 هجرية(:‏ التفسري امليسر،‏ وزارة الأوقاف السعودية،‏ ‏ص‎385‎‏.‏<br />

، )6( {<br />

65


كما قال جل يف عاله:‏ }<br />

{ )1( ، وكما قال:‏ } { )2( ، اإن<br />

لفظ البلدة اقرتن باملكان فقط.‏<br />

اجلامع الأموي يتوسط مدينة دمشق القدمية.‏<br />

)1( ‏سورة ‏سباأ:‏ من الآية 15.<br />

)2( ‏سورة ق:‏ من الآية 11.<br />

66


القاهرة الفاطمية مبا حتويه من اإرث معماري ‏ضخم.‏<br />

‏شكل )14(: مناذج املناطق القدمية باملدن الإسالمية.‏<br />

- التجمعات البدوية:‏ يقول اهلل ‏سبحانه وتعاىل على لسان ‏سيدنا<br />

يوسف:‏ }<br />

{ )1( ، يخربنا اهلل ‏سبحانه<br />

وتعاىل عن لقاء ‏سيدنا يوسف باأبويه بعد اأن طال غيابه عنهما،‏ والشاهد يف<br />

الآية الكرمية قوله:‏ ‏»وجاء بكم من البدو«،‏ حيث اإنهم كانوا اأهل اإبل وغنم<br />

ببادية فلسطني )2( .<br />

)1( ‏سورة يوسف:‏ من الآية 100.<br />

)2( يحيى وزيري ‏)التعمري يف القراآن والسنة(:‏ مرجع ‏سابق،‏ ‏ص‎183‎‏.‏<br />

67


وفى الآية الكرمية اإشارة اإىل التجمعات البدوية يف املناطق الصحراوية،‏<br />

وهي جتمعات قبائل البدو الرحل،‏ فهي تختلف يف تكوينها الجتماعي عن<br />

جمتمع القرية اأو املدينة،‏ حيث تتميز باأسلوب خاص يف اأمناط املعيشة،‏<br />

عالوة على خصائص تركيبها من الناحية الجتماعية والقتصادية،‏ كما<br />

اأنها كانت تعتمد يف املاضي بصفة اأساسية على اخليام من جلد احليوانات<br />

اأو القماش كماأوى اأساسي لهذه القبائل،‏ ‏شكل )15(.<br />

اإن الستعراض السابق للمفاهيم املعمارية والعمرانية التي وردت يف<br />

اآيات القراآن الكرمي،‏ انظر ‏شكل )16(، يوضح لنا مدى ‏شمولية حصر هذه<br />

العناصر اإىل جانب دقة حتديد معانيها ومفاهيمها،‏ واأن القراآن الكرمي،‏<br />

بهذا الشمول والدقة،‏ يكشف عن اأحد جوانب اإعجازه يف جمال علوم العمران<br />

والبنيان،‏ وبهذا يكون له السبق العلمي يف هذا املجال بتوضيح اأسس ومفاهيم<br />

هذا العلم،‏ والتفرقة الدقيقة فيما بينها منذ حوايل اأربعة عشر قرنا من<br />

الزمان،‏ وهو ما مل يعرف عن الكتب السماوية الأخرى ‏)التوراة اأو الإجنيل(‏<br />

مع اإمياننا الكامل بها،‏ ومع اإمياننا اأيضا باأن اهلل ‏سبحانه وتعاىل قد تكفل<br />

بحفظ القراآن الكرمي اإىل اأن تقوم الساعة ويرث اهلل الأرض ومن عليها،‏<br />

ومصداقا لقوله ‏سبحانه وتعاىل:‏ ‏»اإنا نحن نزلنا الذكر،‏ واإنا له حلافظون »<br />

‏صدق اهلل العظيم.‏<br />

68


‏شكل )15(: منوذج بيت الشِّ‏ عر ‏)ماأوى البدو(.‏<br />

‏شكل )16(: دقة وشمولية القراآن الكرمي يف التفرقة بني املفاهيم واملصطلحات املعمارية<br />

والعمرانية.‏<br />

69


الفصل الثاين<br />

مميزات املعمار الإسالمي<br />

71


ناقشنا واأوضحنا يف الفصل الأول من الكتاب الأسس العامة التى وردت<br />

يف القراآن الكرمي بخصوص عمارة الأرض،‏ اإىل جانب توضيح دقة القراآن<br />

الكرمي يف حتديد مفهوم العديد من املصطلحات املعمارية والعمرانية،‏ والتي<br />

تعترب مبادئ اأساسية ثابتة يجب األ تغيب عن املجتمع املسلم بكل فئاته،‏<br />

لأنها معنية بتحقيق هذه التوجيهات القراآنية.‏<br />

ويف هذا الفصل نحاول اأن ننتقل خطوة اإىل الأمام عن طريق استنباط<br />

بعض املالمح واملميزات العامة،‏ التي ميكن اأن متيز املعمار الإسالمي عن<br />

غريه من معمار احلضارات الإنسانية الأخرى،‏ وهذه املميزات هي التي<br />

جعلت للمعمار الإسالمي ‏شخصية مستقلة ينفرد بها فى روؤيته الشاملة<br />

والصحيحة لعمارة الأرض.‏<br />

وبالنهج املتبع نفسه يف كل فصول الكتاب،‏ فاإننا حاولنا اأن نستنبط<br />

بعض املميزات العامة والرئيسية،‏ اعتمادا على القراآن الكرمي بصفة<br />

اأساسية وبالستعانة بالأحاديث النبوية كلما تيسر لنا ذلك،‏ ول ندعي اأن<br />

هذه املميزات التي ناقشناها يف هذا الفصل هي كل املميزات التي ميكن<br />

اأن يتصف بها العمران والبنيان الإسالمي،‏ ولكننا حاولنا اأن نعطي خطوطا<br />

ومميزات عامة،‏ ميكن اأن ينبثق منها اأو ينضم اإليها العديد من املميزات<br />

الأخرى.‏<br />

فعلى ‏سبيل املثال،‏ فاإننا اعتربنا اأن توظيف القيم اجلمالية يف املعمار هو<br />

اأحد مميزات العمارة الإسالمية،‏ كما اأوضحنا فى املبحث الثالث من هذا<br />

الفصل،‏ ولكن القارئ ‏سوف يتضح له اأن الروؤية الإسالمية للجمال ل تفصل<br />

بني حتقيق املنفعة اأو الوظيفة وبني حتقيق جوانب الزينة واجلمال،‏ وهو ما<br />

يعني اأن العامل الوظيفي اأو النفعي معترب اأيضا يف الروؤية الإسالمية لعمارة<br />

الأرض.‏<br />

73


لقد جاء تركيزنا على ثالث مميزات بعينها يف مباحث هذا الفصل<br />

لسببني رئيسيني:‏ اأولهما للدور الكبري الذي اأسهمت به يف تشكيل عمارة<br />

املجتمعات الإسالمية واإعطائه ‏شخصيته املتميزة يف املاضي،‏ وثانيهما لأن<br />

واقع املعمار فى املجتمعات الإسالمية املعاصرة يوؤكد تراجع هذا الإسهام<br />

بشكل يرتاوح بني الإهمال املطلق اأو النسبي.‏<br />

ولتحقيق الهدف املرجو من هذا الفصل قسمناه اإىل ثالثة مباحث<br />

رئيسية،‏ هي:‏<br />

1- املبحث الأول:‏ توجيه العمران والبنيان للقبلة.‏<br />

2- املبحث الثاين:‏ توافق العمران مع الظروف البيئية.‏<br />

3- املبحث الثالث:‏ توظيف الإبداع اجلمايل يف املعمار.‏<br />

74


املبحث الأول<br />

التوجه اإىل القبلة واأثره على العمران والبنيان<br />

يف تقدميه لكتاب ‏»تخطيط وعمارة املدن الإسالمية«‏ يقول الأستاذ عمر<br />

عبيد حسنة )1( : ‏»ولعل من اأبرز ما مييز الأمناط املعمارية الإسالمية،‏ اأنها<br />

تتمحور يف بنائها وواجهاتها وهندستها ومرتفقاتها حول وجهة،‏ اأو بتعبري<br />

اأدق نحو القبلة ‏)املسجد احلرام(،‏ اأما يف الأمناط العمرانية املعاصرة،‏ اأو<br />

يف عمران املدن احلديثة،‏ فال وجهة ول قبلة،‏ ويصعب على الإنسان املسلم،‏<br />

وقد يجد عناء ‏شديدا يف حتديد القبلة،‏ اإذا خرج من املسجد وعرب الشارع<br />

ودخل املباين املعاصرة«.‏<br />

اإن الكلمات املوجزة السابقة توضح اأحد ‏ضوابط العمران الإسالمي<br />

التي يغفلها املعمار الإسالمي املعاصر عند تخطيط املدن وتصميم املباين،‏<br />

اعتقاداً‏ اأو جهال بعدم اأهمية توجيه هذا العمران اإىل جهة القبلة،‏ بالرغم<br />

مما يف هذا التوجه من الرموز والإشارات الدينية والعقائدية،‏ اإىل جانب<br />

تاليف العديد من املشاكل التصميمية وبخاصة يف حالة املساجد،‏ وهو ما<br />

‏سوف نوضحه فيما بعد عند مناقشة السلبيات الناجتة عن عدم توجيه<br />

العمران واملباين للقبلة.‏<br />

اأول:‏ اأدلة التوجه للقبلة وعالقة ذلك بالعمران والبنيان<br />

قبل اأن تصبح مكة املكرمة قبلةً‏ للمسلمني يف مشارق الأرض ومغاربها،‏<br />

اأوضحت بعض الروايات اأن املسلمني بعد هجرتهم من مكة اإىل املدينة<br />

املنورة كانت قبلتهم بيت املقدس،‏ وظلوا يتوجهون اإليه يف ‏صالتهم ‏ستة اأو<br />

‏سبعة عشر ‏شهرا،‏ حتى اأمر اهلل ‏سبحانه وتعاىل رسوله الكرمي عليه اأفضل<br />

الصالة والتسليم بالتوجه اإىل مكة املكرمة.‏<br />

)1( انظر:‏ خالد عزب )1997(: تخطيط وعمارة املدن الإسالمية،‏ كتاب الأمة،‏ عدد )58(- السنة<br />

السابعة عشر،‏ وزارة الأوقاف والسوؤون الإسالمية،‏ قطر،‏ ‏ص‎23‎‏.‏<br />

75


وملا اأمر اهلل تعاىل املوؤمنني بالتحول من بيت املقدس اإىل مكة املكرمة ‏شق<br />

ذلك على نفوس طائفة من اأهل الكتاب ‏)اليهود(،‏ لأن اليهود كانوا يتجهون<br />

يف ‏صالتهم اإىل ‏صخرة بيت املقدس،‏ لذلك فقد اأخرب القراآن الكرمي عن<br />

حادثة حتويل القبلة يف قوله تعاىل:{‏<br />

. )1( {<br />

ورد يف تفسري القراآن العظيم لالإمام ابن كثري ما يلي )2( : ‏»جاء يف هذا<br />

الباب اأحاديث كثرية وحاصل الأمر اأنه كان رسول اهلل ‏صلى اهلل عليه وسلم<br />

اأمر باستقبال الصخرة من بيت املقدس:‏ فكان مبكة يصلى بني الركنني وهو<br />

مستقبل ‏صخرة بيت املقدس،‏ فلما هاجر اإىل املدينة تعذر اجلمع بينهما<br />

فاأمره اهلل بالتوجه اإىل بيت املقدس،‏ وذكر غري واحد من املفسرين وغريهم<br />

اأن حتويل القبلة نزل يف مسجد بني ‏سلمة فسمي مسجد القبلتني،‏ وفى<br />

حديث نويلة بنت مسلم اأنهم جاءهم اخلرب بذلك وهم يف ‏صالة الظهر،‏<br />

قالت:‏ فتحول الرجال مكان النساء والنساء مكان الرجال،‏ ذكره الشيخ اأبو<br />

عمر بن عبد الرب النمري.‏<br />

وقد روى الإمام اأحمد عن علي بن عاصم عن حصني بن عبد الرحمن<br />

عن عمرو بن قيس عن حممد بن الأشعث عن عائشة قالت:‏ قال رسول اهلل<br />

‏صلى اهلل عليه وسلم:‏ اإنهم ( يعني اأهل الكتاب(‏ ل يحسدوننا على ‏شيء كما<br />

يحسدوننا على يوم اجلمعة التي هدانا اهلل لها وضلوا عنها،‏ وعلى القبلة<br />

التي هدانا اهلل لها وضلوا عنها،‏ وعلى قولنا خلف الإمام اآمني«.‏<br />

اإذن فعملية التوجه للقبلة التي ارتضاها اهلل ‏سبحانه وتعاىل لرسوله<br />

الكرمي ‏صلى اهلل عليه وسلم وصحابته الكرام وسائر املسلمني،‏ تعترب اإحدى<br />

)1( ‏سورة البقرة:‏ الآية 142.<br />

)2( انظر تفسري الآية 142 من ‏سورة البقرة يف ‏)تفسري القراآن العظيم(‏ لالإمام ابن كثري.‏<br />

76


النعم التي مَ‏ نَّ‏ بها اهلل علينا حيث هدانا لتلك القبلة،‏ اأي املسجد احلرام<br />

مبكة املكرمة،‏ يف الوقت الذي ‏ضل اليهود والنصارى عنها،‏ لذلك فاإن اأهل<br />

الكتاب يحسدون املسلمني على اهتدائهم لهذه القبلة املباركة،‏ وهذا من<br />

الوجهة الدينية والشرعية.‏<br />

اأما اإذا نظرنا اإىل التوجه للقبلة من وجهة تاأثريها على مباين املجتمع<br />

املسلم،‏ فاإننا جند اأن التوجه للقبلة اأحد اأهم الثوابت التصميمية اخلاصة<br />

بعمارة املساجد مصداقا لقول اهلل ‏سبحانه وتعاىل:{‏<br />

{ )1( ، فعلى ذلك ميكن اأن نتخيل اأن كل مسجد<br />

يف ‏شتى اأنحاء املعمورة يحتل نقطة على حميط دائرة مركزها الكعبة،‏<br />

‏شكل )17( وتبعا لذلك يكون جدار القبلة هو اأهم عنصر معماري يف اأي<br />

مسجد )2( ، وبالتايل يصبح توجيه املسجد من الوجهة التجريدية هو املحدد<br />

لشخصية املسجد وليس جمرد عناصره الأخرى املختلفة.‏<br />

اإن عملية اأداء الصالة ل تقتصر فقط على املساجد،‏ فاإن ‏صلوات النوافل<br />

ميكن اأن توؤدى يف البيوت اأيضا،‏ وعملية اأداء الصالة يف البيوت كانت<br />

موجودة عند بني اإسرائيل عندما كانوا يف مصر على عهد فرعون موسى،‏<br />

ويتضح لنا ذلك من قوله تعاىل:{‏<br />

{ )3( ، قال اأكثر املفسرين يف تفسير الآية الكرمية:»كان<br />

)1( ‏سورة البقرة:‏ من الآية 144.<br />

)2( ‏سيتم مناقشة هذه النقطة بشيء من التفصيل يف املبحث اخلاص بضوابط عمارة املساجد<br />

بالفصل الثالث.‏<br />

)3( ‏سورة يونس:‏ الآية 87.<br />

77


‏شكل ( 18(: املساجد يف مشارق الأرض ومغاربها تتجه اإىل القبلة ‏)مكة املكرمة(.‏<br />

