12.07.2015 Views

83804715

83804715

83804715

SHOW MORE
SHOW LESS
  • No tags were found...

You also want an ePaper? Increase the reach of your titles

YUMPU automatically turns print PDFs into web optimized ePapers that Google loves.

جنة راما


جنة راماالجزء التالي لراما ٢تأليفآرثر كلارك وجنتري ليترجمةسمية ممدوح الشاميمراجعةإيمان جمال الدين الفرماوي


The Garden of RamaThe Sequel to Rama IIArthur C. Clarke and Gentry Leeجنة راماالجزء التالي لراما ٢آرثر كلارك وجنتري ليالطبعة الأولى ‎١٤٣١‎ھ-‏‎٢٠١٠‎مرقم إيداع ٢٠١٠/١١٣١٥جميع الحقوق محفوظة للناشر كلمات عربية للترجمة والنشر‏(شركة ذات مسئولية محدودة)‏كلمات عربية للترجمة والنشرإن كلمات عربية للترجمة والنشر غري مسئولة عن آراء املؤلف وأفكارهوإنما يعبرّ‏ الكتاب عن آراء مؤلفهمكتب رقم ٤، عقار رقم ٢١٩٠، زهراء مدينة نصر،‏ القاهرةجمهورية مصر العربيةتليفون:‏ +٢٠٢ ٢٢٧٢٧٤٣١ فاكس:‏ +٢٠٢ ٢٢٧٠٦٣٥١البريد الإليكتروني:‏ kalimatarabia@kalimatarabia.comاملوقع الإليكتروني:‏ http://www.kalimatarabia.comكلارك،‏ آرثرجنة راما / آرثر كلارك،‏ جنتري لي؛ تحقيق إيمان جمال الدين الفرماوي؛ ترجمة سمية ممدوحالشامي . - القاهرة : كلمات عربية للترجمة والنشر،‏ ٢٠١٠.‎٥٧٨‎ص،‏ ‎٢١,٠×١٤,٥‎سمتدمك:‏ ٩٧٨ ٩٧٧ ٦٢٦٣ ٥٥ ٠١- القصص الإنجليزيةأ-‏ العنوانالفرماوي،‏ إيمان جمال الدين ‏(محقق)‏الشامي،‏ سمية ممدوح ‏(مترجم)‏٨٢٢يمنع نسخ أو استعمال أي جزء من هذا الكتاب بأية وسيلة تصويرية أو إليكترونية أو ميكانيكية،‏ويشمل ذلك التصوير الفوتوغرافي والتسجيل على أشرطة أو أقراص مضغوطة أو استخدام أية وسيلةنشر أخرى،‏ بما في ذلك حفظ املعلومات واسترجاعها،‏ دون إذن خطي من الناشر.‏Arabic Language Translation Copyright © 2010 Kalimat ArabiaThe Garden of Rama © 1991 by Arthur C. Clarke and Gentry LeeAll Rights Reserved.


المحتويات7الجزء الأول:‏ مذكرات نيكول 141الجزء الثاني:‏ في النود 231الجزء الثالث:‏ مقابلة في املريخ 355الجزء الرابع:‏ أغنية الزفاف 473الجزء الخامس:‏ املحاكمة


الجزء الأولمذكرات نيكول


قالوا عن سلسلة روايات رامالآرثر كلارك وجنتري ليلقاء مع راماراما ٢‏«سيجد فيها كل شخص ما يهمه:‏ فهي تتناول السياسة والدينوكل ألوان العلوم في إطار من الغموض والتشويق.»‏بابليشرز ويكلي‏«رحلة فضاء يجب ألا تفوت أي قارئ.»‏بلاي بوي‏«تقدم سلسلة من املفاجآت واحدة تلو الأخرى.»‏ذا نيويورك تايمز‏«يضع كلارك ولي القارئ في لغز تلو الآخر،‏ ومفتاح لغزٍ‏ يعقبهآخر،‏ حتى يصل إلى نهاية يشعر عندها أنه يريد املزيد.»‏ذا فيلادلفيا إنكوايرر


جنة راماجنة راما‏«مزيج مدهش من العنصر البشري والتكنولوجيا،‏ يحلق عاليًا فيأسرار الكون،‏ ويغوص في أعماق الروح.»‏شيكاغو تريبيون‏«إنجاز حقيقي،‏ فرواية ‏«جنة راما»‏ فيها كل ما نتوقعه،‏ إذ نتعرفعلى سكان راما وأسرارهم بأسلوب خلاب.»‏الكشف عن رامالوكاس‏«نهاية أكثر من رائعة ملا قدم منذ ٢٠ عامًا ‏[في ‏«موعد مع راما»]‏فهذا عمل مبهر كبري الحجم يتناول أفكار مثل وجود الكائناتالفضائية واستكشاف البعد الروحي … لهذا صحب ملايني القراءاملؤلف في رحلته.»‏إنديانابولس ستار10


شكر وتقديرقدم الكثريون إسهامات جليلة لهذه الرواية،‏ وفي مقدمتهم — من حيثالتأثري العام — املحرر لو أرونيكا .Lou Aronica فقد شكلت التعليقاتالتي أدلى بها في البداية هيكل الرواية ككل،‏ وأسهمت مراجعته النهائية التيتميزت ببعد النظر في تعزيز انسيابية العمل تعزيزًا كبريًا.‏وكان صديقنا جريي سنايدر Gerry Snyder خري عون مرة أخرى،‏إذ تفضل بحل ما واجهنا من مشكلات فنية كبرُ‏ ت أم صغُرت.‏ وإن اتسمتالفقرات الطبية في الرواية بالدقة واملصداقية فالفضل في هذا يعود إلى دكتورجيم ويلرسون ،Jim Willerson أما إن ورد أي خطأ فيها فهو مسئوليةاملؤلفني وحدهما.‏ونحن في بداية كتابة هذا العمل،‏ حم َّل جيهي أكيتا Jihei Akitaنفسه عناء مساعدتنا في إيجاد املواقع املناسبة لأن تكون خلفية املشاهداليابانية،‏ ورحب ترحيبًا بالغًا بمناقشة كل ما يتعلق بعادات وطنه وتاريخهنقاشً‏ ا مستفيضً‏ ا.‏ وفي تايلاند كانت السيدة واتشاري مونفيبون WatchareeMonviboon مرشدًا ممتازًا أطلعنا على عجائب البلد.‏تتناول الرواية جوانب عديدة من حياة النساء بتفصيل شديد،‏ مثلمشاعرهن وطريقة تفكريهن.‏ على الدوام كانت بيبي باردن Bebe Bardenوستيسي لي Stacey Lee على استعداد للحديث معنا بشأن طبيعة املرأة،‏وأمدتنا السيدة بيبي بالأفكار املتعلقة بحياة وشعر بنيتا جارسيا Benita.Garcia


جنة راماوقدمت ستيسي إسهامات مباشرة كثرية في ‏«جنة راما»،‏ لكن الأهم هوما قدمته عن طيب خاطر من دعم لجهودنا.‏ أثناء كتابة الرواية وضعتستيسي ابنها الرابع ترافيس كلارك لي ،Travis Clarke Lee نشكرك ياستيسي كثريًا على كل ما قدمته.‏12


الفصل الأولالتاسع والعشرون من ديسمبر/كانون الأول عام ٢٢٠٠أول من أمس،‏ في الساعة العاشرة وأربع وأربعني دقيقة بتوقيت جرينتش،‏أطلت سيمون تياسو ويكفيلد على الكون.‏ إنها تجربة مذهلة.‏ كنت أعتقدأنني شعرت بمشاعر جياشة من قبل،‏ ولكن الأحاسيس التي اعتملت في نفسيعلى مدار حياتي لم يبلغ أي منها القوة التي بلغها إحساسي بالفرح والارتياحعندما سمعت أخريًا أول صرخة تطلقها سيمون،‏ ومن ذلك:‏ مشاعري تجاهوفاة أمي،‏ وفوزي بامليدالية الذهبية الأوليمبية في لوس أنجلوس،‏ والستوالثلاثون ساعةً‏ التي قضيتها مع الأمري هنري،‏ ومولد جنيفياف على مرأىمن والدي الذي ظل ساهرًا في املستشفى الواقع في مدينة تور.‏توقع مايكل أن تولد الطفلة في يوم عيد امليلاد،‏ وقال بأسلوبه املحبباملعهود إنه يؤمن بأن الله ‏«سيجعل لنا آية»‏ بأن يأتي بطفلنا املولود فيالفضاء في اليوم الذي يؤمن أن املسيح قد ولد فيه.‏ هنا سخر ريتشارد كمايفعل زوجي دائمًا عندما تتقد حماسة مايكل الدينية،‏ ولكن بعد أن شعرتُ‏بأول موجة من الانقباضات القوية عشية عيد امليلاد أوشك ريتشارد نفسهأن يصبح مؤمنًا.‏كان نومي في الليلة السابقة لعيد امليلاد متقطعًا،‏ وقبل أن أستيقظ،‏شاهدت حلمًا عميقًا واضحًا كفلق الصبح:‏ كنت أسري بجوار بحريتنا فيبوفوا،‏ ألعب مع بطتي دنوا ورفاقها من البط البري،‏ عندما سمعت صوتًايناديني.‏ لم أستطع التعرف على الصوت،‏ ولكنني كنت على يقني من أن


جنة رامااملتحدث امرأة،‏ أخبرتني أن الولادة ستكون صعبة للغاية،‏ وأنني سأحتاجإلى كل ذرة من قوتي كي آتي بثاني طفلة لي إلى النور.‏في يوم عيد امليلاد تبادلنا الهدايا البسيطة التي طلبها كل منا سرٍّا منسكان راما،‏ ثم بدأت أدرب مايكل وريتشارد على مواجهة سلسلة الطوارئاملحتملة.‏ أعتقد أن سيمون كانت ستولد بالفعل يوم عيد امليلاد لو لم يكنعقلي الواعي واعيًا إلى هذه الدرجة بأن كلا الرجلني غري مهيأين على الإطلاقملساعدتي إذا ما حدثت مشكلة كبرية.‏ وربما تكون إرادتي وحدها هي التيتسببت في تأخري ميلاد الطفلة يومني.‏ومن بني الطوارئ التي ناقشناها يوم عيد امليلاد احتمال أن يكونوضع الطفل مقلوبًا.‏ منذ شهرين،‏ عندما كان لطفلتي املنتظرَة حرية الحركةفي رحمي،‏ كنت متأكدة تمامًا من أن رأسها إلى أسفل،‏ وأعتقد أنها انقلبتفي الأسبوع الأخري.‏ كان تفسريي صحيحًا نسبيٍّا؛ فقد تمكنت من النزول إلىقناة الولادة برأسها،‏ غري أن وجهها كان متجهًا إلى أعلى باتجاه معدتي،‏ وبعدموجة الانقباضات الشديدة الأولى،‏ عَلِقت مقدمةُ‏ رأسِ‏ ها الصغري بتجويفالحوض في وضع صعب.‏لو كنا في مستشفى على كوكب الأرض،‏ لكان الأرجح أن يجري الطبيبعملية قيصرية،‏ ولأصبح على استعداد ملواجهة إجهاد الجنني،‏ ولشرع فيالتدخل بالأدوات الجراحية الآلية في وقت مبكر ملحاولة قلب رأس سيمونقبل أن تنحشر وتصبح في هذا الوضع املؤلم.‏قرب النهاية،‏ أصبح الألم شديدًا.‏ حاولت أن أصرخ بالتوجيهات إلىمايكل وريتشارد في اللحظات التي تفصل بني الانقباضات الشديدة التيتدفعها باتجاه عظامي الصلبة.‏ كان ريتشارد عديم النفع تقريبًا،‏ إذ لميستطع التعامل مع موقف املخاض ‏(أو ‏«الورطة»،‏ كما أطلق عليها لاحقًا)،‏كما لم يستطع املساعدة في إجراء شق جراحي لتوسيع مخرج الولادة،‏ أو فياستخدام امللقط الجراحي البديل الذي أحضرناه من راما.‏ أما مايكل — باركهالرب — فقد كافح بشهامة ليتبع تعليماتي التي كانت في بعض الأحيان غريواضحة وجبينه يتصبب عرقًا رغم برودة الغرفة؛ فالتقط املشرط من علبةأدواتي واستخدمه ليشق فتحةً‏ أوسع في جسدي،‏ وبعد لحظة من التردد14


الفصل الأولبسبب رؤية ذلك القدر الهائل من الدماء،‏ عثر على رأس سيمون باستخدامامللقط الجراحي.‏ ونجح بطريقة ما — في محاولته الثالثة — في أن يُعيدهاإلى قناة الولادة وفي أن يقلبها حتى تصبح الولادة ممكنة.‏أطلق الرجلان صيحةً‏ عندما ظهرت سيمون في فتحة املهبل.‏ ظللتُ‏أركز على نمط تنفسي،‏ وكلي خوف من أن أفقد الوعي.‏ ورغم مداهمة الألمالشديد لي،‏ فقد أطلقتُ‏ بدوري صرخةً‏ عاليةً‏ عندما اندفعت سيمون بفعلالانقباضة القوية التالية لتتلقفها يدا مايكل.‏ كانت مهمة قطع الحبل السريمن نصيب ريتشارد بصفته والد الطفلة،‏ وعندما انتهى،‏ رفع مايكل سيمونلأراها،‏ وقال وعيناه مغرورقتان بالدموع:‏ ‏«إنها فتاة»،‏ ثم وضعها برفق علىبطني فاعتدلت قليلاً‏ لأراها.‏ كان أول انطباع أخذته هو أنها تشبه والدتيتمامًا.‏أجبرت نفسي على أن أبقى يقظة حتى أُزيلَت املشيمة وحتى أنهَيتُ‏— بمساعدة مايكل — خياطة الجروح التي فتحها مايكل باملشرط.‏ ثمانهرت.‏ لا أذكر الكثري من التفاصيل املتعلقة بالأربع والعشرين ساعة التيتلت هذا.‏ كنت متعبة جدٍّا من املخاض والوضع ‏(كانت الانقباضات تحدثكل خمس دقائق طيلة إحدى عشرة ساعة قبل أن تولد سيمون فعلاً‏ ( حتىإنني كنت أنام كلما أُتيحَت ليَ‏ الفرصة.‏ أقبلت ابنتي الجديدة على الرضاعةدون أن يستحثها أحد على ذلك،‏ حتى إن مايكل يؤكد أنها رضعت مرة أومرتني وأنا شبه نائمة.‏ وأصبح اللبن يندفع في ثديي فور أن تبدأ سيمون فيالرضاعة،‏ وعندما تنتهي يبدو عليها الشبع.‏ وسرني أن لبني كفاها؛ إذ إننيكنت خائفة من أن أواجه معها نفس املشكلة التي واجهتها مع جنيفياف.‏كلما استيقظت وجدت أحد الرجلني بجواري.‏ كانت ابتسامات ريتشارددائمًا ما تبدو مفتعلة،‏ ولكنني كنت أقدرها على الرغم من هذا.‏ أما مايكلفكان يسرع بوضع سيمون في يدي أو عند ثديي عندما أستيقظ.‏ كانيمسكها بطريقة مريحة حتى وهي تبكي ويظل يتمتم:‏ ‏«إنها جميلة.»‏والآن،‏ تنام سيمون بجواري ملفوفة بشيء يشبه البطانية صنعه سكانراما ‏(إنه لفي غاية الصعوبة أن تقوم بتعريف الأقمشة باستخدام أي مناملصطلحات الكمية التي يفهمها مضيفونا،‏ وخاصةً‏ تعريف الكلمات التي15


جنة راماتصف النوعية مثل ناعم).‏ إنها تشبه والدتي بالفعل،‏ فلون بشرتها أسمر،‏ربما أكثر سمرةً‏ من بشرتي،‏ وشعرها أسود فاحم،‏ ولون عينيها بني داكن،‏ورأسها لا يزال مخروطيٍّا مشو َّهً‏ ا بفعل الولادة الصعبة،‏ ليس من السهلوصف سيمون بالجميلة،‏ ولكن مايكل محق بالطبع،‏ إنها فائقة الجمال.‏تستطيع عيناي أن تريا بسهولة الجمال الكامن في أعماق هذا املخلوقالضعيف الذي يميل لونه إلى الحمرة ويتنفس بسرعة شديدة.‏ مرحبًا بِك فيعاملنا يا سيمون ويكفيلد.‏16


الفصل الثانيالسادس من يناير/كانون الثاني عام ٢٢٠١مر علي َّ يومان حتى الآن وأنا مكتئبة،‏ ومتعبة جدٍّا.‏ ومع إدراكي أنني أمربحالة عادية من حالات اكتئاب ما بعد الولادة،‏ فإنني عجزت عن التخفيفمن شعوري بالاكتئاب.‏كان هذا الصباح هو الأسوأ،‏ استيقظت قبل ريتشارد واستلقيت فيهدوء على الجزء الخاص بي من الفراش.‏ وألقيت نظرة على سيمون التيكانت نائمة في سلام في مهدها املوضوع بمحاذاة الحائط.‏ وعلى الرغم منإحساسي بالحب تجاهها،‏ لم أستطع أن أتصور أفكارًا إيجابية عن مستقبلها.‏فقد انكسرت أجنحة النشوة التي رفرفت على مولدها واستمرت مدة اثنتنيوسبعني ساعةً،‏ وظل سيل متصل من الأفكار اليائسة والأسئلة التي لا إجابةلها يجري في عقلي.‏ ترى،‏ كيف ستكون حياتك يا صغريتي سيمون؟ كيفيمكننا،‏ أنا ووالدك،‏ أن ننهض بعبء تأمني السعادة لك؟ابنتي الحبيبة،‏ إنك تعيشني مع والديك وصديقهما املخلص مايكل أوتولفي ملجأ تحت الأرض على متن سفينة فضاء عملاقة لا تنتمي إلى كوكبالأرض.‏ والثلاثة الراشدون الذين ستعرفينهم على مدار حياتك جميعهم روادفضاء من كوكب الأرض،‏ وهم من أفراد طاقم حملة نيوتن التي أرسلتمنذ حوالي عام لاستكشاف عالَم أسطواني صغري اسمه راما.‏ وكانت والدتكووالدك والجنرال أوتول هم البشر الوحيدون الباقون على متن السفينة


جنة راماالفضائية عندما حولت راما مسارها فجأة لتتفادى الإبادة بفعل قاذفاتفالنكس النووية التي أطلقتها الأرض املصابة بجنون الارتياب.‏وفوق ملجئنا،‏ تقع مدينة على جزيرة فيها ناطحات سحاب غريبةنسميها نيويورك،‏ وهذه املدينة محاطة ببحر متجمد يطوق مركبة الفضاءالضخمة هذه تطويقًا كاملاً‏ ويقسمها نصفني.‏ في هذه اللحظة،‏ نكون،‏ وفقًالحسابات والدك،‏ في مدار كوكب املشترى ‏(مع أن هذا الكوكب نفسه،‏ وهوعبارة عن كرة غازية هائلة،‏ يقع على الجانب الآخر من الشمس بمسافةشاسعة)‏ سائرين في مدار قطع زائد سيلقي بنا في نهاية املطاف خارجاملجموعة الشمسية بأسرها.‏ لا نعرف إلى أين نحن سائرون،‏ ولا نعرف منصنع هذه السفينة أو ملاذا صنعها،‏ كل ما نعرفه هو أن هناك سكانًا آخرينعلى متنها،‏ ولكن ليس لدينا فكرة عن املكان الذي جاءوا منه،‏ ولدينا منالأسباب ما يجعلنا نشك في أن بعضهم على الأقل قد يكونون معادين لنا.‏ظلت أفكاري تسري على نفس الوترية مرارًا وتكرارًا على مدى اليومنياملاضيني.‏ وفي كل مرة أتوصل إلى نفس النتيجة املحبِطة،‏ وهي أنه ليس مناملُغتفر أننا — باعتبارنا بالغني ناضجني — جئنا بهذا املخلوق الضعيفالبريء إلى بيئة لا نفهم عنها إلا القليل وليس لنا عليها أية سيطرة.‏في ساعة مبكرة من صباح اليوم،‏ فور أن أدركت أن اليوم هو عيدميلادي السابع والثلاثني،‏ بدأت أبكي.‏ في البداية كنت أبكي في صمت،‏ بلاصوت،‏ ولكن عندما بدأت تتدفق إلى عقلي ذكريات جميع أعياد ميلاديالسابقة،‏ حل النحيب محل البكاء الصامت،‏ إذ كنت أشعر بحزن شديديعتصر قلبي،‏ لا على سيمون وحسب،‏ وإنما على نفسي أيضً‏ ا.‏ وعندما تذكرتالكوكب الأزرق الرائع الذي جئنا منه ولم أستطع أن أتخيل وجوده فيمستقبل سيمون،‏ ظللت أسأل نفسي نفس السؤال:‏ ملاذا أنجبت طفلةً‏ ونحنفي خضم هذه الورطة؟ها هي تلك الكلمة ثانيةً.‏ إنها إحدى الكلمات املفضلة لريتشارد.‏ ففياملفردات التي عادةً‏ ما يستخدمها،‏ تأتي كلمة ‏«ورطة»‏ في استخدامات لاتحصى؛ فهو يشري بكلمة ‏«ورطة»‏ إلى كل ما هو فوضوي أو خارج عنالسيطرة،‏ سواء أكان مشكلة فنية أم أزمة عائلية ‏(مثل زوجة تنتحب وهيتعاني من نوبة حادة من نوبات اكتئاب ما بعد الولادة).‏18


الفصل الثانيلم يساعدني أي من الرجلني كثريًا هذا الصباح.‏ ولم تفلح محاولاتهماالعقيمة للتسرية عني إلا في زيادة غمي.‏ وإني لأسأل نفسي:‏ ملاذا يفترِضالرجل على الفور كلما واجه امرأةً‏ حزينةً‏ أن لحزنها صلة به على نحو ما؟في الحقيقة،‏ أنا لست عادلة في هذا؛ فمايكل رُزق بثلاثة أطفال وعلى درايةبالشعور الذي أعايشه،‏ فكان غالبًا ما يسألني عن نوع املساعدة التي يمكنأن يقدمها لي.‏ أما ريتشارد،‏ فقد تأثر بدموعي كل التأثر،‏ وأصيب بالرعبعندما استيقظ على سماع نحيبي.‏ وظن في بادئ الأمر أنني أعاني من ألمعضوي رهيب،‏ لكنه اطمأن قليلاً‏ عندما أوضحت له أنني فقط مكتئبة.‏وبعد أن تيقن ريتشارد من أنه لا ذنب له في حالتي املزاجية،‏ استمعفي صمت إلى حديثي عن مخاوفي بشأن مستقبل سيمون.‏ أقر بأنني كنت فيحالة اهتياج إلى حد ٍّ ما،‏ ولكن لا يبدو أنه استوعب أيٍّا مما قلت.‏ وأخذ يرددنفس العبارة:‏ إن مستقبل سيمون ليس أكثر غموضً‏ ا من مستقبلنا.‏ ويرددأن اكتئابي ينبغي أن يزول على الفور،‏ ما دام لا يوجد أي سبب منطقيلانزعاجي.‏ وفي النهاية،‏ وبعد أكثر من ساعة عجزنا فيها عن التواصلالسليم،‏ توصل ريتشارد إلى نتيجة صحيحة هي أنه غري ذي نفع،‏ وقرر أنيتركني لحالي.‏‏(بعد مرور ست ساعات)‏ أشعر بتحسن الآن.‏ باقي ثلاث ساعات علىانقضاء عيد ميلادي.‏ أقمنا حفلاً‏ صغريًا الليلة.‏ انتهيت لتوي من إرضاعسيمون وها هي ترقد بجواري.‏ تركنا مايكل منذ حوالي خمس عشرة دقيقةً؛ليذهب إلى حجرته على الجانب املقابل من الردهة.‏ استغرق ريتشارد فيالنوم في أقل من خمس دقائق بعد أن وضع رأسه على الوسادة،‏ إذ قضىاليوم كله في العمل على تلبية طلبي بالحصول على حفاضات محسنة.‏يستمتع ريتشارد بإمضاء وقته في الإشراف على تفاعلاتنا مع سكانراما أو مع أي ممن يشغ ِّلون أجهزة الحاسوب التي نُف َّع ِّلها بالضغط علىلوحة املفاتيح املوجودة في حجرتنا،‏ وفي عمل قوائم بتلك التفاعلات.‏ لم نرقط أي شخص أو أي شيء في النفق املظلم الذي يقع خلف الشاشة السوداءمباشرة،‏ ولذا لا نعرف على وجه اليقني ما إذا كان هناك بالفعل مخلوقاتتستجيب ملطالبنا وتأمر مصانعها بأن تصنع حاجياتنا الغريبة،‏ غري أنهمن املناسب أن نشري إلى مضيفينا املحسنني إلينا من سكان راما.‏19


