Book_1-1
Book_1-1
Book_1-1
You also want an ePaper? Increase the reach of your titles
YUMPU automatically turns print PDFs into web optimized ePapers that Google loves.
العمران والبنيان<br />
يف منظور الإسالم<br />
دكتور مهندس<br />
يحيى وزيري<br />
2
مهندس يحيى وزيري:<br />
من مواليد مصر، حاصل على ماجستري ودكتوراه يف العمارة البيئية، ومهندس<br />
استشاري يف جمال التصميم الداخلي، وخبري يف جمال العمارة الإسالمية<br />
والبيئة ومباين املعوقني. له اإنتاج علمي غزير، ومن موؤلفاته: »موسوعة عناصر<br />
العمارة الإسالمية«، و»املجتمع وثقافة العمران«، و»العمارة الإسالمية والبيئة«<br />
و»التطور العمراين والرتاث املعماري ملدينة القدس الشريف«...<br />
نهر متعدد ... متجدد<br />
مشروع فكري وثقايف واأدبي يهدف اإىل الإسهام النوعي يف اإثراء املحيط الفكري والأدبي<br />
والثقايف باإصدارات دورية وبرامج تدريبية وفق روؤية وسطية تدرك الواقع وتستشرف املستقبل.<br />
وزارة الأوقاف والسوؤون الإسالمية<br />
قطاع السوؤون الثقافية<br />
اإدارة الثقافة الإسالمية<br />
ص.ب: 13 الصفاة - رمز بريدي: 13001 دولة الكويت<br />
الهاتف: )+956( 2487106 - فاكس: )+965( 2468134<br />
الربيد الإلكرتوين: rawafed@islam.gov.kw<br />
1
مت طبع هذا الكتاب يف هذه السلسلة للمرة الأوىل،<br />
ول يجوز اإعادة طبعه اأو طبع اأجزاء منه باأية وسيلة اإلكرتونية اأو غري<br />
ذلك اإل بعد احلصول علىموافقة خطية من الناشر<br />
الطبعة الأوىل - دولة الكويت<br />
يونيو 2008م / جمادى الآخرة 1429 ه<br />
الآراء املنشورة يف هذه السلسلة ل تعرب بالضرورة عن راأي الوزارة<br />
كافة احلقوق حمفوظة للناشر<br />
وزارة الأوقاف والسوؤون الإسالمية<br />
املوقع الإلكرتوين www.islam.gov.kw:<br />
مت احلفظ والتسجيل مبكتبة الكويت الوطنية<br />
رقم الإيداع:192 2008 /<br />
ردمك:978-99906-678-1-3<br />
2
7<br />
13<br />
19<br />
24<br />
25<br />
33<br />
37<br />
44<br />
44<br />
56<br />
71<br />
75<br />
75<br />
80<br />
86<br />
95<br />
97<br />
100<br />
105<br />
111<br />
111<br />
117<br />
128<br />
فهرس املحتويات<br />
تصدير ....................................................................<br />
تقدمي .....................................................................<br />
· الفصل الأول: اأسس العمران والبنيان فى القراآن ................<br />
املبحث الأول: ضوابط عمارة الأرض يف ضوء القصص القراآين ...<br />
- اأول: التحذير من املمارسات الإعمارية الفاسدة ....................................<br />
- ثانيا: تقوى اهلل اأساس املمارسات الإعمارية الصاحلة .............................<br />
- ثالثا: الغاية من اإقامة املدن والقرى ................................................<br />
املبحث الثانى: اأنواع املباين واملصطلحات املعمارية يف القراآن ......<br />
- اأول: شمولية حصر اأنواع املباين املعمارية ..........................................<br />
- ثانيا: الدقة يف التفرقة بني املصطلحات املعمارية والعمرانية ......................<br />
· الفصل الثانى: مميزات العمران والبنيان الإسالمي: .............<br />
املبحث الأول: التوجه اإىل القبلة واأثره على العمران والبنيان .....<br />
- اأول: اأدلة التوجه اإىل القبلة وعالقة ذلك بالعمران والبنيان ........................<br />
- ثانيا: ما الذي يخسره العمران الإسالمى بعدم توجهه اإىل القبلة؟ .................<br />
- ثالثا: قضايا عمرانية تتعلق بالتوجه اإىل القبلة .....................................<br />
املبحث الثانى: توافق العمران مع الظروف البيئية ...............<br />
- اأول: مراعاة اختيار مواقع التجمعات العمرانية ....................................<br />
- ثانيا: اأهمية الظالل كاأحد وسائل حتقيق الراحة احلرارية .........................<br />
- ثالثا: منوذج قراآين يوضح فكرة التصميم البيئي ..................................<br />
املبحث الثالث: توظيف الإبداع اجلمايل يف املعمار ..................<br />
- اأول: مفهوم اجلمال يف الروؤية الإسالمية ...........................................<br />
- ثانيا: اإسهام الأمر والنهي يف الرتقاء باجلوانب اجلمالية ..........................<br />
- ثالثا: استكشاف اأسلوب حتقيق الإبداع اجلماىل يف العمائر الإسالمية ............<br />
3
139<br />
142<br />
143<br />
144<br />
145<br />
149<br />
151<br />
152<br />
157<br />
157<br />
159<br />
163<br />
164<br />
168<br />
169<br />
173<br />
177<br />
177<br />
178<br />
179<br />
180<br />
181<br />
183<br />
183<br />
185<br />
· الفصل الثالث: تاأثري املنهج الإسالمي على تصميم املباين: ...<br />
املبحث الأول: ضوابط عمارة املساجد ..................................<br />
اأول: اأسس اختيار موضع املسجد ..................................................<br />
- ثانيا: تاأثريالتوجه اإىل القبلة على شكل املساجد ..................................<br />
- ثالثا: اأسلوب تصميم حائط القبلة ................................................<br />
- رابعا: كراهية املنابر الطويلة ......................................................<br />
- خامسا: اأفضلية وجود فراغ معماري واحد بدون اأعمدة ...........................<br />
- سادسا: كراهية الزخارف والكتابة على حوائط املسجد ..........................<br />
- سابعا: حكم املقاصري والقواطيع ..................................................<br />
- - ثامنا: املاآذن ......................................................................<br />
تاسعا: غرس الأشجار واإقامة الربك املائية يف صحون املسجد ...................<br />
- عاشرا: امليضة ودورات املياه ......................................................<br />
- حادي عشر : معايري وتفاصيل اأخرى متنوعة .....................................<br />
- املبحث الثانى: ضوابط عمارة املساكن ...............................<br />
اأول: اخلصوصية )سرت العورة(..................................................<br />
- ثانيا: القتصاد مع الإتقان والبعد عن الإسراف والتبذير .........................<br />
- ثالثا: اأفضلية املسكن الواسع لتوفري عدد مناسب من الغرف .....................<br />
- رابعا: اأفضلية توجيه غرف املسكن جهة القبلة ....................................<br />
- خامسا: اأفضلية عدم استقبال اأو استدبار القبلة يف دورات املياه ..................<br />
- سادسا: النهي عن اجللوس على جلود السباع واحلرير الطبيعي وسرت اجلدران به ...<br />
- سابعا: النهي عن تصوير الكائنات احلية .........................................<br />
- ثامنا: النهي عن استعمال اآنية الذهب والفضة وما يقاس عليهما .................<br />
- تاسعا: توفري اللمسات اجلمالية ...................................................<br />
- عاشرا: النهي عن التطاول يف البنيان .............................................<br />
- حادي عشر: الفصل بني عناصر التصال الراأسية للرجال والنساء ..............<br />
- 4
187<br />
187<br />
194<br />
197<br />
200<br />
204<br />
املبحث الثالث: حمددات تخطيط املدينة املعاصرة ................<br />
- اأول: حمددات اختيار مواقع املساجد باملدن ......................................<br />
- ثانيا: وحدة اجلوار يف املجتمع الإسالمي .........................................<br />
- ثالثا: فصل مصادر التلوث عن املناطق السكنية ..................................<br />
- رابعا: الهتمام بالطرق والفراغات العامة ........................................<br />
- خامسا: توفري احلدائق وتنسيق املواقع ............................................<br />
209<br />
اخلامتة ..................................................................<br />
215<br />
فهرس املوضوعات واملراجع ............................................<br />
5
تصدير<br />
7
احلمد هلل رب العاملني، والصالة والسالم على سيد املرسلني وعلى اآله<br />
وصحبه اأجمعني.<br />
استوعبت الروؤية الإسالمية خمتلف مناحي حياة الإنسان املسلم ، يف<br />
عالقته بنفسه وربه واأسرته وحميطه القريب والبعيد،ومنحته »البوصلة«<br />
املنهجية واحلضارية والسلوكية ليحقق اإنسانيته العابدة يف جو من النسجام<br />
والتوازن والعتدال .<br />
ولعل من اأبرز املجالت التي تعكس استيعاب الروؤية الإسالمية لالأبعاد<br />
املختلفة لالإنسان ، اأمناط العمران والبنيان التي ابتدعها املسلم ، وسخرها<br />
لتوؤدي له وظائف الراحة والسكينة واخلصوصية واجلمالية واحلماية ، سواء<br />
يف املسجد اأو البيت اأو املدينة اأو السوق اأو احلدائق واملنتزهات.<br />
وكان مستنده الأساسي يف كل ما اأبدع وابتكر هدايات القراآن وسنة<br />
النبي عليه السالم، فحقق لنفسه اأقصى درجات التوازن بني ضرورات<br />
احلياة وجمالياتها.<br />
والأمر حمتاج اإىل دراسات جتلي اأسرار ذلك الإجناز احلضاري املتمثل<br />
يف الهتداء يقيم الإسالم وتوجيهاته يف بناء خمتلف مفردات العمران ، من<br />
البيت اإىل املسجد اإىل املدينة اإىل الأسواق.. وغريها.<br />
ويف هذا السياق، فاإن قطاع السوؤون الثقافية بوزارة الأوقاف والسوؤون<br />
الإسالمية بدولة الكويت يجدد التذكري باأهمية البحث يف املوضوع من خالل<br />
اإقدامه على نشر كتاب »العمران والبنيان يف منظور الإسالم« للمهندس<br />
د. يحيى وزيري، ضمن اإصدارات مشروع « روافد « الهادف اإىل اإثراء الساحة<br />
الفكرية والأدبية والفنية، باعتبار اأن البحث العلمي الرصني ، القائم على<br />
بصرية من الدليل ، هو الكفيل بتاأكيد الدور احلضاري للروؤية الإسالمية .<br />
لقد حرص هذا الكتاب على اأن يقوم بسياحة دللية يف اآيات القراآن<br />
الكرمي، ليربز كيف اأن اخلطاب القراآين اأشار اإىل العديد من املفردات<br />
املتصلة بالعمران والبنيان، ووصفها وصفا دقيقا، وقدم معايري لتحقيق<br />
9
10<br />
التوازن بني البعد الوظيفي للبنيان والعمران والبعد اجلمايل،واأنساأ موازين<br />
للوقاية من شرور النحراف جهة قصد املتعة والعبث بعيدا عن هدايات<br />
الدين، وانسياقا وراء املمارسات الإعمارية الفاسدة .<br />
وقد استنتج العديد من املعايري يف هذا الصدد ، اأهمها اأن تقوى اهلل<br />
من مقاصد العمران، واأن التوازن مطلوب بني القيم الوظيفية والقيم<br />
اجلمالية.<br />
ومن اأبرز ما توصل اإليه الباحث ،بني يدي استقرائه للمفردات الدالة<br />
على العمران والبنيان يف القراآن الكرمي، اأن اخلطاب القراآين امتاز بشمولية<br />
حصر خمتلف اأنواع املباين املعمارية ، كما امتاز بدقة وصفها والتفريق<br />
بينها.<br />
ومل يفت الباحث تفصيل القول يف مميزات العمران والبنيان الإسالمي،<br />
اإذ عقد مباحث لإبراز العديد من املميزات، ويف مقدمتها التوجه اإىل القبلة،<br />
وتوافق العمران مع الظروف البيئية، ومراعاة اخلصوصية، واستثمار<br />
العنصر اجلمايل يف البناء .<br />
وقدم وقفات تطبيقية تدلل على تاأثري الروؤية الإسالمية العمرانية على<br />
تصميم املباين، مثل تصميم املسجد والبيت واملدينة.<br />
اإن اخليط الناظم لكتاب:» العمران والبنيان يف منظور الإسالم« يتمثل<br />
يف توضيح العناصر الآتية:<br />
-التذكري باعتناء الروؤية الإسالمية مبوضوع البنيان والعمران رعاية<br />
ملقاصد الشريعة ممثلة يف التيسري والسكينة والتقوى واجلمال.<br />
- لفت اأنظار الدارسني للخطاب القراآين واملهندسني واملعماريني اإىل اأن<br />
القراآن الكرمي احتوى على العديد من املفردات املتصلة بالبنيان والعمارة،<br />
وقدم فروقا دقيقة بينها ، وقدم « روؤية » متوازنة جتعل البنيان خادما للقيم<br />
الإنسانية وليس ميدانا للعبث والإفساد.
- اإبراز مميزات العمارة والبنيان يف املنظور احلضاري الإسالمي يف<br />
خمتلف العناصر والوحدات، يف التوجه اإىل القبلة، ويف اختيار مواقع البناء،<br />
وتوافقه مع الظروف البيئية، ويف استثمار عناصر الطبيعة ممثلة يف املياه<br />
والأشجار والظالل، مع النهي عن الإسراف .<br />
- التاأكيد على اأن الإسالم ليقتصر على املظهر املادي للبناء، بل يقدم<br />
اإضاءات حول الغاية التي من اأجلها يقوم الإنسان باإعمار الأرض، ، وهي<br />
غاية مرتبطة باإشعاع تعاليم الإسالم يف املحيط العمراين اخلاص والعام<br />
قصد اإسهام عناصرها يف صالح الأفراد واجلماعة والأمة نفسيا وبدنيا<br />
واجتماعيا ، صحيا وجماليا.<br />
- تقدمي مالمح تطبيقية توؤكد الصلة الوثيقة بني الروؤية الإسالمية<br />
والعمران احلضاري الذي حتقق عرب املسرية الطويلة لالإنسان داخل البيئة<br />
الإسالمية يف شرق العامل وغربه.<br />
والأمل معقود على اأن تتضافر جهود الباحثني واملختصني للبحث يف<br />
سبل اإدراج هذه املعطيات احلضارية الدقيقة ضمن برامج تلفزية ومقررات<br />
دراسية ، تساعد عموم املطلعني على اإدراك القيم الإيجابية يف اعتماد الروؤية<br />
الإسالمية يف تصميم املباين واملدن والأسوا ق واحلدائق واملنتزهات .<br />
ومن املفيد الإشارة اإىل اأن املوؤلف يحيى وزيري اهتم، يف كتابه، باإبراز<br />
املالمح العمرانية الإسالمية، لذا ، مل تتح له فرصة اللتفات اإىل بعض<br />
القضايا املرتبطة باإشكالية العمارة الإسالمية يف العصر احلديث، فهل<br />
يستحيل قيام عالقة بني العمارة الإسالمية والعمارة احلديثة؟ ما هي<br />
حدود الإفادة التي ميكن اأن تقدمها العمارة الإسالمية للمدارس احلديثة<br />
يف تصميم املباين؟ هل الدعوة اإىل رعاية الروؤية الإسالمية يف البنيان هي<br />
نفي للحداثة املهيمنة يف العمران املعاصر؟<br />
وغريها من الأسئلة التي توؤكد اأن املوضوع خصب وغني ومرشح لأن<br />
يثري العديد من الإشكالت والستفسارات، وهذا مظنة حصول حوار علمي<br />
11
12<br />
بناء يقدم روؤى متنوعة توؤكد احتضان احلضارة الإسالمية لكل تنوع منتج<br />
وفعال.<br />
ويسر قطاع السوؤون الثقافية اأن يقدم هذا الكتاب اإىل القراء الكرام<br />
ضمن الإصدار الرابع من « اإسهام » ، اخلاص بالساأن الفني والأدبي يف<br />
مشروع »روافد«.<br />
واهلل الهادي اإىل سوا ء السبيل.
تقدمي<br />
13
يف اإطار البحث وحماولة اإعادة املجتمعات العربية والإسالمية اإىل هويتها<br />
الفكرية والثقافية، يصبح التفكري يف اأسلوب عمران وعمارة هذه املجتمعات<br />
فرضاً على كل متخصص اأو مثقف، حيث يعترب شكل واأسلوب العمران<br />
والتعمري اأحد دعائم وركائز الثقافة املادية لهذه املجتمعات، والذى يحمل يف<br />
طياته العديد من الثوابت واملضامني الفكرية والإبداعية الإسالمية، وهذه<br />
املضامني هي التي سبق واأن اأسهمت يف تشكيل املظهر املادى وجوهر احلياة<br />
يف املدينة الإسالمية فى عصور ازدهار احلضارة الإسالمية.<br />
لقد ناقشت العديد من الكتب والدراسات موضوع العمارة الإسالمية<br />
باأسلوب يدخل يف نطاق تاريخ العمارة اأو الدراسات الأثرية، وهذا شيء<br />
مطلوب، ولكن خصائص التفكري يف جوانب العمارة والعمران من منظور<br />
اإسالمي معاصر حتتاج اإىل جانب تغطية اجلوانب التاريخية والأثرية اإىل ما<br />
هو اأهم من ذلك، ونقصد حتديدا الضوابط والثوابت التي يجب اأن يتاأسس<br />
عليها الفكر املعماري الإسالمي، وهذه الضوابط تستمد اأساسا من الكتاب<br />
والسنة، ولكننا اآثرنا يف هذه الدراسة اأن يكون القراآن الكرمي هو الأساس<br />
الذي ترتكز عليه مع الستعانة يف بعض املواضع ببعض الأحاديث النبوية<br />
الشريفة.<br />
وبذلك تكمن اأهمية هذه الدراسة يف اأنها حماولة لتوضيح بعض ضوابط<br />
العمران والبنيان بروؤية مستمدة اأساسا من القراآن الكرمي، مع اإعطاء مناذج<br />
فكرية وتطبيقية لكيفية الستفادة من اإمكانيات احللول املعمارية الرتاثية<br />
الإسالمية لستيفاء العديد من متطلبات العصر احلديث ومستجداته.<br />
لقد مت تقسيم هذه الدراسة اإىل ثالثة فصول اأساسية، الفصالن الأول<br />
والثاين منها ميثالن املستوى العام من هذا البحث، حيث يحتويان على<br />
بعض اأهم الأسس واملميزات العامة للعمران والبنيان من منظور قراآين، اأما<br />
الفصل الثالث فيعطي اأفكارا ومعايري تفصيلية وتطبيقية لكل من املسجد<br />
15
وبيت املسلم املعاصر، لأهمية هذين النوعني من املباين يف املجتمعات املسلمة<br />
على مر العصور، كما اأن هذه املعايري والأفكار ميكن اأن يقاس عليها ويطبق<br />
ما يصلح منها، على اأغلب املباين العامة التي ميكن اأن تقام يف املجتمع<br />
الإسالمي، مع مراعاة الختالفات التي تنساأ لختالف الوظيفة التي يوؤديها<br />
كل مبنى اأو النشاط الذي ميمٌ َارس داخله، كما يوضح املبحث الأخري من هذا<br />
الفصل حمددات تخطيط املدينة املعاصرة من وجهة نظر الروؤية الإسالمية<br />
التى تتاأسس على القراآن والسنة والآراء الفقهية.<br />
واإذا كانت هذه الدراسة قد اتخذت من القراآن الكرمي اأساساً ومنبعا<br />
رئيسيا لها، من اأجل اإبراز اأحد جوانب عظمة هذا الكتاب القيم املنزَّ ل من<br />
عند اهلل جل يف عاله، فاإن هذا ل ينفي اأن يف السنة النبوية املطهرة الكثري<br />
من الأحاديث الشريفة التي اأعطت العديد من الضوابط واملفاهيم التي<br />
تعترب دليال للعمران والبنيان الإسالمي، وهو ما يعني اأن هذا املوضوع ما<br />
زال يف اأشد احلاجة اإىل املزيد من الدراسات والأبحاث.<br />
لقد حاولنا يف هذه الدراسة اأن نستكشف العديد من ضوابط العمران<br />
الإسالمي وثوابته، والتي ل تتغري باختالف املكان والزمان، لأنها مستنبطة<br />
من القراآن الكرمي الذي تكفل رب العاملني بحفظه من التبديل اأو التحريف،<br />
وهذا ل يعني اأن يتم وضع العمران والبنيان الإسالمي يف قوالب جامدة<br />
كما ميكن اأن يفهم البعض، ولكن هذا يعني اأن يتم اللتزام بهذه الضوابط<br />
مع اإعطاء احلرية للفكر البشري يف وضعها يف الإطار املادي الذي يتناسب<br />
مع املجتمعات املسلمة يف مشارق الأرض ومغاربها، حسب الظروف املادية<br />
والبيئية والثقافة املحلية لكل جمتمع، مبا ل يتعارض مع قواعد الدين<br />
احلنيف.<br />
اإن موضوع ضوابط العمران والبنيان ميس حياة وثقافة املسلم املعاصر<br />
الذي يحتاج اإىل املبنى واملعنى اأيضا يف اإطار املدينة واملجتمع الإسالمي<br />
16
املعاصر، كما يحتاج اإىل احلفاظ على هويته الدينية والثقافية يف ظل املفهوم<br />
اجلديد للعوملة، والذي يحاول اأن يقتلعه من جذوره الثقافية والرتاثية، وهذا<br />
ل يعني اأنها حماولة لالنفصال عن العامل الذي يحيط بنا، ولكنها حماولة<br />
حتسب يف اإطار كيفية الستفادة من عطاء الدين والترتاث احلضاري<br />
الإسالمي خلدمة املجتمعات العربية الإسالمية بصفة خاصة، والإسهام يف<br />
التقدم الثقايف واحلضاري للمسرية الإنسانية من جانب اآخر، ملن اأراد اأن<br />
يتواصل مع هذا النموذج الإسالمي للبناء والتعمري الذي يتاأسس على تقوى<br />
اهلل، والتاأكيد على املمارسات الإعمارية التي تصلح ول تفسد يف الأرض.<br />
د/ يحيى وزيري<br />
القاهرة – 2007م<br />
17
الفصل الأول<br />
اأسس العمران والبنيان<br />
يف القراآن<br />
19
يهدف هذا الفصل اإىل استنباط الأسس والقواعد العامة للعمران<br />
والبنيان يف منظور الإسالم، وحتديدا يف القراآن الكرمي املصدر الرئيسي<br />
للتشريع عند املسلمني، لذلك فاإنه من الالزم اأول اأن نحدد مفهوم هذا العلم<br />
وجمالته.<br />
يشرح ابن خلدون يف مقدمته مفهوم العمران باأنه: »هو التساكن والتنازل<br />
يف مصر اأو حلة لالأنس بالعشري واقتضاء احلاجات، ملا فى طباعهم من<br />
التعاون على املعاش كما نبينه، ومن هذا العمران ما يكون بدويا وهو الذي<br />
يكون يف الضواحي واجلبال، ويف احللل املنتجعة يف القفار واأطراف الرمال،<br />
ومنه ما يكون حَ ضَ ريا وهو الذى بالأمصار والقرى واملدن واملدر، لالعتصام<br />
بها والتحصن بجدرانها« )1( .<br />
كما وضع املتخصصون واخلرباء العديد من التعريفات لعلم العمارة اأو<br />
»البنيان« كما نطلق عليه يف دراستنا هذه، من اأبسط واأعم هذه التعريفات<br />
اأن »العمارة علم وفن«، ومنها ما يرى اأن فن العمارة هو: »الفضاء املحصور<br />
بني اجلدران« )2( . ومن وجهة نظر معينة، ميكن تعريف العمارة باأنها:<br />
»اأسلوب توجيه احلركة داخل الفراغات املعمارية« )3( ، اإىل جانب العديد من<br />
التعريفات الأخرى والتي ل تخرج عن املعاين واملفاهيم السابقة.<br />
ويرى الباحثون واملتخصصون اأن جمال ونطاق علوم العمران والبنيان<br />
ميكن اأن يتضح من خالل التعريفات والتخصصات الدقيقة التالية )4( :<br />
- العمارة )البنيان(: فن علمي لإقامة الكتل يف اأبعاده الثالثة، بشرط<br />
