69153707
69153707
69153707
Create successful ePaper yourself
Turn your PDF publications into a flip-book with our unique Google optimized e-Paper software.
٢٠٠١: ملحمة الفضاء
٢٠٠١: ملحمة الفضاء<br />
مستقاة من سيناريو كتبه<br />
آرثر سي كلارك<br />
وستانلى كوبريك<br />
تأليف<br />
آرثر سي كلارك<br />
ترجمة<br />
هانى سليمان
:٢٠٠١ ملحمة الفضاء 2001: A Space Odyssey<br />
Arthur C. Clarke<br />
آرثر سي كلارك<br />
الطبعة الأولى ١٤٣٢ھ-٢٠١١م<br />
رقم إيداع ٢٠١٠/١٩٠٢٦<br />
جميع الحقوق محفوظة للناشر كلمات عربية للترجمة والنشر<br />
(شركة ذات مسئولية محدودة)<br />
كلمات عربية للترجمة والنشر<br />
إن كلمات عربية للترجمة والنشر غري مسئولة عن آراء املؤلف وأفكاره<br />
وإنما يعبرّ الكتاب عن آراء مؤلفه<br />
مكتب رقم ٤، عقار رقم ٢١٩٠، زهراء مدينة نصر، القاهرة<br />
جمهورية مصر العربية<br />
تليفون: +٢٠٢ ٢٢٧٢٧٤٣١ فاكس: +٢٠٢ ٢٢٧٠٦٣٥١<br />
البريد الإليكتروني: kalimatarabia@kalimatarabia.com<br />
املوقع الإليكتروني: http://www.kalimatarabia.com<br />
٨٢٣<br />
كلارك، آرثر<br />
٢٠٠١: ملحمة الفضاء / آرثر كلارك . - القاهرة : كلمات عربية للترجمة والنشر، ٢٠١١.<br />
٢٨٦ص، ٢١,٠×١٤,٥سم<br />
تدمك: ٩٧٨ ٩٧٧ ٦٢٦٣ ٦٩ ٧<br />
١- القصص الإنجليزية<br />
أ- العنوان<br />
يمنع نسخ أو استعمال أي جزء من هذا الكتاب بأية وسيلة تصويرية أو إليكترونية أو ميكانيكية،<br />
ويشمل ذلك التصوير الفوتوغرافي والتسجيل على أشرطة أو أقراص مضغوطة أو استخدام أية وسيلة<br />
نشر أخرى، بما في ذلك حفظ املعلومات واسترجاعها، دون إذن خطي من الناشر.<br />
Arabic Language Translation Copyright © 2011 Kalimat Arabia<br />
2001: A Space Odyssey<br />
Copyright © 1968 by Arthur C. Clarke<br />
All Rights Reserved.
المحتويات<br />
9<br />
مقدمة 19<br />
إلى ستانلي 21<br />
مقدمة للطبعة الخاصة 31<br />
تمهيد 33<br />
الجزء الأول: ليلة بدائية 35<br />
١- الطريق إلى الانقراض 41<br />
٢- الصخرة الجديدة 47<br />
-٣ الأكاديمية 53<br />
-٤ النمر 59<br />
٥- مناوشة عند الفجر 61<br />
٦- ارتقاء الإنسان 65<br />
الجزء الثاني: صخرة تايكو 67<br />
٧- رحلة خاصة 77<br />
٨- موعد مداري 81<br />
٩- مكوك القمر 91<br />
١٠- قاعدة كلافيوس 99<br />
١١- شذوذ املجال املغناطيسي 103<br />
١٢- رحلة في ضوء الأرض
٢٠٠١: ملحمة الفضاء<br />
111<br />
١٣- الفجر املتمهل 115<br />
-١٤ السامعون 119<br />
الجزء الثالث: بني الكواكب 121<br />
-١٥ ديسكفري 127<br />
-١٦ هال 131<br />
١٧- وضع التجول 139<br />
١٨- عبر الكويكبات 143<br />
١٩- عبور املشتري 151<br />
٢٠- عالم الآلهة 155<br />
الجزء الرابع: الهاوية 157<br />
٢١- حفل عيد ميلاد 163<br />
٢٢- رحلة قصرية 171<br />
-٢٣ التشخيص 175<br />
٢٤- دائرة مقطوعة 181<br />
٢٥- أول إنسان على ظهر زحل 185<br />
٢٦- حوار مع هال 191<br />
٢٧- الحاجة إلى املعرفة 193<br />
٢٨- في الفراغ 201<br />
-٢٩ وحيدًا 205<br />
-٣٠ السر 209<br />
الجزء الخامس: أقمار زحل 211<br />
-٣١ النجاة 217<br />
٣٢- الكائنات الفضائية 223<br />
-٣٣ السفري 227<br />
٣٤- الثلج الدوار 233<br />
٣٥- عني جابيتوس 6
املحتويات<br />
237<br />
٣٦- الأخ الأكبر 239<br />
-٣٧ تجربة 243<br />
-٣٨ الحارس 245<br />
٣٩- داخل العني 249<br />
-٤٠ الخروج 251<br />
الجزء السادس: عبر البوابة النجمية 253<br />
٤١- «جراند سنترال» 259<br />
٤٢- السماء الغريبة 265<br />
-٤٣ الجحيم 269<br />
-٤٤ الاستقبال 277<br />
٤٥- استعادة الذكريات 281<br />
-٤٦ التحول 285<br />
٤٧- الطفل النجمي 7
مقدمة<br />
ستيفن باكستر<br />
إن رواية آرثر كلارك «٢٠٠١: ملحمة الفضاء» (وبالطبع فيلم ستانلي<br />
كوبريك الذي ظهر معها) شهدت خلال العقود الثلاثة التي أعقبت نشرها<br />
مزيدًا من املكانة والتأثري، واليوم لا تتفوق هذه الرواية بجدارة على بقية<br />
أعمال كلارك فحسب، بل تسمو أيضً ا فوق أعمال الخيال العلمي الأخرى.<br />
تحكي هذه الرواية — التي ربما تعد أكثر قصص الخيال العلمي شهرة<br />
وشعبية على مدار القرن — عن حارس قمري منعزل هو الصخرة البلورية<br />
السوداء الشهرية، وعندما تُكتشف الصخرة تُرسِ ل إشارة لشقيقتها الأقوى<br />
منها بكثري في مدارها حول زحل (املشتري في الفيلم)، وهذه الإشارة تحذير<br />
ملن تركوا الصخور البلورية من أن البشر أصبحوا قادرين على الوصول<br />
إلى خارج حدود عاملهم. رائدا الفضاء ديف بومان وفرانك بول والحاسب<br />
الآلي «هال» صعب املراس سافروا جميعًا إلى زحل لدراسة وجود مخلوقات<br />
فضائية. يتخلى هال عن بول، ولكن بومان ينجو حتى يصل إلى صخرة<br />
زحل؛ الذي يثبت أنه بوابة للنجوم، والارتقاء أيضً ا.<br />
وحينها فقط ندرك أن عنوان مقدمة الفيلم — «فجر الإنسان» — لا<br />
ينطبق فحسب على أسلافنا الهمجيني، بل علينا نحن أيضً ا.
٢٠٠١: ملحمة الفضاء<br />
وربما — على خلاف العادة لم يكن — فيلم كوبريك مقتبسً ا من الرواية،<br />
ولا يعد الكتاب صياغة لقصة الفيلم في قالب روائي، فكوبريك وكلارك طورا<br />
معًا كلا العملني في صورتيهما النهائية على مدار عدة سنوات. وبالفعل<br />
يختلف العملان اختلافًا واضحًا في عدة جوانب، خاصة في نهايتيهما، إذ<br />
نجد أن خاتمة كلارك عُبر عنها بطريقة جميلة تقودنا إلى النهاية بأسلوب<br />
منطقي لتحل محل — أو ربما لتشرح — رؤى كوبريك السريالية.<br />
في البداية كان العنوان املؤقت للقصة عاديٍّا: «كيف تَحَق َّق الفوز بالنظام<br />
الشمسي؟» وكما يوحي الاسم فإن خلفيته يمكن أن تكون وصفًا لاستعمار<br />
البشر للمجموعة الشمسية في املستقبل القريب. وهناك نقطة بداية أخرى<br />
هي رواية كلارك الأولى واملتميزة عن الارتقاء «نهاية الطفولة» (١٩٥٣)<br />
(في الواقع، كثريًا ما تُقدم هذه الرواية على رواية ٢٠٠١ نفسها عند تقييم<br />
أعمال كلارك). ويعكس املشروع النهائي هذه البدايات، وكذلك املخاوف<br />
التي ميزت كثريًا من كتابات كلارك خلال مسريته.<br />
ويبدو أن كلارك نفسه تصور — على الأقل في البداية — أن الفيلم<br />
سيصبح في الأساس تجسيدًا دراميٍّا للانتصار التكنولوجي الذي تحققه<br />
الإنسانية في املستقبل القريب، مثلما كان فيلم «رحلة إلى القمر» (١٩٥٠)<br />
املستوحى من هاينلني.<br />
كلارك من كتاب جيل زمن الحرب الذين حاولوا رسم معالم مستقبلنا<br />
بنبرة متفائلة وحماس للتكنولوجيا، ونرى ملامح هذا الاتجاه لدى كلارك<br />
ليس فقط في أعماله الواقعية بل أيضً ا في أعماله الخيالية، بداية من روايته<br />
عن رحلة القمر «مدخل إلى الفضاء» (١٩٥١)، ومرورًا برؤاه الكلاسيكية كما<br />
في «رمال املريخ» (١٩٥١)، وانتهاء برواية «سقوط غبار القمر» (١٩٦١).<br />
بصرية كلارك الفنية قادته لأن يكون بالغ التأثري على العالم الواقعي،<br />
وينظر العلماء واملهندسون إلى كلارك بجدية، فشهرة كلارك كواضع لفكرة<br />
أقمار الاتصالات الصناعية ذات املدارات الثابتة معروفة جيدًا (نقلاً عن<br />
بحث نُشر في أكتوبر/تشرين الأول ١٩٤٥ في جريدة «عالم اللاسلكي»)،<br />
وقد أورد في أولى رواياته «مدخل إلى الفضاء» (١٩٥١) أفكارًا من بحث<br />
كلاسيكي عن الصواريخ الذرية نشرته جمعية ما بني الكواكب البريطانية<br />
عامي ١٩٤٨-١٩٤٩، وطُو ِّرت هذه الأفكار في املشروعني الأمريكيني روفر<br />
10
مقدمة<br />
ونريفا في الستينيات. ويبدو أن كلارك هو أول من نشر فكرة الإطلاق<br />
الكهرومغناطيسي — التي يمكن الاستفادة منها في نقل املوارد من سطح<br />
القمر إلى الأرض، أو تفادي الكويكبات على سبيل املثال — وذلك في عدد<br />
جريدة جمعية ما بني الكواكب البريطانية الصادر عام ١٩٥٠.<br />
فيما بعد اشتهر كلارك بتبسيطه للعلوم، واستمر في التنبؤ بالتطورات<br />
املتتالية بدقة مذهلة، فمثلاً في كتابه الشهري «استكشاف الفضاء» (١٩٥١)<br />
أعطى وصفًا ملسابري غري مزودة ببشر أُرسلت إلى املريخ تكاد تفاصيلها<br />
تطابق تفاصيل مسابري مارينر الحقيقية التي ظهرت بعد ذلك بثلاثة عشر<br />
عامًا، وفي «موعد مع راما» (١٩٧٣) رسم كلارك املعالم الرئيسية لعملية<br />
«حراسة فضائية» لرصد الكويكبات التي تقترب من الأرض؛ تلك الفكرة<br />
التي تابعها العالم على أرض الواقع بعد ذلك بعقدين من الزمان.<br />
ولكن هذه الأنشطة الواقعية إضافة إلى ثبوت صحة نبوءات خياله<br />
العلمي من آن لآخر، أسهمت فقط في تعزيز التأثري العاطفي لعمله، هذا<br />
العمل الذي يصور مستقبلاً جميلاً — ربما يكون من املمكن الوصول<br />
إليه — لا بد أنه قد أسهم كثريًا في تحفيز جيل ما بعد الحرب الذي شب<br />
ليصبح من بينه مهندسون يصممون سفن فضاء حقيقية إلى القمر. وليس<br />
من املستغرب أن رواد فضاء أبوللو أطلقوا على كبسولاتهم الفضائية أسماء<br />
مثل أوديسا، أو أنهم فكروا في حيل للعثور على صخور عملاقة في الجانب<br />
البعيد املظلم من القمر.<br />
ولكن ثبوت صحة تكهنات كلارك في املستقبل القريب لم يكن هو<br />
الشيء الذي أثار فضول كوبريك، إن ما أثاره بالفعل جانب أكبر تعقيدًا<br />
بكثري في عمل كلارك وشخصيته.<br />
لقد اتضح أن نقطة البداية للمشروع الذي تحول إلى رواية «٢٠٠١: ملحمة<br />
الفضاء» كانت قصة قصرية لكلارك مكونة من إحدى عشرة صفحة، نُشرت<br />
لأول مرة عام ١٩٥١ في الصفحات الداخلية من مجلة «١٠ قصص خيالية».<br />
وتمتلك قصة «الحارس» جميع املقومات الأساسية التي تجعلها ملحمة؛<br />
إنها أسطورة تروي قصة مجموعة من مستكشفي القمر في املستقبل القريب<br />
11
٢٠٠١: ملحمة الفضاء<br />
الذين يعثرون مصادفة على أثر من صنع الإنسان في صورة هرم، ويطلق<br />
هذا الأثر إشارة لصانعيه الذين ينتظرون وصولنا ملرحلة النضج واللحاق<br />
بهم. هذه الأسطورة البسيطة واملحبوكة فنيٍّا كانت البذرة التي نبع منها<br />
فيلم ورواية وجزء ثانٍ للفيلم وثلاثة أجزاء أخرى للرواية إضافة إلى تحليلات<br />
أدبية وتكهنات علمية، وكما قال كلارك (في عوالم ٢٠٠١) (١٩٧٢)، فإن<br />
قصة تحول هذا الهرم املنعزل إلى صخرة ضخمة مليئة بالتعقيد والإثارة.<br />
ولكن من الجدير بامللاحظة عند تأمل املاضي أن «الحارس» نفسه كان<br />
إشارة إلى توجه جديد ومختلف في حياة كلارك املهنية، فمع هذه القصة<br />
بدأ كلارك في إظهار انجذابه للتكهنات التي تتعلق بما وراء الطبيعة بل<br />
التصوف أيضً ا.<br />
ولم ينكر كلارك نفسه هذا الجانب في عمله (مع رفضه للخرافات<br />
والعلوم الزائفة)، فهو يقول إن العالم مليء بالعجائب، ولا يمكن لأي إنسان<br />
مهما كان عقلانيٍّا ألا يدرك هذه الحقيقة، ومن ثم فإننا نلمس السمو البشري<br />
املذهل في أعمال مثل «نهاية الطفولة»، هذا السمو الذي وجد صداه في ارتقاء<br />
رائد الفضاء ديف بومان في رواية «٢٠٠١» ليصبح «الطفل النجم».<br />
وتتسم رؤية كلارك بالوضوح وسلاسة الأسلوب وجماله، ومن ثم فإنه<br />
يعد أفضل من عبر عن الرؤى السامية التي هي جوهر الطريقة البريطانية<br />
املميزة في الخيال العلمي بدءًا من إتش جي ويلز ومرورًا بأولاف ستابلدون<br />
صاحب التأثري الكبري على كلارك بشهادة كلارك نفسه، ولكن رؤى ستابلدون<br />
املذهلة مخيفة وتفتقر إلى التشويق، أما كلارك فلديه القدرة على أن يجعلنا<br />
نبكي كأيتام يبكون آباءهم.<br />
ويمكن للمرء أن يلاحظ إعجاب كوبريك بشخصية الحارس في رواية كلارك،<br />
والأثر الذي عُثر عليه على سطح القمر بمنزلة رمز بسيط ومثري، ووجوده<br />
الصامت تمامًا ينقل معناه وهدفه.<br />
وصانعو الأفلام الكبار مثل كوبريك يجب أن تتجاوز الصورة في تأثريها<br />
عندهم تأثري الألف كلمة، وربما يمكن للمرء أن يختصر فيلم «٢٠٠١» في<br />
عدد من الرموز الرئيسية وقصة تُحكى في صمت وصور وثنائيات من<br />
12
مقدمة<br />
الرموز املتناقضة التي يكمل كل منها الآخر كما في املشهد الذي يمد فيه<br />
الإنسان القرد يده — التي لم تصل بعد ملرحلة التطور — ليلمس الصخرة<br />