جنة راماعملية التواصل معهم معقدة ومباشرة في آن واحد:‏ هي معقدة لأننانتحدث معهم باستخدام صور تظهر على الشاشة السوداء،‏ وصيغ كميةدقيقة بلغة الرياضيات والفيزياء والكيمياء.‏ وهي مباشرة لأن الجمل التيندخلها باستخدام لوحة املفاتيح ذات تركيب بسيط بساطة مدهشة.‏ وأكثرما نستخدمه من الجمل هو:‏ ‏«نود أن نحصل على»‏ أو ‏«نريد»‏ يتبعها وصفمفصل ملا نود أن يزودونا به ‏(بالطبع،‏ لا نستطيع أن نعرف بأية حالالترجمة الدقيقة لطلباتنا،‏ فنحن نفترض أننا نستخدم صيغة مهذبة،‏ ولكنيُحتمل أن التعليمات التي نصدرها تظهر لهم في صورة أوامر وقحة تبدأب ‏«أعطني».)‏الجزء الأكثر صعوبةً‏ في هذه العملية هو الجزء املتعلق بالكيمياء.‏فالأشياء البسيطة التي نستخدمها يوميٍّا كالصابون والورق والزجاج معقدةكيميائيٍّا،‏ ويصعب جدٍّا وصفها من حيث العدد ونوع املركبات الكيميائية.‏وفي بعض الأحيان،‏ يكون علينا أن نصف عملية التصنيع بما فيها منأنظمة حرارية؛ وإلا فسنحصل على شيء لا يحمل أدنى شبهٍ‏ بما طلبناه،‏وهذا ما اكتشفه ريتشارد في مرحلة مبكرة من عمله على لوحة املفاتيحوالشاشة السوداء.‏ وتتضمن عملية الطلب قدرًا كبريًا من املحاولة والخطأ،‏ولم تكن مجدية على الإطلاق في البداية.‏ وأخذنا نتمنى،‏ نحن الثلاثة،‏ لوأننا كنا نذكر املزيد من الكيمياء التي درسناها في الكلية.‏ في الواقع،‏ كانعجزنا عن تحقيق تقدم مرضٍ‏ في تزويد أنفسنا بالضروريات اليومية أحدَ‏العوامل التي حفزت على القيام بالرحلة العظيمة — كما يحب ريتشارد أنيطلق عليها — التي قام بها الرجلان منذ أربعة أشهر.‏في هذا الوقت كانت الحرارة املحيطة،‏ في الجانب الأعلى من نيويوركوفيما تبقى من راما،‏ قد وصلت بالفعل إلى خمس درجات تحت الصفر،‏ وأكدريتشارد أن البحر الأسطواني قد تجمد مرةً‏ أخرى.‏ بدأ يساورني القلق منأننا قد لا نصبح على استعداد كاف ملولد الطفل.‏ كنا نستغرق وقتًا طويلاً‏أكثر مما ينبغي في القيام بكل شيء،‏ فعلى سبيل املثال،‏ استغرقت محاولةطلب وتركيب حمام صالح للاستخدام شهرًا كاملاً‏ ، ولم تفِ‏ النتيجة إلابالحد الأدنى من املراد حتى الآن.‏ في أغلب الأحيان،‏ كانت مشكلتنا الأساسية20


الفصل الثانيتتمثل في أننا نمد مضيفينا بمواصفات غري كاملة،‏ غري أنه في بعض الأحيانتأتي املشكلة من جانب سكان راما أنفسهم؛ فكثريًا ما أخبرونا — باستخداملغتنا املشتركة،‏ لغة الرموز الحسابية والكيميائية — أنهم لن يستطيعواإتمام تصنيع شيء معني في غضون الوقت الذي حددناه.‏على أية حال،‏ أعلن ريتشارد ذات صباح أنه سيترك ملجأنا ويحاول أنيصل إلى املركبة العسكرية التي تقبع ساكنة في املرفأ والتي شاركت في حملةنيوتن.‏ كان هدفه املعلن هو استعادة العناصر الأساسية لقاعدة البياناتالعلمية املخزنة في أجهزة الحاسوب باملركبة ‏(مما سيساعدنا مساعدةً‏ كبريةً‏في صياغة طلباتنا لسكان راما)،‏ ولكنه أقر أيضً‏ ا بأنه يتحرق للحصول علىبعض الطعام ذي الطعم املستساغ.‏ لقد نجحنا في أن نبقى على قيد الحياةوبصحة جيدة بفضل الأطعمة املعدة من مكونات كيميائية التي وفرها لناسكان راما،‏ غري أن معظم الطعام كان إما لا طعم له أو كريه املذاق.‏إحقاقًا للحق أقول إن مضيفينا كانوا يلبون طلباتنا كما يجب.‏ ومع أننانعرف كيف نصف املحتويات الكيميائية الأساسية التي تحتاجها أجسادنامعرفةً‏ عامةً،‏ فإن أي منا لم يدرس بالتفصيل العملية الحيوية الكيميائيةالتي تحدث عندما نتذوق شيئًا ما.‏ وفي تلك الأيام الأولى،‏ كان الأكل ضرورة،‏لا متعة على الإطلاق،‏ وغالبًا ما كان يصعب علينا،‏ إن لم يكن يستحيل،‏بلع ‏«املادة اللزجة»،‏ وحدث أكثر من مرة أن أصابنا الغثيان بعد تناولالوجبات.‏أمضينا حوالي يوم في مناقشة الحجج التي تؤيد الرحلة العظيمة والحججالتي تعارضها.‏ وصل حملي إلى املرحلة التي تصاحبها الإصابة بالحموضة،‏وكنت أشعر بعدم الارتياح.‏ ومع أنني لم أمِ‏ ل إلى فكرة البقاء بمفرديفي ملجئنا بينما يشق الرجلان طريقهما في الثلج،‏ ويحددان موقع مركَبةاستكشاف الأجسام الفضائية،‏ ويعبران ‏«السهل الرئيسي»،‏ ثم يقطعان عدةكيلومترات وصولاً‏ إلى محطة الترحيل الرئيسية؛ فقد سلمت بأنهما سيساعدانبعضهما من عدة نواحٍ‏ ، واتفقت معهما على أن قيام شخص واحد فقطبالرحلة يعد من قبيل التهور.‏كان ريتشارد متأكدًا تمامًا من أن مركبة الاستكشاف ستكون صالحةللعمل ولكنه لم يكن متفائلاً‏ بالقدر نفسه بشأن التلفريك.‏ وناقشنا باستفاضة21


جنة راماالأضرار التي ربما تكون قد لحقت بسفينة نيوتن العسكرية بعد ما تعرضتله وهي خارج راما من انفجارات نووية وقعت خارج الدرع الواقي.‏ خمنريتشارد أنه ما دام لا توجد أضرار مرئية في الهيكل ‏(فقد شاهدنا صورسفينة نيوتن العسكرية على الشاشة السوداء عدة مرات خلال الشهور التيمرت منذ الانفجارات وحتى وقتنا هذا،‏ وذلك باستغلال قدرتنا على الوصولإلى املعلومات التي جاءت بها املستشعرات التي صنعها سكان راما)؛ فإنهمن املحتمل أن تكون راما نفسها قد حمت السفينة من كل الانفجاراتالنووية دون قصد،‏ ونتيجةً‏ لهذا قد لا يكون الجزء الداخلي من السفينة قدأصيب بأي ضرر ناتج عن الإشعاع.‏لم أكن متفائلة بشأن الاحتمالات؛ فقد عملت مع املهندسني البيئيني فيوضع تصميمات الدروع الواقية لسفن الفضاء وكنت على وعي بمدى قابليةكل نظام من أنظمة نيوتن الفرعية للتأثر بالإشعاع.‏ ومع أنني كنت أعتقدأن هناك احتمال كبري بأن تكون قاعدة البيانات العلمية سليمة ‏(فوحدةالتشغيل املركزية وذاكراتها مصنوعتان من أجزاء معالجة ملقاومة الإشعاع)،‏كنت متأكدة تمامًا من أن املخزون الغذائي ملوث.‏ كنا دائمًا على علم بأنأغذيتنا املعلبة مخزنة في موقع غري محمي نسبيٍّا.‏ وقبل الانطلاق،‏ ثارتبعض املخاوف من أن حدوث توهج شمسي غري متوقع قد ينتج إشعاعًايكفي لجعل الطعام غري آمن.‏لم أخف من الإقامة بمفردي في املدة التي سيمضيها الرجال في رحلةالذهاب والعودة إلى السفينة العسكرية،‏ والتي قد تستغرق بضعة أيام أوأسبوعًا،‏ وإنما أثار مخاوفي احتمال عدم عودة أحد الرجلني أو كليهما،‏ وهذاالخوف لا يتعلق بالأوكتوسبايدر أو أي مخلوقات فضائية أخرى قد تكونعلى متن هذه السفينة الفضائية الضخمة معنا؛ إذ كانت هناك أمور بيئيةنجهلها يجب أن تُؤخَ‏ ذ بعني الاعتبار،‏ ماذا سيحدث لو بدأت راما مناورةفجأة؟ ماذا سيحدث لو وقع أي حدث مشئوم آخر منعهما من العودة إلىنيويورك؟أكد ريتشارد ومايكل لي أنهما لن يقوما بأية مجازفات،‏ وأنهما لنيقوما بأي عمل سوى الذهاب إلى السفينة العسكرية والعودة منها،‏ ورحلا22


الفصل الثانيمباشرةً‏ بعد فجر أحد أيام راما التي تبلغ ثماني وعشرين ساعة.‏ كانتهذه هي املرة الأولى التي أمكث فيها بمفردي منذ إقامتي الطويلة وحديفي نيويورك التي بدأت عندما سقطت في الحفرة.‏ بالطبع،‏ لم أكن وحيدةفعلا؛ فقد كنت أشعر بحركات سيمون بداخلي.‏ أن تحمل طفلاً‏ بداخلكفذاك شعور مذهل،‏ ففكرة أن بداخلك روحًا حية أخرى تبدو لي رائعة إلىحد لا يوصف،‏ ولا سيما عندما تكون هذه الروح طفلاً‏ ينشأ من جيناتكأنت بصفة أساسية.‏ كم يؤسفني أن الرجال لا يستطيعون خوض تجربةالحمل،‏ فلو أتيح لهم ذلك،‏ لاستطاعوا فهم سبب قلقنا الكبري نحن معشرالنساء على املستقبل.‏بحلول اليوم الأرضي الثالث بعد رحيل الرجال،‏ بدأت أمر بحالة سيئةمن رهاب الاحتجاز.‏ قررت أن أخرج من ملجئنا وأن أقوم بنزهة طويلةحول نيويورك.‏ كان الظلام يخيم على راما،‏ ولكنني كنت أشعر بضجرشديد،‏ فبدأت املشي على أية حال.‏ كان الجو باردًا جدٍّا فأغلقت سترة الطريانالثقيلة حول بطني املنتفخة.‏ لم يمض على سريي سوى دقائق قليلة عندماسمعت صوتًا يأتي من بعيد.‏ سرت قشعريرة في بدني وتوقفت على الفور،‏ويبدو أن الأدرينالني اندفع إلى سيمون هي الأخرى إذ أخذت تركل بقوة وأناأرهف سمعي ترقبًا لسماع هذا الصوت.‏ وبعد حوالي دقيقة،‏ سمعته مرةأخرى،‏ كان صوت فرشاة تمر على سطح معدني يصحبه طنني ذو ترددعالي،‏ وكان الصوت لا تخطئه أذن،‏ لا بد وأن الأوكتوسبايدر كان يتجول فينيويورك.‏ رجعت بسرعة إلى امللجأ وانتظرت طلوع الفجر على راما.‏عندما ظهر الضوء رجعت إلى نيويورك وتجولت فيها.‏ وعندما كنتفي جوار الورشة الغريبة حيث سبق أن وقعت في الحفرة،‏ بدأت الشكوكتساورني بشأن استنتاجنا بأن الأوكتوسبايدر لا يظهر إلا ليلاً‏ . أكد ريتشاردمن البداية على أنها مخلوقات ليلية،‏ وأثناء أول شهرين مر َّا بعد أن تجاوزناالأرض،‏ وقبل أن نبني الشبكة الواقية التي تمنع الزوار غري املرحب بهم منالنزول إلى ملجئنا،‏ نشر ريتشارد سلسلة من أجهزة الاستقبال البدائية ‏(إذلم يكن قد صقل قدرته على وصف الأجزاء الالكترونية لسكان راما وصفًاتفصيليٍّا)‏ حول غطاء ملجأ الأوكتوسبايدر وأكد أنه،‏ هو على الأقل،‏ مقتنع23


جنة رامابأنهم لا يظهرون على السطح إلا ليلاً‏ . وفي النهاية،‏ اكتشف الأوكتوسبايدركل أجهزة املراقبة التي نشرها وحطموها،‏ غري أن هذا لم يحدث إلا بعدحصول ريتشارد على ما يعتقد أنه بيانات حاسمة تؤيد فرضيته.‏ومع ذلك،‏ لم يخفف استنتاج ريتشارد من قلقي عندما سمعت فجأةصوتًا عاليًا وغريبًا تمامًا يأتي من اتجاه ملجئنا.‏ في هذا الوقت كنت واقفةفي الورشة أحدق في الحفرة التي كدت أن أموت فيها منذ تسعة أشهر.‏ زادخفقان قلبي واقشعر جلدي على الفور،‏ وأكثر ما أزعجني هو أن الضجةكانت قادمة من مصدر يقع بيني وبني منزلي في راما.‏ تسللت ببطء تجاهالصوت املتقطع في حذر وأنا أحدق حول املباني في كل خطوة قبل أن أورطنفسي.‏ وبعد فترة طويلة،‏ اكتشفت مصدر الصوت،‏ إذ كان ريتشارد يقطعأجزاءً‏ من شبكة باستخدام منشار كهربائي صغري أحضره من نيوتن.‏في الواقع،‏ كان يتجادل هو ومايكل عندما وجدتهما.‏ كانت هناك شبكةصغرية — تتكون من حوالي خمسمائة عقدة لها أبعاد مربعة ويبلغ طولضلعها حوالي ثلاثمائة متر — مثبتة على أحد السقائف املنخفضة الغريبةاملوجودة على بعد مائة متر شرقي فتحة ملجئنا.‏ كان مايكل يشكك في الحكمةمن الهجوم على الشبكة بمنشار كهربائي.‏ وعندما رأياني،‏ كان ريتشارديبرر ما يفعله بسرد مزايا املادة املطاطية التي صنعت منها الشبكة.‏تعانقنا وتبادلنا القبل لعدة دقائق ثم بدءا يخبراني عن الرحلة العظيمة.‏لم تكن الرحلة شاقة.‏ وعملت مركبة الاستكشاف والتلفريك بلا صعوبة.‏كشفت آلاتهما عن أن املركبة العسكرية كانت تحتوي على أثر من الإشعاع،‏ لذالم يمكثا طويلاً‏ هناك ولم يحضرا معهما أيٍّا من الطعام.‏ ولكن قاعدة البياناتالعلمية كانت في حالة جيدة.‏ استخدم ريتشارد برامج ضغط املعلوماتالفرعية لاستخراج أغلب ما في قاعدة البيانات ووضعها في مكعبات متوافقةمع أجهزة الحاسوب املحمولة،‏ كما أحضرا حقيبة ظهر كبرية مليئة بالأدوات،‏مثل املنشار الكهربائي،‏ التي كانوا يرون أنها ستفيد في إتمام تجهيزاتاملعيشة الخاصة بنا.‏عمل ريتشارد ومايكل بلا توقف منذ ذلك الحني وحتى مولد سيمون.‏أصبح طلب ما نحتاجه من سكان راما أكثر سهولة بعد استخدام املعلومات24


الفصل الثانيالكيميائية الإضافية الواردة في قاعدة البيانات.‏ وقد جربت رش امللح العضوياللطيف وبعض املواد العضوية غري املضرة على الطعام مما أدى إلى تحسنقليل في طعمه.‏ أنهى مايكل إعداد حجرته املوجودة في الجانب املقابل مناملمر،‏ وجرى تركيب مهد سيمون،‏ وتحسنت حماماتنا تحسنًا ملحوظًا.‏ ومعأخذ كل القيود في الاعتبار،‏ فإن ظروف معيشتنا الآن تعد مقبولة إلى حدبعيد.‏ ربما في وقت قريب … إنني أسمع صوت بكاء رقيق بجواري.‏ حانوقت إطعام ابنتي.‏قبل أن تنقضي آخر ثلاثني دقيقة من عيد مولدي،‏ أريد أن أعود إلى ذكرياتأعياد ميلادي السابقة التي أثارت اكتئابي هذا الصباح.‏ لطاملا كنت أرىأن عيد ميلادي هو أهم أحداث العام؛ فعيد امليلاد املجيد وأيام عيد رأسالسنة تحتل مكانة خاصة،‏ ولكن بطريقة مختلفة،‏ إذ إنهما احتفالان يشاركفيهما الجميع،‏ أما عيد ميلاد شخص معني فريكز بطريقة مباشرة أكثرعليه.‏ كنت دائمًا ما أستغل أعياد ميلادي للتأمل والتفكر في اتجاه حياتي.‏إذا حاولت،‏ سأتمكن على الأغلب من تذكر شيء خاص عن كل عيدميلاد مر علي منذ أن كنت في الخامسة من عمري.‏ بالطبع،‏ بعض الذكرياتتكون مؤثرة أكثر من غريها.‏ هذا الصباح،‏ أثارت الكثري من صور الاحتفالاتاملاضية أحاسيس قويةً‏ بالحنني إلى املاضي،‏ والحنني إلى وطني وأسرتي.‏ وفيظل حالة الاكتئاب التي غمرتني،‏ شكوت مر َّ الشكوى من عدم قدرتي علىإضفاء النظام والأمان على حياة سيمون.‏ ولكن حتى وأنا في خضم هذاالاكتئاب،‏ وأنا أواجه كل هذا الغموض الذي يكتنف وجودنا هنا،‏ لم أكنلأتمنى حقًا ألا تأتي سيمون للحياة لتكون بجانبي،‏ لا،‏ فنحن مسافرونتربطنا أوثق رابطة،‏ وهي الرابطة التي تجمع بني أم وابنتها تشتركان فيأعجوبة الوعي التي نسميها الحياة.‏كنت طرفًا في علاقة مماثلة من قبل،‏ ليس فقط مع والدتي ووالدي،‏وإنما أيضً‏ ا مع ابنتي الأولى جنيفياف.‏ ممممم،‏ من الرائع أن صور والدتيلا تزال تبدو واضحة في مخيلتي.‏ مع أنها ماتت منذ سبعة وعشرين عامًا،‏عندما كنت في العاشرة من عمري،‏ فإنها تركتني مع باقة من الذكريات25


جنة راماالرائعة.‏ آخر عيد ميلاد قضيته معها كان مميزًا جدٍّا؛ ذهب ثلاثتنا إلى باريسبالقطار.‏ كان والدي يرتدي بذلته الإيطالية الجديدة ويبدو وسيمًا للغاية.‏اختارت والدتي أن ترتدي أحد فساتينها الزاهية ذات الألوان املتعددة التييرتديها أهل بلدتنا.‏ وعادت أمي،‏ بشعرها املصفف في طبقات ملتفة حولرأسها،‏ إلى هيئة الأمرية السينوفووية التي كانت عليها قبل أن تتزوج والدي.‏تناولنا العشاء في أحد املطاعم الراقية التي تقع في شارع متفرع منالشانزلزيه مباشرةً،‏ ثم توجهنا إلى أحد املسارح حيث شاهدنا فرقة كلأعضائها زنوج تؤدي مجموعة من الرقصات التي يرقصها سكان املنطقةالغربية لأفريقيا.‏ وبعد العرض،‏ سُ‏ مِ‏ ح لنا بالدخول إلى حجرات املسرح حيثعرفتني أمي على إحدى الراقصات،‏ وكانت امرأة طويلة وجميلة،‏ تتسمبشرتها بسواد غري عادي،‏ تعود أصولها إلى ساحل العاج،‏ وتربطها بأميصلة قرابة بعيدة.‏استمعت إلى الحوار الذي دار بينهما بلغة سينوفو القبلية وأنا أتذكرمقتطفات من تدريبي أمام جمعية بورو السرية قبل ثلاث سنوات،‏ وتعجبتمجددًا من أن وجه أمي يصبح دائمًا معبرًا بدرجة أكبر عندما تكون وسطأهلها.‏ ومع أن الأمسية سحرتني،‏ فإنني لم أكن قد تجاوزت العاشرة منعمري وكنت أفضل أن أحظى بحفلة عيد ميلاد عادية مع أصدقاء املدرسة.‏ونحن نستقل القطار في رحلة العودة إلى بيتنا في ضاحية شيلي مازارا،‏لاحظت أمي أن الإحباط يرتسم على وجهي وقالت:‏ ‏«لا تحزني يا نيكول،‏ فيالعام القادم سنقيم لك حفلاً‏ . لقد أردنا أنا ووالدك أن نستغل هذه الفرصةونذكرك مرة أخرى بالنصف الآخر من تراثك.‏ أنت مواطنة فرنسية عاشتحياتها كلها في فرنسا،‏ ولكن جزءًا منك سينوفووي خالص تضرب جذورهبعمق في التقاليد القبلية لغرب أفريقيا»‏في وقت مبكر من هذا اليوم،‏ وأنا أتذكر رقصة ساحل العاج التيأدتها قريبة والدتي وزملاؤها،‏ تصورت بعني الخيال للحظة أنني أدلف إلىمسرح جميل وابنتي سيمون ذات العشر سنوات بجواري — ولكن هذاالوهم سرعان ما تبدد؛ فلا توجد مسارح فيما وراء مدار املشترى،‏ في الواقع،‏لن تتفهم ابنتي أبدًا املقصود بمفهوم املسرح،‏ فالأمر برمته مربك.‏26


الفصل الثانيومن بني الأسباب التي دفعتني للبكاء صباح اليوم فكرة أن سيمون لنتتعرف على جديها أبدًا،‏ والعكس صحيح،‏ إذ سيكونان شخصيات خياليةفي نسيج حياتها،‏ ولن تعرفهم إلا عن طريق الصور والفيديو فحسب؛ لنتحظى أبدًا بمتعة سماع صوت أمي املذهل،‏ ولن ترى رقة وحنان الحب فيعيني والدي أبدًا.‏بعد وفاة والدتي،‏ كان والدي حريصً‏ ا على أن يجعل كل عيد من أعيادميلادي ذا مذاق خاص.‏ ففي عيد ميلادي الثاني عشر،‏ بعد أن انتقلنا إلىالفيلا في بوفوا مباشرةً،‏ تمشينا معًا تحت الثلج املتساقط بني الحدائق املقلمةفي قصر شاتو دي فيلاندري.‏ في ذلك اليوم وعدني بأن يظل إلى جواريكلما احتجته.‏ شددت قبضتي على يده ونحن نسري بمحاذاة سياج الأشجار.‏وبكيت ذلك اليوم أيضً‏ ا وأنا أصرح له ‏(ولنفسي)‏ بمدى خوفي من أن يتركنيهو الآخر،‏ فضمني إلى صدره وطبع قبلة على جبيني.‏ ولم يخلف وعده قط.‏في العام املاضي،‏ بدأ عيد ميلادي في قطار من القطارات املتوجهة إلىمنتجعات التزلج على الثلج كان ينطلق بالقرب من الحدود الفرنسية،‏ وهيالرحلة التي أراها الآن وكأنها عمر آخر.‏ كنت لا أزال مستيقظة عند منتصفالليل وأنا أستعيد لحظات لقائي بهنري عند الظهرية في الشاليه الذي يقع فيطرف فايسفلويوخ.‏ لم أخبره عندما استفسر عن ذلك بطريقة غري مباشرة،‏إذ أبيت أن أريحه بإطلاعه على هذا.‏ولكنني أتذكر أنني تساءلت وأنا في القطار:‏ هل من العدل أن أخفيعن ابنتي أن والدها هو ملك انجلترا؟ هل احترامي لذاتي وكبريائي بلغامن الأهمية ما يمنحني مبررًا ملنع ابنتي من معرفة أنها أمرية؟ كنت أديرهذه الأسئلة في رأسي وأنا أحدق مشدوهة في الليل البادي من النافذة،‏وعندئذٍ‏ ظهرت جنيفياف في مكان نومي في القطار،‏ في اللحظة املناسبة.‏قالت بابتسامة عريضة:‏ ‏«كل عام وأنت بخري يا أمي.»‏ وحضنتني.‏ كدت أنأخبرها بشأن أبيها.‏ أنا متأكدة من أنني كنت سأفعل هذا إذا ما علمت بماسيحدث لحملة نيوتن.‏ أفتقدك يا جنيفياف.‏ كنت أتمنى لو حظيت بتوديعكوداعًا مناسبًا.‏كم يحريني أمر الذكريات.‏ هذا الصباح،‏ وأنا في حالة اكتئاب،‏ أدى سيلصور أعياد امليلاد السابقة الذي تدفق في عقلي إلى زيادة إحساسي بالعزلة27


