18.01.2015 Views

69153707

69153707

69153707

SHOW MORE
SHOW LESS

Create successful ePaper yourself

Turn your PDF publications into a flip-book with our unique Google optimized e-Paper software.

٢٠٠١: ملحمة الفضاء


٢٠٠١: ملحمة الفضاء<br />

مستقاة من سيناريو كتبه<br />

آرثر سي كلارك<br />

وستانلى كوبريك<br />

تأليف<br />

آرثر سي كلارك<br />

ترجمة<br />

هانى سليمان


:٢٠٠١ ملحمة الفضاء 2001: A Space Odyssey<br />

Arthur C. Clarke<br />

آرثر سي كلارك<br />

الطبعة الأولى ‎١٤٣٢‎ھ-‏‎٢٠١١‎م<br />

رقم إيداع ٢٠١٠/١٩٠٢٦<br />

جميع الحقوق محفوظة للناشر كلمات عربية للترجمة والنشر<br />

‏(شركة ذات مسئولية محدودة)‏<br />

كلمات عربية للترجمة والنشر<br />

إن كلمات عربية للترجمة والنشر غري مسئولة عن آراء املؤلف وأفكاره<br />

وإنما يعبرّ‏ الكتاب عن آراء مؤلفه<br />

مكتب رقم ٤، عقار رقم ٢١٩٠، زهراء مدينة نصر،‏ القاهرة<br />

جمهورية مصر العربية<br />

تليفون:‏ +٢٠٢ ٢٢٧٢٧٤٣١ فاكس:‏ +٢٠٢ ٢٢٧٠٦٣٥١<br />

البريد الإليكتروني:‏ kalimatarabia@kalimatarabia.com<br />

املوقع الإليكتروني:‏ http://www.kalimatarabia.com<br />

٨٢٣<br />

كلارك،‏ آرثر<br />

٢٠٠١: ملحمة الفضاء / آرثر كلارك . - القاهرة : كلمات عربية للترجمة والنشر،‏ ٢٠١١.<br />

‎٢٨٦‎ص،‏ ‎٢١,٠×١٤,٥‎سم<br />

تدمك:‏ ٩٧٨ ٩٧٧ ٦٢٦٣ ٦٩ ٧<br />

١- القصص الإنجليزية<br />

أ-‏ العنوان<br />

يمنع نسخ أو استعمال أي جزء من هذا الكتاب بأية وسيلة تصويرية أو إليكترونية أو ميكانيكية،‏<br />

ويشمل ذلك التصوير الفوتوغرافي والتسجيل على أشرطة أو أقراص مضغوطة أو استخدام أية وسيلة<br />

نشر أخرى،‏ بما في ذلك حفظ املعلومات واسترجاعها،‏ دون إذن خطي من الناشر.‏<br />

Arabic Language Translation Copyright © 2011 Kalimat Arabia<br />

2001: A Space Odyssey<br />

Copyright © 1968 by Arthur C. Clarke<br />

All Rights Reserved.


المحتويات<br />

9<br />

مقدمة 19<br />

إلى ستانلي 21<br />

مقدمة للطبعة الخاصة 31<br />

تمهيد 33<br />

الجزء الأول:‏ ليلة بدائية 35<br />

١- الطريق إلى الانقراض 41<br />

٢- الصخرة الجديدة 47<br />

-٣ الأكاديمية 53<br />

-٤ النمر 59<br />

٥- مناوشة عند الفجر 61<br />

٦- ارتقاء الإنسان 65<br />

الجزء الثاني:‏ صخرة تايكو 67<br />

٧- رحلة خاصة 77<br />

٨- موعد مداري 81<br />

٩- مكوك القمر 91<br />

١٠- قاعدة كلافيوس 99<br />

١١- شذوذ املجال املغناطيسي 103<br />

١٢- رحلة في ضوء الأرض


٢٠٠١: ملحمة الفضاء<br />

111<br />

١٣- الفجر املتمهل 115<br />

-١٤ السامعون 119<br />

الجزء الثالث:‏ بني الكواكب 121<br />

-١٥ ديسكفري 127<br />

-١٦ هال 131<br />

١٧- وضع التجول 139<br />

١٨- عبر الكويكبات 143<br />

١٩- عبور املشتري 151<br />

٢٠- عالم الآلهة 155<br />

الجزء الرابع:‏ الهاوية 157<br />

٢١- حفل عيد ميلاد 163<br />

٢٢- رحلة قصرية 171<br />

-٢٣ التشخيص 175<br />

٢٤- دائرة مقطوعة 181<br />

٢٥- أول إنسان على ظهر زحل 185<br />

٢٦- حوار مع هال 191<br />

٢٧- الحاجة إلى املعرفة 193<br />

٢٨- في الفراغ 201<br />

-٢٩ وحيدًا 205<br />

-٣٠ السر 209<br />

الجزء الخامس:‏ أقمار زحل 211<br />

-٣١ النجاة 217<br />

٣٢- الكائنات الفضائية 223<br />

-٣٣ السفري 227<br />

٣٤- الثلج الدوار 233<br />

٣٥- عني جابيتوس 6


املحتويات<br />

237<br />

٣٦- الأخ الأكبر 239<br />

-٣٧ تجربة 243<br />

-٣٨ الحارس 245<br />

٣٩- داخل العني 249<br />

-٤٠ الخروج 251<br />

الجزء السادس:‏ عبر البوابة النجمية 253<br />

٤١- ‏«جراند سنترال»‏ 259<br />

٤٢- السماء الغريبة 265<br />

-٤٣ الجحيم 269<br />

-٤٤ الاستقبال 277<br />

٤٥- استعادة الذكريات 281<br />

-٤٦ التحول 285<br />

٤٧- الطفل النجمي 7


مقدمة<br />

ستيفن باكستر<br />

إن رواية آرثر كلارك «٢٠٠١: ملحمة الفضاء»‏ ‏(وبالطبع فيلم ستانلي<br />

كوبريك الذي ظهر معها)‏ شهدت خلال العقود الثلاثة التي أعقبت نشرها<br />

مزيدًا من املكانة والتأثري،‏ واليوم لا تتفوق هذه الرواية بجدارة على بقية<br />

أعمال كلارك فحسب،‏ بل تسمو أيضً‏ ا فوق أعمال الخيال العلمي الأخرى.‏<br />

تحكي هذه الرواية — التي ربما تعد أكثر قصص الخيال العلمي شهرة<br />

وشعبية على مدار القرن — عن حارس قمري منعزل هو الصخرة البلورية<br />

السوداء الشهرية،‏ وعندما تُكتشف الصخرة تُرسِ‏ ل إشارة لشقيقتها الأقوى<br />

منها بكثري في مدارها حول زحل ‏(املشتري في الفيلم)،‏ وهذه الإشارة تحذير<br />

ملن تركوا الصخور البلورية من أن البشر أصبحوا قادرين على الوصول<br />

إلى خارج حدود عاملهم.‏ رائدا الفضاء ديف بومان وفرانك بول والحاسب<br />

الآلي ‏«هال»‏ صعب املراس سافروا جميعًا إلى زحل لدراسة وجود مخلوقات<br />

فضائية.‏ يتخلى هال عن بول،‏ ولكن بومان ينجو حتى يصل إلى صخرة<br />

زحل؛ الذي يثبت أنه بوابة للنجوم،‏ والارتقاء أيضً‏ ا.‏<br />

وحينها فقط ندرك أن عنوان مقدمة الفيلم — ‏«فجر الإنسان»‏ — لا<br />

ينطبق فحسب على أسلافنا الهمجيني،‏ بل علينا نحن أيضً‏ ا.‏


٢٠٠١: ملحمة الفضاء<br />

وربما — على خلاف العادة لم يكن — فيلم كوبريك مقتبسً‏ ا من الرواية،‏<br />

ولا يعد الكتاب صياغة لقصة الفيلم في قالب روائي،‏ فكوبريك وكلارك طورا<br />

معًا كلا العملني في صورتيهما النهائية على مدار عدة سنوات.‏ وبالفعل<br />

يختلف العملان اختلافًا واضحًا في عدة جوانب،‏ خاصة في نهايتيهما،‏ إذ<br />

نجد أن خاتمة كلارك عُبر عنها بطريقة جميلة تقودنا إلى النهاية بأسلوب<br />

منطقي لتحل محل — أو ربما لتشرح — رؤى كوبريك السريالية.‏<br />

في البداية كان العنوان املؤقت للقصة عاديٍّا:‏ ‏«كيف تَحَق َّق الفوز بالنظام<br />