البلورية امللساء، ومشهد رائد الفضاء الذي اكتمل تطوره وهو يمد يده<br />
ليلمس سطح القمر، كما يمكننا أن نجد هذه الرموز املتناقضة في مشهد<br />
العظمة املقذوفة وسفينة الفضاء، وبدء تنامي الإدراك لدى املخلوق الذي<br />
أطلق عليه كلارك في الرواية «مون ووتشر»، وتطور بومان ليصبح «الطفل<br />
النجم». وفي الحقيقة كثري مما تبقى من حوار في الفيلم ثرثرة تنقل القليل<br />
جدٍّا من املعلومات الأساسية التي يحتاجها الجمهور، فهذا الحوار هو نوع<br />
من املؤثرات الصوتية في الخلفية؛ فالقصة تُروى لنا من خلال الرموز. ويُعد<br />
نجاح الفيلم — على الأقل حتى الجزء الأخري منه — في تعريفنا باملعنى<br />
الأساسي للمشروع من خلال هذه الرموز املجردة معيارًا ملا حققه هذان<br />
املبدعان.<br />
لكن من الواضح أن هناك تعارضً ا كبريًا بني كلارك وكوبريك بخصوص<br />
هذا الجانب من مشروعهما، وبخصوص جوانب أخرى كثرية.<br />
فكلارك، الذي شرع في وضع تصور ملعالم املستقبل التكنولوجي، كان<br />
يرغب على ما يبدو في تضمني روايته مشاهد لعلماء (ربما من العالم<br />
الحقيقي) يتكهنون بشأن السفر عبر الفضاء والحياة في عوالم أخرى وما<br />
إلى ذلك، ولكن كوبريك كان يقوض هذا املشروع دائمًا.<br />
ولنتأمل تتابع الأحداث في الجزء الرئيسي من الفيلم واملتعلق باكتشاف<br />
الصخرة السوداء على سطح القمر، هنا نجد أسلوب كلارك أقرب ما يكون<br />
إلى أسلوبه في روايته «سقوط غبار القمر»، حيث نرى الأشياء املرتبطة<br />
باملستقبل تُستخدم بطريقة تنقصها البراعة إلى حد ما: الهواتف املزودة<br />
بكامريات فيديو وسفن الفضاء وما شابه. ولكن حتى في أكثر املشاهد<br />
واقعية حاول كوبريك جاهدًا إبراز تفاهة نفوسنا في املستقبل. ومن خلال<br />
الحوار الأجوف والطعام أحادي اللون والإضاءة الخافتة، أشار كوبريك إلى<br />
عجز البشرية في القرن الحادي والعشرين وليس انتصارها؛ إنهم في انتظار<br />
من يرتقي بهم تمامًا مثل أسلافهم أشباه القردة.<br />
وقد فُض هذا التعارض الخلاق بدرجة ما مع نشر الرواية التي تتناقض<br />
فيها العقلانية الواضحة لكلارك تناقضً ا قويٍّا مع غموض فيلم كوبريك، لكن<br />
13
٢٠٠١: ملحمة الفضاء<br />
كوبريك استطاع أن يرى ما لم يره كلارك، وهو أن الحقيقة الجوهرية في<br />
رواية «٢٠٠١: ملحمة الفضاء» مثل جوانب أخرى كثرية من عمل كلارك،<br />
لا تكمن في انتصار التكنولوجيا بل في لغز الوجود، والتعارض بني مبدعَيْ<br />
«٢٠٠١» مثل الاختلافات بني الرواية والفيلم يكشف هذا التناقض املحوري<br />
في موهبة كلارك الذاتية.<br />
بيد أن كلارك نفسه يكون في أفضل حالاته من حيث الفعالية عندما<br />
يهيمن التناقض على عقله، فبحرفية استطاع كلارك أن يؤثر فينا تأثريًا<br />
شديدًا عندما جعلنا نشاهد بفخر أكبر تطلعات البشرية — الذي يرتبط<br />
معه غالبًا بالسفر عبر الفضاء — في مقابل الروعة الكامنة إلى الأبد فيما<br />
وراء عاملنا التي لا يمكن وصفها.<br />
ومن ثم فإننا في رواية «موعد مع راما» (١٩٧٣) نتعلم طرد الكويكبات،<br />
تمامًا مثلما تدخل سفينة فضاء عجيبة النظام الشمسي؛ تُستهل رواية «نهاية<br />
الطفولة» باستعداد رحلات فضائية للانطلاق نحو القمر، لكن املشروع يُترك<br />
فجأة وللأبد بينما تظهر سفن أوفرلوردز الكبرية في سماوات الأرض، وبالطبع<br />
يصبح إنجازنا الهائل في الوصول إلى الكواكب الخارجية أمرًا تافهًا نتيجة<br />
لاكتشافنا بوابة النجوم وما وراءها من مجرات، وهذا يعد تلاعبًا بأعمق<br />
مشاعرنا وأعقدها.<br />
لكن أيهما أفضل: الفيلم أم الرواية؟ بالتأكيد هذا سؤال ليس له معنى،<br />
فالفيلم والرواية كلاهما ينبعان من نفس املصدر، ولم يكن أحدهما ليكون<br />
بدون الآخر.<br />
وبالتأكيد فإن الفيلم يعد من الروائع، وعلى العكس من معظم أفلام<br />
هوليود الخاصة بالخيال العلمي، ليس هناك موضوع بشري سهل أو حبكة<br />
روائية بسيطة تحركها شخصيات نتتبع خيوطها دون أن نبذل جهدًا؛ فمن<br />
ناحية هذه الرواية ليست قصة بشرية على الإطلاق، فأبرز شخصية فيها آلة<br />
تدعى «هال» أما الشخصيات الأخرى البشرية فهي ثانوية، وينجح كوبريك<br />
نجاحًا مذهلاً برؤيته الغامضة واملحرية في رواية القصة لنا بأسلوب يعتمد<br />
على املؤثرات البصرية ولا يكون لها معنى إلا في عالم البشر الخارقني.<br />
14
مقدمة<br />
لكن جانبًا كبريًا من فهمنا للفيلم بما في ذلك نهايته الرائعة يتعمق من<br />
خلال قراءتنا للرواية، فمن خلال تكرار قراءتنا للرواية ومشاهدتنا للفيلم<br />
سنكتشف أن كلاٍّ منهما يكمل الآخر بصورة رائعة.<br />
ويرجع ذلك إلى أن هذا الفهم املتعمق يتعلق بطبيعة الجنس البشري<br />
ومكاننا في هذا الكون.<br />
ومن الواضح أنه يصعب اليوم فصل تأثري الرواية عن تأثري الفيلم، وقد<br />
حفر كل من العملني املبدعني أسهمهما في تاريخ الأدب والفن، وحقيقة أنهما<br />
لا يزالان يتمتعان بحيوية الخيال أمر واضح، ومن وجهة نظري لم يقترب<br />
أي فيلم آخر من أفلام الخيال العلمي من فيلم «٢٠٠١: ملحمة الفضاء»<br />
في تعبريه الذكي عن أعظم موضوعات املجال.<br />
أما الرؤية املستقبلية للرواية — الآن ونحن نعيش التسلسل الزمني<br />
لأحداث القصة — فكثريًا ما تُستخدم عناصرها كنقطة مرجعية مفهومة<br />
على نطاق عاملي لقياس مدى تقدم العالم الواقعي.<br />
فالكمبيوتر الشرير «هال» الذي هو أساس الحبكة الروائية الفرعية<br />
املليئة بامليلودراما أصبح بطلاً لدراسات أكاديمية جادة حول مدى قربنا<br />
من الوصول إلى هذا املخلوق أو بعدنا عنه، وسواء أكانت العواقب حميدة<br />
أم سيئة، لم يتوافق التقدم الذي تحقق في الذكاء الاصطناعي مع رؤية<br />
الخيال العلمي، ومن ثم فإننا استطعنا بناء كمبيوتر من نوعية «هال»<br />
ليهزم (معظمنا) في الشطرنج، لكنه لم يستطع بعد استكشاف مشاعرنا<br />
عند هزيمتنا، وهو يستطيع أن يتحدث إلينا، لكنه لا يزال يجد صعوبة في<br />
فهم كلامنا، وأنظمة الإدراك البصري سيئة جدٍّا وهي أكثر ضعفًا في فهم<br />
ما ننطق به، لكن الشيء الذي يمكن أن يجعلنا نشعر بارتياح هو أننا<br />
اكتشفنا أن مستقبلنا يضم شبكات ملايني الكمبيوترات الصغرية املتعاونة<br />
وليس عملاقني عصابيني مثل هال وتوأمه سال ٩٠٠٠.<br />
ورواية «٢٠٠١: ملحمة الفضاء» لها رؤية خاصة ملستقبلنا في الفضاء<br />
وتبدو هذه الرؤية أكثر بعدًا؛ فمع أن كوبريك أضاع في فيلمه التصور<br />
التكنولوجي لكلارك فلا يزال الكثريون منا يأسون على أننا لا نعيش في عالم<br />
15
٢٠٠١: ملحمة الفضاء<br />
من قواعد القمر وسفن الفضاء النووية املسافرة إلى املشتري، ولا يزال أمامنا<br />
كم هائل من الاكتشافات: فالإنسان الآلي يقودنا إلى عوالم لم نصل إليها<br />
بعد تمامًا مثل مسبار جاليليو الذي أوصلنا إلى املشتري ومسبار كوسيني<br />
الذي أوصلنا إلى زحل، أما ما يمكن أن نكتشفه هناك فإن الرؤية القمرية<br />
في رواية «٢٠٠١: ملحمة الفضاء» بظلالها املجردة وجبالها الوعرة تركت<br />
على الأقل واحدًا من رواد فضاء أبوللو (بيل آندرز) في حالة إحباط ملا رآه<br />
من القمر الحقيقي.<br />
لكن مع أن توقعاتنا املستقاة من فترة الستينيات وما قبلها ألغاها في<br />
كثري من الأحيان ما علمناه من استكشافات أبوللو ومسابري الفضاء، فقد<br />
أصبحنا نتعلم شيئًا فشيئًا أن نحب ما يخفى علينا من عوالم. بل إن الرؤى<br />
الروبوتية لقمر املشتري الذي أطلق عليه «يوروبا» حفزت آرثر كلارك نفسه<br />
على البدء في العمل في أحد الأجزاء املكملة لروايته «٢٠٠١: ملحمة الفضاء».<br />
أما عن الحياة على كواكب أخرى بخلاف الأرض، فمن املؤكد أننا لم<br />
نعثر بعد على الصخرة السوداء على سطح القمر أو أي أدلة أخرى مقنعة<br />
تشري إلى وجود كائنات فضائية سواء في الحاضر أو املاضي، لكن تحليلنا<br />
الفلسفي لاحتمالات وجود حياة خارج كوكب الأرض حقق تقدمًا هائلاً منذ<br />
نشر رواية «٢٠٠١: ملحمة الفضاء».<br />
ويتصور كلارك أن هناك مخلوقات غريبة تزور عوالم مثل عاملنا<br />
وترتقي بسكانها تاركة علامات يمكن أن تقيس على أساسها وجودنا، وهذه<br />
الرؤية أصبحت في الحقيقة موضوع دراسات أكاديمية جادة، فمثلاً الرؤية<br />
الخاصة بالرعاة الخريين طرحها ديفيد برين في سلسلته عن «الارتقاء»؛<br />
فقد وسع من نطاق الفكرة وصولاً إلى نتيجتها املنطقية وهي: من الذي<br />
ارتقي بمن يساعدون غريهم في الارتقاء؟ يتخيل برين سلاسل من الأجناس<br />
يُساعِ دهم على الارتقاء الأرفع مقامًا منهم وصولاً إلى أسلاف شبه أسطوريني،<br />
لكن رؤية برين تشري إلى جانب مظلم لم يكتشف في رواية «٢٠٠١: ملحمة<br />
الفضاء»، التي تُفترض فيها الخريية كثريًا.<br />
فيما بعد عبر كلارك بوضوح في إحدى روايات السلسلة عن أن الصخور<br />
السوداء آلات يُرسلها صانعوها الذين يقفون وراء الكواليس، فمن الصعوبة<br />
16
مقدمة<br />
بمكان أن ننسب الخريية للآلات (راجع مثلاً ، مجموعة «البرسوركر» لفريد<br />
سيبرهيجن وحياة الآلة في مجموعة «مركز املجرات» لجريجوري بنفورد)،<br />
وبالفعل فإن مستقبل كلارك يصل إلى ذروته النهائية عندما تدخل البشرية<br />
في صراع مع الصخور السوداء (في ٣٠٠١: امللحمة الأخرية).<br />
ويفترض كلارك ضمنيٍّا أننا في نوع من الحَجْر حيث تتركنا مخلوقات<br />
غريبة أكثر حكمة منا لنصل إلى مرحلة النضج، وفي الحقيقة هذا الافتراض<br />
يمثل أحد التفسريات العديدة التي اقترُ حت ملا أصبح يُعرف ب«مفارقة<br />
فريمي»، بعد أن طرح الفيزيائي فريمي لأول مرة سؤالاً محوريٍّا منذ عدة<br />
عقود وهو: «أين ذهب الجميع؟» فإذا كانت املخلوقات الغريبة موجودة<br />
بالفعل فينبغي أن تكون موجودة هنا الآن ولا بد أن نراها من حولنا.<br />
والصعوبة في افتراضات الحَجْر مثل افتراض كلارك تكمن في أنها تتطلب<br />
تماثلاً في الدافع بني أجناس املجرة التي من املفترض تنوعها، فالأمر حينئذ<br />
لن يحتاج إلا أن يظهر لص واحد على درجة منخفضة من التكنولوجيا في<br />
مكان معني ليملأ املجرة بقراصنة فضائيني مرئيني، خلال بضعة ملايني<br />
عام، ويقوض إلى الأبد التصميم الفخم ملصممي الصخرة البلورية.<br />
بيد أنه مهما كانت جوانب القصور املنطقية بها، فلا يمكننا أن ننكر التأثري<br />
العاطفي لفرضية كلارك، فعلى أي حال نحن في الغرب لم يمض علينا وقت<br />
طويل منذ أن قوض كوبرنيكس وداروين وعلماء الجيولوجيا أي يقني كان<br />
لدينا عن مكاننا في الكون، ونحن لم نعد نؤمن بوجود الإله وما زلنا مع<br />
ذلك نبحث عن الإجابات التي جسدها. وعمل كلارك مليء بالتوق إلى السمو<br />
والتواصل مع آبائنا الزائلني، وهو يعد أفضل عمل معبر عن عزلة عصرنا.<br />
لقد حاول كثري من مؤلفي الخيال العلمي مثل بنفورد وبري وبرين<br />
وغريهم التعبري عن هذه القضايا الكبرية، لكن من املؤكد أنه لم يحقق أي<br />
منهم نجاحًا يماثل نجاح آرثر كلارك، وفي هذا الصدد تجمع رواية «٢٠٠١:<br />
ملحمة الفضاء» املوضوعات املهمة والأساليب الرائعة التي هيمنت على أعمال<br />
كلارك.<br />
ستيفن باكستر<br />
٢٠٠٠<br />
17
إلى ستانلي<br />
في ذكراه<br />
بعد مرور ما يزيد عن أسبوعني قليلاً على كتابتي للتمهيد التالي، تلقيت<br />
خبرًا صادمًا وغري متوقع تمامًا وهو أن ستانلي كوبريك توفي عن عمر يناهز<br />
السبعني عامًا. لقد كان يخطط لترويج خاص للفيلم عام ٢٠٠١، ويحزنني<br />
كثريًا أنني لن أستطيع مشاركته هذه املناسبة.<br />
ومع أننا التقينا بضع مرات فقط خلال العقود الثلاثة التي أعقبت إكمال<br />
رواية «٢٠٠١»، فقد ظللنا على اتصال ودي كما اتضح من خلال الرسالة<br />
الكريمة التي أرسلها إلى البي بي سي عندما ظهرتُ في برنامج «هذه حياتك»:<br />
٢٢ أغسطس ١٩٩٤<br />
عزيزي آرثر،<br />
يؤسفني أن عملي في الفيلم يمنعني من املشاركة في هذا التكريم<br />
الرائع لك الليلة.<br />
أنت بالفعل أفضل كاتب خيال علمي عرفه العالم. لقد تفوقت<br />
على الآخرين في إعطائنا صورة للبشر وهم يصعدون من الأرض<br />
نحو مستقبلنا بني النجوم، حيث تعاملنا املخلوقات الذكية الغريبة<br />
باعتبارنا آباءهم الروحيني.