جنة راماوالضياع.‏ الآن،‏ وأنا في حالة نفسية أفضل،‏ أجد نفسي أستمتع بنفس تلكالذكريات.‏ في هذه اللحظة لم تعد تحزنني فكرة أن سيمون لن تستطيع أنتعايش ما عايشتُه أنا.‏ فأعياد ميلادها ستكون مختلفة تمامًا عن أعياديوستكون فريدة بالنسبة لحياتها.‏ من واجبي ومن حقي أن أسعى لتكونأعياد ميلادها مميزة يرفرف عليها الحب،‏ قدر املستطاع.‏28


الفصل الثالث٢٦ من مايو/أيار ٢٢٠١بدأت سلسلة من الأحداث الغريبة تقع في راما منذ خمس ساعات.‏ كنا نجلسمعًا في ذلك الوقت نتناول وجبة العشاء املكونة من اللحم البقري املشويوالبطاطس والسلطة ‏(أطلقنا اسمًا كوديٍّا على كل من املركبات الكيميائيةالتي نحصل عليها من سكان راما في إطار محاولة لإقناع أنفسنا بأن مانأكله لذيذ.‏ وهذه الأسماء مستقاة إلى حد ما من نوع التغذية الذي تمنحهلنا هذه املركبات،‏ لذا فإن ‏«اللحم املشوي»‏ غني بالبروتني،‏ و«البطاطس»‏غنية بالكربوهيدرات بصفة أساسية … إلخ)‏ عندما سمعنا صفريًا واضحًايأتي من بعيد،‏ توقفنا جميعًا عن الأكل،‏ وارتدى الرجلان ملابس ثقيلةليصعدا إلى أعلى.‏ عندما استمر الصفري،‏ اختطفت سيمون وملابسي الثقيلةوغطيت الرضيعة بعدة بطانيات،‏ وخرجت وراء مايكل وريتشارد في الجوالبارد.‏كان الصفري أعلى كثريًا على السطح.‏ كنا نظن أنه قادم من الجنوب،‏ولكن لأن الظلام كان يلف راما،‏ انتابنا خوف من الابتعاد عن ملجئنا.‏ ولكنبعد دقائق قليلة،‏ بدأنا نرى ومضات من الضوء تنعكس على أسطح ناطحاتالسحاب املجاورة املغطاة بالزجاج،‏ فلم نستطع أن نتمالك فضولنا.‏ تسللنابحذر تجاه الشاطئ الجنوبي حيث لا توجد مباني تحجب عنا القمم املهيبةفي التجويف الجنوبي من راما.‏


جنة راماعندما وصلنا إلى شاطئ البحر الأسطواني،‏ كانوا يقدمون عرضً‏ ا مدهشً‏ امن الأضواء.‏ ظلت أقواس النور متعددة الألوان تتطاير حولنا وتضيء الأبراجالعملاقة في التجويف الجنوبي لأكثر من ساعة.‏ حتى الرضيعة سيمونسحرتها الأنوار الصفراء والزرقاء والحمراء وهي تتراقص بني الأبراج فيالظلام على شكل قوس قزح.‏ عندما انتهى العرض فجأة،‏ أضأنا مشاعلناالكهربائية وعدنا إلى ملجئنا.‏بعد دقائق قليلة من املشي قطعت حديثنا املتقد صرخة طويلة قادمةمن بعيد،‏ وأدركنا أنها بالتأكيد صادرة عن إحدى املخلوقات الطائرة التيساعدتني أنا وريتشارد في الهرب من نيويورك العام املاضي.‏ توقفنا فجأةوأنصتنا.‏ انتابتنا أنا وريتشارد حالة من الترقب عارم لأننا لم نر أو نسمعأي من املخلوقات الطائرة منذ أن عدنا إلى نيويورك لنحذر سكان راما منالصواريخ النووية املهاجمة.‏ وقد سبق لريتشارد التوجه إلى ملجئهم عدةمرات،‏ غري أنه لم يلق أية استجابة عندما أخذ ينادي وهو يقف في املمرالرأسي الكبري.‏ قال ريتشارد من شهر فقط إنه يعتقد أن املخلوقات الطائرةرحلت عن نيويورك بأسرها،‏ ولكن الصرخة التي سمعناها في هذه الليلةتشري إلى أن واحدًا على الأقل من أصدقائنا لا يزال موجودًا هنا.‏في خلال ثوانٍ‏ ، وقبل أن تتاح لنا الفرصة ملناقشة ما إذا كان أحدناسيسري في اتجاه الصرخة أم لا،‏ سمعنا صوتًا آخر،‏ صوتًا مألوفًا كالصوتالأول،‏ وقد أزعجنا جميعًا.‏ لحسن الحظ لم يكن بيننا وبني ملجئنا.‏ لففتيدي حول سيمون وعدوت بأقصى سرعة باتجاه البيت،‏ وكدت أن اصطدمباملباني مرتني على الأقل بسبب سرعتي وأنا أجري في الظلام.‏ كان مايكلآخر من وصل.‏ عندها كنت قد انتهيت من فتح الغطاء والشبكة،‏ قالريتشارد وهو يلهث وصوت الأوكتوسبايدر يرتفع شيئًا فشيئًا حتى غمراملكان:‏ ‏«يوجد الكثري منهم»،‏ وسلط شعاع املشعل الكهربائي على املمرالطويل الذي يؤدي إلى املنطقة التي تقع شرقي ملجئنا،‏ وشاهدنا جميعًاشيئني كبريين داكنني يتجهان نحونا.‏عادةً‏ ما نخلد للنوم في غضون ساعتني أو ثلاث ساعات بعد تناولالعشاء،‏ ولكن الليلة كانت استثناء؛ فقد دب النشاط في ثلاثتنا بفعل عرض30


الفصل الثالثالضوء،‏ وصرخة املخلوقات الطائرة،‏ واللقاء غري املتوقع مع الأوكتوسبايدرالذي خرجنا منه ساملني،‏ فأخذنا نتجاذب أطراف الحديث.‏ كان ريتشاردمقتنعًا بأن هناك حدثًا جللاً‏ على وشك الوقوع،‏ وذك َّرنا بأن مناورة الاصطدامبالأرض التي قامت بها راما سبقها هي الأخرى عرض ضوئي صغري فيالتجويف الجنوبي.‏ وأضاف ريتشارد أنه في ذلك الوقت أجمع طاقم نيوتنعلى أن الغرض من العرض هو الإعلان عن أمر ما أو ربما التحذير منخطر ما،‏ وتساءل عن دلالة العرض الباهر الذي أُقيم الليلة.‏أما عن مايكل،‏ الذي لم يمكث في راما طويلاً‏ قبل مرورها العابربكوكب الأرض ولم يكن له أي احتكاك مباشر مع املخلوقات الطائرة أوالأوكتوسبايدر،‏ فكان لأحداث الليلة تأثري كبري عليه؛ فعندما ملح املخلوقاتذات املجسات ملحةً‏ عابرةً‏ وهي قادمة تجاهنا في املمر تفهم بعض الشيءالرعب الذي شعرت به أنا وريتشارد عندما كنا نتسلق بسرعة تلك النتوءاتالغريبة هاربني من ملجأ الأوكتوسبايدر العام املاضي.‏سألَنا مايكل الليلة قائلاً‏ : ‏«هل الأوكتوسبايدر هم سكان راما؟»‏ وأضافقائلاً‏ : ‏«إن كان هذا صحيحًا،‏ فلماذا نفر منهم؟ لقد تطورت التكنولوجيالديهم أكثر من التكنولوجيا لدينا كثريًا حتى إن بوسعهم أن يفعلوا بنا مايحلو لهم.»‏أسرع ريتشارد يجيبه قائلاً‏ : ‏«الأوكتوسبايدر ركاب في هذه املركبة مثلنابالضبط،‏ ومثل املخلوقات الطائرة.‏ وهم يظنون أننا قد نكون سكان راما،‏ولكنهم ليسوا متأكدين.‏ أما املخلوقات الطائرة فهي بمثابة لغز،‏ بالتأكيدلا يمكن أن يكونوا مجرد نوع من أنواع املخلوقات التي تجوب الفضاء،‏فكيف جاءوا على متن السفينة في املقام الأول؟ هل هم جزء من النظامالبيئي الأصلي في راما؟»‏ضممت سيمون بشدة غريزيٍّا.‏ فالأسئلة كثرية جدٍّا،‏ والإجابات قليلةجدٍّا.‏ مرت بذهني ذكرى دكتور تاكاجيشي املسكني وهو محنط كسمكةضخمة أو نمر ضخم،‏ ومعروض في متحف الأوكتوسبايدر،‏ جعلتني تلكالذكرى أرتجف.‏ قلت بهدوء:‏ ‏«إذا كنا ركابًا،‏ فإلى أين نحن ذاهبون؟»‏تنهد ريتشارد وقال:‏ ‏«كنت أقوم ببعض الحسابات،‏ والنتائج ليستمشجعة؛ فمع أننا نسافر بسرعة كبرية قياسً‏ ا بالشمس،‏ فإن سرعتنا تافهة31


جنة راماقياسً‏ ا بمجموعة النجوم القريبة منا.‏ إذا لم يتغري مسارنا،‏ فسنخرج منالنظام الشمسي في الاتجاه العام لنجم السهم.‏ سنصل إلى مجموعة برناردخلال عدة آلاف من السنوات.»‏بدأت سيمون تبكي،‏ فقد تأخر الوقت وكانت متعبة جدٍّا.‏ استأذنت منهمونزلت إلى حجرة مايكل لأرضعها بينما يحلل الرجلان املعلومات التي جاءتبها املستشعرات على الشاشة السوداء لرييا ما إذا كان يمكنهما تحديد ماالذي يحدث.‏ رضعت سيمون بعصبية حتى إنها آملتني مرة.‏ كان انزعاجهاغري معتاد باملرة؛ فهي بطبيعتها طفلة هادئة.‏ قلت لها:‏ ‏«تشعرين بخوفنا،‏أليس كذلك؟»،‏ قرأت أن الرضع يشعرون بأحاسيس البالغني املوجودينحولهم.‏ ربما يكون هذا صحيحًا.‏ظللت عاجزة عن النوم حتى بعد أن غطت سيمون في نوم مريحعلى بطانيتها على الأرض.‏ كانت حاسة الإنذار بالخطر تنذرني بأن أحداثالليلة تشري إلى الدخول في طور جديد من أطوار حياتنا على متن راما.‏ولم تطمئنني حسابات ريتشارد التي تقول إن راما قد تحلق في الفضاءالواقع بني النجوم لآلاف السنوات.‏ حاولت أن أتخيل العيش في ظل الظروفالراهنة ملا تبقى من حياتي،‏ فأبى عقلي.‏ لا بد أن هذه الحياة ستكون مملةلسيمون.‏ وجدت نفسي أدعو الله أو سكان راما أو أي كائن يملك القدرةعلى تغيري مستقبلنا.‏ كان دعائي بسيطًا،‏ فقد طلبت أن تؤدي التغيرياتاملقبلة إلى تحسني مستقبل طفلتي الرضيعة.‏٢٨ مايو/أيار ٢٢٠١للمرة الثانية سمعنا الليلة صفريًا طويلاً‏ أعقبه عرض ضوئي مبهر فيالتجويف الجنوبي من راما.‏ ولكني لم أذهب لأراه،‏ فقد مكثت في امللجأ معسيمون.‏ لم يقابل مايكل أو ريتشارد أيٍّا من السكان الآخرين في راما.‏ قالريتشارد إن العرض استغرق تقريبًا نفس الوقت الذي استغرقه العرضالأول،‏ ولكن كل عرض كان مختلفًا عن الآخر اختلافًا كبريًا.‏ أما مايكل فكانانطباعه هو أن الفرق امللحوظ الوحيد في العرض كان في الألوان،‏ ففي رأيهكان اللون املهيمن الليلة هو اللون الأزرق،‏ بينما كان اللون الأصفر سائدًامنذ يومني.‏32


الفصل الثالثكان ريتشارد متأكدًا من أن سكان راما يعشقون رقم ثلاثة،‏ وأنه لذلكسيكون هناك عرض ضوئي آخر عند حلول الليل.‏ سيبدأ العرض الثالثفي خلال يومني من أيام الأرض،‏ وذلك لأن الأيام والليالي في راما أصبحتمتساوية الآن تقريبًا ومجموعها ثلاث وعشرون ساعةً،‏ وهي املدة الزمنيةالتي يطلق عليها ريتشارد اعتدال راما،‏ وقد تنبأ بها زوجي الذكي تنبؤًاصحيحًا في التقويم الذي أصدره لي وملايكل منذ أربعة أشهر.‏ نتوقع جميعًاحدوث شيء غري معتاد بعد العرض الثالث مباشرة.‏ سأشاهد ما سيحدثإلا إذا كان فيه خطر على سلامة سيمون.‏٣٠ مايو/أيار ٢٢٠١بدأت سرعة بيتنا الأسطواني الضخم تزداد زيادةً‏ كبريةً‏ منذ أربع ساعات.‏ريتشارد يشعر بحماسة بالغة حتى إنه لا يستطيع تمالك نفسه،‏ فهو مقتنعأنه يوجد تحت نصف الأسطوانة الجنوبية املرتفعة نظام دفع يعمل وفقًاملبادئ الفيزياء على نحو يفوق تصورات أوسع مهندسي الأرض وعلمائهاخيالاً‏ ، وهو يحدق في البيانات التي جاءت بها املستشعرات الخارجية علىالشاشة السوداء حاملاً‏ حاسبه املحمول الحبيب في يده،‏ ويدخل بعضالبيانات الإضافية استنادًا إلى ما يراه على الشاشة،‏ ومن وقت إلى آخر يتمتممحدثًا نفسه أو مخاطبًا إيانا برأيه عن تأثري مناورة راما على مسارنا.‏كنت غائبة عن الوعي في قاع الحفرة في الوقت الذي قامت فيه رامابتصحيح مدارها في منتصف رحلتها لكي تدخل في مدار من املمكن أنيحدث معه اصطدام بالأرض،‏ لذا لا أعرف كم اهتزت الأرض أثناء املناورةالسابقة،‏ ولكن ريتشارد يقول إن تلك الاهتزازات تافهة مقارنةً‏ بما نمربه الآن،‏ فقد بات مجرد املشي في الوقت الحاضر أمرًا صعبًا؛ فالأرض تعلووتهبط بسرعة كبرية جدٍّا وكأن هناك آلة لثقب الصخور تعمل على بعدأمتار قليلة منا.‏ منذ أن بدأت عملية الإسراع ونحن نمسك بسيمون بنيأذرعنا؛ فنحن لا نستطع أن نضعها على الأرض أو على مهدها لأن الاهتزازيخيفها.‏ أنا الوحيدة التي تتحرك حاملة سيمون،‏ وأنا أتوخى كل الحذر،‏ إذكان يقلقني بشدة احتمال فقدان توازني وسقوطي — لقد سقط ريتشارد33


جنة راماومايكل مرتني حتى الآن — وقد تصاب سيمون إصابة خطرية إذا ما سقطتُ‏في وضع خاطئ.‏في هذه اللحظة،‏ يجلس ريتشارد وقد أسند ظهره إلى الحائط وهويحمل ابنتنا النائمة على صدره.‏ وقطع الأثاث البسيطة تقفز في أنحاء الغرفة،‏بل إن أحد الكراسي قفز خارج الغرفة إلى املمر واتجه نحو السلالم منذنصف ساعة.‏ في بادئ الأمر كنا نعيد قطع الأثاث إلى مكانها كل عشر دقائقأو نحوها،‏ أما الآن فإننا نتجاهلها — إلا إذا خرجت من املدخل إلى الردهة.‏وإجمالاً‏ ، أحداث تلك املدة التي بدأت بالعرض الضوئي الثالث والأخريفي الجنوب لا يصدقها عقل.‏ كان ريتشارد أول من خرج بمفرده تلكالليلة قبل حلول الظلام مباشرة،‏ وعاد بسرعة بعد دقائق قليلة وقد غلبهالحماس وسحب مايكل معه.‏ عندما عادا بدا مايكل وكأنه رأى شبحًا.‏ صرخريتشارد:‏ ‏«كائنات الأوكتوسبايدر تتجمع العشرات منها بطول الشاطئ علىبعد كيلومترين شرقًا.»‏قال مايكل:‏ ‏«لا يمكنك أن تعرف عددها الحقيقي؛ فلم نرها سوىعشر ثوانٍ‏ على أقصى تقدير قبل أن تنطفئ الأنوار.»‏تابع ريتشارد حديثه قائلاً‏ : ‏«شاهدتها فترة أطول عندما كنت بمفردي،‏واستطعت أن أراها بوضوح شديد باملنظار املقرب،‏ في بادئ الأمر كان هناكالقليل منها،‏ ولكنها بدأت تتدفق بالعشرات فجأة.‏ وما إن بدأتُ‏ في عد ِّهاحتى انتظمت في شيء يشبه التشكيل.‏ وكان هناك أوكتوسبايدر عملاق ذورأس مخططة باللونني الأحمر والأزرق واقفًا بمفرده فيما يبدو في مقدمةالتشكيل.»‏أضاف مايكل،‏ وأنا أحدق فيهما غري مصدقة:‏ ‏«لم أرَ‏ العملاق ذا اللوننيالأحمر والأزرق،‏ ولا أي تشكيل،‏ ولكنني بالتأكيد رأيت الكثري من املخلوقاتذات الرءوس السمراء واملجسات ذات اللونني الأسود والذهبي.‏ أعتقد أنهاكانت تنظر نحو الجنوب منتظرة بدء العرض الضوئي.»‏قال لي ريتشارد:‏ ‏«شاهدنا املخلوقات الطائرة أيضً‏ ا.»‏ والتفتَ‏ إلى مايكلمتسائلاً‏ : ‏«في اعتقادك،‏ كم كان يضم هذا السرب؟»‏أجاب مايكل:‏ ‏«خمسً‏ ا وعشرين،‏ ربما ثلاثني.»‏34


الفصل الثالثوقال ريتشارد:‏ ‏«كانت تحلق عاليًا في الجو فوق نيويورك،‏ وهي تطلقصرخات أثناء ارتفاعها،‏ ثم طارت باتجاه الجنوب عبر البحر الأسطواني.»‏توقف ريتشارد لحظة ثم تابع:‏ ‏«أعتقد أن هذه الطيور مرت بهذا من قبل.‏أعتقد أنها تعرف ما سيحدث.»‏بدأت أدثر سيمون في أغطيتها.‏ سأل ريتشارد:‏ ‏«ماذا تفعلني؟»‏ أوضحتأنني لن يفوتني العرض الضوئي الأخري،‏ وذك َّرت ريتشارد بأنه حلف ليبأن كائنات الأوكتوسبايدر لا تغامر بالخروج إلا ليلاً‏ ، ولكنه أجاب بثقة،‏في اللحظة التي بدأ الصفري يدوي فيها،‏ ‏«هذه مناسبة خاصة.»‏بدا لي عرض الليلة أكثر روعة،‏ وربما يرجع ذلك إلى أنني كنت في حالةترقب.‏ كان اللون الأحمر هو السائد في تلك الليلة.‏ ففي لحظة ما،‏ رسمتدفق من النور لونه أحمر ناري شكلاً‏ سداسيٍّا كاملاً‏ يوصل بني قمم ستجبال صغرية.‏ ولكن مع أن أنوار راما كانت رائعة للغاية،‏ فلم تكن املشهدالأكثر الأهمية في تلك الأمسية،‏ فبعد حوالي ثلاثني دقيقة من بدء العرض،‏صرخ مايكل فجأة:‏ ‏«انظرا!»‏ وهو يشري باتجاه امتداد الشاطئ بالاتجاهالذي رأى فيه هو وريتشارد كائنات الأوكتوسبايدر في وقت سابق.‏اشتعلت عدة كرات من النور معًا في السماء فوق البحر الأسطوانياملتجمد.‏ كانت تلك الأنوار الساطعة تبعد عن الأرض نحو خمسني مترًا وتنريمساحة من الثلج تحتها تبلغ حوالي كيلومتر مربع.‏ خلال دقيقة أو نحو ذلكاستطعنا فيها أن نرى بعض التفاصيل،‏ رأينا كتلة سوداء ضخمة تتحركإلى الجنوب فوق الثلج.‏ ناولني ريتشارد منظاره في الوقت الذي بدأ فيهالنور النابع من تلك الأنوار الساطعة يخبو،‏ فرأيت بعض املخلوقات داخلذلك القطيع،‏ وكان عدد كبري جدٍّا من كائنات الأوكتوسبايدر ذات رءوسملونة،‏ ولكن الغالبية كانت ذات لون رمادي داكن مثل ذاك الذي طاردنافي امللجأ.‏ وحني رأينا املجسات ذات اللونني الأسود والذهبي وأشكال أجسادتلك املخلوقات،‏ تأكدنا أنها من نفس فصيلة ذلك املخلوق الذي رأيناه يتسلقالنتوءات العام املاضي.‏ كان ريتشارد محقٍّا،‏ إذ كان هناك العشرات منها.‏عندما بدأت املناورة،‏ عدنا بسرعة إلى ملجئنا،‏ إذ كان من الخطر البقاءفي الخارج في راما في الوقت التي تحدث فيه الاهتزازات القوية.‏ من وقت إلى35


جنة راماآخر كانت تنفصل أجزاء صغرية من ناطحات السحاب املحيطة بنا وتتحطمعلى الأرض،‏ وبدأت سيمون تبكي فور أن بدأ الاهتزاز.‏بعد رحلة نزول شاقة إلى ملجئنا،‏ بدأ ريتشارد يفحص املستشعراتالخارجية وصب جل اهتمامه على تفقد أوضاع النجوم والكواكب ‏(يمكنرؤية كوكب زحل بالتأكيد في بعض الصور التي ترسلها مستشعرات راما)‏ثم أجرى بعض الحسابات استنادًا إلى املعلومات التي حصل عليها مناملشاهدة.‏ تناوبت أنا ومايكل حمل سيمون — في النهاية جلسنا في ركن الغرفةحيث أعطانا الحائطان املتجاوران إحساسً‏ ا بشيء من الاستقرار — وأخذنانتحدث عن وقائع اليوم املدهش.‏بعد ساعة تقريبًا أعلن ريتشارد نتائج التحديد الأو َّلي للمدار،‏ بدأبإعطائنا إحداثيات املدار — نسبة إلى الشمس — الخاصة بمسار القطعالزائد الذي كنا نسري فيه قبل أن تبدأ املناورة،‏ ثم عرض علينا بطريقةدرامية عناصر التماس ‏(حسبما أطلق عليها)‏ الجديدة ملسارنا الحالي.‏ لا بدأنني خزنت في مكان ما في أعماق عقلي معلومات تقدم تعريفًا ملصطلحعناصر التماس،‏ ولكن لحسن الحظ لم أكن في حاجة لاستعادتها،‏ فقداستطعت أن أفهم من السياق أن ريتشارد كان يستخدم طريقة مختصرةليخبرنا إلى أي حد تغري القطع الزائد خلال الساعات الثلاث الأولى مناملناورة.‏ ورغم هذا فاتني أن أفهم املعنى الضمني الكامل لحدوث تغري فيلامركزية القطع الزائد.‏كان مايكل يتذكر ما درسه من امليكانيكا السماوية أكثر مني،‏ وسألعلى الفور:‏ ‏«هل أنت متأكد؟»‏أجاب ريتشارد:‏ ‏«للنتائج الكمية هامش خطأ كبري ولكن لا شك فيالطبيعة النوعية لتغري املسار.»‏سأل مايكل:‏ ‏«إذن هل تتزايد سرعة خروجنا من النظام الشمسي؟»‏أومأ ريتشارد برأسه وهو يقول:‏ ‏«هذا صحيح.‏ زيادة سرعتنا تصبفعليٍّا في اتجاه يزيد من سرعتنا قياسً‏ ا بالشمس.‏ لقد أضافت املناورة حتىالآن عدة كيلومترات في الثانية لسرعتنا املحسوبة مقارنة بسرعة الشمس.»‏‏«آه»‏ أجاب مايكل:‏ ‏«هذا مذهل.»‏36