الشمسي؟»‏ وكما يوحي الاسم فإن خلفيته يمكن أن تكون وصفًا لاستعمار<br />

البشر للمجموعة الشمسية في املستقبل القريب.‏ وهناك نقطة بداية أخرى<br />

هي رواية كلارك الأولى واملتميزة عن الارتقاء ‏«نهاية الطفولة»‏ (١٩٥٣)<br />

‏(في الواقع،‏ كثريًا ما تُقدم هذه الرواية على رواية ٢٠٠١ نفسها عند تقييم<br />

أعمال كلارك).‏ ويعكس املشروع النهائي هذه البدايات،‏ وكذلك املخاوف<br />

التي ميزت كثريًا من كتابات كلارك خلال مسريته.‏<br />

ويبدو أن كلارك نفسه تصور — على الأقل في البداية — أن الفيلم<br />

سيصبح في الأساس تجسيدًا دراميٍّا للانتصار التكنولوجي الذي تحققه<br />

الإنسانية في املستقبل القريب،‏ مثلما كان فيلم ‏«رحلة إلى القمر»‏ (١٩٥٠)<br />

املستوحى من هاينلني.‏<br />

كلارك من كتاب جيل زمن الحرب الذين حاولوا رسم معالم مستقبلنا<br />

بنبرة متفائلة وحماس للتكنولوجيا،‏ ونرى ملامح هذا الاتجاه لدى كلارك<br />

ليس فقط في أعماله الواقعية بل أيضً‏ ا في أعماله الخيالية،‏ بداية من روايته<br />

عن رحلة القمر ‏«مدخل إلى الفضاء»‏ (١٩٥١)، ومرورًا برؤاه الكلاسيكية كما<br />

في ‏«رمال املريخ»‏ (١٩٥١)، وانتهاء برواية ‏«سقوط غبار القمر»‏ (١٩٦١).<br />

بصرية كلارك الفنية قادته لأن يكون بالغ التأثري على العالم الواقعي،‏<br />

وينظر العلماء واملهندسون إلى كلارك بجدية،‏ فشهرة كلارك كواضع لفكرة<br />

أقمار الاتصالات الصناعية ذات املدارات الثابتة معروفة جيدًا ‏(نقلاً‏ عن<br />

بحث نُشر في أكتوبر/تشرين الأول ١٩٤٥ في جريدة ‏«عالم اللاسلكي»)،‏<br />

وقد أورد في أولى رواياته ‏«مدخل إلى الفضاء»‏ (١٩٥١) أفكارًا من بحث<br />

كلاسيكي عن الصواريخ الذرية نشرته جمعية ما بني الكواكب البريطانية<br />

عامي ١٩٤٨-١٩٤٩، وطُو ِّرت هذه الأفكار في املشروعني الأمريكيني روفر<br />

10


مقدمة<br />

ونريفا في الستينيات.‏ ويبدو أن كلارك هو أول من نشر فكرة الإطلاق<br />

الكهرومغناطيسي — التي يمكن الاستفادة منها في نقل املوارد من سطح<br />

القمر إلى الأرض،‏ أو تفادي الكويكبات على سبيل املثال — وذلك في عدد<br />

جريدة جمعية ما بني الكواكب البريطانية الصادر عام ١٩٥٠.<br />

فيما بعد اشتهر كلارك بتبسيطه للعلوم،‏ واستمر في التنبؤ بالتطورات<br />

املتتالية بدقة مذهلة،‏ فمثلاً‏ في كتابه الشهري ‏«استكشاف الفضاء»‏ (١٩٥١)<br />

أعطى وصفًا ملسابري غري مزودة ببشر أُرسلت إلى املريخ تكاد تفاصيلها<br />

تطابق تفاصيل مسابري مارينر الحقيقية التي ظهرت بعد ذلك بثلاثة عشر<br />

عامًا،‏ وفي ‏«موعد مع راما»‏ (١٩٧٣) رسم كلارك املعالم الرئيسية لعملية<br />

‏«حراسة فضائية»‏ لرصد الكويكبات التي تقترب من الأرض؛ تلك الفكرة<br />

التي تابعها العالم على أرض الواقع بعد ذلك بعقدين من الزمان.‏<br />

ولكن هذه الأنشطة الواقعية إضافة إلى ثبوت صحة نبوءات خياله<br />

العلمي من آن لآخر،‏ أسهمت فقط في تعزيز التأثري العاطفي لعمله،‏ هذا<br />

العمل الذي يصور مستقبلاً‏ جميلاً‏ — ربما يكون من املمكن الوصول<br />

إليه — لا بد أنه قد أسهم كثريًا في تحفيز جيل ما بعد الحرب الذي شب<br />

ليصبح من بينه مهندسون يصممون سفن فضاء حقيقية إلى القمر.‏ وليس<br />

من املستغرب أن رواد فضاء أبوللو أطلقوا على كبسولاتهم الفضائية أسماء<br />

مثل أوديسا،‏ أو أنهم فكروا في حيل للعثور على صخور عملاقة في الجانب<br />

البعيد املظلم من القمر.‏<br />

ولكن ثبوت صحة تكهنات كلارك في املستقبل القريب لم يكن هو<br />

الشيء الذي أثار فضول كوبريك،‏ إن ما أثاره بالفعل جانب أكبر تعقيدًا<br />

بكثري في عمل كلارك وشخصيته.‏<br />

لقد اتضح أن نقطة البداية للمشروع الذي تحول إلى رواية «٢٠٠١: ملحمة<br />

الفضاء»‏ كانت قصة قصرية لكلارك مكونة من إحدى عشرة صفحة،‏ نُشرت<br />

لأول مرة عام ١٩٥١ في الصفحات الداخلية من مجلة «١٠ قصص خيالية».‏<br />

وتمتلك قصة ‏«الحارس»‏ جميع املقومات الأساسية التي تجعلها ملحمة؛<br />

إنها أسطورة تروي قصة مجموعة من مستكشفي القمر في املستقبل القريب<br />

11


٢٠٠١: ملحمة الفضاء<br />

الذين يعثرون مصادفة على أثر من صنع الإنسان في صورة هرم،‏ ويطلق<br />

هذا الأثر إشارة لصانعيه الذين ينتظرون وصولنا ملرحلة النضج واللحاق<br />

بهم.‏ هذه الأسطورة البسيطة واملحبوكة فنيٍّا كانت البذرة التي نبع منها<br />

فيلم ورواية وجزء ثانٍ‏ للفيلم وثلاثة أجزاء أخرى للرواية إضافة إلى تحليلات<br />

أدبية وتكهنات علمية،‏ وكما قال كلارك ‏(في عوالم ٢٠٠١) (١٩٧٢)، فإن<br />

قصة تحول هذا الهرم املنعزل إلى صخرة ضخمة مليئة بالتعقيد والإثارة.‏<br />

ولكن من الجدير بامللاحظة عند تأمل املاضي أن ‏«الحارس»‏ نفسه كان<br />

إشارة إلى توجه جديد ومختلف في حياة كلارك املهنية،‏ فمع هذه القصة<br />

بدأ كلارك في إظهار انجذابه للتكهنات التي تتعلق بما وراء الطبيعة بل<br />

التصوف أيضً‏ ا.‏<br />

ولم ينكر كلارك نفسه هذا الجانب في عمله ‏(مع رفضه للخرافات<br />

والعلوم الزائفة)،‏ فهو يقول إن العالم مليء بالعجائب،‏ ولا يمكن لأي إنسان<br />

مهما كان عقلانيٍّا ألا يدرك هذه الحقيقة،‏ ومن ثم فإننا نلمس السمو البشري<br />

املذهل في أعمال مثل ‏«نهاية الطفولة»،‏ هذا السمو الذي وجد صداه في ارتقاء<br />

رائد الفضاء ديف بومان في رواية «٢٠٠١» ليصبح ‏«الطفل النجم».‏<br />

وتتسم رؤية كلارك بالوضوح وسلاسة الأسلوب وجماله،‏ ومن ثم فإنه<br />

يعد أفضل من عبر عن الرؤى السامية التي هي جوهر الطريقة البريطانية<br />

املميزة في الخيال العلمي بدءًا من إتش جي ويلز ومرورًا بأولاف ستابلدون<br />

صاحب التأثري الكبري على كلارك بشهادة كلارك نفسه،‏ ولكن رؤى ستابلدون<br />

املذهلة مخيفة وتفتقر إلى التشويق،‏ أما كلارك فلديه القدرة على أن يجعلنا<br />

نبكي كأيتام يبكون آباءهم.‏<br />

ويمكن للمرء أن يلاحظ إعجاب كوبريك بشخصية الحارس في رواية كلارك،‏<br />

والأثر الذي عُثر عليه على سطح القمر بمنزلة رمز بسيط ومثري،‏ ووجوده<br />

الصامت تمامًا ينقل معناه وهدفه.‏<br />

وصانعو الأفلام الكبار مثل كوبريك يجب أن تتجاوز الصورة في تأثريها<br />

عندهم تأثري الألف كلمة،‏ وربما يمكن للمرء أن يختصر فيلم «٢٠٠١» في<br />

عدد من الرموز الرئيسية وقصة تُحكى في صمت وصور وثنائيات من<br />

12


مقدمة<br />

الرموز املتناقضة التي يكمل كل منها الآخر كما في املشهد الذي يمد فيه<br />

الإنسان القرد يده — التي لم تصل بعد ملرحلة التطور — ليلمس الصخرة<br />

البلورية امللساء،‏ ومشهد رائد الفضاء الذي اكتمل تطوره وهو يمد يده<br />

ليلمس سطح القمر،‏ كما يمكننا أن نجد هذه الرموز املتناقضة في مشهد<br />

العظمة املقذوفة وسفينة الفضاء،‏ وبدء تنامي الإدراك لدى املخلوق الذي<br />

أطلق عليه كلارك في الرواية ‏«مون ووتشر»،‏ وتطور بومان ليصبح ‏«الطفل<br />

النجم».‏ وفي الحقيقة كثري مما تبقى من حوار في الفيلم ثرثرة تنقل القليل<br />

جدٍّا من املعلومات الأساسية التي يحتاجها الجمهور،‏ فهذا الحوار هو نوع<br />

من املؤثرات الصوتية في الخلفية؛ فالقصة تُروى لنا من خلال الرموز.‏ ويُعد<br />

نجاح الفيلم — على الأقل حتى الجزء الأخري منه — في تعريفنا باملعنى<br />

الأساسي للمشروع من خلال هذه الرموز املجردة معيارًا ملا حققه هذان<br />

املبدعان.‏<br />

لكن من الواضح أن هناك تعارضً‏ ا كبريًا بني كلارك وكوبريك بخصوص<br />

هذا الجانب من مشروعهما،‏ وبخصوص جوانب أخرى كثرية.‏<br />

فكلارك،‏ الذي شرع في وضع تصور ملعالم املستقبل التكنولوجي،‏ كان<br />

يرغب على ما يبدو في تضمني روايته مشاهد لعلماء ‏(ربما من العالم<br />

الحقيقي)‏ يتكهنون بشأن السفر عبر الفضاء والحياة في عوالم أخرى وما<br />

إلى ذلك،‏ ولكن كوبريك كان يقوض هذا املشروع دائمًا.‏<br />

ولنتأمل تتابع الأحداث في الجزء الرئيسي من الفيلم واملتعلق باكتشاف<br />

الصخرة السوداء على سطح القمر،‏ هنا نجد أسلوب كلارك أقرب ما يكون<br />

إلى أسلوبه في روايته ‏«سقوط غبار القمر»،‏ حيث نرى الأشياء املرتبطة<br />

باملستقبل تُستخدم بطريقة تنقصها البراعة إلى حد ما:‏ الهواتف املزودة<br />

بكامريات فيديو وسفن الفضاء وما شابه.‏ ولكن حتى في أكثر املشاهد<br />

واقعية حاول كوبريك جاهدًا إبراز تفاهة نفوسنا في املستقبل.‏ ومن خلال<br />

الحوار الأجوف والطعام أحادي اللون والإضاءة الخافتة،‏ أشار كوبريك إلى<br />

عجز البشرية في القرن الحادي والعشرين وليس انتصارها؛ إنهم في انتظار<br />

من يرتقي بهم تمامًا مثل أسلافهم أشباه القردة.‏<br />

وقد فُض هذا التعارض الخلاق بدرجة ما مع نشر الرواية التي تتناقض<br />

فيها العقلانية الواضحة لكلارك تناقضً‏ ا قويٍّا مع غموض فيلم كوبريك،‏ لكن<br />

13


٢٠٠١: ملحمة الفضاء<br />

كوبريك استطاع أن يرى ما لم يره كلارك،‏ وهو أن الحقيقة الجوهرية في<br />

رواية «٢٠٠١: ملحمة الفضاء»‏ مثل جوانب أخرى كثرية من عمل كلارك،‏<br />

لا تكمن في انتصار التكنولوجيا بل في لغز الوجود،‏ والتعارض بني مبدعَيْ‏<br />

«٢٠٠١» مثل الاختلافات بني الرواية والفيلم يكشف هذا التناقض املحوري<br />

في موهبة كلارك الذاتية.‏<br />

بيد أن كلارك نفسه يكون في أفضل حالاته من حيث الفعالية عندما<br />

يهيمن التناقض على عقله،‏ فبحرفية استطاع كلارك أن يؤثر فينا تأثريًا<br />

شديدًا عندما جعلنا نشاهد بفخر أكبر تطلعات البشرية — الذي يرتبط<br />

معه غالبًا بالسفر عبر الفضاء — في مقابل الروعة الكامنة إلى الأبد فيما<br />

وراء عاملنا التي لا يمكن وصفها.‏<br />

ومن ثم فإننا في رواية ‏«موعد مع راما»‏ (١٩٧٣) نتعلم طرد الكويكبات،‏<br />

تمامًا مثلما تدخل سفينة فضاء عجيبة النظام الشمسي؛ تُستهل رواية ‏«نهاية<br />

الطفولة»‏ باستعداد رحلات فضائية للانطلاق نحو القمر،‏ لكن املشروع يُترك<br />

فجأة وللأبد بينما تظهر سفن أوفرلوردز الكبرية في سماوات الأرض،‏ وبالطبع<br />

يصبح إنجازنا الهائل في الوصول إلى الكواكب الخارجية أمرًا تافهًا نتيجة<br />

لاكتشافنا بوابة النجوم وما وراءها من مجرات،‏ وهذا يعد تلاعبًا بأعمق<br />

مشاعرنا وأعقدها.‏<br />

لكن أيهما أفضل:‏ الفيلم أم الرواية؟ بالتأكيد هذا سؤال ليس له معنى،‏<br />

فالفيلم والرواية كلاهما ينبعان من نفس املصدر،‏ ولم يكن أحدهما ليكون<br />

بدون الآخر.‏<br />

وبالتأكيد فإن الفيلم يعد من الروائع،‏ وعلى العكس من معظم أفلام<br />

هوليود الخاصة بالخيال العلمي،‏ ليس هناك موضوع بشري سهل أو حبكة<br />

روائية بسيطة تحركها شخصيات نتتبع خيوطها دون أن نبذل جهدًا؛ فمن<br />

ناحية هذه الرواية ليست قصة بشرية على الإطلاق،‏ فأبرز شخصية فيها آلة<br />

تدعى ‏«هال»‏ أما الشخصيات الأخرى البشرية فهي ثانوية،‏ وينجح كوبريك<br />

نجاحًا مذهلاً‏ برؤيته الغامضة واملحرية في رواية القصة لنا بأسلوب يعتمد<br />

على املؤثرات البصرية ولا يكون لها معنى إلا في عالم البشر الخارقني.‏<br />

14


مقدمة<br />

لكن جانبًا كبريًا من فهمنا للفيلم بما في ذلك نهايته الرائعة يتعمق من<br />

خلال قراءتنا للرواية،‏ فمن خلال تكرار قراءتنا للرواية ومشاهدتنا للفيلم<br />

سنكتشف أن كلاٍّ‏ منهما يكمل الآخر بصورة رائعة.‏<br />

ويرجع ذلك إلى أن هذا الفهم املتعمق يتعلق بطبيعة الجنس البشري<br />

ومكاننا في هذا الكون.‏<br />

ومن الواضح أنه يصعب اليوم فصل تأثري الرواية عن تأثري الفيلم،‏ وقد<br />

حفر كل من العملني املبدعني أسهمهما في تاريخ الأدب والفن،‏ وحقيقة أنهما<br />

لا يزالان يتمتعان بحيوية الخيال أمر واضح،‏ ومن وجهة نظري لم يقترب<br />

أي فيلم آخر من أفلام الخيال العلمي من فيلم «٢٠٠١: ملحمة الفضاء»‏<br />

في تعبريه الذكي عن أعظم موضوعات املجال.‏<br />

أما الرؤية املستقبلية للرواية — الآن ونحن نعيش التسلسل الزمني<br />

لأحداث القصة — فكثريًا ما تُستخدم عناصرها كنقطة مرجعية مفهومة<br />

على نطاق عاملي لقياس مدى تقدم العالم الواقعي.‏<br />

فالكمبيوتر الشرير ‏«هال»‏ الذي هو أساس الحبكة الروائية الفرعية<br />

املليئة بامليلودراما أصبح بطلاً‏ لدراسات أكاديمية جادة حول مدى قربنا<br />

من الوصول إلى هذا املخلوق أو بعدنا عنه،‏ وسواء أكانت العواقب حميدة<br />

أم سيئة،‏ لم يتوافق التقدم الذي تحقق في الذكاء الاصطناعي مع رؤية<br />

الخيال العلمي،‏ ومن ثم فإننا استطعنا بناء كمبيوتر من نوعية ‏«هال»‏<br />

ليهزم ‏(معظمنا)‏ في الشطرنج،‏ لكنه لم يستطع بعد استكشاف مشاعرنا<br />

عند هزيمتنا،‏ وهو يستطيع أن يتحدث إلينا،‏ لكنه لا يزال يجد صعوبة في<br />

فهم كلامنا،‏ وأنظمة الإدراك البصري سيئة جدٍّا وهي أكثر ضعفًا في فهم<br />

ما ننطق به،‏ لكن الشيء الذي يمكن أن يجعلنا نشعر بارتياح هو أننا<br />

اكتشفنا أن مستقبلنا يضم شبكات ملايني الكمبيوترات الصغرية املتعاونة<br />

وليس عملاقني عصابيني مثل هال وتوأمه سال ٩٠٠٠.<br />

ورواية «٢٠٠١: ملحمة الفضاء»‏ لها رؤية خاصة ملستقبلنا في الفضاء<br />

وتبدو هذه الرؤية أكثر بعدًا؛ فمع أن كوبريك أضاع في فيلمه التصور<br />

التكنولوجي لكلارك فلا يزال الكثريون منا يأسون على أننا لا نعيش في عالم<br />

15


٢٠٠١: ملحمة الفضاء<br />

من قواعد القمر وسفن الفضاء النووية املسافرة إلى املشتري،‏ ولا يزال أمامنا<br />

كم هائل من الاكتشافات:‏ فالإنسان الآلي يقودنا إلى عوالم لم نصل إليها<br />

بعد تمامًا مثل مسبار جاليليو الذي أوصلنا إلى املشتري ومسبار كوسيني<br />

الذي أوصلنا إلى زحل،‏ أما ما يمكن أن نكتشفه هناك فإن الرؤية القمرية<br />

في رواية «٢٠٠١: ملحمة الفضاء»‏ بظلالها املجردة وجبالها الوعرة تركت<br />

على الأقل واحدًا من رواد فضاء أبوللو ‏(بيل آندرز)‏ في حالة إحباط ملا رآه<br />

من القمر الحقيقي.‏<br />

لكن مع أن توقعاتنا املستقاة من فترة الستينيات وما قبلها ألغاها في<br />

كثري من الأحيان ما علمناه من استكشافات أبوللو ومسابري الفضاء،‏ فقد<br />

أصبحنا نتعلم شيئًا فشيئًا أن نحب ما يخفى علينا من عوالم.‏ بل إن الرؤى<br />

الروبوتية لقمر املشتري الذي أطلق عليه ‏«يوروبا»‏ حفزت آرثر كلارك نفسه<br />

على البدء في العمل في أحد الأجزاء املكملة لروايته «٢٠٠١: ملحمة الفضاء».‏<br />

أما عن الحياة على كواكب أخرى بخلاف الأرض،‏ فمن املؤكد أننا لم<br />

نعثر بعد على الصخرة السوداء على سطح القمر أو أي أدلة أخرى مقنعة<br />

تشري إلى وجود كائنات فضائية سواء في الحاضر أو املاضي،‏ لكن تحليلنا<br />

الفلسفي لاحتمالات وجود حياة خارج كوكب الأرض حقق تقدمًا هائلاً‏ منذ<br />

نشر رواية «٢٠٠١: ملحمة الفضاء».‏<br />

ويتصور كلارك أن هناك مخلوقات غريبة تزور عوالم مثل عاملنا<br />

وترتقي بسكانها تاركة علامات يمكن أن تقيس على أساسها وجودنا،‏ وهذه<br />

الرؤية أصبحت في الحقيقة موضوع دراسات أكاديمية جادة،‏ فمثلاً‏ الرؤية<br />

الخاصة بالرعاة الخريين طرحها ديفيد برين في سلسلته عن ‏«الارتقاء»؛<br />

فقد وسع من نطاق الفكرة وصولاً‏ إلى نتيجتها املنطقية وهي:‏ من الذي<br />

ارتقي بمن يساعدون غريهم في الارتقاء؟ يتخيل برين سلاسل من الأجناس<br />

يُساعِ‏ دهم على الارتقاء الأرفع مقامًا منهم وصولاً‏ إلى أسلاف شبه أسطوريني،‏<br />