٢٠٠١: ملحمة الفضاء<br />
وفي كل الأحوال أنا واثق أنه عندما يُعرض هذا البرنامج<br />
عليهم، الذي سيسافر في الكون إلى الأبد، فإنهم سريغبون أيضً ا<br />
في تكريمك باعتبارك أحد أذكى وأهم املبشرين بوجودهم.<br />
لكن معرفة أجيال املستقبل بهذا الأمر يعتمد على الإجابة عن<br />
سؤالك املفضل: هل هناك حياة ذكية على كوكب الأرض؟<br />
مع خالص تحياتي<br />
ستانلي<br />
ومنذ بضع ليال رأيت في منامي أننا نتحدث معًا «بدا ستانلي في نفس<br />
هيئته التي كان عليها عام ١٩٦٤!» وقد سألني: «حسنًا، ما الذي سنفعله<br />
في املرحلة القادمة؟» ربما كانت هناك قصة بريان ألديس القصرية التي<br />
بعنوان «اللعب الخارقة تدوم طوال الصيف» وهي قصة جميلة عالجها<br />
ستانلي لبعض الوقت لتحويلها إلى عمل سينمائي تحت عنوان «آل»، لكنها<br />
فشلت لأسباب عديدة.<br />
أكثر ما يؤسفني الآن أننا لن نتمكن من استقبال عام ٢٠٠١ معًا.<br />
آرثر سي كلارك<br />
١٦ أبريل/نيسان ١٩٩٩<br />
20
مقدمة للطبعة الخاصة<br />
مضى الآن خمسة وثلاثون عامًا منذ بدأ «ستانلي كوبريك» يتلمس طريقه<br />
سعيًا نحو «سينما الخيال العلمي الجيدة» بكل ما تعنيه الكلمة من معنى،<br />
وقد يبدو عام ١٩٦٤ وكأنه ينتمي لعصر آخر، فلم يكن قد صعد إلى الفضاء<br />
سوى قلة من الرجال وامرأة واحدة، ومع ما أعلنه الرئيس «كينيدي» عن<br />
عزم الولايات املتحدة إرسال إنسان إلى القمر قبل انتهاء ذات العقد، فإنني<br />
أشك أن كثريًا من الناس صدقوا إمكانية حدوث ذلك بالفعل.<br />
الأكثر من هذا كانت معرفتنا الأصيلة بجرياننا في الفضاء لا تزال صفرًا<br />
في واقع الأمر، فلم يكن في استطاعتنا حتى أن نتأكد من أن أول مسبار<br />
سيحط على سطح القمر لن يغوص على الفور في بحر من الغبار، مثلما<br />
أكد بعض الفلكيني.<br />
ولتوضيح هذه الرؤية بعض الشيء دعوني أقتبس بعض العبارات من<br />
وصف واقعي (في معظمه) ملشروعنا «العوالم املفقودة لعام ٢٠٠١»، التي<br />
كتبتها عام ١٩٧١ عندما كان كل شيء لا يزال حاضرً ا داخل عقلي: «في<br />
ربيع عام … ٦٤ كان الهبوط على سطح القمر لا يزال يبدو من الناحية<br />
النفسية حلمًا من أحلام املستقبل البعيد. ومن الناحية الذهنية كنا نعلم أنه<br />
أمر حتمي، أما عاطفيٍّا فلم نستطع بحق أن نصدقه … كانت رحلة جيميني<br />
الأولى التي كان يفترض أن يقوم بها رجلان (هما جريسوم ويانج) ستُؤجل<br />
لعام آخر، وكان الجدل لا يزال على أشده حول طبيعة سطح القمر …»<br />
ومع أن وكالة الفضاء الأمريكية ناسا كانت تنفق في كل يوم ما يساوي<br />
ميزانية فيلمنا بالكامل (أكثر من ١٠ ملايني دولار)، فإن استكشاف الفضاء
٢٠٠١: ملحمة الفضاء<br />
بدا وكأنه علامة فاصلة في الزمن، غري أن النذر كانت واضحة، وكثريًا ما<br />
كنت أقول لستانلي معلقًا على ذلك إن الفيلم سيكون في فترة عرضه الأولى<br />
في الوقت الذي يسري فيه رجال بالفعل فوق سطح القمر.<br />
وهكذا كنا أثناء كتابتنا حبكة القصة، التي تزامنت مع تباشري فجر<br />
عصر الفضاء، نواجه أنا وستانلي مشكلة املصداقية؛ لقد أردنا أن نصنع<br />
شيئًا واقعيٍّا ويمكن تصديقه، بحيث لا يتحول إلى عمل مهجور يعفي عليه<br />
الزمن بسبب ما سيقع من أحداث في السنوات املقبلة. ومع أن الاسم الأصلي<br />
لعملنا كان «كيف تحقق الفوز باملجموعة الشمسية»، فإن ستانلي كان<br />
يهدف إلى شيء أكثر من مجرد رواية مباشرة عن الاستكشاف، وكان مغرمًا<br />
دومًا بأن يقول لي: «ما أريده هو فكرة بها جلال الأساطري وفخامتها.»<br />
حسنًا، مع اقتراب عام ٢٠٠١ الحقيقي صار الفيلم جزءًا من الثقافة<br />
الشعبية: أشك أن ستانلي حتى في أكثر أحلامه جموحًا تخيل أنه في يوم من<br />
الأيام سيكون مائة مليون أمريكي على علم تام بمن (بما؟) كان يتحدث<br />
عندما أعلن أحد الإعلانات التجارية أثناء نهائي بطولة دوري كرة القدم<br />
«سوبر بول» في صوت لطيف وإن كان يوحي بالشر: «كان ذلك فريوسً ا<br />
يا ديف.» وإذا كان لا يزال هناك من يصدق الخرافة التي تقول إن اسم<br />
«هال» مشتق من أحرف «آي بي إم» باستبدال كل حرف بالحرف السابق<br />
له في الأبجدية الإنجليزية، فدعوني أكرر الإشارة إلى الفصل السادس عشر<br />
حيث الأصل الصحيح للاسم.<br />
إذا كنتم تريدون النسخة النهائية فإني أحيلكم إلى دي في دي مترو<br />
جولدوين ماير الرائع، الذي لا يحتوي على نسخة كاملة من الفيلم فقط،<br />
بل به أيضً ا كمية كبرية من املادة الأرشيفية الخاصة بإنتاجه؛ هناك لقطات<br />
من تصوير الفيلم، وحوارات مع فنانيه، ومع العلماء والفنيني الذين حولوه<br />
إلى حقيقة، وفيه أيضً ا آرثر سي كلارك املفعم بالشباب وهو يقول للإداريني<br />
التنفيذيني بمترو جولدوين ماير الذين اعتراهم القلق ما يقترح هو وستانلي<br />
عمله. وإني لأشعر بسعادة غامرة عندما أقول إن جميع تنبؤاتي تحققت.<br />
لهذا لا يدهشني أنه، حتى داخل عقلي، أحيانًا ما يتداخل الكتاب والفيلم<br />
معا، ويلتبسان أيضً ا مع الواقع؛ إن النهايات املختلفة تزيد املوقف تعقيدًا،<br />
لهذا أود أن أعود إلى البداية وأن أستدعي من الذاكرة كيف بدأ الأمر كله.<br />
22
مقدمة للطبعة الخاصة<br />
في أبريل/نيسان عام ١٩٦٤ غادرت سيلان، وهو الاسم الذي كانت<br />
تعرف به «سريلانكا» في ذلك الحني، متوجهًا إلى نيويورك من أجل إكمال<br />
عملي التحريري في كتاب تايم/لايف «الإنسان والفضاء». لا أستطيع أن<br />
أقاوم الرغبة في اقتباس بعض من مذكراتي التي كتبتها في ذلك الحني:<br />
لقد كان أمرًا غريبًا أن أعود من جديد إلى نيويورك بعد عدة<br />
سنوات أمضيتها في جنة سيلون الاستوائية. كان الذهاب للعمل<br />
والعودة منه — حتى وإن لم تكن رحلة الذهاب للعمل لا تزيد عن<br />
ثلاث محطات بواسطة قطار آي آر تي — يمثل لي تجربة غريبة<br />
جديدة عليّ، بعد حياة رتيبة قضيتها وسط الأفيال، والشعاب<br />
املرجانية، والرياح الهندية املوسمية، وسفن الكنوز الغارقة. كانت<br />
الصيحات الغريبة، والوجوه املبتسمة في بشاشة، والسلوكيات<br />
املجاملة بصدق التي يتسم بها أهل مانهاتن أثناء شروعهم في أداء<br />
شئونهم الغامضة تمثل لي مصدرًا دائمًا للإلهام، وأيضً ا كانت<br />
القطارات املريحة التي تهمس بهدوء عبر الأنفاق التي تتميز<br />
بالنظافة التامة، وأيضً ا الإعلانات (التي كثريًا ما كانت تزدان<br />
بصور فنانني هواة) عن منتجات غري مألوفة لي مثل خبز ليفي،<br />
أو صحيفة نيويورك بوست، أو برية بيل، مع عشرات املاركات<br />
املتنافسة من السجائر. غري أنه يمكنك أن تعتاد بمرور الوقت على<br />
أي شيء، وبعد برهة (نحو خمس عشرة دقيقة) يزول الانبهار.<br />
من كتاب «تقرير عن الكوكب رقم ثلاثة»،<br />
قصة «ابن د. سترينجلاف»<br />
كان عملي في كتاب «الإنسان والفضاء» يمضي قدمًا في سلاسة إذ إنه<br />
كلما طرحت عليّ واحدة من باحثات «تايم/لايف» املتحمسات هذا السؤال:<br />
«ما املصدر الذي استقيت منه هذه العبارة؟» حدقت فيها بكل ثبات وأجبتها<br />
بثقة: «إنه الشخص املاثل أمامك.» وهكذا كنت أملك طاقة وفرية لأعمل<br />
مع ستانلي في فترة ليلية، وكان لقاؤنا الأول في «تريدر فيكس» في ٢٣<br />
أبريل/نيسان. (يجب عليهم وضع لافتة لتمييز ذلك املوقع.) كان ستانلي لا<br />
23
٢٠٠١: ملحمة الفضاء<br />
يزال يستمتع بنجاح آخر أفلامه، دكتور سترينجلاف، وكان يتطلع آنذاك نحو<br />
فكرة أكثر طموحًا. كان يرغب في صنع فيلم عن موقع الإنسان من العالم،<br />
مشروع من املحتمل أن يصيب أي مدير ستوديو من املدرسة القديمة — وفي<br />
هذا الشأن بالتحديد، من املدرسة الجديدة أيضً ا — بأزمة قلبية.<br />
ستانلي — الذي يصبح خبريًا فوريٍّا في أي موضوع يشغل باله — كان<br />
قد ألم بالفعل بما تحويه عدة مكتبات عن الحقائق العلمية والخيال العلمي،<br />
واشترى أيضً ا حقوق ملكية كتاب مثري للجدل بعنوان «ظل على الشمس»؛<br />
لا أذكر أي شيء على الإطلاق عنه وقد نسيت حتى اسم مؤلفه، لهذا من<br />
املفترض أنه لم يكن واحدًا من الكتاب الذين يكتبون بانتظام في موضوع<br />
الخيال العلمي. وأيٍّا كان من هو، آمل ألا يكون قد علم أنني مَن دمرت<br />
مستقبله املهني، لأن أحدهم أخطر كوبريك على الفور أن كلارك ليس ممن<br />
يهتمون بتطوير أفكار الآخرين. (راجع خاتمة «راما ٢» لتعرف السلسلة<br />
الغريبة من الأحداث التي تسببت في تغيري السياسة مع رواية «املهد» بعدها<br />
بعشرين عامًا.) وبعد أن اتفقنا على تلك النقطة قررنا أن نصنع شيئًا جديدًا<br />
تمامًا.<br />
الآن، قبل أن تصنع فيلمًا، يجب أن يكون لديك سيناريو أولاً ، وقبل أن<br />
يكون لديك سيناريو، يجب أن تكون لديك قصة، مع أن بعض املخرجني<br />
من أصحاب الفكر الطليعي املجدد حاولوا الاستغناء عن تلك الأخرية، فإنك<br />
لن تجد أعمالهم إلا على مسارح الفن. وكنت قد قدمت لستانلي من قبل<br />
قائمة بقصصي القصرية، وكنا قد قررنا أن إحداها، وهي «الحارس» تحتوي<br />
على الفكرة الرئيسية التي يمكننا البناء عليها.<br />
كتبت قصة «الحارس» في وقت كنت أتمتع فيه بذروة النشاط في فترة<br />
عيد امليلاد عام ١٩٤٨، لأدخل بها مسابقة أقامتها إذاعة بي بي سي للقصة<br />
القصرية، ولم تحصل تلك القصة على أي مركز، حتى إنني أتساءل في بعض<br />
الأحيان عن القصة التي فازت (ربما ملحمة الذعر في «تنبريدج ويلز»).<br />
وقصة الحارس الآن يرد ذكرها كثريًا ضمن الأعمال الأدبية املختارة 1 حتى<br />
1 أعيد طبعها في أولى مختاراتي الأدبية التي صدرت بعنوان «رحلة استكشافية إلى كوكب الأرض».<br />
24
مقدمة للطبعة الخاصة<br />
إنني لست في حاجة سوى أن أذكر أنها قصة خيالية عن اكتشاف أثر<br />
غريب فوق سطح القمر، نوع من أجهزة الإنذار ضد السرقة، تنتظر وصول<br />
الإنسان لكي تطلق صفارة إنذارها.<br />
وكثريًا ما يقال إن رواية «٢٠٠١» مبنية على قصة «الحارس»، غري<br />
أن تلك املقولة تعد نوعًا من التبسيط املبالغ فيه مبالغة كبرية، صحيح<br />
إن الاثنتني تشبهان في علاقتهما إلى حد بعيد العلاقة بني ثمرة البلوط<br />
وشجرتها. لكنها احتاجت لإضافة الكثري من املادة القصصية إليها حتى<br />
تصنع فيلمًا، وقد جاء بعض من تلك املادة من «لقاء في الفجر» (يعرف<br />
أيضً ا باسم «رحلة استكشافية إلى كوكب الأرض» ونشرت في املجموعة تحت<br />
نفس الاسم) وأربع قصص قصرية أخرى. ولكن معظمها كان جيدًا تمامًا،<br />
ومحصلة شهور من تقليب وجهات النظر املختلفة مع ستانلي، أعقبتها<br />
ساعات قضيتها وحيدًا (حسنًا، وحيدًا إلى حد ما) بالغرفة ١٠٠٨ بفندق<br />
تشيلسي الشهري، في ٢٢٢ وست، شارع رقم ٢٣.<br />
هذا هو املكان الذي كتبت فيه معظم أجزاء الرواية، ويمكنكم العثور<br />
على يوميات هذه العملية املؤملة في أغلب الأحيان في قصة «العوالم املفقودة<br />
لعام ٢٠٠١». ولكن قد يتساءل البعض، ما الداعي لكتابة رواية، في حني<br />
أننا نرمي لصناعة فيلم سينمائي؟ صحيح أن تحويل العمل إلى رواية يحدث<br />
في أغلب الأحيان فيما بعد، لكن في حالتنا هذه كانت لدى ستانلي مبررات<br />
ممتازة لعكس اتجاه العملية.<br />
وملا كان يتعني أن يحدد السيناريو كل شيء بأدق التفاصيل، فإن<br />