توفري احتياجات الناس.<br />
)1( مقدمة ابن خلدون )بدون تاريخ (. موؤسسة دار الشعب، القاهرة، ص 38،37.<br />
)2( يحيى وزيري )2002(، املجتمع وثقافة العمران، موؤسسة دار الشعب، القاهرة، ص5.<br />
)3( يحيى وزيري )1992(، التعمري يف القراآن والسنة، القاهرة، ص111.<br />
)4( هشام اأبو سعدة )2003(، مهنة عمارة البيئة، النشرة العلمية لبحوث العمران، عدد)3(، كلية<br />
التخطيط الإقليمي والعمراين، جامعة القاهرة، ص45.<br />
21
- التصميم الداخلي: فن علمي اأيضا لتنظيم الفراغ داخل الكتلة،<br />
وحتقيق الوظيفة واجلمال.<br />
- تخطيط املدن: علم توزيع استعمالت الأراضي املعدة لستقبال<br />
الكتل عليها، واختيار اأماكنها، ووضع سياسات واشرتاطات التوزيع.<br />
- تخطيط املواقع: علم توزيع الكتل على الأرض وتنظيم تشكيل<br />
الفراغ، وفن متطلبات املستعملني.<br />
- التصميم العمراين اأو عمارة املدن: علم تنظيم العالقة بني الكتلة<br />
والفراغ، بشرط احرتام السلوك الإنساين للجماعة الواحدة، سواء يف<br />
املناطق القائمة بالفعل للحفاظ عليها اأو املناطق اجلديدة لتنميتها.<br />
- عمارة البيئة اأو التصميم اخلارجي: فن علمي لتنظيم الأمكنة<br />
اخلارجية املفتوحة على الأرض )ومنها الفراغ حول الكتل وبينها(، بشرط<br />
احرتام اعتبارات قوى الطبيعة والإنسان والبناء املصنوع مبعرفة الإنسان،<br />
لدعم اجلمال وحتقيق الحتياج يف اخلارج واحلفاظ على البيئة الطبيعية<br />
والصطناعية.<br />
وبروؤية اأكرث شمولية، فاإن جمال علوم العمران والبنيان يبداأ من مستوى<br />
تخطيط املدن وتنسيق حدائقها وفراغاتها اخلارجية وينتهي ببناء املباين<br />
وتصميمها الداخلي، ولكي يتم اإجناز عمل متقن لكل مستوى من هذه<br />
املستويات، فاإن التخصص يكون لزماً يف اإطار التكامل والتداخل بينها يف<br />
غالب الأحوال، ولكن يظل التخصص الدقيق مطلوباً وبخاصة يف العصر<br />
احلديث مع اتساع نطاق املعارف الإنسانية بصفة عامة.<br />
ورمبا يعتقد الكثريون، ومنهم بعض املتخصصني فى جمال العمران<br />
والبنيان، اأنه ل توجد اأصال نصوص قراآنية اأو نبوية تتحدث اأو تضع اأسسً ا<br />
22
وقواعد لعمارة الأرض، ومن جانب اآخر فاإن البعض الآخر يعتقد اعتقاداً<br />
جازماً باأن اهلل سبحانه وتعاىل قد اأنزل القراآن تبيانا لكل شيء، مصداقا<br />
لقوله تعاىل:{ { )النحل اآية 89(<br />
ولقوله عز وجل: }<br />
{ )الكهف اآية 54( ولكنهم ميرون على بعض<br />
الآيات القراآنية ذات الصلة مبوضوع الدراسة ويغفلون عما جاء بها من<br />
توجيهات جليلة لعمارة الأرض.<br />
لذلك فقد مت تخصيص هذا الفصل لبيان وتوضيح واستنباط الأسس<br />
العامة لعمارة الأرض فى القراآن، ومن اأجل هذا فقد مت تقسيم هذا الفصل<br />
اإىل مبحثني اأساسيني، وهما:<br />
1- املبحث الأول: ضوابط العمران والبنيان يف ضوء قصص القراآن.<br />
2- املبحث الثاين: اأنواع املباين واملصطلحات املعمارية يف القراآن.<br />
23
املبحث الأول<br />
ضوابط العمران والبنيان يف ضوء قصص القراآن<br />
قص علينا القراآن الكرمي من خالل بعض سوره واآياته قصصا حلضارات<br />
جاءت قبل بعثة النبي اخلامت صلى اهلل عليه وسلم، وقد اأوضح العلماء<br />
واملفسرون قصة الصراع بني احلق متمثال يف رسل واأنبياء اهلل ومن اتبعوهم<br />
باإحسان، وبني الباطل متمثال يف القرى والأقوام الظاملة التي كفرت باأنعم<br />
اهلل وصدت عن سبيل احلق، يف حماولة منهم لإظهار الدروس والعرب التي<br />
حواها القصص القراآين مصداقا لقوله تعاىل: }<br />
{ )1( ، ومل يكتف القراآن بذلك بل اأمر املسلمني بالسري<br />
يف الأرض والنظر يف اآثار الأمم السابقة، وكيف كان عاقبة املكذبني بالرغم<br />
مما وصلت اإليه هذه الأمم من تقدم حضاري وعمراين مل يغنِ عنها من اهلل<br />
شيئا، ونلمح هذا الأمر واملعاين السابقة، يف قوله سبحانه وتعاىل: }<br />
. )2( {<br />
كما حمل القصص القراآين يف طياته العديد من الضوابط واملفاهيم<br />
اخلاصة بعمارة وعمران الأرض، والتي تعترب مبثابة القواعد والأسس التي<br />
يسرتشد بها املسلمون يف كل زمان ومكان من اأجل عمارة الأرض العمارة<br />
الصاحلة الفاضلة، كما اأرادها اهلل سبحانه وتعاىل واأكد عليها رسله واأنبياوؤه<br />
يف دعوتهم على مر العصور، لذلك فاإن الهدف من هذا املبحث هو حماولة<br />
)1( سورة يوسف: من الآية 111.<br />
)2( سورة الروم: الآية 9.<br />
24
استنباط بعض ضوابط العمران والبنيان يف ضوء ما ورد ببعض القصص<br />
القراآين، وهو ما نوضحه يف املحاور التالية:<br />
اأول: التحذير من املمارسات الإعمارية الفاسدة:<br />
يلفت القراآن الكرمي النظر اإىل ما حدث لثالث حضارات معمارية كربى<br />
حادت عن طريق احلق وطغت يف البالد وبطرت معيشتها، حيث يقول سبحانه<br />
وتعاىل: }<br />
{ )1( ، فما املمارسات الإعمارية الفاسدة التي<br />
جعلت املوىل سبحانه وتعاىل يصب العذاب على هذه احلضارات صبًّا؟.<br />
بالنسبة اإىل قوم »عاد« فقد كانوا يسكنون الأحقاف، وهي جبال الرمل،<br />
وكانت باليمن بني عمان وحضرموت )2( ، وكانت لهم حضارة معمارية<br />
عظيمة وصفتها الآيات القراآنية باأنها مل يخلق مثلها يف البالد فاغرتوا بنعم<br />
اهلل عليهم واستكربوا يف الأرض، شكل )1(، وفى ذلك يقول اهلل سبحانه<br />
وتعاىل:{<br />
. )3( {<br />
ومن مناذج املمارسات الإعمارية الفاسدة اأنهم اأقاموا مباين العبث<br />
والفجور، وقد اأخرب بذلك القراآن الكرمي على لسان نبيهم سيدنا »هود«<br />
)1( سورة الفجر: الآيات من 6 اإىل 14.<br />
)2( احلافظ ابن كثري، قصص الأنبياء، دار احلديث، القاهرة، ص 89.<br />
)3( سورة فصلت: الآية 15.<br />
25
مستنكرا عليهم ذلك يف الآيات الكرمية التالية: }<br />
{ )1( ، فاهلل سبحانه وتعاىل ينعى على »عاد« قومِ<br />
»هود« اأنهم كانوا يبنون بكل ريع، اأي مكان مرتفع، اآية اأي بناءً ظاهراً كالعلم<br />
لقصد العبث مبن مير يف الطريق من الناس )2( ، وفى ذلك استخدام لالأبنية<br />
يف غري ما شرع اهلل بناءها، كما يفهم من الآية اأيضا اأنهم كانوا يبنون<br />
يف الأماكن املرتفعة ليعرف بذلك غناهم تفاخرا فنهوا عنه ونسبوا اإىل<br />
العبث )3( .<br />
وبذلك ميكن القول اإن استنكار الآيات السابقة للسلوك الإعماري لقوم<br />
عاد يرتكز على قضيتني اأساسيتني متالزمتني نتجتا عن اضطراب يف<br />
التصور العقائدي )4( :<br />
القضية الأوىل: عبثية الغاية من البناء والإعمار، فعاد قد بنت املباين<br />
العظيمة بقصد املباهاة واإظهار القوة ومل تنبِ للحاجة ول لغرض سليم،<br />
ولهذا استنكر عليهم نبيهم عليه السالم ذلك، لأنه تضييع للزمان واإتعاب<br />
لالأبدان، واشتغال مبا ليجدي يف الدنيا ول يف الآخرة.<br />
القضية الثانية: غياب التصور الصحيح الذي تستند عليه املمارسات<br />
الإعمارية، فالبناء والإعمار اإمنا هو لسد خلة الباين وحاجته فرتة بقائه<br />
)1( سورة الشعراء: الآيات من 128 اإىل 131.<br />
)2( الرازي )1990(، التفسري الكبري )مفاتيح الغيب(، دار الكتب العلمية، بريوت.<br />
)3( اأحمد سعد )2003(، ضوابط بناء املساكن يف الفقه الإسالمي. موؤمتر الجتهاد يف قضايا<br />
الصحة والبيئة والعمران، جامعة الريموك- اأربد، الأردن.<br />
)4( عبد اجلليل اأبو ضمرة )2003(. فقه الإعمار وضوابطه يف الفقه الإسالمي، موؤمتر الجتهاد يف<br />
قضايا الصحة والبيئة والعمران، جامعة الريموك -اأربد، الأردن.<br />
26
وبنيه يف هذه الدنيا، لذا فاملبالغة فى البناء حتى يظن اأن الباين خملد<br />
يف دنياه يستدعى بذل لالأموال واإتعاباً لالأبدان وصرفاً للوقت عن املهمة<br />
الأعظم والدور الأكرب من تعبيد اخللق لبارئهم والإعداد ليوم لقائه.<br />
شكل )1(: جانب من اأسوار واآثار مت اكتشافها فى نهاية القرن العشرين فى موقع مدينة<br />
تسمى الآن »شيصار«، ويرجح اأنها بقايا مدينة »اإرم« املذكورة فى القراآن الكرمي.<br />
27
اأما »ثمود« فقد كانوا يسكنون احلجر الذي بني احلجاز وتبوك، وقد مر<br />
به رسول اهلل عليه الصالة والسالم وهو ذاهب اإىل تبوك مبن معه من<br />
املسلمني، وكانوا بعد قوم عاد وكانوا يعبدون الأصنام كاأولئك، وكانت لهم<br />
حضارة مادية عظيمة تتجلى يف بناء القصور الفخمة يف السهول، ونحت<br />
البيوت يف اجلبال، شكل )2(، يشري اإىل ذلك قوله تعاىل: }<br />
. )1( {<br />
لقد متيزت حضارتهم بالرفاهية العمرانية فاتخذوا قصوراً يف السهول<br />
حيث طبيعة البيئة واملناخ تختلف عن اتخاذ البيوت املنحوتة يف اجلبال،<br />
واأقاموا اأماكن صيفية واأخرى شتوية لرفاهيتهم )2( .<br />
ومل تقتصر احلضارة الثمودية على الرفاهية العمرانية فقط، بل حولوا<br />
السهول اإىل جنات وارفة الظالل متنوعة الثمار، فجمعوا بذلك بني فخامة<br />
العمران واإنشاء احلدائق وغرس اجلنان، وفى هذه املعاين يقول سبحانه<br />
وتعاىل: }<br />
{ )3( ، فاهلل<br />
سبحانه وتعاىل اأنعم عليهم وجعلهم يف اأمن من املحذورات واأنبت لهم من<br />
اجلنات، وفجر لهم العيون اجلاريات واأخرج لهم من الزروع والثمرات، كل<br />
ذلك اإىل جانب البيوت القوية الآمنة سواء كانت منحوتة يف اجلبال اأو مقامة<br />
يف السهول.<br />
وياأتي القصص القراآين موؤكداً املعاين السابقة من خالل الصراع بني<br />
احلق والباطل، بني سيدنا موسى وهارون عليهما السالم من جانب وفرعون<br />
)1( سورة الأعراف: الآية 74.<br />
)2( يحيى وزيري )1992(، التعمري يف القراآن والسنة، القاهرة، ص14.<br />
)3( سورة الشعراء: الآيات من 146 اإىل 149.<br />
28
وهامان رموز الكفر والباطل من جانب اآخر، فهاهو فرعون يغرت بنعم اهلل<br />
عليه وبدل من اأن يشكر يفتخر ويتعاىل على قومه، كما اأخربنا بذلك سبحانه<br />
وتعاىل يف قوله: }<br />
جنانا واأنهارا جتري من حتت قصوره«.<br />
{ )1( ، قال قتادة )2( :»كانت<br />
بعض واجهات املقابر املنحوتة يف اجلبال.<br />
)1( سورة الزخرف: الآية 51.<br />
( 2( انظر تفسري الآية 51 يف اجلامع لأحكام القراآن لالإمام القرطبي.<br />
29
بعض الأعمدة املنحوتة.<br />
.<br />
شكل )2(: بعض بقايا اآثار احلضارة الثمودية مبنطقة »العال« بالسعودية<br />
لقد اغرت فرعون باملُلْك والنعم التي مَ نّ اهلل بها عليه وكفر باإنعامه،<br />
وكانت النتيجة الفساد يف العقيدة، وانعكس ذلك على انحراف املمارسة<br />
املعمارية..فماذا حدث؟، يخربنا القراآن الكرمي باأن فرعون قد اأمر وزيره<br />
هامان اأن يوقد له على الطني ليبني صرحاً، وهو القصر العايل اأو البناء<br />
العايل الذاهب يف السماء )1( ، ليظهر لرعيته كذب دعوة موسى يف اإثبات<br />
الألوهية هلل تبارك وتعاىل، وهو ما يشري اإليه قوله سبحانه وتعاىل: }<br />
)1( انظر: املعجم الوجيز )2000(، طبعة خاصة بوزارة الرتبية والتعليم، جممع اللغة العربية،<br />
جمهورية مصر العربية، ص363.<br />
30
، )1( {<br />
ومرة اأخرى يقرتن الفساد العقائدي والستكبار يف الأرض مع انحراف<br />
املمارسة الإعمارية، ويصبح »الصرح« املعماري اأداة لالستهزاء من دعوة<br />
موسى والصد عن سبيل اهلل.<br />
لقد اأوضحت العديد من الآيات القراآنية اأن الظلم وارتكاب املعاصي<br />
والكفر باهلل من اأهم اأسباب حلول اخلراب واإهالك القرى والأمصار مهما<br />
بلغت من درجات الرقي احلضاري والعمراين، والآيات الدالة على ذلك<br />
كثرية نذكر بعضا منها يف مقامنا هذا، حيث يقول سبحانه وتعاىل:<br />
{ )2( ، وقوله تعاىل: }<br />
{ ( )3 ، وقوله تعاىل: }<br />
. )4( {<br />
}<br />
وفى اأحيان اأخرى يجعل اهلل سبحانه وتعاىل النتاج املعماري لبعضٍ من<br />
هذه القرى واحلضارات الكافرة عربة ملن بعدها من الأمم، ومن اأشهر هذه<br />
احلضارات حضارة عاد وثمود حيث يلفت القراآن نظر املوؤمنني اإىل ما تركوه<br />
من مساكن واآثار يف قوله تعاىل: }<br />
)1( سورة القصص: الآية 38.<br />
)2( سورة احلج: الآية 45.<br />
)3( سورة القصص: من الآية 59.<br />
)4( سورة هود: الآية 117.<br />
)5( سورة العنكبوت: الآية 38.<br />
{ )5( ، فلقد جاء يف السنة النبوية عن ابن عمر قال: »ملا نزل<br />
31
رسول اهلل [ بالناس على تبوك، نزل بهم احلجر عند بيوت ثمود، فاستقى<br />
الناس من الآبار التي كانت تشرب منها ثمود، فعجنوا منها ونصبوا القدور،<br />
فاأمر رسول اهلل فاأهرقوا القدور وعلفوا العجني الإبل، ثم ارحتل بهم حتى<br />
نزل بهم على البئر التي كانت تشرب منها الناقة )ناقة صالح(، ونهاهم<br />
اأن يدخلوا على القوم الذين عذبوا، فقال:»اإين اأخشى اأن يصيبكم مثلُ ما<br />
اأصابهم فال تدخلوا عليهم« )1( .<br />
ومدائن صالح الآن هي اإحدى حمطات السكة احلديدية احلجازية، ولقد<br />
زارها كثري من املستشرقني وكتبوا عنها، وكان من اأهم ما عرثوا عليه من<br />
الآثار ما يعرف بقصر البنت وقرب الباشا والقلعة والربج، وقد شاهدوا<br />
نقوشاً عليها باخلط املسند الآرامي ولغتها هي العربية الشمالية التي ل<br />
تختلف اإل قليال عن الفصحى )2( .<br />
اأما بالنسبة اإىل حضارة عاد، ففي يناير من سنة 1991م، بداأت عمليات<br />
الكشف عن اآثار يف صحراء الربع اخلايل باجلزيرة العربية يف منطقة<br />
»شيصار«، ارجع لشكل )1(، واأعلن عن اكتشاف قلعة ثمانية الأضالع<br />
سميكة اجلدران باأبراج يف زواياها، مقامة على اأعمدة ضخمة يصل<br />
ارتفاعها اإىل 9 اأمتار وقطرها اإىل 3 اأمتار، ويرجح العامل املصري الأستاذ<br />
الدكتور زغلول النجار اأن هذه الآثار رمبا تكون ملدينة »اإرم« التي جاء ذكرها<br />
يف القراآن الكرمي )3( .<br />
تلك هي اآثار وبقايا حضارات عمرانية عظيمة، ولكنها كذبت رسلها<br />
)1( رواه البخاري واأحمد يف مسنده.<br />
)2( توفيق حممد سبع )بدون تاريخ(، قيم حضارية يف القراآن الكرمي )ج1(، القاهرة، ص167.<br />
)3( للمزيد من التفاصيل ارجع اإىل:<br />
- زغلول النجار )1992(. اكتشاف مدينة اإرم ذات العماد التي حتدث عنها القراآن الكرمي منذ 14<br />
قرنا، جريدة الأهرام املصرية )1992/4/10(.<br />
- زغلول النجار )2002(، من اأسرار القراآن، جريدة الأهرام املصرية )2002/10/7(.<br />
32
وتشبثت بالكفر واأمعنت يف الظلم، فجعلها اهلل سبحانه وتعاىل بقدرته اأثرا<br />
بعد عني ول يخاف عقباها، فبادت كما بادت ما قبلها واإن تنوعت الوسيلة،<br />
، )1( { }<br />
اإنه الإهالك على اأي حال، وصدق اأمري الشعراء اأحمد شوقي حني ربط بني<br />
خراب العمران واملستوى الأخالقي للمجتمعات الإنسانية يف قوله )2( :<br />
وليس بعامر بنيان قوم اإذا اأخالقهم كانت خراباً<br />
ثانيا: تقوى اهلل اأساس املمارسات الإعمارية الصاحلة<br />
على اجلانب الآخر، يعطينا القصص القراآين مناذج يحتذى بها يف<br />
املمارسة الإعمارية الصاحلة التي تدعو اإىل سبيل احلق وعبادة الواحد<br />
الأحد، فها هي الآيات الكرمية تصف لنا الصرح »السليمانى« الذي اأقامه<br />
سيدنا سليمان لستقبال بلقيس ملكة سباأ يف قوله تعاىل: }<br />
{ )3( ، لقد كان هذا الصرح صحناً من زجاج حتته ماء وفيه احليتان<br />
لرييها ملكا اأعظم من ملكها. وحكى اأبو عبيدة: اأن الصرح كل بناءٍ عالٍ<br />
مرتفع عن الأرض، واأن املمرد املحكوك الأملس، ومنه الأمرد )4( .<br />
فالآية الكرمية السابقة توضح اأن سيدنا سليمان عليه السالم قد<br />
استخدم هذا الصرح املعماري، الذي يعكس قمة اجلمال والإبداع الفني،<br />
كوسيلة واأداة لدعوة ملكة سباأ الكافرة للدخول يف الإسالم والإميان باهلل،<br />
وفى هذا املقام يصبح »الصرح السليمانى« املبني من الزجاج حمموداً عند<br />
اهلل لسمو الغاية التي بني من اأجلها األ وهي الدعوة اإىل اهلل، يف حني اأن<br />
)1( سورة احلاقة: الآيتان 6. 5،<br />
)2( يحيى وزيري )1990(. خواطر الشيخ الشعراوي حول عمران املجتمع الإسالمي، مكتبة الرتاث<br />
الإسالمي، القاهرة، ص20.<br />
)3( سورة النمل : من الآية 44.<br />
)4( انظر تفسري الآية 44 من سورة النمل يف اجلامع لأحكام القراآن لالإمام القرطبي.<br />
33
الصرح »الفرعوين الهاماين« املبني من الآجر )الطني املحروق( مذموم<br />
عند اهلل؛ لأن الغاية من بنائه كانت السخرية والستهزاء من دعوة موسى<br />
والصد عن طريق احلق.<br />
ومن ذلك يتضح لنا معنى ومفهوم جليل يف عملية البناء واملمارسة<br />
الإعمارية، فالعربة دائما بالهدف والغاية من عملية البناء بغض النظر عن<br />
فخامة املبنى اأو وضاعته، اأو غنى املواد املستخدمة يف اإنشائه اأو فقرها،<br />
فالقضية ليست قضية مظهر خارجي بل هي اأعمق من ذلك، حيث ترتبط<br />
بالتصورات العتقادية للمعمرين والهدف من املمارسة الإعمارية نفسها،<br />
والتي على اأساسها ميكن احلكم على البنيان والعمران بالصالح اأو<br />
الفساد.<br />
ويف مقارنة اأخرى بني منوذجني لبنائني على عهد سيدنا اإبراهيم خليل اهلل<br />
يتضح لنا كيف يكون موقف السماء من املمارسات الإعمارية على الأرض،<br />
ففي احلالة الأوىل يرشد اهلل سبحانه وتعاىل سيدنا اإبراهيم ملكان البيت<br />
العتيق لريفع قواعده يف قوله تعاىل: }<br />
، )1( {<br />
اأما عن رفع قواعد البيت فيقول سبحانه وتعاىل: }<br />
{ )2( ، اإن<br />
الآيات الكرمية السابقة توحي اإلينا باأهمية ارتباط املمارسة الإعمارية<br />
بالعقيدة السليمة )األ تشرك بي شيئا( كشرط اأساسي، اإىل جانب التقوى<br />
والتواضع هلل جل ساأنه )ربنا تقبل منا(، ويف هذه احلالة فاإن السماء تُعْلي<br />
وتُبارك هذا البناء، شكل )3(.<br />
اأما يف حالة احلياد عن منهج اهلل، وهى احلالة التي متثل النموذج الثاين،<br />
)1( سورة احلج: الآية 26.<br />
)2( سورة البقرة: الآية 127.<br />
34
فاإن النتيجة احلتمية هي تدمري البنيان والعمران كعقاب وعذاب ولو بعد<br />
حني، ونلمح هذا املعنى يف قوله تعاىل: }<br />
{ )1( ، قال ابن عباس وزيد بن اأسلم وغريهما: »اإنه<br />
النمرود بن كنعان وقومه، اأرادوا صعود السماء وقتال اأهلها فبنوا الصرح<br />
ليصعدوا منه، ومعنى »فاأتى اهلل بنيانهم« اأي اأتى اأمره البنيان اإما زلزلة اأو<br />
ريحا فخربته« )2( .<br />
رسم تخيلى للكعبة املشرفة على عهد سيدنا اإبراهيم.<br />
)1( سورة النحل: الآية 26.<br />
)2( انظر تفسري الآية 26 من سورة النحل يف اجلامع لأحكام القراآن لالإمام القرطبى.<br />
35
شكل )3(: الكعبة املشرفة اأول بيت وضع للناس على الأرض.<br />
اإن املقارنة السابقة بني رفع واإعالء بنيان الكعبة املشرفة وتدمري بنيان<br />
النمرود لتوؤكد وتوضح موقف السماء الثابت من عمليات الإعمار على<br />
الأرض، فهي تبارك كل بنيان اأسس على تقوى اهلل من اأجل عمارة الأرض<br />
عمارة صاحلة فاضلة تيسر للبشر اأمور العبادة واملعيشة، كما تدمر اأو تعطل<br />
كل بنيان اأو عمران فاسد.<br />
36
اإن التقوى هي الأساس املعنوي لكل بنيان وعمران مصداقاً لقوله<br />
تعاىل: }<br />
{ )1( ، اأما بعد عمارة الأرض فال يجب اأن نفتنت باملساكن<br />
والدور والعشرية والأموال، بحيث تصبح اأحب اإلينا من طاعة اهلل ورسوله<br />
واجلهاد يف سبيله، واإل ل نكون قد اعتربنا مبا حدث لالأمم املذكورة يف<br />
قصص القراآن، لذلك يحذرنا اهلل سبحانه وتعاىل من هذا بقوله: }<br />
. )2( {<br />
ثالثا: الغاية من اإقامة املدن والقرى<br />
يف عصرنا احلديث تبنى املدن اأو تقام التجمعات العمرانية اجلديدة<br />
من اأجل توفري واإيجاد املساكن والبيوت خاصة للشباب، وبخاصة املتزوجني<br />
حديثا اأو املقبلني على الزواج، وهو هدف طيب ل غبار عليه، ولكن يف الروؤية<br />
القراآنية فاإن الغاية من اإقامة املدن والتجمعات العمرانية اجلديدة هي غاية<br />
اأكرث سموا ورقيا ول تنحصر فقط يف اإيجاد املزيد من البيوت واملساكن.<br />
ففي ملمح قراآين يتاأكد لنا اأن الغاية من اإعمار الأرض واإقامة املجتمعات<br />
العمرانية واملدن هو عبادة اهلل سبحانه وتعاىل واإقامة الصالة، يقول<br />
)1( سورة التوبة: الآية 109.<br />
)2( سورة التوبة: الآية 24.<br />
37
}<br />
اهلل سبحانه وتعاىل على لسان سيدنا اإبراهيم اأبي الأنبياء:<br />
{ )1( ، فالغرض الأساسي من اإسكان سيدنا اإبراهيم لزوجته<br />
هاجر وابنه اإسماعيل عند البيت احلرام هو اإقامة الصالة، والصالة هنا<br />
هي رمز واأساس لكل العبادات الأخرى، فمن اأقام الصالة فقد اأقام الدين،<br />
ومن هدمها فقد هدم الدين كما علمنا رسولنا الكرمي عليه اأفضل الصالة<br />
والتسليم، ثم بعد ذلك تاأتي بقية الأهداف من اإقامة التجمعات العمرانية<br />
من توفري املاأوى وفرص العمل لالأجيال اجلديدة.<br />
ثم نلمح من الآية الكرمية السابقة اأن اأساس الإسكان والتجمع هو وجود<br />
بيت اهلل احلرام يف هذا الوادي الذى ليوجد فيه زرع وبالتبعية اأيضا ليوجد<br />
به ماء، وكاأن الآية الكرمية تلفت النظر اأن بداية واأساس اأي جتمع عمراين<br />
هو وجود املسجد اأول.<br />
اإن فكرة وجود املسجد )اأو املساجد( كاأساس لإقامة التجمع العمراين،<br />
سواء كان قرية اأو مدينة، تتاأكد اأيضا من تاأمل قوله تعاىل:{<br />
{ )2( ، فلقد اأشارت الآية<br />