لكن رؤية برين تشري إلى جانب مظلم لم يكتشف في رواية «٢٠٠١: ملحمة<br />

الفضاء»،‏ التي تُفترض فيها الخريية كثريًا.‏<br />

فيما بعد عبر كلارك بوضوح في إحدى روايات السلسلة عن أن الصخور<br />

السوداء آلات يُرسلها صانعوها الذين يقفون وراء الكواليس،‏ فمن الصعوبة<br />

16


مقدمة<br />

بمكان أن ننسب الخريية للآلات ‏(راجع مثلاً‏ ، مجموعة ‏«البرسوركر»‏ لفريد<br />

سيبرهيجن وحياة الآلة في مجموعة ‏«مركز املجرات»‏ لجريجوري بنفورد)،‏<br />

وبالفعل فإن مستقبل كلارك يصل إلى ذروته النهائية عندما تدخل البشرية<br />

في صراع مع الصخور السوداء ‏(في ٣٠٠١: امللحمة الأخرية).‏<br />

ويفترض كلارك ضمنيٍّا أننا في نوع من الحَجْر حيث تتركنا مخلوقات<br />

غريبة أكثر حكمة منا لنصل إلى مرحلة النضج،‏ وفي الحقيقة هذا الافتراض<br />

يمثل أحد التفسريات العديدة التي اقترُ‏ حت ملا أصبح يُعرف ب«مفارقة<br />

فريمي»،‏ بعد أن طرح الفيزيائي فريمي لأول مرة سؤالاً‏ محوريٍّا منذ عدة<br />

عقود وهو:‏ ‏«أين ذهب الجميع؟»‏ فإذا كانت املخلوقات الغريبة موجودة<br />

بالفعل فينبغي أن تكون موجودة هنا الآن ولا بد أن نراها من حولنا.‏<br />

والصعوبة في افتراضات الحَجْر مثل افتراض كلارك تكمن في أنها تتطلب<br />

تماثلاً‏ في الدافع بني أجناس املجرة التي من املفترض تنوعها،‏ فالأمر حينئذ<br />

لن يحتاج إلا أن يظهر لص واحد على درجة منخفضة من التكنولوجيا في<br />

مكان معني ليملأ املجرة بقراصنة فضائيني مرئيني،‏ خلال بضعة ملايني<br />

عام،‏ ويقوض إلى الأبد التصميم الفخم ملصممي الصخرة البلورية.‏<br />

بيد أنه مهما كانت جوانب القصور املنطقية بها،‏ فلا يمكننا أن ننكر التأثري<br />

العاطفي لفرضية كلارك،‏ فعلى أي حال نحن في الغرب لم يمض علينا وقت<br />

طويل منذ أن قوض كوبرنيكس وداروين وعلماء الجيولوجيا أي يقني كان<br />

لدينا عن مكاننا في الكون،‏ ونحن لم نعد نؤمن بوجود الإله وما زلنا مع<br />

ذلك نبحث عن الإجابات التي جسدها.‏ وعمل كلارك مليء بالتوق إلى السمو<br />

والتواصل مع آبائنا الزائلني،‏ وهو يعد أفضل عمل معبر عن عزلة عصرنا.‏<br />

لقد حاول كثري من مؤلفي الخيال العلمي مثل بنفورد وبري وبرين<br />

وغريهم التعبري عن هذه القضايا الكبرية،‏ لكن من املؤكد أنه لم يحقق أي<br />

منهم نجاحًا يماثل نجاح آرثر كلارك،‏ وفي هذا الصدد تجمع رواية «٢٠٠١:<br />

ملحمة الفضاء»‏ املوضوعات املهمة والأساليب الرائعة التي هيمنت على أعمال<br />

كلارك.‏<br />

ستيفن باكستر<br />

٢٠٠٠<br />

17


إلى ستانلي<br />

في ذكراه<br />

بعد مرور ما يزيد عن أسبوعني قليلاً‏ على كتابتي للتمهيد التالي،‏ تلقيت<br />

خبرًا صادمًا وغري متوقع تمامًا وهو أن ستانلي كوبريك توفي عن عمر يناهز<br />

السبعني عامًا.‏ لقد كان يخطط لترويج خاص للفيلم عام ٢٠٠١، ويحزنني<br />

كثريًا أنني لن أستطيع مشاركته هذه املناسبة.‏<br />

ومع أننا التقينا بضع مرات فقط خلال العقود الثلاثة التي أعقبت إكمال<br />

رواية «٢٠٠١»، فقد ظللنا على اتصال ودي كما اتضح من خلال الرسالة<br />

الكريمة التي أرسلها إلى البي بي سي عندما ظهرتُ‏ في برنامج ‏«هذه حياتك»:‏<br />

٢٢ أغسطس ١٩٩٤<br />

عزيزي آرثر،‏<br />

يؤسفني أن عملي في الفيلم يمنعني من املشاركة في هذا التكريم<br />

الرائع لك الليلة.‏<br />

أنت بالفعل أفضل كاتب خيال علمي عرفه العالم.‏ لقد تفوقت<br />

على الآخرين في إعطائنا صورة للبشر وهم يصعدون من الأرض<br />

نحو مستقبلنا بني النجوم،‏ حيث تعاملنا املخلوقات الذكية الغريبة<br />

باعتبارنا آباءهم الروحيني.‏


٢٠٠١: ملحمة الفضاء<br />

وفي كل الأحوال أنا واثق أنه عندما يُعرض هذا البرنامج<br />

عليهم،‏ الذي سيسافر في الكون إلى الأبد،‏ فإنهم سريغبون أيضً‏ ا<br />

في تكريمك باعتبارك أحد أذكى وأهم املبشرين بوجودهم.‏<br />

لكن معرفة أجيال املستقبل بهذا الأمر يعتمد على الإجابة عن<br />

سؤالك املفضل:‏ هل هناك حياة ذكية على كوكب الأرض؟<br />

مع خالص تحياتي<br />

ستانلي<br />

ومنذ بضع ليال رأيت في منامي أننا نتحدث معًا ‏«بدا ستانلي في نفس<br />

هيئته التي كان عليها عام ١٩٦٤!» وقد سألني:‏ ‏«حسنًا،‏ ما الذي سنفعله<br />

في املرحلة القادمة؟»‏ ربما كانت هناك قصة بريان ألديس القصرية التي<br />

بعنوان ‏«اللعب الخارقة تدوم طوال الصيف»‏ وهي قصة جميلة عالجها<br />

ستانلي لبعض الوقت لتحويلها إلى عمل سينمائي تحت عنوان ‏«آل»،‏ لكنها<br />

فشلت لأسباب عديدة.‏<br />

أكثر ما يؤسفني الآن أننا لن نتمكن من استقبال عام ٢٠٠١ معًا.‏<br />

آرثر سي كلارك<br />

١٦ أبريل/نيسان ١٩٩٩<br />

20


مقدمة للطبعة الخاصة<br />

مضى الآن خمسة وثلاثون عامًا منذ بدأ ‏«ستانلي كوبريك»‏ يتلمس طريقه<br />

سعيًا نحو ‏«سينما الخيال العلمي الجيدة»‏ بكل ما تعنيه الكلمة من معنى،‏<br />

وقد يبدو عام ١٩٦٤ وكأنه ينتمي لعصر آخر،‏ فلم يكن قد صعد إلى الفضاء<br />

سوى قلة من الرجال وامرأة واحدة،‏ ومع ما أعلنه الرئيس ‏«كينيدي»‏ عن<br />

عزم الولايات املتحدة إرسال إنسان إلى القمر قبل انتهاء ذات العقد،‏ فإنني<br />

أشك أن كثريًا من الناس صدقوا إمكانية حدوث ذلك بالفعل.‏<br />

الأكثر من هذا كانت معرفتنا الأصيلة بجرياننا في الفضاء لا تزال صفرًا<br />

في واقع الأمر،‏ فلم يكن في استطاعتنا حتى أن نتأكد من أن أول مسبار<br />

سيحط على سطح القمر لن يغوص على الفور في بحر من الغبار،‏ مثلما<br />

أكد بعض الفلكيني.‏<br />

ولتوضيح هذه الرؤية بعض الشيء دعوني أقتبس بعض العبارات من<br />

وصف واقعي ‏(في معظمه)‏ ملشروعنا ‏«العوالم املفقودة لعام ٢٠٠١»، التي<br />

كتبتها عام ١٩٧١ عندما كان كل شيء لا يزال حاضرً‏ ا داخل عقلي:‏ ‏«في<br />

ربيع عام … ٦٤ كان الهبوط على سطح القمر لا يزال يبدو من الناحية<br />

النفسية حلمًا من أحلام املستقبل البعيد.‏ ومن الناحية الذهنية كنا نعلم أنه<br />

أمر حتمي،‏ أما عاطفيٍّا فلم نستطع بحق أن نصدقه … كانت رحلة جيميني<br />

الأولى التي كان يفترض أن يقوم بها رجلان ‏(هما جريسوم ويانج)‏ ستُؤجل<br />

لعام آخر،‏ وكان الجدل لا يزال على أشده حول طبيعة سطح القمر …»<br />

ومع أن وكالة الفضاء الأمريكية ناسا كانت تنفق في كل يوم ما يساوي<br />

ميزانية فيلمنا بالكامل ‏(أكثر من ١٠ ملايني دولار)،‏ فإن استكشاف الفضاء


٢٠٠١: ملحمة الفضاء<br />

بدا وكأنه علامة فاصلة في الزمن،‏ غري أن النذر كانت واضحة،‏ وكثريًا ما<br />

كنت أقول لستانلي معلقًا على ذلك إن الفيلم سيكون في فترة عرضه الأولى<br />

في الوقت الذي يسري فيه رجال بالفعل فوق سطح القمر.‏<br />

وهكذا كنا أثناء كتابتنا حبكة القصة،‏ التي تزامنت مع تباشري فجر<br />

عصر الفضاء،‏ نواجه أنا وستانلي مشكلة املصداقية؛ لقد أردنا أن نصنع<br />

شيئًا واقعيٍّا ويمكن تصديقه،‏ بحيث لا يتحول إلى عمل مهجور يعفي عليه<br />

الزمن بسبب ما سيقع من أحداث في السنوات املقبلة.‏ ومع أن الاسم الأصلي<br />

لعملنا كان ‏«كيف تحقق الفوز باملجموعة الشمسية»،‏ فإن ستانلي كان<br />

يهدف إلى شيء أكثر من مجرد رواية مباشرة عن الاستكشاف،‏ وكان مغرمًا<br />

دومًا بأن يقول لي:‏ ‏«ما أريده هو فكرة بها جلال الأساطري وفخامتها.»‏<br />

حسنًا،‏ مع اقتراب عام ٢٠٠١ الحقيقي صار الفيلم جزءًا من الثقافة<br />

الشعبية:‏ أشك أن ستانلي حتى في أكثر أحلامه جموحًا تخيل أنه في يوم من<br />

الأيام سيكون مائة مليون أمريكي على علم تام بمن ‏(بما؟)‏ كان يتحدث<br />

عندما أعلن أحد الإعلانات التجارية أثناء نهائي بطولة دوري كرة القدم<br />

‏«سوبر بول»‏ في صوت لطيف وإن كان يوحي بالشر:‏ ‏«كان ذلك فريوسً‏ ا<br />

يا ديف.»‏ وإذا كان لا يزال هناك من يصدق الخرافة التي تقول إن اسم<br />

‏«هال»‏ مشتق من أحرف ‏«آي بي إم»‏ باستبدال كل حرف بالحرف السابق<br />

له في الأبجدية الإنجليزية،‏ فدعوني أكرر الإشارة إلى الفصل السادس عشر<br />

حيث الأصل الصحيح للاسم.‏<br />

إذا كنتم تريدون النسخة النهائية فإني أحيلكم إلى دي في دي مترو<br />

جولدوين ماير الرائع،‏ الذي لا يحتوي على نسخة كاملة من الفيلم فقط،‏<br />

بل به أيضً‏ ا كمية كبرية من املادة الأرشيفية الخاصة بإنتاجه؛ هناك لقطات<br />

من تصوير الفيلم،‏ وحوارات مع فنانيه،‏ ومع العلماء والفنيني الذين حولوه<br />

إلى حقيقة،‏ وفيه أيضً‏ ا آرثر سي كلارك املفعم بالشباب وهو يقول للإداريني<br />

التنفيذيني بمترو جولدوين ماير الذين اعتراهم القلق ما يقترح هو وستانلي<br />

عمله.‏ وإني لأشعر بسعادة غامرة عندما أقول إن جميع تنبؤاتي تحققت.‏<br />

لهذا لا يدهشني أنه،‏ حتى داخل عقلي،‏ أحيانًا ما يتداخل الكتاب والفيلم<br />

معا،‏ ويلتبسان أيضً‏ ا مع الواقع؛ إن النهايات املختلفة تزيد املوقف تعقيدًا،‏<br />

لهذا أود أن أعود إلى البداية وأن أستدعي من الذاكرة كيف بدأ الأمر كله.‏<br />

22


مقدمة للطبعة الخاصة<br />

في أبريل/نيسان عام ١٩٦٤ غادرت سيلان،‏ وهو الاسم الذي كانت<br />

تعرف به ‏«سريلانكا»‏ في ذلك الحني،‏ متوجهًا إلى نيويورك من أجل إكمال<br />

عملي التحريري في كتاب تايم/لايف ‏«الإنسان والفضاء».‏ لا أستطيع أن<br />

أقاوم الرغبة في اقتباس بعض من مذكراتي التي كتبتها في ذلك الحني:‏<br />

لقد كان أمرًا غريبًا أن أعود من جديد إلى نيويورك بعد عدة<br />

سنوات أمضيتها في جنة سيلون الاستوائية.‏ كان الذهاب للعمل<br />

والعودة منه — حتى وإن لم تكن رحلة الذهاب للعمل لا تزيد عن<br />

ثلاث محطات بواسطة قطار آي آر تي — يمثل لي تجربة غريبة<br />

جديدة عليّ،‏ بعد حياة رتيبة قضيتها وسط الأفيال،‏ والشعاب<br />

املرجانية،‏ والرياح الهندية املوسمية،‏ وسفن الكنوز الغارقة.‏ كانت<br />

الصيحات الغريبة،‏ والوجوه املبتسمة في بشاشة،‏ والسلوكيات<br />

املجاملة بصدق التي يتسم بها أهل مانهاتن أثناء شروعهم في أداء<br />

شئونهم الغامضة تمثل لي مصدرًا دائمًا للإلهام،‏ وأيضً‏ ا كانت<br />

القطارات املريحة التي تهمس بهدوء عبر الأنفاق التي تتميز<br />

بالنظافة التامة،‏ وأيضً‏ ا الإعلانات ‏(التي كثريًا ما كانت تزدان<br />

بصور فنانني هواة)‏ عن منتجات غري مألوفة لي مثل خبز ليفي،‏<br />

أو صحيفة نيويورك بوست،‏ أو برية بيل،‏ مع عشرات املاركات<br />

املتنافسة من السجائر.‏ غري أنه يمكنك أن تعتاد بمرور الوقت على<br />

أي شيء،‏ وبعد برهة ‏(نحو خمس عشرة دقيقة)‏ يزول الانبهار.‏<br />

من كتاب ‏«تقرير عن الكوكب رقم ثلاثة»،‏<br />

قصة ‏«ابن د.‏ سترينجلاف»‏<br />

كان عملي في كتاب ‏«الإنسان والفضاء»‏ يمضي قدمًا في سلاسة إذ إنه<br />

كلما طرحت عليّ‏ واحدة من باحثات ‏«تايم/لايف»‏ املتحمسات هذا السؤال:‏<br />

‏«ما املصدر الذي استقيت منه هذه العبارة؟»‏ حدقت فيها بكل ثبات وأجبتها<br />

بثقة:‏ ‏«إنه الشخص املاثل أمامك.»‏ وهكذا كنت أملك طاقة وفرية لأعمل<br />

مع ستانلي في فترة ليلية،‏ وكان لقاؤنا الأول في ‏«تريدر فيكس»‏ في ٢٣<br />

أبريل/نيسان.‏ ‏(يجب عليهم وضع لافتة لتمييز ذلك املوقع.)‏ كان ستانلي لا<br />

23


٢٠٠١: ملحمة الفضاء<br />

يزال يستمتع بنجاح آخر أفلامه،‏ دكتور سترينجلاف،‏ وكان يتطلع آنذاك نحو<br />

فكرة أكثر طموحًا.‏ كان يرغب في صنع فيلم عن موقع الإنسان من العالم،‏<br />

مشروع من املحتمل أن يصيب أي مدير ستوديو من املدرسة القديمة — وفي<br />

هذا الشأن بالتحديد،‏ من املدرسة الجديدة أيضً‏ ا — بأزمة قلبية.‏<br />

ستانلي — الذي يصبح خبريًا فوريٍّا في أي موضوع يشغل باله — كان<br />

قد ألم بالفعل بما تحويه عدة مكتبات عن الحقائق العلمية والخيال العلمي،‏<br />

واشترى أيضً‏ ا حقوق ملكية كتاب مثري للجدل بعنوان ‏«ظل على الشمس»؛<br />

لا أذكر أي شيء على الإطلاق عنه وقد نسيت حتى اسم مؤلفه،‏ لهذا من<br />

املفترض أنه لم يكن واحدًا من الكتاب الذين يكتبون بانتظام في موضوع<br />

الخيال العلمي.‏ وأيٍّا كان من هو،‏ آمل ألا يكون قد علم أنني مَن دمرت<br />

مستقبله املهني،‏ لأن أحدهم أخطر كوبريك على الفور أن كلارك ليس ممن<br />

يهتمون بتطوير أفكار الآخرين.‏ ‏(راجع خاتمة ‏«راما ٢» لتعرف السلسلة<br />

الغريبة من الأحداث التي تسببت في تغيري السياسة مع رواية ‏«املهد»‏ بعدها<br />

بعشرين عامًا.)‏ وبعد أن اتفقنا على تلك النقطة قررنا أن نصنع شيئًا جديدًا<br />

تمامًا.‏<br />

الآن،‏ قبل أن تصنع فيلمًا،‏ يجب أن يكون لديك سيناريو أولاً‏ ، وقبل أن<br />

يكون لديك سيناريو،‏ يجب أن تكون لديك قصة،‏ مع أن بعض املخرجني<br />

من أصحاب الفكر الطليعي املجدد حاولوا الاستغناء عن تلك الأخرية،‏ فإنك<br />

لن تجد أعمالهم إلا على مسارح الفن.‏ وكنت قد قدمت لستانلي من قبل<br />

قائمة بقصصي القصرية،‏ وكنا قد قررنا أن إحداها،‏ وهي ‏«الحارس»‏ تحتوي<br />

على الفكرة الرئيسية التي يمكننا البناء عليها.‏<br />

كتبت قصة ‏«الحارس»‏ في وقت كنت أتمتع فيه بذروة النشاط في فترة<br />

عيد امليلاد عام ١٩٤٨، لأدخل بها مسابقة أقامتها إذاعة بي بي سي للقصة<br />

القصرية،‏ ولم تحصل تلك القصة على أي مركز،‏ حتى إنني أتساءل في بعض<br />

الأحيان عن القصة التي فازت ‏(ربما ملحمة الذعر في ‏«تنبريدج ويلز»).‏<br />

وقصة الحارس الآن يرد ذكرها كثريًا ضمن الأعمال الأدبية املختارة 1 حتى<br />

1 أعيد طبعها في أولى مختاراتي الأدبية التي صدرت بعنوان ‏«رحلة استكشافية إلى كوكب الأرض».‏<br />