الفصل الثالثفهمت لب ما يقوله مايكل.‏ إذا كنا نحتفظ بأي أمل في إمكانية سفرنافي رحلة غري مباشرة ستعود بنا إلى الأرض على بساط سحري،‏ فإن هذاالأمل يتبدد الآن؛ فراما كانت على وشك مغادرة النظام الشمسي بسرعة أكبربكثري مما تخيل أي منا.‏ بينما أخذ ريتشارد يتغنى بنظام الدفع الذي تمكنمن إدخال كل هذا التغيري على سرعة هذه ‏«السفينة العملاقة».‏ أرضعتسيمون ووجدت نفسي أفكر مرة أخرى في مستقبلها.‏ إذن فنحن نغادرالنظام الشمسي لا محالة،‏ وفي طريقنا إلى مكان آخر،‏ دارت هذه الفكرة فيرأسي.‏ هل سأرى عاملًا آخر؟ هل سترى سيمون عاملًا آخر؟ هل من املحتمليا ابنتي أن تكون راما هي موطنك طوال حياتك؟ظلت الأرض تهتز بقوة،‏ ولكن هذا يواسيني.‏ يقول ريتشارد إن سرعةخروجنا لا تزال تتزايد بسرعة،‏ هذا حسن،‏ ما دمنا ذاهبني إلى مكان جديدفأنا أريد السفر إلى هناك بأسرع ما يكون.‏37


الفصل الرابع٥ يونيو/حزيران ٢٢٠١استيقظت في منتصف الليلة املاضية بعد سماع صوت دقات متواصلة يأتيمن اتجاه املمر الرأسي في ملجئنا.‏ ومع أن املستوى الطبيعي للضوضاءالصادرة عن الاهتزاز املستمر مرتفعٌ،‏ فقد استطعت أنا وريتشارد أن نسمعالط َّرْق بوضوح وبلا أية صعوبة.‏ سرنا بحذر إلى املمر الرأسي بعد أن ألقيتنظرة على سيمون،‏ وتحققت من أنها نائمة نومًا مريحًا في مهدها الجديدالذي صنعه ريتشارد بحيث يحد من الاهتزازات.‏اشتد صوت الط َّرَقات تدريجيٍّا ونحن نصعد السلم تجاه الشبكة التيتحمينا من الزوار غري املرغوب فيهم.‏ وعند إحدى درجات السلم مالريتشارد إلي َّ وهمس لي قائلاً‏ : ‏«لا بد أن ماكداف يدق على البوابة»‏ وأن‏«فعلتنا الشريرة»‏ سرعان ما ستُفتضح.‏ كنت متوترة توترًا يجعلني عاجزةعن الضحك.‏ عندما كنا على بعد عدة أمتار أسفل الشبكة،‏ رأينا ظلاٍّ‏ ضخمًامتحركًا يظهر على الحائط أمامنا،‏ فتوقفنا لنتفحصه.‏ أدركت أنا وريتشاردعلى الفور أن غطاءَ‏ ملجئنا الخارجي مفتوحٌ‏ — كان ضوء الشمس يغمرالجانب الأعلى من راما في هذا الوقت — وأن املخلوق أو الكائن الآلي الراميّ‏الذي كان يطرق هو صاحب الظل الغريب الذي يظهر على الحائط.‏أمسكت بيد ريتشارد تلقائيٍّا،‏ وتساءلت بصوت مرتفع قائلة:‏ ‏«ترىماذا يكون ذلك؟»‏قال ريتشارد بهدوء شديد:‏ ‏«لا بد أنه شيء جديد.»‏


جنة راماأخبرته أن الظل يشبه مضخة بترول قديمة الطراز تتحرك إلى أعلىوإلى أسفل وسط حقل إنتاج،‏ فابتسم والقلق يعلو وجهه ووافقني الرأي.‏بعد أن ظللنا ننتظر نحو خمس دقائق دون أن نرى أو نسمع أيتغري في إيقاع الط َّرَقات التي يسببها الزائر،‏ أخبرني ريتشارد أنه سيصعدإلى الشبكة حتى يتاح له رؤية شيء له ملامح محددة أكثر من مجرد ظل.‏بالطبع هذا معناه أن الكائن الذي يدق بابنا في الخارج سيستطيع أن يراه،‏على افتراض أن له عينني أو ما يقوم مقامهما.‏ لسبب ما تذكرت دكتورتاكاجيشي في هذه اللحظة واجتاحتني موجة من الخوف،‏ فقب َّلتُ‏ ريتشاردوطلبت منه ألا يجازف.‏عندما وصل ريتشارد إلى الدرجة الأخرية من درجات السلم،‏ أعلى املكانالذي كنت أنتظر فيه مباشرةً،‏ أصبح الضوء يغمر معظم جسده،‏ وحجبالظل َّ املتحرك.‏ توقف الط َّرْق فجأة.‏ صاح ريتشارد:‏ ‏«إنه كائن آلي،‏ بلا ريب،‏ويبدو أشبه بحشرة فرس النبي وله يد إضافية في وسط وجهه.»‏وأضاف وقد اتسعت عيناه فجأة:‏ ‏«وهو الآن يفتح الشبكة.»‏ وقفز منعلى درجة السلم.‏وصار بجواري في لحظة،‏ ثم خطف يدي وهرعنا نطوي درجات السلمطيٍّا،‏ ولم نتوقف إلا بعد أن عدنا إلى الطابق الذي نقيم فيه،‏ والذي يقعأسفل املدخل بعدة درجات.‏كان صوت الحركة فوقنا يصل إلى مسامعنا،‏ وقال ريتشارد وهو يلهث:‏‏«هناك فرس نبي آخر وكائن جر َّاف واحد على الأقل خلف فرس النبي الأول،‏وما أن شاهدوني حتى بدءوا في رفع الشبكة … يبدو أنهم كانوا يدقونلينبهونا إلى وجودهم.»‏طرحتُ‏ عليه سؤالاً‏ بلاغيٍّا:‏ ‏«ولكن ماذا يريدون؟»‏ وأخذت الضجة التيتأتي من فوقنا تزداد.‏ علقت قائلةً:‏ ‏«يبدو وكأنه جيش.»‏في خلال ثوانٍ‏ سمعناهم ينزلون الدَرَج.‏ قال ريتشارد باهتياج شديد:‏‏«يجب أن نستعد للهرب.‏ أحضري سيمون وأنا سأوقظ مايكل.»‏تحركنا بسرعة في املمر متوجهني إلى املنطقة التي نقيم فيها.‏ كان مايكلقد استيقظ من قبل بسبب كل تلك الضوضاء،‏ وبدأت سيمون تستيقظ هي40


الفصل الرابعالأخرى.‏ تجمعنا في حجرتنا الرئيسية وجلسنا على الأرض املهتزة أمام الشاشةالسوداء في انتظار الغزاة الفضائيني.‏ استخدم ريتشارد لوحة املفاتيح لإعدادأمر لسكان راما تقوم الشاشة السوداء بمقتضاه بالارتفاع عقب إدخالأمرين إضافيني مثلما ترتفع عندما يكون مضيفونا الذين لم نرهم علىوشك إمدادنا بمنتج جديد.‏ قال ريتشارد:‏ ‏«إذا تعرضنا لهجوم،‏ سنجازفبالدخول في الأنفاق التي تقع خلف الشاشة.»‏مرت نصف ساعة.‏ وأدركنا من الضوضاء القادمة من اتجاه السلمأن الدخلاء وصلوا بالفعل إلى الطابق الذي نقيم فيه،‏ ولكن لم يدخل أيمنهم بعد املمر الذي يؤدي إلى املنطقة التي نقيم فيها.‏ بعد خمس عشرةدقيقة أخرى استبد الفضول بزوجي،‏ قال ريتشارد:‏ ‏«سأتفقد املوقف»،‏وترك مايكل معي أنا وسيمون.‏عاد في أقل من خمس دقائق،‏ وقال وقد قطب جبينه حريةً:‏ ‏«يوجدمنهم خمسة عشر،‏ ربما عشرون:‏ ثلاثة من الكائنات الشبيهة بفرس النبيونوعان مختلفان من الكائنات الجر َّافة.‏ يبدو أنها تبني شيئًا في الجانباملقابل من امللجأ.»‏نامت سيمون مرة أخرى،‏ فوضعتها في املهد وسرت خلف الرجلني فياتجاه الضوضاء.‏ عندما وصلنا إلى املنطقة املستديرة التي يقع فيها السلمالذي يصعد إلى الفتحة املؤدية إلى نيويورك،‏ وجدنا املكان يموج بالحركة،‏وكان يستحيل الإملام بكل العمل الذي يقومون به في الجانب املقابل منالحجرة.‏ وكان يبدو أن الكائنات الشبيهة بفرس النبي كانت تشرف علىالكائنات الآلية الضخمة وهي تقوم بتوسيع ممر أفقي على الجانب الآخرمن الحجرة املستديرة.‏تساءل مايكل هامسً‏ ا:‏ ‏«هل لدى أي منكم فكرة عما يفعلون؟»‏أجاب ريتشارد:‏ ‏«ولا أدنى فكرة.»‏مر حوالي أربع وعشرون ساعة حتى الآن وما زلنا لا نعلم على وجهاليقني ما الذي تبنيه الكائنات الآلية.‏ يعتقد ريتشارد أن توسعة املمر تتملاستيعاب نوع ما من التجهيزات الجديدة،‏ وقال إن كل هذه الأنشطة لهاعلاقة بنا في الأغلب لأنها تتم في ملجئنا.‏41


جنة راماتعمل الكائنات الآلية دون أن تتوقف لأخذ قسط من الراحة أو لتتناولالطعام أو للنوم،‏ يبدو أنها تتبع خطة أو مجموعة خطوات رئيسية سبقإبلاغها بها بدقة؛ لأنها لا تتناقش أبدًا في أي شيء.‏ إنه ملشهد مهيب أن يشاهداملرء عملها املتواصل.‏ ولم تُبدِ‏ الكائنات الآلية أي إشارة توحي بإدراكهاأننا نقف ونشاهدها.‏منذ ساعة تحدثنا قليلاً‏ عن الإحباط الذي نشعر به بسبب عدم معرفتنابما يجري حولنا.‏ عند نقطة ما من الحديث،‏ ابتسم ريتشارد وقال والغموضيغلف حديثه:‏ ‏«في الواقع لا يختلف الوضع هنا عن الوضع على الأرض اختلافًاكبريًا.»‏ عندما ضغطنا عليه أنا ومايكل ليوضح ما يعنيه،‏ لوح بيده بحركةً‏دائريةً‏ وأجاب وهو شارد الذهن:‏ ‏«حتى في كوكبنا،‏ معرفتنا محدودة إلىدرجة خطرية.‏ فدائمًا ما يكون البحث عن الحقيقة تجربة محبطة.»‏٨ يونيو/حزيران ٢٢٠١لا أصدق أن الكائنات الآلية أنهت التجهيزات بهذه السرعة.‏ منذ ساعتنيتدحرج آخرهم صاعدًا السلم واختفى،‏ وهو كبري العمال من بني الكائناتالشبيهة بفرس النبي،‏ بعد أن أبلغنا بالإشارة ‏(مستخدمًا ‏«يده»‏ التي فيوسط ‏«وجهه»)‏ أن نعاين الحجرة الجديدة بعد الظهر مباشرةً.‏ قال ريتشاردإنه ظل في ملجئنا حتى تأكد أننا فهمنا كل شيء.‏الشيء الوحيد املوجود في الحجرة الجديدة هو حوض ضيق مستطيلالشكل من الواضح أنه صمم لنا،‏ وهو ذو جوانب معدنية لامعة ويبلغارتفاعه ثلاثة أمتار.‏ وكان هناك سلم معدني عند كل طرف من طرفيهيرتفع من الأرضية ويصل إلى حافته،‏ ويحيط ممشى قوي باملحيط الخارجيللحوض أسفل حافته بسنتيمترات قليلة.‏وبداخل البناء املستطيل أربعة أسرِ‏ ‏ّة شبكية مثبتة في الجدران،‏ وكلواحد من تلك الأسرة املبتكرة الرائعة صنع خصوصً‏ ا لفرد محدد من أفرادأسرتنا،‏ فسريري مايكل وريتشارد يقعان عند طرفي الحوض،‏ أما سيمونوأنا فلنا سريران شبكيان في املنتصف،‏ وسريرها الصغري يقع بجوار سريريمباشرةً.‏42


الفصل الرابعبالطبع،‏ حرص ريتشارد على فحص البناء بأكمله فحصً‏ ا تفصيليٍّا،‏واستنتج أن الحوض سيغلق وسيملأ على الأغلب بسائل،‏ وذلك لأن له غطاءولأن الأسرِ‏ ‏ّة ثبتت في تجويف الحوض على بعد يتراوح ما بني متر ونصفمتر من الجزء العلوي.‏ ولكن ما سبب بنائه؟ هل سنخضع ملجموعة ما منالتجارب؟ ريتشارد متأكد من أننا سنخضع للتجارب بطريقة أو بأخرىولكن مايكل يقول إن استخدامنا كفئران تجارب ‏«لا يتوافق مع شخصيةسكان راما»‏ كما عرفناها حتى الآن.‏ فوجدت نفسي أضحك على تعليقه،‏ها هو ذا مايكل يمد حدود تفاؤله الديني الذي لا يُرجى له الخلاص منهلتستوعب سكان راما أيضً‏ ا،‏ إنه دائمًا ما يعتقد — مثل شخصية دكتوربانجلوس Pangloss التي رسمها فولتري — أننا نحيا في أفضل كون علىالإطلاق.‏انتظر فرس النبي،‏ كبري العمال،‏ على املمشى امللحق بالحوض وشاهدناوكل واحد منا نحن الأربعة يرقد على سريره.‏ أشار ريتشارد إلى أنه معأن الأسرِ‏ ة مثبَتة على أعماق متباينة على طول الجدران،‏ فإننا ‏«سنغوص»‏جميعًا لنفس املستوى تقريبًا عندما ننام في هذه الأسرِ‏ ة الشبكيّة؛ والنسيجالشبكي الذي تتكون منه الأسرة مطاطي بعض الشيء،‏ وهو يذكرني بالنسيجالشبكي الذي رأيناه من قبل في راما.‏ وعندما كنت ‏«أجرب»‏ سريري بعدالظهرية،‏ ذكرني ارتداده بالرهبة والابتهاج اللذين شعرت بهما أثناء الرحلةالرائعة التي قمت بها عبر البحر الأسطواني وأنا مثبتة داخل شبكة.‏ عندماأغمضت عيني كان من السهل أن أرى نفسي مرة أخرى فوق املاء مباشرةً،‏معلقةً‏ أسفل ثلاثة من املخلوقات الطائرة الهائلة التي كانت تحملني إلىالحرية.‏هناك مجموعة من الأنابيب السميكة معلقة على طول حائط امللجأخلف الحوض من جهة املنطقة التي نعيش فيها،‏ وهي تتصل بالحوضمباشرة.‏ نشك في أن الهدف منها هو حمل سائل من نوعٍ‏ ما يُملأ الحوضبه،‏ أعتقد أننا سنكتشف هذا قريبًا جدٍّا.‏إذن ما العمل الآن؟ نتفق جميعًا على أن ننتظر وحسب.‏ لا شك في أنهميتوقعون منا أن نمضي بعض الوقت في هذا الحوض في نهاية الأمر،‏ ولكن43


جنة رامالا يبقى أمامنا سوى افتراض أنهم سيخطروننا بهذا عندما يحني الوقتاملناسب.‏١٠ يونيو/حزيران ٢٢٠١كان ريتشارد محقٍّا.‏ كان على يقني من أن الصفري املتقطع منخفض الترددالذي سمعناه في وقت مبكر أمس يعلن عن حدوث تحول آخر في مراحلاملهمة،‏ بل إنه اقترح علينا أن نتوجه إلى الحوض الجديد وأن نستعد لاحتلالأماكننا كل في سريره الخاص.‏ تجادلنا أنا ومايكل معه،‏ وأصررنا على أنهلا يوجد ‏«ما يكفي من معلومات»‏ تبرر استباق هذا الاستنتاج.‏كان علينا أن نستمع إلى نصيحة ريتشارد.‏ لقد تجاهلنا الصفري تقريبًاومضينا في حياتنا العادية ‏(إذا كان يمكن استخدام هذا املصطلح لوصفوجودنا داخل سفينة الفضاء غري الأرضية هذه).‏ بعد حوالي ثلاث ساعات،‏ظهر فرس النبي،‏ كبري العمال،‏ فجأة في مدخل حجرتنا الرئيسية ففزعتفزعًا شديدًا.‏ أشار بأصابعه الغريبة على امتداد املمر ففهمنا منه أنه يريدناأن نتحرك في الاتجاه الذي أشار إليه بشيء من السرعة.‏كانت سيمون لا تزال نائمة وانزعجت عندما أيقظتها،‏ كما أنها كانتجائعة،‏ ولكن فرس النبي الآلي لم يتح لي الفرصة لإطعامها؛ وأخذت سيمونتبكي بكاءً‏ متقطعًا ونحن نساق كالقطيع من ملجئنا إلى الحوض.‏كان هناك مخلوق آخر من املخلوقات الشبيهة بفرس النبي ينتظر علىاملمشى الذي يطوق حافة الحوض،‏ وهو يمسك بخوذاتنا الشفافة في أيديهالغريبة.‏ لا بد أنه املشرف؛ لأنه لم يدعنا ننزل إلى أسرتنا إلا بعد أن تحققمن أن الخوذات موضوعة كما ينبغي على رءوسنا.‏ املركب البلاستيكي أوالزجاجي الذي صنع منه الجزء الأمامي من خوذاتنا رائع؛ إذ يمكننا أننرى من خلاله رؤيةً‏ واضحةً.‏ قاعدة الخوذات رائعة أيضً‏ ا؛ فهي مصنوعةمن مركب لزج يشبه املطاط ويلتصق بالجلد بشدة مما يمكنه من إغلاقالخوذة إغلاقًا محكمًا يمنع تسرب أي شيء إليها.‏لم يمض على رقودنا على أسرِ‏ ‏ّتنا سوى ثلاثني ثانية حتى شعرنا بموجةقوية تضغطنا إلى أسفل نحو الأجزاء الشبكية وقد بلغت قوتها حدٍّا جعلنا44


الفصل الرابعنهبط حتى كدنا نصل إلى قاع الحوض الفارغ.‏ بعد لحظات،‏ التفت حولأجسادنا خيوط صغرية ‏(وكان يبدو أنها تخرج من املادة املصنوعة منهاأسرِ‏ ‏ّتنا).‏ فالتفتُ‏ إلى سيمون لأرى ما إذا كانت تبكي؛ فرأيت ابتسامة عريضةمرتسمة على وجهها.‏كان الحوض قد بدأ يمتلئ بسائل لونه أخضر فاتح،‏ وفي أقل مندقيقة أحاط بنا السائل،‏ كانت كثافته قريبة جدٍّا من كثافتنا؛ فقد طفوناجزئيٍّا على سطحه،‏ وسرعان ما انغلق غطاء الحوض.‏ بدأ الخوف يعترينيوالسائل يواصل ارتفاعه،‏ مع أنني استبعدت احتمال تعرضنا لأي خطرحقيقي من البداية.‏ فقد شعرت بالراحة عندما توقف السائل عن الارتفاعتاركًا لنا سنتيمترات قليلة أسفل الغطاء نتنفس فيها.‏ظلت السرعة تشتد طوال كل هذا الوقت،‏ ولحسن الحظ لم يكن الظلامدامسً‏ ا بداخل الحوض،‏ فقد ظهرت أضواء خافتة مبعثرة حول غطائه.‏ ورأيتسيمون بجواري،‏ وجسدها يقفز كطوق النجاة.‏ أيضً‏ ا،‏ رأيت ريتشارد عنبعد.‏مكثنا في الحوض ملا يزيد قليلاً‏ عن ساعتني.‏ عندما انتهينا،‏ كانريتشارد قد تملكه حماس شديد،‏ وأخبرني أنا ومايكل أنه متأكد من أنناانتهينا لتونا من ‏«اختبار»‏ يكشف عن مدى تحملنا للقوى ‏«الزائدة».‏وقال بحماس:‏ ‏«إن الزيادات التافهة في السرعة التي مررنا بها حتى الآنلا ترضي سكان راما،‏ فهم يريدون زيادة السرعة زيادةً‏ حقيقية،‏ ولتحقيقهذا،‏ لا بد أن تتعرض السفينة لزيادة كبرية في سرعتها تستمر مدة طويلة.‏لقد صمم هذا الحوض ليقوم بدور ممتص الصدمات حتى يتكيف تكوينناالبيولوجي مع الظروف البيئية غري املعتادة.»‏أمضى ريتشارد اليوم بأكمله في إجراء حسابات وأطلعنا منذ ساعاتقليلة على تحليله الأولي الجديد ل«حدث زيادة السرعة»‏ الذي وقع أمس.‏وصاح وهو لا يكاد يتمالك نفسه:‏ ‏«انظروا،‏ لقد قمنا بتغيري متكافئ فيالسرعة بمعدل سبعني كيلومترًا في الثانية خلال هذه املدة القصرية التيبلغت ساعتني.‏ وهذا هائل للغاية عندما يتعلق الأمر بسفينة فضاء بحجمراما!‏ كانت سرعتنا تزيد بمعدل نحو عشرة مرات ٩,٨ م/ث ٢ طوال الوقت.»‏45


جنة راماثم ابتسم لنا ابتسامة عريضة وقال:‏ ‏«هذه السفينة تستطيع العمل بنمطالسرعة القصوى بامتياز.»‏عندما انتهينا من الاختبار،‏ وضعت مجموعة جديدة من مجسات مراقبةالظواهر البيولوجية إحصائيٍّا على أجسادنا،‏ بما فينا سيمون.‏ لم أر أيةاستجابات غريبة،‏ على الأقل لم أر شيئًا يدعو إلى الحذر،‏ ولكن يجب أنأعترف أنني ما زلت قلقة بعض القلق على مدى تفاعل أجسادنا مع الضغط.‏وَب َّخني ريتشارد منذ دقائق قليلة قائلاً‏ : ‏«لا بد أن سكان راما لا يغفلونعن ذلك»‏ مشريًا إلى أن ما أقوم به غري ضروري وتابع:‏ ‏«أنا متأكد أنهميحصلون على معلوماتهم عن طريق هذه الخيوط.»‏46


الفصل الخامس١٩ يونيو/حزيران ٢٢٠١لن تكفي حصيلتي اللغوية لوصف التجارب التي عشتها على مدى الأيامالعديدة املاضية؛ فكلمة مدهش،‏ على سبيل املثال،‏ تعجز كثريًا عن التعبريعن املعنى الحقيقي ملدى تفرد هذه الساعات الطويلة التي قضيتها فيالحوض.‏ التجربتان الوحيدتان في حياتي اللتان تشبهان هذه التجربة بعضالشبه كانتا وليدتي تناول مواد كيميائية محفزة:‏ الأولى،‏ أثناء احتفال جمعيةبورو السرية في ساحل العاج وأنا في السابعة من عمري،‏ والثانية — حدثتفي وقت أقرب — بعد شرب زجاجة أومه عندما كنت في قاع الحفرة فيراما.‏ ولكنّ‏ هاتني التجربتني املثريتني أو الرؤيتني أو أيٍّا كان اسمهما،‏ كانتاحدثني منفصلني استغرقا وقتًا قصريًا نسبيٍّا،‏ أما ما عايشته في الحوضفاستمر ساعات.‏قبل أن أنهمك في وصف ما يموج به عقلي،‏ ينبغي أولاً‏ أن ألخصالأحداث ‏«الواقعية»‏ التي مررنا بها على مدار الأسبوع املاضي،‏ وذلك حتىيمكن فهم الأحداث الشبيهة بالهلاوس في سياقها.‏ أصبحت حياتنا اليوميةالآن تمضي على نسق متكرر،‏ وتواصل سفينة الفضاء القيام باملناورات وفقًالنمطني مختلفني:‏ الأول:‏ ‏«منتظم»‏ تهتز فيه الأرض ويتحرك كل شيء ولكنيمكن أن نحيا في ظله حياة شبه طبيعية،‏ والثاني:‏ ‏«ذو سرعة قصوى»‏تزيد فيه راما من سرعتها بمعدل كبري جدٍّا يُقد ِّر ريتشارد أنه يزيد الآنعن ١٠٧,٨ م/ث . ٢