الكرمية اإىل املسجد احلرام وهو اأساس التجمع العمراين يف اأم القرى مكة<br />
املكرمة، شكل )4(، واإىل اأن املسجد الأقصى اأساس التجمع العمراين يف<br />
بيت املقدس، شكل )5(.<br />
)1( سورة اإبراهيم: الآية 37.<br />
)2( سورة الإسراء: الآية 1.<br />
38
كما اأشارت اآية كرمية اأخرى اإىل اأن اأساس التجمع العمراين للمسلمني يف<br />
املدينة املنورة قد بداأ ببناء املساجد اأول، وهو ما حدث بالفعل بعد هجرة<br />
الرسول عليه الصالة والسالم مباشرة اإىل »يرثب«، فقد كان اأول ما فعله<br />
عليه الصالة والسالم اأن قام ببناء مسجد »قباء«، ثم بعد ذلك مسجده<br />
عليه الصالة والسالم باملدينة املنورة، شكل )6(، لذلك فاإن اهلل سبحانه<br />
وتعاىل اأمره بعدم الصالة يف مسجد »الضرار« الذي بناه املنافقون ضراراً<br />
ملسجد قباء الذي اأُسس بنيانه على التقوى، مصداقاً لقوله تعاىل: }<br />
. )1( {<br />
وقد ورد يف احلديث الشريف عن اأبي بن كعب اأن النبي [ قال )2( : »املسجد<br />
الذي اأسس على التقوى مسجدي هذا«، ول تعارض هنا بني الآية واحلديث،<br />
لأنه اإذا كان مسجد قباء قد اأسس على التقوى من اأول يوم، فمسجد الرسول<br />
عليه الصالة والسالم اأوىل واأحرى اأن يوصف بذلك اأيضا.<br />
)1( سورة التوبة: الآية 108.<br />
)2( تفرد به الإمام اأحمد يف مسنده.<br />
39
شكل )4(: املسجد احلرام هو اأساس التجمع العمراين يف مكة املكرمة.<br />
شكل )5(: املسجد الأقصى هو اأساس التجمع العمراين مبدينة القدس.<br />
40
شكل )6(: مسجد املدينة هو اأساس التجمع العمراين يف املدينة املنورة.<br />
لقد اأوضح القصص القراآين اأن الأساس الذى اأقيمت عليه املدن الثالث<br />
املقدسة عند املسلمني، مكة املكرمة وبيت املقدس واملدينة املنورة، هو وجود<br />
املساجد الثالثة التي تشد اإليها الرحال، وهي: املسجد احلرام واملسجد<br />
الأقصى ومسجد الرسول عليه الصالة والسالم، وذلك من اأجل اإقامة<br />
الصالة وعبادة الواحد الأحد.<br />
لقد فهم املسلمون الأوائل اأن عمارة الأرض وتاأسيس املدن والأمصار عمل<br />
تعبدي يف املقام الأول، الهدف منه اإقامة شرائع الدين وسنن النبيني، وهذه<br />
املعاين وغريها جندها يف دعاء اإدريس الثاين )عام 192هجرية( عند قيامه<br />
ببناء مدينة »فاس« باملغرب، شكل )7(، يف قوله )1( : »اللهم اإنك تعلم اأين ما<br />
اأردت ببناء هذه املدينة مباهاة ول مفاخرة ول رياء ول سمعة ول مكابرة،<br />
واإمنا اأردت اأن تعبد بها ويتلى كتابك، وتقام بها حدودك وشرائع دينك وسنة<br />
)1( البخالخي اأحمند )1994(، فاس ومراكش..مدن لها تاريخ، جملة املنهل- عدد 519، جدة،<br />
ص264.<br />
41
نبيك ما بقيت الدنيا..، اللهم وفق سكانها وقطانها للخري، واأعنهم واكفهم<br />
موؤونة اأعدائهم وادرر عليهم الأرزاق، واغمد عنهم سيف الفتنة والشقاق،<br />
اإنك على كل شيء قدير«. هكذا قراأ املسلمون الأوائل اآيات القراآن وقصصه<br />
فتدبروها وفهموها واتعظوا مبا حدث لالأمم الغابرة، وعرفوا اأن الغاية من<br />
العمران والبنيان اأن يكون يف خدمة الدين واإقامة شرائعه وحدوده، دون<br />
فخر اأو مباهاة اأو مكابرة.<br />
اإن الشاهد الأساسي من كل ما سبق اأن طاعة اهلل ورسله عليهم اأفضل<br />
الصالة والسالم هي اأكرب ضمان واأعظم حافظ للبنيان والعمران من<br />
اخلراب والهالك، واأن العتبار مبا حدث لالأمم السابقة املكذبة التي ظلمت<br />
نفسها بالكفر وعدم طاعة اهلل واجب علينا ونحن نعمر الأرض، كما اأن تقوى<br />
اهلل هي الأساس املعنوي الذي يجب اأن تقام عليه املدن، والأمصار، واأن<br />
الفتتان باملساكن والبيوت اأمر مرفوض من وجهة نظر القراآن، لأنها وسيلة<br />
وليست غاية.<br />
لقد فهم املسلمون الأوائل املعاين السامية اجلليلة التي وردت يف اآيات<br />
القراآن الكرمي اخلاصة بعمارة الأرض، فكانوا حريصني على التنبيه عليها<br />
وتطبيقها بقدر املستطاع، فعلى سبيل املثال نورد هنا خطبة جليلة لأبي<br />
الدرداء وجهها اإىل اأهل دمشق يف عصور سابقة، ملا راأى ما اأحدثه املسلمون<br />
يف الغوطة من البنيان ونصب الأشجار، وما ورد يف هذه اخلطبة ينطبق على<br />
الكثري من املمارسات الإعمارية املنتشرة حاليا يف املجتمعات الإسالمية<br />
املعاصرة، فقام يف مسجدهم فنادى يا اأهل دمشق، فحمد اهلل واأثنى عليه،<br />
ثم قال )1( : »األ تستحيون، األ تستحيون، جتمعون ما ل تاأكلون، وتبنون ما<br />
ل تسكنون، وتاأملون ما ل تدركون، قد كانت قبلكم قرون يجمعون فيوعون،<br />
ويبنون فيوثقون، وياأملون فيطيلون، فاأصبح اأملهم غرورا، واأصبح جمعهم<br />
)1( توفيق حممد سبع )1984(، قيم حضارية يف القراآن الكرمي، دار املنار، القاهرة، )ج1(،<br />
ص159.<br />
42
بورا، واأصبحت مساكنهم قبورا، األ اإن عادَّا ملكت ما بني عدنان وعمان<br />
خيال وركابا، من يشرتى مني مرياث عاد بدرهمني«.<br />
هذه هي بعض ضوابط العمران والبنيان املستنبطة من بعض ما ورد يف<br />
القصص القراآين، تنري طريق املسلمني يف كل زمان ومكان وتضع اأمامهم<br />
الثوابت الواجب اتباعها عند عمارة الأرض، حتى ل ينبهروا باملظاهر الكاذبة<br />
للمدنيات واحلضارات السابقة اأو احلالية والتي اتخذت من العمران رمزاً<br />
للتفاخر والتكرب لفساد عقيدتهم وابتعادهم عن الطريق القومي، ولتكون<br />
املمارسات الإعمارية الصاحلة التي اأساسها تقوى اهلل هي السائدة يف<br />
املجتمعات الإسالمية، والسبيل لرضاه ونيل السعادة يف الدارين.<br />
شكل )7(: مدينة فاس باملغرب.<br />
43
املبحث الثاين<br />
اأنواع املباين واملصطلحات املعمارية يف القراآن<br />
يلفت نظر املتاأمل والدارس لسور واآيات القراآن الكرمي يف جمال عمران<br />
وعمارة الأرض اأمران مهمان: اأولهما: شمولية حصر الآيات القراآنية للعديد<br />
من اأنواع املباين املعمارية على اختالفها وتعددها، وثانيهما: دقة التفرقة<br />
بني املفاهيم واملصطلحات العمرانية واملعمارية.<br />
لذلك، فقد راأينا اأن يتم تخصيص هذا املبحث لإظهار وتوضيح هذين<br />
الأمرين، كاأحد اأسس علوم العمران والبنيان التي وردت يف القراآن الكرمي،<br />
لقد صدق اهلل العظيم حيث يقول يف حمكم اآياته: }<br />
اأول: شمولية حصر اأنواع املباين املعمارية<br />
. )1( » {<br />
من املعروف اأن الأنشطة الإنسانية املختلفة حتتاج اإىل مبانٍ خمتلفة<br />
يتم ممارسة هذه الأنشطة فيها، ومن الالفت للنظر اأن القراآن الكرمي قدم<br />
حصرا لأهم نوعيات املباين على اختالف وظائفها من خالل اآيات كرمية<br />
جاءت يف سور متعددة، وهو ما يعترب اأحد جوانب اإعجاز القراآن الكرمي يف<br />
هذا املجال، وفيما يلي توضيح لذلك:<br />
1- مباين العبادة:<br />
مل يغفل القراآن الكرمي عن ذكر اأنواع مباين العبادة املختلفة عند اأهل<br />
الشرائع السماوية، وهم اليهود والنصارى واملسلمني، حيث يقول سبحانه<br />
وتعاىل: }<br />
)1( سورة الكهف: الآية 54.<br />
44
{ )1( ، اأي لول هذا الدفع لهدم يف زمن<br />
سيدنا موسى »الصلوات «، وفى زمن سيدنا عيسى »الصوامع« و»البيع«، وفى<br />
زمن سيدنا حممد عليه الصالة والسالم »املساجد«.<br />
والصوامع جمع صومعة وهي بناء مرتفع، وكانت قبل الإسالم خمتصة<br />
برهبان النصارى وبعبَّاد الصابئني. قال قتادة: ثم استعمل يف مئذنة<br />
املسلمني، والبيع جمع بيعة وهي كنيسة النصارى، والصلوات هي كنائس<br />
اليهود، فعلى ذلك فالصوامع للرهبان والبيع للنصارى، والصلوات لليهود،<br />
واملساجد للمسلمني )2( .<br />
اأما بالنسبة اإىل املساجد، فقد ورد ذكر لفظ »املسجد« معَّرفا يف اآيات<br />
القراآن الكرمي نحو سبعة عشر مرة، منها خمسة عشر مرة جاء لفظ<br />
املسجد موصوفا »باحلرام «اأي »املسجد احلرام » )3( ، وهو ما يدل على اأنه<br />
اأهم مساجد الأرض على الإطالق واأعظمها قدسية ومكانة، ومما يوؤكد ذلك<br />
اأنه اأول بيت وضع للناس على الأرض يقول سبحانه وتعاىل: }<br />
. )4( {<br />
وعن الشعبي عن علي رضي اهلل عنه قال: »كانت البيوت قبلة، ولكنه اأول<br />
بيت وضع لعبادة اهلل«، وزعم السدي اأنه اأول بيت وضع على وجه الأرض<br />
مطلقا، والصحيح قول علي رضي اهلل عنه )5( .<br />
2- مباين السكن والإيواء:<br />
الإنسان بطبيعته البشرية ل يستطيع اأن يعيش يف احلياة بدون ماأوى<br />
)1( سورة احلج: من الآية 40.<br />
)2( انظر تفسري الآية 40 من سورة احلج يف اجلامع لأحكام القراآن لالإمام القرطبي.<br />
)3( يحيى وزيري ( التعمري يف القراآن والسنة(: مرجع سابق، ص104.<br />
)4( سورة اآل عمرن: الآية 96.<br />
)5( انظر: كتاب »فتح الباري شرح صحيح البخاري » لالإمام ابن حجر العسقالنى، واأيضا: يحيى<br />
وزيرى، املرجع السابق، ص105.<br />
45
يبيت فيه، ليسرتيح من عناء العمل، كما يلجاأ اإليه ليحميه من الربد واحلر<br />
والظروف املناخية الصعبة، لذلك فاإن البيوت واملساكن تعترب اإحدى النعم<br />
التي مَ نَّ اهلل سبحانه وتعاىل بها على البشر، ويف هذا املعنى يقول اهلل جل<br />
يف عاله: }<br />
. )1( {<br />
فالآية الكرمية السابقة من سورة النحل فيها تعديد لنعم اهلل تعاىل على<br />
الناس يف البيوت، فذكر سبحانه وتعاىل بيوت املدن وهى الإقامة الطويلة،<br />
وقوله »سكنا« اأي تسكنون فيها وتهداأ جوارحكم من احلركة، ثم ذكر بعد ذلك<br />
بيوت النقلة والرحلة وهي »وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا تستخفونها«،<br />
اأي من الأنطاع والأدم بيوتا، يعني اخليام والقباب يخف عليكم حملها يف<br />
الأسفار، وقال اأبو زيد الأنصاري: »اأثاثا« الأثاث متاع البيت واحدها اأثاثه،<br />
وقال الأموي: الأثاث متاع البيت وجمعه اآثه واأثث، اأي جعل لكم من صوف<br />
الغنم ووبر الإبل وشعر املاعز ما تلبسون وتفرشون وتتمتعون اإىل حني املوت<br />
اأو اأن تبلى )2( .<br />
اأي اإن الآية الكرمية ذكرت بيوت املدن والقرى الثابتة، وبيوت البدو<br />
املتنقلة واملتمثلة يف اخليام والقباب، ثم تاأتي اآيات كرمية اأخرى لتوضح اأن<br />
من الأشكال الطبيعية ما ميكن اتخاذه كماأوى اأو بيت، كما يف قوله تعاىل:<br />
} { )3( ، كما اأخرب سبحانه وتعاىل عن اتخاذ<br />
قوم ثمود من اجلبال بيوتا يف قوله: }<br />
{ )4( ، كما تشري اإحدى اآيات سورة الكهف اإىل جلوء الفتية<br />
)1( سورة النحل: الآية 80.<br />
)2( انظر تفسري الآية 80 من سورة النحل يف اجلامع لأحكام القراآن لالإمام القرطبي.<br />
)3( سورة الكهف: من الآية 63.<br />
)4( سورة احلجر: الآية 82.<br />
46
املوؤمنني اإىل هذا الكهف العجيب احتماء به من اأهل الكفر، حيث يقول<br />
سبحانه وتعاىل: }<br />
{ )1( ، وتشري الآية<br />
الكرمية اإىل الكهوف والغريان كاأحد اأشكال املاأوى الطبيعية التي ميكن اأن<br />
ياأوي اإليها البشر.<br />
اإن كتب ومراجع تاريخ العمارة والآثار )2( توضح اأن البشر يف مراحل زمنية<br />
معينة من التاريخ، خاصة قبل انتشار القرى واملدن والتجمعات العمرانية،<br />
كانوا يتخذون من الأشكال الطبيعية كالصخور اأو اجلبال اأو الكهوف ماأوى<br />
ومسكناً يعيشون فيه، شكل)8(.<br />
3- املباين الدفاعية واحلربية:<br />
جاء ذكر العديد من عناصر ومباين العمارة الدفاعية يف بعض الآيات<br />
القراآنية، نفصلها فيما يلي:<br />
اأ- الربوج املشيدة: وهى احلصون املنيعة، يقول اهلل سبحانه وتعاىل:<br />
} { )3( ، والبرج يف<br />
املباين واحلصون الدفاعية عبارة عن عنصر معماري الغرض منه دعم<br />
اأسوار املدن اأو القالع اأوالقصور بغرض زيادة فاعلية هذه العناصر من<br />
الناحية الدفاعية، وتزود هذه الأبراج عادة بغرف علوية صغرية لقذف<br />
النار، كما تزود مبزاغل راأسية لرمي السهام ومزاغل اأفقية لصب السوائل<br />
املحرقة )4( ، شكل .)9(<br />
)1( سورة الكهف: اآية 16.<br />
)2( انظر على سبيل املثال: ثيا وريتشارد برجيز )ترجمة:حممد توفيق حممود( )1962(. من<br />
احلجارة اإىل ناطحات السحاب. دار النهضة العربية، القاهرة، ص 9،8.<br />
)3( سورة النساء: من الآية 78.<br />
)4( يحيى وزيري )1985(: العمارة الإسالمية احلربية وتاأثريها على العمارة املعاصرة، جملة<br />
عامل البناء- عدد 62، مركز الدراسات التخطيطية واملعمارية، القاهرة، ص19.<br />
47
ب- احلصون: يقول اهلل سبحانه وتعاىل:{<br />
{ )1( ، فاهلل جل وعال<br />
هو الذي اأخرج يهود بني النضري من مساكنهم باملدينة املنورة، اأي يف اأول<br />
مرة حشروا واأخرجوا فيها من جزيرة العرب اإىل الشام، وظنوا اأن حصونهم<br />
احلصينة متنعهم من باأس اهلل )2( ، والشاهد يف الآية الكرمية ذكر احلصون<br />
باعتبارها اأهم عناصر العمارة الدفاعية يف جمال العمارة احلربية.<br />
شكل )10(.<br />
)1( سورة احلشر: من الآية 2.<br />
)2( يحيى وزيري )التعمري يف القراآن والسنة(: مرجع سابق، ص141.<br />
48
شكل )8(: بعض اأنواع املاأوى التي كان يلجاأ اإليها الإنسان قبل ظهور التجمعات العمرانية، ومنها<br />
املاأوى الطبيعي كالكهوف واجلبال والصخور التي جاء ذكرها يف القراآن الكرمي.<br />
49
شكل )9(: اأبراج يف سور قلعة نخل بسلطنة عمان.<br />
شكل )10(: قلعة نخل من اأجمل قالع املنطقة الداخلية بسلطنة عمان.<br />
50
ج- الأسوار الدفاعية:<br />
تعترب الأسوار من اأهم التحصينات احلربية سواء على مستوى املدن اأو<br />
املباين اأو احلصون، فهي خط الدفاع الأول؛ لأن املهاجمني اإذا متكنوا من<br />
اقتحام اأسوار املدينة والنفاذ منها اإىل الداخل، فاإن هذا يعني متكنهم من<br />
الستيالء على باقي املدينة )اأو احلصن( بسهولة ويسر.<br />
ولقد ورد ذكرُ السد الذي بناه ذو القرنني باعتباره اأحد مناذج العمارة<br />
الدفاعية التي اأعطى القراآن الكرمي وصفا دقيقا له يف سورة الكهف، يقول<br />
اهلل تعاىل: }<br />
. )1( {<br />
الردم هو السد، والردم ما جعل بعضه على بعض حتى يتصل، وقيل<br />
الردم اأبلغ من السد، اإذ السد ما يسد به والردم وضع الشيء من حجارة اأو<br />
تراب اأو نحوه حتى يقوم من ذلك حجاب منيع.<br />
ومن الآيات القراآنية التي تتحدث عن مناذج للجدر الدفاعية قوله تعاىل:<br />
} { )2( ، ذكر ابن<br />
كثري ما خمتصره )3( : »يعنى اأنهم من جبنهم وهلعهم )يقصد اليهود(،<br />
ليقدرون على مواجهة جيش الإسالم، بل اإما يف حصون اأو من وراء جدر<br />
حماصرين، فيقاتلون للدفع عنهم ضرورة«.<br />
)1( سورة الكهف: الآيات من 95 اإىل 97.<br />
)2( سورة احلشر: من الآية 14.<br />
)3( انظر تفسري الآية 14 من سورة احلشر يف تفسري القراآن العظيم لالإمام ابن كثري.<br />
51
والشاهد يف الآية الكرمية السابقة ذكر القرى املحصنة، واجلدر اأي<br />
الأسوار الدفاعية.<br />
4- املباين العامة:<br />
يقول اهلل سبحانه وتعاىل: }<br />
، )1( {<br />
وفى الآية الكرمية اإباحة رفع الستئذان يف كل بيت ل يسكنه اأحد، لأن العلة<br />
يف الستئذان اإمنا هي لأجل خوف الكشفة على احلرمات، فاإذا زالت العلة<br />
زال احلكم )2( .<br />
وفى سبب نزول هذه الآية الكرمية روي عن اأبى بكر رضي اهلل عنه اأنه<br />
قال: »يا رسول اهلل، اأفراأيت اخلانات واملساكن يف طرق الشام ليس فيها<br />
ساكن« فاأنزل اهلل تعاىل: »ليس عليكم جناح اأن تدخلوا بيوتا غري مسكونة » )3( ،<br />
واملتاع املذكور هو النتفاع، فالطالب يدخل اخلانكات وهي املدارس لطلب<br />
العلم، والساكن يدخل اخلانات وهي الفنادق، والزبون يدخل الدكان<br />
لالبتياع، واحلاقن يدخل اخلالء للحاجة )4( .<br />
فالآية السابقة تشري اإىل املباين العامة ودور الضيافة واملدارس وما<br />
شابهها، واأنه لينطبق عليها ما ينطبق على البيوت السكنية من اأهمية<br />
مراعاة الستئذان وعوامل اخلصوصية، لأنها مباين عامة تخدم كل اأفراد<br />
املجتمع.<br />
ولقد ورد يف بعض الآيات القراآنية الأخرى ذكرُ بعض مناذج من املباين<br />
العامة واملتنوعة، نحاول اأن نلقي الضوء عليها فيما يلي:<br />
)1( سورة النور: الآية 29.<br />
)2( يحيى وزيري )التعمري يف القراآن والسنة(: مرجع سابق، ص134.<br />
)3( انظر تفسري الآية 29 من سورة النور يف اجلامع لأحكام القراآن لالإمام القرطبي.<br />
)4( املرجع نفسه.<br />
52
اأ- الأسواق: الأسواق عبارة عن جمموعة من الدكاكني مفتوحة على<br />
جانبي الطريق، وكان لكل صناعة وجتارة سوق خاصة، فهناك ما هو<br />
للصائغني اأو النحاسني، وقد تكون السوق مسقوفة بكاملها اأو مبجموعة من<br />
دكاكينها يف بناء كبري واحد كاخلان اأو الوكالة )1( ، شكل )11(.<br />
وقد ورد ذكر الأسواق يف قوله تعاىل: }<br />
، )2( {<br />
وقد جاء ذكر السوق يف غري حديث، ذكره اأهل الصحيح، وجتارة الصحابة<br />
معروفة خاصة املهاجرين، كما قال اأبو هريرة: « اإخواننا من املهاجرين كان<br />
يشغلهم الصفق« )التبايع بالأسواق( )3( .<br />
ب- اخلانات وحمطات القوافل:<br />
من املباين العامة التي ورد ذكرها يف القراآن الكرمي حمطات القوافل<br />
التجارية اأو اخلانات، وهي لفظة فارسية اأطلقت على مكان مبيت املسافرين،<br />
ونلمح هذه الإشارة يف قوله سبحانه وتعاىل: }<br />
. )4( {<br />
اأي جعلنا بني بالد »سباأ« وبني قرى الشام التي باركنا فيها للعاملني قرى<br />
متصلة من اليمن اإىل الشام، يرى بعضها من بعض لتقاربها، ظاهرة لأبناء<br />
السبيل، وقلنا لهم سريوا بني هذه القرى متى شئتم ل تخافون يف ليل ول<br />
نهار، قال الزخمشرى: »كان الغادي منهم يقيل يف قرية، والرائح يبيت يف<br />
قرية اإىل اأن يبلغ الشام » )5( .<br />
)1( عبد الرحيم غالب )1988(: موسوعة العمارة الإسالمية، جروس برس، بريوت، ص231.<br />
)2( سورة الفرقان: الآية 7.<br />
)3( اأخرجه البخاري.<br />
)4( سورة سباأ: الآية 18.<br />
)5( انظر تفسري الآية 18 من سورة سباأ يف صفوة التفاسري ملحمد علي الصابوين.<br />
53
ويف الآية اإشارة اإىل حمطات القوافل التجارية واخلانات التي توجد على<br />
طرق القوافل التجارية اأثناء سفرهم للتجارة والرتحال، حيث كان ياأوي<br />
التجار اإىل هذه القرى الظاهرة املعروفة للخانات اأو املباين املخصصة<br />
للغرباء، وذلك من اأجل الراحة اأو التزود باملاء واملوؤن التي تعني املسافرين<br />
والتجار على استكمال رحلتهم من بلد اإىل اآخر.<br />
ج- السجون:<br />
السجون جمع سجن وهو املحبس، وقد كان يف كل مدينة سجن واحد اأو<br />
اأكرث مستقل البناء اأو ملحق بسور اأو برج اأو قلعة )1( ، وقد جاء ذكر السجن يف<br />
قوله تعاىل: }<br />
. )2( {<br />
)1( يحيى وزيري )التعمري يف القراآن والسنة(: مرجع سابق، ص138.<br />
)2( سورة يوسف: الآية 42.<br />
54
شكل )11(: وكالة الغورى اململوكية بالقاهرة من اخلارج والداخل.<br />
55
ثانيا: الدقة يف التفرقة بين املصطلحات املعمارية<br />
والعمرانية<br />
تزخر اآيات القراآن الكرمي بالعديد من املصطلحات والعناصر املعمارية<br />
والعمرانية، وهي توضح اأحد مالمح الإعجاز القراآين يف تفسري املفهوم<br />
الدقيق لكل عنصر، والفرق بينه وبني العناصر الأخرى.<br />
وسنحاول يف هذا املحور من البحث اأن نعطي اأمثلة متعددة لتوضيح<br />
دقة وعظمة القراآن يف هذا الساأن، وفيما يلي تفصيل لعناصر العمران كما<br />
استنبطها بعض الباحثني من اآيات القراآن الكرمي )1( ، )2( :<br />
- البيت: اإن معنى البيت هو البناء الذي له رب واحد يتصرف فيه كيف<br />
شاء، لذلك سميت الكعبة بيت اهلل احلرام، وكذلك سميت املساجد بيوت<br />
اهلل، والبيت كلفظ مفرد ومعرف يعرب عن بيت اهلل احلرام مبكة املكرمة كما<br />
ورد يف اآيات القراآن الكرمي، يقول تعاىل: }<br />
، )3( {<br />
{ )4( ، وقوله تعاىل:<br />
وقوله تعاىل: }<br />
. )5( { }<br />
والبيت يف معناه اللغوي يعرب عن الستقرار والدميومة، كما يعرب عن<br />
ملكيته لأسرة واحدة تبيت فيه، وميكن اأن نستلهم هذا املفهوم من قوله<br />
تعالى: } { ( )6 ،<br />
)1( عبد العزيز عبد اهلل اأبا اخليل )1989(: الكتاب والسنة اأساس تاأويل العمارة الإسالمية، ج1 ص<br />
16 وما بعدها، شركة مطابع جند التجارية، الرياض، .<br />
)2( حممود حسن نوفل )2003(: العمران والبيئة من منظور اإسالمي، اأبحاث موؤمتر الجتهاد يف<br />
قضايا الصحة والبيئة والعمران، كلية الشريعة والدراسات الإسالمية- جامعة الريموك، الأردن.<br />
)3( سورة قريش: الآية 3.<br />
)4( سورة البقرة: من الآية 127.<br />
)5( سورة البقرة: من الآية 125.<br />
)6( سورة الأحزاب: من الآية33.<br />
56
وفى الآية الكرمية اأمر لنساء النبي عليه الصالة والسالم بالستقرار<br />
واملكوث يف بيوتهن، كما قال تعاىل: } { 1( ،<br />
وهى اإشارة اأيضا اإىل وجوب استقرار املطلقات يف البيوت حتى تنتهي<br />
عدتهن، لذلك قال املوىل عز وجل: »من بيوتهن« ومل يقل »من بيوتكم«.<br />
والبيت يعرب عن كيان مادي منساأ، ويظهر ذلك من قوله تعاىل:<br />
} { )2( ، واأيضا قول السيدة<br />
{ )3( ، فالنحت<br />
اآسية امراأة فرعون: }<br />
والبناء من وسائل البناء املادي.<br />
كما اأن للبيوت حرمة وخصوصية معتربة، يتضح ذلك من قوله تعاىل:<br />