بنو اإسرائيل ل يصلون اإل يف مساجدهم وكنائسهم وكانت ظاهرة،‏ فلما<br />

اأرسل موسى اأمر فرعون مبساجد بني اإسرائيل فخربت كلها ومنعوا من<br />

الصالة،‏ فاأمروا اأن يصلوا يف بيوتهم ‏سرا،‏ وذلك حني اأخافهم فرعون<br />

فاأمروا بالصرب واتخاذ املساجد يف البيوت.‏ ويف الشريعة الإسالمية فاإن<br />

78


‏صالة النافلة يف البيت اأفضل من املسجد،‏ وقد قال الرسول عليه الصالة<br />

والسالم يف حديث زيد بن ثابت:»عليكم بالصالة يف بيوتكم فاإن خري ‏صالة<br />

املرء يف بيته اإل املكتوبة«‏ ‏)اأخرجه البخاري(‏ )1( .<br />

وقال العويف عن ابن عباس يف تفسري الآية الكرمية السابقة )2( : ‏»قالت<br />

بنو اإسرائيل ملوسى عليه السالم:‏ ل نستطيع اأن نظهر ‏صالتنا مع الفراعنة،‏<br />

فاأذن اهلل تعاىل لهم اأن يصلوا يف بيوتهم واأمروا اأن يجعلوا بيوتهم قبل<br />

القبلة،‏ وقال جماهد:‏ ملا خاف بنو اإسرائيل من فرعون اأن يقتلوا يف الكنائس<br />

اجلامعة اأمروا اأن يجعلوا يف بيوتهم مساجد مستقبلة الكعبة )3( ، يصلون<br />

فيها ‏سرً‏ ا،‏ وكذا قال قتادة والضحاك«.‏<br />

مما ‏سبق يتضح لنا اأن فكرة جعل البيوت جتاه القبلة كانت موجودة بالفعل<br />

منذ عهد ‏سيدنا موسى من اأجل تسهيل اإقامة الصالة بداخلها لأتباعه<br />

الذين اآمنوا برسالته،‏ ثم يجيء رسولنا الكرمي ليوؤكد هذا املفهوم بقوله عليه<br />

الصالة والسالم:‏ ‏»اإن لكل ‏شيء ‏سيدا واإن ‏سيد املجالس قبالة القبلة«‏ )4( .<br />

اإذن فاإنه يفضل اأن يتم توجيه املباين،‏ ‏سواء السكنية اأو العامة،‏ جهة<br />

القبلة )5( ، وهو ما يساعد على اأداء الصلوات داخل هذه املباين بسهولة،‏ كما<br />

يحقق حديث رسولنا الكرمي من اأن ‏سيد املجالس ما كان قبالة القبلة.‏<br />

وجند من الواجب اأن نكرر هنا ما ‏سبق اأن ذكرناه يف املبحث اخلاص<br />

‏»بضوابط العمران والبنيان يف قصص القراآن«،‏ من اأن الغاية من اإعمار<br />

)1( انظر تفسري الآية 87 من ‏سورة يونس يف اجلامع لأحكام القراآن لالإمام القرطبي.‏<br />

)2( انظر تفسري الآية 87 من ‏سورة يونس يف تفسري القراآن العظيم للحافظ ابن كثري.‏<br />

)3( قال بعض املفسرين اإن قبلة اليهود يف ذلك الوقت هي بيت املقدس.‏<br />

)4( رواه الطرباين باإسناد حسن.‏<br />

)5( يفضل يف دورات املياه عدم استقبالها اأو استدبارها للقبلة،‏ انظر املبحث اخلاص بضوابط<br />

عمارة املسكن الإسالمي املعاصر بالفصل الثالث.‏<br />

79


الأرض واإقامة املجتمعات العمرانية واملدن هو عبادة اهلل ‏سبحانه وتعاىل<br />

واإقامة الصالة،‏ حيث يقول اهلل ‏سبحانه وتعاىل على لسان ‏سيدنا اإبراهيم<br />

اأبي الأنبياء:‏ }<br />

{ )1( ، وهو ما يعني انعكاس ذلك بصورة مباشرة<br />

على التجمعات العمرانية بتوجيه ‏شوارعها ومبانيها اإىل القبلة.‏<br />

ثانيا:‏ ما الذى يخسره العمران الإسالمي بعدم توجهه اإىل<br />

القبلة؟<br />

رمبا يتبادر هذا السوؤال اإىل ذهن البعض،‏ وبخاصة اأن املدن واملباين يف<br />

املجتمعات الإسالمية ليس لها توجه حمدد،‏ اللهم اإل يف بعض املشروعات<br />

التي تاأخذ العوامل البيئية يف العتبار،‏ اأو يف املناطق املخصصة للمقابر<br />

والتي يحرص منفذوها على اأن تكون هذه املقابر يف اجتاه القبلة لسهولة<br />

دفن موتى املسلمني بالطريقة الشرعية.‏<br />

الإجابة على السوؤال السابق ميكن اأن تكون ذات ‏شقني اأساسيني:‏ الأول<br />

يتعلق باأشياء معنوية رمزية،‏ والثاين يتعلق باأشياء مادية ذات اأثر ‏سلبي على<br />

عمران ومباين املجتمع الإسالمي،‏ وسنوضح هذين الشقني فيما يلي:‏<br />

اأ-‏ الأثر السلبي املعنوي والنفسي على املجتمع املسلم:‏<br />

لكي نتفهم الأثر املعنوي والنفسي السلبي الناجت من عدم توجيه العمران<br />

الإسالمي للقبلة،‏ فاإنه يجب اأول اأن نوضح اأنه توجد عالقة مباشرة بني<br />

اأسلوب تصميم املباين وتخطيط املدن وما يحمله العمران من دللت،‏ وبني<br />

تكوين ثقافة اأفراد املجتمع وتوجهاتهم الفكرية،‏ وذلك لأن فن العمارة له<br />

)1( ‏سورة اإبراهيم:‏ من الآية 37.<br />

80


وضع خاص ينفرد به عن باقي الفنون ‏سواء كانت تشكيلية اأو غريها،‏ فاملبنى<br />

الذي يقام يف املدينة ‏سرياه كل اأفراد املجتمع جميال كان اأو قبيحا،‏ اأراد<br />

الناس روؤيته اأم مل يريدوا،‏ كما اأنه قد يزيد من جمال البيئة احلضرية اأو<br />

يسيئ اإليها،‏ ومن جانب اآخر فاإن العمارة متثل واجهة ‏صادقة لثقافة املجتمع<br />

والتي تعترب حمصلة لتفاعل ذكاء الإنسان وفكره ووجدانه مع البيئة التي<br />

يعيش فيها )1( .<br />

كما اأن للعمران واملباين دوراً‏ يف تشكيل وبناء الإنسان بطريق غري مباشر<br />

ل يشعر به،‏ لذلك فاإن ونستون تشرشل رئيس وزراء بريطانيا يف عهود ‏سابقة<br />

له مقولة ذات دللة يف هذا السياق،‏ وهى )2( : ‏»نحن نحدد اأمناط مبانينا،‏<br />

ولكنها فيما بعد هي التي حتدد اأمناط حياتنا«.‏<br />

ورمبا تتعدى اأخطار العمران مبا يحمله من اإيحاءات ومدلولت ورموز<br />

التشكيل الوجداين ليشمل اأيضا اجلوانب الأخالقية،‏ ليصبح العمران<br />

انعكاسا لأخالق العصر الذي بني فيه،‏ ويف هذا املعنى يقول الشيخ الشعراوي<br />

رحمه اهلل )3( : ‏»ولذلك اإن اأردت اأن تعرف خلق واأخالق اأي عصر واستقامته<br />

اأو اآفاته يف تصريف احلركة..فانظر اإىل املعمار يف هذا العصر«.‏<br />

وبالرجوع اإىل الجابة عن اأثر الشق املعنوي والنفسي لعدم توجيه<br />

العمران الإسالمي للقبلة،‏ فاإننا جند الإسالم يحرص كل احلرص على<br />

متيز ‏شخصية املسلم وعدم تشبهه بالآخرين من اأهل امللل الأخرى،‏ اإىل<br />

درجة اأن الإسالم اعترب من تشبه بقوم فهو منهم،‏ ويف ‏ساأن القبلة بالذات<br />

فاإن القراآن الكرمي يوؤكد على هذا التميز بني اأهل الشرائع السماوية فيقول<br />

)1( للمزيد من التفاصيل انظر كتابنا:‏ املجتمع وثقافة العمران )2002(، موؤسسة دار الشعب،‏<br />

القاهرة.‏<br />

)2( دافيد مالني رودمان ونيكولى لينسن ‏)ترجمة:‏ ‏شويكار ذكى()‏‎1997‎‏(:‏ ثورة يف عامل البناء،‏<br />

الدار الدولية للنشر والتوزيع،‏ القاهرة،‏ ‏ص 65.<br />

)3( انظر جريدة اللواء الإسالمي:‏ عدد 96، ‏سنة 1983، القاهرة.‏<br />

81


‏سبحانه وتعاىل:{‏<br />

{ )1( ، فالآية الكرمية توضح<br />

للرسول الكرمي عليه الصالة والسالم باأنه لو جاء بكل حجة وبرهان لأهل<br />

الكتاب على اأن توجهه اإىل الكعبة يف الصالة هو احلق من عند اهلل،‏ ما تبعوا<br />

هذه القبلة عنادا واستكبارا،‏ وما هو بتابع قبلتهم وما بعضهم بتابع قبلة<br />

بعض،‏ واأن اتباع اأهوائهم يف ‏ساأن القبلة وغريها بعد ما جاءهم من العلم<br />

يدخلهم يف زمرة الظاملني،‏ ويف هذا تهديد ووعيد ملن يتبع اأهواء املخالفني<br />

لشريعة الإسالم )2( .<br />

لقد اأوضح القراآن الكرمي يف ‏ساأن التوجه للقبلة اأن اأهل كل ‏شريعة من<br />

الشرائع السماوية لهم القبلة اخلاصة بهم،‏ وما بعضهم بتابع قبلة بعض،‏<br />

ومن هنا فاإن عدم توجيه العمران يف املجتمعات الإسالمية للقبلة يفقد<br />

املسلمني التميز والتفرد الذي اأراده اهلل ‏سبحانه وتعاىل لهم عن عمران<br />

ومباين اأهل الشرائع الأخرى،‏ ‏شكل )19(، مع علمنا مبدى حرص اأهل<br />

الشرائع الأخرى على عدم اتباع قبلة املسلمني مهما ظهر لهم من احلجج<br />

والآيات البينات.‏<br />

اإن عدم توجيه العمران الإسالمي جهة القبلة يفقد املجتمع املسلم اأهم<br />

عوامل متيز ‏شخصيته وتفرده من الناحية املعنوية والنفسية،‏ حيث يشعر<br />

كل مسلم يف اأي جمتمع اإسالمي بوحدة الجتاه وبوجود رباط روحي دائم<br />

بينه وبني مكة املكرمة اأم القرى،‏ ليس يف املسجد فقط اأثناء اأداء الصالة<br />

ولكن اأيضا يف بيته ومكان عمله ويف جميع املباين التي ميارس فيها اأنشطته<br />

احلياتية ما اأمكن تطبيق ذلك.‏<br />

)2( ‏سورة البقرة:‏ الآية 145.<br />

)3( انظر:‏ نخبة من العلماء : مرجع ‏سابق،‏ ‏ص‎22‎‏،‏ بتصرف.‏<br />

82


‏شكل )19(: لقطة جوية جلزء من مدينة دبي توضح اأن حي البستكية القدمي كان موجَّ‏ ها لجتاه<br />

القبلة،يف حني اأن املباين والأبراج احلديثة مل يراعَ‏ فيها ذلك.‏<br />

ب-‏ الأثر السلبي املادي على العمران والبنيان:‏<br />

اأما اإذا اأردنا معرفة كيف ميكن اأن يوؤثر عدم التوجه للقبلة بطريقة<br />

‏سلبية على العمران والبنيان،‏ فيجب علينا الرجوع اإىل بعض الدراسات<br />

البحثية احلديثة التي توضح هذه اجلوانب السلبية،‏ ففي دراسة حديثة<br />

اأجريت على ثمانية عشر مسجدا يف مدينة ‏»مومباى«‏ ‏)بومباي(‏ بالهند )1( ،<br />

وجد اأن عدم توجيه وتخطيط ‏شوارع املدينة للقبلة اأدى اإىل انحراف مدخل<br />

هذه املساجد عن حائط القبلة بعدة درجات ترتاوح ما بني 2 درجة و‎180‎<br />

درجة.‏ جدول )1(.<br />

(1) Taj, H.M. (1999). The influence of Qibla on street line orientation in<br />

Islamic Cities. Proceedings of the symposium on Mosque Architecture,<br />

Vol.3B, pp. 137-181, College of Architecture & Planning, King Saud<br />

Univ., Riyadh.<br />

83


جدول )1(: الفرق بني حائط القبلة ومدخل املسجد يف بعض مساجد<br />

مدينة ‏»بومباي«‏ بالهند.‏<br />

اسم املسجد<br />

مسجد ‏ساين كوجاKhoja Sunni<br />

مسجد جول Gol<br />

الفرق بني توجيه القبلة ومدخل<br />

املسجد ‏)مقاسا بالدرجات(.‏<br />

‏صفر)ل يوجد تعارض(‏<br />

2<br />

5<br />

8<br />

41<br />

71<br />

32<br />

82<br />

82<br />

93<br />

46<br />

09<br />

901<br />

311<br />

411<br />

081<br />

مسجد اإسماعيل حبيب<br />

مسجد الرسول<br />

مسجد مينارا Minara<br />

مسجد حامدية<br />

مسجد زكريا<br />

مسجد كازى Kazi<br />

مسجد كوجا اشناري Koja Ishnari<br />

مسجد ‏شافعي<br />

مسجد جامى Jami<br />

مسجد نوري Noori<br />

مسجد دوين Dauni<br />

مسجد موجل Mogul<br />

مسجد كاترى Khatri<br />

مسجد باندرا Bandra<br />

84


اإن الدراسة السابقة ل متثل حالة خاصة مبدينة ‏»مومباي«‏ بالهند،‏<br />

فالبنظر اإىل املخططات العمرانية احلديثة يف العامل الإسالمي يُالحظ يف<br />

كثري من الأحيان تعارضُ‏ اجتاه حائط القبلة مع باقي اأضالع قطعة الأرض<br />

املخصصة له،‏ ‏شكل )19(، والتي تعترب جزءاً‏ من املخطط الشبكي للمدينة<br />

ككل،‏ وهو اأسلوب تخطيطي يختلف عن التخطيط املتضام الذي كان متبعا<br />

يف املدن الإسالمية القدمية،‏ وهذه احلالة تنطبق على العديد من املساجد<br />

يف الأحياء احلديثة من مدن العامل الإسالمي.‏<br />

ويظهر الأثر السلبي لظاهرة عدم توجيه ‏شوارع ومباين املدن الإسالمية<br />

لجتاه القبلة بصورة اأكرب،‏ يف املساجد ‏صغرية املساحة اأو املخصصة لأداء<br />

الصلوات اليومية،‏ حيث اإن تعارض اجتاه حائط القبلة مع باقي اأضالع قطعة<br />

الأرض املخصصة للمسجد يوؤدي اإىل عدم تعامد احلائطني اجلانبيني على<br />

حائط القبلة،‏ وهو ما يفقد املصلي داخل هذه املساجد الإحساس باجتاه<br />

القبلة،‏ كما يوؤثر على ‏شكل الفراغ الداخلي لقاعة الصالة غري املنتظمة<br />

الأضالع،‏ كما يوؤدى يف غالب الأحيان اإىل قِ‏ ‏صَ‏ ر الصفوف الأوىل للمصلني<br />

الأقرب اإىل جدار القبلة،‏ مقارنة ببعض الصفوف الأخرى الأبعد عن جدار<br />

القبلة.‏<br />

وما ينطبق على املساجد ينطبق على باقي مباين املدن املعاصرة ولكن<br />

بصورة رمبا تكون اأكرث ‏سلبية،‏ حيث ل ميكن التعرف على اجتاه القبلة داخل<br />

هذه املباين اإل بشق الأنفس ويف بعض الأحيان باأساليب يغلب عليها عدم<br />

الدقة،‏ وكم عانى الكثري من املسلمني اإذا اأراد اأحدهم الصالة يف بيته اأو<br />

يف غريه من البيوت الأخرى من تعارض اأسلوب فرش الأثاث الداخلي مع<br />

وضع ‏سجادة الصالة جهة القبلة،‏ كما اأن عدم توجيه بيوت ومباين املسلمني<br />

جهة القبلة جعلت املسلمني يف بيوتهم يفقدون ميزة التوجه للقبلة يف اأثناء<br />

الدعاء خارج الصالة اأو قراءة القراآن الكرمي اأو تلقي دروس العلم النافع<br />

وما ‏شابه.‏<br />

85


ثالثا:‏ قضايا عمرانية تتعلق بالتوجه للقبلة<br />

توجد بعض القضايا العمرانية التي ميكن اأن تنساأ نتيجة توجيه العمران<br />

الإسالمي للقبلة،‏ وراأينا من الواجب اأن نلفت النظر اإليها،‏ وقد تخرينا منها<br />