جنة راماعندما تكون السفينة في وضع السرعة القصوى،‏ يصبح علينا نحنالأربعة أن ندخل الحوض.‏ تستمر فترات السرعة القصوى ملا يقل قليلاً‏ عنثماني ساعات في كل دورة من الدورات التي تستغرق سبعًا وعشرين ساعةوست دقائق في النمط املتكرر.‏ من الواضح أنه من املفترض أن ننام خلالمدة السرعة القصوى،‏ فالأضواء الخافتة فوق رءوسنا في الحوض املغلقتخبو بعد أول عشرين دقيقة من كل مدة،‏ ونظل راقدين في ظلام دامسحتى خمس دقائق قبل نهاية مدة الثماني ساعات.‏يرى ريتشارد أن هذا التغري في السرعة القصوى يعجل بإفلاتنا منمدار الشمس.‏ إذا ظلت املناورة الحالية ثابتة من حيث القوة والاتجاهواستمرت مدة شهر،‏ فستصل السرعة التي نتحرك بها إلى نصف سرعةالضوء قياسً‏ ا بنظامنا الشمسي.‏سأل مايكل أمس:‏ ‏«إلى أين نحن ذاهبون؟»‏أجاب ريتشارد:‏ ‏«الوقت لا يزال مبكرًا للإجابة عن هذا السؤال،‏ فكلما نعرف هو أننا ننطلق بمعدل هائل.»‏عُدلت حرارة وكثافة السائل داخل الحوض بدقة كل مدة،‏ حتى أصبحامساويني لحرارة وكثافة أجسادنا.‏ ولذلك،‏ عندما أرقد هناك في الظلام لاأشعر بشيء سوى وجود قوة دفع لأسفل تكاد تكون غري محسوسة.‏ دائمًاما يدلني عقلي على أنني بداخل حوض مخصص ملواكبة زيادة السرعة،‏يحيطني سائل من نوع ما يقوم مقام ممتص الصدمات حتى يتحملجسدي الدفع القوي الذي يتعرض له،‏ ولكن انعدام الإحساس بما حولييجعلني في النهاية أفقد إحساسي بجسدي كله،‏ وهنا بدأ ينتابني الهذيان.‏يبدو وكأنه من الضروري أن يحصل عقلي على مدخلات حسي َّة طبيعيةحتى يستمر جسدي في تأدية وظائفه على ما يرام؛ فإذا لم يصل إلى عقليأي صوت أو منظر أو طعم أو رائحة أو إحساس بالألم،‏ تطرأ الفوضى علىنشاطه.‏حاولت أن أناقش هذه الظاهرة مع ريتشارد منذ يومني ولكنه نظر إلي َّنظرةً‏ تنم عن شكه في جنوني؛ إذ لم تَنْتَبْه أي نوبات هذيان على الإطلاق،‏وإنما يقضي وقته في ‏«حالة سبات»‏ ‏(هذا هو الاسم الذي يطلقه على املدة48


الفصل الخامسالتي لا نتلقى فيها أي معلومات حسية قبل أن نستغرق في نوم عميق)‏ وهويقوم بحسابات رياضية أو يستحضر مجموعة كبرية من خرائط الأرض أوحتى يسبح بخياله في أفضل لحظاته الجنسية،‏ فهو بالتأكيد ‏«يسيطر»‏ علىعقله حتى في غياب املدخلات الحسي َّة.‏ لهذا نحن مختلفان اختلافًا كبريًا؛فعقلي يبحث عن اتجاه خاص به عندما لا أستخدمه في مهام مثل معالجةمليارات املعلومات الواردة من كل خلايا جسدي الأخرى.‏عادةً‏ ما يبدأ الهذيان بظهور بقعة ملونة حمراء أو خضراء في الظلامالدامس املحيط بي،‏ وحني تتسع البقعة تظهر ألوان أخرى،‏ هي غالبًا:‏الأصفر والأزرق والأرجواني.‏ وبسرعة يتخذ كل لون من الألوان صورة شكلغري منتظم ويمتد أمام مجال رؤيتي.‏ وأجد أمامي ما يشبه مشكالاً‏ منالألوان الزاهية.‏ تزداد سرعة الحركة في مجال رؤيتي حتى تندمج مئاتالخيوط والبقع في انفجار هائل.‏وسط زحام الألوان هذا،‏ دائمًا ما تتكون صورة متناسقة.‏ في البداية لاأتمكن من تحديد ماهية تلك الصورة بالتحديد لأن الشكل أو الأشكال التيتظهر تكون متناهية الصغر،‏ كما لو أن الصورة بعيدة،‏ بعيدة للغاية.‏ وأثناءاقتراب الصورة،‏ تتغري ألوانها عدة مرات مما يزيد من الطابع السريالي ملاأراه ومن الرعب الداخلي الذي أشعر به.‏ وغالبًا ما كنت أجد الصورة تظهرفيها أمي أو حيوان كالفهد أو اللبؤة أدرك تلقائيٍّا أنه أمي،‏ متخفيةً.‏ مادمت أراقب وحسب،‏ دون أن أقوم بأي محاولة إرادية للتفاعل مع أمي،‏فإنها تظل عنصرًا من عناصر الصورة املتغرية،‏ ولكن لو حاولت أن أتواصلمعها بأي طريقة تختفي على الفور،‏ هي أو الحيوان الذي يمثلها،‏ وتتركنيلإحساس جارف بأنها قد تخلت عني.‏أثناء إحدى نوبات الهذيان التي انتابتني في الآونة الأخرية،‏ تحولتاملوجات اللونية إلى أشكال هندسية تحولت بدورها إلى صور ظل ِّي َّة لبشريمشون في طابور واحد أمام مجال رؤيتي.‏ كان أومه في مقدمة املوكبمرتديًا ثوبًا لونه أخضر زاهٍ.‏ الشخصيتان الظاهرتان في آخر املجموعةكانتا امرأتني،‏ وهما بطلتا مراهقتي:‏ جان دارك وإليانور الأكويتينية.‏ عندماسمعت صوتهما لأول مرة،‏ انفض املوكب وتغري املشهد على الفور.‏ فجأة49


جنة راماوجدت نفسي في زورق صغري وسط ضباب الصباح الباكر الذي يغلف بركةالبط الصغرية قرب فيلتنا في بوفوا،‏ فارتعدت خوفًا وبدأت أبكي بكاءً‏ عجزتعن التحكم فيه.‏ ظهرت جوان وإليانور وسط الضباب والسديم ليطمئنانيعلى أن والدي لن يتزوج هيلينا،‏ الدوقة الإنجليزية التي سافر معها لقضاءإجازة في تركيا.‏في ليلة أخرى تبع افتتاحيةَ‏ الألوان عرضٌ‏ مسرحي غريب في مكان مافي اليابان.‏ كانت املسرحية القائمة على الهذيان تقتصر على شخصيتني فقطترتديان قناعني مبهرين معبرين.‏ ألقى الرجل الذي يرتدي بذلة ورابطة عنقعلى النسق الغربي أبياتٍ‏ من الش ِّ عرَ‏ وكانت له عينان صافيتان صريحتانإلى حد كبري،‏ تطلان من قناعه الذي يحمل تعبريًا ودودًا.‏ بدا الرجل الآخرأشبه بمصارع ساموراي من القرن السابع عشر.‏ وكان قناعه يحمل تعبريًاعابسً‏ ا ثابتًا.‏ بدأ يهددني أنا وزميله الذي ينتمي إلى عصر أحدث من عصره.‏صرخت في آخر هذا املشهد لأن الرجلني تقابلا في وسط املسرح واندمجا فيشخصية واحدة.‏بعض أزهى الصور النابعة من الهذيان لم تستمر سوى ثوان قليلة.‏ فيالليلة الثانية أو الثالثة،‏ ظهر الأمري هنري عاريًا،‏ وشهوته مشتعلةً،‏ وجسدهيلمع بلون أرجواني زاهٍ،‏ وذلك مدة ثانيتني أو ثلاث ثوانٍ‏ في وسط مشهدآخر كنت فيه ممتطيةً‏ أوكتوسبايدر أخضر عملاقًا.‏أثناء املدة التي نِمتها أمس لم تظهر أي ألوان مدة ساعات،‏ ثم عندماأصبحت على وعي بأن الجوع يمزق أحشائي،‏ ظهرت بطيخة مَنّ‏ ورديةعملاقة في الظلام.‏ عندما حاولت أن آكل البطيخة التي تراءت لي،‏ ظهرتلها أرجل وفرت بعيدًا،‏ وتلاشت بعد أن تحولت إلى ألوان مبهمة.‏هل لأي ٍّ من هذا مدلول معني؟ هل يمكن أن أعرف شيئًا عن نفسيأو عن حياتي عن طريق هذه الدفقات التي تبدو عشوائية والتي يأتي بهاعقلي غري الخاضع للتوجيه؟ظل الخلاف حول دلالة الأحلام محتدمًا نحو ثلاثة قرون حتى الآنولم يفصل فيه بعد.‏ ويبدو لي أن هذا الهذيان الذي ينتابني أكثر بعدًا عنالواقع من الأحلام العادية؛ إذ إنه يحمل شيئًا من الشبه البعيد لتجربتني50


الفصل الخامسمررت بهما في وقت مبكر من حياتي بعد تناول مواد مخدرة،‏ وأي محاولةلتفسريهما تفسريًا منطقيٍّا ستكون سخيفة.‏ ومع هذا،‏ ولسبب ما،‏ لا أزالأعتقد أن شطحات عقلي الجامحة التي تبدو مفككة،‏ تنطوي على شيء منالحقيقة،‏ وربما يرجع هذا إلى عدم تقبلي فكرة أن العقل البشري يمكن أنيعمل على نحو عشوائي ٍّ بحت.‏٢٢ يوليو/تموز ٢٢٠١أمس،‏ توقفت الأرض عن الاهتزاز أخريًا.‏ كان ريتشارد قد تنبأ بهذا،‏ عندمالم نعد إلى الحوض منذ يومني في الوقت املعتاد توقع ريتشارد أن املناورةقد انتهت تقريبًا،‏ وكان مصيبًا في توقعه.‏وبهذا نبدأ مرحلة جديدة من مراحل رحلتنا املدهشة.‏ أخبرنا زوجيأننا ننتقل الآن بسرعة تزيد على نصف سرعة الضوء،‏ وهذا يعني أننا نقطعمسافة تساوي املسافة ما بني الأرض والقمر كل ثانيتني تقريبًا.‏ نحن نسري،‏تقريبًا،‏ باتجاه الشعرى اليمانية،‏ أسطع نجم حقيقي يظهر ليلاً‏ في سماءكوكبنا الأصلي.‏ إذا لم تحدث مناورات أخرى فسنصل إلى جوار الشعرىاليمانية في غضون اثني عشر عامًا.‏أشعر بالارتياح لأن حياتنا الآن يمكن أن يعود إليها شيء من التوازنالداخلي.‏ يبدو أن سيمون اجتازت املدد الطويلة التي قضيناها في الحوضدون صعوبات تذكر،‏ ولكنني أعتقد أن أي طفلة رضيعة لن تخرج منهذه التجربة دون أن تصاب بأذى،‏ ولا بد أنها الآن في حاجة إلى أن نعودإلى نظام حياتنا اليومية املعتاد.‏عندما أكون بمفردي،‏ كثريًا ما أفكر في نوبات الهذيان القوية التيانتابتني في أول عشرة أيام من املدة التي قضيناها في الحوض.‏ يجب أنأعترف أنني سعدت عندما مررت في النهاية ب«حالات سبات»‏ عدة انقطعتفيها صلتي تمامًا بحواسي دون أن يغمر ذهني سيل من الأشكال امللونةوالصور التي لا يمت بعضها بصلة إلى بعض.‏ في ذلك الوقت كان القلق قدبدأ يساورني على سلامة عقلي،‏ وبصراحة تملكتني هذه الفكرة،‏ بل إننيتجاوزت هذه املرحلة بكثري.‏ ومع أن نوبات الهذيان توقفت فجأة،‏ كنت51


جنة راماأتذكر قوة تلك الرؤى،‏ مما كان يثري توجسي كلما خبت الأضواء املثبتة عندحافة الحوض على مدار الأسابيع العديدة املاضية.‏بعد الأيام العشرة الأولى هذه،‏ لم أرَ‏ سوى رؤية واحدة أخرى،‏ وربماكانت مجرد حلم شديد الوضوح رأيته أثناء نومي العادي.‏ ومع أن هذهالصورة بالذات لم تكن في نفس وضوح الصور السابقة،‏ فإنني تذكرت كلتفاصيلها لأنها تشبه ما رأيته في إحدى نوبات الهذيان التي انتابتني وأنافي قاع الحفرة العام املاضي.‏في الحلم أو الرؤية الأخرية كنت جالسة مع والدي في حفلة موسيقيةمقامة في الهواء الطلق في مكان مجهول.‏ وكان هناك رجل شرقي كهلذو لحية بيضاء طويلة بمفرده على خشبة املسرح يعزف على آلة وتريةغريبة.‏ ولكن،‏ على عكس ما رأيته وأنا في قاع الحفرة،‏ لم أتحول أنا ووالديإلى عصافري صغرية ولم نحلق بعيدًا إلى شينون في فرنسا؛ وإنما اختفىجسد والدي تمامًا ولم يبق منه سوى عينيه.‏ في ثوان قليلة،‏ ظهرت خمسةأزواج أخرى من العيون واتخذت شكلاً‏ سداسيٍّا في الهواء فوقي.‏ تعرفتُ‏على عيني أومه على الفور وعلى عيني أمي،‏ أما العيون الثلاثة الأخرى فلمأتعرف عليها.‏ حدقت فيّ‏ العيونُ‏ التي تحتل رأس الشكل السداسي دون أنتطرف،‏ وكأنها تحاول أن تخبرني بشيء ما.‏ قبل أن يتوقف عزف املوسيقىمباشرةً‏ سمعت صوتًا واحدًا محددًا؛ سمعت عدة أصوات في نفس الوقتتنطق كلمة ‏«خطر».‏ما سبب نوبات الهذيان التي تنتابني؟ وملاذا يحدث هذا لي وحدي؟مر ريتشارد ومايكل أيضً‏ ا بفترة انقطاع عن الحواس وكل منهما أقر بأنهرأى ‏«أشكالاً‏ ملونة غريبة»،‏ ولكن الصور التي رأياها لم تكن مترابطةمنطقيٍّا على الإطلاق.‏ إذا كان تخميننا صحيحًا وكان سكان راما قد حقنونابمادة كيميائية أو أكثر مستخدمني الخيوط الصغرية التي كانت تلتف حولأجسادنا ليساعدونا على النوم في تلك البيئة غري املعتادة،‏ فلماذا كنت أناالوحيدة التي رأت رؤى في منتهى الغرابة؟يعتقد ريتشارد ومايكل أن الإجابة بسيطة وهي أنني ‏«شخص تجعلهالأدوية في حالة غري مستقرة وأتمتع بخيال واسع جدٍّا.»‏ وهذا هو التفسري52


الفصل الخامسالوافي في رأيهما،‏ ولم يتابعا املوضوع أكثر من هذا،‏ ومع أنهما يتصرفانبأسلوب مهذب عندما أطرح كل ما يتعلق ب«التجارب التي مررت بها»،‏يبدو عليهما عدم الاهتمام.‏ كنت أتوقع رد الفعل هذا من ريتشارد،‏ ولكنبالتأكيد لم أكن أتوقعه من مايكل.‏حتى الجنرال أوتول اململ لم يعد يتصرف كما ألفناه منذ أن بدأناجلساتنا في الحوض،‏ فمن الواضح أنه كان منشغلاً‏ بأمور أخرى،‏ لم أطلععلى شيء مما يشغله سوى هذا الصباح.‏بعد أن أخذت أحاصر مايكل بأسئلة ودودة لعدة دقائق،‏ أخريًا تحدثببطء قائلاً‏ : ‏«كنت دائمًا ما أعيد تشكيل تصوري هلل وأعيد التفكري في حدودقدراته مع كل إنجاز جديد يشهده العلم،‏ ولكن دون أن أعترف بهذا علىمستوى الوعي،‏ ونجحت في تقبل تصور عن سكان راما في إطار إيمانيبالكاثوليكية،‏ ولكن هذا أدى إلى التوسع في تصوري املحدود عن الله.‏ الآن،‏حني أجد نفسي على متن سفينة آلية تجوب الفضاء بسرعات نسبية،‏ أرىأنني يجب أن أحرر فكرتي عن الله من كل القيود تمامًا،‏ حينها فقط،‏يصبح الله،‏ من وجهة نظري،‏ هو القوة العليا التي تُسَ‏ ري ِّ جميع ذرات الكونوالعمليات التي تتم فيه.»‏التحدي الذي سأواجهه في املستقبل القريب يكمن في الاتجاه املعاكسلهذا؛ إذ ينصب تفكري ريتشارد ومايكل على أفكار عميقة:‏ فريتشارد يركزعلى عالم العلوم والهندسة،‏ ومايكل على عالم الروح،‏ ومع إنني أستمتعللغاية بالأفكار املثرية التي تخطر لكل منهما أثناء رحلة بحثه املنفرد عنالحقيقة،‏ ينبغي أن يهتم أحدنا بمهام املعيشة اليومية،‏ والأهم من ذلك،‏تبقى على ثلاثتنا مسئولية إعداد الفرد الوحيد الذي ينتمي للجيل الجديدلحياة البالغني،‏ يبدو أن مهمة الإرشاد الأبوي ستقع دائمًا على عاتقي.‏إنها مسئولية أتقبلها بسرور،‏ فعندما تبتسم سيمون في وجهي ابتسامةً‏متألقةً‏ وهي تأخذ فترة راحة من الرضاعة،‏ لا أفكر في نوبات الهذيان التيتنتابني،‏ ولا تعنيني كثريًا فكرة وجود الله،‏ ولا أرى أهمية كبرية في أن سكانراما طوروا طريقةً‏ لاستخدام املياه كوقود نووي.‏ في تلك اللحظة،‏ يصبحالشيء الوحيد املهم هو أنني أم سيمون.‏53


جنة راما٣١ يوليو/تموز ٢٢٠١حل َّ الربيع على راما بلا ريب،‏ وبدأ الثلج يذوب فور انتهاء املناورة.‏ ففيذلك الوقت،‏ كانت الحرارة في الجانب العلوي من راما قد وصلت إلى درجةقارسة البرودة هي خمس وعشرون تحت الصفر،‏ وبدأ القلق يساورنا بشأنالحد الذي يحتمل أن يصل إليه انخفاض درجة الحرارة في الخارج ومدىنجاح النظام الذي ينظم البيئة الحرارية في ملجئنا في العمل بطاقته القصوىملواجهة ذلك الانخفاض.‏ كانت الحرارة ترتفع ارتفاعًا ثابتًا بمعدل درجةيوميٍّا تقريبًا منذ ذلك الوقت،‏ وبذلك املعدل،‏ كنا سنتجاوز حد التجمد خلالأسبوعني آخرين.‏نحن الآن خارج النظام الشمسي في الفراغ شبه التام الذي يملأ الفراغاتالهائلة بني النجوم املجاورة.‏ شمسنا لا تزال الجرم املهيمن في السماء ولكنلا يمكننا رؤية أي من الكواكب،‏ وريتشارد يبحث مرتني أو ثلاث مراتأسبوعيٍّا في البيانات التي يأتي بها من التليسكوب عن علامة تدل على وجوداملذنبات في سحابة أورت ولكن حتى الآن لم ير شيئًا.‏من أين تأتي الحرارة التي تدفئ الجزء الداخلي من مركبتنا؟ كانلدى املهندس البارع ورائد الفضاء الوسيم،‏ ريتشارد ويكفيلد،‏ تفسري سريععندما سأله مايكل هذا السؤال أمس،‏ فقال:‏ ‏«إن النظام النووي نفسه الذيكان يوفر التغري الرهيب في السرعة هو الذي يقوم بتوليد الحرارة الآنعلى الأرجح.‏ لا بد أن لراما نظامي تشغيل مختلفني؛ عندما تكون في جوارمصدر حرارة،‏ مثل نجم،‏ توقف عمل كل الأنظمة الرئيسية ومنها نظاماالدفع والتحكم الحراري.»‏وجهت له أنا ومايكل تحية على هذا التفسري الذي يبدو معقولاً‏ إلى حدبعيد،‏ ثم سألته بعد يومني قائلةً:‏ ‏«ولكن،‏ لا يزال هناك الكثري من الأسئلة:‏ملاذا،‏ على سبيل املثال،‏ تعمل راما بنظامني هندسيني مختلفني؟ وملاذا توقفعمل النظام الرئيسي من الأساس؟»‏أجاب ريتشارد بابتسامته املعتادة:‏ ‏«هنا،‏ لا يمكنني إلا أن أخمن،‏ ربماتحتاج النظم الرئيسية إلى إصلاحات دورية لا يمكن القيام بها إلا إذا كانهناك مصدر حرارة وطاقة خارجي.‏ لقد رأيتِ‏ كيف تقوم الكائنات الآلية54


الفصل الخامساملختلفة بصيانة سطح راما،‏ ربما كانت هناك مجموعة أخرى من الكائناتالآلية تقوم بصيانة النظم الرئيسية.»‏قال مايكل ببطء:‏ ‏«لدي َّ فكرة أخرى،‏ هل تعتقد أنهم تعمدوا أن يأتوابنا على متن سفينة الفضاء هذه؟»‏سأل ريتشارد عاقدًا حاجبيه:‏ ‏«ماذا تعني؟»‏‏«هل تعتقد أن وجودنا هنا جاء بمحض الصدفة؟ أم أن وجود بعضأفراد الجنس البشري في راما في هذه اللحظة حدث مرجح الحدوث نظرًالكل الاحتمالات ولطبيعة نوعنا؟»‏أعجبتني طريقة تفكري مايكل؛ كان يشري إلى أن سكان راما قد لايكونون مجرد عباقرة في العلوم البحتة والهندسة فحسب،‏ بل ربما يعرفونشيئًا عن السيكولوجية العامة للبشر أيضً‏ ا،‏ مع أنه لم يفهم هذه الإشارةتمامًا هو نفسه.‏ لم يفهم ريتشارد حديث مايكل.‏سألت:‏ ‏«هل تلمح إلى أن سكان راما تعمدوا تشغيل النظم الثانويةوهم في جوار الأرض،‏ متوقعني أنهم بهذا سيستدرجوننا ملقابلتهم؟»‏قال ريتشارد على الفور:‏ ‏«هراء.»‏رد مايكل:‏ ‏«لكن يا ريتشارد،‏ فكر في هذا؛ ما احتمال حدوث أي لقاءبيننا لو أن سكان راما قد اندفعوا إلى نظامنا بسرعة تزيد على سرعة الضوءبكثري وداروا حول الشمس ورحلوا في رحلتهم السعيدة؟ صفر بالطبع.‏وكما أشرت أنت،‏ ربما يوجد على هذه السفينة ‏«أجانب»‏ غرينا،‏ إذا كان مناملمكن أن نسمي أنفسنا أجانب.‏ وأشك أن تكون هناك الكثري من الأنواعالتي تستطيع …»استمر الحوار حوالي نصف ساعة،‏ وعندما انتهى،‏ ذك َّرتُ‏ الرجلني بأنالبحر الأسطواني سرعان ما سيذوب من أسفل وبأن ذلك ستتبعه أعاصريوموجات مد.‏ اتفقنا جميعًا بعد ذلك على أننا يجب أن نحضر املركبالاحتياطي من املوقع بيتا.‏استغرق الرجلان ما يربو قليلاً‏ على اثنتي عشرة ساعة ليشقا طريقهماعبر الثلج ذهابًا وإيابًا.‏ كان الليل قد أرخى سدوله من قبل حني عادا.‏عندما وصل ريتشارد ومايكل إلى ملجئنا مدت سيمون ذراعيها ملايكل،‏ إذأصبحت تعي ما حولها جيدًا …55