}<br />
{ )4( ، شكل .)12(<br />
كما تعود كلمة بيت على ماأوى كل املخلوقات سواء الإنسان اأو احليوان، كما<br />
يف قوله تعاىل: }<br />
. )5( {<br />
- املسكن: سكن الشيء سكونا ذهبت حركته وقر استقر وثبت، واملسكن<br />
يف اللغة من سكن السكون بعد احلركة، وهو مبعنى اأن يكون البناء قد اأقيم<br />
على اأرض جديدة اأو موطن جديد بعد اأن مت النتقال من املوطن الأصلي اإىل<br />
موطن جديد، يقول تعاىل: }<br />
. )6( {<br />
)1( سورة الطالق: من الآية 1.<br />
)2( سورة احلجر: الآية 82.<br />
)3( سورة التحرمي: من الآية 11.<br />
)4( سورة النور: الآية 27.<br />
)5( سورة النحل: الآية 68.<br />
)6( سورة اإبراهيم: من الآية 37.<br />
(<br />
57
لقد كان للقراآن الكرمي السبق يف التحديد املبكر ملعنى البيت واملسكن،<br />
واأن البيت ليس كاملسكن، حيث يقول جل يف عاله:{<br />
{ )1( ، فاهلل هو الذى جعل البيت مسكنا، وورود البيت قبل املسكن فيه<br />
اإشارة واضحة اإىل اأنه لكي يصبح البيت سكنا فهو بحاجة اإىل فرتة من<br />
الزمن حتى يتحقق الرتباط الذهني بني الساكنني والوسط الفيزيائي الذي<br />
هو البيت، وعند اإسقاط هذا الإيضاح القراآين على اجلدل القائم باللغة<br />
الإجنليزية جند اأن البيت يتطابق مع كلمة )House( بينما املسكن،<br />
يتطابق مع كلمة .)Home(<br />
اإن البيت هو الوسط الفيزيائي للمسكن ول يعد البيت مسكنا اإل اإذا حدثت<br />
العالقة احلميمية التي يشري اإليها القراآن من خالل فعل السكن الذي هو<br />
عالقة اجتماعية زمنية، وهذا ما توؤكده اإشارة اأخرى يف القراآن الكرمي حيث<br />
، )2( {<br />
يقول سبحانه وتعاىل:{<br />
)1( سورة النحل: من الآية 80.<br />
)2( سورة النور: من الآية 29.<br />
58
جانب من الواجهات املطلة على فناء بيت السحيمي بالقاهرة القدمية.<br />
واجهة املقعد املطل على فناء بيت السناري بالسيدة زينب بالقاهرة.<br />
شكل )12(: مناذج لبيوت ومساكن اإسالمية قدمية متتاز بتوفري اخلصوصية لقاطنيها.<br />
59
ويف الآية الكرمية اإشارة واضحة اإىل اأن البيت ل يعد سكنا اإذا فرغ من<br />
ساكنيه ويفقد قيمته كوسط له حرمته وخصوصيته، اإن املسكن يحمل معنى<br />
اإنسانيا اأكرث من البيت )1( .<br />
ومن الإشارات واملعاين التي وردت يف القراآن الكرمي ملفهوم املسكن اأنه<br />
البيت املهجور، فيقول سبحانه وتعاىل:{<br />
{ )2( ، واملقصود<br />
هنا مساكن الأوليني املهجورة التي يجوب فيها من جاء بعدهم للعظة<br />
والعتبار، كما ورد اأيضا يف نفس املعنى قوله تعاىل: }<br />
. )3( {<br />
- املنزل: من الفعل نزل، والنزول هو الهبوط من اأعلى اإىل اأسفل، فهو<br />
يعني املهبط اأو املقر الأخري، واملنزل هو املكان الذي يتوفر فيه الفضل<br />
والعطاء والربكة، يقول سبحانه وتعاىل: }<br />
. )4( {<br />
وجمع منزل منازل، مبعنى موقع ومواقع ومما يوؤكد ذلك قوله تعاىل:<br />
{ )5( ، وقوله<br />
} { )6( .<br />
تعاىل: } - الدار: الدار من دار يدور من كرثة حركات الناس فيها، فهي تدل<br />
)1( مشارى عبد اهلل النعيم )2001(: من املربع اإىل العذيبات.. روؤى واأفكار يف العمارة السعودية،<br />
كتاب الرياض- عدد94، موؤسسة اليمامة الصحفية، الرياض، ص113.<br />
)2( سورة طه: الآية 128.<br />
)3( سورة القصص: من الآية 58.<br />
)4( سورة املوؤمنون: الآية 29.<br />
)5( سورة يونس: من الآية 5.<br />
)6( سورة يس: الآية 39.<br />
60
على كرثة عددهم وهو ما يحيط بسكانه، وهو يعني جميع ما يف املوقع من<br />
عناصر البناء والفناء، وهو مكان يشغله اأناس من عدة اأجناس، وقد سمى<br />
اهلل سبحانه وتعاىل الآخرة بالدار: } { 1( ،<br />
كما سمى اجلنة بالدار: } { )2( .<br />
كما تعني الدار البلد، ولهذا سمي البناء داراً لكرثة سكانها وتعددهم كما<br />
يتعدد سكان البلد، يقول تعاىل: }<br />
{ )3( ، واملقصود بالدار يف الآية الكرمية املدينة املنورة،<br />
كما يقول سبحانه وتعاىل اأيضا:{<br />
{ )4( ، واملقصود هنا قوم ثمود، ودارهم املعنية هي قريتهم.ومما سبق<br />
يتبني لنا اأن عمر الدار اأطول من عمر املسكن.<br />
- البناء والبنيان: البناء هو كل منساأ مرتفع عن الأرض، والدليل اأن<br />
البناء معناه الرتفاع اإىل اأعلى لقوله سبحانه وتعاىل فيما يحكى عن فرعون:<br />
} { )5( ، ويوؤكد ذلك<br />
اأيضا اأن البناء يكون طبقات اإىل اأعلى حيث يقول سبحانه وتعاىل: }<br />
. )6( {<br />
ومرادف كلمة بناء يف القراآن الكرمي بنيان، يقول اهلل سبحانه وتعاىل:<br />
} { )7( ، وقد تاأتى للتعبري عن البناء<br />
)1( سورة غافر: من الآية39.<br />
)2( سورة النحل: من الآية 30.<br />
)3( سورة احلشر: من الآية 9.<br />
)4( سورة هود: من الآية 65.<br />
)5( سورة غافر: الآية 36.<br />
)6( سورة الزمر: من الآية20.<br />
)7( سورة الكهف: من الآية 21.<br />
(<br />
61
يف معناه الأفقي حيث يقول سبحانه وتعاىل: }<br />
{ )1( ، ثم ياأتي وصف قراآين ليوضح<br />
اأن البنيان عبارة عن منساأ متكامل له قواعد وسقف وبالتايل حوائط، حيث<br />
يقول سبحانه وتعاىل: }<br />
. )2( {<br />
- القصر: القصر يف اللغة يعني البيت الفخم الواسع، وهو مقصور على<br />
ساكن واحد واأسرة واحدة، وقد وصف اهلل تعاىل قوم ثمود بالغنى والرثاء<br />
يف قوله: }<br />
{ )3( ، كما ورد اإيضاح<br />
الفخامة يف وصف القصر يف موضع اآخر من القراآن الكرمي يف قوله تعاىل:<br />
} { )4( ، حيث تدل كلمة »مشيد« على الفخامة واملغالة<br />
يف الزخرفة.<br />
- القرية: القرية هي جمموعة من املساكن لقوم ينتسبون اإىل اأصل<br />
واحد مثل القبيلة وجنسهم واحد، شكل )13(، حيث يقول سبحانه وتعاىل:<br />
} { )5( ، كما اأطلق اهلل<br />
سبحانه وتعاىل على مساكن قوم عاد وثمود اسم القرى يف قوله تعاىل:<br />
} { )6( ، كما اأطلق اسم القرية<br />
)1( سورة الصف: الآية 4.<br />
)2( سورة النحل: الآية 26.<br />
)3( سورة الأعراف: من الآية 74.<br />
)4( سورة احلج: من الآية 45.<br />
)5( سورة يونس: من الآية 98.<br />
)6( سورة هود: من الآية 102.<br />
62
على مساكن قوم لوط حيث يقول سبحانه وتعاىل: }<br />
. )1( » {<br />
كما يقول سبحانه وتعاىل: }<br />
{ )2( ، والقريتان هما مكة والطائف وسكانهما قريش وثقيف،<br />
كما اأطلق اهلل سبحانه على مكة املكرمة مسمى »اأم القرى« فهي كبرية<br />
احلجم واملكانة، شديدة التاأثري فيما حولها، وسكانها من اأقوام ينتسبون اإىل<br />
اأصل واحد، يقول اهلل سبحانه وتعاىل: } { )3( .<br />
)1( سورة الأنبياء: من الآية 74.<br />
)2( سورة الزخرف: الآية 31.<br />
)3( سورة الأنعام: من الآية 92.<br />
قلعة بهالء واملساكن املحيطة بها يف سلطنة عمان،<br />
63
منطقة البستكية القدمية بدبي.<br />
شكل )13(: مناذج لتجمعات عمرانية ينتسب قاطنوها اإىل اأصول واحدة.<br />
- املدن واملدائن: املدينة هي مساكن لأقوام خمتلفي الأصل واجلنس<br />
ومن جتمعات لتربطها روابط الدم، شكل )14(، قال تعاىل يف قصة نبي<br />
اهلل موسى: }<br />
)1( سورة القصص: من الآية 15.<br />
{ )1( ، والثابت تاريخيا اأن مدينة<br />
64
فرعون موسى كان يقيم بها اأقوام خمتلطو الأجناس من املصريني وبني<br />
اإسرائيل وغريهم، ويوؤكد ذلك تسمية »يرثب« باسم »املدينة«؛ لأنها جمعت<br />
قبائل العرب من املهاجرين والأنصار )الأوس واخلزرج( بالإضافة اإىل<br />
اليهود، يقول اهلل تعاىل: }<br />
. )1( {<br />
اأما عن املدائن فقيل اإنها جمع مدينة، وسميت مدائن كسرى باملدائن<br />
لأنها كانت مكونة من عدة مدن متقاربة، وقد جاء ذكر املدائن يف قوله<br />
{ )2( ، كما قال<br />
تعاىل: }<br />
تعاىل:{ { )3( .<br />
- البلد: هو اأي جمتمع عمراين مثل القرية اأو املدينة، يقول سبحانه<br />
وتعاىل واصفا مكة املكرمة اأم القرى بالبلد: }<br />
{ )4( ، ويقول اأيضا: }<br />
{ )5( ، ونستشعر هنا اأن كلمة بلد تعرب عن املكان والسكان اأي تدل<br />
على جمتمع عمراين.<br />
اأما البلدة فقد وردت يف بعض اآيات القراآن للدللة على املكان فقط، حيث<br />
يقول تعالى: }<br />
واملقصود يف الآية الكرمية حترمي مكة املكرمة على خلقه اأن يسفكوا فيها<br />
دما حراما اأو يظلموا فيها اأحدا اأو يصيدوا صيدها اأو يقطعوا شجرها )7( ،<br />
)1( سورة التوبة: من الآية 120.<br />
)2( سورة الأعراف: الآية 111.<br />
)3( سورة الشعراء: الآية 53.<br />
)4( سورة البقرة: من الآية 126.<br />
)5( سورة البلد: الآيتان 2،1.<br />
)6( سورة النمل: من الآية91.<br />
)7( نخبة من العلماء )1410 هجرية(: التفسري امليسر، وزارة الأوقاف السعودية، ص385.<br />
، )6( {<br />
65
كما قال جل يف عاله: }<br />
{ )1( ، وكما قال: } { )2( ، اإن<br />
لفظ البلدة اقرتن باملكان فقط.<br />
اجلامع الأموي يتوسط مدينة دمشق القدمية.<br />
)1( سورة سباأ: من الآية 15.<br />
)2( سورة ق: من الآية 11.<br />
66
القاهرة الفاطمية مبا حتويه من اإرث معماري ضخم.<br />
شكل )14(: مناذج املناطق القدمية باملدن الإسالمية.<br />
- التجمعات البدوية: يقول اهلل سبحانه وتعاىل على لسان سيدنا<br />
يوسف: }<br />
{ )1( ، يخربنا اهلل سبحانه<br />
وتعاىل عن لقاء سيدنا يوسف باأبويه بعد اأن طال غيابه عنهما، والشاهد يف<br />
الآية الكرمية قوله: »وجاء بكم من البدو«، حيث اإنهم كانوا اأهل اإبل وغنم<br />
ببادية فلسطني )2( .<br />
)1( سورة يوسف: من الآية 100.<br />
)2( يحيى وزيري )التعمري يف القراآن والسنة(: مرجع سابق، ص183.<br />
67
وفى الآية الكرمية اإشارة اإىل التجمعات البدوية يف املناطق الصحراوية،<br />
وهي جتمعات قبائل البدو الرحل، فهي تختلف يف تكوينها الجتماعي عن<br />
جمتمع القرية اأو املدينة، حيث تتميز باأسلوب خاص يف اأمناط املعيشة،<br />
عالوة على خصائص تركيبها من الناحية الجتماعية والقتصادية، كما<br />
اأنها كانت تعتمد يف املاضي بصفة اأساسية على اخليام من جلد احليوانات<br />
اأو القماش كماأوى اأساسي لهذه القبائل، شكل )15(.<br />
اإن الستعراض السابق للمفاهيم املعمارية والعمرانية التي وردت يف<br />
اآيات القراآن الكرمي، انظر شكل )16(، يوضح لنا مدى شمولية حصر هذه<br />
العناصر اإىل جانب دقة حتديد معانيها ومفاهيمها، واأن القراآن الكرمي،<br />
بهذا الشمول والدقة، يكشف عن اأحد جوانب اإعجازه يف جمال علوم العمران<br />
والبنيان، وبهذا يكون له السبق العلمي يف هذا املجال بتوضيح اأسس ومفاهيم<br />
هذا العلم، والتفرقة الدقيقة فيما بينها منذ حوايل اأربعة عشر قرنا من<br />
الزمان، وهو ما مل يعرف عن الكتب السماوية الأخرى )التوراة اأو الإجنيل(<br />
مع اإمياننا الكامل بها، ومع اإمياننا اأيضا باأن اهلل سبحانه وتعاىل قد تكفل<br />
بحفظ القراآن الكرمي اإىل اأن تقوم الساعة ويرث اهلل الأرض ومن عليها،<br />
ومصداقا لقوله سبحانه وتعاىل: »اإنا نحن نزلنا الذكر، واإنا له حلافظون »<br />
صدق اهلل العظيم.<br />
68
شكل )15(: منوذج بيت الشِّ عر )ماأوى البدو(.<br />
شكل )16(: دقة وشمولية القراآن الكرمي يف التفرقة بني املفاهيم واملصطلحات املعمارية<br />
والعمرانية.<br />
69
الفصل الثاين<br />
مميزات املعمار الإسالمي<br />
71
ناقشنا واأوضحنا يف الفصل الأول من الكتاب الأسس العامة التى وردت<br />
يف القراآن الكرمي بخصوص عمارة الأرض، اإىل جانب توضيح دقة القراآن<br />
الكرمي يف حتديد مفهوم العديد من املصطلحات املعمارية والعمرانية، والتي<br />
تعترب مبادئ اأساسية ثابتة يجب األ تغيب عن املجتمع املسلم بكل فئاته،<br />
لأنها معنية بتحقيق هذه التوجيهات القراآنية.<br />
ويف هذا الفصل نحاول اأن ننتقل خطوة اإىل الأمام عن طريق استنباط<br />
بعض املالمح واملميزات العامة، التي ميكن اأن متيز املعمار الإسالمي عن<br />
غريه من معمار احلضارات الإنسانية الأخرى، وهذه املميزات هي التي<br />
جعلت للمعمار الإسالمي شخصية مستقلة ينفرد بها فى روؤيته الشاملة<br />
والصحيحة لعمارة الأرض.<br />
وبالنهج املتبع نفسه يف كل فصول الكتاب، فاإننا حاولنا اأن نستنبط<br />
بعض املميزات العامة والرئيسية، اعتمادا على القراآن الكرمي بصفة<br />
اأساسية وبالستعانة بالأحاديث النبوية كلما تيسر لنا ذلك، ول ندعي اأن<br />
هذه املميزات التي ناقشناها يف هذا الفصل هي كل املميزات التي ميكن<br />
اأن يتصف بها العمران والبنيان الإسالمي، ولكننا حاولنا اأن نعطي خطوطا<br />
ومميزات عامة، ميكن اأن ينبثق منها اأو ينضم اإليها العديد من املميزات<br />
الأخرى.<br />
فعلى سبيل املثال، فاإننا اعتربنا اأن توظيف القيم اجلمالية يف املعمار هو<br />
اأحد مميزات العمارة الإسالمية، كما اأوضحنا فى املبحث الثالث من هذا<br />
الفصل، ولكن القارئ سوف يتضح له اأن الروؤية الإسالمية للجمال ل تفصل<br />
بني حتقيق املنفعة اأو الوظيفة وبني حتقيق جوانب الزينة واجلمال، وهو ما<br />
يعني اأن العامل الوظيفي اأو النفعي معترب اأيضا يف الروؤية الإسالمية لعمارة<br />
الأرض.<br />
73
لقد جاء تركيزنا على ثالث مميزات بعينها يف مباحث هذا الفصل<br />
لسببني رئيسيني: اأولهما للدور الكبري الذي اأسهمت به يف تشكيل عمارة<br />
املجتمعات الإسالمية واإعطائه شخصيته املتميزة يف املاضي، وثانيهما لأن<br />
واقع املعمار فى املجتمعات الإسالمية املعاصرة يوؤكد تراجع هذا الإسهام<br />
بشكل يرتاوح بني الإهمال املطلق اأو النسبي.<br />
ولتحقيق الهدف املرجو من هذا الفصل قسمناه اإىل ثالثة مباحث<br />
رئيسية، هي:<br />
1- املبحث الأول: توجيه العمران والبنيان للقبلة.<br />
2- املبحث الثاين: توافق العمران مع الظروف البيئية.<br />
3- املبحث الثالث: توظيف الإبداع اجلمايل يف املعمار.<br />
74
املبحث الأول<br />
التوجه اإىل القبلة واأثره على العمران والبنيان<br />
يف تقدميه لكتاب »تخطيط وعمارة املدن الإسالمية« يقول الأستاذ عمر<br />
عبيد حسنة )1( : »ولعل من اأبرز ما مييز الأمناط املعمارية الإسالمية، اأنها<br />
تتمحور يف بنائها وواجهاتها وهندستها ومرتفقاتها حول وجهة، اأو بتعبري<br />
اأدق نحو القبلة )املسجد احلرام(، اأما يف الأمناط العمرانية املعاصرة، اأو<br />
يف عمران املدن احلديثة، فال وجهة ول قبلة، ويصعب على الإنسان املسلم،<br />
وقد يجد عناء شديدا يف حتديد القبلة، اإذا خرج من املسجد وعرب الشارع<br />
ودخل املباين املعاصرة«.<br />
اإن الكلمات املوجزة السابقة توضح اأحد ضوابط العمران الإسالمي<br />
التي يغفلها املعمار الإسالمي املعاصر عند تخطيط املدن وتصميم املباين،<br />
اعتقاداً اأو جهال بعدم اأهمية توجيه هذا العمران اإىل جهة القبلة، بالرغم<br />
مما يف هذا التوجه من الرموز والإشارات الدينية والعقائدية، اإىل جانب<br />
تاليف العديد من املشاكل التصميمية وبخاصة يف حالة املساجد، وهو ما<br />
سوف نوضحه فيما بعد عند مناقشة السلبيات الناجتة عن عدم توجيه<br />
العمران واملباين للقبلة.<br />
اأول: اأدلة التوجه للقبلة وعالقة ذلك بالعمران والبنيان<br />
قبل اأن تصبح مكة املكرمة قبلةً للمسلمني يف مشارق الأرض ومغاربها،<br />
اأوضحت بعض الروايات اأن املسلمني بعد هجرتهم من مكة اإىل املدينة<br />
املنورة كانت قبلتهم بيت املقدس، وظلوا يتوجهون اإليه يف صالتهم ستة اأو<br />
سبعة عشر شهرا، حتى اأمر اهلل سبحانه وتعاىل رسوله الكرمي عليه اأفضل<br />
الصالة والتسليم بالتوجه اإىل مكة املكرمة.<br />
)1( انظر: خالد عزب )1997(: تخطيط وعمارة املدن الإسالمية، كتاب الأمة، عدد )58(- السنة<br />
السابعة عشر، وزارة الأوقاف والسوؤون الإسالمية، قطر، ص23.<br />
75
وملا اأمر اهلل تعاىل املوؤمنني بالتحول من بيت املقدس اإىل مكة املكرمة شق<br />
ذلك على نفوس طائفة من اأهل الكتاب )اليهود(، لأن اليهود كانوا يتجهون<br />
يف صالتهم اإىل صخرة بيت املقدس، لذلك فقد اأخرب القراآن الكرمي عن<br />
حادثة حتويل القبلة يف قوله تعاىل:{<br />
. )1( {<br />
ورد يف تفسري القراآن العظيم لالإمام ابن كثري ما يلي )2( : »جاء يف هذا<br />
الباب اأحاديث كثرية وحاصل الأمر اأنه كان رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم<br />
اأمر باستقبال الصخرة من بيت املقدس: فكان مبكة يصلى بني الركنني وهو<br />
مستقبل صخرة بيت املقدس، فلما هاجر اإىل املدينة تعذر اجلمع بينهما<br />
فاأمره اهلل بالتوجه اإىل بيت املقدس، وذكر غري واحد من املفسرين وغريهم<br />
اأن حتويل القبلة نزل يف مسجد بني سلمة فسمي مسجد القبلتني، وفى<br />
حديث نويلة بنت مسلم اأنهم جاءهم اخلرب بذلك وهم يف صالة الظهر،<br />
قالت: فتحول الرجال مكان النساء والنساء مكان الرجال، ذكره الشيخ اأبو<br />
عمر بن عبد الرب النمري.<br />
وقد روى الإمام اأحمد عن علي بن عاصم عن حصني بن عبد الرحمن<br />
عن عمرو بن قيس عن حممد بن الأشعث عن عائشة قالت: قال رسول اهلل<br />
صلى اهلل عليه وسلم: اإنهم ( يعني اأهل الكتاب( ل يحسدوننا على شيء كما<br />
يحسدوننا على يوم اجلمعة التي هدانا اهلل لها وضلوا عنها، وعلى القبلة<br />
التي هدانا اهلل لها وضلوا عنها، وعلى قولنا خلف الإمام اآمني«.<br />
اإذن فعملية التوجه للقبلة التي ارتضاها اهلل سبحانه وتعاىل لرسوله<br />
الكرمي صلى اهلل عليه وسلم وصحابته الكرام وسائر املسلمني، تعترب اإحدى<br />
)1( سورة البقرة: الآية 142.<br />
)2( انظر تفسري الآية 142 من سورة البقرة يف )تفسري القراآن العظيم( لالإمام ابن كثري.<br />
76
النعم التي مَ نَّ بها اهلل علينا حيث هدانا لتلك القبلة، اأي املسجد احلرام<br />
مبكة املكرمة، يف الوقت الذي ضل اليهود والنصارى عنها، لذلك فاإن اأهل<br />
الكتاب يحسدون املسلمني على اهتدائهم لهذه القبلة املباركة، وهذا من<br />
الوجهة الدينية والشرعية.<br />
اأما اإذا نظرنا اإىل التوجه للقبلة من وجهة تاأثريها على مباين املجتمع<br />
املسلم، فاإننا جند اأن التوجه للقبلة اأحد اأهم الثوابت التصميمية اخلاصة<br />
بعمارة املساجد مصداقا لقول اهلل سبحانه وتعاىل:{<br />
{ )1( ، فعلى ذلك ميكن اأن نتخيل اأن كل مسجد<br />
يف شتى اأنحاء املعمورة يحتل نقطة على حميط دائرة مركزها الكعبة،<br />
شكل )17( وتبعا لذلك يكون جدار القبلة هو اأهم عنصر معماري يف اأي<br />
مسجد )2( ، وبالتايل يصبح توجيه املسجد من الوجهة التجريدية هو املحدد<br />
لشخصية املسجد وليس جمرد عناصره الأخرى املختلفة.<br />
اإن عملية اأداء الصالة ل تقتصر فقط على املساجد، فاإن صلوات النوافل<br />
ميكن اأن توؤدى يف البيوت اأيضا، وعملية اأداء الصالة يف البيوت كانت<br />
موجودة عند بني اإسرائيل عندما كانوا يف مصر على عهد فرعون موسى،<br />
ويتضح لنا ذلك من قوله تعاىل:{<br />
{ )3( ، قال اأكثر املفسرين يف تفسير الآية الكرمية:»كان<br />
)1( سورة البقرة: من الآية 144.<br />
)2( سيتم مناقشة هذه النقطة بشيء من التفصيل يف املبحث اخلاص بضوابط عمارة املساجد<br />
بالفصل الثالث.<br />
)3( سورة يونس: الآية 87.<br />
77
شكل ( 18(: املساجد يف مشارق الأرض ومغاربها تتجه اإىل القبلة )مكة املكرمة(.<br />
بنو اإسرائيل ل يصلون اإل يف مساجدهم وكنائسهم وكانت ظاهرة، فلما<br />
اأرسل موسى اأمر فرعون مبساجد بني اإسرائيل فخربت كلها ومنعوا من<br />
الصالة، فاأمروا اأن يصلوا يف بيوتهم سرا، وذلك حني اأخافهم فرعون<br />
فاأمروا بالصرب واتخاذ املساجد يف البيوت. ويف الشريعة الإسالمية فاإن<br />
78
صالة النافلة يف البيت اأفضل من املسجد، وقد قال الرسول عليه الصالة<br />
والسالم يف حديث زيد بن ثابت:»عليكم بالصالة يف بيوتكم فاإن خري صالة<br />
املرء يف بيته اإل املكتوبة« )اأخرجه البخاري( )1( .<br />
وقال العويف عن ابن عباس يف تفسري الآية الكرمية السابقة )2( : »قالت<br />
بنو اإسرائيل ملوسى عليه السالم: ل نستطيع اأن نظهر صالتنا مع الفراعنة،<br />
فاأذن اهلل تعاىل لهم اأن يصلوا يف بيوتهم واأمروا اأن يجعلوا بيوتهم قبل<br />
القبلة، وقال جماهد: ملا خاف بنو اإسرائيل من فرعون اأن يقتلوا يف الكنائس<br />
اجلامعة اأمروا اأن يجعلوا يف بيوتهم مساجد مستقبلة الكعبة )3( ، يصلون<br />
فيها سرً ا، وكذا قال قتادة والضحاك«.<br />
مما سبق يتضح لنا اأن فكرة جعل البيوت جتاه القبلة كانت موجودة بالفعل<br />
منذ عهد سيدنا موسى من اأجل تسهيل اإقامة الصالة بداخلها لأتباعه<br />
الذين اآمنوا برسالته، ثم يجيء رسولنا الكرمي ليوؤكد هذا املفهوم بقوله عليه<br />
الصالة والسالم: »اإن لكل شيء سيدا واإن سيد املجالس قبالة القبلة« )4( .<br />
اإذن فاإنه يفضل اأن يتم توجيه املباين، سواء السكنية اأو العامة، جهة<br />
القبلة )5( ، وهو ما يساعد على اأداء الصلوات داخل هذه املباين بسهولة، كما<br />
يحقق حديث رسولنا الكرمي من اأن سيد املجالس ما كان قبالة القبلة.<br />
وجند من الواجب اأن نكرر هنا ما سبق اأن ذكرناه يف املبحث اخلاص<br />
»بضوابط العمران والبنيان يف قصص القراآن«، من اأن الغاية من اإعمار<br />