القضايا التالية:‏<br />

اأ-‏ خصوصية ‏شكل العمران يف مكة املكرمة:‏<br />

مدينة مكة املكرمة اختارها اهلل ‏سبحانه وتعاىل لتكون قبلة املسلمني يف<br />

مشارق الأرض ومغاربها،‏ فوضع فيها بيته احلرام الذي تفد اإليه جموع<br />

املسلمني من جميع بقاع العامل لتوؤدي ‏شعائر احلج والعمرة.‏ وملكة املكرمة<br />

خصوصية تختلف عن باقي مدن املسلمني نتيجة لوجود بيت اهلل احلرام<br />

فيها،‏ فلقد روى ابن جريج عن عطاء عن اأبيه عن ابن عباس رضي اهلل<br />

عنهما اأن رسول اهلل ‏صلى اهلل عليه وسلم قال:»البيت قبلة لأهل املسجد،‏<br />

واملسجد قبلة لأهل احلرم،‏ واحلرم قبلة لأهل الأرض يف مشارقها ومغاربها<br />

من اأمتي«‏ )1( .<br />

)1( انظر تفسري الآية 144 من ‏سورة البقرة يف اجلامع لأحكام القراآن لالإمام القرطبي.‏<br />

86


مناذج ملساقط اأفقية ملساجد فى مدينة ‏»مومباي«‏ بالهند تتعارض مع اجتاه قطع الأرض<br />

املخصصة لها.‏<br />

تعارض توجيه مسجد ‏»بولتون«‏ فى مقاطعة لنكشري باإجنلرتا مع قطعة الأرض<br />

واملحيط العمراين.‏<br />

‏شكل )19(: تعارض تخطيط الشوارع احلديثة مع اجتاه قبلة املساجد.‏<br />

87


ولأن املسجد احلرام هو قبلة اأهل احلرم املكي فاإن هذا يعني من الناحية<br />

النظرية،‏ اأنه يف حالة توجيه كل املباين يف مكة املكرمة جهة القبلة،‏ فاإن<br />

هذه املباين ‏سوف تبدو يف ‏صورة دوائر متحدة املركز ‏)وهو هنا املسجد<br />

احلرام(،‏ وهذه الدوائر تتسع كلما بعدت عن املركز،‏ وهو ما يعني اأن الشكل<br />

الدائري ملدينة مكة املكرمة ‏شكل ينبع من خصوصيتها دون باقي املدن<br />

الإسالمية وذلك لوجود املسجد احلرام بها،‏ لذا لزم التنبيه ولفت الأنظار<br />

لهذه اخلصوصية العمرانية التي ميكن اأن تنفرد بها اأم القرى يف حالة<br />

استقبال كل مبانيها املحيطة باملسجد احلرام جلهته )1( .<br />

ولكن رمبا لوجود املسجد احلرام يف منطقة وادى منخفض حتيط به<br />

اجلبال التي يصل ارتفاعها اإىل حواىل 300 مرت فوق ‏سطح البحر )2( ، فاإن<br />

هذه الظروف الطبيعية جتعل عملية تشكيل العمران يف مكة على هيئة دوائر<br />

حتيط باملسجد احلرام عملية ‏صعبة التنفيذ على مستوى كل املدينة يف<br />

الواقع العملي،‏ واإن كان ميكن تطبيق هذه الفكرة يف املنطقة املنخفضة التي<br />

حتيط باملسجد احلرام من جهاته املتعددة.‏<br />

لقد قام الدكتور املصرى عبد الباقي اإبراهيم،‏ رحمه اهلل،‏ بتقدمي اقرتاح<br />

تخطيطي ملنطقة املسجد احلرام عام ‎1989‎م،‏ ملنطقة قطرها ‎750‎م مركزها<br />

الكعبة املشرفة بحيث تتجه نحوها كل الطرقات وتتوجه اإليها كل القطاعات<br />

السكنية واخلدمية،‏ يف حماولة جادة لتحقيق فكرة توجيه املباين املحيطة<br />

)1( انظر كتابنا:‏ اأم القرى خصوصية املكان والعمران )2005(: كتيب املجلة العربية،‏ رقم )102(،<br />

الرياض.‏<br />

)2( للمزيد من التفاصيل انظر:‏ فوؤاد عمر توفيق )1986(: اأوضاع تخطيط الإسكان على ‏سفوح<br />

اجلبال مبدينة مكة املكرمة،‏ كتاب اأبحاث ندوة ‏»الإسكان يف املدينة الإسالمية«‏ باأنقرة،‏ منظمة<br />

العواصم واملدن الإسالمية،‏ جدة،‏ ‏ص 127- 134.<br />

88


باملسجد احلرام اإىل القبلة متاما )1( ، ‏شكل )20(.<br />

ول ‏شك اأن لعمران املدينة املقدسة خصوصيات اأخرى،‏ ولكننا اأردنا<br />

اأن نوجه الأنظار خلصوصية ‏شكل العمران فيها يف حالة اإذا ما مت توجيه<br />

كل مبانيها جهة املسجد احلرام،‏ ورمبا ياأتي اليوم - مع توفر الإمكانيات<br />

املادية والتقنيات املناسبة - الذي يتمكن القائمون على اأمور اململكة العربية<br />

السعودية من حتقيق هذه الأمنية التي تتيح لزوار بيت اهلل احلرام اأن يكونوا<br />

باستمرار يف اجتاه املسجد احلرام حتى وهم داخل مباين اإقامتهم.‏<br />

‏شكل )20(: مقرتح تخطيطي للمنطقة املحيطة باملسجد احلرام،‏ بحيث تتجه ‏شوارعها ومبانيها<br />

نحو الكعبة املشرفة ‏)القبلة(،‏ ‏)من تصميم الدكتور عبد الباقي اإبراهيم(‏<br />

)1( عبد الباقى اإبراهيم )2000(: مشوار البحث عن اأصول العمارة يف الإسالم،‏ مركز الدراسات<br />

التخطيطية واملعمارية،‏ القاهرة،‏ ‏ص‎36‎‏.‏<br />

89


ب-‏ التعارض بن توجيه املباين للقبلة والظروف البيئية:‏<br />

القضية الثانية التي اأردنا اأن نلفت النظر اإليها هي اإمكانية التعارض بني<br />

توجيه مباين مدينة ما اإىل القبلة،‏ مع الظروف والعوامل البيئية السائدة يف<br />

املنطقة املقام فيها هذه املدينة،‏ وبتفصيل اأكرث فاإن توجيه مباين مدينة ما<br />

يف موقع معني جلهة القبلة رمبا يتعارض مثال مع الرياح الباردة املحببة التي<br />

تساهم يف تخفيض درجات احلرارة ببيوت هذه املدينة يف فصل الصيف<br />

مثال،‏ اأو اأن هذا التوجيه للقبلة يجعل واجهات املباين اخلارجية اأكرث عرضة<br />

لالإشعاع الشمسي،‏ فكيف ميكن التوفيق بني توجيه املباين للقبلة وعدم<br />

التكيف مع الظروف والعوامل البيئية يف موقع معني؟.‏<br />

اإذا افرتضنا على ‏سبيل املثال اأن توجيه بعض املباين جهة القبلة يف موقع<br />

معني يتعارض مع توجيه فتحات هذه املباين للرياح املحببة السائدة يف هذه<br />

املنطقة،‏ فاإن استخدام بعض احللول املعمارية مثل مالقف الهواء اأو اأبراج<br />

الرياح )1( ، يسمح بالتقاط الهواء بالرغم من اأن املبنى نفسه ل يواجه الرياح<br />

السائدة،‏ ‏شكل )21(، وذلك لأنه يتم توجيه فتحات مالقف الهواء اإىل<br />

اجلهة التي تهب منها الرياح بالرغم من اأن املبنى نفسه بغرفه وفراغاته<br />

الداخلية يتجه جهة القبلة.‏<br />

اأما اإذا افرتضنا اأنه يف موقع اآخر اأو مدينة اأخرى اأن توجيه املباين جهة<br />

القبلة يجعل واجهات هذه املباين اأكرث تعرضا لالإشعاع الشمسي،‏ ففي هذه<br />

احلالة ميكن تقليل الفتحات اخلارجية مع تضييقها اأو استخدام بعض وسائل<br />

التظليل اخلارجية،‏ ويف حالة توافر املساحات والإمكانات املادية فاإن فتح<br />

النوافذ الرئيسية لهذه البيوت على اأفنية داخلية مكشوفة ومظللة يف الوقت<br />

نفسه يساعد على التغلب على هذه املشكلة،‏ اإىل جانب توفري اخلصوصية<br />

)1( مالقف الهواء واأبراج الرياح كانت تستعمل يف املباين الإسالمية القدمية للتقاط الرياح السائدة<br />

الباردة بكل منطقة ‏)للمزيد من التفاصيل انظر كتابنا:‏ العمارة الإسالمية والبيئة )2004(: ‏سلسلة<br />

عامل املعرفة-‏ عدد‎304‎‏،‏ املجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب،‏ الكويت،‏ ‏ص‎116‎ وما بعدها(.‏<br />

90


لأهل البيت،‏ وهو ما كان يتم اتباعه يف مباين املدن الإسالمية القدمية.‏<br />

اإن ظهور بعض املشاكل على مستوى تخطيط املدن اأو املباين بسبب<br />

توجيهها جلهة القبلة ‏شيء متوقع،‏ ولكن يف ‏سبيل اإحياء اإحدى السنن التي<br />

حض عليها رسولنا الكرمي عليه الصالة والسالم ولفت القراآن الكرمي اإليها<br />

الأنظار،‏ فاإن على املتخصصني يف جمال تخطيط املدن وتصميم املباين اأن<br />

يجدوا احللول والبتكارات الهندسية لهذه املشاكل اأو الصعوبات التي اأشرنا<br />

لبعض منها،‏ فاحلاجة اأم الخرتاع.‏<br />

‏شكل )21(: مناذج من اأبراج الرياح ببيوت حى البستكية القدمي بدبى التي كانت تستخدم يف<br />

التهوية،‏ والتي ميكن الستعانة بها فى تصميم املباين املعاصرة بعد تطويرها.‏<br />

ج-‏ اأهمية حتديد اجتاه القبلة بدقة:‏<br />

القضية الثالثة التي نعرض لها يف هذا املحور تتعلق بوجوب حرص<br />

خمططي املدن ومصممي املساجد واملباين على حتديد اجتاه القبلة بدقة<br />

متناهية،‏ لعدة اأسباب مهمة،‏ منها:‏<br />

1- ما يتعلق بالنواحي الشرعية التي جتعل من التوجه للقبلة اأثناء اأداء<br />

91


الصلوات اأحد ‏شروط ‏صحتها،‏ وهو ما يفرض على مصممي املساجد بصفة<br />

خاصة احلرص على حتديد اجتاه القبلة بدقة كبرية،‏ وهذا ينطبق اأيضا على<br />

املباين السكنية التي يتم اأداء ‏صلوات النوافل بها للرجال وصالة الفرض<br />

بالنسبة اإىل النساء يف حالة عدم ذهابهن لأدائها باملساجد.‏<br />

وجدير بالذكر هنا اأن اخلطاأ يف حساب اجتاه القبلة لدرجة واحدة فقط<br />

تبعد اجتاه املصلي اإىل اجتاه يشري اإىل مكان يبعد عن القبلة 103.50 كم<br />

تقريبا،‏ والدقيقة الواحدة تبعده 1.70 كم )1( ، لذلك يجب توخي الدقة يف<br />

اإجراء احلسابات اخلاصة باجتاه القبلة وطريقة حتديدها.‏<br />

ب-‏ ما يتعلق بتاأثري ذلك التحديد على املحيط العمراين ككل،‏ فمن<br />

الأمثلة املهمة التي توضح مدى تاأثري املسجد على حميطه وبيئته العمرانية<br />

ما ميكن اأن يتضح من تاأثري اختيار اجتاه القبلة جلامع الزيتونة مبدينة<br />

تونس التاريخية،‏ والذي انعكس اأيضا على توجيه باقي املساجد بها،‏ فعلى<br />

الرغم من اأن توجيه جامع الزيتونة كان غري دقيق هندسيا،‏ حيث مت توجيهه<br />

مائال 29 درجة و 11 دقيقة عن الجتاه الصحيح للقبلة،‏ فاإن توجيه جامع<br />

الزيتونة ‏سيطر على توجيه كل املباين الدينية والتي بنيت بعد ذلك )2( ، ‏شكل<br />

)22(، لذلك من الأهمية مبكان اأن نالحظ اأنه بالرغم من اأن التحديد<br />

الدقيق لجتاه القبلة مهم جدا،‏ فاإنه مبجرد اأن يتم حتديد اجتاه القبلة<br />

ملسجد جامع يتم بناوؤه قبل تشكيل البيئة العمرانية املحيطة،‏ فاإن تاأثريه<br />

يتعدى الدقة الهندسية ليوؤثر يف كل حميطه العمراين واملعماري.‏<br />

لقد اأوىل علماء املسلمني يف املاضي مساألة حتديد اجتاه القبلة اهتماما<br />

كبريا،‏ وكانت ذروة الإجنازات الإسالمية يف جمال حتديد اجتاه القبلة<br />

)1( حممد اأحمد ‏سليمان )1999(: ‏سباحة فضائية يف اآفاق علم الفلك،‏ مكتبة العجريي،‏ الكويت،‏<br />

‏ص‎505‎‏.‏<br />

)2( ‏صادق اأحمد ‏صادق )1999(: التشكيل الفراغي وتاأثريه على عالقة املسجد بالبيئة العمرانية،‏<br />

من ‏سجل ندوة عمارة املساجد ‏)ج‎3‎‏(،‏ كلية العمارة والتخطيط،‏ جامعة امللك ‏سعود،‏ الرياض.‏<br />

92


تتمثل يف عمل عامل الفلك اخلليلي ‏)تاألق يف دمشق حوايل ‎1365‎م(،‏ فقد<br />

وضع جدول لجتاه القبلة على اأساس معادلة دقيقة،‏ ويبني جدول اخلليلي<br />

اجتاه القبلة لكل درجة من خط العرض بدءا من 1 درجة حتى 56 درجة،‏<br />

ولكل درجة من خط الطول بدءا من 1 درجة حتى 60 درجة،‏ وبهذا يحتوى<br />

جدول اخلليلي على مداخل يبلغ عددها 3000 مدخل تقريبا،‏ وقد حسب<br />

اجتاه القبلة بالدرجات والدقائق،‏ ويعترب اإجنازا رائعا اأن تكون الغالبية<br />

العظمى من هذه املداخل حمسوبة مبنتهى الدقة،‏ اأو بخطاأ يف حدود زائد اأو<br />

ناقص واحد اأو اثنني دقيقة )1( .<br />

لقد وفرت الأجهزة احلديثة اإمكانية حتديد اجتاه القبلة بالنسبة اإىل اأي<br />

مبنى يف اأي موقع بدقة متناهية،‏ بحيث ل يوجد اأي ‏سبب يجعل املسلمني يف<br />

العصر احلديث يتقاعسون عن البدء يف تنفيذ مدنهم ومبانيهم اجلديدة يف<br />

اجتاه القبلة،‏ ملا يف ذلك من مزايا متعددة تعود عليهم.‏<br />

)1( دونالد هيل ‏)ترجمة:‏ اأحمد فوؤاد باشا(‏ )2004(: العلوم والهندسة يف احلضارة الإسالمية،‏<br />

‏سلسلة عامل املعرفة-‏ عدد)‏‎305‎‏(،‏ املجلس الوطني للثقافة والعلوم والآداب،‏ الكويت،‏ ‏ص‎66‎‏.‏<br />

93


94<br />

‏شكل )22(: تاأثري توجيه مسجد الزيتونة بتونس على توجيه املباين واملساكن املجاورة له.‏