جنة راماقال مايكل مازحًا:‏ ‏«أرى أن هناك من سرُ‏ بعودتي.»‏قال ريتشارد:‏ ‏«لا حرج،‏ ما دام من تتحدث عنه هو سيمون فقط.»‏وبدا أن أسلوبه يغلب عليه البرود والتوتر على نحو غريب.‏استمر مزاجه الغريب طوال الليلة املاضية،‏ فسألته ونحن بمفردناعلى فراشنا:‏ ‏«ما بك يا حبيبي؟»‏ لم يجب على الفور،‏ لذا قبلته على خدهوانتظرت.‏قال ريتشارد أخريًا:‏ ‏«إنه مايكل،‏ لقد أدركت اليوم ونحن نحمل املركبعبر الثلج أنه يحبك،‏ ليتك سمعته،‏ لا يتحدث إلا عنك.‏ أنت الأم املثالية،‏والزوجة املثالية،‏ والصديقة املثالية،‏ حتى إنه اعترف أنه يحسدني.»‏لاطفت ريتشارد ثوانٍ‏ قليلة محاولةً‏ أن أفكر كيف أجيب.‏ قلت فيالنهاية:‏ ‏«أعتقد أنك تبالغ في رد فعلك على عبارات غري مقصودة يا حبيبي،‏إن مايكل كان يعبر ببساطة عن عاطفته الصادقة.‏ فأنا أيضً‏ ا مولعة به.»‏قاطعني مايكل فجأة:‏ ‏«أعرف … وهذا ما يزعجني،‏ إنه يعتني بسيمونمعظم الوقت الذي تكونني فيه مشغولة،‏ وتتحدثان معًا ساعات وأنا أعملفي مشاريعي …»توقف وحدق فيّ‏ بنظرة غريبة حزينة،‏ كانت نظرته مخيفة،‏ ليس هذاريتشارد ويكفيلد الذي عرفته عن قرب أكثر من سنة،‏ سرت قشعريرة فيجسدي وبعد ذلك لانت نظراته ومال ليقبلني.‏بعد أن تطارحنا الغرام ونام،‏ تقل َّبت سيمون فقررت أن أرضعها،‏ وأناأرضعها فكرت في املدة التي مضت منذ أن وجدنا مايكل في الجزء الأدنىمن التلفريك.‏ لا يوجد شيء أذكره من املمكن أن يكون قد أثار أدنى قدرٍ‏من غرية ريتشارد،‏ حتى علاقتنا الجسدية الحميمة ظلت منتظمة ومشبعة،‏مع أنني أعترف أنها لم تعد متميزة منذ مولد سيمون.‏ظلت النظرة املجنونة التي رأيتها في عيني ريتشارد تطاردني حتىبعد أن انتهيت من إرضاع سيمون.‏ أخذت على نفسي عهدًا بتخصيص املزيدمن الوقت لأختلي بريتشارد خلال الأسابيع املقبلة.‏56


الفصل السادس٢٠ يونيو/حزيران ٢٢٠٢تأكد لي اليوم أنني حامل مرة أخرى،‏ فسرُ‏ َّ مايكل،‏ أما ريتشارد فلم يبال،‏وهو ما أدهشني.‏ عندما تحدثت مع ريتشارد بمفردنا اعترف بأنه تعتريهمشاعر متضاربة لأن سيمون وصلت أخريًا إلى مرحلة لم تعد تحتاج فيهاإلى ‏«عناية دائمة»،‏ ذكرته بأننا عندما تحدثنا منذ شهرين حول إنجاب طفلآخر،‏ أبدى موافقته متحمسً‏ ا،‏ فأشار إلى أن شغفه بأن يصبح أبًا لطفل ثانٍ‏جاء نتيجةً‏ ‏«لحماسي الواضح»‏ في ذلك الوقت.‏سيأتي طفلنا الجديد إلى الوجود في منتصف مارس/آذار تقريبًا،‏ بحلولهذا الوقت،‏ سنكون قد انتهينا من إعداد غرفة نوم الأطفال،‏ وسيكون قدصار لدينا مكان كاف لاستيعاب جميع أفراد الأسرة،‏ يؤسفني أن ريتشاردليس مسرورًا بأنه سيصبح أبًا ثانية،‏ ولكنني سعيدة لأن سيمون ستحظىبرفيق يلعب معها.‏١٥ مارس/آذار ٢٢٠٣ولدت كاثرين كولني ويكفيلد ‏(نطلق عليها كيتي)‏ في الساعة السادسة وستعشرة دقيقةً‏ من صباح يوم الثالث عشر من شهر مارس/آذار.‏ كانت الولادةيسرية؛ فلم تستغرق املدة ما بني أولى الانقباضات القوية والولادة سوىأربع ساعات،‏ ولم أشعر بألم شديد قط،‏ ولدتُ‏ وأنا جالسة القرفصاء وكنتفي حالة جيدة جدٍّا،‏ حتى إنني قطعت الحبل السري بنفسي.‏


جنة راماإن كيتي تبكي كثريًا،‏ فجنيفياف وسيمون كانتا طفلتني لطيفتنيرقيقتني،‏ أما كيتي فمن الواضح أنها ستكون مصدر إزعاج.‏ سرُ‏ َّ ريتشاردبرغبتي في تسميتها على اسم والدته؛ وكنت آمل أن يصبح أكثر اهتمامًابدوره كأب في هذه املرة،‏ ولكنه في الوقت الحاضر مشغول للغاية ب«قاعدةاملعلومات الرائعة»‏ ‏(التي ستفهرس معلوماتنا كلها وتجعل الوصول إليهاسهلاً‏ ( مما كان يحول دون اهتمامه بكيتي.‏بلغ وزن ابنتي الثالثة عند ميلادها أقل من أربعة كيلوجرامات بقليلوبلغ طولها خمسة وأربعني سنتيمترًا،‏ لم يكن وزن سيمون ثقيلاً‏ هكذاحني وُلدت،‏ ولكن لم يكن لدينا ميزان دقيق حينها لأعرف على وجه اليقني.‏ولون بشرة كيتي مائل إلى البياض،‏ بل يكاد يكون أبيض،‏ وشعرها أفتحكثريًا من شعر أختها فاحم السواد،‏ وعيناها زرقاوان،‏ وقد أدهشني هذا؛أعرف أنه ليس من الغريب أن يولد الأطفال بعينني زرقاوين،‏ وأن لونعيونهم يتحول إلى لون داكن على نحو ملحوظ في السنة الأولى،‏ ولكنني لمأتوقع ولو للحظة أن يولد لي طفل بعينني زرقاوين.‏١٨ مايو/أيار ٢٢٠٣من العسري علي َّ أن أصدق أن سن كيتي تجاوز شهرين بالفعل،‏ ويا لهامن طفلة متعبة!‏ في هذا السن كان من املفترض أن أنجح في أن أعلمها ألاتنهش حلمة ثديي،‏ ولكنني لا أستطيع أن أدربها على الكف عن هذه العادة،‏وهي تكون صعبة املراس أكثر ما تكون عند وجود أحد آخر وأنا أرضعها،‏وإن التفتُ‏ مجرد التفاتة لأكلم مايكل أو ريتشارد أو حاولت الإجابة عنأحد أسئلة سيمون،‏ فإنها تشد حلمتي بعنف.‏كان ريتشارد متقلب املزاج جدٍّا في الفترة الأخرية،‏ في بعض الأحيانيكون ريتشارد الذي نعرفه،‏ ريتشارد الذكيّ‏ البارع الذي يضحكنا أناومايكل بقفشاته التي تنم عن سعة معرفته،‏ ولكن مزاجه قد ينقلب فيلحظة؛ إذ إن أي ملاحظة أبديها أنا أو مايكل ظانني أنها بريئة كفيلةبإصابته بالاكتئاب أو حتى الغضب.‏58


الفصل السادسأظن أن املشكلة الحقيقية التي يواجهها ريتشارد هذه الأيام هي امللل؛فقد أنهى مشروع قاعدة البيانات ولم يبدأ بعد في عمل كبري آخر،‏ كما أنالحاسوب الرائع الذي صنعه العام املاضي يحتوي على برامج فرعية تجعلعملية تواصلنا مع الشاشة السوداء عملاً‏ روتينيٍّا.‏ كان يمكن لريتشارد أنيضفي بعض التنويع على أيامه بأن ينهض بدور أكبر في تهذيب سيمونوتعليمها،‏ ولكنني أعتقد أن هذا ليس من طبعه،‏ وهو لا يبدو مأخوذًا مثليومثل مايكل بأنماط النمو املعقدة التي تظهر على سيمون.‏عندما كنت حاملاً‏ في كيتي،‏ كنت قلقة جدٍّا بسبب عدم اهتمام ريتشاردالواضح بالأطفال،‏ وقررت أن أواجه املشكلة مباشرةً‏ بأن أطلب منه أنيساعدني في بناء معمل صغري يم َّكنني من تحليل جزء من جينوم كيتيمن عينة من السائل الأمنيوسي من رحمي،‏ وكان املشروع يتضمن كيمياءمعقدة،‏ ومستوى من التعاون مع راما أعمق من أي مستوى حاولنا الوصولإليه من قبل،‏ وكذلك صناعة بعض الأدوات الطبية املعقدة ومعايرتها.‏نالت هذه املهمة إعجاب ريتشارد.‏ وأنا أيضً‏ ا أحببتها لأنها ذكرتنيبفترة دراستي في كلية الطب،‏ كنا نعمل معًا مدة اثنتي عشرة ساعةً‏ يوميٍّاوأحيانًا مدة أربع عشرة ساعة حتى أنهينا عملنا ‏(وكنا نترك مايكل يعتنيبسيمون.‏ لا شك أن كلاٍّ‏ منهما مولع بالآخر)،‏ وكثريًا ما كنا نتحدث عنعملنا حتى وقت متأخر من الليل،‏ بل حتى أثناء مطارحتنا الغرام.‏ولكن عندما جاء اليوم الذي أنهينا فيه تحليل جينوم ابنتنا القادمةاكتشفت أمرًا أثار دهشتي،‏ وهو مدى تحمس ريتشارد ملطابقة املعداتوالتحاليل لجميع مواصفاتنا أكثر من تحمسه بخصوص صفات ثاني بناتنا،‏اندهشت لذلك.‏ عندما أخبرته أنني حامل في أنثى،‏ وأن جيناتها لا تحملمتلازمة داون ولا متلازمة ويتينجهام،‏ وأن ما يظهر عليها مبدئيٍّا مناحتمالات الإصابة بالسرطان لا يتجاوز الحدود املقبولة؛ رد ردٍّا باهتًا،‏ ولكنعندما أثنيت على السرعة والدقة اللتني أتم َّ بهما النظامُ‏ الاختبارَ،‏ ابتسمريتشارد ابتسامة تنم عن الفخر.‏ ما أغرب زوجي!‏ إنه يستمد سعادته منعالم الرياضيات والهندسة أكثر مما يستمدها من الآخرين.‏لاحظ مايكل أيضً‏ ا القلق الذي ظهر على ريتشارد مؤخرًا،‏ فشجعه علىابتكار مزيد من اللعب لسيمون على نمط الدمى الرائعة التي صنعها عندما59


جنة راماكنت في الشهور الأخرية من حملي بكيتي.‏ وتلك الدمى لا تزال لعب سيموناملفضلة؛ فهي تسري بمفردها وتستجيب للكثري من الأوامر الشفهية.‏ في إحدىالليالي،‏ عندما كان ريتشارد في إحدى حالاته املزاجية التي تتسم بالحيويةالنابضة،‏ برمج شني بحيث يتواصل مع الدمى،‏ انفجرت سيمون في ضحكمتواصل عندما طارد الآلي وليام شكسبري ‏(يصر مايكل على تسمية الرجلالآلي الذي صنعه ريتشارد والذي يلقي أشعار شكسبري باسمه الكامل)‏الدمى الثلاث وحبسهن في ركن،‏ ثم أخذ يلقي وصلة من سونيتات الحبلشكسبري.‏لم يستطع شني نفسه أن يدخل البهجة على نفس ريتشارد في هذينالأسبوعني؛ إنه لا ينام جيدًا — وهذا غريب عليه — ولا يظهر حماسً‏ ا لأيشيء،‏ حتى علاقتنا الجنسية املنتظمة واملتنوعة توقفت،‏ لذا لا بد أن ريتشارديعاني من هموم تقض مضجعه.‏ قبل ثلاثة أيام،‏ خرج في الصباح الباكر‏(كان الوقت في راما أيضً‏ ا لم يتجاوز الفجر بكثري.‏ كل مدة يصبح لساعةالأرض في ملجئنا وساعة راما في الخارج نفس التوقيت)‏ وظل في نيويوركأكثر من عشر ساعات،‏ وعندما سألته عما كان يفعل أجاب بأنه جلس علىالسور وظل يحدق في البحر الأسطواني،‏ ثم غري املوضوع.‏مايكل وريتشارد مقتنعان بأننا الآن بمفردنا على جزيرتنا؛ فقد دخلريتشارد ملجأ املخلوقات الطائرة مرتني مؤخرًا،‏ وفي كل مرة كان يجلسعلى جانب املمر الرأسي بعيدًا عن الحراس املخصصني ملراقبة الحوض،‏كما أنه نزل ذات مرة في املمر الأفقي الثاني،‏ الذي كنت تخطيته قفزًا منقبل،‏ ولكنه لم ير أي علامة تدل على وجود حياة.‏ ملجأ الأوكتوسبايدر الآنيغطيه زوج من الشبكات املعقدة بني الغطاء واملنبسط الأول من الدَرَج.‏طوال الأشهر الأربعة املاضية،‏ كان ريتشارد يراقب املنطقة املحيطة بملجأالأوكتوسبايدر إلكترونيٍّا،‏ ومع أنه أقر بأن بعض الغموض يشوب البياناتالتي جمعها أثناء مراقبته،‏ فإنه يصر على أنه متأكد من أن الشبكات لمتفتح منذ وقت طويل،‏ استنادًا إلى املعاينة البصرية فقط.‏قام الرجلان بتجميع املركب الشراعي منذ شهرين،‏ ثم قضيا ساعتنييختبرانه في البحر الأسطواني،‏ لوحت لهما أنا وسيمون من على الشاطئ.‏60


الفصل السادسوبعد هذا،‏ فككا املركب ثانية وأدخلوها إلى ملجئنا لحمايته خوفًا من أنيصنفها السرطان الآلي على أنها ‏«مهملات»‏ ‏(كما فعلوا فيما يبدو مع املركبالشراعي الآخر.‏ فنحن لم نعرف قط ما الذي حل به،‏ فبعد هروبنا منقاذفات فالنكس النووية بيومني عدنا إلى حيث تركناه ولكننا لم نجده).‏أعرب ريتشارد عدة مرات عن رغبته في ركوب البحر إلى الجنوبومحاولة البحث عن مكان يمكن أن يتسلق فيه املنحدر الصخري الذي يبلغانخفاضه خمسمائة مترٍ؛ فمعلوماتنا عن نصف الأسطوانة الجنوبية من رامامحدودة للغاية،‏ وباستثناء الأيام القليلة التي قضيناها في مطاردة الآلينيمع طاقم رواد فضاء نيوتن الأصلي،‏ فإن معرفتنا باملنطقة تظل قاصرةعلى الصور البسيطة التي جمعناها من الصور الأولية التي التقطتها سفينةنيوتن التي تعمل بدون ربان عن طريق نظام البث شبه املباشر.‏ لا شكأن استكشاف الجنوب سيكون أمرًا مبهرًا.‏ وربما يم َّكننا ذلك من اكتشافاملكان الذي ذهبت إليه كل كائنات الأوكتوسبايدر تلك،‏ ولكننا لا نستطيعتحمل مغبة املخاطرة في هذه املرحلة،‏ فأسرتنا تعتمد على كل من الثلاثةالبالغني اعتمادًا حيويٍّا بحيث إن فقد أي واحد منا سيكون ضربة قاضية.‏أؤمن بأن مايكل أوتول راضٍ‏ بالحياة التي صنعناها لأنفسنا على راما،‏ولا سيما أن حصولنا على الحاسوب الكبري الذي صنعه ريتشارد أتاح لناالاطلاع على املزيد من املعلومات بلا صعوبة تذكر.‏ فنحن الآن نصل إلى كلالبيانات املوجودة في املوسوعات التي كانت مخزنة على متن مركبة نيوتنالعسكرية.‏ ومايكل منشغل حاليٍّا ب«وحدة دراسية»‏ — كما يطلق علىوسيلة تسليته املنظمة — هي تاريخ الفن.‏ فعلى مدى الشهر املاضي،‏ كانحديثه يسيطر عليه باباوات آل ميديتشي،‏ والباباوات الكاثوليكيون في عصرالنهضة،‏ ومايكل أنجلو،‏ ورفائيل،‏ وغريهم من الرسامني العظماء الذينعاشوا في تلك املدة،‏ وهو الآن يبحر في القرن التاسع عشر،‏ وهذه املدة منتاريخ الفن — في رأيي — شائقة أكثر،‏ ودارت بيننا مؤخرًا حوارات حول‏«ثورة»‏ املدرسة الانطباعية،‏ ولكن مايكل لم يقتنع بما قلته بأن املدرسةالانطباعية كانت مجرد نتيجة طبيعية لظهور الكامريا.‏يقضي مايكل ساعات طويلة مع سيمون،‏ وهو صبور وحنون ويهتمبها،‏ وهو يراقب نموها باهتمام،‏ ويسجل املحطات الرئيسية التي تمر بها في61


جنة راماحاسوبه املحمول الإلكتروني.‏ في الوقت الحالي تعرف سيمون واحدًا وعشرينحرفًا من حروف الأبجدية الستة والعشرين بالنظر ‏(ولكنها لا تميز بنيالسني والصاد والراء والزاي،‏ ولا تستطيع أن تتعلم الكاف لسبب ما)،‏وتستطيع أن تعد حتى عشرين حني يكون مزاجها صافيًا،‏ كما تنجح فيالتعرف على رسومات املخلوقات الطائرة وكائنات الأوكتوسبايدر وأربعة منأوسع أنواع الآليني انتشارًا،‏ كما أنها تعرف أسماء اثني عشر حواريٍّا،‏ وهذالم يسعد ريتشارد.‏ لقد عقدنا من قبل ‏«اجتماع قمة»‏ حول التربية الدينيةلبناتنا،‏ ولم يسفر إلا عن اختلاف مهذب في الرأي.‏بهذا لا يبقى سوى الحديث عني،‏ فأنا أشعر بالسعادة في أغلب الأوقات،‏مع أنني أمر بأيام تجتمع فيها عليّ‏ عدة عوامل مثل:‏ قلق ريتشارد،‏ وبكاءكيتي،‏ وسخافة حياتنا الغريبة على سفينة الفضاء هذه التي بنتها كائناتمن خارج الأرض؛ فتفت من عضدي.‏ أنا دائمًا مشغولة؛ فأنا أخطط ملعظمنشاطات الأسرة وأقرر ماذا نأكل ومتى،‏ وأنظم البرامج اليومية للأطفال بمافيها أوقات نومهم،‏ ولا أكف أبدًا عن طرح السؤال:‏ إلى أين نحن ذاهبون؟ولكن عدم معرفتي الإجابة لم يعد يصيبني بالإحباط.‏لو كان خياري بيدي،‏ ملا كان نشاطي الفكري الشخصي محدودًا هكذا،‏ولكنني أعود وأقول لنفسي إن اليوم به ساعات طويلة.‏ ومشكلتي لا تكمنفي أنني أفتقر إلى الحافز؛ فأنا وريتشارد ومايكل كثريًا ما ندخل في حواراتمثرية،‏ ولكن كلاٍّ‏ منهما لا يهتم كثريًا بالحقول الفكرية التي طاملا ظلتجزءًا من حياتي،‏ فعلى سبيل املثال:‏ ظللت اعتز كل الاعتزاز باملهارات التيأتمتع بها في اللغات واللغويات منذ بواكري أيام دراستي،‏ وحلمت منذ عدةأسابيع حلمًا مخيفًا بأنني نسيت الكتابة أو التحدث بأي لغة غري الإنجليزية،‏فظللت بعدها أمضي ساعتني بمفردي يوميٍّا مدة أسبوعني في مراجعة اللغةالفرنسية املحببة إليّ،‏ وفي استذكار الإيطالية واليابانية أيضً‏ ا.‏بعد ظهر أحد أيام الشهر املاضي عرض ريتشارد على الشاشة السوداءبيانات جاء بها تليسكوب راميّ‏ خارجي،‏ تظهر فيها شمسنا وآلاف النجومالأخرى على مرمى البصر.‏ كانت الشمس هي أكثر الأجرام السماوية ملعانًا،‏وإن كان ذلك على نحو طفيف،‏ ذكرني ريتشارد أنا ومايكل بأننا نبعد عن62


الفصل السادسكوكبنا الأزرق الأصلي أكثر من اثني عشر ألف مليار كيلومترٍ،‏ ونتحرك فيمدار قريب حول ذلك النجم البعيد الصغري.‏بعد ذلك،‏ في مساء نفس اليوم شاهدنا فيلم امللكة إليانور Eleanor the،Queen وهو أحد الأفلام الثلاثني — أو نحوها — التي جرى شحنها علىمتن نيوتن من البداية لتسلية طاقم رواد الفضاء،‏ كان الفيلم مقتبسً‏ ا — فيخطوطه العريضة — من الروايات الناجحة التي كتبها والدي عن إليانورالأكويتينية وصُ‏ و ِّر في كثري من املواقع التي زرتها مع والدي وأنا في مرحلةاملراهقة.‏ تدور أحداث املشاهد الأخرية من الفيلم في دير فونتفرول L’Abbaye،de Fontevrault وهي تتناول السنوات السابقة لوفاة إليانور.‏ أذكر نفسيوأنا في الرابعة عشرة من عمري واقفةً‏ في الدير بجوار والدي أمام التمثالاملنحوت لإليانور ويدي ترتعشان من فرط الانفعال وأنا أتشبث بيده،‏ قلتذات مرة لروح امللكة التي هيمنت على تاريخ القرن الثاني عشر في فرنساوإنجلترا:‏ ‏«كنت امرأة عظيمة،‏ أنت قدوة لي،‏ لن أخذلك.»‏في تلك الليلة،‏ بعد أن نام ريتشارد،‏ وبينما كانت كيتي هادئة مؤقتًا،‏فكرت في ذلك اليوم ثانية فملأني حزن عميق،‏ إحساس بالضياع لا أستطيعأن أصفه،‏ عندما ظهر في مخيلتي مشهد الشمس وهي تغرب بجوار صورتيوأنا مراهقة أقطع الوعود الشجاعة للملكة التي كان قد مضى على وفاتهانحو ألف عام،‏ تذكرت أن كل شيء عرفته قبل راما ذهب بلا رجعة،‏ ابنتايالأخريتان لن تريا أبدًا أيٍّا من الأماكن التي أعتز بها أنا وجنيفياف،‏ لن تعرفارائحة الحشائش بعد جزها مباشرةً‏ في الربيع،‏ لن تعرفا جمالَ‏ الزهورِ‏البهي َّ ، وتغريد العصافري،‏ وتألق البدر وهو يرتفع فوق املحيط،‏ لن تعرفاكوكب الأرض على الإطلاق،‏ ولا أيٍّا من ساكنيه فيما عدا هذا الطاقم الصغرياملؤلف من أفراد مختلفني،‏ الذين سيكونون في مرتبة عائلتهما،‏ وهو تمثيلغري وافٍ‏ للحياة الزاخرة على كوكبنا السعيد.‏في تلك الليلة بكيت بهدوء عدة دقائق،‏ كنت على علم وأنا أبكي بأننيسأرتدي قناع التفاؤل ثانيةً‏ في الصباح،‏ فرغم كل ذلك،‏ كان من املمكن أنيئول الوضع إلى أسوأ مما هو عليه؛ فنحن نتمتع بضروريات الحياة منغذاء وماء ومأوى وملبس،‏ وصحة جيدة وصحبة،‏ وبالطبع الحب،‏ فالحب63


جنة راماهو أهم عناصر سعادة البشر،‏ سواء أعلى الأرض أم على راما.‏ إذا لم تتعلمسيمون وكيتي من العالم الذي تركناه خلفنا سوى الحب،‏ فإن هذا يكفي.‏64


الفصل السابع١ أبريل/نيسان ٢٢٠٤كان اليوم غري عادي بكل ما فيه.‏ بدايةً،‏ ما إن استيقظ الجميع حتىأعلنت أننا سنخصص هذا اليوم لإحياء ذكرى إليانور الأكويتينية التي ماتتفي مثل هذا اليوم من ألف عام مضت بالضبط،‏ هذا إذا كان املؤرخونعلى صواب وإذا كنا تتبعنا التقويم بدقة.‏ وكان من دواعي سروري أنالأسرة كلها أيدت الفكرة وتطوع ريتشارد ومايكل على الفور للمساعدة فيإعداد مظاهر الاحتفال.‏ اقترح مايكل،‏ إذ استبدل وحدة تاريخ الفن التيكان يطالعها بأخرى عن الطهي،‏ أن يعد وجبة سريعة خاصة على طريقةالعصور الوسطى على شرف امللكة.‏ أما ريتشارد،‏ فخرج مسرعًا ومعه شنيهامسً‏ ا لي أن الروبوت الصغري سيعود في صورة امللك هنري الثاني.‏أعددت درس تاريخ قصري لسيمون لأعرفها بامللكة إليانور وبأحوالالعالم في القرن الثاني عشر،‏ وكانت منتبهة انتباهً‏ ا شديدًا.‏ حتى كيتي التيلا تجلس في هدوء لأكثر من خمس دقائق كانت متعاونة ولم تقاطعنا،‏وقضت معظم الصباح في لعب هادئ بلعبها الصغرية.‏ سألتني سيمون فينهاية الدرس عن سبب موت امللكة إليانور،‏ وعندما أجبت بأنها ماتت بسببتقدم العمر،‏ سألتني ابنتي ذات السنوات الثلاث عما إذا كانت امللكة إليانورقد ‏«دخلت الجنة».‏سألتُ‏ سيمون:‏ ‏«من أين أتيت بهذه الفكرة؟»‏