24


مقدمة للطبعة الخاصة<br />

إنني لست في حاجة سوى أن أذكر أنها قصة خيالية عن اكتشاف أثر<br />

غريب فوق سطح القمر،‏ نوع من أجهزة الإنذار ضد السرقة،‏ تنتظر وصول<br />

الإنسان لكي تطلق صفارة إنذارها.‏<br />

وكثريًا ما يقال إن رواية «٢٠٠١» مبنية على قصة ‏«الحارس»،‏ غري<br />

أن تلك املقولة تعد نوعًا من التبسيط املبالغ فيه مبالغة كبرية،‏ صحيح<br />

إن الاثنتني تشبهان في علاقتهما إلى حد بعيد العلاقة بني ثمرة البلوط<br />

وشجرتها.‏ لكنها احتاجت لإضافة الكثري من املادة القصصية إليها حتى<br />

تصنع فيلمًا،‏ وقد جاء بعض من تلك املادة من ‏«لقاء في الفجر»‏ ‏(يعرف<br />

أيضً‏ ا باسم ‏«رحلة استكشافية إلى كوكب الأرض»‏ ونشرت في املجموعة تحت<br />

نفس الاسم)‏ وأربع قصص قصرية أخرى.‏ ولكن معظمها كان جيدًا تمامًا،‏<br />

ومحصلة شهور من تقليب وجهات النظر املختلفة مع ستانلي،‏ أعقبتها<br />

ساعات قضيتها وحيدًا ‏(حسنًا،‏ وحيدًا إلى حد ما)‏ بالغرفة ١٠٠٨ بفندق<br />

تشيلسي الشهري،‏ في ٢٢٢ وست،‏ شارع رقم ٢٣.<br />

هذا هو املكان الذي كتبت فيه معظم أجزاء الرواية،‏ ويمكنكم العثور<br />

على يوميات هذه العملية املؤملة في أغلب الأحيان في قصة ‏«العوالم املفقودة<br />

لعام ٢٠٠١». ولكن قد يتساءل البعض،‏ ما الداعي لكتابة رواية،‏ في حني<br />

أننا نرمي لصناعة فيلم سينمائي؟ صحيح أن تحويل العمل إلى رواية يحدث<br />

في أغلب الأحيان فيما بعد،‏ لكن في حالتنا هذه كانت لدى ستانلي مبررات<br />

ممتازة لعكس اتجاه العملية.‏<br />

وملا كان يتعني أن يحدد السيناريو كل شيء بأدق التفاصيل،‏ فإن<br />

قراءته تكون مملة بنفس قدر امللل من كتابته.‏ لقد شرح جون فاولز هذا<br />

الأمر بصورة جيدة للغاية عندما قال:‏ ‏«كتابة رواية تشبه السباحة في البحر،‏<br />

أما كتابة سيناريو فيلم فأشبه بقيادة مركب وسط بحر من العسل الأسود.»‏<br />

وربما لأن ستانلي أدرك أنني لا أحتمل امللل كثريًا،‏ اقترح أن نترك لخيالنا<br />

العنان بكتابة رواية كاملة قبل أن نبدأ في مباشرة عملنا الشاق في كتابة<br />

السيناريو،‏ ثم نستقي السيناريو بعد ذلك من الرواية.‏ ‏(وعلى أمل أن نحصل<br />

أيضً‏ ا على قليل من املال.)‏<br />

هذا بالتقريب الأسلوب الذي عملنا به،‏ مع أنه قرب النهاية صارت<br />

الرواية تكتب هي والسيناريو في آن واحد،‏ مع تعديلات في كلا الاتجاهني<br />

25


٢٠٠١: ملحمة الفضاء<br />

بعد إعادة التقييم.‏ وهكذا أعدت كتابة بعض الأجزاء بعد أن رأيت أن موعد<br />

بدء تصوير الفيلم يقترب،‏ وهي طريقة باهظة التكلفة في الإبداع الأدبي،‏<br />

قليل من الكتاب الآخرين هم من يستمتعون بها،‏ مع أنني لست متأكدًا من<br />

أن استخدامي لكلمة ‏«يستمتعون»‏ مناسبًا.‏<br />

وحتى أعطيكم ملحة عن طبيعة ذلك الوقت اللاهث،‏ إليكم بعض<br />

املقتطفات من دفتر اليوميات الذي لا بد أنني كتبته على عجل خلال ساعات<br />

الصباح القليلة:‏<br />

٢٨ مايو/أيار ١٩٦٤: اقترحت على ستانلي ‏«أنهم»‏ ربما كانوا آلات تعتبر<br />

الحياة العضوية مرضً‏ ا بشعًا.‏ يعتقد ستانلي أنها فكرة لطيفة …<br />

٢ يونيو/حزيران:‏ بمتوسط ألف أو ألفي كلمة يوميٍّا.‏ ويقول ستانلي:‏ ‏«لدينا<br />

هنا كتاب سيحقق أفضل مبيعات.»‏<br />

١١ يوليو/تموز:‏ اجتمعت بستانلي ملناقشة تطور الحبكة الدرامية للرواية،‏<br />

غري أننا أمضينا معظم الوقت في جدل حول مجموعات كانتور للأرقام ما<br />

وراء املتناهية وقررت أنه عبقري في الرياضيات لا يعرفه أحد.‏<br />

١٢ يوليو/تموز:‏ الآن لدينا كل شيء،‏ فيما عدا الحبكة الدرامية.‏<br />

٢٦ يوليو/تموز:‏ عيد ميلاد ستانلي ‏(السادس والثلاثني).‏ ذهب إلى قريته<br />

فوجد هناك بطاقة تهنئة كتبت عليها تلك العبارة:‏ ‏«كيف يمكنك أن تستمتع<br />

2<br />

بعيد ميلاد سعيد والعالم بأسره على وشك الانفجار في أي دقيقة؟»‏<br />

٢٨ سبتمبر/أيلول:‏ حلمت أني إنسان آلي يعاد بناؤه من جديد.‏ وأخذت<br />

فصلني إلى ستانلي،‏ الذي طهى من أجلي شريحة رائعة من اللحم،‏ معلقًا<br />

على ذلك بقوله:‏ ‏«جو ليفني لا يفعل هذا لكتابه.»‏<br />

١٧ أكتوبر/تشرين الأول:‏ ابتكر ستانلي فكرة جامحة وهي بشر آليون<br />

كادحون بعض الشيء يصنعون مناخً‏ ا من العصر الفيكتوري من أجل إراحة<br />

أعصاب أبطالنا.‏<br />

2 تحديث في عام ١٩٩٩: تمنيت لو أنني اختزنت كمية وفرية من تلك البطاقات من أجل املستقبل ….<br />