)1( انظر تفسري الآية 87 من سورة يونس يف اجلامع لأحكام القراآن لالإمام القرطبي.<br />
)2( انظر تفسري الآية 87 من سورة يونس يف تفسري القراآن العظيم للحافظ ابن كثري.<br />
)3( قال بعض املفسرين اإن قبلة اليهود يف ذلك الوقت هي بيت املقدس.<br />
)4( رواه الطرباين باإسناد حسن.<br />
)5( يفضل يف دورات املياه عدم استقبالها اأو استدبارها للقبلة، انظر املبحث اخلاص بضوابط<br />
عمارة املسكن الإسالمي املعاصر بالفصل الثالث.<br />
79
الأرض واإقامة املجتمعات العمرانية واملدن هو عبادة اهلل سبحانه وتعاىل<br />
واإقامة الصالة، حيث يقول اهلل سبحانه وتعاىل على لسان سيدنا اإبراهيم<br />
اأبي الأنبياء: }<br />
{ )1( ، وهو ما يعني انعكاس ذلك بصورة مباشرة<br />
على التجمعات العمرانية بتوجيه شوارعها ومبانيها اإىل القبلة.<br />
ثانيا: ما الذى يخسره العمران الإسالمي بعدم توجهه اإىل<br />
القبلة؟<br />
رمبا يتبادر هذا السوؤال اإىل ذهن البعض، وبخاصة اأن املدن واملباين يف<br />
املجتمعات الإسالمية ليس لها توجه حمدد، اللهم اإل يف بعض املشروعات<br />
التي تاأخذ العوامل البيئية يف العتبار، اأو يف املناطق املخصصة للمقابر<br />
والتي يحرص منفذوها على اأن تكون هذه املقابر يف اجتاه القبلة لسهولة<br />
دفن موتى املسلمني بالطريقة الشرعية.<br />
الإجابة على السوؤال السابق ميكن اأن تكون ذات شقني اأساسيني: الأول<br />
يتعلق باأشياء معنوية رمزية، والثاين يتعلق باأشياء مادية ذات اأثر سلبي على<br />
عمران ومباين املجتمع الإسالمي، وسنوضح هذين الشقني فيما يلي:<br />
اأ- الأثر السلبي املعنوي والنفسي على املجتمع املسلم:<br />
لكي نتفهم الأثر املعنوي والنفسي السلبي الناجت من عدم توجيه العمران<br />
الإسالمي للقبلة، فاإنه يجب اأول اأن نوضح اأنه توجد عالقة مباشرة بني<br />
اأسلوب تصميم املباين وتخطيط املدن وما يحمله العمران من دللت، وبني<br />
تكوين ثقافة اأفراد املجتمع وتوجهاتهم الفكرية، وذلك لأن فن العمارة له<br />
)1( سورة اإبراهيم: من الآية 37.<br />
80
وضع خاص ينفرد به عن باقي الفنون سواء كانت تشكيلية اأو غريها، فاملبنى<br />
الذي يقام يف املدينة سرياه كل اأفراد املجتمع جميال كان اأو قبيحا، اأراد<br />
الناس روؤيته اأم مل يريدوا، كما اأنه قد يزيد من جمال البيئة احلضرية اأو<br />
يسيئ اإليها، ومن جانب اآخر فاإن العمارة متثل واجهة صادقة لثقافة املجتمع<br />
والتي تعترب حمصلة لتفاعل ذكاء الإنسان وفكره ووجدانه مع البيئة التي<br />
يعيش فيها )1( .<br />
كما اأن للعمران واملباين دوراً يف تشكيل وبناء الإنسان بطريق غري مباشر<br />
ل يشعر به، لذلك فاإن ونستون تشرشل رئيس وزراء بريطانيا يف عهود سابقة<br />
له مقولة ذات دللة يف هذا السياق، وهى )2( : »نحن نحدد اأمناط مبانينا،<br />
ولكنها فيما بعد هي التي حتدد اأمناط حياتنا«.<br />
ورمبا تتعدى اأخطار العمران مبا يحمله من اإيحاءات ومدلولت ورموز<br />
التشكيل الوجداين ليشمل اأيضا اجلوانب الأخالقية، ليصبح العمران<br />
انعكاسا لأخالق العصر الذي بني فيه، ويف هذا املعنى يقول الشيخ الشعراوي<br />
رحمه اهلل )3( : »ولذلك اإن اأردت اأن تعرف خلق واأخالق اأي عصر واستقامته<br />
اأو اآفاته يف تصريف احلركة..فانظر اإىل املعمار يف هذا العصر«.<br />
وبالرجوع اإىل الجابة عن اأثر الشق املعنوي والنفسي لعدم توجيه<br />
العمران الإسالمي للقبلة، فاإننا جند الإسالم يحرص كل احلرص على<br />
متيز شخصية املسلم وعدم تشبهه بالآخرين من اأهل امللل الأخرى، اإىل<br />
درجة اأن الإسالم اعترب من تشبه بقوم فهو منهم، ويف ساأن القبلة بالذات<br />
فاإن القراآن الكرمي يوؤكد على هذا التميز بني اأهل الشرائع السماوية فيقول<br />
)1( للمزيد من التفاصيل انظر كتابنا: املجتمع وثقافة العمران )2002(، موؤسسة دار الشعب،<br />
القاهرة.<br />
)2( دافيد مالني رودمان ونيكولى لينسن )ترجمة: شويكار ذكى()1997(: ثورة يف عامل البناء،<br />
الدار الدولية للنشر والتوزيع، القاهرة، ص 65.<br />
)3( انظر جريدة اللواء الإسالمي: عدد 96، سنة 1983، القاهرة.<br />
81
سبحانه وتعاىل:{<br />
{ )1( ، فالآية الكرمية توضح<br />
للرسول الكرمي عليه الصالة والسالم باأنه لو جاء بكل حجة وبرهان لأهل<br />
الكتاب على اأن توجهه اإىل الكعبة يف الصالة هو احلق من عند اهلل، ما تبعوا<br />
هذه القبلة عنادا واستكبارا، وما هو بتابع قبلتهم وما بعضهم بتابع قبلة<br />
بعض، واأن اتباع اأهوائهم يف ساأن القبلة وغريها بعد ما جاءهم من العلم<br />
يدخلهم يف زمرة الظاملني، ويف هذا تهديد ووعيد ملن يتبع اأهواء املخالفني<br />
لشريعة الإسالم )2( .<br />
لقد اأوضح القراآن الكرمي يف ساأن التوجه للقبلة اأن اأهل كل شريعة من<br />
الشرائع السماوية لهم القبلة اخلاصة بهم، وما بعضهم بتابع قبلة بعض،<br />
ومن هنا فاإن عدم توجيه العمران يف املجتمعات الإسالمية للقبلة يفقد<br />
املسلمني التميز والتفرد الذي اأراده اهلل سبحانه وتعاىل لهم عن عمران<br />
ومباين اأهل الشرائع الأخرى، شكل )19(، مع علمنا مبدى حرص اأهل<br />
الشرائع الأخرى على عدم اتباع قبلة املسلمني مهما ظهر لهم من احلجج<br />
والآيات البينات.<br />
اإن عدم توجيه العمران الإسالمي جهة القبلة يفقد املجتمع املسلم اأهم<br />
عوامل متيز شخصيته وتفرده من الناحية املعنوية والنفسية، حيث يشعر<br />
كل مسلم يف اأي جمتمع اإسالمي بوحدة الجتاه وبوجود رباط روحي دائم<br />
بينه وبني مكة املكرمة اأم القرى، ليس يف املسجد فقط اأثناء اأداء الصالة<br />
ولكن اأيضا يف بيته ومكان عمله ويف جميع املباين التي ميارس فيها اأنشطته<br />
احلياتية ما اأمكن تطبيق ذلك.<br />
)2( سورة البقرة: الآية 145.<br />
)3( انظر: نخبة من العلماء : مرجع سابق، ص22، بتصرف.<br />
82
شكل )19(: لقطة جوية جلزء من مدينة دبي توضح اأن حي البستكية القدمي كان موجَّ ها لجتاه<br />
القبلة،يف حني اأن املباين والأبراج احلديثة مل يراعَ فيها ذلك.<br />
ب- الأثر السلبي املادي على العمران والبنيان:<br />
اأما اإذا اأردنا معرفة كيف ميكن اأن يوؤثر عدم التوجه للقبلة بطريقة<br />
سلبية على العمران والبنيان، فيجب علينا الرجوع اإىل بعض الدراسات<br />
البحثية احلديثة التي توضح هذه اجلوانب السلبية، ففي دراسة حديثة<br />
اأجريت على ثمانية عشر مسجدا يف مدينة »مومباى« )بومباي( بالهند )1( ،<br />
وجد اأن عدم توجيه وتخطيط شوارع املدينة للقبلة اأدى اإىل انحراف مدخل<br />
هذه املساجد عن حائط القبلة بعدة درجات ترتاوح ما بني 2 درجة و180<br />
درجة. جدول )1(.<br />
(1) Taj, H.M. (1999). The influence of Qibla on street line orientation in<br />
Islamic Cities. Proceedings of the symposium on Mosque Architecture,<br />
Vol.3B, pp. 137-181, College of Architecture & Planning, King Saud<br />
Univ., Riyadh.<br />
83
جدول )1(: الفرق بني حائط القبلة ومدخل املسجد يف بعض مساجد<br />
مدينة »بومباي« بالهند.<br />
اسم املسجد<br />
مسجد ساين كوجاKhoja Sunni<br />
مسجد جول Gol<br />
الفرق بني توجيه القبلة ومدخل<br />
املسجد )مقاسا بالدرجات(.<br />
صفر)ل يوجد تعارض(<br />
2<br />
5<br />
8<br />
41<br />
71<br />
32<br />
82<br />
82<br />
93<br />
46<br />
09<br />
901<br />
311<br />
411<br />
081<br />
مسجد اإسماعيل حبيب<br />
مسجد الرسول<br />
مسجد مينارا Minara<br />
مسجد حامدية<br />
مسجد زكريا<br />
مسجد كازى Kazi<br />
مسجد كوجا اشناري Koja Ishnari<br />
مسجد شافعي<br />
مسجد جامى Jami<br />
مسجد نوري Noori<br />
مسجد دوين Dauni<br />
مسجد موجل Mogul<br />
مسجد كاترى Khatri<br />
مسجد باندرا Bandra<br />
84
اإن الدراسة السابقة ل متثل حالة خاصة مبدينة »مومباي« بالهند،<br />
فالبنظر اإىل املخططات العمرانية احلديثة يف العامل الإسالمي يُالحظ يف<br />
كثري من الأحيان تعارضُ اجتاه حائط القبلة مع باقي اأضالع قطعة الأرض<br />
املخصصة له، شكل )19(، والتي تعترب جزءاً من املخطط الشبكي للمدينة<br />
ككل، وهو اأسلوب تخطيطي يختلف عن التخطيط املتضام الذي كان متبعا<br />
يف املدن الإسالمية القدمية، وهذه احلالة تنطبق على العديد من املساجد<br />
يف الأحياء احلديثة من مدن العامل الإسالمي.<br />
ويظهر الأثر السلبي لظاهرة عدم توجيه شوارع ومباين املدن الإسالمية<br />
لجتاه القبلة بصورة اأكرب، يف املساجد صغرية املساحة اأو املخصصة لأداء<br />
الصلوات اليومية، حيث اإن تعارض اجتاه حائط القبلة مع باقي اأضالع قطعة<br />
الأرض املخصصة للمسجد يوؤدي اإىل عدم تعامد احلائطني اجلانبيني على<br />
حائط القبلة، وهو ما يفقد املصلي داخل هذه املساجد الإحساس باجتاه<br />
القبلة، كما يوؤثر على شكل الفراغ الداخلي لقاعة الصالة غري املنتظمة<br />
الأضالع، كما يوؤدى يف غالب الأحيان اإىل قِ صَ ر الصفوف الأوىل للمصلني<br />
الأقرب اإىل جدار القبلة، مقارنة ببعض الصفوف الأخرى الأبعد عن جدار<br />
القبلة.<br />
وما ينطبق على املساجد ينطبق على باقي مباين املدن املعاصرة ولكن<br />
بصورة رمبا تكون اأكرث سلبية، حيث ل ميكن التعرف على اجتاه القبلة داخل<br />
هذه املباين اإل بشق الأنفس ويف بعض الأحيان باأساليب يغلب عليها عدم<br />
الدقة، وكم عانى الكثري من املسلمني اإذا اأراد اأحدهم الصالة يف بيته اأو<br />
يف غريه من البيوت الأخرى من تعارض اأسلوب فرش الأثاث الداخلي مع<br />
وضع سجادة الصالة جهة القبلة، كما اأن عدم توجيه بيوت ومباين املسلمني<br />
جهة القبلة جعلت املسلمني يف بيوتهم يفقدون ميزة التوجه للقبلة يف اأثناء<br />
الدعاء خارج الصالة اأو قراءة القراآن الكرمي اأو تلقي دروس العلم النافع<br />
وما شابه.<br />
85
ثالثا: قضايا عمرانية تتعلق بالتوجه للقبلة<br />
توجد بعض القضايا العمرانية التي ميكن اأن تنساأ نتيجة توجيه العمران<br />
الإسالمي للقبلة، وراأينا من الواجب اأن نلفت النظر اإليها، وقد تخرينا منها<br />
القضايا التالية:<br />
اأ- خصوصية شكل العمران يف مكة املكرمة:<br />
مدينة مكة املكرمة اختارها اهلل سبحانه وتعاىل لتكون قبلة املسلمني يف<br />
مشارق الأرض ومغاربها، فوضع فيها بيته احلرام الذي تفد اإليه جموع<br />
املسلمني من جميع بقاع العامل لتوؤدي شعائر احلج والعمرة. وملكة املكرمة<br />
خصوصية تختلف عن باقي مدن املسلمني نتيجة لوجود بيت اهلل احلرام<br />
فيها، فلقد روى ابن جريج عن عطاء عن اأبيه عن ابن عباس رضي اهلل<br />
عنهما اأن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قال:»البيت قبلة لأهل املسجد،<br />
واملسجد قبلة لأهل احلرم، واحلرم قبلة لأهل الأرض يف مشارقها ومغاربها<br />
من اأمتي« )1( .<br />
)1( انظر تفسري الآية 144 من سورة البقرة يف اجلامع لأحكام القراآن لالإمام القرطبي.<br />
86
مناذج ملساقط اأفقية ملساجد فى مدينة »مومباي« بالهند تتعارض مع اجتاه قطع الأرض<br />
املخصصة لها.<br />
تعارض توجيه مسجد »بولتون« فى مقاطعة لنكشري باإجنلرتا مع قطعة الأرض<br />
واملحيط العمراين.<br />
شكل )19(: تعارض تخطيط الشوارع احلديثة مع اجتاه قبلة املساجد.<br />
87
ولأن املسجد احلرام هو قبلة اأهل احلرم املكي فاإن هذا يعني من الناحية<br />
النظرية، اأنه يف حالة توجيه كل املباين يف مكة املكرمة جهة القبلة، فاإن<br />
هذه املباين سوف تبدو يف صورة دوائر متحدة املركز )وهو هنا املسجد<br />
احلرام(، وهذه الدوائر تتسع كلما بعدت عن املركز، وهو ما يعني اأن الشكل<br />
الدائري ملدينة مكة املكرمة شكل ينبع من خصوصيتها دون باقي املدن<br />
الإسالمية وذلك لوجود املسجد احلرام بها، لذا لزم التنبيه ولفت الأنظار<br />
لهذه اخلصوصية العمرانية التي ميكن اأن تنفرد بها اأم القرى يف حالة<br />
استقبال كل مبانيها املحيطة باملسجد احلرام جلهته )1( .<br />
ولكن رمبا لوجود املسجد احلرام يف منطقة وادى منخفض حتيط به<br />
اجلبال التي يصل ارتفاعها اإىل حواىل 300 مرت فوق سطح البحر )2( ، فاإن<br />
هذه الظروف الطبيعية جتعل عملية تشكيل العمران يف مكة على هيئة دوائر<br />
حتيط باملسجد احلرام عملية صعبة التنفيذ على مستوى كل املدينة يف<br />
الواقع العملي، واإن كان ميكن تطبيق هذه الفكرة يف املنطقة املنخفضة التي<br />
حتيط باملسجد احلرام من جهاته املتعددة.<br />
لقد قام الدكتور املصرى عبد الباقي اإبراهيم، رحمه اهلل، بتقدمي اقرتاح<br />
تخطيطي ملنطقة املسجد احلرام عام 1989م، ملنطقة قطرها 750م مركزها<br />
الكعبة املشرفة بحيث تتجه نحوها كل الطرقات وتتوجه اإليها كل القطاعات<br />
السكنية واخلدمية، يف حماولة جادة لتحقيق فكرة توجيه املباين املحيطة<br />
)1( انظر كتابنا: اأم القرى خصوصية املكان والعمران )2005(: كتيب املجلة العربية، رقم )102(،<br />
الرياض.<br />
)2( للمزيد من التفاصيل انظر: فوؤاد عمر توفيق )1986(: اأوضاع تخطيط الإسكان على سفوح<br />
اجلبال مبدينة مكة املكرمة، كتاب اأبحاث ندوة »الإسكان يف املدينة الإسالمية« باأنقرة، منظمة<br />
العواصم واملدن الإسالمية، جدة، ص 127- 134.<br />
88
باملسجد احلرام اإىل القبلة متاما )1( ، شكل )20(.<br />
ول شك اأن لعمران املدينة املقدسة خصوصيات اأخرى، ولكننا اأردنا<br />
اأن نوجه الأنظار خلصوصية شكل العمران فيها يف حالة اإذا ما مت توجيه<br />
كل مبانيها جهة املسجد احلرام، ورمبا ياأتي اليوم - مع توفر الإمكانيات<br />
املادية والتقنيات املناسبة - الذي يتمكن القائمون على اأمور اململكة العربية<br />
السعودية من حتقيق هذه الأمنية التي تتيح لزوار بيت اهلل احلرام اأن يكونوا<br />
باستمرار يف اجتاه املسجد احلرام حتى وهم داخل مباين اإقامتهم.<br />
شكل )20(: مقرتح تخطيطي للمنطقة املحيطة باملسجد احلرام، بحيث تتجه شوارعها ومبانيها<br />
نحو الكعبة املشرفة )القبلة(، )من تصميم الدكتور عبد الباقي اإبراهيم(<br />
)1( عبد الباقى اإبراهيم )2000(: مشوار البحث عن اأصول العمارة يف الإسالم، مركز الدراسات<br />
التخطيطية واملعمارية، القاهرة، ص36.<br />
89
ب- التعارض بن توجيه املباين للقبلة والظروف البيئية:<br />
القضية الثانية التي اأردنا اأن نلفت النظر اإليها هي اإمكانية التعارض بني<br />
توجيه مباين مدينة ما اإىل القبلة، مع الظروف والعوامل البيئية السائدة يف<br />
املنطقة املقام فيها هذه املدينة، وبتفصيل اأكرث فاإن توجيه مباين مدينة ما<br />
يف موقع معني جلهة القبلة رمبا يتعارض مثال مع الرياح الباردة املحببة التي<br />
تساهم يف تخفيض درجات احلرارة ببيوت هذه املدينة يف فصل الصيف<br />
مثال، اأو اأن هذا التوجيه للقبلة يجعل واجهات املباين اخلارجية اأكرث عرضة<br />
لالإشعاع الشمسي، فكيف ميكن التوفيق بني توجيه املباين للقبلة وعدم<br />
التكيف مع الظروف والعوامل البيئية يف موقع معني؟.<br />
اإذا افرتضنا على سبيل املثال اأن توجيه بعض املباين جهة القبلة يف موقع<br />
معني يتعارض مع توجيه فتحات هذه املباين للرياح املحببة السائدة يف هذه<br />
املنطقة، فاإن استخدام بعض احللول املعمارية مثل مالقف الهواء اأو اأبراج<br />
الرياح )1( ، يسمح بالتقاط الهواء بالرغم من اأن املبنى نفسه ل يواجه الرياح<br />
السائدة، شكل )21(، وذلك لأنه يتم توجيه فتحات مالقف الهواء اإىل<br />
اجلهة التي تهب منها الرياح بالرغم من اأن املبنى نفسه بغرفه وفراغاته<br />
الداخلية يتجه جهة القبلة.<br />
اأما اإذا افرتضنا اأنه يف موقع اآخر اأو مدينة اأخرى اأن توجيه املباين جهة<br />
القبلة يجعل واجهات هذه املباين اأكرث تعرضا لالإشعاع الشمسي، ففي هذه<br />
احلالة ميكن تقليل الفتحات اخلارجية مع تضييقها اأو استخدام بعض وسائل<br />
التظليل اخلارجية، ويف حالة توافر املساحات والإمكانات املادية فاإن فتح<br />
النوافذ الرئيسية لهذه البيوت على اأفنية داخلية مكشوفة ومظللة يف الوقت<br />
نفسه يساعد على التغلب على هذه املشكلة، اإىل جانب توفري اخلصوصية<br />
)1( مالقف الهواء واأبراج الرياح كانت تستعمل يف املباين الإسالمية القدمية للتقاط الرياح السائدة<br />
الباردة بكل منطقة )للمزيد من التفاصيل انظر كتابنا: العمارة الإسالمية والبيئة )2004(: سلسلة<br />
عامل املعرفة- عدد304، املجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، ص116 وما بعدها(.<br />
90
لأهل البيت، وهو ما كان يتم اتباعه يف مباين املدن الإسالمية القدمية.<br />
اإن ظهور بعض املشاكل على مستوى تخطيط املدن اأو املباين بسبب<br />
توجيهها جلهة القبلة شيء متوقع، ولكن يف سبيل اإحياء اإحدى السنن التي<br />
حض عليها رسولنا الكرمي عليه الصالة والسالم ولفت القراآن الكرمي اإليها<br />
الأنظار، فاإن على املتخصصني يف جمال تخطيط املدن وتصميم املباين اأن<br />
يجدوا احللول والبتكارات الهندسية لهذه املشاكل اأو الصعوبات التي اأشرنا<br />
لبعض منها، فاحلاجة اأم الخرتاع.<br />
شكل )21(: مناذج من اأبراج الرياح ببيوت حى البستكية القدمي بدبى التي كانت تستخدم يف<br />
التهوية، والتي ميكن الستعانة بها فى تصميم املباين املعاصرة بعد تطويرها.<br />
ج- اأهمية حتديد اجتاه القبلة بدقة:<br />
القضية الثالثة التي نعرض لها يف هذا املحور تتعلق بوجوب حرص<br />
خمططي املدن ومصممي املساجد واملباين على حتديد اجتاه القبلة بدقة<br />
متناهية، لعدة اأسباب مهمة، منها:<br />
1- ما يتعلق بالنواحي الشرعية التي جتعل من التوجه للقبلة اأثناء اأداء<br />
91
الصلوات اأحد شروط صحتها، وهو ما يفرض على مصممي املساجد بصفة<br />
خاصة احلرص على حتديد اجتاه القبلة بدقة كبرية، وهذا ينطبق اأيضا على<br />
املباين السكنية التي يتم اأداء صلوات النوافل بها للرجال وصالة الفرض<br />
بالنسبة اإىل النساء يف حالة عدم ذهابهن لأدائها باملساجد.<br />
وجدير بالذكر هنا اأن اخلطاأ يف حساب اجتاه القبلة لدرجة واحدة فقط<br />
تبعد اجتاه املصلي اإىل اجتاه يشري اإىل مكان يبعد عن القبلة 103.50 كم<br />
تقريبا، والدقيقة الواحدة تبعده 1.70 كم )1( ، لذلك يجب توخي الدقة يف<br />
اإجراء احلسابات اخلاصة باجتاه القبلة وطريقة حتديدها.<br />
ب- ما يتعلق بتاأثري ذلك التحديد على املحيط العمراين ككل، فمن<br />
الأمثلة املهمة التي توضح مدى تاأثري املسجد على حميطه وبيئته العمرانية<br />
ما ميكن اأن يتضح من تاأثري اختيار اجتاه القبلة جلامع الزيتونة مبدينة<br />
تونس التاريخية، والذي انعكس اأيضا على توجيه باقي املساجد بها، فعلى<br />
الرغم من اأن توجيه جامع الزيتونة كان غري دقيق هندسيا، حيث مت توجيهه<br />
مائال 29 درجة و 11 دقيقة عن الجتاه الصحيح للقبلة، فاإن توجيه جامع<br />
الزيتونة سيطر على توجيه كل املباين الدينية والتي بنيت بعد ذلك )2( ، شكل<br />
)22(، لذلك من الأهمية مبكان اأن نالحظ اأنه بالرغم من اأن التحديد<br />
الدقيق لجتاه القبلة مهم جدا، فاإنه مبجرد اأن يتم حتديد اجتاه القبلة<br />
ملسجد جامع يتم بناوؤه قبل تشكيل البيئة العمرانية املحيطة، فاإن تاأثريه<br />
يتعدى الدقة الهندسية ليوؤثر يف كل حميطه العمراين واملعماري.<br />
لقد اأوىل علماء املسلمني يف املاضي مساألة حتديد اجتاه القبلة اهتماما<br />
كبريا، وكانت ذروة الإجنازات الإسالمية يف جمال حتديد اجتاه القبلة<br />
)1( حممد اأحمد سليمان )1999(: سباحة فضائية يف اآفاق علم الفلك، مكتبة العجريي، الكويت،<br />
ص505.<br />
)2( صادق اأحمد صادق )1999(: التشكيل الفراغي وتاأثريه على عالقة املسجد بالبيئة العمرانية،<br />
من سجل ندوة عمارة املساجد )ج3(، كلية العمارة والتخطيط، جامعة امللك سعود، الرياض.<br />
92
تتمثل يف عمل عامل الفلك اخلليلي )تاألق يف دمشق حوايل 1365م(، فقد<br />
وضع جدول لجتاه القبلة على اأساس معادلة دقيقة، ويبني جدول اخلليلي<br />
اجتاه القبلة لكل درجة من خط العرض بدءا من 1 درجة حتى 56 درجة،<br />
ولكل درجة من خط الطول بدءا من 1 درجة حتى 60 درجة، وبهذا يحتوى<br />
جدول اخلليلي على مداخل يبلغ عددها 3000 مدخل تقريبا، وقد حسب<br />
اجتاه القبلة بالدرجات والدقائق، ويعترب اإجنازا رائعا اأن تكون الغالبية<br />
العظمى من هذه املداخل حمسوبة مبنتهى الدقة، اأو بخطاأ يف حدود زائد اأو<br />
ناقص واحد اأو اثنني دقيقة )1( .<br />
لقد وفرت الأجهزة احلديثة اإمكانية حتديد اجتاه القبلة بالنسبة اإىل اأي<br />
مبنى يف اأي موقع بدقة متناهية، بحيث ل يوجد اأي سبب يجعل املسلمني يف<br />
العصر احلديث يتقاعسون عن البدء يف تنفيذ مدنهم ومبانيهم اجلديدة يف<br />
اجتاه القبلة، ملا يف ذلك من مزايا متعددة تعود عليهم.<br />
)1( دونالد هيل )ترجمة: اأحمد فوؤاد باشا( )2004(: العلوم والهندسة يف احلضارة الإسالمية،<br />
سلسلة عامل املعرفة- عدد)305(، املجلس الوطني للثقافة والعلوم والآداب، الكويت، ص66.<br />
93
94<br />
شكل )22(: تاأثري توجيه مسجد الزيتونة بتونس على توجيه املباين واملساكن املجاورة له.