قراءته تكون مملة بنفس قدر امللل من كتابته. لقد شرح جون فاولز هذا<br />
الأمر بصورة جيدة للغاية عندما قال: «كتابة رواية تشبه السباحة في البحر،<br />
أما كتابة سيناريو فيلم فأشبه بقيادة مركب وسط بحر من العسل الأسود.»<br />
وربما لأن ستانلي أدرك أنني لا أحتمل امللل كثريًا، اقترح أن نترك لخيالنا<br />
العنان بكتابة رواية كاملة قبل أن نبدأ في مباشرة عملنا الشاق في كتابة<br />
السيناريو، ثم نستقي السيناريو بعد ذلك من الرواية. (وعلى أمل أن نحصل<br />
أيضً ا على قليل من املال.)<br />
هذا بالتقريب الأسلوب الذي عملنا به، مع أنه قرب النهاية صارت<br />
الرواية تكتب هي والسيناريو في آن واحد، مع تعديلات في كلا الاتجاهني<br />
25
٢٠٠١: ملحمة الفضاء<br />
بعد إعادة التقييم. وهكذا أعدت كتابة بعض الأجزاء بعد أن رأيت أن موعد<br />
بدء تصوير الفيلم يقترب، وهي طريقة باهظة التكلفة في الإبداع الأدبي،<br />
قليل من الكتاب الآخرين هم من يستمتعون بها، مع أنني لست متأكدًا من<br />
أن استخدامي لكلمة «يستمتعون» مناسبًا.<br />
وحتى أعطيكم ملحة عن طبيعة ذلك الوقت اللاهث، إليكم بعض<br />
املقتطفات من دفتر اليوميات الذي لا بد أنني كتبته على عجل خلال ساعات<br />
الصباح القليلة:<br />
٢٨ مايو/أيار ١٩٦٤: اقترحت على ستانلي «أنهم» ربما كانوا آلات تعتبر<br />
الحياة العضوية مرضً ا بشعًا. يعتقد ستانلي أنها فكرة لطيفة …<br />
٢ يونيو/حزيران: بمتوسط ألف أو ألفي كلمة يوميٍّا. ويقول ستانلي: «لدينا<br />
هنا كتاب سيحقق أفضل مبيعات.»<br />
١١ يوليو/تموز: اجتمعت بستانلي ملناقشة تطور الحبكة الدرامية للرواية،<br />
غري أننا أمضينا معظم الوقت في جدل حول مجموعات كانتور للأرقام ما<br />
وراء املتناهية وقررت أنه عبقري في الرياضيات لا يعرفه أحد.<br />
١٢ يوليو/تموز: الآن لدينا كل شيء، فيما عدا الحبكة الدرامية.<br />
٢٦ يوليو/تموز: عيد ميلاد ستانلي (السادس والثلاثني). ذهب إلى قريته<br />
فوجد هناك بطاقة تهنئة كتبت عليها تلك العبارة: «كيف يمكنك أن تستمتع<br />
2<br />
بعيد ميلاد سعيد والعالم بأسره على وشك الانفجار في أي دقيقة؟»<br />
٢٨ سبتمبر/أيلول: حلمت أني إنسان آلي يعاد بناؤه من جديد. وأخذت<br />
فصلني إلى ستانلي، الذي طهى من أجلي شريحة رائعة من اللحم، معلقًا<br />
على ذلك بقوله: «جو ليفني لا يفعل هذا لكتابه.»<br />
١٧ أكتوبر/تشرين الأول: ابتكر ستانلي فكرة جامحة وهي بشر آليون<br />
كادحون بعض الشيء يصنعون مناخً ا من العصر الفيكتوري من أجل إراحة<br />
أعصاب أبطالنا.<br />
2 تحديث في عام ١٩٩٩: تمنيت لو أنني اختزنت كمية وفرية من تلك البطاقات من أجل املستقبل ….<br />
26
مقدمة للطبعة الخاصة<br />
٢٨ نوفمبر/تشرين الثاني: هاتفت «إيزاك أسيموف» ملناقشة الكيمياء<br />
الحيوية لعملية تحويل النباتيني إلى آكلي لحوم.<br />
١٠ ديسمبر/كانون الأول: ستانلي يتصل بعد عرض فيلم «أشياء قادمة»<br />
عن قصة لإتش جي ويلز ويقول إنه لن يشاهد بعد ذلك أبدًا أي فيلم آخر<br />
أرشحه له.<br />
٢٤ ديسمبر/كانون الأول: أعدل ببطء في الصفحات الأخرية، حتى أتمكن<br />
من تقديمها كهدية عيد رأس السنة لستانلي.<br />
سجل ذلك البيان الأخري أملي في أن تكون الرواية الآن قد اكتملت<br />
أركانها، وحقيقة الأمر أن كل ما كنا قد أنجزناه حتى ذلك الحني لم يكن إلا<br />
مسودة غري نهائية للثلثني الأولني من الرواية، حيث توقفنا عند أكثر النقاط<br />
إثارة، لأننا لم تكن لدينا أدنى فكرة عما يمكن أن يحدث بعد ذلك. غري<br />
أن هذا الكم كان كافيًا ليتيح لستانلي عقد اتفاق مع مترو جولدوين ماير<br />
وسينرياما، خاص بما أعلن عنه في البداية في جميع وسائل الإعلام تحت<br />
عنوان «رحلة فيما وراء النجوم»، (وهناك عنوان آخر: «كيف تحقق الفوز<br />
باملجموعة الشمسية»، وهو ليس سيئًا، وربما أصبح مناسبًا للوقت الحالي.)<br />
وطوال عام ١٩٦٥ ظل ستانلي مشغولاً بأنشطة ما بعد الإنتاج التي<br />
تتسم بتعقيد لا نظري له، والتي زاد من صعوبتها أن الفيلم كان من املفترض<br />
أن يصور في إنجلترا في حني لا يزال ستانلي في نيويورك، ولم يكن ستانلي<br />
يسافر جوٍّا تحت أي ظرف. ولست في وضع يؤهلني لانتقاده في هذا، فستانلي<br />
أصابته عقدة من الطريان بسبب ظروف عصيبة، أثناء محاولته الحصول<br />
على رخصة طيار. ولأسباب مماثلة لم أجلس أنا أيضً ا خلف عجلة قيادة<br />
سيارة منذ اليوم الأول بعد اجتيازي (بصعوبة) اختبار قيادة السيارة في<br />
سيدني بأستراليا عام ١٩٥٦، وقد قررت أيضً ا عدم قيادة السيارات مدى<br />
حياتي بسبب التجربة املؤملة التي مررت بها.<br />
وأثناء إخراج ستانلي للفيلم كنت أحاول إكمال النسخة النهائية من<br />
الرواية، التي بطبيعة الحال كان من املحتم أن تحصل على مباركته قبل<br />
أن يصري من املمكن نشرها. وكان الحصول على تلك املباركة من الصعوبة<br />
27
٢٠٠١: ملحمة الفضاء<br />
بمكان، ربما لأنه كان مشغولاً إلى قمة رأسه في الاستوديو حتى إنه لم يكن<br />
لديه وقت لكي يركز انتباهه على العديد من نسخ النص املكتوب. لقد أقسم<br />
أنه لن يتوانى حتى يتأكد من أن الفيلم ظهر قبل الكتاب، وهو ما حدث<br />
بالفعل — بعدة شهور — في ربيع عام ١٩٦٨.<br />
بالنظر إلى مراحل تطور الرواية املعقدة واملتعثرة، لا يدهشنا أن تختلف<br />
عن الفيلم في عدة نواح؛ أهمها — ولم يكن بمقدورنا في ذلك الوقت تخمني<br />
إلى أي مدى كان هذا من حسن الطالع — أن ستانلي قرر أن يكون املوعد<br />
مع املشتري، في حني أنه في الرواية سبحت سفينة الفضاء ديسكفري نحو<br />
زحل، مستخدمةً مجال جاذبية املشتري في زيادة سرعتها.<br />
وقد استخدمت مركبة الفضاء فويجر «مناورة الترجاف» هذه بعد ذلك<br />
بأحد عشر عامًا.<br />
فلماذا التحول من زحل إلى املشتري؟ حسنًا، لقد جعل ذلك التغيري<br />
حبكة القصة أكثر وضوحًا، والأهم من ذلك أن قسم املؤثرات الخاصة لم<br />
يكن في استطاعته إنتاج كوكب زحل ويجده ستانلي مقنعًا. ولو أنه فعل<br />
ذلك لبدا الآن أن الفيلم به خطأ في التأريخ، حيث إن بعثات فويجر أظهرت<br />
أن حلقات زحل أكثر صعوبة بكثري في فهم كنهها مما كان يتصور أي<br />
شخص.<br />
لأكثر من عقد من الزمان بعد نشر الرواية (يوليو/تموز ١٩٦٨) نفيت<br />
في سخط وجود أي احتمال لعمل تكملة للرواية أو وجود أدنى نية لكتابتها،<br />
غري أن النجاح املبهر لرحلات فويجر جعلني أغري رأيي؛ فالعوالم البعيدة<br />
التي لم يكن هناك أي معرفة بها على الإطلاق عندما بدأت أنا وستانلي<br />
تعاوننا معًا صارت فجأة أماكن حقيقية، ذات ظروف سطحية مذهلة. من<br />
كان يتخيل يومًا وجود أقمار تغطيها بالكامل أطواف جليدية، أو براكني<br />
تطلق حممًا من الكبريت ملئات الكيلومترات في الفضاء؟ لقد صار الخيال<br />
العلمي الآن أكثر إقناعًا بكثري نتيجة ملا اكتشف من حقائق علمية. وكانت<br />
رواية «٢٠١٠: امللحمة الثانية» عن مجموعة أقمار املشتري الحقيقية.<br />
وهناك أيضً ا فارق آخر واضح بني الروايتني، إذ إن «٢٠٠١» كتبت<br />
في عصر يسبق فترة فاصلة في تاريخ البشرية؛ فقد فصلتنا عنه إلى الأبد<br />
28
مقدمة للطبعة الخاصة<br />
تلك اللحظة التي خطا فيها نيل أرمسترونج وباز ألدرين خارج مركبتهما<br />
نحو «بحر السكون» على سطح القمر. والآن صار كل من التاريخ والخيال<br />
توأمني لا يمكن فصل أحدهما عن الآخر، لقد كان رواد فضاء أبوللو قد<br />
شاهدوا الفيلم بالفعل عندما انطلقوا في رحلتهم إلى القمر، وقال لي طاقم<br />
أبوللو ٨ الذين أصبحوا في عيد امليلاد عام ١٩٦٨، أول من شاهدوا من<br />
البشر الجانب البعيد من القمر، إنهم قد راودتهم فكرة بث رسالة للأرض<br />
تعلن عن اكتشاف صخرة منعزلة سوداء كبرية الحجم، لكن للأسف كانت<br />
الغلبة للحكمة والتعقل.<br />
إلا أن بعثة أبوللو ١٣ ترتبط بالفعل ارتباطًا غريبًا برواية «٢٠٠١»،<br />
فعندما ذكر الكمبيوتر «هال» وجود «عطب» بالوحدة ألفا إيكو ٣٥، كانت<br />
العبارة التي استخدمها «آسف ملقاطعتي احتفالاتكم، غري أن لدينا مشكلة.»<br />
حسنًا، لقد كان الاسم الذي أطلق على وحدة قيادة أبوللو ١٣ «أوديسا»،<br />
وكان الطاقم قد أنهى لتوه بثٍّا تلفزيونيٍّا كان يعرض به لحن «زاراثوسترا»<br />
الشهري الذي صاحب الفيلم عندما انفجر واحد من خزانات الأكسجني،<br />
وكانت أولى الكلمات التي بثها الطاقم إلى املحطة الأرضية «هيوستن، لدينا<br />
مشكلة.»<br />
وعن طريق ارتجال متألق وباستخدام الوحدة القمرية كقارب نجاة<br />
أعيد رواد الفضاء بأمان إلى الأرض على متن أوديسا. وعندما أرسل لي «توم<br />
بني» الإداري بناسا تقريرًا عن املهمة كتب على الغلاف: «تمامًا مثلما كنت<br />
تقول دائمًا إنه سيحدث، يا آرثر.»<br />
وهناك العديد من أوجه الشبه الأخرى، لعل أبرزها ملاحم استعادة<br />
أقمار الاتصالات الصناعية ويستار ٦ وبالابا بي ٢، التي أطلقت عام ١٩٨٤<br />
نحو مدارات لا جدوى منها بواسطة صواريخ أخطأت في إصابة هدفها.<br />
الآن، في مسودة سابقة للرواية، كان على ديفيد بومان أن يقوم بمهمة<br />
«خارج السفينة» مستعينًا بواحدة من كبسولات فضاء ديسكفري، وأن<br />
يتعقب منظومة هوائي اتصالات السفينة املفقودة. (يمكنك قراءة هذه<br />
الواقعة بالفصل ٢٦ من «العوالم املفقودة لعام ٢٠٠١».) واستطاع أن يعثر<br />
عليها، غري أنه لم يكن قادرًا على إيقاف دورانها املغزلي البطيء وإعادتها<br />
إلى ديسكفري.<br />
29
٢٠٠١: ملحمة الفضاء<br />
وفي نوفمبر/تشرين الثاني من عام ١٩٨٤ غادر رائد الفضاء «جو<br />
ألن» مكوك الفضاء «ديسكفري» (كلا، أنا لا أختلق شيئًا!) واستعان بوحدة<br />
املناورات من أجل تكوين مدار حول بالابا. ولكنه على النقيض من بومان<br />
تمكن من إيقاف دورانه املغزلي بإطلاق دفعات من محركات الدفع النفاث<br />
النيتروجينية املوجودة في الحقيبة التي يحملها على ظهره. وأعيد القمر مرة<br />
أخرى إلى مقصورة الشحن بديسكفري، وبعدها بيومني أُنقذ أيضً ا القمر<br />
ويستار، وأُعيد الاثنان بسلام إلى الأرض للإصلاح وإعادة إطلاقهما، بعد<br />
واحدة من أنجح مهام املكوك وأكثرها جدارة بالإعجاب.<br />
ولم ينته الأمر عند هذا الحد؛ فتقريبا في نفس توقيت قيام جو بكل هذا،<br />
تلقيت نسخة من كتابه الجميل «الدخول إلى الفضاء: ملحمة رائد فضاء»<br />
مع خطاب مرفق يقول فيه: «عزيزي آرثر، عندما كنت صبيٍّا أصبتني<br />
بفريوس الكتابة وفريوس الفضاء، لكنك نسيت أن تخبرني بمدى صعوبة<br />
كلتا املهمتني.»<br />
وربما يكون من نافلة القول أن أذكر أن ذلك النوع من الثناء يمنحني<br />
شعورًا دافئًا بالرضا، غري أنه يجعلني في الوقت نفسه أشعر أني معاصر<br />
للأخوين رايت.<br />
إن الرواية التي ستقرءونها تعرضت في بعض الأحيان للانتقاد لأنها<br />
تبالغ في شرح الأمور وتفسريها، ومن ثم تدمر بعضً ا من غموض الفيلم.<br />
(اندفع روك هدسون خارجًا من حفل تقديم الرواية لأول مرة وهو يشكو:<br />
«هل لأحد أن يخبرني ما الهدف من كل هذا؟») غري أني غري نادم على ذلك<br />
مطلقًا، فالنص املطبوع يجب أن يقدم تفاصيل أكثر بكثري مما يعرض على<br />