26


مقدمة للطبعة الخاصة<br />

٢٨ نوفمبر/تشرين الثاني:‏ هاتفت ‏«إيزاك أسيموف»‏ ملناقشة الكيمياء<br />

الحيوية لعملية تحويل النباتيني إلى آكلي لحوم.‏<br />

١٠ ديسمبر/كانون الأول:‏ ستانلي يتصل بعد عرض فيلم ‏«أشياء قادمة»‏<br />

عن قصة لإتش جي ويلز ويقول إنه لن يشاهد بعد ذلك أبدًا أي فيلم آخر<br />

أرشحه له.‏<br />

٢٤ ديسمبر/كانون الأول:‏ أعدل ببطء في الصفحات الأخرية،‏ حتى أتمكن<br />

من تقديمها كهدية عيد رأس السنة لستانلي.‏<br />

سجل ذلك البيان الأخري أملي في أن تكون الرواية الآن قد اكتملت<br />

أركانها،‏ وحقيقة الأمر أن كل ما كنا قد أنجزناه حتى ذلك الحني لم يكن إلا<br />

مسودة غري نهائية للثلثني الأولني من الرواية،‏ حيث توقفنا عند أكثر النقاط<br />

إثارة،‏ لأننا لم تكن لدينا أدنى فكرة عما يمكن أن يحدث بعد ذلك.‏ غري<br />

أن هذا الكم كان كافيًا ليتيح لستانلي عقد اتفاق مع مترو جولدوين ماير<br />

وسينرياما،‏ خاص بما أعلن عنه في البداية في جميع وسائل الإعلام تحت<br />

عنوان ‏«رحلة فيما وراء النجوم»،‏ ‏(وهناك عنوان آخر:‏ ‏«كيف تحقق الفوز<br />

باملجموعة الشمسية»،‏ وهو ليس سيئًا،‏ وربما أصبح مناسبًا للوقت الحالي.)‏<br />

وطوال عام ١٩٦٥ ظل ستانلي مشغولاً‏ بأنشطة ما بعد الإنتاج التي<br />

تتسم بتعقيد لا نظري له،‏ والتي زاد من صعوبتها أن الفيلم كان من املفترض<br />

أن يصور في إنجلترا في حني لا يزال ستانلي في نيويورك،‏ ولم يكن ستانلي<br />

يسافر جوٍّا تحت أي ظرف.‏ ولست في وضع يؤهلني لانتقاده في هذا،‏ فستانلي<br />

أصابته عقدة من الطريان بسبب ظروف عصيبة،‏ أثناء محاولته الحصول<br />

على رخصة طيار.‏ ولأسباب مماثلة لم أجلس أنا أيضً‏ ا خلف عجلة قيادة<br />

سيارة منذ اليوم الأول بعد اجتيازي ‏(بصعوبة)‏ اختبار قيادة السيارة في<br />

سيدني بأستراليا عام ١٩٥٦، وقد قررت أيضً‏ ا عدم قيادة السيارات مدى<br />

حياتي بسبب التجربة املؤملة التي مررت بها.‏<br />

وأثناء إخراج ستانلي للفيلم كنت أحاول إكمال النسخة النهائية من<br />

الرواية،‏ التي بطبيعة الحال كان من املحتم أن تحصل على مباركته قبل<br />

أن يصري من املمكن نشرها.‏ وكان الحصول على تلك املباركة من الصعوبة<br />

27


٢٠٠١: ملحمة الفضاء<br />

بمكان،‏ ربما لأنه كان مشغولاً‏ إلى قمة رأسه في الاستوديو حتى إنه لم يكن<br />

لديه وقت لكي يركز انتباهه على العديد من نسخ النص املكتوب.‏ لقد أقسم<br />

أنه لن يتوانى حتى يتأكد من أن الفيلم ظهر قبل الكتاب،‏ وهو ما حدث<br />

بالفعل — بعدة شهور — في ربيع عام ١٩٦٨.<br />

بالنظر إلى مراحل تطور الرواية املعقدة واملتعثرة،‏ لا يدهشنا أن تختلف<br />

عن الفيلم في عدة نواح؛ أهمها — ولم يكن بمقدورنا في ذلك الوقت تخمني<br />

إلى أي مدى كان هذا من حسن الطالع — أن ستانلي قرر أن يكون املوعد<br />

مع املشتري،‏ في حني أنه في الرواية سبحت سفينة الفضاء ديسكفري نحو<br />

زحل،‏ مستخدمةً‏ مجال جاذبية املشتري في زيادة سرعتها.‏<br />

وقد استخدمت مركبة الفضاء فويجر ‏«مناورة الترجاف»‏ هذه بعد ذلك<br />

بأحد عشر عامًا.‏<br />

فلماذا التحول من زحل إلى املشتري؟ حسنًا،‏ لقد جعل ذلك التغيري<br />

حبكة القصة أكثر وضوحًا،‏ والأهم من ذلك أن قسم املؤثرات الخاصة لم<br />

يكن في استطاعته إنتاج كوكب زحل ويجده ستانلي مقنعًا.‏ ولو أنه فعل<br />

ذلك لبدا الآن أن الفيلم به خطأ في التأريخ،‏ حيث إن بعثات فويجر أظهرت<br />

أن حلقات زحل أكثر صعوبة بكثري في فهم كنهها مما كان يتصور أي<br />

شخص.‏<br />

لأكثر من عقد من الزمان بعد نشر الرواية ‏(يوليو/تموز ١٩٦٨) نفيت<br />

في سخط وجود أي احتمال لعمل تكملة للرواية أو وجود أدنى نية لكتابتها،‏<br />

غري أن النجاح املبهر لرحلات فويجر جعلني أغري رأيي؛ فالعوالم البعيدة<br />

التي لم يكن هناك أي معرفة بها على الإطلاق عندما بدأت أنا وستانلي<br />

تعاوننا معًا صارت فجأة أماكن حقيقية،‏ ذات ظروف سطحية مذهلة.‏ من<br />

كان يتخيل يومًا وجود أقمار تغطيها بالكامل أطواف جليدية،‏ أو براكني<br />

تطلق حممًا من الكبريت ملئات الكيلومترات في الفضاء؟ لقد صار الخيال<br />

العلمي الآن أكثر إقناعًا بكثري نتيجة ملا اكتشف من حقائق علمية.‏ وكانت<br />

رواية «٢٠١٠: امللحمة الثانية»‏ عن مجموعة أقمار املشتري الحقيقية.‏<br />

وهناك أيضً‏ ا فارق آخر واضح بني الروايتني،‏ إذ إن «٢٠٠١» كتبت<br />

في عصر يسبق فترة فاصلة في تاريخ البشرية؛ فقد فصلتنا عنه إلى الأبد<br />

28


مقدمة للطبعة الخاصة<br />

تلك اللحظة التي خطا فيها نيل أرمسترونج وباز ألدرين خارج مركبتهما<br />

نحو ‏«بحر السكون»‏ على سطح القمر.‏ والآن صار كل من التاريخ والخيال<br />

توأمني لا يمكن فصل أحدهما عن الآخر،‏ لقد كان رواد فضاء أبوللو قد<br />

شاهدوا الفيلم بالفعل عندما انطلقوا في رحلتهم إلى القمر،‏ وقال لي طاقم<br />

أبوللو ٨ الذين أصبحوا في عيد امليلاد عام ١٩٦٨، أول من شاهدوا من<br />

البشر الجانب البعيد من القمر،‏ إنهم قد راودتهم فكرة بث رسالة للأرض<br />

تعلن عن اكتشاف صخرة منعزلة سوداء كبرية الحجم،‏ لكن للأسف كانت<br />

الغلبة للحكمة والتعقل.‏<br />

إلا أن بعثة أبوللو ١٣ ترتبط بالفعل ارتباطًا غريبًا برواية «٢٠٠١»،<br />

فعندما ذكر الكمبيوتر ‏«هال»‏ وجود ‏«عطب»‏ بالوحدة ألفا إيكو ٣٥، كانت<br />

العبارة التي استخدمها ‏«آسف ملقاطعتي احتفالاتكم،‏ غري أن لدينا مشكلة.»‏<br />

حسنًا،‏ لقد كان الاسم الذي أطلق على وحدة قيادة أبوللو ١٣ ‏«أوديسا»،‏<br />

وكان الطاقم قد أنهى لتوه بثٍّا تلفزيونيٍّا كان يعرض به لحن ‏«زاراثوسترا»‏<br />

الشهري الذي صاحب الفيلم عندما انفجر واحد من خزانات الأكسجني،‏<br />

وكانت أولى الكلمات التي بثها الطاقم إلى املحطة الأرضية ‏«هيوستن،‏ لدينا<br />

مشكلة.»‏<br />

وعن طريق ارتجال متألق وباستخدام الوحدة القمرية كقارب نجاة<br />

أعيد رواد الفضاء بأمان إلى الأرض على متن أوديسا.‏ وعندما أرسل لي ‏«توم<br />

بني»‏ الإداري بناسا تقريرًا عن املهمة كتب على الغلاف:‏ ‏«تمامًا مثلما كنت<br />

تقول دائمًا إنه سيحدث،‏ يا آرثر.»‏<br />

وهناك العديد من أوجه الشبه الأخرى،‏ لعل أبرزها ملاحم استعادة<br />

أقمار الاتصالات الصناعية ويستار ٦ وبالابا بي ٢، التي أطلقت عام ١٩٨٤<br />

نحو مدارات لا جدوى منها بواسطة صواريخ أخطأت في إصابة هدفها.‏<br />

الآن،‏ في مسودة سابقة للرواية،‏ كان على ديفيد بومان أن يقوم بمهمة<br />

‏«خارج السفينة»‏ مستعينًا بواحدة من كبسولات فضاء ديسكفري،‏ وأن<br />

يتعقب منظومة هوائي اتصالات السفينة املفقودة.‏ ‏(يمكنك قراءة هذه<br />

الواقعة بالفصل ٢٦ من ‏«العوالم املفقودة لعام ٢٠٠١».) واستطاع أن يعثر<br />

عليها،‏ غري أنه لم يكن قادرًا على إيقاف دورانها املغزلي البطيء وإعادتها<br />

إلى ديسكفري.‏<br />

29


٢٠٠١: ملحمة الفضاء<br />

وفي نوفمبر/تشرين الثاني من عام ١٩٨٤ غادر رائد الفضاء ‏«جو<br />

ألن»‏ مكوك الفضاء ‏«ديسكفري»‏ ‏(كلا،‏ أنا لا أختلق شيئًا!)‏ واستعان بوحدة<br />

املناورات من أجل تكوين مدار حول بالابا.‏ ولكنه على النقيض من بومان<br />

تمكن من إيقاف دورانه املغزلي بإطلاق دفعات من محركات الدفع النفاث<br />

النيتروجينية املوجودة في الحقيبة التي يحملها على ظهره.‏ وأعيد القمر مرة<br />

أخرى إلى مقصورة الشحن بديسكفري،‏ وبعدها بيومني أُنقذ أيضً‏ ا القمر<br />

ويستار،‏ وأُعيد الاثنان بسلام إلى الأرض للإصلاح وإعادة إطلاقهما،‏ بعد<br />

واحدة من أنجح مهام املكوك وأكثرها جدارة بالإعجاب.‏<br />

ولم ينته الأمر عند هذا الحد؛ فتقريبا في نفس توقيت قيام جو بكل هذا،‏<br />

تلقيت نسخة من كتابه الجميل ‏«الدخول إلى الفضاء:‏ ملحمة رائد فضاء»‏<br />

مع خطاب مرفق يقول فيه:‏ ‏«عزيزي آرثر،‏ عندما كنت صبيٍّا أصبتني<br />

بفريوس الكتابة وفريوس الفضاء،‏ لكنك نسيت أن تخبرني بمدى صعوبة<br />

كلتا املهمتني.»‏<br />

وربما يكون من نافلة القول أن أذكر أن ذلك النوع من الثناء يمنحني<br />

شعورًا دافئًا بالرضا،‏ غري أنه يجعلني في الوقت نفسه أشعر أني معاصر<br />

للأخوين رايت.‏<br />

إن الرواية التي ستقرءونها تعرضت في بعض الأحيان للانتقاد لأنها<br />

تبالغ في شرح الأمور وتفسريها،‏ ومن ثم تدمر بعضً‏ ا من غموض الفيلم.‏<br />

‏(اندفع روك هدسون خارجًا من حفل تقديم الرواية لأول مرة وهو يشكو:‏<br />

‏«هل لأحد أن يخبرني ما الهدف من كل هذا؟»)‏ غري أني غري نادم على ذلك<br />

مطلقًا،‏ فالنص املطبوع يجب أن يقدم تفاصيل أكثر بكثري مما يعرض على<br />

الشاشة.‏ وقد زدت الطني بلة بكتابة «٢٠١٠» ‏(وقد تحولت بالفعل إلى فيلم<br />

رائع على يد بيتر هيامز)،‏ ثم «٢٠٦١» و«‏‎٣٠٠١‎‏».‏<br />

ويجب ألا يزيد عدد أجزاء أي ثلاثية عن أربعة،‏ لهذا أعدكم أن تكون<br />

«٣٠٠١» هي بالفعل امللحمة الختامية!‏<br />

30


تمهيد<br />

هناك ثلاثون شبحًا في مقابل كل إنسان على قيد الحياة،‏ والسبب في ذلك أن<br />

املوتى يفوقون الأحياء عددًا بهذه النسبة،‏ فمنذ بدء الخليقة إلى الآن عاش<br />

مائة مليار شخص على ظهر البسيطة.‏<br />

وهذا العدد مثري للاهتمام،‏ حيث تصادف أن هناك مائة مليار نجم<br />

تقريبًا في مجرتنا التي يطلق عليها ‏«درب التبانة»،‏ وهذا أمر غريب،‏ ومعناه<br />

أن لكل من عاش في هذا الكون نجمًا يسطع.‏<br />

لكن كل نجم من هذه النجوم شمس غالبًا ما تكون أكثر إشراقا<br />

وتألقًا من النجم الصغري القريب منا الذي نعرفه بالشمس،‏ وكثري من هذه<br />

الشموس البعيدة — بل ربما معظمها — لها كواكب تدور حولها،‏ ومن ثم<br />

فإنه يكاد يكون أكيدًا أن عالم السماء يكفي ليمنح كلاٍّ‏ من أفراد الجنس<br />

البشري وصولاً‏ إلى أول إنسان قرد جنة خاصة — أو جحيمًا — بحجم<br />

عاملنا.‏<br />

ولا يمكننا أن نخمن كم من هذه الجنان أو الجحائم مسكون الآن،‏<br />

ولا يمكننا أيضً‏ ا أن نحدد نوع املخلوقات التي تسكنها؛ فأقربها إلينا أبعد<br />

مليون مرة من املريخ والزهرة اللذين ما زالا هدفني بعيدين ينتظران الجيل<br />

القادم لاستكشافهما.‏ لكن عوائق املسافة تتلاشى،‏ وسيأتي اليوم الذي نلتقي<br />

فيه مع أمثالنا أو سادتنا بني النجوم.‏<br />

ولم يلقَ‏ هذا الاحتمال إلى الآن تحمسً‏ ا أو عزيمة من جانب البشر،‏ بل ما<br />

زال بعضهم يتمنى ألا يحدث ذلك أبدًا.‏ بيْد أن أعدادًا متزايدة منا أصبحت


٢٠٠١: ملحمة الفضاء<br />

تتساءل:‏ ‏«ملاذا لم تحدث هذه اللقاءات حتى الآن ونحن أنفسنا على وشك<br />

أن نغزو الفضاء؟»‏<br />

ملاذا فعًلا؟ في هذا الكتاب إحدى الإجابات املحتملة عن هذا السؤال<br />

املنطقي جدٍّا،‏ لكن تذكر دائمًا أن هذا ليس إلا عملاً‏ خياليٍّا.‏<br />

والحقيقة دائمًا أغرب بكثري من الخيال.‏<br />

إلى ستانلي<br />

32


الجزء الأول<br />

ليلة بدائية


الفصل الأول<br />

الطريق إلى الانقراض<br />

استمر القحط عشرة ملايني عام،‏ ومضى زمن طويل منذ أن انتهى عهد<br />

السحالي املخيفة.‏ وهنا على خط الاستواء في القارة التي ستعرف فيما بعد<br />

بأفريقيا،‏ وصلت ضراوة الصراع من أجل البقاء حدٍّا غري مسبوق،‏ ولم يُعرف<br />