املبحث الثاين<br />

توافق العمران مع الظروف البيئية<br />

يهتم علم التصميم البيئي،‏ وهو اأحد فروع علم العمارة،‏ بدراسة العناصر<br />

البيئية واملناخية التي توؤثر على تصميم املباين والفراغات اخلارجية من<br />

اأجل تهيئة وتوفري املناخ املناسب لراحة الإنسان ‏سواء داخل املباين اأو يف<br />

الفراغات اخلارجية يف املحيط العمراين )1( .<br />

وبدراسة العديد من الآيات القراآنية تبني لنا اأن القراآن الكرمي قد لفت<br />

اأنظار املسلمني اإىل اأهمية مراعاة العوامل البيئية يف التصميم العمراين<br />

واملعماري،‏ لذلك فاإن هذا املبحث يهدف اإىل اإبراز املفاهيم التي وردت يف<br />

بعض الآيات القراآنية ذات الصلة مبجال التصميم البيئي،‏ وهو ما يوؤكد على<br />

اأن مراعاة البعد البيئي هو اأحد الضوابط التي يجب مراعاتها يف العمران<br />

الإسالمي.‏<br />

اإن القراآن الكرمي مل يغفل الإشارة اإىل اأحد اأهم اأهداف علم التصميم<br />

البيئي،‏ التي يسعى املصممون اإىل توفريها يف املباين اأو الفراغات اخلارجية،‏<br />

وهذا الهدف ينحصر يف حماولة جعل درجات احلرارة داخل املباين اأو يف<br />

الفراغات اخلارجية حولها يف حدود معينة ل تقل اأو تزيد عنها،‏ وذلك<br />

باستخدام اأساليب تصميمية معينة.‏<br />

ونلمح املعنى املشار اإليه اأعاله يف قول اهلل ‏سبحانه وتعاىل:‏ }<br />

{ )2( ، يقول ابن كثري<br />

‏)رحمه اهلل(‏ يف ‏شرح معنى قوله تعالى:‏ ‏»ل يرون فيها ‏شمسا ول زمهريرا«،‏<br />

)1( يحيى وزيري )2004(. دلئل الإعجاز العلمي يف اإشارات التصميم البيئي يف القراآن الكرمي،‏<br />

كتاب اأبحاث املوؤمتر العاملي السابع لالإعجاز العلمي يف القراآن الكرمي والسنة بدبي،‏ املجلد الثالث،‏<br />

الهيئة العاملية لالإعجاز العلمي يف القراآن والسنة،‏ مكة املكرمة.‏<br />

)2( ‏سورة الإنسان:‏ اآية 13.<br />

95


اأي ليس عندهم حرٌّ‏ مزعج ول بردمٌ‏ موؤمل بل هو مزاج واحد دائم ‏سرمدي ل<br />

يبغون عنها حول )1( ، كما جاء يف التفسري امليسر اأن املقصود )2( : ‏»ل يرون<br />

فيها حر ‏شمس ول ‏شدة برد«،‏ والزمهرير يف اللغة هو ‏شدة الربد )3( .<br />

اإن الآية الكرمية السابقة تشري اإىل احلالة التي ‏سوف يكون عليها اأهل<br />

اجلنة،‏ فليس عندهم حر مزعج اأو برد موؤمل،‏ وهو ما يتطابق مع تعريف<br />

مصطلح ‏»الراحة احلرارية«‏ املوجود يف علم التصميم البيئي،‏ والذي ينص<br />

على اأن الراحة احلرارية هي حالة العقل التي يشعر فيها الإنسان بارتياح<br />

ورضا فيما يتعلق بالبيئة احلرارية املوجود فيها )4( ، فاأي اإنسان عادى ل يشعر<br />

بالراحة احلرارية اإذا زادت اأو قلت درجة احلرارة عن حدود معينة،‏ اأي اأنه<br />

ل يشعر بالراحة يف درجات احلرارة العالية كما ل يشعر بالراحة اأيضا يف<br />

حالت الربودة الشديدة.‏<br />

فاإذا كانت درجة حرارة الهواء اأعلى من درجة حرارة البشرة فاإن احلرارة<br />

املتولدة من اجلسم جتد ‏صعوبة يف اخلروج وينتج عن ذلك ارتفاع يف درجة<br />

حرارة البشرة ونشاط الغدد التي تفرز العرق،‏ وميكن اأن يصل معدل<br />

اإفراز العرق اإىل 4 لرتات/ساعة،‏ وهو ما يسبب اإرهاقا ل ميكن احتماله<br />

اإل لفرتة قصرية،‏ اأما يف حالة انخفاض درجة حرارة البيئة املحيطة عن<br />

احلد املناسب فاإن الستجابة الفسيولوجية الأوىل لذلك انقباض الشعريات<br />

الدموية حتت اجللد وبالتايل يقل اندفاع الدم اإىل البشرة،‏ وهو ما يوؤدي<br />

اإىل برودة الشعريات وخاصة اليدين والقدمني،‏ وحتدث رعشة ل اإرادية<br />

)1( انظر تفسري الآية رقم )13( من ‏سورة الإنسان يف كتاب ‏"تفسري القراآن العظيم"‏ لالإمام<br />

احلافظ ابن كثري.‏<br />

)2( انظر تفسري الآية رقم )13( من ‏سورة الإنسان يف كتاب ‏"التفسري امليسر"‏ ‏)اإعداد نخبة من<br />

العلماء(‏ : مرجع ‏سابق.‏<br />

)3( انظر:‏ الفريوزاآبادى )1977(: القاموس املحيط،‏ الهيئة املصرية العامة للكتاب،‏ القاهرة.‏<br />

(4) Goulding, J.R. (1986). Energy in Architecture. Commission of the<br />

European communities, Dublin.<br />

96


يف حالت الربد الشديد ‏)الزمهرير(،‏ ويزيد معدل الحرتاق اإىل مرتني اأو<br />

ثالث مرات )1( .<br />

فاإذا كانت اجلنة متثل البيئة املثالية بكل ما فيها من متع ونعيم مقيم،‏ فاإن<br />

الآية الكرمية تضيف متعة الراحة ‏»احلرارية«‏ اأيضا،‏ اأي ل يرى يف اجلنة<br />

‏شدة حر كحر الشمس ول زمهريرا اأي ول بردا مفرطا،‏ ويف الوقت نفسه<br />

فاإن الآية الكرمية تلفت النظر – وبشدة-‏ اإىل اأن الهدف النهائي هو توفري<br />

الراحة لأهل اجلنة،‏ وهو ما يلفت نظر املصممني اإىل اأهمية العمل على<br />

توفري هذه الراحة بقدر املستطاع يف مباين اأهل الأرض تاأسيا ببيئة اجلنة<br />

املثالية التي هي فوق خيال البشر.‏<br />

ثم تاأتي العديد من الآيات القراآنية الأخرى لتوضح وتبني للبشر كيف ميكن<br />

لهم اأن يصلوا اإىل هذه الغاية،‏ وهى مراعاة العوامل البيئية يف التصميم<br />

ووسائل حتقيق الراحة احلرارية ‏سواء يف املباين اأو الفراغات اخلارجية وهو<br />

ما نسعى اإىل توضيحه يف املحاور التالية:‏<br />

اأول:‏ مراعاة اختيار مواقع التجمعات العمرانية<br />

من خالل بحثنا يف اآيات القراآن الكرمي عن ‏ضوابط العمران والبنيان،‏<br />

وجدنا اأن اإحدى الآيات الكرمية قد اأشارت بطريق غري مباشر اإىل عالقة<br />

وتاأثري العوامل البيئية يف اختيار مواقع املدن والتجمعات العمرانية،‏ حيث<br />

يقول تعاىل:‏ }<br />

. )2( {<br />

)1( ‏شفيق العوضى الوكيل،‏ وحممد عبداهلل ‏سراج )1985(: املناخ وعمارة املناطق احلارة،‏ القاهرة،‏<br />

‏ص‎166‎‏.‏<br />

)2( ‏سورة ‏سباأ:‏ الآية 15.<br />

97


قال عبد الرحمن بن زيد يف تفسري الآية الكرمية السابقة )1( : ‏»اإن الآية<br />

التي كانت لأهل ‏سباأ يف مساكنهم اأنهم مل يروا فيها بعوضة قط ول ذباباً‏ ول<br />

برغوثاً‏ ول قملةً‏ ول عقرباً‏ ول حية ول غريها من الهوام،‏ واإذا جاءهم الركب<br />

يف ثيابهم القمل والدواب،‏ فاإذا نظروا اإىل بيوتهم ماتت الدواب،‏ وقيل:‏ بلدة<br />

طيبة ليس فيها هوام لطيب هوائها«.‏<br />

اإن الآية الكرمية تلفت النظر اإىل اأهمية اختيار مواقع املدن والتجمعات<br />

العمرانية من حيث املناخ اجليد والهواء الطيب،‏ كما تلفت النظر اإىل عالقة<br />

وجود اجلنات الأرضية وتاأثريها على حتسني مناخ هذه التجمعات،‏ فلقد<br />

اأشارت الآية اإىل وجود جنتني عن ميني وشمال مساكن بلدة ‏سباأ،‏ وهو مما<br />

يلفت نظر املصممني اإىل اأهمية تواجد احلدائق يف التجمعات العمرانية<br />

كعنصر جمايل وبيئي يف الوقت نفسه،‏ كما يجب األ نغفل دور اإحاطة املساكن<br />

عن ميينها وشمالها باحلدائق لأنه يحميها من الرياح املحملة بالرمال يف<br />

حالة هبوبها على هذه التجمعات السكنية،‏ ‏شكل )23(.<br />

وفى اآية كرمية اأخرى،‏ يلفت القراآن الكرمي اأنظارنا اإىل اأهمية دراسة<br />

املوقع قبل بناء املبنى،‏ وذلك لالستفادة من ظروف البيئة،‏ ونلمح ذلك يف<br />

قوله تعاىل:{‏<br />

اأي اتخذت من جانب الشرق وهو املكان الذى تشرق فيه الشمس،‏ واإمنا<br />

خص املكان بالشرق لأنهم كانوا يعظمون جهة املشرق من حيث تطلع الأنوار،‏<br />

وكانت اجلهات الشرقية من كل ‏شيء اأفضل من ‏سواها،‏ حكاه الطربي )3( .<br />

، )2( {<br />

اإن عملية حتديد عالقة الأماكن اأو الفراغات العمرانية واملعمارية<br />

باجلهات الأصلية لها اأهمية قصوى،‏ لأن ذلك ‏سوف يوؤثر على الأسلوب الذى<br />

تتعرض له هذه الأماكن لالإشعاع الشمسي اأو الرياح السائدة بكل منطقة،‏<br />

)1( انظر تفسري الآية 15 من ‏سورة ‏سباأ يف اجلامع لأحكام القراآن لالإمام القرطبي.‏<br />

)2( ‏سورة مرمي:‏ الآية 16.<br />

)3( انظر تفسري الآية 16 من ‏سورة مرمي يف اجلامع لأحكام القراآن لالإمام القرطبي.‏<br />

98


‏شكل )24(، وهو ما اأشارت اإليه الآية الكرمية بطريق غري مباشر حيث<br />

اأوضحت اأن مرمي انتبذت مكانا ‏شرقيا من حيث تطلع الأنوار يف الصباح،‏<br />

وكما نعرف الآن فاإنه ينصح بالتعرض للشمس عند طلوعها قبل اأن ترتفع يف<br />

السماء وتشتد اأشعتها ملا يف هذا التعرض من فوائد ‏صحية جمة )1( .<br />

لقد اأراد القراآن الكرمي اأن ينبه اإىل اأهمية وعالقة التجمعات العمرانية<br />

اأو املباين بالبيئة،‏ ‏سواء كان ذلك يف اأسلوب اختيار اأماكنها اأو يف عالقتها<br />

باجلهات الأصلية،‏ وهي اأشياء توضح اهتمام الإسالم بالبعد البيئي عند<br />

اإقامة التجمعات العمرانية.‏<br />

‏شكل )23(: اإحاطة اأشجار النخيل مبنطقة ‏»نزوى«‏ القدمية يف ‏سلطنة عمان.‏<br />

)1( للمزيد من التفاصيل انظر:‏ يحيى وزيري )2003(.. التصميم املعماري الصديق للبيئة،‏ مكتبة<br />

مدبويل،‏ القاهرة،‏ ‏ص 118 وما بعدها.‏<br />

99


‏شكل )24(: استعمل املسلمون الوحدات الزخرفية الضيقة يف النوافذ لكسر حدة اأشعة الشمس.‏<br />

ثانيا:‏ اأهمية الظالل كاأحد وسائل حتقيق الراحة احلرارية<br />

‏سبق اأن اأشرنا يف بداية هذا املبحث اإىل اأن الهدف الأساسي لعلم<br />

التصميم البيئي هو حتقيق الراحة احلرارية يف املباين اأو يف الفراغات<br />

اخلارجية،‏ وتوجد وسائل واإسرتاتيجيات تصميمية متعددة لتحقيق هذا<br />

الهدف،‏ ومن اأهم هذه الوسائل واأجنحها توفري الظالل.‏<br />

وبدراسة الآيات القراآنية التي حتدثت عن الظالل،‏ جند اأن القراآن<br />

الكرمي ينهج نهجا رائعا يف لفت النظر اإىل اأهمية الظالل،‏ ففي البداية نرى<br />

اأن اهلل يلفت نظر عباده اإىل الظل كظاهرة طبيعية مشاهدة لها خصائص<br />

معينة،‏ فيقول ‏سبحانه وتعاىل:{‏<br />

. )1( {<br />

)1( ‏سورة الفرقان:‏ الآيتان 46. 45،<br />

100


اإن الآية الكرمية توضح بعض خصائص الظل يف المتداد والنقباض<br />

وعالقة هذا بانخفاض الشمس اأو ارتفاعها يف السماء على مدار اليوم،‏<br />

اإن مراد الآية الكرمية لفت الأنظار اإىل ظاهرة الظالل كظاهرة طبيعية<br />

تستحق التدبر والدراسة.‏<br />

والظل يف اللغة نقيض الضح ‏)بالكسر(،‏ اأو هو الفيئ اأو هو بالغداة والفيئ<br />

بالعشي،‏ ومكان ظليل ذو ظل،‏ والظلة ‏شيء كالصفة يسترت به من احلر<br />

والربد،‏ والظالل واملظلة ‏)بالكسر والفتح(‏ الكبري من الأخبية،‏ والظليلة<br />

مستنقع املاء يف اأسفل مسيل الوادي والروضة الكثرية احلرجات،‏ والظلل<br />

املاء حتت الشجر ل تصيبه الشمس )1( ، ويف املعجم الوجيز )2( : ‏»الظل هو<br />

‏ضوء الشمس اإذا استرتت عنك بحاجز،‏ والظليل ذو الظل،‏ ويقال:‏ ظل ظليل<br />

اأي دائم«.‏<br />

ثم يف اآية اأخرى يوضح القراآن اأن الظالل هي اإحدى نعم اهلل ‏سبحانه<br />

وتعاىل للبشر،‏ حيث يقول ‏سبحانه وتعاىل:‏ }<br />

{ )3( ، اأورد<br />

الإمام القرطبي ‏)رحمه اهلل(‏ يف تفسري الآية الكرمية ما يلي )4( : ‏»ملا كانت<br />

بالد العرب ‏شديدة احلر وحاجتهم اإىل الظل كبرية فقد اأوضح اهلل ‏سبحانه<br />

وتعاىل اأن الظالل اإحدى نعمه التي مَ‏ نّ‏ بها على بني البشر،‏ فاهلل ‏سبحانه<br />

وتعاىل قد خلق للبشر الأشجار التي توفر الظالل كما جعل من اجلبال<br />

مواضع للسكنى كالكهوف ‏)كما يف كهف اأهل الكهف(‏ يلجاأ اإليها الإنسان<br />

)1( انظر الفريوزاآبادي : مرجع ‏سابق.‏<br />

)2( انظر املعجم الوجيز:‏ مرجع ‏سابق.‏<br />

)3( ‏سورة النحل:‏ الآية 81.<br />

)4( انظر تفسري الآية )81( من ‏سورة النحل يف كتاب ‏»اجلامع لأحكام القراآن«‏ لالإمام القرطبي.‏<br />