الشاشة. وقد زدت الطني بلة بكتابة «٢٠١٠» (وقد تحولت بالفعل إلى فيلم<br />
رائع على يد بيتر هيامز)، ثم «٢٠٦١» و«٣٠٠١».<br />
ويجب ألا يزيد عدد أجزاء أي ثلاثية عن أربعة، لهذا أعدكم أن تكون<br />
«٣٠٠١» هي بالفعل امللحمة الختامية!<br />
30
تمهيد<br />
هناك ثلاثون شبحًا في مقابل كل إنسان على قيد الحياة، والسبب في ذلك أن<br />
املوتى يفوقون الأحياء عددًا بهذه النسبة، فمنذ بدء الخليقة إلى الآن عاش<br />
مائة مليار شخص على ظهر البسيطة.<br />
وهذا العدد مثري للاهتمام، حيث تصادف أن هناك مائة مليار نجم<br />
تقريبًا في مجرتنا التي يطلق عليها «درب التبانة»، وهذا أمر غريب، ومعناه<br />
أن لكل من عاش في هذا الكون نجمًا يسطع.<br />
لكن كل نجم من هذه النجوم شمس غالبًا ما تكون أكثر إشراقا<br />
وتألقًا من النجم الصغري القريب منا الذي نعرفه بالشمس، وكثري من هذه<br />
الشموس البعيدة — بل ربما معظمها — لها كواكب تدور حولها، ومن ثم<br />
فإنه يكاد يكون أكيدًا أن عالم السماء يكفي ليمنح كلاٍّ من أفراد الجنس<br />
البشري وصولاً إلى أول إنسان قرد جنة خاصة — أو جحيمًا — بحجم<br />
عاملنا.<br />
ولا يمكننا أن نخمن كم من هذه الجنان أو الجحائم مسكون الآن،<br />
ولا يمكننا أيضً ا أن نحدد نوع املخلوقات التي تسكنها؛ فأقربها إلينا أبعد<br />
مليون مرة من املريخ والزهرة اللذين ما زالا هدفني بعيدين ينتظران الجيل<br />
القادم لاستكشافهما. لكن عوائق املسافة تتلاشى، وسيأتي اليوم الذي نلتقي<br />
فيه مع أمثالنا أو سادتنا بني النجوم.<br />
ولم يلقَ هذا الاحتمال إلى الآن تحمسً ا أو عزيمة من جانب البشر، بل ما<br />
زال بعضهم يتمنى ألا يحدث ذلك أبدًا. بيْد أن أعدادًا متزايدة منا أصبحت
٢٠٠١: ملحمة الفضاء<br />
تتساءل: «ملاذا لم تحدث هذه اللقاءات حتى الآن ونحن أنفسنا على وشك<br />
أن نغزو الفضاء؟»<br />
ملاذا فعًلا؟ في هذا الكتاب إحدى الإجابات املحتملة عن هذا السؤال<br />
املنطقي جدٍّا، لكن تذكر دائمًا أن هذا ليس إلا عملاً خياليٍّا.<br />
والحقيقة دائمًا أغرب بكثري من الخيال.<br />
إلى ستانلي<br />
32
الجزء الأول<br />
ليلة بدائية
الفصل الأول<br />
الطريق إلى الانقراض<br />
استمر القحط عشرة ملايني عام، ومضى زمن طويل منذ أن انتهى عهد<br />
السحالي املخيفة. وهنا على خط الاستواء في القارة التي ستعرف فيما بعد<br />
بأفريقيا، وصلت ضراوة الصراع من أجل البقاء حدٍّا غري مسبوق، ولم يُعرف<br />
بعد من املنتصر. في هذه الأرض املجدبة والقاحلة، كان يُكتب البقاء فقط<br />
للكائنات الصغرية أو سريعة الحركة أو الضارية.<br />
ولم يكن الإنسان القرد الذي يعيش في مراعٍ عشبية من بني هذه<br />
الكائنات، ومن ثم كان يعجز عن الازدهار والنمو بقوة. في حقيقة الأمر كان<br />
البشر القردة في طريقهم للانقراض، وسكن نحو خمسني منهم مجموعة<br />
من الكهوف املطلة على واد صغري وجاف يقسمه جدول راكد تغذيه ثلوج<br />
الجبال التي تبعد عنه مائتي ميل جهة الشمال، وفي الظروف السيئة يتلاشى<br />
الجدول تمامًا، لتعيش القبيلة تحت وطأة الظمأ.<br />
كانت القبيلة تشعر بالجوع دومًا وها هي الآن قد أصيبت باملجاعة،<br />
وعندما تسلل أول شعاع من الفجر إلى الكهف، عرف «مون ووتشر» أن<br />
أباه قد فارق الحياة في الليل، ولم يكن يعرف أن هذا الرجل العجوز هو<br />
والده، فهذه العلاقة فوق فهمه، لكنه حينما نظر إلى جسده الهزيل شعر<br />
بشيء من الانزعاج الذي كان بذرة ملا عُرف بعد ذلك بالحزن.<br />
كان الطفلان يئنان طلبًا للطعام، لكنهما صمتا عندما انتهرهما مون<br />
ووتشر، وصاحت فيه غاضبة إحدى الأمهات مدافعة عن طفلها التي تعجز<br />
عن تغذيته التغذية امللائمة، ولم تكن لديه طاقة تكفي ولو لصفعها ردٍّا<br />
على وقاحتها.
٢٠٠١: ملحمة الفضاء<br />
وبعد أن أصبح ضوء النهار كافيًا للخروج جر مون ووتشر الجثمان<br />
خلفه وهو يسري منحنيًا تحت سقف الكهف املتدلي، وفور خروجه حمل<br />
الجثمان على كتفه ووقف منتصب القامة، وهذا ما كانت تعجز عن فعله<br />
جميع الحيوانات الأخرى في عامله.<br />
كان مون ووتشر أقرب إلى العمالقة بني أفراد نوعه، فطوله نحو خمسة<br />
أقدام، ووزنه يربو على مائة رطل على الرغم من حالة نقص التغذية التي<br />
يعانيها، أما جسده املشعر مفتول العضلات فهو مرحلة وسطى بني القرد<br />
والإنسان، لكن رأسه أقرب كثريًا للإنسان منها للقرد، وجبهته ضيقة بها<br />
حافتان بارزتان فوق محجري عينيه، إلا أنه كان واضحًا أنه يحمل في<br />
جيناته تباشري قدوم البشرية. وعندما نظر إلى ذلك العالم املعادي له في<br />
عصر البلايستوسني، كانت نظرته تختلف عن نظرة القردة العادية، فعيناه<br />
السوداوان الغائرتان تشع فيهما بوادر الإدراك، وهى الأمارات الأولى لذكاء<br />
قد لا يصل غايته قبل عصور، وربما تخبو جذوته قريبًا إلى الأبد.<br />
لم تكن هناك أي دلائل خطر، وبدأ مون ووتشر في النزول من منحدر<br />
شبه رأسي خارج الكهف، لا يعوقه كثريًا ما يحمله، وكما لو كانوا في انتظار<br />
إشارته خرج باقي أفراد القبيلة من كهوفهم وبرزوا على سطح املنحدر<br />
املكشوف، وبدءوا يهرعون نحو مياه الجدول املوحلة من أجل تناول جرعتهم<br />
الصباحية من املاء.<br />
نظر مون ووتشر في أرجاء الوادي لريى هل الجميع هناك، لكنه لم<br />
يجد أثرًا لبعضهم؛ ربما لم يخرج هؤلاء من كهوفهم بعد، أو لعلهم ابتعدوا<br />
عن املكان بحثًا عن الطعام، وحيث إنه لم يرهم في أي مكان من حوله<br />
تجاهل مون ووتشر الأمر؛ فلم يكن لديه القدرة أن يقلق بشأن أكثر من<br />
شيء واحد في ذات الوقت.<br />
فأولاً ينبغي عليه أن يتخلص من الجثمان، وهذه مشكلة تحتاج إلى<br />
شيء من التفكري؛ فقد كانت وفيات عديدة هذا املوسم، إحداها في كهفه؛<br />
ويتعني عليه وحده أن يضع الجثمان في نفس املكان الذي ترك فيه الرضيع<br />
الجديد عندما كان القمر تربيعًا ثانيًا لتقوم الضباع ببقية املهمة.<br />
كانت الضباع في انتظاره بالفعل في املكان الذي يتخذ فيه الوادي<br />
الصغري صورة دائرية وسط السافانا، كما لو كانت تعلم بقدومه، ترك مون<br />
36
الطريق إلى الانقراض<br />
ووتشر الجسم تحت شجرية — دون أن يجد أثرًا للعظام التي تركها من<br />
قبل — وهرع عائدًا إلى قبيلته، ولم يخطر والده بباله بعد ذلك.<br />
وكان رفيقاه والأشخاص البالغون من الكهوف الأخرى ومعظم الصغار<br />
يبحثون عن التوت والجذور العصريية والأوراق وما قد تطرحه الريح من<br />
قوارض وسحال، وذلك وسط الأشجار التي ضربها الجفاف في أماكن بعيدة<br />
أعلى الوادي، ولم يكن يبقى في الكهوف سوى الأطفال الصغار والكبار<br />
الضعفاء؛ فإذا فاض طعام في نهاية اليوم فسيكون من نصيبهم، وإذا لم<br />
يتوفر هذا الفائض فسوف يموتون جوعًا وتأكلهم الضباع.<br />
لكن هذا اليوم جيد بالرغم من أن مون ووتشر لم يكن يستطيع املقارنة<br />
بني الأيام لأنه لم يكن لديه تذكر حقيقي للماضي؛ فقد عثر على خلية نحل<br />
في جذع شجرة ميتة، واستمتع بأشهى طعام عرفته جماعته، واستمر في<br />
لعق أصابعه من وقت لآخر وهو يقود جماعته عائدًا إلى الكهف في نهاية<br />
وقت الظهري. بالتأكيد فإنه تعرض للسع النحل مرات عديدة، لكن هذا لم<br />
يسترعِ انتباهه كثريًا، وقد أصبح الآن في حالة من السعادة تقترب من الحالة<br />
التي كان يشعر بها من قبل، ومع أنه لا يزال جائعًا فإن جوعه هذا لم<br />
يشعره بضعف حقيقي، وهذا هو أفضل ما يطمح إليه الإنسان القرد.<br />
لكن سعادته هذه سرعان ما تلاشت عندما وصل إلى جدول املاء، فقد<br />
وجد آخرين هناك، وبالرغم من أنه كان يراهم عند الجدول في كل يوم فإن<br />
هذا لم يقلل قط من انزعاجه.<br />
هناك نحو ثلاثني منهم، ولم يكن بالإمكان تمييزهم عن أفراد قبيلة مون<br />
ووتشر، وحينما رأوه قادمًا بدءوا يرقصون ويلوحون بأذرعهم ويصيحون<br />
على جانبهم من جدول املاء، ورد عليهم أفراد قبيلته باملثل.<br />
وهذا كل ما حدث؛ فمع أن البشر القردة غالبًا ما حاربوا وصارعوا<br />
بعضهم بعضً ا فقلما أدت منازعاتهم إلى إصابات خطرية، فنظرًا لعدم وجود<br />
مخالب لديهم أو أنياب حادة ونتيجة لأن الشعر يحمي أجسادهم جيدًا، لم<br />
يتسبب أي منهم في ضرر كثري للآخر، وعلى أي حال لم يكن لديهم فائض<br />
من الطاقة كي ينفقوه على هذا السلوك الذي لا يجدي؛ فالزمجرة والتهديد<br />
كانا يمثلان أفضل طريقة في التأكيد على وجهات نظرهم.<br />
37
٢٠٠١: ملحمة الفضاء<br />
واستمرت املواجهة خمس دقائق تقريبًا وبعدها انفض العرض سريعا<br />
كما بدأ، وأخذ كل واحد قسطه من املاء املوحل. لقد أرضى كل فريق كبرياءه،<br />
وأكدت كل جماعة أحقيتها في منطقتها، وبعد تسوية هذا الأمر املهم بدأت<br />
القبيلة تتحرك على طول جانبها من النهر. وأقرب مرعى حينئٍذ يبعد بمسافة<br />
تزيد على ميل من الكهوف، واضطروا لأن يشاركهم فيه قطيع من حيوانات<br />
ضخمة أشبه بالبقر الوحشي، ولم يكن هذا القطيع يرضى بوجودهم إلا<br />
نادرًا، كما لم يكن بإمكان القبيلة صرف هذه الحيوانات التي كانت مسلحة<br />
بقرون قوية في رءوسها؛ تلك الأسلحة الطبيعية التي يفتقر إليها الإنسان<br />
القرد.<br />
مضغ مون ووتشر ورفاقه التوت والثمار والأوراق ليتغلبوا على آلام<br />
الجوع؛ إنهم يتنافسون على طعام واحد، في الوقت الذي يحيط بهم فيه من<br />
كل الاتجاهات مصدر محتمل ملزيد من الطعام يفوق ما يحلمون به، إلا<br />
أن آلاف الأطنان من اللحوم العصارية التي تتجول في أنحاء السافانا وفي<br />
الأشجار لم تكن فقط بعيدة املنال بالنسبة لهم، لكنها أيضً ا خارج نطاق<br />
تخيلهم، ووسط كل هذه الوفرة يتضورون جوعًا.<br />
وعادت القبيلة إلى كهفها دون وقوع أي شيء غري معتاد أو سيئ مع<br />
غروب الشمس، أما الأنثى املصابة التي تركوها خلفهم تهدل في سعادة<br />
حينما أعطاها مون ووتشر فرعًا مليئًا بالتوت كان قد أحضره معه، فقد<br />
بدأت تلتهمه بنهم، صحيح أنه لم يكن هناك غذاء كافٍ في هذا املكان، لكن<br />
هذا الطعام البسيط سوف يساعدها على البقاء حية حتى يلتئم الجرح الذي<br />
سببه لها النمر، ومن ثم تتمكن من البحث عن الغذاء بنفسها من جديد.<br />
وأشرق البدر فوق الوادي، وهبت ريح من الجبال البعيدة، ومن املتوقع<br />
أن يكون الجو باردًا جدٍّا في تلك الليلة، لكن البرد مثل الجوع لم يكن يشغل<br />
بالهم كثريًا؛ فهو ليس إلا جزءًا من خلفية حياتهم.<br />
ولم يتحرك مون ووتشر عندما سمع صدى صرخات تأتي من أحد<br />
الكهوف املنخفضة، ولم يكن في حاجة لأن يسمع دمدمة النمر من وقت<br />
لآخر كي يعرف ما كان يحدث بالضبط. فهناك في الظلام كان «وايت هري»<br />
العجوز وأسرته يحاربون ويموتون، ولم يخطر ببال مون ووتشر قط أنه<br />
38
الطريق إلى الانقراض<br />
ربما أمكنه مساعدتهم بطريقة ما؛ فمنطق البقاء الذي يهيمن عليهم تمامًا<br />
أدى إلى استبعاد هذه الرغبة، ولم يرتفع أي صوت من جانب التل ليعبر<br />
عن اعتراضه على ما يحدث، كان الصمت يلف جميع الكهوف، خشية أن<br />
تحدث كارثة بها هي الأخرى.<br />
وانتهت الجلبة، وأصبح مون ووتشر الآن يسمع صوت جسد يُجر فوق<br />
الصخور، ولم يستمر ذلك سوى ثوان معدودة، ثم أحكم النمر قبضته على<br />