بعد من املنتصر.‏ في هذه الأرض املجدبة والقاحلة،‏ كان يُكتب البقاء فقط<br />

للكائنات الصغرية أو سريعة الحركة أو الضارية.‏<br />

ولم يكن الإنسان القرد الذي يعيش في مراعٍ‏ عشبية من بني هذه<br />

الكائنات،‏ ومن ثم كان يعجز عن الازدهار والنمو بقوة.‏ في حقيقة الأمر كان<br />

البشر القردة في طريقهم للانقراض،‏ وسكن نحو خمسني منهم مجموعة<br />

من الكهوف املطلة على واد صغري وجاف يقسمه جدول راكد تغذيه ثلوج<br />

الجبال التي تبعد عنه مائتي ميل جهة الشمال،‏ وفي الظروف السيئة يتلاشى<br />

الجدول تمامًا،‏ لتعيش القبيلة تحت وطأة الظمأ.‏<br />

كانت القبيلة تشعر بالجوع دومًا وها هي الآن قد أصيبت باملجاعة،‏<br />

وعندما تسلل أول شعاع من الفجر إلى الكهف،‏ عرف ‏«مون ووتشر»‏ أن<br />

أباه قد فارق الحياة في الليل،‏ ولم يكن يعرف أن هذا الرجل العجوز هو<br />

والده،‏ فهذه العلاقة فوق فهمه،‏ لكنه حينما نظر إلى جسده الهزيل شعر<br />

بشيء من الانزعاج الذي كان بذرة ملا عُرف بعد ذلك بالحزن.‏<br />

كان الطفلان يئنان طلبًا للطعام،‏ لكنهما صمتا عندما انتهرهما مون<br />

ووتشر،‏ وصاحت فيه غاضبة إحدى الأمهات مدافعة عن طفلها التي تعجز<br />

عن تغذيته التغذية امللائمة،‏ ولم تكن لديه طاقة تكفي ولو لصفعها ردٍّا<br />

على وقاحتها.‏


٢٠٠١: ملحمة الفضاء<br />

وبعد أن أصبح ضوء النهار كافيًا للخروج جر مون ووتشر الجثمان<br />

خلفه وهو يسري منحنيًا تحت سقف الكهف املتدلي،‏ وفور خروجه حمل<br />

الجثمان على كتفه ووقف منتصب القامة،‏ وهذا ما كانت تعجز عن فعله<br />

جميع الحيوانات الأخرى في عامله.‏<br />

كان مون ووتشر أقرب إلى العمالقة بني أفراد نوعه،‏ فطوله نحو خمسة<br />

أقدام،‏ ووزنه يربو على مائة رطل على الرغم من حالة نقص التغذية التي<br />

يعانيها،‏ أما جسده املشعر مفتول العضلات فهو مرحلة وسطى بني القرد<br />

والإنسان،‏ لكن رأسه أقرب كثريًا للإنسان منها للقرد،‏ وجبهته ضيقة بها<br />

حافتان بارزتان فوق محجري عينيه،‏ إلا أنه كان واضحًا أنه يحمل في<br />

جيناته تباشري قدوم البشرية.‏ وعندما نظر إلى ذلك العالم املعادي له في<br />

عصر البلايستوسني،‏ كانت نظرته تختلف عن نظرة القردة العادية،‏ فعيناه<br />

السوداوان الغائرتان تشع فيهما بوادر الإدراك،‏ وهى الأمارات الأولى لذكاء<br />

قد لا يصل غايته قبل عصور،‏ وربما تخبو جذوته قريبًا إلى الأبد.‏<br />

لم تكن هناك أي دلائل خطر،‏ وبدأ مون ووتشر في النزول من منحدر<br />

شبه رأسي خارج الكهف،‏ لا يعوقه كثريًا ما يحمله،‏ وكما لو كانوا في انتظار<br />

إشارته خرج باقي أفراد القبيلة من كهوفهم وبرزوا على سطح املنحدر<br />

املكشوف،‏ وبدءوا يهرعون نحو مياه الجدول املوحلة من أجل تناول جرعتهم<br />

الصباحية من املاء.‏<br />

نظر مون ووتشر في أرجاء الوادي لريى هل الجميع هناك،‏ لكنه لم<br />

يجد أثرًا لبعضهم؛ ربما لم يخرج هؤلاء من كهوفهم بعد،‏ أو لعلهم ابتعدوا<br />

عن املكان بحثًا عن الطعام،‏ وحيث إنه لم يرهم في أي مكان من حوله<br />

تجاهل مون ووتشر الأمر؛ فلم يكن لديه القدرة أن يقلق بشأن أكثر من<br />

شيء واحد في ذات الوقت.‏<br />

فأولاً‏ ينبغي عليه أن يتخلص من الجثمان،‏ وهذه مشكلة تحتاج إلى<br />

شيء من التفكري؛ فقد كانت وفيات عديدة هذا املوسم،‏ إحداها في كهفه؛<br />

ويتعني عليه وحده أن يضع الجثمان في نفس املكان الذي ترك فيه الرضيع<br />

الجديد عندما كان القمر تربيعًا ثانيًا لتقوم الضباع ببقية املهمة.‏<br />

كانت الضباع في انتظاره بالفعل في املكان الذي يتخذ فيه الوادي<br />

الصغري صورة دائرية وسط السافانا،‏ كما لو كانت تعلم بقدومه،‏ ترك مون<br />

36


الطريق إلى الانقراض<br />

ووتشر الجسم تحت شجرية — دون أن يجد أثرًا للعظام التي تركها من<br />

قبل — وهرع عائدًا إلى قبيلته،‏ ولم يخطر والده بباله بعد ذلك.‏<br />

وكان رفيقاه والأشخاص البالغون من الكهوف الأخرى ومعظم الصغار<br />

يبحثون عن التوت والجذور العصريية والأوراق وما قد تطرحه الريح من<br />

قوارض وسحال،‏ وذلك وسط الأشجار التي ضربها الجفاف في أماكن بعيدة<br />

أعلى الوادي،‏ ولم يكن يبقى في الكهوف سوى الأطفال الصغار والكبار<br />

الضعفاء؛ فإذا فاض طعام في نهاية اليوم فسيكون من نصيبهم،‏ وإذا لم<br />

يتوفر هذا الفائض فسوف يموتون جوعًا وتأكلهم الضباع.‏<br />

لكن هذا اليوم جيد بالرغم من أن مون ووتشر لم يكن يستطيع املقارنة<br />

بني الأيام لأنه لم يكن لديه تذكر حقيقي للماضي؛ فقد عثر على خلية نحل<br />

في جذع شجرة ميتة،‏ واستمتع بأشهى طعام عرفته جماعته،‏ واستمر في<br />

لعق أصابعه من وقت لآخر وهو يقود جماعته عائدًا إلى الكهف في نهاية<br />

وقت الظهري.‏ بالتأكيد فإنه تعرض للسع النحل مرات عديدة،‏ لكن هذا لم<br />

يسترعِ‏ انتباهه كثريًا،‏ وقد أصبح الآن في حالة من السعادة تقترب من الحالة<br />

التي كان يشعر بها من قبل،‏ ومع أنه لا يزال جائعًا فإن جوعه هذا لم<br />

يشعره بضعف حقيقي،‏ وهذا هو أفضل ما يطمح إليه الإنسان القرد.‏<br />

لكن سعادته هذه سرعان ما تلاشت عندما وصل إلى جدول املاء،‏ فقد<br />

وجد آخرين هناك،‏ وبالرغم من أنه كان يراهم عند الجدول في كل يوم فإن<br />

هذا لم يقلل قط من انزعاجه.‏<br />

هناك نحو ثلاثني منهم،‏ ولم يكن بالإمكان تمييزهم عن أفراد قبيلة مون<br />

ووتشر،‏ وحينما رأوه قادمًا بدءوا يرقصون ويلوحون بأذرعهم ويصيحون<br />

على جانبهم من جدول املاء،‏ ورد عليهم أفراد قبيلته باملثل.‏<br />

وهذا كل ما حدث؛ فمع أن البشر القردة غالبًا ما حاربوا وصارعوا<br />

بعضهم بعضً‏ ا فقلما أدت منازعاتهم إلى إصابات خطرية،‏ فنظرًا لعدم وجود<br />

مخالب لديهم أو أنياب حادة ونتيجة لأن الشعر يحمي أجسادهم جيدًا،‏ لم<br />

يتسبب أي منهم في ضرر كثري للآخر،‏ وعلى أي حال لم يكن لديهم فائض<br />

من الطاقة كي ينفقوه على هذا السلوك الذي لا يجدي؛ فالزمجرة والتهديد<br />

كانا يمثلان أفضل طريقة في التأكيد على وجهات نظرهم.‏<br />

37


٢٠٠١: ملحمة الفضاء<br />

واستمرت املواجهة خمس دقائق تقريبًا وبعدها انفض العرض سريعا<br />

كما بدأ،‏ وأخذ كل واحد قسطه من املاء املوحل.‏ لقد أرضى كل فريق كبرياءه،‏<br />

وأكدت كل جماعة أحقيتها في منطقتها،‏ وبعد تسوية هذا الأمر املهم بدأت<br />

القبيلة تتحرك على طول جانبها من النهر.‏ وأقرب مرعى حينئٍذ يبعد بمسافة<br />

تزيد على ميل من الكهوف،‏ واضطروا لأن يشاركهم فيه قطيع من حيوانات<br />

ضخمة أشبه بالبقر الوحشي،‏ ولم يكن هذا القطيع يرضى بوجودهم إلا<br />

نادرًا،‏ كما لم يكن بإمكان القبيلة صرف هذه الحيوانات التي كانت مسلحة<br />

بقرون قوية في رءوسها؛ تلك الأسلحة الطبيعية التي يفتقر إليها الإنسان<br />

القرد.‏<br />

مضغ مون ووتشر ورفاقه التوت والثمار والأوراق ليتغلبوا على آلام<br />

الجوع؛ إنهم يتنافسون على طعام واحد،‏ في الوقت الذي يحيط بهم فيه من<br />

كل الاتجاهات مصدر محتمل ملزيد من الطعام يفوق ما يحلمون به،‏ إلا<br />

أن آلاف الأطنان من اللحوم العصارية التي تتجول في أنحاء السافانا وفي<br />

الأشجار لم تكن فقط بعيدة املنال بالنسبة لهم،‏ لكنها أيضً‏ ا خارج نطاق<br />

تخيلهم،‏ ووسط كل هذه الوفرة يتضورون جوعًا.‏<br />

وعادت القبيلة إلى كهفها دون وقوع أي شيء غري معتاد أو سيئ مع<br />

غروب الشمس،‏ أما الأنثى املصابة التي تركوها خلفهم تهدل في سعادة<br />

حينما أعطاها مون ووتشر فرعًا مليئًا بالتوت كان قد أحضره معه،‏ فقد<br />

بدأت تلتهمه بنهم،‏ صحيح أنه لم يكن هناك غذاء كافٍ‏ في هذا املكان،‏ لكن<br />

هذا الطعام البسيط سوف يساعدها على البقاء حية حتى يلتئم الجرح الذي<br />

سببه لها النمر،‏ ومن ثم تتمكن من البحث عن الغذاء بنفسها من جديد.‏<br />

وأشرق البدر فوق الوادي،‏ وهبت ريح من الجبال البعيدة،‏ ومن املتوقع<br />

أن يكون الجو باردًا جدٍّا في تلك الليلة،‏ لكن البرد مثل الجوع لم يكن يشغل<br />

بالهم كثريًا؛ فهو ليس إلا جزءًا من خلفية حياتهم.‏<br />

ولم يتحرك مون ووتشر عندما سمع صدى صرخات تأتي من أحد<br />

الكهوف املنخفضة،‏ ولم يكن في حاجة لأن يسمع دمدمة النمر من وقت<br />

لآخر كي يعرف ما كان يحدث بالضبط.‏ فهناك في الظلام كان ‏«وايت هري»‏<br />

العجوز وأسرته يحاربون ويموتون،‏ ولم يخطر ببال مون ووتشر قط أنه<br />

38


الطريق إلى الانقراض<br />

ربما أمكنه مساعدتهم بطريقة ما؛ فمنطق البقاء الذي يهيمن عليهم تمامًا<br />

أدى إلى استبعاد هذه الرغبة،‏ ولم يرتفع أي صوت من جانب التل ليعبر<br />

عن اعتراضه على ما يحدث،‏ كان الصمت يلف جميع الكهوف،‏ خشية أن<br />

تحدث كارثة بها هي الأخرى.‏<br />

وانتهت الجلبة،‏ وأصبح مون ووتشر الآن يسمع صوت جسد يُجر فوق<br />

الصخور،‏ ولم يستمر ذلك سوى ثوان معدودة،‏ ثم أحكم النمر قبضته على<br />

فريسته،‏ ولم تصدر أي ضوضاء بعد ذلك حيث سار في صمت بعيدًا،‏ حامًلا<br />

ضحيته بلا عناء بني فكيه.‏<br />

ولم يكن هناك مزيد من الأخطار بعد ذلك بيوم أو يومني،‏ لكن ربما<br />

كان هناك أعداء آخرون في الخارج يستغلون هذه الشمس الصغرية الباردة<br />

‏(القمر)‏ التي لا تشرق إلا في الليل،‏ فإذا كان هناك تحذير كافٍ‏ فإن الضواري<br />

الأصغر حجما قد تبتعد خوفًا،‏ نتيجة الصياح والصراخ.‏ زحف مون ووتشر<br />

ليخرج من الكهف وتسلق بجهد صخرة ضخمة بجانب املدخل،‏ وجثم فوقها<br />

يتأمل الوادي.‏<br />

من بني جميع املخلوقات التي كانت تسري على الأرض،‏ الإنسان القرد<br />

هو أول الكائنات الحية التي تأملت القمر باهتمام،‏ ولم يكن بمقدور مون<br />

ووتشر أن يتذكر الوقت الذي كان فيه صغريًا جدٍّا وهو يشب محاولاً‏ الوصول<br />

إلى القمر،‏ وملس هذا الوجه الشبحي املشرق فوق التلال.‏<br />

ولم ينجح قط في ذلك،‏ والآن أصبح كبريًا لدرجة تمكنه من فهم السبب؛<br />

فيجب بالطبع أن يجد شجرة عالية علوٍّا كافيًا للصعود إليه.‏<br />

أحيانًا كان يراقب الوادي وأحيانًا أخرى يراقب القمر،‏ لكنه دائمًا<br />

ينصت.‏ ربما يغلبه النعاس مرة أو مرتني،‏ لكنه ينام نومًا خفيفًا لدرجة<br />

أن أقل شيء يمكن أن يوقظه وأضعف صوت يمكن أن يزعجه.‏ وفي سن<br />

الخامسة والعشرين لا يزال يتمتع بجميع قواه،‏ وإذا حالفه الحظ وتجنب<br />

الحوادث والأمراض والحيوانات املفترسة واملجاعة،‏ فإنه قد يعيش عشر<br />

سنوات أخرى.‏<br />

وانقضى الليل صافيًا وباردًا من غري مزيد من الأخطار،‏ وارتفع القمر<br />

ببطء وسط الأبراج الاستوائية التي لم ترها عني إنسان قط،‏ وفي الكهوف،‏<br />

39


٢٠٠١: ملحمة الفضاء<br />

وبني فترات متقطعة وغري منتظمة من الغفوة والانتظار خوفًا،‏ بدأت كوابيس<br />

الأجيال التي ستأتي لاحقًا.‏<br />

ومرت نقطة ضوء متألقة أكثر تلألؤًا من أي نجم،‏ مرت مرتني ببطء<br />

عبر السماء،‏ صاعدة إلى ذروتها ومنحدرة نحو الشرق.‏<br />

40


الفصل الثاني<br />

الصخرة الجديدة<br />

في وقت متأخر من تلك الليلة استيقظ مون ووتشر فجأة،‏ فبعد يوم مليء<br />

بالعناء والكوارث نام نومًا عميقًا أكثر من املعتاد،‏ ومع ذلك انتبه على الفور<br />