املبحث الثاين<br />
توافق العمران مع الظروف البيئية<br />
يهتم علم التصميم البيئي، وهو اأحد فروع علم العمارة، بدراسة العناصر<br />
البيئية واملناخية التي توؤثر على تصميم املباين والفراغات اخلارجية من<br />
اأجل تهيئة وتوفري املناخ املناسب لراحة الإنسان سواء داخل املباين اأو يف<br />
الفراغات اخلارجية يف املحيط العمراين )1( .<br />
وبدراسة العديد من الآيات القراآنية تبني لنا اأن القراآن الكرمي قد لفت<br />
اأنظار املسلمني اإىل اأهمية مراعاة العوامل البيئية يف التصميم العمراين<br />
واملعماري، لذلك فاإن هذا املبحث يهدف اإىل اإبراز املفاهيم التي وردت يف<br />
بعض الآيات القراآنية ذات الصلة مبجال التصميم البيئي، وهو ما يوؤكد على<br />
اأن مراعاة البعد البيئي هو اأحد الضوابط التي يجب مراعاتها يف العمران<br />
الإسالمي.<br />
اإن القراآن الكرمي مل يغفل الإشارة اإىل اأحد اأهم اأهداف علم التصميم<br />
البيئي، التي يسعى املصممون اإىل توفريها يف املباين اأو الفراغات اخلارجية،<br />
وهذا الهدف ينحصر يف حماولة جعل درجات احلرارة داخل املباين اأو يف<br />
الفراغات اخلارجية حولها يف حدود معينة ل تقل اأو تزيد عنها، وذلك<br />
باستخدام اأساليب تصميمية معينة.<br />
ونلمح املعنى املشار اإليه اأعاله يف قول اهلل سبحانه وتعاىل: }<br />
{ )2( ، يقول ابن كثري<br />
)رحمه اهلل( يف شرح معنى قوله تعالى: »ل يرون فيها شمسا ول زمهريرا«،<br />
)1( يحيى وزيري )2004(. دلئل الإعجاز العلمي يف اإشارات التصميم البيئي يف القراآن الكرمي،<br />
كتاب اأبحاث املوؤمتر العاملي السابع لالإعجاز العلمي يف القراآن الكرمي والسنة بدبي، املجلد الثالث،<br />
الهيئة العاملية لالإعجاز العلمي يف القراآن والسنة، مكة املكرمة.<br />
)2( سورة الإنسان: اآية 13.<br />
95
اأي ليس عندهم حرٌّ مزعج ول بردمٌ موؤمل بل هو مزاج واحد دائم سرمدي ل<br />
يبغون عنها حول )1( ، كما جاء يف التفسري امليسر اأن املقصود )2( : »ل يرون<br />
فيها حر شمس ول شدة برد«، والزمهرير يف اللغة هو شدة الربد )3( .<br />
اإن الآية الكرمية السابقة تشري اإىل احلالة التي سوف يكون عليها اأهل<br />
اجلنة، فليس عندهم حر مزعج اأو برد موؤمل، وهو ما يتطابق مع تعريف<br />
مصطلح »الراحة احلرارية« املوجود يف علم التصميم البيئي، والذي ينص<br />
على اأن الراحة احلرارية هي حالة العقل التي يشعر فيها الإنسان بارتياح<br />
ورضا فيما يتعلق بالبيئة احلرارية املوجود فيها )4( ، فاأي اإنسان عادى ل يشعر<br />
بالراحة احلرارية اإذا زادت اأو قلت درجة احلرارة عن حدود معينة، اأي اأنه<br />
ل يشعر بالراحة يف درجات احلرارة العالية كما ل يشعر بالراحة اأيضا يف<br />
حالت الربودة الشديدة.<br />
فاإذا كانت درجة حرارة الهواء اأعلى من درجة حرارة البشرة فاإن احلرارة<br />
املتولدة من اجلسم جتد صعوبة يف اخلروج وينتج عن ذلك ارتفاع يف درجة<br />
حرارة البشرة ونشاط الغدد التي تفرز العرق، وميكن اأن يصل معدل<br />
اإفراز العرق اإىل 4 لرتات/ساعة، وهو ما يسبب اإرهاقا ل ميكن احتماله<br />
اإل لفرتة قصرية، اأما يف حالة انخفاض درجة حرارة البيئة املحيطة عن<br />
احلد املناسب فاإن الستجابة الفسيولوجية الأوىل لذلك انقباض الشعريات<br />
الدموية حتت اجللد وبالتايل يقل اندفاع الدم اإىل البشرة، وهو ما يوؤدي<br />
اإىل برودة الشعريات وخاصة اليدين والقدمني، وحتدث رعشة ل اإرادية<br />
)1( انظر تفسري الآية رقم )13( من سورة الإنسان يف كتاب "تفسري القراآن العظيم" لالإمام<br />
احلافظ ابن كثري.<br />
)2( انظر تفسري الآية رقم )13( من سورة الإنسان يف كتاب "التفسري امليسر" )اإعداد نخبة من<br />
العلماء( : مرجع سابق.<br />
)3( انظر: الفريوزاآبادى )1977(: القاموس املحيط، الهيئة املصرية العامة للكتاب، القاهرة.<br />
(4) Goulding, J.R. (1986). Energy in Architecture. Commission of the<br />
European communities, Dublin.<br />
96
يف حالت الربد الشديد )الزمهرير(، ويزيد معدل الحرتاق اإىل مرتني اأو<br />
ثالث مرات )1( .<br />
فاإذا كانت اجلنة متثل البيئة املثالية بكل ما فيها من متع ونعيم مقيم، فاإن<br />
الآية الكرمية تضيف متعة الراحة »احلرارية« اأيضا، اأي ل يرى يف اجلنة<br />
شدة حر كحر الشمس ول زمهريرا اأي ول بردا مفرطا، ويف الوقت نفسه<br />
فاإن الآية الكرمية تلفت النظر – وبشدة- اإىل اأن الهدف النهائي هو توفري<br />
الراحة لأهل اجلنة، وهو ما يلفت نظر املصممني اإىل اأهمية العمل على<br />
توفري هذه الراحة بقدر املستطاع يف مباين اأهل الأرض تاأسيا ببيئة اجلنة<br />
املثالية التي هي فوق خيال البشر.<br />
ثم تاأتي العديد من الآيات القراآنية الأخرى لتوضح وتبني للبشر كيف ميكن<br />
لهم اأن يصلوا اإىل هذه الغاية، وهى مراعاة العوامل البيئية يف التصميم<br />
ووسائل حتقيق الراحة احلرارية سواء يف املباين اأو الفراغات اخلارجية وهو<br />
ما نسعى اإىل توضيحه يف املحاور التالية:<br />
اأول: مراعاة اختيار مواقع التجمعات العمرانية<br />
من خالل بحثنا يف اآيات القراآن الكرمي عن ضوابط العمران والبنيان،<br />
وجدنا اأن اإحدى الآيات الكرمية قد اأشارت بطريق غري مباشر اإىل عالقة<br />
وتاأثري العوامل البيئية يف اختيار مواقع املدن والتجمعات العمرانية، حيث<br />
يقول تعاىل: }<br />
. )2( {<br />
)1( شفيق العوضى الوكيل، وحممد عبداهلل سراج )1985(: املناخ وعمارة املناطق احلارة، القاهرة،<br />
ص166.<br />
)2( سورة سباأ: الآية 15.<br />
97
قال عبد الرحمن بن زيد يف تفسري الآية الكرمية السابقة )1( : »اإن الآية<br />
التي كانت لأهل سباأ يف مساكنهم اأنهم مل يروا فيها بعوضة قط ول ذباباً ول<br />
برغوثاً ول قملةً ول عقرباً ول حية ول غريها من الهوام، واإذا جاءهم الركب<br />
يف ثيابهم القمل والدواب، فاإذا نظروا اإىل بيوتهم ماتت الدواب، وقيل: بلدة<br />
طيبة ليس فيها هوام لطيب هوائها«.<br />
اإن الآية الكرمية تلفت النظر اإىل اأهمية اختيار مواقع املدن والتجمعات<br />
العمرانية من حيث املناخ اجليد والهواء الطيب، كما تلفت النظر اإىل عالقة<br />
وجود اجلنات الأرضية وتاأثريها على حتسني مناخ هذه التجمعات، فلقد<br />
اأشارت الآية اإىل وجود جنتني عن ميني وشمال مساكن بلدة سباأ، وهو مما<br />
يلفت نظر املصممني اإىل اأهمية تواجد احلدائق يف التجمعات العمرانية<br />
كعنصر جمايل وبيئي يف الوقت نفسه، كما يجب األ نغفل دور اإحاطة املساكن<br />
عن ميينها وشمالها باحلدائق لأنه يحميها من الرياح املحملة بالرمال يف<br />
حالة هبوبها على هذه التجمعات السكنية، شكل )23(.<br />
وفى اآية كرمية اأخرى، يلفت القراآن الكرمي اأنظارنا اإىل اأهمية دراسة<br />
املوقع قبل بناء املبنى، وذلك لالستفادة من ظروف البيئة، ونلمح ذلك يف<br />
قوله تعاىل:{<br />
اأي اتخذت من جانب الشرق وهو املكان الذى تشرق فيه الشمس، واإمنا<br />
خص املكان بالشرق لأنهم كانوا يعظمون جهة املشرق من حيث تطلع الأنوار،<br />
وكانت اجلهات الشرقية من كل شيء اأفضل من سواها، حكاه الطربي )3( .<br />
، )2( {<br />
اإن عملية حتديد عالقة الأماكن اأو الفراغات العمرانية واملعمارية<br />
باجلهات الأصلية لها اأهمية قصوى، لأن ذلك سوف يوؤثر على الأسلوب الذى<br />
تتعرض له هذه الأماكن لالإشعاع الشمسي اأو الرياح السائدة بكل منطقة،<br />
)1( انظر تفسري الآية 15 من سورة سباأ يف اجلامع لأحكام القراآن لالإمام القرطبي.<br />
)2( سورة مرمي: الآية 16.<br />
)3( انظر تفسري الآية 16 من سورة مرمي يف اجلامع لأحكام القراآن لالإمام القرطبي.<br />
98
شكل )24(، وهو ما اأشارت اإليه الآية الكرمية بطريق غري مباشر حيث<br />
اأوضحت اأن مرمي انتبذت مكانا شرقيا من حيث تطلع الأنوار يف الصباح،<br />
وكما نعرف الآن فاإنه ينصح بالتعرض للشمس عند طلوعها قبل اأن ترتفع يف<br />
السماء وتشتد اأشعتها ملا يف هذا التعرض من فوائد صحية جمة )1( .<br />
لقد اأراد القراآن الكرمي اأن ينبه اإىل اأهمية وعالقة التجمعات العمرانية<br />
اأو املباين بالبيئة، سواء كان ذلك يف اأسلوب اختيار اأماكنها اأو يف عالقتها<br />
باجلهات الأصلية، وهي اأشياء توضح اهتمام الإسالم بالبعد البيئي عند<br />
اإقامة التجمعات العمرانية.<br />
شكل )23(: اإحاطة اأشجار النخيل مبنطقة »نزوى« القدمية يف سلطنة عمان.<br />
)1( للمزيد من التفاصيل انظر: يحيى وزيري )2003(.. التصميم املعماري الصديق للبيئة، مكتبة<br />
مدبويل، القاهرة، ص 118 وما بعدها.<br />
99
شكل )24(: استعمل املسلمون الوحدات الزخرفية الضيقة يف النوافذ لكسر حدة اأشعة الشمس.<br />
ثانيا: اأهمية الظالل كاأحد وسائل حتقيق الراحة احلرارية<br />
سبق اأن اأشرنا يف بداية هذا املبحث اإىل اأن الهدف الأساسي لعلم<br />
التصميم البيئي هو حتقيق الراحة احلرارية يف املباين اأو يف الفراغات<br />
اخلارجية، وتوجد وسائل واإسرتاتيجيات تصميمية متعددة لتحقيق هذا<br />
الهدف، ومن اأهم هذه الوسائل واأجنحها توفري الظالل.<br />
وبدراسة الآيات القراآنية التي حتدثت عن الظالل، جند اأن القراآن<br />
الكرمي ينهج نهجا رائعا يف لفت النظر اإىل اأهمية الظالل، ففي البداية نرى<br />
اأن اهلل يلفت نظر عباده اإىل الظل كظاهرة طبيعية مشاهدة لها خصائص<br />
معينة، فيقول سبحانه وتعاىل:{<br />
. )1( {<br />
)1( سورة الفرقان: الآيتان 46. 45،<br />
100
اإن الآية الكرمية توضح بعض خصائص الظل يف المتداد والنقباض<br />
وعالقة هذا بانخفاض الشمس اأو ارتفاعها يف السماء على مدار اليوم،<br />
اإن مراد الآية الكرمية لفت الأنظار اإىل ظاهرة الظالل كظاهرة طبيعية<br />
تستحق التدبر والدراسة.<br />
والظل يف اللغة نقيض الضح )بالكسر(، اأو هو الفيئ اأو هو بالغداة والفيئ<br />
بالعشي، ومكان ظليل ذو ظل، والظلة شيء كالصفة يسترت به من احلر<br />
والربد، والظالل واملظلة )بالكسر والفتح( الكبري من الأخبية، والظليلة<br />
مستنقع املاء يف اأسفل مسيل الوادي والروضة الكثرية احلرجات، والظلل<br />
املاء حتت الشجر ل تصيبه الشمس )1( ، ويف املعجم الوجيز )2( : »الظل هو<br />
ضوء الشمس اإذا استرتت عنك بحاجز، والظليل ذو الظل، ويقال: ظل ظليل<br />
اأي دائم«.<br />
ثم يف اآية اأخرى يوضح القراآن اأن الظالل هي اإحدى نعم اهلل سبحانه<br />
وتعاىل للبشر، حيث يقول سبحانه وتعاىل: }<br />
{ )3( ، اأورد<br />
الإمام القرطبي )رحمه اهلل( يف تفسري الآية الكرمية ما يلي )4( : »ملا كانت<br />
بالد العرب شديدة احلر وحاجتهم اإىل الظل كبرية فقد اأوضح اهلل سبحانه<br />
وتعاىل اأن الظالل اإحدى نعمه التي مَ نّ بها على بني البشر، فاهلل سبحانه<br />
وتعاىل قد خلق للبشر الأشجار التي توفر الظالل كما جعل من اجلبال<br />
مواضع للسكنى كالكهوف )كما يف كهف اأهل الكهف( يلجاأ اإليها الإنسان<br />
)1( انظر الفريوزاآبادي : مرجع سابق.<br />
)2( انظر املعجم الوجيز: مرجع سابق.<br />
)3( سورة النحل: الآية 81.<br />
)4( انظر تفسري الآية )81( من سورة النحل يف كتاب »اجلامع لأحكام القراآن« لالإمام القرطبي.<br />
101
طلبا للظل واحلماية، كما األهمهم اتخاذ الأبنية حماية لهم من احلر والربد<br />
وطلبا للظل«، شكل )25(.<br />
استخدام الربوزات فى واجهات املساكن الإسالمية لزيادة كمية التظليل.<br />
سوق اخليامية املغطى بالقاهرة القدمية.<br />
شكل )25(: يعترب تظليل املباين والشوارع من اأهم عوامل خفض درجة احلرارة.<br />
102
اأما الإمام ابن كثري -رحمه اهلل- فقد اأورد يف تفسري الآية الكرمية<br />
ما يلي )1( : »)واهلل جعل لكم مما خلق ظلاال( قال قتادة: يعني الشجر،<br />
)وجعل لكم من اجلبال اأكنانا( اأي حصونا ومعاقل، كما )جعل لكم سرابيل<br />
تقيكم احلر(، وهي الثياب من القطن والكتان والصوف، )وسرابيل تقيكم<br />
باأسكم( كالدروع من احلديد املصفح والزرد وغري ذلك، )كذلك يتم نعمته<br />
عليكم( اأي هكذا يجعل لكم ما تستعينون به على اأمركم وما حتتاجون اإليه<br />
ليكون عونا لكم على طاعته وعبادته )لعلكم تسلمون(.<br />
وقال قتادة يف قوله )كذلك يتم نعمته عليكم(: هذه السورة تسمى سورة<br />
النعم. وقال عطاء اخلراساين: اإمنا اأنزل القراآن على قدر معرفة العرب، األ<br />
ترى اإىل قوله تعاىل )واهلل جعل لكم مما خلق ظالل وجعل لكم من اجلبال<br />
اأكنانا(، وما جعل من السهل اأعظم واأكرث ولكنهم كانوا اأصحاب جبال، األ<br />
ترى اإىل قوله )ومن اأصوافها واأوبارها واأشعارها اأثاثا ومتاعا اإىل حني( وما<br />
جعل لهم من غري ذلك اأعظم واأكرث ولكنهم كانوا اأصحاب وَبَر وشَ عر، األ<br />
ترى اإىل قوله تعاىل )سرابيل تقيكم احلر( وما تقي من الربد اأعظم واأكرث<br />
ولكنهم كانوا اأصحاب حر«؟!<br />
ثم تاأتي اآية كرمية اأخرى لتوضح، باأسلوب واضح مباشر، اأهمية الظالل<br />
من ناحية توفري الراحة احلرارية، لأن الظل ل يستوى واحلر، فيقول جل يف<br />
عاله:{<br />
{ )2( ، اإن الآية الكرمية توؤكد وتنبه على حقيقة يلمسها<br />
جميع البشر حيث يشعرون بالفرق الكبري بني الأماكن املظللة والأماكن<br />
املعرضة للشمس واحلر.<br />
)1( انظر تفسري الآية )81( من سورة النحل يف كتاب »تفسري القراآن العظيم« لالإمام احلافظ ابن<br />
كثري.<br />
)2( سورة فاطر : الآيات من 19 اإىل 21.<br />
103
ويف اآية قراآنية اأخرى يتم التنبيه على الأهمية القصوى للظالل لدرجة<br />
اأنها تصبح اإحدى املتع التي اأعدها اهلل لعباده الصاحلني باجلنة، يقول<br />
سبحانه وتعاىل:{<br />
{ )1( ، قال الضحاك<br />
والسدي واأبو حرزة يف قوله تعاىل: »وظل ممدود« ل ينقطع ليس فيها شمس<br />
ول حر مثل قبل طلوع الفجر، وقال ابن مسعود: اجلنة سجسج كما بني طلوع<br />
الفجر اإىل طلوع الشمس )2( .<br />
ويف الصحيحني من حديث اأبى الزناد عن الأعرج عن اأبي هريرة قال:<br />
قال رسول اهلل ]:»اإن يف اجلنة شجرة يسري الراكب يف ظلها مائة عام<br />
ليقطعها، فاقرءوا اإن شئتم وظل ممدود«. ويف الصحيحني اأيضا من حديث<br />
اأبي حازم عن سهل بن سعد عن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قال: »اإن يف<br />
اجلنة لشجرة يسري الراكب يف ظلها مائة عام ليقطعها« )3( .<br />
ومن الالفت للنظر اأن الآية الكرمية قد ربطت ما بني الظل الدائم<br />
ووجود املاء اجلاري، وهو ما يوؤدى اإىل زيادة التقليل يف درجات احلرارة<br />
وهو ما اأثبتته العديد من التجارب العلمية احلديثة )4( . لقد اأعطت الآية<br />
الكرمية منوذجاً مثالياً للتصميم البيئي حيث اجلمع بني الظالل واملاء،<br />
وهو ما يفسر حرص املسلمني الأوائل على وجود النوافري والبحريات املائية<br />
داخل اأفنية املباين والبيوت الإسالمية، ويف احلدائق اخلارجية املحيطة بها<br />
)1( سورة الواقعة: الآيات من 27 اإىل 31.<br />
)2( انظر تفسري الآية 30 من سورة الواقعة يف تفسري القراآن العظيم لالإمام ابن كثري.<br />
)3( الإمام ابن قيم اجلوزية )بدون تاريخ(: حادي الأرواح اإىل بالد الأفراح، دار عمر بن اخلطاب<br />
للتوزيع والنشر، القاهرة، ص136.<br />
)4( انظر على سبيل املثال:<br />
*Yehia Wazeri (2001). The natural cooling system…an approach for improving<br />
the thermal performance of buildings in North Africa (Ph.D.). Institute<br />
of African Research and Studies, Cairo University, pp. 95-97.<br />
104
}<br />
بهدف خفض درجات احلرارة، اإىل جانب حتقيق العامل اجلمايل اأيضا )1( ،<br />
شكل )26(.<br />
اإن حرص القراآن الكرمي على لفت الأنظار اإىل اأهمية الظالل يف<br />
عمليات التصميم البيئي له شقان: الأول منهما يوؤكد على اأهمية العالقة<br />
بني العوامل البيئية والعمران والبنيان الإسالمي، والثاين يوضح اأن هذا<br />
التاأكيد واحلرص على اأهمية الظالل يتفق مع القياسات العلمية احلديثة<br />
التي توضح اأثر توفري الظالل يف خفض درجات احلرارة داخل املباين<br />
والفراغات اخلارجية املكشوفة )2( .<br />
ثالثا: منوذج قراآين يوضح فكرة التصميم البيئي<br />
خالل بحثنا يف القراآن الكرمي عن الآيات التي تربز اأهمية البعد البيئي يف<br />
العمران والبنيان، وجدنا اأحد الأمثلة املهمة التي توضح اأحد جوانب الفكر<br />
البيئي يف التصميم املعماري، ونقصد هنا حتديدا الوصف الوارد بسورة<br />
الكهف لعالقة حركة الشمس بالكهف الذى جلاأ اإليه الفتية املوؤمنون، ويصف<br />
لنا سبحانه وتعاىل هذة العالقة يف قوله:<br />
. )3( {<br />
)1( للمزيد من التفاصيل انظر: يحيى وزيري ( العمارة الإسالمية والبيئة(: مرجع سابق، ص132،<br />
ص .218، 217<br />
)2( تعترب عملية تظليل املباين اأو الفراغات اخلارجية اأحد اأهم مبادئ علم التصميم البيئي، وحتى<br />
ميكن اإدراك اأهمية اإيجاد وتوفري الظالل خاصة باملناطق احلارة فاإن بعض الدراسات اأوضحت اأن<br />
تظليل الشوارع يوؤدي اإىل انخفاض يف درجة احلرارة يقدر بحوايل 4 درجات مئوية، ويف قياسات متت<br />
على بعض اأفنية املنازل الإسالمية القدمية بالقاهرة اتضح اأن درجات احلرارة داخل هذه الأفنية<br />
املعرضة للظل تقل بحوايل 4 اإىل 7 درجات مئوية عن درجة حرارة سطح املنزل املعرض للشمس.<br />
)3( سورة الكهف: الآية 17.<br />
105
106<br />
شكل )26(: استخدام املاء بصوره املتنوعة لرتطيب اجلو يف حديقة الأزهر اجلديدة بالقاهرة.