فريسته، ولم تصدر أي ضوضاء بعد ذلك حيث سار في صمت بعيدًا، حامًلا<br />
ضحيته بلا عناء بني فكيه.<br />
ولم يكن هناك مزيد من الأخطار بعد ذلك بيوم أو يومني، لكن ربما<br />
كان هناك أعداء آخرون في الخارج يستغلون هذه الشمس الصغرية الباردة<br />
(القمر) التي لا تشرق إلا في الليل، فإذا كان هناك تحذير كافٍ فإن الضواري<br />
الأصغر حجما قد تبتعد خوفًا، نتيجة الصياح والصراخ. زحف مون ووتشر<br />
ليخرج من الكهف وتسلق بجهد صخرة ضخمة بجانب املدخل، وجثم فوقها<br />
يتأمل الوادي.<br />
من بني جميع املخلوقات التي كانت تسري على الأرض، الإنسان القرد<br />
هو أول الكائنات الحية التي تأملت القمر باهتمام، ولم يكن بمقدور مون<br />
ووتشر أن يتذكر الوقت الذي كان فيه صغريًا جدٍّا وهو يشب محاولاً الوصول<br />
إلى القمر، وملس هذا الوجه الشبحي املشرق فوق التلال.<br />
ولم ينجح قط في ذلك، والآن أصبح كبريًا لدرجة تمكنه من فهم السبب؛<br />
فيجب بالطبع أن يجد شجرة عالية علوٍّا كافيًا للصعود إليه.<br />
أحيانًا كان يراقب الوادي وأحيانًا أخرى يراقب القمر، لكنه دائمًا<br />
ينصت. ربما يغلبه النعاس مرة أو مرتني، لكنه ينام نومًا خفيفًا لدرجة<br />
أن أقل شيء يمكن أن يوقظه وأضعف صوت يمكن أن يزعجه. وفي سن<br />
الخامسة والعشرين لا يزال يتمتع بجميع قواه، وإذا حالفه الحظ وتجنب<br />
الحوادث والأمراض والحيوانات املفترسة واملجاعة، فإنه قد يعيش عشر<br />
سنوات أخرى.<br />
وانقضى الليل صافيًا وباردًا من غري مزيد من الأخطار، وارتفع القمر<br />
ببطء وسط الأبراج الاستوائية التي لم ترها عني إنسان قط، وفي الكهوف،<br />
39
٢٠٠١: ملحمة الفضاء<br />
وبني فترات متقطعة وغري منتظمة من الغفوة والانتظار خوفًا، بدأت كوابيس<br />
الأجيال التي ستأتي لاحقًا.<br />
ومرت نقطة ضوء متألقة أكثر تلألؤًا من أي نجم، مرت مرتني ببطء<br />
عبر السماء، صاعدة إلى ذروتها ومنحدرة نحو الشرق.<br />
40
الفصل الثاني<br />
الصخرة الجديدة<br />
في وقت متأخر من تلك الليلة استيقظ مون ووتشر فجأة، فبعد يوم مليء<br />
بالعناء والكوارث نام نومًا عميقًا أكثر من املعتاد، ومع ذلك انتبه على الفور<br />
مع أول صوت خافت في الوادي.<br />
جلس مون ووتشر وسط ظلام الكهف الحالك، مجهدًا حواسه في ذلك<br />
الليل، وتسرب الخوف إلى نفسه. لم يحدث في حياته قط أن سمع صوتًا<br />
كهذا؛ فالسنوريات العملاقة تقترب في صمت، والشيء الوحيد الذي يكشف<br />
اقترابها هو انزلاق أرضي نادرًا ما يحدث أو انكسار غصن صغري من وقت<br />
لآخر، لكن هذا الصوت كان متصلاً ، ويزداد علوٍّا، فهناك حيوان ضخم<br />
يتحرك على ما يبدو في ظلام الليل، دون أي محاولة للتخفي، متجاهلاً<br />
جميع العوائق. سمع مون ووتشر صوت اقتلاع شجرية، وكانت الفيلة كثريًا<br />
ما تفعل ذلك، لكنها بخلاف ذلك كانت تتحرك في صمت كالسنوريات.<br />
ثم أتى صوت لم يستطع مون ووتشر التعرف عليه، لأنه صوت لم<br />
يُسمع من قبل في تاريخ العالم؛ إنه صوت قعقعة معدن على سطح صخرة.<br />
أتى مون ووتشر إلى الصخرة الجديدة عندما قاد قبيلته إلى النهر مع طلوع<br />
أول شعاع للشمس، وقد تلاشت مخاوف الليلة املاضية تقريبًا، لأنه لم يحدث<br />
أي شيء بعد سماعه هذا الصوت، ولذلك لم يربط هذا الشيء الغريب بأي<br />
خطر أو خوف، وعلى أي حال لا يوجد أي شيء يدعو للانزعاج.<br />
كانت الصخرة مستطيلة الشكل يبلغ ارتفاعها ثلاثة أضعاف طول<br />
مون ووتشر لكن عرضها ضيق بحيث يمكنه أن يلفها بذراعيه، وهي من
٢٠٠١: ملحمة الفضاء<br />
مادة شفافة؛ في الحقيقة لا يمكن رؤيتها بسهولة إلا عندما تسطع الشمس<br />
على حوافها. وحيث إن مون ووتشر لم ير جليدًا من قبل أو حتى مياهً ا<br />
صافية، فلم يكن هناك أي شيء في الطبيعة يمكن مقارنته بهذه الصخرة<br />
الغريبة، وهي جذابة ومع أنه يتوخى الحذر من معظم الأشياء الجديدة<br />
فلم يتردد طويلاً في السري بجانبها، وحينما لم يحدث شيء وضع يده عليها<br />
وتحسس سطحها البارد الذي يتميز بالخشونة.<br />
وبعد عدة دقائق من التفكري العميق توصل إلى تفسري رائع، وهو أن<br />
هذا الجسم صخرة نمت أثناء الليل؛ فنباتات كثرية تحيط به تفعل نفس<br />
الشيء، وهناك أشياء لبية بيضاء تشبه في الشكل البلورات الصخرية وتنمو<br />
على ما يبدو خلال ساعات الظلام. صحيح أنها كانت صغرية ومستديرة، في<br />
حني هذه الصخرة الغريبة ضخمة وحادة الحواف؛ لكن فلاسفة أكبر جاءوا<br />
من بعد مون ووتشر كانوا على استعداد للتغاضي عن استثناءات مماثلة<br />
لفتت انتباههم في نظرياتهم.<br />
وتفكريه املجرد هذا قاده بعد ثلاث أو أربع دقائق فقط إلى استنتاج<br />
اختبره على الفور؛ فالنباتات البلورية املستديرة البيضاء لذيذة املذاق جدٍّا<br />
(بالرغم من أن القليل منها يسبب مرضً ا شديدًا)؛ فربما تكون هذه الصخرة<br />
لذيذة املذاق أيضً ا.<br />
وبعد لعقها مرات عديدة ومحاولة قضم جزء منها، سرعان ما ازدادت<br />
خيبة أمله، فهي لا تصلح لغذائه ومن ثم توصل إلى أنه من الحكمة أن<br />
يمضي في طريقه نحو النهر، ونسي كل شيء عن هذه الصخرة البلورية أثناء<br />
صياحه اليومي املعتاد في وجه الآخرين.<br />
كان جمع الطعام في هذا اليوم صعبًا جدٍّا، واضطرت القافلة للسفر<br />
ملسافات تبعد عن كهوفها أميالاً عديدة للعثور على أي طعام. وأثناء حر<br />
الظهرية الذي لا يرحم سقطت إحدى الإناث الضعيفات، بعيدًا عن أي مأوى،<br />
وتجمع رفاقها حولها، وأخذوا يثرثرون ويتمتمون متعاطفني معها، لكن لم<br />
يكن بأيديهم حيلة، ولو أنهم كانوا أقل تعبًا لحملوها معهم، لكن لم يكن<br />
لديهم طاقة إضافية للعطف عليها، فتركوها خلفهم لتتعافى أو لا تتعافى.<br />
ومروا على نفس البقعة في طريق عودتهم إلى كهوفهم هذا املساء دون<br />
أن يروا عظمة واحدة بها.<br />
42
الصخرة الجديدة<br />
ومع غروب الشمس نظروا في قلق إلى من سبقوهم من الصيادين،<br />
وشربوا بسرعة من جدول املاء وبدءوا في الصعود إلى كهوفهم. إنهم لا يزالون<br />
على بعد مائة ياردة من «الصخرة الجديدة» عندما بدأ الصوت ينبعث.<br />
ومع أنهم لم يسمعوا هذا الصوت بوضوح فإنهم تجمدوا في أماكنهم<br />
وأصيبوا بحالة من الشلل وهم في طريقهم، وانطلقت من البلورة ذبذبة<br />
بسيطة متكررة على نحو يصيب بالجنون، واستحوذت على ألباب جميع<br />
من كانوا في نطاق تأثريها، وللمرة الأولى — والأخرية على مدار ثلاثة ملايني<br />
عام — سُ مع صوت الطبول في أفريقيا.<br />
وازداد صوت الطبول علوٍّا وإلحاحًا، وبدأ البشر أشباه القردة في<br />
التحرك نحو مصدر هذا الصوت القهري وكأنهم يسريون نائمني. في بعض<br />
الأحيان كانوا يخطون خطوات يشوبها شيء من الرقص حيث استجابت<br />
دماؤهم لإيقاعات لم تبتكرها ذرياتهم بعد، وتجمعوا وهم في قمة الانبهار<br />
حول الصخرة، ناسني كل الصعاب التي واجهوها في يومهم وجميع مخاطر<br />
الظلام الذي أوشك أن يحل والجوع الذي يقطع بطونهم.<br />
وازداد الصوت ارتفاعًا والليل ظلامًا، وبينما امتدت الظلال وتلاشى<br />
الضوء من السماء بدأت البلورة تتوهج.<br />
في البداية فقدت البلورة شفافيتها، وظهرت فيها أشباح باهتة في<br />
تلألؤها، لبنية اللون وغري واضحة املعالم، وأخذت تلك الأشباح تتحرك عبر<br />
سطح البلورة وفي أعماقها، وكانت تتحد في صورة خطوط من الضوء والظل،<br />
ثم صنعت عجلات من الضوء بدأت تدور ببطء.<br />
وبدأت تزداد سرعة دوران عجلات الضوء ويزداد معها إيقاع الطبول،<br />
وبعد أن أصبحوا خاضعني تمامًا لتأثريها لم يملك البشر أشباه القردة<br />
سوى التحديق بأنظارهم وهم مشدوهون من هذا العرض املذهل. لقد نسوا<br />
بالفعل غرائز أسلافهم ودروس الحياة؛ فلم يحدث من قبل أن ابتعد أحد<br />
منهم عن كهفه كل هذه املسافة في هذا الوقت املتأخر من املساء، وأصبح<br />
الدغل املحيط مليئًا بالأشكال املتجمدة والعيون املحدقة، وأوقفت الكائنات<br />
الليلية نشاطها لتراقب ما سيحدث.<br />
ثم بدأت تتحد عجلات الضوء التي تدور، واندمجت الخيوط في صورة<br />
أشرطة مضيئة أخذت تتقلص مبتعدة، وهي تدور حول محاورها، وانشطرت<br />
43
٢٠٠١: ملحمة الفضاء<br />
إلى ثنائيات وبدأت املجموعات الناتجة من الخطوط تتقاطع بعضها مع<br />
بعض مغرية زوايا تقاطعها ببطء، وأخذت أشكال هندسية مذهلة وسريعة<br />
الزوال في الظهور والاختفاء بينما كانت تنعقد وتنحل الشبكات املتوهجة،<br />
والبشر القردة في حالة ذهول مفتونني بالبلورة املتوهجة.<br />
ولم يكن يخطر ببالهم قط أن عقولهم تُسْ برَ أغوارُها وأجسادهم تُصور<br />
بدقة وردود أفعالهم تُدرس بعناية وقدراتهم تُقيم عن كثب. في البداية ظلت<br />
القبيلة بأكملها جالسة في مشهد ساكن وكأن أفرادها صاروا أصنامًا، ثم<br />
دبت الروح فجأة في أقربهم إلى الصخرة البلورية.<br />
إنه لم يتحرك من موضعه، لكن جسده فقد حالة التصلب ورُدت إليه<br />
الحياة بعد أن كان مثل الدمية التي تسيطر عليها خيوط خفية، وحرك<br />
رأسه يمنة ويسرة وفتح فمه وأغلقه في صمت، وطبق يديه ثم فتحهما،<br />
وانحنى بعد ذلك لينتزع عودًا طويلاً من العشب محاولاً تشبيكه في عقدة<br />
بأصابعه التي تفتقر إلى البراعة.<br />
وأصبح يبدو كأنما استحوذت عليه روح أو عفريت يحاول جاهدًا<br />
مقاومته، كان يلهث وعيناه مملوءتان بالرعب محاولاً إجبار أصابعه على<br />
إحداث حركات أكثر تعقيدًا من أي حركات حاولت القيام بها من قبل.<br />
وبالرغم من جميع جهوده فلم يفلح إلا في كسر العود إلى أجزاء، وبينما<br />
سقطت هذه الأجزاء على الأرض تركته القوة املؤثرة املسيطرة عليه، وتجمد<br />
من جديد بلا حراك.<br />
وعادت الروح إلى آخر وفعل نفس الشيء، لكنه كان في هذه املرة أصغر<br />
سنٍّا وأكثر تكيفًا، فقد نجح فيما فشل فيه من يكبره سنٍّا، ورُبطت عقدة<br />
بسيطة لأول مرة على سطح كوكب الأرض.<br />
أما الآخرون ففعلوا أشياء أغرب وبلا هدف؛ فقد مد بعضهم أذرعهم<br />
محاولني ملامسة أطراف أصابع من بجوارهم وأعينهم مفتوحة في البداية<br />
ثم بإغماض واحدة وفتح الأخرى، وأخذ بعضهم يحدق بعينيه في الأشكال<br />
املوجهة في البلورة التي أصبحت أكثر انقسامًا إلى أن التحمت الخطوط<br />
لتصبح غري واضحة املعالم، وسمع الجميع أصواتًا منفردة ذات درجات<br />
متفاوتة سرعان ما أصبحت دون مستوى السمع.<br />
44
الصخرة الجديدة<br />
وعندما جاء دور مون ووتشر لم ينتبه سوى قليل جدٍّا من الخوف،<br />
وكان يشعر بشيء من الاستياء حينما تتحرك عضلاته وأطرافه استجابة<br />
لأوامر تخرج تمامًا عن نطاق إرادته، وانحنى مون ووتشر والتقط حجرًا<br />
صغريًا دون أن يعلم سببًا لذلك، وعندما انتصب قائمًا رأى صورة جديدة<br />
في الصخرة البلورية.<br />
وتلاشت الشبكات والأشكال املتحركة الراقصة، وظهر بدًلا منها مجموعة<br />
من الدوائر متحدة املركز، محيطة بقرص أسود صغري.<br />
وإذعانًا للأوامر الصامتة في عقله، وبطريقة خرقاء، رفع ذراعه أعلى<br />
كتفيه وألقى بالحجر، ولم يصب الهدف لكنه اقترب منه بعدة أقدام.<br />
وصدر إليه الأمر باملحاولة من جديد، ونظر حوله فوجد حجرًا آخر،<br />