101


طلبا للظل واحلماية،‏ كما األهمهم اتخاذ الأبنية حماية لهم من احلر والربد<br />

وطلبا للظل«،‏ ‏شكل )25(.<br />

استخدام الربوزات فى واجهات املساكن الإسالمية لزيادة كمية التظليل.‏<br />

‏سوق اخليامية املغطى بالقاهرة القدمية.‏<br />

‏شكل )25(: يعترب تظليل املباين والشوارع من اأهم عوامل خفض درجة احلرارة.‏<br />

102


اأما الإمام ابن كثري ‏-رحمه اهلل-‏ فقد اأورد يف تفسري الآية الكرمية<br />

ما يلي )1( : ‏»)واهلل جعل لكم مما خلق ظلاال(‏ قال قتادة:‏ يعني الشجر،‏<br />

‏)وجعل لكم من اجلبال اأكنانا(‏ اأي حصونا ومعاقل،‏ كما ‏)جعل لكم ‏سرابيل<br />

تقيكم احلر(،‏ وهي الثياب من القطن والكتان والصوف،‏ ‏)وسرابيل تقيكم<br />

باأسكم(‏ كالدروع من احلديد املصفح والزرد وغري ذلك،‏ ‏)كذلك يتم نعمته<br />

عليكم(‏ اأي هكذا يجعل لكم ما تستعينون به على اأمركم وما حتتاجون اإليه<br />

ليكون عونا لكم على طاعته وعبادته ‏)لعلكم تسلمون(.‏<br />

وقال قتادة يف قوله ‏)كذلك يتم نعمته عليكم(:‏ هذه السورة تسمى ‏سورة<br />

النعم.‏ وقال عطاء اخلراساين:‏ اإمنا اأنزل القراآن على قدر معرفة العرب،‏ األ<br />

ترى اإىل قوله تعاىل ‏)واهلل جعل لكم مما خلق ظالل وجعل لكم من اجلبال<br />

اأكنانا(،‏ وما جعل من السهل اأعظم واأكرث ولكنهم كانوا اأصحاب جبال،‏ األ<br />

ترى اإىل قوله ‏)ومن اأصوافها واأوبارها واأشعارها اأثاثا ومتاعا اإىل حني(‏ وما<br />

جعل لهم من غري ذلك اأعظم واأكرث ولكنهم كانوا اأصحاب وَبَر وشَ‏ عر،‏ األ<br />

ترى اإىل قوله تعاىل ‏)سرابيل تقيكم احلر(‏ وما تقي من الربد اأعظم واأكرث<br />

ولكنهم كانوا اأصحاب حر«؟!‏<br />

ثم تاأتي اآية كرمية اأخرى لتوضح،‏ باأسلوب واضح مباشر،‏ اأهمية الظالل<br />

من ناحية توفري الراحة احلرارية،‏ لأن الظل ل يستوى واحلر،‏ فيقول جل يف<br />

عاله:{‏<br />

{ )2( ، اإن الآية الكرمية توؤكد وتنبه على حقيقة يلمسها<br />

جميع البشر حيث يشعرون بالفرق الكبري بني الأماكن املظللة والأماكن<br />

املعرضة للشمس واحلر.‏<br />

)1( انظر تفسري الآية )81( من ‏سورة النحل يف كتاب ‏»تفسري القراآن العظيم«‏ لالإمام احلافظ ابن<br />

كثري.‏<br />

)2( ‏سورة فاطر : الآيات من 19 اإىل 21.<br />

103


ويف اآية قراآنية اأخرى يتم التنبيه على الأهمية القصوى للظالل لدرجة<br />

اأنها تصبح اإحدى املتع التي اأعدها اهلل لعباده الصاحلني باجلنة،‏ يقول<br />

‏سبحانه وتعاىل:{‏<br />

{ )1( ، قال الضحاك<br />

والسدي واأبو حرزة يف قوله تعاىل:‏ ‏»وظل ممدود«‏ ل ينقطع ليس فيها ‏شمس<br />

ول حر مثل قبل طلوع الفجر،‏ وقال ابن مسعود:‏ اجلنة ‏سجسج كما بني طلوع<br />

الفجر اإىل طلوع الشمس )2( .<br />

ويف الصحيحني من حديث اأبى الزناد عن الأعرج عن اأبي هريرة قال:‏<br />

قال رسول اهلل ‏]:»اإن يف اجلنة ‏شجرة يسري الراكب يف ظلها مائة عام<br />

ليقطعها،‏ فاقرءوا اإن ‏شئتم وظل ممدود«.‏ ويف الصحيحني اأيضا من حديث<br />

اأبي حازم عن ‏سهل بن ‏سعد عن رسول اهلل ‏صلى اهلل عليه وسلم قال:‏ ‏»اإن يف<br />

اجلنة لشجرة يسري الراكب يف ظلها مائة عام ليقطعها«‏ )3( .<br />

ومن الالفت للنظر اأن الآية الكرمية قد ربطت ما بني الظل الدائم<br />

ووجود املاء اجلاري،‏ وهو ما يوؤدى اإىل زيادة التقليل يف درجات احلرارة<br />

وهو ما اأثبتته العديد من التجارب العلمية احلديثة )4( . لقد اأعطت الآية<br />

الكرمية منوذجاً‏ مثالياً‏ للتصميم البيئي حيث اجلمع بني الظالل واملاء،‏<br />

وهو ما يفسر حرص املسلمني الأوائل على وجود النوافري والبحريات املائية<br />

داخل اأفنية املباين والبيوت الإسالمية،‏ ويف احلدائق اخلارجية املحيطة بها<br />

)1( ‏سورة الواقعة:‏ الآيات من 27 اإىل 31.<br />

)2( انظر تفسري الآية 30 من ‏سورة الواقعة يف تفسري القراآن العظيم لالإمام ابن كثري.‏<br />

)3( الإمام ابن قيم اجلوزية ‏)بدون تاريخ(:‏ حادي الأرواح اإىل بالد الأفراح،‏ دار عمر بن اخلطاب<br />

للتوزيع والنشر،‏ القاهرة،‏ ‏ص‎136‎‏.‏<br />

)4( انظر على ‏سبيل املثال:‏<br />

*Yehia Wazeri (2001). The natural cooling system…an approach for improving<br />

the thermal performance of buildings in North Africa (Ph.D.). Institute<br />

of African Research and Studies, Cairo University, pp. 95-97.<br />

104


}<br />

بهدف خفض درجات احلرارة،‏ اإىل جانب حتقيق العامل اجلمايل اأيضا )1( ،<br />

‏شكل )26(.<br />

اإن حرص القراآن الكرمي على لفت الأنظار اإىل اأهمية الظالل يف<br />

عمليات التصميم البيئي له ‏شقان:‏ الأول منهما يوؤكد على اأهمية العالقة<br />

بني العوامل البيئية والعمران والبنيان الإسالمي،‏ والثاين يوضح اأن هذا<br />

التاأكيد واحلرص على اأهمية الظالل يتفق مع القياسات العلمية احلديثة<br />

التي توضح اأثر توفري الظالل يف خفض درجات احلرارة داخل املباين<br />

والفراغات اخلارجية املكشوفة )2( .<br />

ثالثا:‏ منوذج قراآين يوضح فكرة التصميم البيئي<br />

خالل بحثنا يف القراآن الكرمي عن الآيات التي تربز اأهمية البعد البيئي يف<br />

العمران والبنيان،‏ وجدنا اأحد الأمثلة املهمة التي توضح اأحد جوانب الفكر<br />

البيئي يف التصميم املعماري،‏ ونقصد هنا حتديدا الوصف الوارد بسورة<br />

الكهف لعالقة حركة الشمس بالكهف الذى جلاأ اإليه الفتية املوؤمنون،‏ ويصف<br />

لنا ‏سبحانه وتعاىل هذة العالقة يف قوله:‏<br />

. )3( {<br />

)1( للمزيد من التفاصيل انظر:‏ يحيى وزيري ( العمارة الإسالمية والبيئة(:‏ مرجع ‏سابق،‏ ‏ص‎132‎‏،‏<br />

‏ص .218، 217<br />

)2( تعترب عملية تظليل املباين اأو الفراغات اخلارجية اأحد اأهم مبادئ علم التصميم البيئي،‏ وحتى<br />

ميكن اإدراك اأهمية اإيجاد وتوفري الظالل خاصة باملناطق احلارة فاإن بعض الدراسات اأوضحت اأن<br />

تظليل الشوارع يوؤدي اإىل انخفاض يف درجة احلرارة يقدر بحوايل 4 درجات مئوية،‏ ويف قياسات متت<br />

على بعض اأفنية املنازل الإسالمية القدمية بالقاهرة اتضح اأن درجات احلرارة داخل هذه الأفنية<br />

املعرضة للظل تقل بحوايل 4 اإىل 7 درجات مئوية عن درجة حرارة ‏سطح املنزل املعرض للشمس.‏<br />

)3( ‏سورة الكهف:‏ الآية 17.<br />

105


106<br />

‏شكل )26(: استخدام املاء بصوره املتنوعة لرتطيب اجلو يف حديقة الأزهر اجلديدة بالقاهرة.‏


يقول ابن كثري - رحمه اهلل - يف ‏شرح الآية الكرمية )1( : ‏»اإن هذا دليل<br />

على اأن باب هذا الكهف املذكور كان من نحو الشمال؛ لأنه تعاىل اأخرب اأن<br />

الشمس اإذا دخلته عند طلوعها تزاور عنه ‏)ذات اليمني(‏ اأي يتقلص الفيئ<br />

مينة،‏ كما قال ابن عباس وسعيد ابن جبري وقتادة:‏ ‏)تزاور(‏ اأي متيل وذلك<br />

اأنها كلما ارتفعت يف الأفق تقلص ‏شعاعها بارتفاعها حتى ل يبقى منه ‏شيء<br />

عند الزوال يف مثل ذلك املكان،‏ ولهذا قال ‏)واإذا غربت تقرضهم ذات<br />

الشمال(،‏ اأي تدخل اإىل غارهم من ‏شمال بابه وهو من ناحية املشرق،‏ فدل<br />

على ‏صحة ما قلناه وهذا بنيمٌ‏ ملن تاأمله وكان له علم مبعرفة الهيئة وسري<br />

الشمس والقمر والكواكب،‏ وبيانه اأنه لو كان باب الغار من ناحية املشرق<br />

ملا دخل اإليه منها ‏شيء عند الغروب،‏ ولو كان من ناحية القبلة ‏)يقصد<br />

اجلنوب(‏ ملا دخل منها ‏شيء عند الطلوع و ل عند الغروب ول تزاور الفيئ<br />

ميينا ول ‏شمال،‏ ولو كان من جهة الغرب ملا دخلته وقت الطلوع بل بعد<br />

الزوال ومل تزل فيه اإىل الغروب،‏ فتعني ما ذكرناه وهلل احلمد.‏<br />

وقال مالك عن زيد بن اأسلم:‏ متيل ‏)ذات اليمني واإذا غربت تقرضهم<br />

ذات الشمال وهم يف فجوة منه(‏ اأي يف متسع منه داخال بحيث ل تصيبهم<br />

اإذ لو اأصابتهم لأحرقت اأبدانهم وثيابهم قاله ابن عباس،‏ ‏)ذلك من اآيات<br />

اهلل(‏ حيث اأرشدهم اإىل هذا الغار الذي جعلهم فيه اأحياء والشمس والريح<br />

تدخل عليهم فيه لتبقى اأبدانهم«‏ .<br />

ويقول الإمام الشوكانى - رحمه اهلل - يف تفسري الآية الكرمية )2( :<br />

‏»للمفسرين يف تفسري هذه الآية قولن:‏ الأول:‏ اأنهم مع كونهم يف مكان منفتح<br />

انفتاحا واسعا يف ظل جميع نهارهم ول تصيبهم الشمس يف طلوعها ول يف<br />

غروبها لأن اهلل حجبها عنهم،‏ والثاين:‏ اأن باب الكهف كان مفتوحا جهة<br />

)1( انظر تفسري الآية )17( من ‏سورة الكهف يف كتاب ‏»تفسري القراآن العظيم«‏ لالإمام احلافظ<br />

ابن كثري.‏<br />

)2( انظر تفسري الآية )17( من ‏سورة الكهف يف كتاب ‏»فتح القدير«‏ لالإمام الشوكاين.‏<br />

107


الشمال،‏ فاإذا طلعت الشمس كانت عن ميني الكهف واإذا غربت كانت عن<br />

يساره«.‏<br />

اإن الشاهد من الآية الكرمية السابقة اأنها تلفت النظر اإىل عالقة<br />

حركة الشمس بكهف الفتية املوؤمنني )1( ، وهى بذلك تلفت النظر بطريقة<br />

غري مباشرة اإىل اأهمية دراسة العالقة بني توجيه املبنى والإشعاع الشمسي<br />

الواصل اإليه،‏ ملا يف ذلك من تاأثري كبري على تعرض واجهات املباين من<br />

اخلارج لهذا الإشعاع على مدار العام،‏ وهو ما يوؤثر على فراغات املبنى من<br />

الداخل عن طريق دخول الإشعاع الشمسي من فتحات املبنى اخلارجية.‏<br />

لقد اأوضح املفسرون،‏ جزاهم اهلل خريا،‏ اأهمية توجيه فتحة الكهف<br />

بحيث ل يتعرض مَ‏ نْ‏ بداخله لالإشعاع الشمسي املباشر بل يكون يف الظل<br />

اأغلب الوقت،‏ وهذا الهدف هو اأحد اأهداف عملية التصميم البيئي خاصة<br />

يف املناطق احلارة والتي تركز على اسرتاتيجيتني اأساسيتني بالنسبة اإىل<br />

عالقة املبنى بالإشعاع الشمسي،‏ وهما )1( :<br />

1- يف الصيف:‏ تقليل التعرض لالإشعاع الشمسي.‏<br />

2- يف الشتاء:‏ العمل على زيادة اكتساب الإشعاع الشمسي.‏<br />

2<br />

ويف دراسة ميدانية للموؤلف على اأحد الكهوف املوجودة يف الأردن مبنطقة<br />

تسمى ‏»الرقيم«،‏ تقع على بعد حوايل 13 كم جنوب ‏شرق العاصمة الأردنية<br />

عمان،‏ رجح اأن هذا هو الكهف الذى ورد ذكره فى ‏سورة الكهف،‏ لوجود<br />

)1( لقد زار الباحث اأحد الكهوف بالقرب من عمان بالأردن وقام بدراسة حركة الشمس ورسمها<br />

بالنسبة لهذا الكهف،‏ واأثبت اأن هذا الكهف هو الكهف املذكور يف ‏سورة الكهف اإىل جانب استناده<br />

اإىل العديد من الأدلة التاريخية والأثرية واجليولوجية الأخرى.‏ ‏)للمزيد من التفاصيل انظر:‏ يحيى<br />

وزيري ‏)دلئل الإعجاز يف اإشارات التصميم البيئي يف القراآن الكرمي(:‏ مرجع ‏سابق.‏<br />

)2( انظر على ‏سبيل املثال:‏<br />

* Watson , D. (1983). Climatic design. McGraw- Hill <strong>Book</strong> Company,<br />

New York.<br />

108


العديد من الأدلة التاريخية والأثرية اإىل جانب اإثبات املوؤلف لتطابق عالقة<br />

حركة الشمس مع هذا الكهف،‏ كما ورد فى الآية السابعة عشر من ‏سورة<br />

الكهف،‏ واأن فتحة باب الكهف موجهة متاما اإىل جهة اجلنوب الغربي )1( ،<br />

‏شكل )27(.<br />

اإن مناذج الآيات القراآنية التي اأوردناها يف هذا املبحث توؤكد اأن القراآن<br />

الكرمي قد اأوضح اأهمية اأخذ العوامل البيئية يف العتبار عند تصميم املباين<br />

اأو على مستوى التجمعات العمرانية،‏ وهو ما يعني اأن اأخذ البعد البيئي يف<br />

العتبار يعترب من ‏ضوابط العمران والبنيان التي اأكد عليها القراآن الكرمي.‏<br />

اإن هذا الضابط الذى اأملح اإليه القراآن الكرمي يجب اأن يوؤخذ يف اعتبار<br />

القائمني على تعمري املدن واملجتمعات العمرانية يف الدول الإسالمية ، بحيث<br />

ل يكون العتماد فقط على الوسائل والتقنيات احلديثة كاأجهزة التكييف وما<br />

‏شابه،‏ ملا لها من اأضرار ‏صحية اإىل جانب اأعبائها القتصادية الكبرية التي<br />

رمبا تتفق مع الظروف احلالية لبعض املجتمعات العربية،‏ ولكنها من جانب<br />

اآخر ل تتفق مع الظروف القتصادية السائدة يف الكثري من املجتمعات<br />

العربية والإسالمية الأخرى.‏<br />

)1( للمزيد من التفاصيل انظر:‏ يحيى وزيرى ( 2004(: دلئل الإعجاز العلمي يف اإشارات التصميم<br />