يقول ابن كثري - رحمه اهلل - يف شرح الآية الكرمية )1( : »اإن هذا دليل<br />
على اأن باب هذا الكهف املذكور كان من نحو الشمال؛ لأنه تعاىل اأخرب اأن<br />
الشمس اإذا دخلته عند طلوعها تزاور عنه )ذات اليمني( اأي يتقلص الفيئ<br />
مينة، كما قال ابن عباس وسعيد ابن جبري وقتادة: )تزاور( اأي متيل وذلك<br />
اأنها كلما ارتفعت يف الأفق تقلص شعاعها بارتفاعها حتى ل يبقى منه شيء<br />
عند الزوال يف مثل ذلك املكان، ولهذا قال )واإذا غربت تقرضهم ذات<br />
الشمال(، اأي تدخل اإىل غارهم من شمال بابه وهو من ناحية املشرق، فدل<br />
على صحة ما قلناه وهذا بنيمٌ ملن تاأمله وكان له علم مبعرفة الهيئة وسري<br />
الشمس والقمر والكواكب، وبيانه اأنه لو كان باب الغار من ناحية املشرق<br />
ملا دخل اإليه منها شيء عند الغروب، ولو كان من ناحية القبلة )يقصد<br />
اجلنوب( ملا دخل منها شيء عند الطلوع و ل عند الغروب ول تزاور الفيئ<br />
ميينا ول شمال، ولو كان من جهة الغرب ملا دخلته وقت الطلوع بل بعد<br />
الزوال ومل تزل فيه اإىل الغروب، فتعني ما ذكرناه وهلل احلمد.<br />
وقال مالك عن زيد بن اأسلم: متيل )ذات اليمني واإذا غربت تقرضهم<br />
ذات الشمال وهم يف فجوة منه( اأي يف متسع منه داخال بحيث ل تصيبهم<br />
اإذ لو اأصابتهم لأحرقت اأبدانهم وثيابهم قاله ابن عباس، )ذلك من اآيات<br />
اهلل( حيث اأرشدهم اإىل هذا الغار الذي جعلهم فيه اأحياء والشمس والريح<br />
تدخل عليهم فيه لتبقى اأبدانهم« .<br />
ويقول الإمام الشوكانى - رحمه اهلل - يف تفسري الآية الكرمية )2( :<br />
»للمفسرين يف تفسري هذه الآية قولن: الأول: اأنهم مع كونهم يف مكان منفتح<br />
انفتاحا واسعا يف ظل جميع نهارهم ول تصيبهم الشمس يف طلوعها ول يف<br />
غروبها لأن اهلل حجبها عنهم، والثاين: اأن باب الكهف كان مفتوحا جهة<br />
)1( انظر تفسري الآية )17( من سورة الكهف يف كتاب »تفسري القراآن العظيم« لالإمام احلافظ<br />
ابن كثري.<br />
)2( انظر تفسري الآية )17( من سورة الكهف يف كتاب »فتح القدير« لالإمام الشوكاين.<br />
107
الشمال، فاإذا طلعت الشمس كانت عن ميني الكهف واإذا غربت كانت عن<br />
يساره«.<br />
اإن الشاهد من الآية الكرمية السابقة اأنها تلفت النظر اإىل عالقة<br />
حركة الشمس بكهف الفتية املوؤمنني )1( ، وهى بذلك تلفت النظر بطريقة<br />
غري مباشرة اإىل اأهمية دراسة العالقة بني توجيه املبنى والإشعاع الشمسي<br />
الواصل اإليه، ملا يف ذلك من تاأثري كبري على تعرض واجهات املباين من<br />
اخلارج لهذا الإشعاع على مدار العام، وهو ما يوؤثر على فراغات املبنى من<br />
الداخل عن طريق دخول الإشعاع الشمسي من فتحات املبنى اخلارجية.<br />
لقد اأوضح املفسرون، جزاهم اهلل خريا، اأهمية توجيه فتحة الكهف<br />
بحيث ل يتعرض مَ نْ بداخله لالإشعاع الشمسي املباشر بل يكون يف الظل<br />
اأغلب الوقت، وهذا الهدف هو اأحد اأهداف عملية التصميم البيئي خاصة<br />
يف املناطق احلارة والتي تركز على اسرتاتيجيتني اأساسيتني بالنسبة اإىل<br />
عالقة املبنى بالإشعاع الشمسي، وهما )1( :<br />
1- يف الصيف: تقليل التعرض لالإشعاع الشمسي.<br />
2- يف الشتاء: العمل على زيادة اكتساب الإشعاع الشمسي.<br />
2<br />
ويف دراسة ميدانية للموؤلف على اأحد الكهوف املوجودة يف الأردن مبنطقة<br />
تسمى »الرقيم«، تقع على بعد حوايل 13 كم جنوب شرق العاصمة الأردنية<br />
عمان، رجح اأن هذا هو الكهف الذى ورد ذكره فى سورة الكهف، لوجود<br />
)1( لقد زار الباحث اأحد الكهوف بالقرب من عمان بالأردن وقام بدراسة حركة الشمس ورسمها<br />
بالنسبة لهذا الكهف، واأثبت اأن هذا الكهف هو الكهف املذكور يف سورة الكهف اإىل جانب استناده<br />
اإىل العديد من الأدلة التاريخية والأثرية واجليولوجية الأخرى. )للمزيد من التفاصيل انظر: يحيى<br />
وزيري )دلئل الإعجاز يف اإشارات التصميم البيئي يف القراآن الكرمي(: مرجع سابق.<br />
)2( انظر على سبيل املثال:<br />
* Watson , D. (1983). Climatic design. McGraw- Hill <strong>Book</strong> Company,<br />
New York.<br />
108
العديد من الأدلة التاريخية والأثرية اإىل جانب اإثبات املوؤلف لتطابق عالقة<br />
حركة الشمس مع هذا الكهف، كما ورد فى الآية السابعة عشر من سورة<br />
الكهف، واأن فتحة باب الكهف موجهة متاما اإىل جهة اجلنوب الغربي )1( ،<br />
شكل )27(.<br />
اإن مناذج الآيات القراآنية التي اأوردناها يف هذا املبحث توؤكد اأن القراآن<br />
الكرمي قد اأوضح اأهمية اأخذ العوامل البيئية يف العتبار عند تصميم املباين<br />
اأو على مستوى التجمعات العمرانية، وهو ما يعني اأن اأخذ البعد البيئي يف<br />
العتبار يعترب من ضوابط العمران والبنيان التي اأكد عليها القراآن الكرمي.<br />
اإن هذا الضابط الذى اأملح اإليه القراآن الكرمي يجب اأن يوؤخذ يف اعتبار<br />
القائمني على تعمري املدن واملجتمعات العمرانية يف الدول الإسالمية ، بحيث<br />
ل يكون العتماد فقط على الوسائل والتقنيات احلديثة كاأجهزة التكييف وما<br />
شابه، ملا لها من اأضرار صحية اإىل جانب اأعبائها القتصادية الكبرية التي<br />
رمبا تتفق مع الظروف احلالية لبعض املجتمعات العربية، ولكنها من جانب<br />
اآخر ل تتفق مع الظروف القتصادية السائدة يف الكثري من املجتمعات<br />
العربية والإسالمية الأخرى.<br />
)1( للمزيد من التفاصيل انظر: يحيى وزيرى ( 2004(: دلئل الإعجاز العلمي يف اإشارات التصميم<br />
البيئي يف القراآن الكرمي، مرجع سابق.<br />
109
شكل )27(: صور لكهف الأردن من اخلارج والداخل، وهو الكهف التي ترجح العديد من الأدلة<br />
على اأنه الكهف املذكور يف القراآن الكرمي.<br />
110
املبحث الثالث<br />
توظيف الإبداع اجلمايل يف املعمار<br />
يظن كثري من املسلمني اأن الإسالم دين جامد تنحصر تعاليمه فقط بني<br />
الأوامر والنواهي، اأو »افعل« و»ل تفعل«، وتنعكس روؤيتهم الضيقة هذه على<br />
كل مناحي احلياة املختلفة، لذلك فاإنهم يرون تنحية كل مظاهر الإبداع<br />
الفني واجلمايل من حياة املجتمعات الإسالمية.<br />
ولتصحيح هذا املفهوم، فاإن هذا املبحث يهدف اإىل توضيح اأن الإسالم<br />
ينبه، من خالل العديد من التوجيهات القراآنية اأو الأحاديث النبوية<br />
الصحيحة، اإىل اأن مفهوم »اجلمال« اأو»الزينة« ل ينفصل عن حتقيق جوانب<br />
النفع والوظيفة يف خلق اهلل للكون، بتفاصيله وكائناته التي لحصر لها.<br />
كما يهدف هذا املبحث اإىل توضيح كيف اأن »الأمر« و»النهى« يف الإسالم<br />
قد اأسهم يف الرتقاء باجلوانب اجلمالية يف الفنون والعمارة على حد سواء،<br />
من خالل اإعطاء الأمثلة التطبيقية على ذلك والتي ميزت الفنون املعمارية<br />
الإسالمية عن غريها من فنون احلضارات التي سبقتها اأو تلتها.<br />
واأخريا، فاإن هذا املبحث يوضح كيف اأن الروؤية اجلمالية عند الفنان<br />
واملعماري املسلم كانت نابعة من استخدام اأصول وقواعد علمية ياأتي على<br />
راأسها استخدام النسب الرياضية والهندسية يف تصميم عناصر املبنى<br />
املختلفة، لضمان حتقيق احلد الأدنى من اجلمال على مستوى املبنى ككل اأو<br />
على مستوى اأجزائه وتفاصيله وزخارفه.<br />
اأول: مفهوم اجلمال يف الروؤية الإسالمية<br />
تعرف القواميس اجلمال باأنه احلسن واملالحة والبهاء )1( ، اأما اجلمال<br />
يف الفلسفة فهو صفة تلحظ يف الأشياء وتبعث يف النفس سرورا ورضا، اأما<br />
)1( علي علي اآل موسى )1427هجرية(: اجلمال يف القراآن الكرمي.. قراءة وصفية. جملة القراآن<br />
نور- السنة الرابعة، العدد اخلامس، تصدر عن موؤسسة القراآن نور، لبنان، ص19- 62.<br />
111
علم اجلمال فهو باب من اأبواب الفلسفة يبحث يف شروط اجلمال ومقاييسه<br />
ونظرياته )1( .<br />
لقد كان موقف الإسالم من اجلمال واضحا وضوح الشمس، وهو ما<br />
ميكن اأن ندلل عليه بواسطة العديد من الآيات القراآنية والأحاديث النبوية<br />
الشريفة، والتي ياأتي يف مقدمتها جملة وردت يف اأحد الأحاديث النبوية<br />
يستشهد بها املسلمون دائما عند احلديث عن اجلمال اأو حب التزين وهي:<br />
»اإن اهلل جميل يحب اجلمال« )2( ، فاحلرص على طلب اجلمال وحتقيقه<br />
حممود يف الإسالم، بل هو سعي على درب التصال بطرف من صفات اهلل<br />
املعلنة يف اأسمائه.<br />
وقد ورد لفظ »اجلمال« بصورة مباشرة يف العديد من الآيات القراآنية،<br />
كما يف قوله تعاىل:{<br />
اأو عن طريق ذكر بعض الصفات واملعاين املخبوءة واملالزمة لصفة اجلمال،<br />
كاحلسن مثال كما يف قوله تعاىل:{<br />
، )3( {<br />
. )4( {<br />
واإذا كانت الزينة والتزين هي اأحد اأشكال بروز واإبراز اجلمال، فلقد<br />
وردت العديد من الآيات القراآنية التي تتحدث عن مظاهر الزينة ومكامن<br />
اجلمال يف الكون والإنسان واحليوان والنبات، منها )5( :<br />
1- اجلمال يف الإنسان، يف قوله تعاىل:{ { )6( .<br />
)1( املعجم الوجيز )2000(: طبعة خاصة بوزارة الرتبية والتعليم املصرية، جممع اللغة العربية،<br />
مصر، ص117.<br />
)2( رواه مسلم وابن ماجه والرتمذى والإمام اأحمد.<br />
)3( سورة النحل: الآية6.<br />
)4( سورة التغابن: الآية3.<br />
)5( للمزيد من التفاصيل انظر: علي علي اآل موسى، مرجع سابق.<br />
)6( سورة غافر: من الآية64.<br />
112
2- اجلمال يف الطبيعة والكون، كما يف قوله تعاىل: }<br />
{ )1( ، وقوله تعالى:{<br />
. )2( {<br />
3- اجلمال والبهجة يف النباتات واملزروعات، مصداقا لقوله تعاىل:<br />
. )3( {<br />
}<br />
ومل يقف القراآن الكرمي عند توضيح اأن اجلمال والزينة من مظاهر اإبداع<br />
خلق الكون والإنسان، ولكن كان قاطعا وحاسما يف توضيح اأن اجلمال والزينة<br />
ل تعد من املحرمات، بل اإن وجودها واإخراجها للعباد مقرون بالطيبات من<br />
الرزق، وذلك تصحيحا للمفهوم اخلاطئ الذى يربط دوماً الإميان بالبعد<br />
عن كل مباهج احلياة التي اأحلها اهلل، حيث يقول جل يف عاله: }<br />
. )4( {<br />
اإن اجلمال يف مفهوم العديد من فالسفة الغرب هدف يف حد ذاته، ول<br />
يشرتط اأن يرتبط مبنفعة اأو وظيفة معينة، فلقد عرفه »كانت« باأنه: »ما يروق<br />
لنا بغري اأن يرتبط مبنفعة معينة« )5( ، وعرفه »شوبنهور« باأنه: »صفة للشيء<br />
)1( سورة الكهف: الآية 7.<br />
)2( سورة احلجر: الآية 16.<br />
)3( سورة احلج: الآية5.<br />
)4( سورة الأعراف: الآية 32.<br />
)5( اأمرية حلمى مطر: مقدمة يف علم اجلمال، دار النهضة العربية، القاهرة، ص20.<br />
113
الذى يبعث يف نفوسنا السرور بصرف النظر عن مدى نفعه لنا..« )1( ، لذلك<br />
يُالحظ انعكاس هذه النظرة على اآثار الفن التشكيلي الغربي )اللوحات<br />
والتماثيل( التي ل يقصد من ورائها الستعمال النفعي، بل التمتع فقط )2( ،<br />
ويصبح الهدف النهائي من اإنتاج واإبداع العمل الفني مهما كانت صورته<br />
النهائية هو الفن نفسه اأو »الفن للفن«.<br />
اأما يف املفهوم الإسالمي، فاإن اجلمال والزينة يرتبطان باملنفعة املادية<br />
واجلوانب الوظيفية،شكل )28(، ويوؤكد هذا املفهوم قوله تعاىل:{<br />
{ )3( ، فحني يتحدث القراآن الكرمي عن الأنعام<br />
وعلة خلقها يشري اإىل جانبني فيها )4( : اأولهما: اجلانب الوظيفي مبا جتلبه<br />
لالإنسان من دفء بجلودها واأكل للحومها، وحمل لأغراضه واأمتعته وركوبه<br />
وامتطائه لظهورها عند التنقل، وثانيهما: اجلانب اجلماإيل فهي مصدر<br />
بهجة يغدق عليه الأنس والرتياح، وزينة تطرز ثوب حياته بخيوط خمملية<br />
رائعة يسكن اإليها.<br />
وحني يتحدث القراآن الكرمي عن احلدائق ذات الثمار الوارفة الظالل،<br />
فاإنه يصفها باأنها »ذات بهجة«، تاأكيدا على الربط بني وظيفة احلدائق<br />
)1( غازي اخلالدي )1419هجرية:. علم اجلمال.. نظرية وتطبيق يف املوسيقى واملسرح والفنون<br />
التشكيلية، وزارة الثقافة، دمشق، ص34.<br />
)2( بركات حممد مراد )2005(: الفنان املسلم والإبداع، جملة املسلم املعاصر، تصدر عن جمعية<br />
املسلم املعاصر، القاهرة، ص81- 112.<br />
)3( سورة النحل: من الآية 5- 8.<br />
)4( علي علي اآل موسى: مرجع سابق.<br />
114
النفعية حيث تخرج الثمار واملزروعات لياأكل منها الناس، كما توفر لهم<br />
الظالل حماية لهم من الشمس، شكل )29(، وبني اإدخال البهجة والسرور<br />
على النفوس مبا حتويه من مناظر طبيعية جميلة وخالبة، ويف ذلك يقول<br />
اهلل تعالى:{<br />
{ )2( ، وهو<br />
. )1( {<br />
واإذا كان اهلل تعاىل قد اأحل اأنواع الزينة وكل اأنواع املتاع الذى تقدمه<br />
احلياة، فاإن ذلك مشروط مبراعاة املبادئ الأخالقية، لأن اجلمال اإمنا<br />
هو للمتعة السامية وليس لالبتذال اأو العبث، لذلك فقد نعى القراآن الكرمي<br />
على قوم عاد اأنهم كانوا يقيمون املباين الرائعة اجلميلة من اأجل العبث،<br />
حيث يقول سبحانه وتعاىل:{<br />
ماسبق اأن اأوضحناه يف الفصل الأول من اأن الآية الكرمية مل تستنكر اتخاذ<br />
عاد للمباين الرائعة اجلمال، ولكن استنكرت الغاية، وهي هنا »العبث«.<br />
)1( سورة النمل: الآية 60.<br />
)2( سورة الشعراء : الآية 128.<br />
115
شكل )28(: علبة حلفظ املصحف الشريف ، توضح تالزم الوظيفة واجلمال<br />
يف روؤية الفن الإسالمي.<br />
شكل )29(: احلدائق اأحد عناصر اجلمال واإدخال البهجة على النفوس<br />
كما ورد يف القراآن الكرمي.<br />
116
ثانيا: اإسهام الأمر والنهي يف الرتقاء باجلوانب اجلمالية<br />
والفنية<br />
لقد كان ذكرُ اجلمال على تنوعه يف القراآن الكرمي والتنبيه اإىل النظر<br />
اإليه، من اأسباب الهتمام بتجميل احلياة عند املسلمني، والظهور مبظهر<br />
اجلمال يف خمتلف الأحوال واملناسبات العامة )1( .<br />
بل اإن القراآن الكرمي قد حث واأمر املسلمني على الأخذ باأسباب اجلمال<br />
والزينة بطريقة مباشرة، حيث اأمرهم بذلك يف قوله تعاىل: }<br />
{ )2( ، فدعوة القراآن الكرمي الناس اإىل اتخاذ<br />
الزينة عند كل مسجد، اأي اإىل اإقامة التالزم وعقد القران بني التزين وبني<br />
دعاء اهلل واملثول بني يديه، ول يحسنب اأحدمٌ اأن الزينة التي يطلبها الإسالم<br />
وياأمر بها مقصورة على الثياب احلسنة والطِّ يب وحسن التجمل فقط، عند<br />
املثول بني يدى اهلل يف الصالة، ذلك اأن الزينة اإذا كانت اسما جامعا لكل<br />
شيء يتزين به، فاإن مصادر طلبها ومواطن الإحساس بها مبثوثة يف كل<br />
اآيات اجلمال التي خلقها اهلل واأبدعها واأودعها يف سائر اأنحاء الوجود )3( .<br />
لقد وجه القراآن الكرمي اأنظار املسلمني اإىل اإمكانية توظيف اجلمال يف<br />
الأعمال الفنية واملعمارية، عن طريق اأمثلة ومناذج خمتلفة، منها على سبيل<br />
املثال ما يلى )4( :<br />
1- ما بناه اجلن لسليمان:<br />
فقد كان اجلن مسخرا لسيدنا سليمان عليه السالم، يبنون له القصور<br />
)1( للمزيد من التفاصيل انظر: حممد عبد الهادى اأبو ريدة )1992(: قاموس القراآن الكرمي..<br />
مضمون القراآن الكرمي، موؤسسة الكويت للتقدم العلمي، الكويت، ص146 ومابعدها.<br />
)2( سورة الأعراف: الآية 31.<br />
)3( حممد عمارة )2005(: الإسالم والفنون اجلميلة، دار الشروق، القاهرة، ص 23.<br />
)4( للمزيد من التفاصيل انظر: علي علي اآل موسى، مرجع سابق.<br />
117
والهياكل املرتفعة )حماريب(، ويصنعون صوراً جمسمة من نحاس وغريه<br />
)متاثيل(، واأواين طعام ضخمة كاأنها اأحواض املياه )جفان كاجلواب(،<br />
وقدورا ثابتات على املواقد لعظمها )قدور راسيات(، ويف ذلك يقول اهلل<br />
سبحانه وتعاىل:{<br />
. )1( {<br />
ثم يعطينا القراآن الكرمي مثال تفصيليا لواحد من القصور الفريدة<br />
الرائعة يف »احلضارة السليمانية«، وهو ما اأطلقنا عليه »الصرح السليماين«<br />
يف الفصل الأول من الكتاب، وهو ميثل اإبداعا جماليا فوق تصور وقدرة<br />
البشر. نستشف ذلك من قوله تعاىل:{<br />
. )2( {<br />
لقد كان هذا الصرح صحناً من زجاج حتته ماء وفيه احليتان، لرييها<br />
ملكا اأعظم من ملكها. وحكى اأبو عبيدة: اأن الصرح كل بناء عالٍ مرتفع عن<br />
الأرض، واأن املمرد املحكوك الأملس، ومنه الأمرد )3( .<br />
فالآية الكرمية السابقة توضح اأن سيدنا سليمان عليه السالم قد<br />
استخدم هذا الصرح املعماري، الذي يعكس قمة اجلمال والإبداع الفني،<br />
كوسيلة واأداة لدعوة ملكة سباأ اإىل الدخول يف الإسالم والإميان باهلل، وقد<br />
استخدمت مادة الزجاج بصورة اأساسية يف بناء هذا الصرح، فلماذا كان<br />
اختيار هذه املادة بالذات؟.<br />
يشرح اأبو احلسن الندوي ذلك فيقول: »اأمر سليمان البنائني من الإنس<br />
)1( سورة سباأ: الآية 13.<br />
)2( سورة النمل: الآية 44.<br />
)3( انظر تفسري الآية 44 من سورة النمل يف اجلامع لأحكام القراآن لالإمام القرطبي.<br />
118
واجلن فبنوا لها قصرا ممردا )عظيما( من قوارير )زجاج(، واأجروا حتته<br />
املاء، فالذي ل يعرف اأمره يحسب اأنه ماء، ولكن الزجاج يحول بني املاشي<br />
وبني املاء، وكان املوؤكد اأن امللكة تتوهمه ماء فتكشف عن ساقيها، وهنالك<br />
تتبني اخلطاأ وتدرك قصر نظرها وانخداعها باملظاهر. كانت هي وقومها<br />
يسجدون للشمس لأنها اأكرب مظهر للنور واحلياة، التي هي من صفات اهلل<br />
تعاىل، وهنا ينكشف الغطاء عن عينها فتعرف اأنها كما اأخطاأت يف معاملة<br />
الزجاج معاملة املاء فكشفت عن ساقيها، كذلك اأخطاأت يف معاملة اخلالق<br />
فسجدت للشمس وعبدتها، وكان ذلك اأبلغ من مئة خطبة واألف دليل...،<br />
وانكشف الغطاء عن عينيها وعرفت جهلها يف قياس املظهر على الظاهر<br />
وعبادة الشمس والسجود لها« )1( .<br />
2- بيوت وسقف من فضة:<br />
يقول اهلل سبحانه وتعاىل:{<br />
. )2( {<br />
اإن املثال القراآين السابق يوضح ويوؤكد على اأن استخدام مادة الفضة<br />
كمادة بناء اأو تشطيب )نهو( نهائية لبيوت من كفر بالرحمن، ميكن اأن يكون<br />
سببا يف فتنة الناس ومنهم املوؤمنني اأو على الأقل بعضهم، فيصبحون جميعا<br />
اأمة واحدة على الكفر كما اأخربت الآية الكرمية.<br />
اإن اختيار معدن الفضة بالذات له سبب جمايل، حيث اإنه اأكرث املعادن<br />
)1( حسان داود )2004(: سليمان بتعليم بلقيس الستدلل يعلمنا، جملة منار الإسالم- عدد<br />
352، وزارة العدل والسوؤون الإسالمية والأوقاف، دولة الإمارات العربية املتحدة، ص18.<br />
)2( سورة الزخرف: الآيات 35-33.<br />
119
قدرة على عكس الضوء سواء الضوء الطبيعي نهارا اأو الإضاءة الصناعية<br />
ليال، وهو ما يعطيه مظهرا جماليا رائعا لدرجة تصل حلد الفتتان بالشكل<br />
اجلمايل للمساكن التي ميكن اأن تبنى من الفضة.<br />
ومن زاوية اأخرى، فاإن الآية الكرمية حتتوي على وجه من اأوجه الإعجاز<br />
القراآين، األ وهو الإشارة اإىل اإمكانية استخدام املعادن بصورة اأساسية يف<br />
عناصر املباين املختلفة، كالأسقف واحلوائط والأبواب وغريها، وهذا سبق<br />
للقراآن الكرمي حيث اإن البشرية وقت نزول القراآن كانت تستعمل يف اإنشاء<br />