وفي هذه املرة أصاب الصخرة البلورية وأحدث صوتًا يشبه دقات الجرس،<br />
وكان لا يزال بعيدًا عن الهدف، لكنه أحرز تحسنًا.<br />
وفي املحاولة الرابعة لم يبعد عن مركز الهدف سوى عدة بوصات،<br />
وسرى في عقله شعور لا يوصف بالاستمتاع والسعادة، شعور يشبه الشعور<br />
الجنسي في توهجه، ثم هدأت السيطرة ولم يعد يشعر بدافع نحو القيام<br />
بأي شيء سوى الوقوف والانتظار.<br />
واستُحوِذ على جميع أعضاء القبيلة واحدًا تلو الآخر لفترة وجيزة،<br />
ونجح بعضهم، لكن أغلبهم باء بالفشل في املهام التي أُمروا بها، وجميعهم<br />
أُثيبوا بنشوة الاستمتاع أو الألم.<br />
وبعد ذلك لم يكن هناك سوى توهج هادئ ومتسق في الصخرة العظيمة،<br />
بحيث بدت كما لو كانت كتلة من الضوء تضيء ما حولهم من ظلام، وكما<br />
لو كانوا قد استيقظوا من نومهم، هز البشر أشباه القردة رءوسهم، وبدءوا<br />
في التحرك على الطريق الذي يوصلهم إلى مأواهم، ولم يلتفتوا وراءهم، أو<br />
يتساءلوا عن الضوء العجيب الذي يوجههم نحو كهوفهم ويرشدهم إلى<br />
مستقبل لم يزل مجهولاً حتى للنجوم.<br />
45
الفصل الثالث<br />
الأكاديمية<br />
لم يتذكر مون ووتشر ورفاقه شيئًا عما رأوه، بعد أن توقفت الصخرة<br />
البلورية عن التأثري املغناطيسي على عقولهم وعن إجراء التجارب باستخدام<br />
أجسادهم، وفي اليوم التالي، حينما خرجوا للبحث عن الغذاء مروا بها دون<br />
أن يعيدوا التفكري بشأنها؛ فقد أصبحت جزءًا من خلفية حياتهم فقط، فهم<br />
لم يستطيعوا أكلها، وهي لم تستطع التهامهم، ولذلك لم تكن تمثل أهمية<br />
لهم.<br />
وعند النهر وجه الآخرون بتهديداتهم املعتادة التي لا جدوى منها،<br />
وزعيمهم لا يملك سوى أذن واحدة وهو في نفس حجم مون ووتشر وسنه،<br />
لكنه أسوأ حالاً ، وقد هم بغزوة خاطفة نحو أرض القبيلة، وصرخ بصوت<br />
مرتفع ملوحًا بذراعيه في محاولة لترويع املعارضة وتعزيز شجاعته. ولم<br />
يكن عمق مياه الجدول يزيد على قدم، لكن كلما تقدم الزعيم وحيد الأذن<br />
في تلك املياه أصبح أكثر ترددًا وتعاسة، وسرعان ما توقف ثم تحرك عائدًا<br />
بكرامته املبالغ فيها ليلحق برفاقه.<br />
وخلاف ذلك لم يكن هناك أي تغيري في الروتني املعتاد، وجمعت القبيلة<br />
غذاء يكفيها لتستمر حياتها يومًا جديدًا دون أن يموت أحد من أفرادها.<br />
وفي تلك الليلة كانت الصخرة البلورية لا تزال تنتظر، محاطة بهالتها<br />
النابضة من الضوء والصوت، لكن البرنامج الذي ابتكرته هذه املرة كان<br />
مختلفًا اختلافًا دقيقًا ومميزًا.<br />
فقد تجاهلت الصخرة بعض البشر أشباه القردة تجاهلاً تامٍّا كما لو<br />
كانت تركز على أفضل العناصر الواعدة. من بني هؤلاء مون ووتشر؛ فقد
٢٠٠١: ملحمة الفضاء<br />
شعر من جديد بمحاليق فضولية تتسلل عبر مسارات غري معتادة في مخه،<br />
وبدأ مون ووتشر يتخيل بعض املشاهد.<br />
ربما كانت موجودة في الصخرة البلورية؛ أو ربما كامنة في عقله، وعلى<br />
أي حال هذه املشاهد واقعية تماما بالنسبة له، بيد أن الدافع التلقائي<br />
املعتاد لإبعاد الغزاة عن منطقته كان يهدأ بطريقة ما.<br />
لقد رأى أسرة مساملة تختلف عما ألفه في شيء واحد؛ فالرجل واملرأة<br />
والطفلان الذين ظهروا بصورة غامضة أمامه كانوا متخمني وبدناء بجلود<br />
ملساء ولامعة، وهذه صورة حياتية لم يكن يتخيلها مون ووتشر قط،<br />
وبصورة لا شعورية تحسس ضلوعه الناتئة، كانت ضلوع هذه املخلوقات<br />
مخبوءة تحت شحومهم، ويتحركون حركة بطيئة من آن لآخر وهم يجلسون<br />
في حالة من الاسترخاء بالقرب من مدخل الكهف، ويبدو عليهم أنهم في<br />
حالة سلام مع العالم، وبني الفينة والأخرى يتجشأ الرجل الضخم تجشؤًا<br />
يدل على اطمئنانه.<br />
ولم يكن هناك أي نشاط آخر، وبعد خمس دقائق اختفى املشهد فجأة،<br />
وأصبحت البلورة مجرد شكل مضيء ومتألق وسط الظلام، وانتفض مون<br />
ووتشر كما لو كان قد استيقظ من حلم، وأدرك فجأة املكان الذي يوجد<br />
فيه، وقاد القبيلة عائدًا إلى الكهوف.<br />
ولم يتذكر مون ووتشر أي شيء مما رآه، لكنه في تلك الليلة، وهو<br />
جالس في مدخل الكهف يفكر انسجمت أذناه مع أصوات العالم من حوله.<br />
شعر مون ووتشر بأول وخزات ضعيفة لعاطفة جديدة وقوية، وانتابه<br />
شعور غامض بالحسد وعدم الرضا عن حياته، ولم يكن لديه فكرة عن<br />
سبب هذا الشعور، كما لم يكن يعلم شيئًا عن علاجه، لكن الشعور بعدم<br />
الرضا تسلل إلى نفسه، وبذلك خطا خطوة صغرية نحو الإنسانية.<br />
وبتعاقب الليالي تكرر مشهد هؤلاء الأربعة البدناء من أشباه القردة،<br />
إلى أن أصبح ذلك الأمر بمنزلة مصدر سخط سيطر على مون ووتشر وزاد<br />
من جوعه الدائم املؤلم. وما شاهده بعينيه لم يكن كافيًا لإحداث هذا التأثري<br />
الذي تطلب تعزيزًا سلوكيٍّا؛ فقد ظهرت فجوات في حياة مون ووتشر لن<br />
يتذكرها أبدًا، وذلك عندما تغريت طبيعة ذرات مخه البسيط لتشكل أنماطًا<br />
48
الأكاديمية<br />
جديدة، فإذا ظل على قيد الحياة فإن هذه الأنماط ستصبح أبدية، حيث<br />
ستُنقل عن طريق جيناته الوراثية إلى الأجيال املستقبلية.<br />
كان أمرًا بطيئًا ومملاٍّ ، لكن الصخرة البلورية كانت صبورة، فلم تتوقع<br />
هذه الصخرة أو أي من مثيلاتها من الصخور املبعثرة في أرجاء نصف<br />
الكون أن تحقق نجاحًا مع هذا العدد الهائل من املجموعات التي تُجري<br />
عليها التجربة، وتكرار الفشل مائة مرة أمر لا يهم، ما دام نجاح واحد من<br />
شأنه أن يغري مصري العالم.<br />
ومع ظهور الهلال الجديد شهدت القبيلة ميلاد طفل ووفاة شخصني؛<br />
أحدهما بسبب الجوع أما الوفاة الأخرى فقد حدثت أثناء الطقوس الليلية أمام<br />
الصخرة البلورية، عندما انهار شخص فجأة وهو يحاول ضرب قطعتني من<br />
الحجر ضربًا خفيفًا إحداهما بالأخرى، وأظلمت البلورة في الحال، وتحررت<br />
القبيلة من تأثريها، لكن الشخص الذي سقط لم يتحرك، وبحلول الصباح<br />
كانت الحيوانات الضارية قد التهمت جسده.<br />
ولم تقدم البلورة عرضً ا في الليلة التالية، فلا تزال تحلل خطأها. ومرت<br />
القبيلة بالصخرة وقت املساء متجاهلة وجودها تجاهلاً تامٍّا. وفي الليلة<br />
الثالثة استعدت الصخرة لهم من جديد.<br />
وكان الأربعة البدناء لا يزالون هناك، وأخذوا يفعلون أشياء فوق العادة،<br />
وبدأ مون ووتشر يرتجف بصورة لا إرادية، وشعر بأن عقله سينفجر وأراد<br />
أن يصرف بصره، لكن هذه السيطرة العقلية التي لا تعرف هوادة ولم<br />
تحرره من قبضتها، وأُجبر على متابعة الدرس حتى نهايته، مع أن جميع<br />
غرائزه كانت ترفضه.<br />
فهذه الغرائز كانت مفيدة جدٍّا لأسلافه، أيام الأمطار الدفيئة والخصوبة<br />
والنماء، عندما كان الهدف الرئيسي هو جمع الطعام من كل مكان، أما الآن<br />
فقد تغريت الظروف وأصبحت الحكمة املوروثة من املاضي حماقة؛ فالبشر<br />
أشباه القردة عليهم الآن أن يتكيفوا أو يموتوا مثل الوحوش التي انقرضت<br />
ولا تزال عظامها محفوظة في التلال الجريية.<br />
وبدأ مون ووتشر التحديق في الصخرة البلورية دون أن تطرف عيناه،<br />
وعقله خاضع تمامًا لتلاعبات الصخرة الغامضة، وكثريًا ما شعر بالغثيان،<br />
49
٢٠٠١: ملحمة الفضاء<br />
أما شعوره بالجوع فهو دائمًا؛ ومن وقت لآخر تتشابك يداه لا شعوريٍّا<br />
بأشكال سوف تحدد أسلوبه الجديد في الحياة.<br />
وبينما تحرك قطيع من الخنازير على طول الطريق وهي تنخر توقف<br />
مون ووتشر فجأة، كانت الخنازير والبشر أشباه القردة دائمًا يتجاهل<br />
بعضهم بعضً ا لأنه لم يكن هناك أي صراع مصالح بني الجانبني، ومثل<br />
معظم الحيوانات التي لم تكن تتنافس على نفس الغذاء، لم يعترض أي<br />
من الطرفني طريق الآخر.<br />
لكن مون ووتشر وقف ينظر إلى الخنازير هذه املرة مترنحًا للأمام<br />
وللخلف في حالة من التردد حيث كان يخضع لتأثري قوى لم يستطع فهمها،<br />
وبعدها، وكما لو كان في حلم، بدأ يفتش في الأرض، ولم يكن باستطاعته<br />
أن يفسر علة ذلك، حتى وإن ملك القدرة على الكلام، وسيعرف الشيء الذي<br />
يبحث عنه عندما يراه.<br />
ولم يكن هذا الشيء إلا حجرًا مدببًا ثقيلاً يبلغ طوله ست بوصات،<br />
بداية لم يناسب هذا الحجر يده تمامًا، لكنه عندما وضع يده عليه وهو في<br />
حالة ذهول لزيادة وزنها فجأة انتابه شعور ممتع بالقوة والسيطرة، وبدأ<br />
يتحرك نحو أقرب خنزير.<br />
كان هذا الخنزير صغريًا وأحمق حتى بمقاييس الذكاء العادية للخنازير،<br />
ومع أنه ملح مون ووتشر بطرف عينه فلم يأخذ الأمر بجدية إلا بعد فوات<br />
الأوان، فما الذي يدعوه للظن أن هذه املخلوقات املساملة لديها نوايا سيئة؟<br />
واستمر في اقتلاع العشب إلى أن طمس مون ووتشر وعيه الخافت بحجره<br />
املدبب، أما بقية القطيع فقد استمروا في تناول العشب دون انزعاج، حيث<br />
إن عملية القتل تمت بسرعة خاطفة وفي هدوء.<br />
ووقف باقي أفراد القبيلة يراقبون ما يحدث، واحتشدوا حول مون<br />
ووتشر وضحيته في إعجاب شديد، ثم التقط أحدهم السلاح امللطخ بالدماء<br />
وبدأ يسدد ضربات إلى الخنزير امليت، وانضم إليه آخرون بعصي وأحجار<br />
استطاعوا جمعها إلى أن بدأت الضحية تتفسخ بصورة مقززة.<br />
ثم أصابهم امللل، فابتعد بعضهم ووقف البعض الآخر في حالة من<br />
التردد حول الجثة مطموسة املعالم، وكان مستقبل عالم ينتظر قرارهم،<br />
50
الأكاديمية<br />
ومضى وقت طويل يثري الدهشة حتى بدأت إحدى الإناث في لعق الحجر<br />
امللطخ بالدماء التي كانت تحمله في يديها.<br />
ومضى وقت أطول بالرغم من كل ما رآه مون ووتشر حتى فهم أنه<br />
لن يجوع أبدًا بعد ذلك.<br />
51
الفصل الرابع<br />
النمر<br />
كانت الأدوات التي بُرْمِجوا على استخدامها بسيطة، ومع ذلك فبإمكانها<br />
تغيري هذا العالم وجعل البشر أشباه القردة أسيادًا له، وكان الحجر أبسط<br />
هذه الأدوات، وقوته تزيد على قوة الضرب باليد عدة أضعاف، ثم كان<br />
النبوت العظمي الذي مكنهم من الوصول إلى مسافة أبعد وحماهم من<br />
أنياب الحيوانات الغاضبة أو مخالبها، وبهذه الأسلحة أصبح الغذاء املنتشر<br />
في أرجاء السافانا ملكًا لهم.<br />
لكنهم كانوا في حاجة إلى أدوات أخرى مساعدة، حيث إن أسنانهم<br />
وأظافرهم لم تكن تقوى على تقطيع أي شيء أكبر حجمًا من الأرنب، ولحسن<br />
الحظ فإن الطبيعة أمدتهم بأدوات مناسبة تمامًا لا تحتاج منهم سوى<br />
التفكري في التقاطها.<br />
فهناك سكني أو منشار بسيط وعالي الكفاءة، اشتُق منه السكني الذي<br />
سيؤدي مهمته بفعالية طيلة الثلاثة ملايني عام التالية، وهذا السكني هو<br />
عظم الفك السفلي للبقر الوحشي مع إبقاء الأسنان في مكانها، ولم يحدث<br />
تطوير كبري لها إلى أن ظهر الصلب. ثم كان هناك خنجر في صورة قرن<br />
غزال، وأخريًا مكشط مصنوع من الفك الكامل لأي حيوان صغري.<br />
النبوت الصخري واملنشار املسنن والخنجر القرني واملكشط العظمي؛<br />
تلك كانت الاختراعات املذهلة التي احتاج إليها الإنسان القرد كي يبقى<br />
على قيد الحياة، وسرعان ما سيدرك أن هذه الأدوات ترمز إلى القوة، لكن<br />
الأمر يتطلب شهورًا عديدة قبل أن تكتسب أصابعه الخرقاء املهارة — أو<br />
الإرادة — لاستخدامها.