مع أول صوت خافت في الوادي.‏<br />

جلس مون ووتشر وسط ظلام الكهف الحالك،‏ مجهدًا حواسه في ذلك<br />

الليل،‏ وتسرب الخوف إلى نفسه.‏ لم يحدث في حياته قط أن سمع صوتًا<br />

كهذا؛ فالسنوريات العملاقة تقترب في صمت،‏ والشيء الوحيد الذي يكشف<br />

اقترابها هو انزلاق أرضي نادرًا ما يحدث أو انكسار غصن صغري من وقت<br />

لآخر،‏ لكن هذا الصوت كان متصلاً‏ ، ويزداد علوٍّا،‏ فهناك حيوان ضخم<br />

يتحرك على ما يبدو في ظلام الليل،‏ دون أي محاولة للتخفي،‏ متجاهلاً‏<br />

جميع العوائق.‏ سمع مون ووتشر صوت اقتلاع شجرية،‏ وكانت الفيلة كثريًا<br />

ما تفعل ذلك،‏ لكنها بخلاف ذلك كانت تتحرك في صمت كالسنوريات.‏<br />

ثم أتى صوت لم يستطع مون ووتشر التعرف عليه،‏ لأنه صوت لم<br />

يُسمع من قبل في تاريخ العالم؛ إنه صوت قعقعة معدن على سطح صخرة.‏<br />

أتى مون ووتشر إلى الصخرة الجديدة عندما قاد قبيلته إلى النهر مع طلوع<br />

أول شعاع للشمس،‏ وقد تلاشت مخاوف الليلة املاضية تقريبًا،‏ لأنه لم يحدث<br />

أي شيء بعد سماعه هذا الصوت،‏ ولذلك لم يربط هذا الشيء الغريب بأي<br />

خطر أو خوف،‏ وعلى أي حال لا يوجد أي شيء يدعو للانزعاج.‏<br />

كانت الصخرة مستطيلة الشكل يبلغ ارتفاعها ثلاثة أضعاف طول<br />

مون ووتشر لكن عرضها ضيق بحيث يمكنه أن يلفها بذراعيه،‏ وهي من


٢٠٠١: ملحمة الفضاء<br />

مادة شفافة؛ في الحقيقة لا يمكن رؤيتها بسهولة إلا عندما تسطع الشمس<br />

على حوافها.‏ وحيث إن مون ووتشر لم ير جليدًا من قبل أو حتى مياهً‏ ا<br />

صافية،‏ فلم يكن هناك أي شيء في الطبيعة يمكن مقارنته بهذه الصخرة<br />

الغريبة،‏ وهي جذابة ومع أنه يتوخى الحذر من معظم الأشياء الجديدة<br />

فلم يتردد طويلاً‏ في السري بجانبها،‏ وحينما لم يحدث شيء وضع يده عليها<br />

وتحسس سطحها البارد الذي يتميز بالخشونة.‏<br />

وبعد عدة دقائق من التفكري العميق توصل إلى تفسري رائع،‏ وهو أن<br />

هذا الجسم صخرة نمت أثناء الليل؛ فنباتات كثرية تحيط به تفعل نفس<br />

الشيء،‏ وهناك أشياء لبية بيضاء تشبه في الشكل البلورات الصخرية وتنمو<br />

على ما يبدو خلال ساعات الظلام.‏ صحيح أنها كانت صغرية ومستديرة،‏ في<br />

حني هذه الصخرة الغريبة ضخمة وحادة الحواف؛ لكن فلاسفة أكبر جاءوا<br />

من بعد مون ووتشر كانوا على استعداد للتغاضي عن استثناءات مماثلة<br />

لفتت انتباههم في نظرياتهم.‏<br />

وتفكريه املجرد هذا قاده بعد ثلاث أو أربع دقائق فقط إلى استنتاج<br />

اختبره على الفور؛ فالنباتات البلورية املستديرة البيضاء لذيذة املذاق جدٍّا<br />

‏(بالرغم من أن القليل منها يسبب مرضً‏ ا شديدًا)؛ فربما تكون هذه الصخرة<br />

لذيذة املذاق أيضً‏ ا.‏<br />

وبعد لعقها مرات عديدة ومحاولة قضم جزء منها،‏ سرعان ما ازدادت<br />

خيبة أمله،‏ فهي لا تصلح لغذائه ومن ثم توصل إلى أنه من الحكمة أن<br />

يمضي في طريقه نحو النهر،‏ ونسي كل شيء عن هذه الصخرة البلورية أثناء<br />

صياحه اليومي املعتاد في وجه الآخرين.‏<br />

كان جمع الطعام في هذا اليوم صعبًا جدٍّا،‏ واضطرت القافلة للسفر<br />

ملسافات تبعد عن كهوفها أميالاً‏ عديدة للعثور على أي طعام.‏ وأثناء حر<br />

الظهرية الذي لا يرحم سقطت إحدى الإناث الضعيفات،‏ بعيدًا عن أي مأوى،‏<br />

وتجمع رفاقها حولها،‏ وأخذوا يثرثرون ويتمتمون متعاطفني معها،‏ لكن لم<br />

يكن بأيديهم حيلة،‏ ولو أنهم كانوا أقل تعبًا لحملوها معهم،‏ لكن لم يكن<br />

لديهم طاقة إضافية للعطف عليها،‏ فتركوها خلفهم لتتعافى أو لا تتعافى.‏<br />

ومروا على نفس البقعة في طريق عودتهم إلى كهوفهم هذا املساء دون<br />

أن يروا عظمة واحدة بها.‏<br />

42


الصخرة الجديدة<br />

ومع غروب الشمس نظروا في قلق إلى من سبقوهم من الصيادين،‏<br />

وشربوا بسرعة من جدول املاء وبدءوا في الصعود إلى كهوفهم.‏ إنهم لا يزالون<br />

على بعد مائة ياردة من ‏«الصخرة الجديدة»‏ عندما بدأ الصوت ينبعث.‏<br />

ومع أنهم لم يسمعوا هذا الصوت بوضوح فإنهم تجمدوا في أماكنهم<br />

وأصيبوا بحالة من الشلل وهم في طريقهم،‏ وانطلقت من البلورة ذبذبة<br />

بسيطة متكررة على نحو يصيب بالجنون،‏ واستحوذت على ألباب جميع<br />

من كانوا في نطاق تأثريها،‏ وللمرة الأولى — والأخرية على مدار ثلاثة ملايني<br />

عام — سُ‏ مع صوت الطبول في أفريقيا.‏<br />

وازداد صوت الطبول علوٍّا وإلحاحًا،‏ وبدأ البشر أشباه القردة في<br />

التحرك نحو مصدر هذا الصوت القهري وكأنهم يسريون نائمني.‏ في بعض<br />

الأحيان كانوا يخطون خطوات يشوبها شيء من الرقص حيث استجابت<br />

دماؤهم لإيقاعات لم تبتكرها ذرياتهم بعد،‏ وتجمعوا وهم في قمة الانبهار<br />

حول الصخرة،‏ ناسني كل الصعاب التي واجهوها في يومهم وجميع مخاطر<br />

الظلام الذي أوشك أن يحل والجوع الذي يقطع بطونهم.‏<br />

وازداد الصوت ارتفاعًا والليل ظلامًا،‏ وبينما امتدت الظلال وتلاشى<br />

الضوء من السماء بدأت البلورة تتوهج.‏<br />

في البداية فقدت البلورة شفافيتها،‏ وظهرت فيها أشباح باهتة في<br />

تلألؤها،‏ لبنية اللون وغري واضحة املعالم،‏ وأخذت تلك الأشباح تتحرك عبر<br />

سطح البلورة وفي أعماقها،‏ وكانت تتحد في صورة خطوط من الضوء والظل،‏<br />

ثم صنعت عجلات من الضوء بدأت تدور ببطء.‏<br />

وبدأت تزداد سرعة دوران عجلات الضوء ويزداد معها إيقاع الطبول،‏<br />

وبعد أن أصبحوا خاضعني تمامًا لتأثريها لم يملك البشر أشباه القردة<br />

سوى التحديق بأنظارهم وهم مشدوهون من هذا العرض املذهل.‏ لقد نسوا<br />

بالفعل غرائز أسلافهم ودروس الحياة؛ فلم يحدث من قبل أن ابتعد أحد<br />

منهم عن كهفه كل هذه املسافة في هذا الوقت املتأخر من املساء،‏ وأصبح<br />

الدغل املحيط مليئًا بالأشكال املتجمدة والعيون املحدقة،‏ وأوقفت الكائنات<br />

الليلية نشاطها لتراقب ما سيحدث.‏<br />

ثم بدأت تتحد عجلات الضوء التي تدور،‏ واندمجت الخيوط في صورة<br />

أشرطة مضيئة أخذت تتقلص مبتعدة،‏ وهي تدور حول محاورها،‏ وانشطرت<br />

43


٢٠٠١: ملحمة الفضاء<br />

إلى ثنائيات وبدأت املجموعات الناتجة من الخطوط تتقاطع بعضها مع<br />

بعض مغرية زوايا تقاطعها ببطء،‏ وأخذت أشكال هندسية مذهلة وسريعة<br />

الزوال في الظهور والاختفاء بينما كانت تنعقد وتنحل الشبكات املتوهجة،‏<br />

والبشر القردة في حالة ذهول مفتونني بالبلورة املتوهجة.‏<br />

ولم يكن يخطر ببالهم قط أن عقولهم تُسْ‏ برَ‏ أغوارُها وأجسادهم تُصور<br />

بدقة وردود أفعالهم تُدرس بعناية وقدراتهم تُقيم عن كثب.‏ في البداية ظلت<br />

القبيلة بأكملها جالسة في مشهد ساكن وكأن أفرادها صاروا أصنامًا،‏ ثم<br />

دبت الروح فجأة في أقربهم إلى الصخرة البلورية.‏<br />

إنه لم يتحرك من موضعه،‏ لكن جسده فقد حالة التصلب ورُدت إليه<br />

الحياة بعد أن كان مثل الدمية التي تسيطر عليها خيوط خفية،‏ وحرك<br />

رأسه يمنة ويسرة وفتح فمه وأغلقه في صمت،‏ وطبق يديه ثم فتحهما،‏<br />

وانحنى بعد ذلك لينتزع عودًا طويلاً‏ من العشب محاولاً‏ تشبيكه في عقدة<br />

بأصابعه التي تفتقر إلى البراعة.‏<br />

وأصبح يبدو كأنما استحوذت عليه روح أو عفريت يحاول جاهدًا<br />

مقاومته،‏ كان يلهث وعيناه مملوءتان بالرعب محاولاً‏ إجبار أصابعه على<br />

إحداث حركات أكثر تعقيدًا من أي حركات حاولت القيام بها من قبل.‏<br />

وبالرغم من جميع جهوده فلم يفلح إلا في كسر العود إلى أجزاء،‏ وبينما<br />

سقطت هذه الأجزاء على الأرض تركته القوة املؤثرة املسيطرة عليه،‏ وتجمد<br />

من جديد بلا حراك.‏<br />

وعادت الروح إلى آخر وفعل نفس الشيء،‏ لكنه كان في هذه املرة أصغر<br />

سنٍّا وأكثر تكيفًا،‏ فقد نجح فيما فشل فيه من يكبره سنٍّا،‏ ورُبطت عقدة<br />

بسيطة لأول مرة على سطح كوكب الأرض.‏<br />

أما الآخرون ففعلوا أشياء أغرب وبلا هدف؛ فقد مد بعضهم أذرعهم<br />

محاولني ملامسة أطراف أصابع من بجوارهم وأعينهم مفتوحة في البداية<br />

ثم بإغماض واحدة وفتح الأخرى،‏ وأخذ بعضهم يحدق بعينيه في الأشكال<br />

املوجهة في البلورة التي أصبحت أكثر انقسامًا إلى أن التحمت الخطوط<br />

لتصبح غري واضحة املعالم،‏ وسمع الجميع أصواتًا منفردة ذات درجات<br />

متفاوتة سرعان ما أصبحت دون مستوى السمع.‏<br />

44


الصخرة الجديدة<br />

وعندما جاء دور مون ووتشر لم ينتبه سوى قليل جدٍّا من الخوف،‏<br />

وكان يشعر بشيء من الاستياء حينما تتحرك عضلاته وأطرافه استجابة<br />

لأوامر تخرج تمامًا عن نطاق إرادته،‏ وانحنى مون ووتشر والتقط حجرًا<br />

صغريًا دون أن يعلم سببًا لذلك،‏ وعندما انتصب قائمًا رأى صورة جديدة<br />

في الصخرة البلورية.‏<br />

وتلاشت الشبكات والأشكال املتحركة الراقصة،‏ وظهر بدًلا منها مجموعة<br />

من الدوائر متحدة املركز،‏ محيطة بقرص أسود صغري.‏<br />

وإذعانًا للأوامر الصامتة في عقله،‏ وبطريقة خرقاء،‏ رفع ذراعه أعلى<br />

كتفيه وألقى بالحجر،‏ ولم يصب الهدف لكنه اقترب منه بعدة أقدام.‏<br />

وصدر إليه الأمر باملحاولة من جديد،‏ ونظر حوله فوجد حجرًا آخر،‏<br />

وفي هذه املرة أصاب الصخرة البلورية وأحدث صوتًا يشبه دقات الجرس،‏<br />

وكان لا يزال بعيدًا عن الهدف،‏ لكنه أحرز تحسنًا.‏<br />

وفي املحاولة الرابعة لم يبعد عن مركز الهدف سوى عدة بوصات،‏<br />

وسرى في عقله شعور لا يوصف بالاستمتاع والسعادة،‏ شعور يشبه الشعور<br />

الجنسي في توهجه،‏ ثم هدأت السيطرة ولم يعد يشعر بدافع نحو القيام<br />

بأي شيء سوى الوقوف والانتظار.‏<br />

واستُحوِذ على جميع أعضاء القبيلة واحدًا تلو الآخر لفترة وجيزة،‏<br />

ونجح بعضهم،‏ لكن أغلبهم باء بالفشل في املهام التي أُمروا بها،‏ وجميعهم<br />

أُثيبوا بنشوة الاستمتاع أو الألم.‏<br />

وبعد ذلك لم يكن هناك سوى توهج هادئ ومتسق في الصخرة العظيمة،‏<br />

بحيث بدت كما لو كانت كتلة من الضوء تضيء ما حولهم من ظلام،‏ وكما<br />

لو كانوا قد استيقظوا من نومهم،‏ هز البشر أشباه القردة رءوسهم،‏ وبدءوا<br />

في التحرك على الطريق الذي يوصلهم إلى مأواهم،‏ ولم يلتفتوا وراءهم،‏ أو<br />

يتساءلوا عن الضوء العجيب الذي يوجههم نحو كهوفهم ويرشدهم إلى<br />

مستقبل لم يزل مجهولاً‏ حتى للنجوم.‏<br />

45


الفصل الثالث<br />

الأكاديمية<br />

لم يتذكر مون ووتشر ورفاقه شيئًا عما رأوه،‏ بعد أن توقفت الصخرة<br />

البلورية عن التأثري املغناطيسي على عقولهم وعن إجراء التجارب باستخدام<br />

أجسادهم،‏ وفي اليوم التالي،‏ حينما خرجوا للبحث عن الغذاء مروا بها دون<br />

أن يعيدوا التفكري بشأنها؛ فقد أصبحت جزءًا من خلفية حياتهم فقط،‏ فهم<br />

لم يستطيعوا أكلها،‏ وهي لم تستطع التهامهم،‏ ولذلك لم تكن تمثل أهمية<br />

لهم.‏<br />

وعند النهر وجه الآخرون بتهديداتهم املعتادة التي لا جدوى منها،‏<br />

وزعيمهم لا يملك سوى أذن واحدة وهو في نفس حجم مون ووتشر وسنه،‏<br />

لكنه أسوأ حالاً‏ ، وقد هم بغزوة خاطفة نحو أرض القبيلة،‏ وصرخ بصوت<br />

مرتفع ملوحًا بذراعيه في محاولة لترويع املعارضة وتعزيز شجاعته.‏ ولم<br />

يكن عمق مياه الجدول يزيد على قدم،‏ لكن كلما تقدم الزعيم وحيد الأذن<br />

في تلك املياه أصبح أكثر ترددًا وتعاسة،‏ وسرعان ما توقف ثم تحرك عائدًا<br />

بكرامته املبالغ فيها ليلحق برفاقه.‏<br />

وخلاف ذلك لم يكن هناك أي تغيري في الروتني املعتاد،‏ وجمعت القبيلة<br />

غذاء يكفيها لتستمر حياتها يومًا جديدًا دون أن يموت أحد من أفرادها.‏<br />

وفي تلك الليلة كانت الصخرة البلورية لا تزال تنتظر،‏ محاطة بهالتها<br />

النابضة من الضوء والصوت،‏ لكن البرنامج الذي ابتكرته هذه املرة كان<br />

مختلفًا اختلافًا دقيقًا ومميزًا.‏<br />

فقد تجاهلت الصخرة بعض البشر أشباه القردة تجاهلاً‏ تامٍّا كما لو<br />

كانت تركز على أفضل العناصر الواعدة.‏ من بني هؤلاء مون ووتشر؛ فقد


٢٠٠١: ملحمة الفضاء<br />

شعر من جديد بمحاليق فضولية تتسلل عبر مسارات غري معتادة في مخه،‏<br />

وبدأ مون ووتشر يتخيل بعض املشاهد.‏<br />

ربما كانت موجودة في الصخرة البلورية؛ أو ربما كامنة في عقله،‏ وعلى<br />

أي حال هذه املشاهد واقعية تماما بالنسبة له،‏ بيد أن الدافع التلقائي<br />

املعتاد لإبعاد الغزاة عن منطقته كان يهدأ بطريقة ما.‏<br />

لقد رأى أسرة مساملة تختلف عما ألفه في شيء واحد؛ فالرجل واملرأة<br />

والطفلان الذين ظهروا بصورة غامضة أمامه كانوا متخمني وبدناء بجلود<br />

ملساء ولامعة،‏ وهذه صورة حياتية لم يكن يتخيلها مون ووتشر قط،‏<br />

وبصورة لا شعورية تحسس ضلوعه الناتئة،‏ كانت ضلوع هذه املخلوقات<br />

مخبوءة تحت شحومهم،‏ ويتحركون حركة بطيئة من آن لآخر وهم يجلسون<br />

في حالة من الاسترخاء بالقرب من مدخل الكهف،‏ ويبدو عليهم أنهم في<br />

حالة سلام مع العالم،‏ وبني الفينة والأخرى يتجشأ الرجل الضخم تجشؤًا<br />

يدل على اطمئنانه.‏<br />

ولم يكن هناك أي نشاط آخر،‏ وبعد خمس دقائق اختفى املشهد فجأة،‏<br />

وأصبحت البلورة مجرد شكل مضيء ومتألق وسط الظلام،‏ وانتفض مون<br />

ووتشر كما لو كان قد استيقظ من حلم،‏ وأدرك فجأة املكان الذي يوجد<br />

فيه،‏ وقاد القبيلة عائدًا إلى الكهوف.‏<br />

ولم يتذكر مون ووتشر أي شيء مما رآه،‏ لكنه في تلك الليلة،‏ وهو<br />

جالس في مدخل الكهف يفكر انسجمت أذناه مع أصوات العالم من حوله.‏<br />

شعر مون ووتشر بأول وخزات ضعيفة لعاطفة جديدة وقوية،‏ وانتابه<br />

شعور غامض بالحسد وعدم الرضا عن حياته،‏ ولم يكن لديه فكرة عن<br />

سبب هذا الشعور،‏ كما لم يكن يعلم شيئًا عن علاجه،‏ لكن الشعور بعدم<br />

الرضا تسلل إلى نفسه،‏ وبذلك خطا خطوة صغرية نحو الإنسانية.‏<br />

وبتعاقب الليالي تكرر مشهد هؤلاء الأربعة البدناء من أشباه القردة،‏<br />

إلى أن أصبح ذلك الأمر بمنزلة مصدر سخط سيطر على مون ووتشر وزاد<br />

من جوعه الدائم املؤلم.‏ وما شاهده بعينيه لم يكن كافيًا لإحداث هذا التأثري<br />

الذي تطلب تعزيزًا سلوكيٍّا؛ فقد ظهرت فجوات في حياة مون ووتشر لن<br />

يتذكرها أبدًا،‏ وذلك عندما تغريت طبيعة ذرات مخه البسيط لتشكل أنماطًا<br />

48


الأكاديمية<br />

جديدة،‏ فإذا ظل على قيد الحياة فإن هذه الأنماط ستصبح أبدية،‏ حيث<br />

ستُنقل عن طريق جيناته الوراثية إلى الأجيال املستقبلية.‏<br />

كان أمرًا بطيئًا ومملاٍّ‏ ، لكن الصخرة البلورية كانت صبورة،‏ فلم تتوقع<br />

هذه الصخرة أو أي من مثيلاتها من الصخور املبعثرة في أرجاء نصف<br />

الكون أن تحقق نجاحًا مع هذا العدد الهائل من املجموعات التي تُجري<br />

عليها التجربة،‏ وتكرار الفشل مائة مرة أمر لا يهم،‏ ما دام نجاح واحد من<br />

شأنه أن يغري مصري العالم.‏<br />

ومع ظهور الهلال الجديد شهدت القبيلة ميلاد طفل ووفاة شخصني؛<br />

أحدهما بسبب الجوع أما الوفاة الأخرى فقد حدثت أثناء الطقوس الليلية أمام<br />

الصخرة البلورية،‏ عندما انهار شخص فجأة وهو يحاول ضرب قطعتني من<br />