البيئي يف القراآن الكرمي،‏ مرجع ‏سابق.‏<br />

109


‏شكل )27(: ‏صور لكهف الأردن من اخلارج والداخل،‏ وهو الكهف التي ترجح العديد من الأدلة<br />

على اأنه الكهف املذكور يف القراآن الكرمي.‏<br />

110


املبحث الثالث<br />

توظيف الإبداع اجلمايل يف املعمار<br />

يظن كثري من املسلمني اأن الإسالم دين جامد تنحصر تعاليمه فقط بني<br />

الأوامر والنواهي،‏ اأو ‏»افعل«‏ و»ل تفعل«،‏ وتنعكس روؤيتهم الضيقة هذه على<br />

كل مناحي احلياة املختلفة،‏ لذلك فاإنهم يرون تنحية كل مظاهر الإبداع<br />

الفني واجلمايل من حياة املجتمعات الإسالمية.‏<br />

ولتصحيح هذا املفهوم،‏ فاإن هذا املبحث يهدف اإىل توضيح اأن الإسالم<br />

ينبه،‏ من خالل العديد من التوجيهات القراآنية اأو الأحاديث النبوية<br />

الصحيحة،‏ اإىل اأن مفهوم ‏»اجلمال«‏ اأو»الزينة«‏ ل ينفصل عن حتقيق جوانب<br />

النفع والوظيفة يف خلق اهلل للكون،‏ بتفاصيله وكائناته التي لحصر لها.‏<br />

كما يهدف هذا املبحث اإىل توضيح كيف اأن ‏»الأمر«‏ و»النهى«‏ يف الإسالم<br />

قد اأسهم يف الرتقاء باجلوانب اجلمالية يف الفنون والعمارة على حد ‏سواء،‏<br />

من خالل اإعطاء الأمثلة التطبيقية على ذلك والتي ميزت الفنون املعمارية<br />

الإسالمية عن غريها من فنون احلضارات التي ‏سبقتها اأو تلتها.‏<br />

واأخريا،‏ فاإن هذا املبحث يوضح كيف اأن الروؤية اجلمالية عند الفنان<br />

واملعماري املسلم كانت نابعة من استخدام اأصول وقواعد علمية ياأتي على<br />

راأسها استخدام النسب الرياضية والهندسية يف تصميم عناصر املبنى<br />

املختلفة،‏ لضمان حتقيق احلد الأدنى من اجلمال على مستوى املبنى ككل اأو<br />

على مستوى اأجزائه وتفاصيله وزخارفه.‏<br />

اأول:‏ مفهوم اجلمال يف الروؤية الإسالمية<br />

تعرف القواميس اجلمال باأنه احلسن واملالحة والبهاء )1( ، اأما اجلمال<br />

يف الفلسفة فهو ‏صفة تلحظ يف الأشياء وتبعث يف النفس ‏سرورا ورضا،‏ اأما<br />

)1( علي علي اآل موسى ‏)‏‎1427‎هجرية(:‏ اجلمال يف القراآن الكرمي..‏ قراءة وصفية.‏ جملة القراآن<br />

نور-‏ السنة الرابعة،‏ العدد اخلامس،‏ تصدر عن موؤسسة القراآن نور،‏ لبنان،‏ ‏ص‎19‎‏-‏ 62.<br />

111


علم اجلمال فهو باب من اأبواب الفلسفة يبحث يف ‏شروط اجلمال ومقاييسه<br />

ونظرياته )1( .<br />

لقد كان موقف الإسالم من اجلمال واضحا وضوح الشمس،‏ وهو ما<br />

ميكن اأن ندلل عليه بواسطة العديد من الآيات القراآنية والأحاديث النبوية<br />

الشريفة،‏ والتي ياأتي يف مقدمتها جملة وردت يف اأحد الأحاديث النبوية<br />

يستشهد بها املسلمون دائما عند احلديث عن اجلمال اأو حب التزين وهي:‏<br />

‏»اإن اهلل جميل يحب اجلمال«‏ )2( ، فاحلرص على طلب اجلمال وحتقيقه<br />

حممود يف الإسالم،‏ بل هو ‏سعي على درب التصال بطرف من ‏صفات اهلل<br />

املعلنة يف اأسمائه.‏<br />

وقد ورد لفظ ‏»اجلمال«‏ بصورة مباشرة يف العديد من الآيات القراآنية،‏<br />

كما يف قوله تعاىل:{‏<br />

اأو عن طريق ذكر بعض الصفات واملعاين املخبوءة واملالزمة لصفة اجلمال،‏<br />

كاحلسن مثال كما يف قوله تعاىل:{‏<br />

، )3( {<br />

. )4( {<br />

واإذا كانت الزينة والتزين هي اأحد اأشكال بروز واإبراز اجلمال،‏ فلقد<br />

وردت العديد من الآيات القراآنية التي تتحدث عن مظاهر الزينة ومكامن<br />

اجلمال يف الكون والإنسان واحليوان والنبات،‏ منها )5( :<br />

1- اجلمال يف الإنسان،‏ يف قوله تعاىل:{‏ { )6( .<br />

)1( املعجم الوجيز )2000(: طبعة خاصة بوزارة الرتبية والتعليم املصرية،‏ جممع اللغة العربية،‏<br />

مصر،‏ ‏ص‎117‎‏.‏<br />

)2( رواه مسلم وابن ماجه والرتمذى والإمام اأحمد.‏<br />

)3( ‏سورة النحل:‏ الآية‎6‎‏.‏<br />

)4( ‏سورة التغابن:‏ الآية‎3‎‏.‏<br />

)5( للمزيد من التفاصيل انظر:‏ علي علي اآل موسى،‏ مرجع ‏سابق.‏<br />

)6( ‏سورة غافر:‏ من الآية‎64‎‏.‏<br />

112


2- اجلمال يف الطبيعة والكون،‏ كما يف قوله تعاىل:‏ }<br />

{ )1( ، وقوله تعالى:{‏<br />

. )2( {<br />

3- اجلمال والبهجة يف النباتات واملزروعات،‏ مصداقا لقوله تعاىل:‏<br />

. )3( {<br />

}<br />

ومل يقف القراآن الكرمي عند توضيح اأن اجلمال والزينة من مظاهر اإبداع<br />

خلق الكون والإنسان،‏ ولكن كان قاطعا وحاسما يف توضيح اأن اجلمال والزينة<br />

ل تعد من املحرمات،‏ بل اإن وجودها واإخراجها للعباد مقرون بالطيبات من<br />

الرزق،‏ وذلك تصحيحا للمفهوم اخلاطئ الذى يربط دوماً‏ الإميان بالبعد<br />

عن كل مباهج احلياة التي اأحلها اهلل،‏ حيث يقول جل يف عاله:‏ }<br />

. )4( {<br />

اإن اجلمال يف مفهوم العديد من فالسفة الغرب هدف يف حد ذاته،‏ ول<br />

يشرتط اأن يرتبط مبنفعة اأو وظيفة معينة،‏ فلقد عرفه ‏»كانت«‏ باأنه:‏ ‏»ما يروق<br />

لنا بغري اأن يرتبط مبنفعة معينة«‏ )5( ، وعرفه ‏»شوبنهور«‏ باأنه:‏ ‏»صفة للشيء<br />

)1( ‏سورة الكهف:‏ الآية 7.<br />

)2( ‏سورة احلجر:‏ الآية 16.<br />

)3( ‏سورة احلج:‏ الآية‎5‎‏.‏<br />

)4( ‏سورة الأعراف:‏ الآية 32.<br />

)5( اأمرية حلمى مطر:‏ مقدمة يف علم اجلمال،‏ دار النهضة العربية،‏ القاهرة،‏ ‏ص‎20‎‏.‏<br />

113


الذى يبعث يف نفوسنا السرور بصرف النظر عن مدى نفعه لنا..«‏ )1( ، لذلك<br />

يُالحظ انعكاس هذه النظرة على اآثار الفن التشكيلي الغربي ‏)اللوحات<br />

والتماثيل(‏ التي ل يقصد من ورائها الستعمال النفعي،‏ بل التمتع فقط )2( ،<br />

ويصبح الهدف النهائي من اإنتاج واإبداع العمل الفني مهما كانت ‏صورته<br />

النهائية هو الفن نفسه اأو ‏»الفن للفن«.‏<br />

اأما يف املفهوم الإسالمي،‏ فاإن اجلمال والزينة يرتبطان باملنفعة املادية<br />

واجلوانب الوظيفية،شكل )28(، ويوؤكد هذا املفهوم قوله تعاىل:{‏<br />

{ )3( ، فحني يتحدث القراآن الكرمي عن الأنعام<br />

وعلة خلقها يشري اإىل جانبني فيها )4( : اأولهما:‏ اجلانب الوظيفي مبا جتلبه<br />

لالإنسان من دفء بجلودها واأكل للحومها،‏ وحمل لأغراضه واأمتعته وركوبه<br />

وامتطائه لظهورها عند التنقل،‏ وثانيهما:‏ اجلانب اجلماإيل فهي مصدر<br />

بهجة يغدق عليه الأنس والرتياح،‏ وزينة تطرز ثوب حياته بخيوط خمملية<br />

رائعة يسكن اإليها.‏<br />

وحني يتحدث القراآن الكرمي عن احلدائق ذات الثمار الوارفة الظالل،‏<br />

فاإنه يصفها باأنها ‏»ذات بهجة«،‏ تاأكيدا على الربط بني وظيفة احلدائق<br />

)1( غازي اخلالدي ‏)‏‎1419‎هجرية:.‏ علم اجلمال..‏ نظرية وتطبيق يف املوسيقى واملسرح والفنون<br />

التشكيلية،‏ وزارة الثقافة،‏ دمشق،‏ ‏ص‎34‎‏.‏<br />

)2( بركات حممد مراد )2005(: الفنان املسلم والإبداع،‏ جملة املسلم املعاصر،‏ تصدر عن جمعية<br />

املسلم املعاصر،‏ القاهرة،‏ ‏ص‎81‎‏-‏ 112.<br />

)3( ‏سورة النحل:‏ من الآية 5- 8.<br />

)4( علي علي اآل موسى:‏ مرجع ‏سابق.‏<br />

114


النفعية حيث تخرج الثمار واملزروعات لياأكل منها الناس،‏ كما توفر لهم<br />

الظالل حماية لهم من الشمس،‏ ‏شكل )29(، وبني اإدخال البهجة والسرور<br />

على النفوس مبا حتويه من مناظر طبيعية جميلة وخالبة،‏ ويف ذلك يقول<br />

اهلل تعالى:{‏<br />

{ )2( ، وهو<br />

. )1( {<br />

واإذا كان اهلل تعاىل قد اأحل اأنواع الزينة وكل اأنواع املتاع الذى تقدمه<br />

احلياة،‏ فاإن ذلك مشروط مبراعاة املبادئ الأخالقية،‏ لأن اجلمال اإمنا<br />

هو للمتعة السامية وليس لالبتذال اأو العبث،‏ لذلك فقد نعى القراآن الكرمي<br />

على قوم عاد اأنهم كانوا يقيمون املباين الرائعة اجلميلة من اأجل العبث،‏<br />

حيث يقول ‏سبحانه وتعاىل:{‏<br />

ماسبق اأن اأوضحناه يف الفصل الأول من اأن الآية الكرمية مل تستنكر اتخاذ<br />

عاد للمباين الرائعة اجلمال،‏ ولكن استنكرت الغاية،‏ وهي هنا ‏»العبث«.‏<br />

)1( ‏سورة النمل:‏ الآية 60.<br />

)2( ‏سورة الشعراء : الآية 128.<br />

115


‏شكل )28(: علبة حلفظ املصحف الشريف ، توضح تالزم الوظيفة واجلمال<br />

يف روؤية الفن الإسالمي.‏<br />

‏شكل )29(: احلدائق اأحد عناصر اجلمال واإدخال البهجة على النفوس<br />

كما ورد يف القراآن الكرمي.‏<br />

116


ثانيا:‏ اإسهام الأمر والنهي يف الرتقاء باجلوانب اجلمالية<br />

والفنية<br />

لقد كان ذكرُ‏ اجلمال على تنوعه يف القراآن الكرمي والتنبيه اإىل النظر<br />

اإليه،‏ من اأسباب الهتمام بتجميل احلياة عند املسلمني،‏ والظهور مبظهر<br />

اجلمال يف خمتلف الأحوال واملناسبات العامة )1( .<br />

بل اإن القراآن الكرمي قد حث واأمر املسلمني على الأخذ باأسباب اجلمال<br />

والزينة بطريقة مباشرة،‏ حيث اأمرهم بذلك يف قوله تعاىل:‏ }<br />

{ )2( ، فدعوة القراآن الكرمي الناس اإىل اتخاذ<br />

الزينة عند كل مسجد،‏ اأي اإىل اإقامة التالزم وعقد القران بني التزين وبني<br />

دعاء اهلل واملثول بني يديه،‏ ول يحسنب اأحدمٌ‏ اأن الزينة التي يطلبها الإسالم<br />

وياأمر بها مقصورة على الثياب احلسنة والطِّ‏ يب وحسن التجمل فقط،‏ عند<br />

املثول بني يدى اهلل يف الصالة،‏ ذلك اأن الزينة اإذا كانت اسما جامعا لكل<br />

‏شيء يتزين به،‏ فاإن مصادر طلبها ومواطن الإحساس بها مبثوثة يف كل<br />

اآيات اجلمال التي خلقها اهلل واأبدعها واأودعها يف ‏سائر اأنحاء الوجود )3( .<br />

لقد وجه القراآن الكرمي اأنظار املسلمني اإىل اإمكانية توظيف اجلمال يف<br />

الأعمال الفنية واملعمارية،‏ عن طريق اأمثلة ومناذج خمتلفة،‏ منها على ‏سبيل<br />

املثال ما يلى )4( :<br />

1- ما بناه اجلن لسليمان:‏<br />

فقد كان اجلن مسخرا لسيدنا ‏سليمان عليه السالم،‏ يبنون له القصور<br />

)1( للمزيد من التفاصيل انظر:‏ حممد عبد الهادى اأبو ريدة )1992(: قاموس القراآن الكرمي..‏<br />

مضمون القراآن الكرمي،‏ موؤسسة الكويت للتقدم العلمي،‏ الكويت،‏ ‏ص‎146‎ ومابعدها.‏<br />

)2( ‏سورة الأعراف:‏ الآية 31.<br />

)3( حممد عمارة )2005(: الإسالم والفنون اجلميلة،‏ دار الشروق،‏ القاهرة،‏ ‏ص 23.<br />