جنة راماأجابت:‏ ‏«من العم مايكل،‏ قال لي إن الطيبني يدخلون الجنة عندمايموتون،‏ وإن الأشرار يدخلون النار.»‏قلت لها بعد هنيهة من التأمل:‏ ‏«بعض الناس يعتقدون أن هناك جنةوالبعض الآخر يعتقدون في فكرة تسمى التناسخ،‏ بمعنى أن الناس تعودوتحيا أرواحها مرة أخرى في صورة شخص آخر أو حتى في صورة حيوانآخر.‏ وهناك آخرون يعتقدون أن كل مخلوق هو معجزة فريدة،‏ يصحو منذالحمل حتى الولادة ثم ينام للأبد عندما يموت.»‏ ابتسمتُ‏ وبعثرت شعرها.‏سألتني ابنتي بعد هذا:‏ ‏«وأنت يا أمي،‏ ما الذي تؤمنني به؟»‏شعرت بشعور يشبه الذعر يتملكني.‏ حاولت أن أكسب وقتًا أرتب فيهما أقوله فراوغتها بتعليقات قليلة،‏ بينما يتردد في عقلي تعبري من قصيدةلشاعري املفضل تي إس إليوت نصه:‏ ‏«ليؤدي بك إلى سؤال مربك.»‏ لحسنالحظ وصلت النجدة.‏‏«وداعًا يا صغريتي.»‏ دلف الروبوت الصغري شني إلى الحجرة مرتديًازيٍّا يفترض أنه يشبه ملابس ركوب الخيل في القرون الوسطى،‏ وأخبرسيمون بأنه هنري الثاني ملك إنجلترا وزوج امللكة إليانور.‏ تألقت ابتسامةسيمون ونظرت كيتي لأعلى واتسعت ابتسامتها.‏قال الروبوت وهو يحرك ذراعيه الصغريتني حركة توحي بالعظمة:‏‏«لقد بنيت أنا وامللكة مملكة عظيمة ضمّت في النهاية إنجلترا واسكتلنداوأيرلندا وويلز ونصف ما يسمى الآن بفرنسا.»‏ ومضى يلقى محاضرة مُعدةسلفًا بحيوية،‏ وأخذ يسلي سيمون وكيتي بغمزاته وحركات يديه،‏ ثم أدخليده في جيبه وأخرج سكينًا وشوكة صغريتني مدعيًا أنه هو من عَر َّف‏«الشعب الإنجليزي البربري»‏ بمفهوم أدوات الطعام.‏سألته سيمون بعد أن أنهى حديثه:‏ ‏«ولم سجنت امللكة إليانور؟»‏ ثمابتسمت،‏ لقد كانت منتبهة بالفعل في درس التاريخ.‏ دارت رأس الروبوتونظر باتجاه ريتشارد،‏ فرفع ريتشارد إصبعه طالبًا الانتظار قليلاً‏ ، واندفعخارجًا إلى املمر.‏ وبعد ما لا يزيد على دقيقة عاد شني،‏ املعروف أيضً‏ ا بهنريالثاني،‏ ومشى إلى سيمون وقال:‏ ‏«وقعت في حب امرأة أخرى فغضبت امللكةإليانور،‏ ولتنتقم مني حرضت أبنائي ضدي …»66


الفصل السابعبعد هذا بقليل كنت منهمكة مع ريتشارد في جدال طفيف حول الأسبابالحقيقية التي من أجلها حبس هنري إليانور ‏(كثريًا ما كنا نكتشف أننااطلعنا على روايات مختلفة عن التاريخ الأنجلو فرنسي)‏ حني سمعنا صرخةتأتي من بعيد،‏ وإن كانت واضحة.‏ في دقائق صعدنا نحن الخمسة إلى أعلى.‏وانطلقت الصرخة مرة ثانية.‏نظرنا إلى السماء من فوقنا،‏ فرأينا أحد املخلوقات الطائرة يطري وحيدًاباسطًا جناحيه فوق ناطحات السحاب ببضع مئات من الأمتار.‏ أسرعناإلى الأسوار املجاورة للبحر الأسطواني حتى نحظى برؤية أفضل،‏ وأخذاملخلوق الهائل يحلق حول محيط الجزيرة مرة ومرتني وثلاثة،‏ وفي نهايةكل دورة كان يطلق صرخة واحدة طويلة.‏ لوح ريتشارد بذراعيه وصرخأثناء طريانه ولكن لم تظهر أي إشارة بأن املخلوق قد لاحظ وجوده.‏بعد حوالي ساعة،‏ بدأ الاضطراب ينتاب الطفلتني.‏ وافقت على أن يعودبهما مايكل إلى امللجأ وأن أبقى أنا وريتشارد ما دام هناك احتمال للتواصل.‏استمر الطائر في الطريان على نفس النمط،‏ فسألت ريتشارد:‏ ‏«هل تعتقدأنه يبحث عن شيء ما؟»‏أجاب قائلاً‏ : ‏«لا أعرف.»‏ وعاد يصيح مرة أخرى ويلوح للطائر الذيوصل إلى النقطة التي أصبح فيها أقرب لنا،‏ وفي هذه املرة غَري َّ الطائرُ‏مسارَه ورسم أقواسً‏ ا جميلة طويلة في الهواء وهو يهبط هبوطًا حلزونيٍّا،‏وكلما زاد اقترابًا،‏ صار بوسعي أنا وريتشارد أن نرى بطنه الرمادي الناعموالحلقتني الحمراوين الزاهيتني اللتني تحيطان برقبته.‏همست لريتشارد:‏ ‏«إنه صديقنا»‏ فقد تذكرت الطائر القائد الذي وافقعلى نقلنا عبر البحر الأسطواني قبل أربع سنوات.‏غري أن هذا الطائر لم يعد ذلك املخلوق القوي ذا الصحة الجيدة الذيكان يطري في وسط التشكيل عندما هربنا من نيويورك؛ وإنما صار نحيلاً‏هزيلاً‏ متسخ الريش أشعثه.‏ قال ريتشارد والطائر يهبط على بعد حواليعشرين مترًا منا:‏ ‏«إنه مريض.»‏تمتم الطائر بشيء ما بهدوء وأدار رأسه بعنف كما لو كان ينتظرمجيء مزيد من الرفاق.‏ أخذ ريتشارد خطوة باتجاهه فلوّح الطائر بجناحيه67


جنة راماورفرف بهما مرة وتراجع عدة أمتار.‏ قال ريتشارد بصوت منخفض:‏ ‏«ماذالدينا من طعام يشبه بطيخ املن ِّ في تركيبه الكيميائي؟»‏هززت رأسي وأجبت:‏ ‏«ليس لدينا أي طعام إلا دجاج الليلة املاضية.»‏ثم أضفت فجأة:‏ ‏«انتظر لدينا الشراب الأخضر الذي يحبه الأطفال.‏ إنه يشبهالسائل الذي يكون في وسط بطيخ املن ِّ.»‏رحل ريتشارد قبل أن أنهي الجملة،‏ وطوال الدقائق العشر التي مضتقبل عودته ظللت أنا واملخلوق الطائر يحدق كل منا في الآخر في صمت.‏حاولت أن أركز عقلي على أفكار ودودة على أمل أن تعكس له عيناي نوايايالحسنة بطريقة ما.‏ شاهدت املخلوق الطائر يغري التعبري املرتسم على وجههمرة ولكن بالطبع لم أعرف معنى أي من تعبرياته.‏عاد ريتشارد حاملاً‏ سلطانية سوداء ممتلئة بالشراب الأخضر.‏ وضعالسلطانية أمامنا وأشار إليها ونحن نرجع إلى الخلف ستة أو ثمانية أمتار.‏اقترب الطائر من السلطانية في خطوات صغرية مترنحة حتى وقف فيالنهاية أمامها مباشرة،‏ وضع منقاره في السائل ورشف رشفةً‏ صغريةً‏ ثمأرجع رأسه للخلف ليبتلعها.‏ من الواضح أن الشراب كان لذيذًا إذ إن الطائرشربه كله في أقل من دقيقة.‏ عندما انتهى الطائر رجع إلى الخلف خطوتنيوبسط جناحيه على اتساعهما ودار دورة كاملة.‏قلت وأنا أمد يدي لريتشارد:‏ ‏«الآن علينا أن نقول ‏«عفوًا».»‏ قمنابحركة دائرية كالتي قمنا بها ونحن نقول له وداعًا وشكرًا قبل أربعسنوات،‏ وانحنينا انحناءة خفيفة في اتجاه الطائر بعد أن انتهينا.‏اعتقدت أنا وريتشارد أن املخلوق ابتسم،‏ ولكن سرعان ما أقررنا بعدذلك بأن هذا قد يكون من وحي خيالنا.‏ بسط الطائر ذو الريش الرماديجناحيه وارتفع عن الأرض وحلق فوقنا في الجو.‏سألت ريتشارد:‏ ‏«إلى أين تعتقدين أنه ذاهب؟»‏أجاب بصوت خفيض:‏ ‏«إنه يموت،‏ إنه يلقي نظرة أخرية على العالمالذي عرفه.»‏68


الفصل السابع٦ يناير/كانون الثاني ٢٢٠٥اليوم عيد ميلادي.‏ أنا الآن في الحادية والأربعني من عمري.‏ في الليلةاملاضية،‏ رأيت حلمًا آخر من أحلامي ذات التفاصيل الواضحة،‏ في هذاالحلم،‏ كنت عجوزًا وشعري كله رماديٍّا ووجهي تغطيه التجاعيد.‏ كنتأعيش في قصر — في مكان ما بالقرب من وادي لوار،‏ لا يبعد كثريًا عنبوفوا — مع ابنتني كبريتني ‏(كلتيهما لا تشبه،‏ في الحلم،‏ سيمون أو كيتيأو جنيفياف)‏ وثلاثة أحفاد.‏ كان الأولاد كلهم في مرحلة املراهقة،‏ وكانواأصحاء جسديٍّا ولكن كان هناك خطب ما في كل منهم،‏ كانوا كلهم أغبياء،‏بل ربما متخلفني عقليٍّا.‏ أتذكر أنني حاولت في الحلم أن أشرح لهم كيفيحمل جزيء الهيموجلوبني الأكسجني من الجهاز التنفسي إلى الخلايا،‏ ولكنلم يستطع أي منهم فهم ما كنت أقوله.‏استيقظت من الحلم وقد أصابتني حالة من الاكتئاب،‏ كنا في منتصفالليل وجميع أفراد الأسرة نائمون،‏ وكعادتي دائمًا،‏ سرت في املمر إلى حجرةالأطفال لأتأكد من أن الفتاتني لا تزالان مغطاتني ببطانيتيهما الخفيفتني.‏نادرًا ما تتقلب سيمون ليلاً‏ أما كيتي،‏ كالعادة،‏ فقد أطاحت بالبطانية وهيتتقلب،‏ أعدت الغطاء على كيتي وجلست على أحد الكراسي.‏وأخذت أسائل نفسي:‏ ما الذي يزعجني؟ ملاذا أشاهد الكثري من الأحلامعن الأبناء والأحفاد؟ في أحد أيام الأسبوع املاضي أشرت مازحة إلى احتمالإنجاب طفل ثالث فكاد ريتشارد يفقد صوابه،‏ إذ إنه يمر الآن بنوبة أخرىمن نوبات الاكتئاب املطولة التي تنتابه،‏ أعتقد أنه لا يزال نادمًا على أننيأقنعته بإنجاب كيتي.‏ أنهيت املوضوع على الفور حتى لا يلقي خطبة أخرىمن خطبه املشحونة بفلسفة العدم.‏هل أريد حقٍّ‏ ا إنجاب طفل آخر في هذه الظروف؟ بالنظر إلى املوقفالذي نحن فيه،‏ هل تصبح هذه الفكرة معقولة؟ حتى وإن نحينا مؤقتًاالأسباب الشخصية التي تدفعني إلى إنجاب طفل ثالث،‏ فإننا سنجد حجةبيولوجية قوية تؤيد استمرار الإنجاب،‏ إن أفضل ما يمكننا أن نفترضهبشأن مصرينا هو أننا لن نحظى بأي فرصة للتواصل مع فرد آخر منأفراد الجنس البشري،‏ وإذا كنا آخر أفراد سلالتنا،‏ فمن الحكمة أن ننتبه إلى69


جنة راماأحد مبادئ التطور الأساسية،‏ ألا وهو أنه كلما زاد التنوع الجيني،‏ ارتفعاحتمال البقاء في البيئات املتقلبة.‏في الليلة املاضية،‏ بعد أن أفقت تمامًا من حلمي،‏ استرسل عقلي في هذاالسيناريو،‏ قلت لنفسي:‏ ‏«فلنفترض أن راما ليست ذاهبة إلى مكان محدد،‏على الأقل على املدى القريب،‏ وأننا سنمضي ما تبقى من حياتنا في مثلالظروف الراهنة،‏ إذن فمن املحتمل بقاء سيمون وكيتي على قيد الحياة بعدبلوغهم ووفاتنا نحن الثلاثة؟ ماذا سيحدث بعد هذا؟ إن لم نحتفظ بطريقةما بمني مايكل أو ريتشارد ‏(وهذا سيؤدي إلى مشاكل بيولوجية ونفسيةجسيمة)‏ لن تتمكن ابنتاي من الإنجاب.‏ ربما تصلان إلى الجنة أو نرفانا أوأي عالم آخر،‏ ولكنهما في النهاية ستموتان وستموت معهما الجينات التيتحملانها.»‏واصلت التفكري:‏ ‏«ولكن لنفترض أنني أنجبت ذكرًا،‏ في هذه الحالةسيكون للفتاتني رفيق ذكر في مثل سنهما وستقل كثريًا مشكلة الأجيالالتالية.»‏عند هذه املرحلة من التفكري قفزت إلى عقلي فكرة مجنونة جدٍّا،‏ كان علمالوراثة،‏ وخاصة ما يتعلق بالعيوب الوراثية،‏ من مجالات تخصصي الرئيسيةأثناء التدريب الطبي الذي حصلت عليه،‏ تذكرت دراسات الحالة التي أجريتهاعلى الأسر امللكية في أوروبا فيما بني القرن الخامس عشر والقرن الثامنعشر وما ظهر على بعض أفرادها من تدهور نتيجة للإفراط في الزواج بنيالأقارب.‏ إذا أنجبت أنا وريتشارد ولدًا فستكون له نفس املكونات الجينيةاملوجودة في سيمون وكيتي،‏ وستتضخم بشدة مخاطر أن يأتي أبناء هذاالولد من إحدى بناتي — وهم من سيكونون أحفادنا — مصابني بالعيوب.‏من ناحية أخرى،‏ إذا أنجبت أنا ومايكل ابنًا لن يشترك مع الفتاتني إلا فينصف الجينات،‏ وستقل مخاطر تعرض ذريته من سيمون أو كيتي للإصابةبالعيوب إلى حد ٍّ كبري،‏ على حد ما أذكر.‏استبعدت هذه الفكرة الشائنة على الفور،‏ ولكنها لم تبارح ذهني.‏ فيوقت متأخر من الليل،‏ كان ينبغي أن أكون نائمة فيه،‏ عاد ذهني إلى نفساملوضوع:‏ ‏«ماذا لو حملت من ريتشارد مرة أخرى وأنجبت فتاة؟ عندها70


الفصل السابعسيكون لزامًا علينا أن نعيد العملية كلها،‏ وأنا الآن في الحادية والأربعني،‏ فكمعامًا أمامي قبل أن يبدأ سن انقطاع الطمث،‏ حتى وإن أخرته كيميائيٍّا؟استنادًا إلى نقطتي البيانات املتوفرتني لا يوجد دليل على أن ريتشارديستطيع أن ينجب ولدًا.‏ يمكننا أن نبني معملاً‏ يُمَك ِّننا من اختيار الحيواناتاملنوية الذكرية من سائله املنوي،‏ ولكن هذا سيتطلب جهدًا ضخمًا منجانبنا وشهورًا من التفاعل املفصل مع سكان راما،‏ وستبقى أمامنا بعدهذا مشاكل حفظ الحيوانات املنوية ونقلها إلى املبايض.‏أخذت أفكر في التقنيات املُثبتة املختلفة التي تؤثر في عملية الاختيارالطبيعي للجنس ‏(مثل غذاء الرجل،‏ ونوع الجماع وعدد مراته،‏ والتوقيتقياسً‏ ا بالتبويض … إلخ)‏ وانتهيت إلى أنني وريتشارد ستكون أمامنا فرصةجيدة لإنجاب ولد بطريقة طبيعية إذا توخينا الحرص الشديد.‏ ولكن فيقرارة نفسي ظلّتْ‏ تُلح عليّ‏ فكرة أن الفائدة ستكون أكبر كثريًا إذا كانمايكل هو الأب؛ فقد أنجب مايكل ولدين ‏(من بني ثلاثة أطفال)‏ نتيجةسلوك عشوائي،‏ فمهما استطعت تحسني احتمالات إنجاب ولد من ريتشاردباستخدام تقنيات معينة،‏ فإن اتباع نفس هذه التقنيات مع مايكل سيجعلالاحتمالات مضمونة تمامًا.‏قبل أن أعود للنوم مرة أخرى،‏ فكرت قليلاً‏ في مدى تعذر تنفيذ الفكرةبأكملها؛ إذ سيكون علينا أن نبتكر طريقة مضمونة للإخصاب الصناعي‏(وسيكون عليّ‏ أن أشرف عليها مع أنني سأكون خاضعة لها في نفسالوقت).‏ هل سيمكننا أن نقوم بهذا في وضعنا الحالي مع ضمان جنسالجنني وسلامة صحته؟ فحتى في املستشفيات التي على الأرض بكل املوارداملتاحة لها،‏ لا تكلل املحاولات بالنجاح دائمًا،‏ فما بالك هنا؟ البديل الآخر هوأن أضاجع مايكل.‏ مع أنني لم أستهجن الفكرة،‏ بدت العواقب الاجتماعيةوخيمة للغاية حتى إنني استبعدت الفكرة برمتها.‏‏(بعد ست ساعات)‏ فاجأني الرجلان الليلة بعشاء مميز،‏ فقدرات مايكلكطاهٍ‏ محترف تتقدم،‏ كان طعم الطعام يشبه طعم فطرية اللحم البقري،‏كما أخبراني،‏ مع أنه كان يبدو أشبه بالسبانخ بالكريمة.‏ كما قدم ريتشارد71


جنة راماومايكل سائلاً‏ أحمر اللون أطلقا عليه خمرًا.‏ لم يكن شنيعًا،‏ لذا شربته،‏واكتشفت أنه يحتوي بعض الكحول،‏ وهو ما أدهشني،‏ وشعرت أنني ثملت.‏كنا نحن البالغني نترنح قليلاً‏ في نهاية العشاء،‏ وأثار سلوكنا حريةالفتاتني،‏ ولا سيما سيمون … أثناء تناولنا الحلوى املكونة من فطرية جوزالهند أخبرني مايكل أن رقم ٤١ ‏«رقم مميز للغاية»،‏ ثم أوضح لي أنه أكبرعدد أولي يبدأ متتالية تربيعية من الأعداد الأولية الأخرى،‏ وعندما سألته عنماهية املتتالية التربيعية ضحك وقال لي إنه لا يعرف،‏ ولكنه كتب املتتاليةالتي تتكون من أربعني عنصرًا التي كان يتحدث عنها:‏ ٥٣، ٤٧، ٤٣، ٤١،… ١١٣ ٩٧، ٨٣، ٧١، ٦١، وانتهي بالرقم ١٦٠١، وأكد لي أن كلاٍّ‏ منالأربعني رقمًا في املتتالية هو عدد أولي،‏ وقال وهو يغمز:‏ ‏«لذا لا بد أن العددواحدًا وأربعني عدد سحري».‏بينما كنت أضحك،‏ نظر رفيقنا العبقري ريتشارد إلى الأرقام وبعدما لا يزيد عن دقيقة من العمل على الحاسوب شرح لي وملايكل السبب فيتسمية املتتالية ‏«تربيعية».‏ فقال موضحًا بمثال:‏ ‏«الاختلافات الثانية ثابتةولهذا يمكن تكوين املتتالية كلها من مقدار جبري بسيط،‏ على سبيل املثال،‏إذا كانت + 41 N ،f (N) = N 2 − بحيث ترمز N إلى أي عدد صحيح منصفر حتى ٤٠، فإن هذه الدالة ستنتج املتتالية بأكملها.»‏ثم قال وهو يضحك:‏ ‏«وما سأذكره الآن أروع مما سبق:‏ انظرا إلىاملتتالية التالية + 1681 81N f (N) = N 2 − حيث ترمز N إلى أي عددصحيح من ١ إلى ٨٠. هذه الصيغة التربيعية تبدأ من نهاية سلسلة الأرقام،‏= 1601 (1) f، وتستمر أولاً‏ في متتالية ذات ترتيب متناقص ثم تعكسنفسها بعد هذا عندما تصل إلى = 41 (41) f f (400) = ثم تبدأ في تكوينمجموعة الأرقام الكاملة من جديد في ترتيب متصاعد.»‏ابتسم ريتشارد،‏ وأخذت أتطلع إليه أنا ومايكل في رهبة.‏٣١ مارس/آذار ٢٢٠٥عيد ميلاد كيتي الثاني اليوم،‏ كان الجميع في حالة مزاجية جيدة،‏ وخاصةريتشارد.‏ إنه يحب ابنته الصغرية حبٍّا جمٍّا،‏ مع أنها تعامله بعنف،‏ واحتفالاً‏72


الفصل السابعبعيد ميلادها،‏ أخذها إلى غطاء ملجأ الأوكتوسبايدر وخلخلا الشبكة معًا.‏أعربت أنا ومايكل عن استهجاننا،‏ ولكن ريتشارد ضحك وغمز لكيتي.‏أثناء الغداء،‏ عزفت سيمون مقطوعة قصرية على البيانو كان مايكليعلمها إياها،‏ وقدم ريتشارد خمرًا مميزًا — أطلق عليها الخمر الأبيضالراميّ‏ — مع السلمون املسلوق الذي اعتدنا عليه.‏ في راما يبدو السلموناملسلوق مثل البيض املقلي املخفوق على الأرض،‏ وهذا محري بعض الشيء،‏ولكننا نلتزم بالعرف الذي نتبعه في تصنيف الطعام تبعًا ملحتواه الغذائي.‏أشعر بسعادة غامرة مع أنني يجب أن أعترف أنني متوترة بعضالشيء بسبب النقاش القادم الذي سأجريه مع ريتشارد.‏ إنه مبتهج جدٍّاحاليٍّا،‏ والسبب الأساسي في هذا هو أنه منشغل بالعمل لا في مشروعواحد فقط وإنما في مشروعني؛ فهو لا يقوم فقط بإعداد مشروب ينافسبطعمه ومحتواه الكحولي أجود الخمور على كوكب الأرض،‏ وإنما يقومأيضً‏ ا بتصنيع مجموعة جديدة من الآليني الذين يبلغ طول الواحد منهمعشرين سنتيمترًا،‏ استوحاهم من شخصيات مسرحيات الكاتب املسرحيصامويل بيكيت الحاصل على جائزة نوبل في القرن العشرين.‏ ظللت أناومايكل سنواتٍ‏ نحث ريتشارد على إعادة تجسيد أفراد فرقة شكسبرياملسرحية ولكن ذكرى أصدقائه الذين فقدهم كانت دائمًا ما تمنعه.‏ أماتناول شخصيات كاتب مسرحي جديد،‏ فهذا أمر مختلف.‏ لقد انتهى الآنمن إعداد شخصياتِ‏ مسرحيةِ‏ ‏«نهاية اللعبة»‏ Endgame الأربعة.‏ ضحكالأطفال الليلة بمرح عندما ظهرت الشخصيتان العجوزان ‏«ناج»‏ و«نل»‏ منسلتي املهملات الصغريتني صائحني:‏ ‏«طعامي اللني،‏ احضروا لي طعامياللني.»‏بالتأكيد سأعرض على ريتشارد فكرتي عن إنجاب طفل من مايكل،‏فأنا متأكدة من أنه سيقدر املنطق واملنطلق العلمي اللذين يقوم عليهماالاقتراح،‏ مع أنني لا أعتقد أنه سيتحمس كثريًا لهذا الاقتراح،‏ بالطبع لمأحدث مايكل بعد عن الفكرة على الإطلاق،‏ ولكنه يدرك بالتأكيد أن ثمةأمرًا خطريًا يدور في ذهني لأنني طلبت منه أن يعتني بالفتاتني هذا املساءبينما أذهب أنا وريتشارد لتناول الطعام في الهواء الطلق في الأعلى ونتحدث.‏73