الحجر ضربًا خفيفًا إحداهما بالأخرى،‏ وأظلمت البلورة في الحال،‏ وتحررت<br />

القبيلة من تأثريها،‏ لكن الشخص الذي سقط لم يتحرك،‏ وبحلول الصباح<br />

كانت الحيوانات الضارية قد التهمت جسده.‏<br />

ولم تقدم البلورة عرضً‏ ا في الليلة التالية،‏ فلا تزال تحلل خطأها.‏ ومرت<br />

القبيلة بالصخرة وقت املساء متجاهلة وجودها تجاهلاً‏ تامٍّا.‏ وفي الليلة<br />

الثالثة استعدت الصخرة لهم من جديد.‏<br />

وكان الأربعة البدناء لا يزالون هناك،‏ وأخذوا يفعلون أشياء فوق العادة،‏<br />

وبدأ مون ووتشر يرتجف بصورة لا إرادية،‏ وشعر بأن عقله سينفجر وأراد<br />

أن يصرف بصره،‏ لكن هذه السيطرة العقلية التي لا تعرف هوادة ولم<br />

تحرره من قبضتها،‏ وأُجبر على متابعة الدرس حتى نهايته،‏ مع أن جميع<br />

غرائزه كانت ترفضه.‏<br />

فهذه الغرائز كانت مفيدة جدٍّا لأسلافه،‏ أيام الأمطار الدفيئة والخصوبة<br />

والنماء،‏ عندما كان الهدف الرئيسي هو جمع الطعام من كل مكان،‏ أما الآن<br />

فقد تغريت الظروف وأصبحت الحكمة املوروثة من املاضي حماقة؛ فالبشر<br />

أشباه القردة عليهم الآن أن يتكيفوا أو يموتوا مثل الوحوش التي انقرضت<br />

ولا تزال عظامها محفوظة في التلال الجريية.‏<br />

وبدأ مون ووتشر التحديق في الصخرة البلورية دون أن تطرف عيناه،‏<br />

وعقله خاضع تمامًا لتلاعبات الصخرة الغامضة،‏ وكثريًا ما شعر بالغثيان،‏<br />

49


٢٠٠١: ملحمة الفضاء<br />

أما شعوره بالجوع فهو دائمًا؛ ومن وقت لآخر تتشابك يداه لا شعوريٍّا<br />

بأشكال سوف تحدد أسلوبه الجديد في الحياة.‏<br />

وبينما تحرك قطيع من الخنازير على طول الطريق وهي تنخر توقف<br />

مون ووتشر فجأة،‏ كانت الخنازير والبشر أشباه القردة دائمًا يتجاهل<br />

بعضهم بعضً‏ ا لأنه لم يكن هناك أي صراع مصالح بني الجانبني،‏ ومثل<br />

معظم الحيوانات التي لم تكن تتنافس على نفس الغذاء،‏ لم يعترض أي<br />

من الطرفني طريق الآخر.‏<br />

لكن مون ووتشر وقف ينظر إلى الخنازير هذه املرة مترنحًا للأمام<br />

وللخلف في حالة من التردد حيث كان يخضع لتأثري قوى لم يستطع فهمها،‏<br />

وبعدها،‏ وكما لو كان في حلم،‏ بدأ يفتش في الأرض،‏ ولم يكن باستطاعته<br />

أن يفسر علة ذلك،‏ حتى وإن ملك القدرة على الكلام،‏ وسيعرف الشيء الذي<br />

يبحث عنه عندما يراه.‏<br />

ولم يكن هذا الشيء إلا حجرًا مدببًا ثقيلاً‏ يبلغ طوله ست بوصات،‏<br />

بداية لم يناسب هذا الحجر يده تمامًا،‏ لكنه عندما وضع يده عليه وهو في<br />

حالة ذهول لزيادة وزنها فجأة انتابه شعور ممتع بالقوة والسيطرة،‏ وبدأ<br />

يتحرك نحو أقرب خنزير.‏<br />

كان هذا الخنزير صغريًا وأحمق حتى بمقاييس الذكاء العادية للخنازير،‏<br />

ومع أنه ملح مون ووتشر بطرف عينه فلم يأخذ الأمر بجدية إلا بعد فوات<br />

الأوان،‏ فما الذي يدعوه للظن أن هذه املخلوقات املساملة لديها نوايا سيئة؟<br />

واستمر في اقتلاع العشب إلى أن طمس مون ووتشر وعيه الخافت بحجره<br />

املدبب،‏ أما بقية القطيع فقد استمروا في تناول العشب دون انزعاج،‏ حيث<br />

إن عملية القتل تمت بسرعة خاطفة وفي هدوء.‏<br />

ووقف باقي أفراد القبيلة يراقبون ما يحدث،‏ واحتشدوا حول مون<br />

ووتشر وضحيته في إعجاب شديد،‏ ثم التقط أحدهم السلاح امللطخ بالدماء<br />

وبدأ يسدد ضربات إلى الخنزير امليت،‏ وانضم إليه آخرون بعصي وأحجار<br />

استطاعوا جمعها إلى أن بدأت الضحية تتفسخ بصورة مقززة.‏<br />

ثم أصابهم امللل،‏ فابتعد بعضهم ووقف البعض الآخر في حالة من<br />

التردد حول الجثة مطموسة املعالم،‏ وكان مستقبل عالم ينتظر قرارهم،‏<br />

50


الأكاديمية<br />

ومضى وقت طويل يثري الدهشة حتى بدأت إحدى الإناث في لعق الحجر<br />

امللطخ بالدماء التي كانت تحمله في يديها.‏<br />

ومضى وقت أطول بالرغم من كل ما رآه مون ووتشر حتى فهم أنه<br />

لن يجوع أبدًا بعد ذلك.‏<br />

51


الفصل الرابع<br />

النمر<br />

كانت الأدوات التي بُرْمِجوا على استخدامها بسيطة،‏ ومع ذلك فبإمكانها<br />

تغيري هذا العالم وجعل البشر أشباه القردة أسيادًا له،‏ وكان الحجر أبسط<br />

هذه الأدوات،‏ وقوته تزيد على قوة الضرب باليد عدة أضعاف،‏ ثم كان<br />

النبوت العظمي الذي مكنهم من الوصول إلى مسافة أبعد وحماهم من<br />

أنياب الحيوانات الغاضبة أو مخالبها،‏ وبهذه الأسلحة أصبح الغذاء املنتشر<br />

في أرجاء السافانا ملكًا لهم.‏<br />

لكنهم كانوا في حاجة إلى أدوات أخرى مساعدة،‏ حيث إن أسنانهم<br />

وأظافرهم لم تكن تقوى على تقطيع أي شيء أكبر حجمًا من الأرنب،‏ ولحسن<br />

الحظ فإن الطبيعة أمدتهم بأدوات مناسبة تمامًا لا تحتاج منهم سوى<br />

التفكري في التقاطها.‏<br />

فهناك سكني أو منشار بسيط وعالي الكفاءة،‏ اشتُق منه السكني الذي<br />

سيؤدي مهمته بفعالية طيلة الثلاثة ملايني عام التالية،‏ وهذا السكني هو<br />

عظم الفك السفلي للبقر الوحشي مع إبقاء الأسنان في مكانها،‏ ولم يحدث<br />

تطوير كبري لها إلى أن ظهر الصلب.‏ ثم كان هناك خنجر في صورة قرن<br />

غزال،‏ وأخريًا مكشط مصنوع من الفك الكامل لأي حيوان صغري.‏<br />

النبوت الصخري واملنشار املسنن والخنجر القرني واملكشط العظمي؛<br />

تلك كانت الاختراعات املذهلة التي احتاج إليها الإنسان القرد كي يبقى<br />

على قيد الحياة،‏ وسرعان ما سيدرك أن هذه الأدوات ترمز إلى القوة،‏ لكن<br />

الأمر يتطلب شهورًا عديدة قبل أن تكتسب أصابعه الخرقاء املهارة — أو<br />

الإرادة — لاستخدامها.‏


٢٠٠١: ملحمة الفضاء<br />

وربما بمرور الوقت يمكن أن يتوصلوا بجهودهم إلى فكرة رائعة<br />

ومبهرة وهي استخدام الأسلحة الطبيعية كأدوات صناعية،‏ لكن الاحتمالات<br />

كافة كانت ضدهم،‏ بل إنه حتى في ذلك الوقت احتمالات الفشل في العصور<br />

التي تنتظرهم لا نهاية لها.‏<br />

لقد مُنح الإنسان القرد فرصته الأولى،‏ وربما لا تكون هناك فرصة<br />

ثانية،‏ واملستقبل أصبح بني يديه.‏<br />

فالأقمار تنمو وتتلاشى،‏ والأطفال يُولدون ويعيشون أحيانًا،‏ ومن هم في سن<br />

الثلاثني يصيبهم الوهن وتسقط أسنانهم،‏ والنمر يحصل على نصيبه منهم<br />

في الليل،‏ والآخرون يهددونهم كل يوم عند النهر،‏ ومع ذلك فإن القبيلة<br />

تزدهر،‏ فخلال عام واحد حدث تغيري مذهل ملون ووتشر ورفاقه.‏<br />

لقد استوعبوا الدرس جيدا،‏ والآن أصبح بإمكانهم التعامل مع كل<br />

الأدوات التي كُشفت لهم،‏ وبدأت ذكريات الجوع تتلاشى من أذهانهم،‏ ومع<br />

أن الخنازير أصبحت أقل عددًا فهناك آلاف لا تحصى من الغزلان والظباء<br />

والحمر الوحشية على السهول،‏ كل هذه الحيوانات وغريها سقطت فريسة<br />

للصيادين املبتدئني.‏<br />

وحيث إنهم الآن تخلصوا من تأثري الجوع فقد أصبح لديهم الوقت<br />

للراحة وأساسيات التفكري،‏ وأسلوب حياتهم الجديد أصبح الآن مقبولاً‏ ،<br />

ولم يربطوا مطلقًا بينه وبني الصخرة التي لم تزل قائمة بجانب الطريق<br />

املوصل إلى النهر،‏ ولو أنهم توقفوا للتفكري في الأمر ربما شعروا بالفخر<br />

أنهم استطاعوا بجهودهم أن يحسنوا من أوضاعهم،‏ في حقيقة الأمر لقد<br />

نسوا بالفعل أي أسلوب آخر للحياة.‏<br />

لكن ليس هناك عالم مثالي،‏ وعاملهم هذا يعيبه شيئان؛ أولهما النمر<br />

املغري الذي يزداد ولعًا بالبشر أشباه القردة خاصة وبعد أن أصبحت<br />

أجسادهم أفضل حالاً‏ بفعل التغذية الجيدة،‏ أما الشيء الثاني فتلك القبيلة<br />

التي تقف على جانب من النهر،‏ فبكيفية ما استطاع الآخرون أن يبقوا أحياء<br />

وأبوا في عناد أن يموتوا جوعًا.‏<br />

54


النمر<br />

جزء من مشكلة النمر حُل عن طريق الصدفة والجزء الآخر عن طريق<br />

خطأ فادح — ومميت — من جانب مون ووتشر،‏ ومع ذلك فإن فكرته بدت<br />

رائعة لدرجة أنه رقص فرحًا،‏ وربما لم يجد لومًا على تجاهله للعواقب.‏<br />

كانت القبيلة لا تزال تواجه أيامًا سيئة من وقت لآخر،‏ بالرغم من<br />

أن هذه الأيام لم تعد تهدد بقاءها،‏ فقبيل الغروب لم تنجح القبيلة في<br />

صيد قنيصة؛ وكانت الكهوف التي يسكنونها على مرمى البصر بينما مون<br />

ووتشر يقود رفاقه املتعبني والساخطني إلى مأواهم،‏ وعلى مقربة من مداخل<br />

كهوفهم عثروا على هبة من هبات الطبيعة النادرة.‏<br />

فقد وجدوا ظبيًا كامل النمو يرقد بجانب الطريق،‏ وساقه الأمامية<br />

مكسورة،‏ لكن لا يزال يملك الرغبة في القتال،‏ وقرونه التي تشبه الخناجر<br />

مكنته من إبعاد تلك املجموعة من حيوانات ابن آوى التي أحاطت به،‏ وكان<br />

بإمكان هذه املجموعة الانتظار؛ فقد علموا أن كل ما يتعني عليهم هو إنفاق<br />

بعض الوقت.‏<br />

لكنهم نسوا املنافسة،‏ ومن ثم انسحبوا وهم يزمجرون غاضبني عندما<br />

وصلت القبيلة.‏ وأحاط أفراد القبيلة أيضا بالظبي وهم في حالة حذر،‏<br />

تاركني مسافة بينهم وبينه تكفي لتجنب قرونه الخطرية،‏ ثم تحركوا<br />

ملهاجمته بالعصي الغليظة والأحجار.‏<br />

ولم يكن الهجوم فعالاً‏ أو منظمًا بالدرجة الكافية،‏ وبحلول الوقت<br />

الذي تلقى فيه هذا الحيوان التعيس الضربة القاضية كان الضوء قد زال<br />

تقريبًا،‏ واستعادت حيوانات ابن آوى شجاعتها،‏ وببطء أدرك مون ووتشر<br />

الذي كان ممزقًا بني الخوف والجوع أن كل هذا الجهد ربما يكون قد ضاع<br />

هباء؛ فقد أصبح املوقف خطريًا لا يحتمل بقاءه أكثر من ذلك.‏<br />

ثم أثبت عبقريته ليس للمرة الأولى ولن تكون الأخرية،‏ وبإعمال خياله<br />

جيدًا تخيل الظبي امليت في أمان داخل كهفه،‏ فبدأ يجره نحو سطح املنحدر،‏<br />

وفهم الآخرون ما يريده فبدءوا يساعدونه.‏<br />

ولو علم مشقة هذه املهمة ملا أقدم عليها قط،‏ لكن بفضل قوته الهائلة<br />

وخفة الحركة التي ورثها عن أسلافه الذين كانوا يعيشون على الأشجار،‏<br />

تمكن من رفع الجثة على املنحدر الصخري.‏ كم من مرة تخلى عن هدفه<br />

55


٢٠٠١: ملحمة الفضاء<br />

مبتئسً‏ ا ومحبطًا،‏ لكن عناده الراسخ وجوعه الشديد دفعاه لأن يواصل.‏ وكان<br />

باقي أفراد القبيلة يساعدونه أحيانًا ويعوقونه كثريًا،‏ لكنه حقق الهدف في<br />

نهاية الأمر؛ فقد جر الظبي امليت نحو مدخل الكهف،‏ حني انقشعت تمامًا<br />

من السماء الآثار املتبقية من ضوء الشمس وبدأ وقت العِ‏ شاء.‏<br />

وبعد ساعات استيقظ مون ووتشر وهو متخم من الشبع،‏ ولم يعرف<br />

سببًا لاستيقاظه وقعد وسط الظلام بني أجسام رفاقه املمددة واملتخمة مثله،‏<br />

وأخذ يجهد أذنيه علها تلتقط شيئًا في الليل.‏<br />

ولم يسمع شيئًا سوى صوت الأنفاس الثقيلة لرفاقه من حوله؛ يبدو<br />

أن العالم بأكمله نائم،‏ وكانت الصخور املوجودة وراء مدخل الكهف شاحبة<br />

مثل العظم،‏ في ضوء القمر املشرق الذي ارتفع في السماء،‏ وأي خطر مستبعد<br />

تمامًا من تفكريه.‏<br />

ومن بعيد أتاه صوت صخرة تسقط،‏ وشعر مون ووتشر بالخوف<br />

وبالفضول أيضً‏ ا،‏ زحف خارج الكهف وأخذ يتأمل سطح املنحدر الصخري.‏<br />

ما رآه أصابه بالشلل التام من الرعب لدرجة أنه لم يستطع حراكًا<br />

لثوان طويلة؛ فعلى بعد عشرين قدمًا أسفل منه عينان تبرقان وتحدقان<br />

فيه تحديقًا مباشرًا،‏ امتلأ مون ووتشر خوفًا لدرجة جعلته لا يدرك الجسد<br />

املخطط الرشيق الذي يحمل هاتني العينني ويتحرك بسلاسة وفي صمت من<br />

صخرة لأخرى.‏ لم يحدث من قبل أن صعد النمر لهذا الارتفاع؛ فقد تجاهل<br />

الكهوف السفلية بالرغم من أنه يعرف جيدًا قاطنيها،‏ الآن هو يتعقب طريدة<br />

أخرى،‏ حيث يتتبع آثار الدماء على سطح املنحدر الذي أضاءه نور القمر.‏<br />

وما هي إلا ثوان حتى سيطر الرعب على تلك الليلة بسبب صرخات<br />

الإنذار ممن يقطنون الكهف العلوي،‏ وأطلق النمر صيحة غاضبة حينما<br />

أدرك أنه فقد عنصر املفاجأة.‏<br />

ووصل إلى سطح كهف مون ووتشر،‏ وتوقف برهة عند الفتحة الضيقة،‏<br />

كانت رائحة الدم منتشرة في كل مكان،‏ مما زاد رغبته اشتعالاً‏ ، وبدون تردد<br />

تقدم في صمت داخل الكهف.‏<br />

وهنا ارتكب خطأه الأول،‏ لقد انتقل من ضوء القمر إلى ظلام الكهف<br />

فأصبحت عيناه للحظة في وضع غري مؤات،‏ بالرغم من أنهما اعتادتا على<br />

56


النمر<br />

الظلام،‏ واستطاع أفراد القبيلة رؤيته — وشيء من ظله منعكس عند فتحة<br />

الكهف — بوضوح أكثر من رؤيته لهم،‏ وملأهم الخوف،‏ لكنهم الآن أصبحوا<br />

غري عاجزين.‏<br />

وأخذ النمر يزمجر ويهز ذيله في ثقة وتعجرف،‏ وتقدم باحثًا عن<br />

غذائه الذي يشتهيه.‏ لو أنه قابل فريسته خارج الكهف ملا كانت هناك أي<br />

مشكلة،‏ لكن أفراد القبيلة محتجزون الآن،‏ واليأس منحهم الشجاعة في أن<br />

يجربوا املستحيل،‏ ولأول مرة لديهم الوسيلة التي يحققونه بها.‏<br />

وعلم النمر أن هناك شيئًا ما غري طبيعي عندما أحس بضربة شديدة<br />

على رأسه،‏ وسدد ضربة بكفه الأمامي وسمع صرخة ألم حينما شقت مخالبه<br />

لحمًا طريٍّا،‏ ثم شعر بألم شديد حينما غُرست أداة حادة في خاصرته مرة<br />

ومرتني وثلاث مرات،‏ وأخذ يندفع فجأة ليضرب الظلال التي تصرخ وترقص<br />

حوله من جميع الجوانب.‏<br />

ثم تلقى ضربة أخرى عنيفة على منخره،‏ وأطبق فكيه فجأة على شيء<br />

أبيض ومتحرك وغري واضح املعالم؛ فقط ليكتشف أنه عظم ميت،‏ ثم وفي<br />

إهانة أخرية ومذهلة جُر َّ بعنف من ذيله بواسطة الجذور.‏<br />

واندفع في جنون يصب جم غضبه على جدار الكهف،‏ لكن بالرغم<br />

من كل ما فعله لم يستطع الهروب من وابل الضربات التي انهالت عليه<br />

بواسطة الأسلحة البسيطة التي تستخدمها أيادٍ‏ قوية وإن كان ينقصها<br />

البراعة،‏ وتحولت زمجرته من الألم إلى الانزعاج ثم إلى الرعب التام،‏ وأصبح<br />

القناص العنيد هو الضحية الآن،‏ فحاول في يأس الانسحاب.‏<br />

ثم ارتكب خطأه الثاني،‏ حيث نسي املكان الذي يوجد فيه،‏ في خضم<br />

ذهوله وخوفه،‏ أو ربما أصيب بالدوار أو العمى نتيجة لوابل الضربات التي<br />

انهالت على رأسه،‏ وأيا كان السبب فقد اندفع فجأة من الكهف،‏ وأطلق<br />

صيحة ذعر حينما هوى في الفراغ.‏ وبعد وقت طويل سُ‏ مع صوت مكتوم<br />

عندما اصطدم ببروز في منتصف رحلة السقوط إلى أسفل املنحدر،‏ وبعدها<br />

لم يُسمع سوى صوت انزلاق الأحجار السائبة،‏ وسرعان ما اختفى هذا<br />

الصوت في سكون الليل.‏<br />

ووقف مون ووتشر يرقص لوقت طويل من نشوة الانتصار ويثرثر<br />

بكلام غري مفهوم عند مدخل الكهف،‏ لقد شعر شعورًا حقيقيٍّا بأن العالم<br />

57


٢٠٠١: ملحمة الفضاء<br />

بأكمله قد تغري وأنه لم يصبح الآن ضحية عاجزة تخضع للقوى التي تحيط<br />

به.‏<br />

ثم عاد إلى الكهف وللمرة الأولى في حياته نام نومًا عميقًا في ليله.‏<br />

وفي الصباح وجدوا جثة النمر ملقاة عند سفح املنحدر،‏ وحتى بعد موته لم<br />

يجرؤ أحد على الاقتراب من الوحش املقهور إلا بمرور بعض الوقت،‏ وبعده<br />

أحاطوا به حاملني سكاكينهم ومناشريهم العظمية.‏<br />

لقد كان عملاً‏ شاقٍّا للغاية،‏ ولم يصطادوا هذا اليوم.‏<br />

58

Hooray! Your file is uploaded and ready to be published.

Saved successfully!

Ooh no, something went wrong!