)4( للمزيد من التفاصيل انظر:‏ علي علي اآل موسى،‏ مرجع ‏سابق.‏<br />

117


والهياكل املرتفعة ‏)حماريب(،‏ ويصنعون ‏صوراً‏ جمسمة من نحاس وغريه<br />

‏)متاثيل(،‏ واأواين طعام ‏ضخمة كاأنها اأحواض املياه ‏)جفان كاجلواب(،‏<br />

وقدورا ثابتات على املواقد لعظمها ‏)قدور راسيات(،‏ ويف ذلك يقول اهلل<br />

‏سبحانه وتعاىل:{‏<br />

. )1( {<br />

ثم يعطينا القراآن الكرمي مثال تفصيليا لواحد من القصور الفريدة<br />

الرائعة يف ‏»احلضارة السليمانية«،‏ وهو ما اأطلقنا عليه ‏»الصرح السليماين«‏<br />

يف الفصل الأول من الكتاب،‏ وهو ميثل اإبداعا جماليا فوق تصور وقدرة<br />

البشر.‏ نستشف ذلك من قوله تعاىل:{‏<br />

. )2( {<br />

لقد كان هذا الصرح ‏صحناً‏ من زجاج حتته ماء وفيه احليتان،‏ لرييها<br />

ملكا اأعظم من ملكها.‏ وحكى اأبو عبيدة:‏ اأن الصرح كل بناء عالٍ‏ مرتفع عن<br />

الأرض،‏ واأن املمرد املحكوك الأملس،‏ ومنه الأمرد )3( .<br />

فالآية الكرمية السابقة توضح اأن ‏سيدنا ‏سليمان عليه السالم قد<br />

استخدم هذا الصرح املعماري،‏ الذي يعكس قمة اجلمال والإبداع الفني،‏<br />

كوسيلة واأداة لدعوة ملكة ‏سباأ اإىل الدخول يف الإسالم والإميان باهلل،‏ وقد<br />

استخدمت مادة الزجاج بصورة اأساسية يف بناء هذا الصرح،‏ فلماذا كان<br />

اختيار هذه املادة بالذات؟.‏<br />

يشرح اأبو احلسن الندوي ذلك فيقول:‏ ‏»اأمر ‏سليمان البنائني من الإنس<br />

)1( ‏سورة ‏سباأ:‏ الآية 13.<br />

)2( ‏سورة النمل:‏ الآية 44.<br />

)3( انظر تفسري الآية 44 من ‏سورة النمل يف اجلامع لأحكام القراآن لالإمام القرطبي.‏<br />

118


واجلن فبنوا لها قصرا ممردا ‏)عظيما(‏ من قوارير ‏)زجاج(،‏ واأجروا حتته<br />

املاء،‏ فالذي ل يعرف اأمره يحسب اأنه ماء،‏ ولكن الزجاج يحول بني املاشي<br />

وبني املاء،‏ وكان املوؤكد اأن امللكة تتوهمه ماء فتكشف عن ‏ساقيها،‏ وهنالك<br />

تتبني اخلطاأ وتدرك قصر نظرها وانخداعها باملظاهر.‏ كانت هي وقومها<br />

يسجدون للشمس لأنها اأكرب مظهر للنور واحلياة،‏ التي هي من ‏صفات اهلل<br />

تعاىل،‏ وهنا ينكشف الغطاء عن عينها فتعرف اأنها كما اأخطاأت يف معاملة<br />

الزجاج معاملة املاء فكشفت عن ‏ساقيها،‏ كذلك اأخطاأت يف معاملة اخلالق<br />

فسجدت للشمس وعبدتها،‏ وكان ذلك اأبلغ من مئة خطبة واألف دليل...،‏<br />

وانكشف الغطاء عن عينيها وعرفت جهلها يف قياس املظهر على الظاهر<br />

وعبادة الشمس والسجود لها«‏ )1( .<br />

2- بيوت وسقف من فضة:‏<br />

يقول اهلل ‏سبحانه وتعاىل:{‏<br />

. )2( {<br />

اإن املثال القراآين السابق يوضح ويوؤكد على اأن استخدام مادة الفضة<br />

كمادة بناء اأو تشطيب ‏)نهو(‏ نهائية لبيوت من كفر بالرحمن،‏ ميكن اأن يكون<br />

‏سببا يف فتنة الناس ومنهم املوؤمنني اأو على الأقل بعضهم،‏ فيصبحون جميعا<br />

اأمة واحدة على الكفر كما اأخربت الآية الكرمية.‏<br />

اإن اختيار معدن الفضة بالذات له ‏سبب جمايل،‏ حيث اإنه اأكرث املعادن<br />

)1( حسان داود )2004(: ‏سليمان بتعليم بلقيس الستدلل يعلمنا،‏ جملة منار الإسالم-‏ عدد<br />

352، وزارة العدل والسوؤون الإسالمية والأوقاف،‏ دولة الإمارات العربية املتحدة،‏ ‏ص‎18‎‏.‏<br />

)2( ‏سورة الزخرف:‏ الآيات 35-33.<br />

119


قدرة على عكس الضوء ‏سواء الضوء الطبيعي نهارا اأو الإضاءة الصناعية<br />

ليال،‏ وهو ما يعطيه مظهرا جماليا رائعا لدرجة تصل حلد الفتتان بالشكل<br />

اجلمايل للمساكن التي ميكن اأن تبنى من الفضة.‏<br />

ومن زاوية اأخرى،‏ فاإن الآية الكرمية حتتوي على وجه من اأوجه الإعجاز<br />

القراآين،‏ األ وهو الإشارة اإىل اإمكانية استخدام املعادن بصورة اأساسية يف<br />

عناصر املباين املختلفة،‏ كالأسقف واحلوائط والأبواب وغريها،‏ وهذا ‏سبق<br />

للقراآن الكرمي حيث اإن البشرية وقت نزول القراآن كانت تستعمل يف اإنشاء<br />

املباين مادة احلجر اأو الطوب اأو اخلشب،‏ ومل تكن تعرف استعمال املواد<br />

املعدنية بصورة اأساسية يف اإقامة املباين اأو تشطيبها،‏ فلو كان هذا القراآن<br />

من قول البشر،‏ فكيف ميكن لهذا الإنسان اأن يتخيل اإمكانية استخدام هذه<br />

املعادن بصورة اأساسية يف املباين كما حدث يف القرن العشرين،‏ حيث جند<br />

مناذج ملبانٍ‏ تستخدم بعض املعادن يف كسوة اأسقفها وحوائطها بصورة<br />

اأساسية ‏)كمتحف جوجنهامي باأسبانيا على ‏سبيل املثال(،‏ ‏شكل )30(، ويتم<br />

اعتبار هذا الأسلوب املعماري من اأحدث الأساليب التصميمية يف عصرنا<br />

احلديث )1( .<br />

3- مساكن ‏سباأ:‏<br />

من النماذج اجلمالية التي ورد ذكرها يف القراآن الكرمي مساكن حضارة<br />

‏سباأ،‏ حيث يقول تعاىل:{‏<br />

. )1( {<br />

3<br />

لقد ‏سبق اأن اأوضحنا يف هذا الفصل يف املحور الأول،‏ اأن الآية الكرمية<br />

تلفت اإىل وجود جنتني عن ميني وشمال مساكن بلدة ‏سباأ،‏ وهو ما يلفت نظر<br />

)1( انظر بحثنا:‏ ‏سقف من فضة..ملاذا الفضة؟،‏ جملة الإعجاز العلمي،‏ عدد اأكتوبر،‏ ‎2006‎م.‏ الهيئة<br />

العاملية لالإعجاز العلمي يف القراآن والسنة،‏ مكة املكرمة.‏<br />

)2( ‏سورة ‏سباأ:‏ الآية 15.<br />

120


املصممني اإىل اأهمية وجود احلدائق يف التجمعات العمرانية كعنصر جمايل<br />

وبيئي يف الوقت نفسه.‏<br />

4- استخدام املاء كعنصر جمايل :<br />

يقول اهلل ‏سبحانه وتعاىل على لسان فرعون:‏ }<br />

، )1( {<br />

ويف معنى هذه الآية يقول الإمام القرطبي )2( : ‏»اأي نادى فرعون روؤساء<br />

القبط وعظماءهم ملا راأى الآيات الباهرة من موسى،‏ وخاف اأن يوؤمنوا،‏<br />

فقال مفتخرا متبجحا:‏ األيست بالد مصر الواسعة الشاسعة ملكا يل؟ وهذه<br />

اخللجان والأنهار املتفرعة من نهر النيل جتري من حتت قصوري؟«.‏<br />

)1( ‏سورة الزخرف:‏ الآية 51.<br />

)2( انظر تفسري الآية 51 من ‏سورة الزخرف يف اجلامع لأحكام القراآن لالإمام القرطبي.‏<br />

121


‏شكل )30(: لقد كان للقراآن الكرمي السبق يف التنبيه على اإمكانية استخدام بعض املعادن ‏)الفضة<br />

مثال(،‏ كمادة نهو جميلة ومبهرة لأسقف املباين اأو حوائطها،‏ وهذا ما بداأنا نراه يف بعض املباين<br />

احلديثة التى بداأت تستخدم بعض املعادن كالتيتانيوم الشبيه بلون الفضة.‏<br />

122


وميكن اأن نفهم من قول فرعون يف الآية الكرمية السابقة معنيني )1( :<br />

‏»الأول:‏ اأن قصور فرعون كانت مبنية على اأماكن مرتفعة كالروابي مثال،‏<br />

وكانت فروع نهر النيل يف ذلك الوقت جتري حتت اأو اأسفل هذه الأماكن<br />

املرتفعة،‏ وذلك لأن النيل يف هذا الوقت اإذا اأقبل بفيضه يف الصيف امتد<br />

فغمر الأرض مبائه فتظل حتت الغمر اأمدا ميتد ربع العام،‏ ولذلك فقد عمد<br />

املصريون اإىل اإقامة بيوتهم من فوق روابٍ‏ تعلو املاء.‏ اأما املعنى الثاين:‏ فهو<br />

اأن الأنهار كانت جتري من حتت قصور فرعون مبعنى اأنها تخرتق بعضا اأو<br />

اأجزاء منها«،‏ ويف احلالتني فاإن الآية الكرمية تلفت النظر اإىل اأن الأنهار<br />

جتري من حتت الأماكن والقصور التي كان يبنيها فرعون لتوؤكد اأن هذا هو<br />

الأسلوب الأمثل لتصميم وتنسيق املاء يف املواقع واجلنات الأرضية،‏ وذلك<br />

لأن هذا الأسلوب يحمي هذه املواقع من الفيضانات اأو اأن تغمر باملياه،‏ كما<br />

اأنه من الناحية البصرية واجلمالية يتيح للناظر اإىل املاء اأن يستمتع مبنظره<br />

الذي يُدْ‏ خل على النفس البشرية الراحة والسكون والصفاء.‏<br />

اإن النماذج القراآنية التي ذكرناها وغريها مما مل نذكرها )2( ، ‏ساهمت<br />

بشكل اأساسي يف حرص املسلمني على حتقيق اجلوانب اجلمالية والفنية<br />

فيما يصممونه وينفذونه من عمائر وزخارف،‏ وهو ماميكن اأن نالحظه دون<br />

عناء عند زيارتنا للمساجد اأو املساكن الإسالمية الأثرية الباقية يف خمتلف<br />

عواصم ومدن العامل الإسالمي كالقاهرة ودمشق واأصفهان وفاس وغرناطة<br />

وغريها،‏ وسوف نورد مناذج متعددة من جماليات فنون العمائر الإسالمية<br />

يف املحور الثالث من هذا الفصل.‏<br />

واإذا كان ‏»لالأمر«‏ - ‏سواء بطريق مباشر اأو عن طريق لفت النظر والتنبيه<br />

كما اأوضحنا ‏-دور مهم يف الرتقاء اجلمايل بفنون العمران والبنيان،‏ فلقد<br />

اأسهم اأيضا ‏»النهي«‏ بطريقة ملموسة يف حتقيق الغاية نفسها اأيضا.‏<br />

)1( يحيى وزيري )1992(: التعمري يف القراآن والسنة،‏ القاهرة،‏ ‏ص‎24‎‏.‏<br />

)2( للمزيد من التفاصيل انظر:‏ علي علي اآل موسى،‏ مرجع ‏سابق.‏<br />

123


لقد كان للعديد من الأحاديث النبوية،‏ التي نبهت اإىل كراهية تصوير<br />

الكائنات احلية،‏ اأثر يف ابتعاد الفنان املسلم عن استخدام الصور اأو التماثيل<br />

املجسمة يف العمائر الإسالمية بصفة عامة،‏ ومن هذه الأحاديث ما يلي:‏<br />

عن اأبي زرعة قال:»دخلت مع اأبي هريرة دار مروان بن احلكم فراأى فيها<br />

تصاوير وهي تبنى فقال:‏ ‏سمعت رسول اهلل ‏صلى اهلل عليه وسلم يقول:»قال<br />

اهلل عز وجل:‏ ومن اأظلم ممن ذهب يخلق كخلقي،‏ فليخلقوا ذرة اأو فليخلقوا<br />

حبة اأو فليخلقوا ‏شعرية«‏ )1( .<br />

عن اأبي هريرة رضى اهلل عنه قال:‏ قال رسول اهلل ‏صلى اهلل عليه<br />

وسلم:»يجمع الناس يوم القيامة يف ‏صعيد واحد،‏ ثم يطلع عليهم رب<br />

العاملني،‏ ثم يقال:‏ األ تتبع كل اأمة ما كانوا يعبدون؟..‏ فيتمثل لصاحب<br />

الصليب ‏صليبه،‏ ولصاحب الصور ‏صوره،‏ ولصاحب النار ناره،‏ فيتبعون ما<br />

كانوا يعبدون ويبقى املسلمون..«‏ )2( .<br />

جاء رجل من اأهل العراق كان يحرتف التصوير،‏ اإىل عبد اهلل بن عباس،‏<br />

فقال له:‏ ‏»يا ابن عباس،‏ اإين رجل اأصور هذه الصور واأصنع هذه الصور،‏<br />

فافتنى فيها؟،‏ فقال له ابن عباس:»اأنبئك مبا ‏سمعت من رسول اهلل ‏صلى<br />

اهلل عليه وسلم،‏ ‏سمعت رسول اهلل يقول:‏ كل مصور يف النار،‏ يجعل له بكل<br />

‏صورة ‏صورها نفس تعذبه يف جهنم«،‏ ثم استطرد ابن عباس فاأشار على<br />

الرجل اأن يصور ما لحياة فيه،‏ فيمارس الفن اجلميل يف غري ماهو مظنة<br />

الوثنية،‏ مماجاء فيه النهى والتحرمي،‏ فقال للرجل:»فاإن كنت ل بد فاعال،‏<br />

فاجعل الشجر وما ل نفس فيه«‏ )3( .<br />

هذه بعض مناذج من التوجيهات النبوية التي استنبط منها علماء<br />

)1( رواه البخاري ومسلم والإمام اأحمد.‏<br />

)2( رواه البخارى ومسلم والنسائي والإمام اأحمد.‏<br />

)3( رواه المام اأحمد.‏<br />

124


الإسالم كراهية تصوير كل ما له روح،‏ كما وجهت نظر الفنان واملصمم<br />

املسلم اإىل اإمكانية الستعاضة عن ذلك بتصوير اجلمادات وكل ما ل نفس<br />

فيه،‏ كما اأشار الصحابى اجلليل عبد اهلل بن عباس رضي اهلل عنه.‏<br />

من هنا نساأت الزخارف الإسالمية املتميزة واملعروفة باسم ‏»الأرابيسك«،‏<br />

وكانت على نوعني اأساسيني )1( : الأول يعتمد على اخلطوط املستقيمة والزوايا<br />

ويسمى اأحيانا ‏»بالتسطري«،‏ وهو هندسى،‏ والثاين يركز على اخلطوط<br />

امللتوية والدوائر والتجريد النباتي،‏ وقد يطلق عليه ‏»التوريق«‏ اأو ‏»التزهري«،‏<br />

وقد يحدث دمج بني النوعني السابقني،‏ ‏شكل )31(.<br />

وهذا يعني اأن النهي عن تصوير ما ل روح فيه قد اأدى اإىل ابتكار فن<br />

الأرابيسك اأو العربسة اأو الرقش العربى،‏ وكلها األفاظ للدللة على جميع<br />

اأنواع الزخارف الإسالمية الهندسية وغري الهندسية امللونة،‏ والبسيطة<br />

الدائرية واملستقيمة،‏ النباتية والكتابية.‏<br />

كما اأدى اأيضا هذا النهي اإىل اهتمام الفنان واملصمم املسلم باستخدام<br />

اخلط العربي،‏ هذا بالطبع يسبقه دافع اآخر األ وهو الحتفاء باللغة العربية،‏<br />

لغة القراآن الكرمي،‏ فاستخدم اخلط العربي باأنواعه املختلفة التي تفنن<br />

الفنان املسلم يف ابتكارها )2( ، لتزيني املساجد واملساكن بالآيات القراآنية<br />

وباأبيات الشعر وباملاأثورات واحلكم،‏ ‏شكل )31(.<br />

)1( انظر كتابنا:‏ موسوعة عناصر العمارة الإسالمية ‏)الكتاب الرابع(‏ )2000(: مكتبة مدبويل،‏<br />