٢٠٠١: ملحمة الفضاء<br />
وربما بمرور الوقت يمكن أن يتوصلوا بجهودهم إلى فكرة رائعة<br />
ومبهرة وهي استخدام الأسلحة الطبيعية كأدوات صناعية، لكن الاحتمالات<br />
كافة كانت ضدهم، بل إنه حتى في ذلك الوقت احتمالات الفشل في العصور<br />
التي تنتظرهم لا نهاية لها.<br />
لقد مُنح الإنسان القرد فرصته الأولى، وربما لا تكون هناك فرصة<br />
ثانية، واملستقبل أصبح بني يديه.<br />
فالأقمار تنمو وتتلاشى، والأطفال يُولدون ويعيشون أحيانًا، ومن هم في سن<br />
الثلاثني يصيبهم الوهن وتسقط أسنانهم، والنمر يحصل على نصيبه منهم<br />
في الليل، والآخرون يهددونهم كل يوم عند النهر، ومع ذلك فإن القبيلة<br />
تزدهر، فخلال عام واحد حدث تغيري مذهل ملون ووتشر ورفاقه.<br />
لقد استوعبوا الدرس جيدا، والآن أصبح بإمكانهم التعامل مع كل<br />
الأدوات التي كُشفت لهم، وبدأت ذكريات الجوع تتلاشى من أذهانهم، ومع<br />
أن الخنازير أصبحت أقل عددًا فهناك آلاف لا تحصى من الغزلان والظباء<br />
والحمر الوحشية على السهول، كل هذه الحيوانات وغريها سقطت فريسة<br />
للصيادين املبتدئني.<br />
وحيث إنهم الآن تخلصوا من تأثري الجوع فقد أصبح لديهم الوقت<br />
للراحة وأساسيات التفكري، وأسلوب حياتهم الجديد أصبح الآن مقبولاً ،<br />
ولم يربطوا مطلقًا بينه وبني الصخرة التي لم تزل قائمة بجانب الطريق<br />
املوصل إلى النهر، ولو أنهم توقفوا للتفكري في الأمر ربما شعروا بالفخر<br />
أنهم استطاعوا بجهودهم أن يحسنوا من أوضاعهم، في حقيقة الأمر لقد<br />
نسوا بالفعل أي أسلوب آخر للحياة.<br />
لكن ليس هناك عالم مثالي، وعاملهم هذا يعيبه شيئان؛ أولهما النمر<br />
املغري الذي يزداد ولعًا بالبشر أشباه القردة خاصة وبعد أن أصبحت<br />
أجسادهم أفضل حالاً بفعل التغذية الجيدة، أما الشيء الثاني فتلك القبيلة<br />
التي تقف على جانب من النهر، فبكيفية ما استطاع الآخرون أن يبقوا أحياء<br />
وأبوا في عناد أن يموتوا جوعًا.<br />
54
النمر<br />
جزء من مشكلة النمر حُل عن طريق الصدفة والجزء الآخر عن طريق<br />
خطأ فادح — ومميت — من جانب مون ووتشر، ومع ذلك فإن فكرته بدت<br />
رائعة لدرجة أنه رقص فرحًا، وربما لم يجد لومًا على تجاهله للعواقب.<br />
كانت القبيلة لا تزال تواجه أيامًا سيئة من وقت لآخر، بالرغم من<br />
أن هذه الأيام لم تعد تهدد بقاءها، فقبيل الغروب لم تنجح القبيلة في<br />
صيد قنيصة؛ وكانت الكهوف التي يسكنونها على مرمى البصر بينما مون<br />
ووتشر يقود رفاقه املتعبني والساخطني إلى مأواهم، وعلى مقربة من مداخل<br />
كهوفهم عثروا على هبة من هبات الطبيعة النادرة.<br />
فقد وجدوا ظبيًا كامل النمو يرقد بجانب الطريق، وساقه الأمامية<br />
مكسورة، لكن لا يزال يملك الرغبة في القتال، وقرونه التي تشبه الخناجر<br />
مكنته من إبعاد تلك املجموعة من حيوانات ابن آوى التي أحاطت به، وكان<br />
بإمكان هذه املجموعة الانتظار؛ فقد علموا أن كل ما يتعني عليهم هو إنفاق<br />
بعض الوقت.<br />
لكنهم نسوا املنافسة، ومن ثم انسحبوا وهم يزمجرون غاضبني عندما<br />
وصلت القبيلة. وأحاط أفراد القبيلة أيضا بالظبي وهم في حالة حذر،<br />
تاركني مسافة بينهم وبينه تكفي لتجنب قرونه الخطرية، ثم تحركوا<br />
ملهاجمته بالعصي الغليظة والأحجار.<br />
ولم يكن الهجوم فعالاً أو منظمًا بالدرجة الكافية، وبحلول الوقت<br />
الذي تلقى فيه هذا الحيوان التعيس الضربة القاضية كان الضوء قد زال<br />
تقريبًا، واستعادت حيوانات ابن آوى شجاعتها، وببطء أدرك مون ووتشر<br />
الذي كان ممزقًا بني الخوف والجوع أن كل هذا الجهد ربما يكون قد ضاع<br />
هباء؛ فقد أصبح املوقف خطريًا لا يحتمل بقاءه أكثر من ذلك.<br />
ثم أثبت عبقريته ليس للمرة الأولى ولن تكون الأخرية، وبإعمال خياله<br />
جيدًا تخيل الظبي امليت في أمان داخل كهفه، فبدأ يجره نحو سطح املنحدر،<br />
وفهم الآخرون ما يريده فبدءوا يساعدونه.<br />
ولو علم مشقة هذه املهمة ملا أقدم عليها قط، لكن بفضل قوته الهائلة<br />
وخفة الحركة التي ورثها عن أسلافه الذين كانوا يعيشون على الأشجار،<br />
تمكن من رفع الجثة على املنحدر الصخري. كم من مرة تخلى عن هدفه<br />
55
٢٠٠١: ملحمة الفضاء<br />
مبتئسً ا ومحبطًا، لكن عناده الراسخ وجوعه الشديد دفعاه لأن يواصل. وكان<br />
باقي أفراد القبيلة يساعدونه أحيانًا ويعوقونه كثريًا، لكنه حقق الهدف في<br />
نهاية الأمر؛ فقد جر الظبي امليت نحو مدخل الكهف، حني انقشعت تمامًا<br />
من السماء الآثار املتبقية من ضوء الشمس وبدأ وقت العِ شاء.<br />
وبعد ساعات استيقظ مون ووتشر وهو متخم من الشبع، ولم يعرف<br />
سببًا لاستيقاظه وقعد وسط الظلام بني أجسام رفاقه املمددة واملتخمة مثله،<br />
وأخذ يجهد أذنيه علها تلتقط شيئًا في الليل.<br />
ولم يسمع شيئًا سوى صوت الأنفاس الثقيلة لرفاقه من حوله؛ يبدو<br />
أن العالم بأكمله نائم، وكانت الصخور املوجودة وراء مدخل الكهف شاحبة<br />
مثل العظم، في ضوء القمر املشرق الذي ارتفع في السماء، وأي خطر مستبعد<br />
تمامًا من تفكريه.<br />
ومن بعيد أتاه صوت صخرة تسقط، وشعر مون ووتشر بالخوف<br />
وبالفضول أيضً ا، زحف خارج الكهف وأخذ يتأمل سطح املنحدر الصخري.<br />
ما رآه أصابه بالشلل التام من الرعب لدرجة أنه لم يستطع حراكًا<br />
لثوان طويلة؛ فعلى بعد عشرين قدمًا أسفل منه عينان تبرقان وتحدقان<br />
فيه تحديقًا مباشرًا، امتلأ مون ووتشر خوفًا لدرجة جعلته لا يدرك الجسد<br />
املخطط الرشيق الذي يحمل هاتني العينني ويتحرك بسلاسة وفي صمت من<br />
صخرة لأخرى. لم يحدث من قبل أن صعد النمر لهذا الارتفاع؛ فقد تجاهل<br />
الكهوف السفلية بالرغم من أنه يعرف جيدًا قاطنيها، الآن هو يتعقب طريدة<br />
أخرى، حيث يتتبع آثار الدماء على سطح املنحدر الذي أضاءه نور القمر.<br />
وما هي إلا ثوان حتى سيطر الرعب على تلك الليلة بسبب صرخات<br />
الإنذار ممن يقطنون الكهف العلوي، وأطلق النمر صيحة غاضبة حينما<br />
أدرك أنه فقد عنصر املفاجأة.<br />
ووصل إلى سطح كهف مون ووتشر، وتوقف برهة عند الفتحة الضيقة،<br />
كانت رائحة الدم منتشرة في كل مكان، مما زاد رغبته اشتعالاً ، وبدون تردد<br />
تقدم في صمت داخل الكهف.<br />
وهنا ارتكب خطأه الأول، لقد انتقل من ضوء القمر إلى ظلام الكهف<br />
فأصبحت عيناه للحظة في وضع غري مؤات، بالرغم من أنهما اعتادتا على<br />
56
النمر<br />
الظلام، واستطاع أفراد القبيلة رؤيته — وشيء من ظله منعكس عند فتحة<br />
الكهف — بوضوح أكثر من رؤيته لهم، وملأهم الخوف، لكنهم الآن أصبحوا<br />
غري عاجزين.<br />
وأخذ النمر يزمجر ويهز ذيله في ثقة وتعجرف، وتقدم باحثًا عن<br />
غذائه الذي يشتهيه. لو أنه قابل فريسته خارج الكهف ملا كانت هناك أي<br />
مشكلة، لكن أفراد القبيلة محتجزون الآن، واليأس منحهم الشجاعة في أن<br />
يجربوا املستحيل، ولأول مرة لديهم الوسيلة التي يحققونه بها.<br />
وعلم النمر أن هناك شيئًا ما غري طبيعي عندما أحس بضربة شديدة<br />
على رأسه، وسدد ضربة بكفه الأمامي وسمع صرخة ألم حينما شقت مخالبه<br />
لحمًا طريٍّا، ثم شعر بألم شديد حينما غُرست أداة حادة في خاصرته مرة<br />
ومرتني وثلاث مرات، وأخذ يندفع فجأة ليضرب الظلال التي تصرخ وترقص<br />
حوله من جميع الجوانب.<br />
ثم تلقى ضربة أخرى عنيفة على منخره، وأطبق فكيه فجأة على شيء<br />
أبيض ومتحرك وغري واضح املعالم؛ فقط ليكتشف أنه عظم ميت، ثم وفي<br />
إهانة أخرية ومذهلة جُر َّ بعنف من ذيله بواسطة الجذور.<br />
واندفع في جنون يصب جم غضبه على جدار الكهف، لكن بالرغم<br />
من كل ما فعله لم يستطع الهروب من وابل الضربات التي انهالت عليه<br />
بواسطة الأسلحة البسيطة التي تستخدمها أيادٍ قوية وإن كان ينقصها<br />
البراعة، وتحولت زمجرته من الألم إلى الانزعاج ثم إلى الرعب التام، وأصبح<br />
القناص العنيد هو الضحية الآن، فحاول في يأس الانسحاب.<br />
ثم ارتكب خطأه الثاني، حيث نسي املكان الذي يوجد فيه، في خضم<br />
ذهوله وخوفه، أو ربما أصيب بالدوار أو العمى نتيجة لوابل الضربات التي<br />
انهالت على رأسه، وأيا كان السبب فقد اندفع فجأة من الكهف، وأطلق<br />
صيحة ذعر حينما هوى في الفراغ. وبعد وقت طويل سُ مع صوت مكتوم<br />
عندما اصطدم ببروز في منتصف رحلة السقوط إلى أسفل املنحدر، وبعدها<br />
لم يُسمع سوى صوت انزلاق الأحجار السائبة، وسرعان ما اختفى هذا<br />
الصوت في سكون الليل.<br />
ووقف مون ووتشر يرقص لوقت طويل من نشوة الانتصار ويثرثر<br />
بكلام غري مفهوم عند مدخل الكهف، لقد شعر شعورًا حقيقيٍّا بأن العالم<br />
57
٢٠٠١: ملحمة الفضاء<br />
بأكمله قد تغري وأنه لم يصبح الآن ضحية عاجزة تخضع للقوى التي تحيط<br />
به.<br />
ثم عاد إلى الكهف وللمرة الأولى في حياته نام نومًا عميقًا في ليله.<br />
وفي الصباح وجدوا جثة النمر ملقاة عند سفح املنحدر، وحتى بعد موته لم<br />
يجرؤ أحد على الاقتراب من الوحش املقهور إلا بمرور بعض الوقت، وبعده<br />
أحاطوا به حاملني سكاكينهم ومناشريهم العظمية.<br />
لقد كان عملاً شاقٍّا للغاية، ولم يصطادوا هذا اليوم.<br />
58