املباين مادة احلجر اأو الطوب اأو اخلشب، ومل تكن تعرف استعمال املواد<br />
املعدنية بصورة اأساسية يف اإقامة املباين اأو تشطيبها، فلو كان هذا القراآن<br />
من قول البشر، فكيف ميكن لهذا الإنسان اأن يتخيل اإمكانية استخدام هذه<br />
املعادن بصورة اأساسية يف املباين كما حدث يف القرن العشرين، حيث جند<br />
مناذج ملبانٍ تستخدم بعض املعادن يف كسوة اأسقفها وحوائطها بصورة<br />
اأساسية )كمتحف جوجنهامي باأسبانيا على سبيل املثال(، شكل )30(، ويتم<br />
اعتبار هذا الأسلوب املعماري من اأحدث الأساليب التصميمية يف عصرنا<br />
احلديث )1( .<br />
3- مساكن سباأ:<br />
من النماذج اجلمالية التي ورد ذكرها يف القراآن الكرمي مساكن حضارة<br />
سباأ، حيث يقول تعاىل:{<br />
. )1( {<br />
3<br />
لقد سبق اأن اأوضحنا يف هذا الفصل يف املحور الأول، اأن الآية الكرمية<br />
تلفت اإىل وجود جنتني عن ميني وشمال مساكن بلدة سباأ، وهو ما يلفت نظر<br />
)1( انظر بحثنا: سقف من فضة..ملاذا الفضة؟، جملة الإعجاز العلمي، عدد اأكتوبر، 2006م. الهيئة<br />
العاملية لالإعجاز العلمي يف القراآن والسنة، مكة املكرمة.<br />
)2( سورة سباأ: الآية 15.<br />
120
املصممني اإىل اأهمية وجود احلدائق يف التجمعات العمرانية كعنصر جمايل<br />
وبيئي يف الوقت نفسه.<br />
4- استخدام املاء كعنصر جمايل :<br />
يقول اهلل سبحانه وتعاىل على لسان فرعون: }<br />
، )1( {<br />
ويف معنى هذه الآية يقول الإمام القرطبي )2( : »اأي نادى فرعون روؤساء<br />
القبط وعظماءهم ملا راأى الآيات الباهرة من موسى، وخاف اأن يوؤمنوا،<br />
فقال مفتخرا متبجحا: األيست بالد مصر الواسعة الشاسعة ملكا يل؟ وهذه<br />
اخللجان والأنهار املتفرعة من نهر النيل جتري من حتت قصوري؟«.<br />
)1( سورة الزخرف: الآية 51.<br />
)2( انظر تفسري الآية 51 من سورة الزخرف يف اجلامع لأحكام القراآن لالإمام القرطبي.<br />
121
شكل )30(: لقد كان للقراآن الكرمي السبق يف التنبيه على اإمكانية استخدام بعض املعادن )الفضة<br />
مثال(، كمادة نهو جميلة ومبهرة لأسقف املباين اأو حوائطها، وهذا ما بداأنا نراه يف بعض املباين<br />
احلديثة التى بداأت تستخدم بعض املعادن كالتيتانيوم الشبيه بلون الفضة.<br />
122
وميكن اأن نفهم من قول فرعون يف الآية الكرمية السابقة معنيني )1( :<br />
»الأول: اأن قصور فرعون كانت مبنية على اأماكن مرتفعة كالروابي مثال،<br />
وكانت فروع نهر النيل يف ذلك الوقت جتري حتت اأو اأسفل هذه الأماكن<br />
املرتفعة، وذلك لأن النيل يف هذا الوقت اإذا اأقبل بفيضه يف الصيف امتد<br />
فغمر الأرض مبائه فتظل حتت الغمر اأمدا ميتد ربع العام، ولذلك فقد عمد<br />
املصريون اإىل اإقامة بيوتهم من فوق روابٍ تعلو املاء. اأما املعنى الثاين: فهو<br />
اأن الأنهار كانت جتري من حتت قصور فرعون مبعنى اأنها تخرتق بعضا اأو<br />
اأجزاء منها«، ويف احلالتني فاإن الآية الكرمية تلفت النظر اإىل اأن الأنهار<br />
جتري من حتت الأماكن والقصور التي كان يبنيها فرعون لتوؤكد اأن هذا هو<br />
الأسلوب الأمثل لتصميم وتنسيق املاء يف املواقع واجلنات الأرضية، وذلك<br />
لأن هذا الأسلوب يحمي هذه املواقع من الفيضانات اأو اأن تغمر باملياه، كما<br />
اأنه من الناحية البصرية واجلمالية يتيح للناظر اإىل املاء اأن يستمتع مبنظره<br />
الذي يُدْ خل على النفس البشرية الراحة والسكون والصفاء.<br />
اإن النماذج القراآنية التي ذكرناها وغريها مما مل نذكرها )2( ، ساهمت<br />
بشكل اأساسي يف حرص املسلمني على حتقيق اجلوانب اجلمالية والفنية<br />
فيما يصممونه وينفذونه من عمائر وزخارف، وهو ماميكن اأن نالحظه دون<br />
عناء عند زيارتنا للمساجد اأو املساكن الإسالمية الأثرية الباقية يف خمتلف<br />
عواصم ومدن العامل الإسالمي كالقاهرة ودمشق واأصفهان وفاس وغرناطة<br />
وغريها، وسوف نورد مناذج متعددة من جماليات فنون العمائر الإسالمية<br />
يف املحور الثالث من هذا الفصل.<br />
واإذا كان »لالأمر« - سواء بطريق مباشر اأو عن طريق لفت النظر والتنبيه<br />
كما اأوضحنا -دور مهم يف الرتقاء اجلمايل بفنون العمران والبنيان، فلقد<br />
اأسهم اأيضا »النهي« بطريقة ملموسة يف حتقيق الغاية نفسها اأيضا.<br />
)1( يحيى وزيري )1992(: التعمري يف القراآن والسنة، القاهرة، ص24.<br />
)2( للمزيد من التفاصيل انظر: علي علي اآل موسى، مرجع سابق.<br />
123
لقد كان للعديد من الأحاديث النبوية، التي نبهت اإىل كراهية تصوير<br />
الكائنات احلية، اأثر يف ابتعاد الفنان املسلم عن استخدام الصور اأو التماثيل<br />
املجسمة يف العمائر الإسالمية بصفة عامة، ومن هذه الأحاديث ما يلي:<br />
عن اأبي زرعة قال:»دخلت مع اأبي هريرة دار مروان بن احلكم فراأى فيها<br />
تصاوير وهي تبنى فقال: سمعت رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يقول:»قال<br />
اهلل عز وجل: ومن اأظلم ممن ذهب يخلق كخلقي، فليخلقوا ذرة اأو فليخلقوا<br />
حبة اأو فليخلقوا شعرية« )1( .<br />
عن اأبي هريرة رضى اهلل عنه قال: قال رسول اهلل صلى اهلل عليه<br />
وسلم:»يجمع الناس يوم القيامة يف صعيد واحد، ثم يطلع عليهم رب<br />
العاملني، ثم يقال: األ تتبع كل اأمة ما كانوا يعبدون؟.. فيتمثل لصاحب<br />
الصليب صليبه، ولصاحب الصور صوره، ولصاحب النار ناره، فيتبعون ما<br />
كانوا يعبدون ويبقى املسلمون..« )2( .<br />
جاء رجل من اأهل العراق كان يحرتف التصوير، اإىل عبد اهلل بن عباس،<br />
فقال له: »يا ابن عباس، اإين رجل اأصور هذه الصور واأصنع هذه الصور،<br />
فافتنى فيها؟، فقال له ابن عباس:»اأنبئك مبا سمعت من رسول اهلل صلى<br />
اهلل عليه وسلم، سمعت رسول اهلل يقول: كل مصور يف النار، يجعل له بكل<br />
صورة صورها نفس تعذبه يف جهنم«، ثم استطرد ابن عباس فاأشار على<br />
الرجل اأن يصور ما لحياة فيه، فيمارس الفن اجلميل يف غري ماهو مظنة<br />
الوثنية، مماجاء فيه النهى والتحرمي، فقال للرجل:»فاإن كنت ل بد فاعال،<br />
فاجعل الشجر وما ل نفس فيه« )3( .<br />
هذه بعض مناذج من التوجيهات النبوية التي استنبط منها علماء<br />
)1( رواه البخاري ومسلم والإمام اأحمد.<br />
)2( رواه البخارى ومسلم والنسائي والإمام اأحمد.<br />
)3( رواه المام اأحمد.<br />
124
الإسالم كراهية تصوير كل ما له روح، كما وجهت نظر الفنان واملصمم<br />
املسلم اإىل اإمكانية الستعاضة عن ذلك بتصوير اجلمادات وكل ما ل نفس<br />
فيه، كما اأشار الصحابى اجلليل عبد اهلل بن عباس رضي اهلل عنه.<br />
من هنا نساأت الزخارف الإسالمية املتميزة واملعروفة باسم »الأرابيسك«،<br />
وكانت على نوعني اأساسيني )1( : الأول يعتمد على اخلطوط املستقيمة والزوايا<br />
ويسمى اأحيانا »بالتسطري«، وهو هندسى، والثاين يركز على اخلطوط<br />
امللتوية والدوائر والتجريد النباتي، وقد يطلق عليه »التوريق« اأو »التزهري«،<br />
وقد يحدث دمج بني النوعني السابقني، شكل )31(.<br />
وهذا يعني اأن النهي عن تصوير ما ل روح فيه قد اأدى اإىل ابتكار فن<br />
الأرابيسك اأو العربسة اأو الرقش العربى، وكلها األفاظ للدللة على جميع<br />
اأنواع الزخارف الإسالمية الهندسية وغري الهندسية امللونة، والبسيطة<br />
الدائرية واملستقيمة، النباتية والكتابية.<br />
كما اأدى اأيضا هذا النهي اإىل اهتمام الفنان واملصمم املسلم باستخدام<br />
اخلط العربي، هذا بالطبع يسبقه دافع اآخر األ وهو الحتفاء باللغة العربية،<br />
لغة القراآن الكرمي، فاستخدم اخلط العربي باأنواعه املختلفة التي تفنن<br />
الفنان املسلم يف ابتكارها )2( ، لتزيني املساجد واملساكن بالآيات القراآنية<br />
وباأبيات الشعر وباملاأثورات واحلكم، شكل )31(.<br />
)1( انظر كتابنا: موسوعة عناصر العمارة الإسالمية )الكتاب الرابع( )2000(: مكتبة مدبويل،<br />
القاهرة، ص53.<br />
)2( للتعرف على اأنواع اخلطوط العربية انظر ما يلي:<br />
- عفيف البهنسي )1984(: اخلط العربي.. اأصوله، نهضته، انتشاره، دار الفكر للطباعة والتوزيع<br />
والنشر، دمشق.<br />
- اإبراهيم جمعة )1969(: دراسة يف تطور الكتابات الكوفية، دار الفكر العربي، القاهرة.<br />
125
منوذج لزخرفة هندسية اأساسها الطبق النجمي ذو العشرة اأفرع، من<br />
ابتكارات العمارة الإسالمية<br />
منوذج لزخارف نباتية اإسالمية على القاشاين<br />
شكل )30(: كان للنهي عن تصوير الكائنات احلية الأثر يف ظهور فن زخارف الأرابيسك.<br />
126
ونعطي هنا اأيضا مثال اآخر يوضح اإسهام النهي يف ابتكار نوع من<br />
اخلزف الإسالمي، عرف باسم اخلزف ذي الربيق املعدين، شكل )32(،<br />
فعن حذيفة قال: قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم: « ل تشربوا يف اآنية<br />
الذهب والفضة، ول تاأكلوا يف صحافيهما فاإنها لهم )اأي الكفار( يف الدنيا<br />
ولكم يف الآخرة« )1( ، واحلديث الشريف هنا ينهى صراحة عن استعمال اآنية<br />
الذهب والفضة مبختلف اأنواعها واأشكالها.<br />
لقد حرص الفنان املسلم على اأن يبتكر نوعاً من اخلزف الفاخر<br />
يصلح لأن يكون بديال لأواين الذهب والفضة، بحيث يحقق الرضا واملسرة<br />
للقادرين على اقتنائه )2( ، وكان اأول ظهور هذا النوع من اخلزف يف العصر<br />
العباسي الذي ينسب اإليه اأقدم ما وصلنا منه..، ومن اأمثلة استعماله يف<br />
العمائر الإسالمية حائط القبلة يف املسجد اجلامع مبدينة القريوان، حيث<br />
توجد بالطات مربعة ذات بريق معدين وضعت يف ترتيب هندسي على وجه<br />
املحراب داخل التجويف )3( .<br />
ومن املعروف اأن صناعة اخلزف ذي الربيق املعدين انتشرت يف العامل<br />
الإسالمي كله منذ القرن الثالث للهجرة، واأنها استمرت يف الأندلس حتى<br />
بعد سقوط الدولة الإسالمية يف نهاية القرن اخلامس عشر )4( .<br />
)1( حديث متفق عليه.<br />
)2( اأبو صالح الألفي )بدون تاريخ(: الفن الإسالمي.. اأصوله، فلسفته، مدارسه، )ط3(، دار<br />
املعارف، القاهرة، ص266.<br />
)3( املرجع نفسه، ص267.<br />
)4( للمزيد من التفاصيل انظر: سعاد ماهر )بدون تاريخ(: الفنون الإسالمية. مركز الشارقة<br />
لالإبداع الفكري، دائرة الثقافة والإعالم بحكومة الشارقة، الشارقة.<br />
127
ثالثا: استكشاف اأسلوب حتقيق الإبداع اجلمايل يف العمائر<br />
الإسالمية<br />
اهتم العديد من الباحثني يف جمال العمارة والفنون الإسالمية بتحديد<br />
املبادئ والأسس الفنية التي اأسهمت يف اإعطاء التميز اجلمايل للفنون<br />
والعمارة الإسالمية، سواء اأكان ذلك على مستوى العمائر اأم الزخارف،<br />
ومن اأشهر الدراسات يف هذا املقام كتاب »جمالية الفن العربي« للدكتور<br />
عفيف البهنسي )1( ، وتعترب من الدراسات القيمة يف هذا املجال )2( .<br />
شكل )31(: منوذج من فن اخلط العربى الزخريف الهندسي.<br />
)1( عفيف البهنسى )1979(. جمالية الفن العربي، سلسلة عامل املعرفة- العدد )14(، املجلس<br />
الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت.<br />
)2( انظر اأيضا على سبيل املثال: اجلماليات واجلماليات العربية )1986(، جملة الوحدة- العدد<br />
)24(، املجلس القومي للثقافة العربية، الرباط، اململكة املغربية.<br />
128
شكل )32(: مناذج من اخلزف ذي الربيق املعدين، من ابتكارات الفن الإسالمي<br />
من مقتنيات متحف اخلزف الإسالمي بالقاهرة.<br />
ونحن يف هذا املحور لسنا بصدد استعراض املعايري اجلمالية الظاهرية<br />
التي اتصفت بها فنون العمارة الإسالمية، كاأشكال الزخارف واملقرنصات<br />
اأو اأنواع القباب واملاآذن والأعمدة وغريها من عناصر العمارة الإسالمية،<br />
ولكننا نحاول اأن نستكشف بعمق اأكرث كيف متكن الفنان واملصمم املسلم<br />
من ضمان احلد الأدنى من القيم البصرية اجلمالية على مستوى املبنى<br />
ككل اأو على مستوى تفاصيله وزخارفه.<br />
فلقد اأوضحت بعض الدراسات والأبحاث احلديثة اأن املصمم املسلم<br />
استعان بنسب هندسية ثابتة ومعروفة، وقام بتطبيقها على مستوى املساقط<br />
الأفقية والواجهات والقطاعات وعناصر العمائر الإسالمية، من اأجل حتقيق<br />
الإبداع اجلمايل وضمان احلد الأدنى من توافر القيم اجلمالية البصرية يف<br />
املعمار، شكل )33(.<br />
129
وفيما يلى بعض الأمثلة والنماذج التى توضح ما ذكرناه:<br />
1- استخدام النسب الرياضية يف املساقط الأفقية:<br />
يف دراسة بحثية قام بها الدكتور عبد الرحمن سلطان على خمسة منازل<br />
قاهرية )من القرنني السابع والثامن عشر( )1( ، وجد اأنه قد مت استخدام<br />
بعض النسب الرياضية املعروفة يف تصميم الفراغات املعيشية الرئيسية،<br />
واأن استخدام هذه النسب كانت من اأهم اأدوات التصميم املعماري يف تلك<br />
الفرتة، واأنها كانت من الأسباب اخلفية وراء جمال العمارة الإسالمية.<br />
فقد استخدمت النسبة الذهبية )فاي( ومتثل رياضيا بالنسبة<br />
)1:1.618(، يف نسب بعض فراغات املعيشة الرئيسية كاملقعد والتختبوش<br />
يف بعض البيوت القاهرية كمنزل علي كتخدا ، شكل )34-اأ(، وبيت جمال<br />
الدين الذهبي، وكذلك يف الأقسام الرئيسية من املسقط الأفقي.<br />
اأما النسب الهندسية )باي(، وهي متثل بيانيا النسبة بني حميط الدائرة<br />
اإىل قطرها )3.14(، فقد استخدمت يف تصميم القاعة واملندرة يف بيوت<br />
السناري وعلي كتخدا والذهبي والست وسيلة والسحيمي.<br />
كما وجدت الدراسة اأن نسب بعض الفراغات الثانوية كانت تبعا لنسب<br />
املثلث )3:4:5(، كما يف بيت السناري والست وسيلة وعلي كتخدا، شكل<br />
)34- ب(.<br />
وهو ما يثبت اأن جمال النسب يف مساقط هذه البيوت القاهرية مل ياأتِ<br />
من فراغ، بل كان يتاأسس على اأصول علمية وهندسية واضحة وعميقة.<br />
)1( عبد الرحمن سلطان )1988(: النسب الرياضية يف العمارة الإسالمية، جملة عامل البناء-<br />
عدد )96(، جمعية اإحياء الرتاث التخطيطي واملعماري، القاهرة، ص 23- 28.<br />
130
شكل )33(: مناذج من مساقط اأفقية لعمائر اإسالمية مصممة وفقاً لنسب هندسية حمددة.<br />
131
شكل )34-اأ(: استخدام النسبة الذهبية يف املسقط الأفقي لبيت علي كتخدا بالقاهرة.<br />
شكل )34- ب(: تصميم نسب بعض الفراغات الثانوية تبعا لنسب املثلث )3:4:5(، كما يف بيت<br />
السناري والست وسيلة وعلي كتخدا بالقاهرة.<br />
132
2- استخدام النسب يف تصميم العناصر املعمارية:<br />
فلقد اأورد »ولفرد جوزيف دللى« يف كتابه القيم »العمارة العربية مبصر«<br />
العديد من الأمثلة التي توضح اأسلوب استخدام النسب الهندسية يف عناصر<br />
العمائر الإسالمية املختلفة )1( ، ومن اأمثلة ذلك ما يلي:<br />
اأ- كان تصميم العقود وفق نسب حمددة اأساسها عرض فتحة العقد<br />
)ف(، شكل )35(، كما اأن النسبة بني سمك العقد وبني عرضه تقل عادة<br />
كلما كربت الفتحة، فتكون من 4/1 اإىل 5/1 يف نوافذ الأبواب والشبابيك<br />
املعتادة، ومن 1/7 اإىل 1/10 للبواكي املتوسطة احلجم، وترتاوح بني 1/15<br />
اإىل 1/17 يف العقود كبرية الفتحات )كعقود اإيوانات املساجد(.<br />
ب- بالنسبة اإىل قوالب الكرانيش البارزة، وجد اأن عرض اإطار حجر<br />
املدخل الذي يرتاوح ارتفاعه ما بني عشرة اأمتار وخمسة عشر مرتا يجب<br />
اأن يكون 20 سنتيمرتا، اأما عرض الطراز الذي يلتف حول عنق قبة تعلو<br />
عن سطح الأرض بنحو خمسة وعشرين مرتا فيجب اأن يكون نحوا من 40<br />
سنتيمرتا.<br />
ج- اأما بالنسبة اإىل الشرفات )العرائس(، فوجد اأن عرض الشرفة املسننة<br />
عند قمتها يختلف من 1/4 اإىل 1/5 ارتفاعها عن ظهر »الطبان«، وكذلك<br />
ارتفاع جزء القاعدة الذي يصل الشرف بعضها ببعض، فاإنه يبلغ نحو 1/6<br />
من ارتفاع الشرفة الكلي عن »الطبان«، ويختلف ارتفاع الشرف املسننة من<br />
2/13 اإىل 1/10، ويف العادة يكون عدد اأسنان اأو درجات الشرف ستة.<br />
اأما يف الشرف املورقة )ذات الشكل النباتي( فاإن ارتفاعها يختلف من<br />
1/15 اإىل 1-17 من ارتفاع البناء عن سطح الأرض، بحيث يصغر هذا<br />
)1( ولفرد جوزيف دللى )ترجمة: حممود اأحمد( )2006(: العمارة العربية مبصر يف شرح املميزات<br />
البنائية الرئيسية للطراز العربي، مكتبة الأسرة )سلسلة الفنون(، الهيئة املصرية العامة للكتاب،<br />
القاهرة.<br />
133
الكسر كلما زاد ارتفاع البناء.<br />
لقد اأورد الكتاب اأمثلة اأخرى لأسلوب استخدام النسب الهندسية يف<br />
تصميم القباب والأعمدة واملاآذن وغريها من العناصر املعمارية الأخرى،<br />
شكل )36(، وكل هذه الأمثلة تثبت مبا ل يدع جمال للشك اأن اأسلوب تصميم<br />
عناصر العمائر الإسالمية كان وفق نسب جمالية حمددة، وكانت تستخدم<br />
باستمرار وبقواعد هندسية وعلمية ثابتة.<br />
شكل )35(: مناذج لعقود اإسالمية خمتلفة مصممة تبعا للنسب الهندسية.<br />
134
شكل )36(: منوذج لواجهة مئذنة مصممة طبقاً لنسب هندسية حمددة.<br />
3- الأسس الهندسية لرسم عناصر الزخرفية الإسالمية:<br />
اأجنز باحثان دراسات حتليلية على العديد من الوحدات الزخرفية املوجودة<br />
يف بعض العمائر الإسالمية )1( ، وقد اأوضحت النماذج الزخرفية الواردة يف<br />
الدراسة اأن هذه الزخارف قد اعتمدت يف تصميمها ورسمها على اأحد الأشكال<br />
الهندسية الأساسية، كاملثلث واملربع واملسدس واملثمن، والتي تتضاعف وتتشابك<br />
لكي يستخرج منها اأشكال زخرفية ل حصر لها، شكل )37(.<br />
(1) Issam El-Said and Ayes Parman (1977). Geometric Concepts in Islamic<br />
Art. World of Islam Festival Publishing Company Ltd, London.<br />
135
شكل )37(: منوذجان لزخرفة اإسالمية يوضحان كيفية استخدام<br />
الشكل املسدس لرسمها وتكرارها.<br />
136
4- استخدام املقياس )املوديول( يف اخلط:<br />
يعترب الوزير العباسى »ابن مقلة« اأول من وضع طريقة هندسية اأو<br />
مقياساً لنسب حروف الكتابة العربية )1( ، وحرف الألف هو احلرف الذي<br />
اعترب مقياسا للتناسب لباقي احلروف اجلميلة، فارتفاع الألف يختلف من<br />
ثالث نقط اإىل اثنتي عشرة نقطة وعرضها يبقى بعرض النقطة يف جميع<br />
احلالت، كما اأن اختيار ارتفاع الألف يف نص من النصوص يقيد اخلطاط<br />
يف حتديد مقاييس الألف يف النص كله )2( .<br />
ويستعمل طول الألف اأيضا كقطر )راأسي( لدائرة وهمية، نستطيع فيها<br />
اأن نكتب جميع الأحرف )3( ، شكل )38(، وهكذا نستطيع اأن نقول اإن العرب<br />
عرفوا املقياس )املوديول(، كوسيلة لتحديد العالقة العضوية بني اأجزاء<br />
الشكل منذ زمن قدمي، وطبقوه يف جمال اخلط العربي لكي يكون معياراً<br />
للجمال.<br />
(1) Zayn al-Din, N. (1968). Musawar al-Khatt al-Arabi (Arabic Calligraphy),<br />
Bagjdad,pp.96.<br />
)2( عفيف البهنسى: جمالية الفن العربي، مرجع سابق، ص127.<br />
(3) Issam El-Said and Ayes Parman, pp.130,131.<br />
137
138<br />
شكل )38(: استخدام دائرة كاأساس لوضع نسب ثابتة )موديول( لكتابة حروف اللغة العربية.