القاهرة،‏ ‏ص‎53‎‏.‏<br />

)2( للتعرف على اأنواع اخلطوط العربية انظر ما يلي:‏<br />

- عفيف البهنسي )1984(: اخلط العربي..‏ اأصوله،‏ نهضته،‏ انتشاره،‏ دار الفكر للطباعة والتوزيع<br />

والنشر،‏ دمشق.‏<br />

- اإبراهيم جمعة )1969(: دراسة يف تطور الكتابات الكوفية،‏ دار الفكر العربي،‏ القاهرة.‏<br />

125


منوذج لزخرفة هندسية اأساسها الطبق النجمي ذو العشرة اأفرع،‏ من<br />

ابتكارات العمارة الإسالمية<br />

منوذج لزخارف نباتية اإسالمية على القاشاين<br />

‏شكل )30(: كان للنهي عن تصوير الكائنات احلية الأثر يف ظهور فن زخارف الأرابيسك.‏<br />

126


ونعطي هنا اأيضا مثال اآخر يوضح اإسهام النهي يف ابتكار نوع من<br />

اخلزف الإسالمي،‏ عرف باسم اخلزف ذي الربيق املعدين،‏ ‏شكل )32(،<br />

فعن حذيفة قال:‏ قال رسول اهلل ‏صلى اهلل عليه وسلم:‏ « ل تشربوا يف اآنية<br />

الذهب والفضة،‏ ول تاأكلوا يف ‏صحافيهما فاإنها لهم ‏)اأي الكفار(‏ يف الدنيا<br />

ولكم يف الآخرة«‏ )1( ، واحلديث الشريف هنا ينهى ‏صراحة عن استعمال اآنية<br />

الذهب والفضة مبختلف اأنواعها واأشكالها.‏<br />

لقد حرص الفنان املسلم على اأن يبتكر نوعاً‏ من اخلزف الفاخر<br />

يصلح لأن يكون بديال لأواين الذهب والفضة،‏ بحيث يحقق الرضا واملسرة<br />

للقادرين على اقتنائه )2( ، وكان اأول ظهور هذا النوع من اخلزف يف العصر<br />

العباسي الذي ينسب اإليه اأقدم ما وصلنا منه..،‏ ومن اأمثلة استعماله يف<br />

العمائر الإسالمية حائط القبلة يف املسجد اجلامع مبدينة القريوان،‏ حيث<br />

توجد بالطات مربعة ذات بريق معدين وضعت يف ترتيب هندسي على وجه<br />

املحراب داخل التجويف )3( .<br />

ومن املعروف اأن ‏صناعة اخلزف ذي الربيق املعدين انتشرت يف العامل<br />

الإسالمي كله منذ القرن الثالث للهجرة،‏ واأنها استمرت يف الأندلس حتى<br />

بعد ‏سقوط الدولة الإسالمية يف نهاية القرن اخلامس عشر )4( .<br />

)1( حديث متفق عليه.‏<br />

)2( اأبو ‏صالح الألفي ‏)بدون تاريخ(:‏ الفن الإسالمي..‏ اأصوله،‏ فلسفته،‏ مدارسه،‏ ‏)ط‎3‎‏(،‏ دار<br />

املعارف،‏ القاهرة،‏ ‏ص‎266‎‏.‏<br />

)3( املرجع نفسه،‏ ‏ص‎267‎‏.‏<br />

)4( للمزيد من التفاصيل انظر:‏ ‏سعاد ماهر ‏)بدون تاريخ(:‏ الفنون الإسالمية.‏ مركز الشارقة<br />

لالإبداع الفكري،‏ دائرة الثقافة والإعالم بحكومة الشارقة،‏ الشارقة.‏<br />

127


ثالثا:‏ استكشاف اأسلوب حتقيق الإبداع اجلمايل يف العمائر<br />

الإسالمية<br />

اهتم العديد من الباحثني يف جمال العمارة والفنون الإسالمية بتحديد<br />

املبادئ والأسس الفنية التي اأسهمت يف اإعطاء التميز اجلمايل للفنون<br />

والعمارة الإسالمية،‏ ‏سواء اأكان ذلك على مستوى العمائر اأم الزخارف،‏<br />

ومن اأشهر الدراسات يف هذا املقام كتاب ‏»جمالية الفن العربي«‏ للدكتور<br />

عفيف البهنسي )1( ، وتعترب من الدراسات القيمة يف هذا املجال )2( .<br />

‏شكل )31(: منوذج من فن اخلط العربى الزخريف الهندسي.‏<br />

)1( عفيف البهنسى )1979(. جمالية الفن العربي،‏ ‏سلسلة عامل املعرفة-‏ العدد )14(، املجلس<br />

الوطني للثقافة والفنون والآداب،‏ الكويت.‏<br />

)2( انظر اأيضا على ‏سبيل املثال:‏ اجلماليات واجلماليات العربية )1986(، جملة الوحدة-‏ العدد<br />

)24(، املجلس القومي للثقافة العربية،‏ الرباط،‏ اململكة املغربية.‏<br />

128


‏شكل )32(: مناذج من اخلزف ذي الربيق املعدين،‏ من ابتكارات الفن الإسالمي<br />

من مقتنيات متحف اخلزف الإسالمي بالقاهرة.‏<br />

ونحن يف هذا املحور لسنا بصدد استعراض املعايري اجلمالية الظاهرية<br />

التي اتصفت بها فنون العمارة الإسالمية،‏ كاأشكال الزخارف واملقرنصات<br />

اأو اأنواع القباب واملاآذن والأعمدة وغريها من عناصر العمارة الإسالمية،‏<br />

ولكننا نحاول اأن نستكشف بعمق اأكرث كيف متكن الفنان واملصمم املسلم<br />

من ‏ضمان احلد الأدنى من القيم البصرية اجلمالية على مستوى املبنى<br />

ككل اأو على مستوى تفاصيله وزخارفه.‏<br />

فلقد اأوضحت بعض الدراسات والأبحاث احلديثة اأن املصمم املسلم<br />

استعان بنسب هندسية ثابتة ومعروفة،‏ وقام بتطبيقها على مستوى املساقط<br />

الأفقية والواجهات والقطاعات وعناصر العمائر الإسالمية،‏ من اأجل حتقيق<br />

الإبداع اجلمايل وضمان احلد الأدنى من توافر القيم اجلمالية البصرية يف<br />

املعمار،‏ ‏شكل )33(.<br />

129


وفيما يلى بعض الأمثلة والنماذج التى توضح ما ذكرناه:‏<br />

1- استخدام النسب الرياضية يف املساقط الأفقية:‏<br />

يف دراسة بحثية قام بها الدكتور عبد الرحمن ‏سلطان على خمسة منازل<br />

قاهرية ‏)من القرنني السابع والثامن عشر(‏ )1( ، وجد اأنه قد مت استخدام<br />

بعض النسب الرياضية املعروفة يف تصميم الفراغات املعيشية الرئيسية،‏<br />

واأن استخدام هذه النسب كانت من اأهم اأدوات التصميم املعماري يف تلك<br />

الفرتة،‏ واأنها كانت من الأسباب اخلفية وراء جمال العمارة الإسالمية.‏<br />

فقد استخدمت النسبة الذهبية ‏)فاي(‏ ومتثل رياضيا بالنسبة<br />

)1:1.618(، يف نسب بعض فراغات املعيشة الرئيسية كاملقعد والتختبوش<br />

يف بعض البيوت القاهرية كمنزل علي كتخدا ، ‏شكل ‏)‏‎34‎‏-اأ(،‏ وبيت جمال<br />

الدين الذهبي،‏ وكذلك يف الأقسام الرئيسية من املسقط الأفقي.‏<br />

اأما النسب الهندسية ‏)باي(،‏ وهي متثل بيانيا النسبة بني حميط الدائرة<br />

اإىل قطرها )3.14(، فقد استخدمت يف تصميم القاعة واملندرة يف بيوت<br />

السناري وعلي كتخدا والذهبي والست وسيلة والسحيمي.‏<br />

كما وجدت الدراسة اأن نسب بعض الفراغات الثانوية كانت تبعا لنسب<br />

املثلث )3:4:5(، كما يف بيت السناري والست وسيلة وعلي كتخدا،‏ ‏شكل<br />

)34- ب(.‏<br />

وهو ما يثبت اأن جمال النسب يف مساقط هذه البيوت القاهرية مل ياأتِ‏<br />

من فراغ،‏ بل كان يتاأسس على اأصول علمية وهندسية واضحة وعميقة.‏<br />

)1( عبد الرحمن ‏سلطان )1988(: النسب الرياضية يف العمارة الإسالمية،‏ جملة عامل البناء-‏<br />

عدد )96(، جمعية اإحياء الرتاث التخطيطي واملعماري،‏ القاهرة،‏ ‏ص 23- 28.<br />

130


‏شكل )33(: مناذج من مساقط اأفقية لعمائر اإسالمية مصممة وفقاً‏ لنسب هندسية حمددة.‏<br />

131


‏شكل ‏)‏‎34‎‏-اأ(:‏ استخدام النسبة الذهبية يف املسقط الأفقي لبيت علي كتخدا بالقاهرة.‏<br />

‏شكل )34- ب(:‏ تصميم نسب بعض الفراغات الثانوية تبعا لنسب املثلث )3:4:5(، كما يف بيت<br />

السناري والست وسيلة وعلي كتخدا بالقاهرة.‏<br />

132


2- استخدام النسب يف تصميم العناصر املعمارية:‏<br />

فلقد اأورد ‏»ولفرد جوزيف دللى«‏ يف كتابه القيم ‏»العمارة العربية مبصر«‏<br />

العديد من الأمثلة التي توضح اأسلوب استخدام النسب الهندسية يف عناصر<br />

العمائر الإسالمية املختلفة )1( ، ومن اأمثلة ذلك ما يلي:‏<br />

اأ-‏ كان تصميم العقود وفق نسب حمددة اأساسها عرض فتحة العقد<br />

‏)ف(،‏ ‏شكل )35(، كما اأن النسبة بني ‏سمك العقد وبني عرضه تقل عادة<br />

كلما كربت الفتحة،‏ فتكون من 4/1 اإىل 5/1 يف نوافذ الأبواب والشبابيك<br />

املعتادة،‏ ومن 1/7 اإىل 1/10 للبواكي املتوسطة احلجم،‏ وترتاوح بني 1/15<br />

اإىل 1/17 يف العقود كبرية الفتحات ‏)كعقود اإيوانات املساجد(.‏<br />

ب-‏ بالنسبة اإىل قوالب الكرانيش البارزة،‏ وجد اأن عرض اإطار حجر<br />

املدخل الذي يرتاوح ارتفاعه ما بني عشرة اأمتار وخمسة عشر مرتا يجب<br />

اأن يكون 20 ‏سنتيمرتا،‏ اأما عرض الطراز الذي يلتف حول عنق قبة تعلو<br />

عن ‏سطح الأرض بنحو خمسة وعشرين مرتا فيجب اأن يكون نحوا من 40<br />

‏سنتيمرتا.‏<br />

ج-‏ اأما بالنسبة اإىل الشرفات ‏)العرائس(،‏ فوجد اأن عرض الشرفة املسننة<br />

عند قمتها يختلف من 1/4 اإىل 1/5 ارتفاعها عن ظهر ‏»الطبان«،‏ وكذلك<br />

ارتفاع جزء القاعدة الذي يصل الشرف بعضها ببعض،‏ فاإنه يبلغ نحو 1/6<br />

من ارتفاع الشرفة الكلي عن ‏»الطبان«،‏ ويختلف ارتفاع الشرف املسننة من<br />

2/13 اإىل 1/10، ويف العادة يكون عدد اأسنان اأو درجات الشرف ‏ستة.‏<br />

اأما يف الشرف املورقة ‏)ذات الشكل النباتي(‏ فاإن ارتفاعها يختلف من<br />

1/15 اإىل 1-17 من ارتفاع البناء عن ‏سطح الأرض،‏ بحيث يصغر هذا<br />

)1( ولفرد جوزيف دللى ‏)ترجمة:‏ حممود اأحمد(‏ )2006(: العمارة العربية مبصر يف ‏شرح املميزات<br />

البنائية الرئيسية للطراز العربي،‏ مكتبة الأسرة ‏)سلسلة الفنون(،‏ الهيئة املصرية العامة للكتاب،‏<br />

القاهرة.‏<br />

133


الكسر كلما زاد ارتفاع البناء.‏<br />

لقد اأورد الكتاب اأمثلة اأخرى لأسلوب استخدام النسب الهندسية يف<br />

تصميم القباب والأعمدة واملاآذن وغريها من العناصر املعمارية الأخرى،‏<br />

‏شكل )36(، وكل هذه الأمثلة تثبت مبا ل يدع جمال للشك اأن اأسلوب تصميم<br />

عناصر العمائر الإسالمية كان وفق نسب جمالية حمددة،‏ وكانت تستخدم<br />

باستمرار وبقواعد هندسية وعلمية ثابتة.‏<br />

‏شكل )35(: مناذج لعقود اإسالمية خمتلفة مصممة تبعا للنسب الهندسية.‏<br />

134


‏شكل )36(: منوذج لواجهة مئذنة مصممة طبقاً‏ لنسب هندسية حمددة.‏<br />

3- الأسس الهندسية لرسم عناصر الزخرفية الإسالمية:‏<br />

اأجنز باحثان دراسات حتليلية على العديد من الوحدات الزخرفية املوجودة<br />

يف بعض العمائر الإسالمية )1( ، وقد اأوضحت النماذج الزخرفية الواردة يف<br />

الدراسة اأن هذه الزخارف قد اعتمدت يف تصميمها ورسمها على اأحد الأشكال<br />

الهندسية الأساسية،‏ كاملثلث واملربع واملسدس واملثمن،‏ والتي تتضاعف وتتشابك<br />

لكي يستخرج منها اأشكال زخرفية ل حصر لها،‏ ‏شكل )37(.<br />

(1) Issam El-Said and Ayes Parman (1977). Geometric Concepts in Islamic<br />

Art. World of Islam Festival Publishing Company Ltd, London.<br />

135


‏شكل )37(: منوذجان لزخرفة اإسالمية يوضحان كيفية استخدام<br />

الشكل املسدس لرسمها وتكرارها.‏<br />

136


4- استخدام املقياس ‏)املوديول(‏ يف اخلط:‏<br />

يعترب الوزير العباسى ‏»ابن مقلة«‏ اأول من وضع طريقة هندسية اأو<br />

مقياساً‏ لنسب حروف الكتابة العربية )1( ، وحرف الألف هو احلرف الذي<br />

اعترب مقياسا للتناسب لباقي احلروف اجلميلة،‏ فارتفاع الألف يختلف من<br />

ثالث نقط اإىل اثنتي عشرة نقطة وعرضها يبقى بعرض النقطة يف جميع<br />

احلالت،‏ كما اأن اختيار ارتفاع الألف يف نص من النصوص يقيد اخلطاط<br />

يف حتديد مقاييس الألف يف النص كله )2( .<br />

ويستعمل طول الألف اأيضا كقطر ‏)راأسي(‏ لدائرة وهمية،‏ نستطيع فيها<br />

اأن نكتب جميع الأحرف )3( ، ‏شكل )38(، وهكذا نستطيع اأن نقول اإن العرب<br />

عرفوا املقياس ‏)املوديول(،‏ كوسيلة لتحديد العالقة العضوية بني اأجزاء<br />

الشكل منذ زمن قدمي،‏ وطبقوه يف جمال اخلط العربي لكي يكون معياراً‏<br />

للجمال.‏<br />

(1) Zayn al-Din, N. (1968). Musawar al-Khatt al-Arabi (Arabic Calligraphy),<br />

Bagjdad,pp.96.<br />

)2( عفيف البهنسى:‏ جمالية الفن العربي،‏ مرجع ‏سابق،‏ ‏ص‎127‎‏.‏<br />

(3) Issam El-Said and Ayes Parman, pp.130,131.<br />

137


138<br />

‏شكل )38(: استخدام دائرة كاأساس لوضع نسب ثابتة ‏)موديول(‏ لكتابة حروف اللغة العربية.‏

Hooray! Your file is uploaded and ready to be published.

Saved successfully!

Ooh no, something went wrong!