جنة رامالعل الخوف الذي يعتريني من هذا املوضوع لا مبرر له.‏ إنه بالتأكيدنابع من تعريف البشر للسلوك امللائم الذي لا ينطبق على وضعنا الحالي.‏ريتشارد على ما يرام هذه الأيام،‏ سخريته أصبحت لاذعة جدٍّا في الآونةالأخرية،‏ وربما يلقي عليّ‏ بعض امللاحظات التهكمية الحادة خلال نقاشنا،‏ولكنني متأكدة من أنه سيؤيد الفكرة في النهاية.‏74


الفصل الثامن٧ مايو/أيار ٢٢٠٥كان هذا سبب شجارنا،‏ يا إلهي!‏ يا لغبائنا نحن البشر.‏ ريتشارد!‏ ريتشارد!‏أرجوك عد.‏من أين أبدأ؟ وكيف أبدأ؟ هل أجرؤ على أن أغامر؟ في الدقيقةالواحدة تنكشف أمامي حقائق كانت غائبة،‏ وأعيد قراءة املوقف حتى تصريالدقيقة … يقطع مايكل وسيمون الحجرة املجاورة جيئةً‏ وذهابًا وهمايتحدثان عن مايكل أنجلو.‏كان والدي دائمًا ما يقول لي إن كل ابن آدم خطاء،‏ ولكن ملاذا جاءخطئي فادحًا إلى هذا الحد؟ بدت لي الفكرة منطقية،‏ قال الجزء الأيسر منعقلي إنها منطقية.‏ ولكن في أعماق النفس البشرية،‏ لا تكون الغلبة دائمًاللعقل،‏ فاملشاعر لا يحكمها منطق،‏ والغرية ليست من مخرجات برنامج منبرامج الحاسوب.‏كانت هناك الكثري من املؤشرات التي تنبئ برد فعل ريتشارد،‏ ففياليوم الأول الذي صارحته فيه بفكرتي عندما كنا نتناول الطعام في الهواءالطلق بجوار البحر الأسطواني،‏ كنت أستطيع أن أقرأ في عيني ريتشارد أنثمة مشكلة ما،‏ قلت لنفسي:‏ ‏«آه،‏ تراجعي يا نيكول.»‏ولكنه بدا منطقيٍّا جدٍّا فيما بعد،‏ فقد قال في نفس ذلك اليوم:‏ ‏«بالطبعما تقترحينه هو الصواب من الناحية الجينية،‏ سأذهب معك لأخبر مايكل،‏


جنة راماودعينا ننتهي من هذا بأقصى سرعة ممكنة،‏ ولنأمل ألا يتطلب الأمر أكثرمن لقاء واحد.»‏شعرت بالابتهاج في هذا الوقت،‏ لم أتخيل أبدًا أن مايكل قد يعارضفكرتي،‏ ولكنه قال في املساء — والطفلتان نائمتان — بعد أن فهم مانقترحه بثوان:‏ ‏«هذا إثم.»‏بادره ريتشارد بالهجوم قائلاً‏ إن مفهوم الإثم بأكمله مفهوم لا وجودله حتى على الأرض،‏ وإن مايكل يتصرف بسخافة.‏ في نهاية الحوار سألمايكل ريتشارد مباشرةً:‏ ‏«هل تريدني حقٍّا أن أفعل هذا؟»‏أجاب ريتشارد بعد قليل من التردد:‏ ‏«لا،‏ ولكن من الواضح أن هذا فيمصلحة أبنائنا.»‏ كان ينبغي علي أن أولي كلمة ‏«لا»‏ مزيدًا من الاهتمام.‏لم أتخيل أبدًا أن خطتي قد تبوء بالفشل.‏ تابعت دورة التبويضبعناية،‏ وعندما جاءت الليلة املحددة أخبرت ريتشارد فدلف خارجًا منامللجأ في واحدة من نزهاته الطويلة في راما.‏ كان مايكل عصبيٍّا وكانيصارع شعوره بالذنب،‏ ولكن حتى في أسوأ كوابيسي لم أتخيل أنه سيعجزعن مضاجعتي.‏عندما خلعنا ملابسنا ‏(في الظلام،‏ حتى لا ينزعج مايكل)‏ ورقد كل ٌّ منابجوار الآخر على الفراش،‏ اكتشفت أن جسده كان صلبًا ومشدودًا،‏ قبلتهعلى جبهته ووجنتيه ثم حاولت أن أخفف من توتره بتدليك ظهره ورقبته.‏بعد حوالي ثلاثني دقيقة من امللامسة ‏(لم يحدث فيها شيء يمكن أن نطلقعليه مداعبة جنسية)،‏ دنوت بجسدي من جسده على نحو مثري،‏ ولكن كانمن الواضح أن هناك مشكلة ما،‏ فلم تظهر عليه أي استجابة.‏لم أعرف كيف أتصرف،‏ أول فكرة راودتني هي أن مايكل لا يعتبرنيجذابة،‏ وهذه بالطبع فكرة غري منطقية على الإطلاق،‏ انتابني شعور بغيضوكأن شخصً‏ ا ما صفعني،‏ وانفجرت بداخلي كل مشاعر النقص املكبوتةوشعرت بغضب عارم إلى حد أدهشني.‏ لحسن الحظ لم أنبس ببنت شفة‏(لم يتحدث أي منا طوال هذه املدة بأكملها)‏ ولم ير مايكل وجهي فيالظلام،‏ ولكن لا بد أن لغة جسدي أخبرته بخيبة أملي.‏قال بصوت خفيض:‏ ‏«آسف.»‏76


الفصل الثامنأجبت وأنا أحاول تصنع اللامبالاة:‏ ‏«لا عليك.»‏استندت على مرفقي وملست جبهته بيدي الأخرى،‏ وأخذت أدلكه بخفةوأنا أمرر أصابعي برفق على وجهه وعنقه وأكتافه.‏ وظل مايكل سلبيٍّا تمامًا،‏إذ كان يستلقي على ظهره دون حراك،‏ وعيناه مغمضتان معظم الوقت.‏ومع أني كنت واثقة أنه كان يستمتع بالتدليك،‏ لم يقل شيئًا أو تصدر عنهأي همسات تنم عن املتعة.‏ وفي ذلك الوقت،‏ بدأت أصاب بالقلق الشديد.‏ووجدت نفسي أرغب في أن يعانقني مايكل،‏ وأن يؤكد لي أنني على صواب.‏ففي آخر الأمر،‏ انحنيت عليه حتى ملس جزء من جسدي جسده،‏وأخذت أداعب الشعر الذي يغطي صدره،‏ وانحنيت لأقبله على شفتيه،‏ وأناأنوي إثارته بيدي اليسرى،‏ وهكذا ظللت أراوده عن نفسه فيستعصم،‏ وابتعدعني بسرعة واعتدل جالسً‏ ا.‏قال مايكل وهو يهز رأسه:‏ ‏«لا يمكنني أن أفعل هذا.»‏سألت بهدوء:‏ ‏«لم لا؟»‏أجاب بوقار شديد:‏ ‏«لأنه خطأ.»‏حاولت عدة مرات في الدقائق التالية أن أبدأ حوارًا ولكن مايكل كانراغبًا عن الحديث،‏ في النهاية ارتديت ملابسي في صمت في الظلام لأنه لميكن أمامي شيء آخر لأفعله.‏ وحني غادرت املكان،‏ قال لي مايكل بصوتواهن لا يكاد يسمع:‏ ‏«تصبحني على خري.»‏لم أعد مباشرةً‏ إلى حجرتي،‏ فعندما خرجت إلى املمر أدركت أنني لستعلى استعداد بعد ملواجهة ريتشارد،‏ اتكأت على الحائط وصارعت املشاعرالقوية التي غمرتني،‏ ملاذا افترضت أن كل شيء سيكون بسيطًا للغاية؟وماذا سأقول لريتشارد الآن؟عندما دخلت حجرتنا،‏ عرفت من صوت أنفاس ريتشارد أنه لم يكننائمًا،‏ لو كنت أتحلى بشجاعة أكبر لكنت أخبرته في التو بما حدث مع مايكل،‏ولكن كان من الأسهل أن أتجاهل هذا مؤقتًا،‏ وكان هذا خطأً‏ فادحًا.‏كان اليومان التاليان مشحونني بالتوتر،‏ فلم يذكر أحد منا ما وصفهريتشارد ذات مرة ب«واقعة الإخصاب».‏ حاول الرجلان أن يتصرفا وكأنكل شيء طبيعي،‏ وبعد العشاء في الليلة الثانية أقنعت ريتشارد بأن يتمشىمعي بينما يضع مايكل الفتاتني في فراشيهما.‏77


جنة راماكان ريتشارد يشرح التركيب الكيميائي لعملية التخمري الجديدةالتي يقوم بها لصنع الخمور ونحن واقفان على السور الذي يطل علىالبحر الأسطواني،‏ فقاطعته وأمسكت بيده،‏ قلت وعيناي تبحثان عن الحبوالطمأنينة في عينيه:‏ ‏«ريتشارد،‏ هذا صعب جدٍّا …» ثم تهدج صوتي.‏سأل وهو يتكلف الابتسام:‏ ‏«ما الأمر يا نيكي؟»‏أجبت:‏ ‏«حسنًا،‏ إنه مايكل،‏ كما ترى،»‏ ثم تكلمت دون أن أفكر:‏ ‏«لميحدث بيننا شيء … لم يستطع …»حدق ريتشارد في لوقت طويل ثم سأل:‏ ‏«هل تقصدين أنه عاجز؟»‏أومأت برأسي موافقةً‏ في البداية ثم هززت رأسي نافيةً‏ هذا مما أثارحريته،‏ ثم تمتمت:‏ ‏«ليس بالضبط في الغالب،‏ ولكنه كان كذلك في تلك الليلةالتي قضاها معي.‏ أعتقد أنه متوتر جدٍّا أو أنه يشعر بالذنب،‏ أو أنه قد مروقت طويل منذ أن …» توقفت عندما أدركت أنني أفشي أكثر من اللازم.‏أخذ ريتشارد يحدق في البحر برهة بدت لي دهرًا،‏ ثم قال أخريًا فيصوت خال من أي تعبري:‏ ‏«هل تريدين أن تجربي مرة أخرى؟»‏ لم يلتفتلينظر إلي.‏أجبت:‏ ‏«أنا … لا أدري.»‏ ضغطت على يديه وهممت بأن أقول شيئًاآخر،‏ هممت أن أسأله إن كان يستطيع أن يتعامل مع املوقف إذا جربت مرةأخرى،‏ ولكنه ابتعد عني فجأة وقال باقتضاب:‏ ‏«أخبريني عندما تقررين.»‏طوال أسبوع أو أسبوعني كنت متأكدة من أنني سأتخلى عن الفكرةبرمتها،‏ وبدأ شيء من البهجة يعود إلى أسرتنا الصغرية ببطء،‏ ببطء شديد.‏في الليلة التي تلت انقضاء الطمث،‏ تطارحنا الغرام أنا وريتشارد لأول مرةمنذ عام،‏ وكان سعيدًا للغاية وتحدث كثريًا ونحن نتعانق.‏قال:‏ ‏«يجب أن أقول إنني كنت قلقًا جدٍّا لبعض الوقت،‏ ففكرةمضاجعتك ملايكل كانت تدفعني إلى الجنون،‏ وإن كان هذا لأسباب مناملفترض أنها منطقية.‏ كنت خائفًا جدٍّا من أن يعجبك هذا مع أني أعرف أنهذا ليس منطقيٍّا،‏ هل تفهمني ما أعنيه؟ وكنت خائفًا من أن تتأثر علاقتناعلى نحو ما.»‏من الواضح أن ريتشارد كان يفترض أنني لن أحاول مرة أخرى أنأحمل من مايكل.‏ لم أتناقش معه في هذه الليلة لأنني كنت سعيدة أنا الأخرى78


الفصل الثامنوقتها،‏ ولكن بعد أيام قليلة،‏ عندما بدأت أقرأ عن العجز الجنسي في كتبالطب،‏ أدركت أنني لا أزال مصرةً‏ على املضي قدمًا في خطتي.‏في الأسبوع الذي سبق التبويض،‏ كان ريتشارد مشغولاً‏ بتخمري خمره‏(وربما بتذوقها أكثر من اللازم،‏ فقد سكر قليلاً‏ أكثر من مرة قبل الغداء)،‏وبصناعة آليني صغار الحجم استوحاهم من شخصيات صامويل بيكيت،‏أما أنا فكان كل انتباهي منصبٍّا على العجز الجنسي،‏ واكتشفت أن املنهجالذي درسته في كلية الطب قد تجاهل هذا املوضوع تمامًا،‏ وملا كانت خبرتيالجنسية محدودة نسبيٍّا،‏ لم أتعرض لهذا املوقف بصفة شخصية من قبل.‏اندهشت عندما عرفت أن العجز الجنسي علة منتشرة جدٍّا،‏ وأنه له أسبابنفسية في الأساس،‏ ولكن يصاحبه عادةً‏ عامل عضوي يزيده تفاقمًا،‏ وأنهناك الكثري من أساليب العلاج املحددة،‏ وجميعها يركز على الحد من قلقالرجل أثناء املضاجعة.‏شاهدني ريتشارد وأنا أعد بولي لاختبار التبويض في صباح أحد الأيام،‏لم يقل شيئًا ولكنني قرأت في وجهه أنه يشعر بالانزعاج وخيبة الأمل،‏ أردتأن أطمئنه ولكن الطفلتني كانتا في الحجرة وكنت خائفة من انفجار غضبهأمامهما.‏لم أخبر مايكل أننا سنقوم بمحاولة ثانية،‏ فقد اعتقدت أن قلقه سيقلإذا لم يتح له الوقت ليفكر،‏ كادت خطتي أن تنجح،‏ ذهبت مع مايكلإلى حجرته بعد أن وضعنا الطفلتني في الفراش وشرحت له ما يحدثونحن نخلع ملابسنا،‏ ومع أنه أبدى بعض الاعتراضات الطفيفة،‏ إلا أنه بدأيستجيب،‏ كنت متأكدة من أننا سننجح هذه املرة لولا أن كيتي قد بدأتتصرخ:‏ ‏«ماما،‏ ماما.»‏طبعًا تركت مايكل وقطعت املمر جريًا إلى حجرة نوم الطفلتني،‏ كانريتشارد هناك من قبل،‏ وكان يحمل كيتي بني ذراعيه،‏ وكانت سيمونجالسةً‏ على فراشها تدلك عينيها،‏ أخذ الثلاثة يحدقون في جسدي العاريوأنا في املدخل،‏ قالت كيتي وهي تتشبث بريتشارد بقوة:‏ ‏«رأيت حلمًا مخيفًا:‏أوكتوسبايدر يأكلني.»‏79


جنة رامادخلتُ‏ الحجرة،‏ وسألتُ‏ كيتي وأنا أمد ذراعي لآخذها:‏ ‏«هل تشعرينبتحسن الآن؟»‏ ظل ريتشارد ممسكًا بها ولم تقم هي بأي محاولة لتأتيإلي،‏ وبعد دقيقة مؤملة ذهبت إلى سيمون ولففت ذراعي حول رقبتها.‏سألتني ابنتي ذات الأربعة أعوام:‏ ‏«أين بيجامتك يا أمي؟»‏ في أغلبالأوقات أنام أنا وريتشارد ونحن نرتدي البيجاما التي صنعها سكان راما،‏الفتاتان معتادتان على رؤيتي عاريةً‏ — فنحن الثلاثة نستحم معًا يوميٍّاتقريبًا — ولكن في الليل،‏ عندما أذهب إلى حجرة نومهما،‏ غالبًا ما أرتديبيجامتي.‏كنت سأجيب على سيمون إجابةً‏ مرحة عندما لاحظتُ‏ أن ريتشارد كانيحدق فيّ‏ هو الآخر،‏ كانت عيناه تفيضان بتعبري ينم عن العدوانية،‏ وقالبلهجة قاسية:‏ ‏«أستطيع أن أتولى الأمور هنا،‏ ملاذا لا تذهبني وتنهني ماتفعلينه؟»‏رجعت إلى مايكل لأحاول مرة أخرى،‏ كان قرارًا سيئًا،‏ قمت بمحاولاتفاشلة لإثارة مايكل لدقيقتني،‏ ثم دفع يدي وقال:‏ ‏«لا فائدة،‏ أنا في الثالثةوالستني تقريبًا،‏ ولم أضاجع أحدًا منذ خمس سنوات،‏ ولا أمارس الاستمناءأبدًا،‏ وأتعمد تجنب التفكري في الجنس … والاستجابة التي حدثت منذ قليلكانت مجرد ضربة حظ.»‏ صمت نحو دقيقة ثم أضاف:‏ ‏«آسف يا نيكولولكن هذا لن ينجح.»‏ظل كل ٌّ منا راقدًا إلى جوار الآخر في صمتٍ‏ دقائق.‏ كنت أرتدي ملابسيوأستعد ملغادرة الغرفة عندما لاحظت أن أنفاس مايكل بدأت تتخذ إيقاعًامنتظمًا على النحو الذي يسبق النوم.‏ تذكرت فجأة من قراءاتي أن الرجالالذين يعانون من العجز الجنسي لأسباب نفسية قد تنجح مضاجعتهم أثناءالنوم،‏ فقفزت في ذهني فكرة مجنونة أخرى،‏ رقدت بجوار مايكل مستيقظةوقتًا طويلاً‏ منتظرةً‏ حتى أتيقن من أنه يغط في نوم عميق.‏أخذت أمرر يدي عليه برفق في البداية،‏ وسرني أنه استجاب بسرعة.‏وبعد برهة،‏ زدت من قوة التدليك الذي كنت أقوم به،‏ وحرصت على ألاأوقظه،‏ ولكني دفعته دون قصد بخشونة فاستيقظ،‏ وأطلق صيحة وتطلعإلي في ارتياع،‏ كدت أنجح لولا أنني أيقظته ففشلت املحاولة.‏80


الفصل الثامنانقلبت على ظهري وتنهدت تنهيدة عميقة،‏ كنت محبطة بشدة،‏ أخذمايكل يطرح علي الأسئلة ولكنني كنت مضطربة إلى درجة جعلتني عاجزةعن الإجابة،‏ فاغرورقت عيناي بالدموع.‏ ارتديت ملابسي بسرعة،‏ وقبلتمايكل برفق على جبينه،‏ وخرجت بخطوات مضطربة إلى املمر،‏ وظللتواقفة هناك خمس دقائق أخرى قبل أن أقوى على العودة إلى ريتشارد.‏كان زوجي لا يزال يعمل،‏ كان جاثيًا بجوار ‏«بوزو»‏ الآلي الذي استوحاهمن شخصية بوزو في مسرحية ‏«في انتظار جودو»‏ .Waiting for Godotكان الآلي الصغري منهمكًا في إحدى أحاديثه الطويلة غري املنظمة التي تدورحول عقم كل ما في الحياة،‏ تجاهلني ريتشارد في البداية،‏ ثم التفت بعد أنأسكت ‏«بوزو»‏ وسألني بتهكم:‏ ‏«هل تعتقدين أن الوقت كان كافيًا؟»‏أجبت باكتئاب:‏ ‏«لم ننجح.‏ أعتقد أن …»صاح ريتشارد فجأة في غضب:‏ ‏«لا تجيبيني بهذا الهراء.‏ لست بهذاالغباء.‏ هل تتوقعني مني أن أُصدق أنك أمضيت معه ساعتني وأنت عاريةدون أن يحدث بينكما شيء؟ أعرفكن يا معشر النساء.‏ تعتقدين أن …»لا أذكر بقية ما قاله،‏ ولكنني أذكر جيدًا الرعب الذي شعرت به وهويتقدم نحوي،‏ وعيناه تفيضان بالغضب.‏ اعتقدت أنه سيضربني فاستعددتلذلك،‏ انفجرت الدموع في عيني وانهمرت على وجنتي.‏ سبني ريتشاردبسباب فظيع وأهانني إهانة ذات طابع عنصري،‏ وكان يتصرف بطريقةجنونية،‏ عندما رفع ذراعه في عنف اندفعت خارجةً‏ من الحجرة،‏ وركضتفي املمر باتجاه السلالم إلى نيويورك.‏ كدت أن أصطدم بكيتي الصغرية التيأيقظها صراخنا وكانت واقفة على باب حجرتها مصعوقةً.‏كان الوقت نهارًا في راما،‏ تمشيت وأنا أبكي بكاءً‏ متقطعًا ما يقربمن ساعة.‏ كنت ساخطةً‏ على ريتشارد،‏ ولكنني كنت مستاءة جدٍّا من نفسيأيضً‏ ا.‏ قال ريتشارد في سورة غضبه إنني كنت ‏«مهووسةً»‏ بفكرتي،‏ وإنهامجرد ‏«مبرر ذكي»‏ ملضاجعة مايكل لكي أصبح ‏«ملكة النحل في الخلية.»‏ لمأجب على أي من العبارات التي ظل يصرخ بها في وجهي.‏ ترى هل تحملاتهاماته شيئًا من الحقيقة.‏ هل كان جزءًا من حماسي للمشروع يكمن فيرغبتي في مضاجعة مايكل؟81


جنة راماأقنعت نفسي بأن دوافعي كانت ‏«سليمة»‏ مهما كان املقصود بتلكالكلمة،‏ ولكنني كنت غبية بدرجة لا تصدق بشأن هذا الأمر بأسره منالبداية.‏ كان ينبغي أن أعرف — من بني الجميع — أن ما أقترحه مستحيل.‏بالتأكيد،‏ كان ينبغي أن أترك هذه الفكرة بعد أن رأيت أول رد فعل لريتشارد‏(وملايكل أيضً‏ ا،‏ في هذا الصدد).‏ ربما كان ريتشارد محقٍّا في بعض ما قاله،‏ربما أكون عنيدة أو مهووسة بفكرة ضمان أقصى درجة من التنوع الجينيلذريتنا،‏ ولكنني متيقنة من أنني لم أدبر هذا الأمر ملجرد أن أتمكن منمضاجعة مايكل.‏عندما عدت،‏ كانت حجرتنا مظلمة،‏ ارتديت البيجاما وارتميت علىفراشي وأنا مجهدة،‏ بعد ثوان قليلة،‏ تقلب ريتشارد واحتضنني بقوة وقال:‏‏«نيكول حبيبتي،‏ أنا آسف جدٍّا.‏ أرجوك سامحيني.»‏لم أسمع صوته منذ ذلك الوقت،‏ فاليوم يكون قد مر ستة أيام علىرحيله.‏ نمت نومًا عميقًا ذلك اليوم،‏ دون أن أدري بأن ريتشارد كان يحزممتاعه ويكتب لي رسالة.‏ في الساعة السابعة صباحًا رن املنبه،‏ كانت هناكرسالة على الشاشة السوداء،‏ جاء فيها:‏ ‏«إلى نيكول دي جاردان فقط،‏اضغطي الزر ‏«ك»‏ عندما تريدين الاطلاع عليها.»‏ لم تكن الطفلتان قداستيقظتا بعد،‏ لذا ضغطت الزر ‏«ك»‏ في لوحة املفاتيح.‏‏«نيكول،‏ يا أعز الناس،‏ هذا أصعب خطاب أكتبه في حياتي،‏سأرحل عنك وعن الأسرة مؤقتًا.‏ أعرف أن هذا سيسبب متاعبكبرية لك وملايكل وللبنتني،‏ ولكن صدقيني،‏ هذا هو الحل الوحيد.‏بعد ما حدث ليلة أمس،‏ من الواضح أنه لا يوجد حل آخر.‏عزيزتي،‏ أحبك من كل قلبي،‏ وأدرك — عندما يكون عقليمتحكمًا في مشاعري — أن ما تحاولني فعله في مصلحة الأسرة.‏وينتابني شعور فظيع بسبب الاتهامات التي قذفتك بها ليلةأمس،‏ وما يسيئني أكثر هو سبابي لك،‏ وخاصة الإهانة العنصريةواستخدامي املتكرر لكلمة ‏«داعرة».‏ آمل أن تسامحيني،‏ وإن كنتغري متأكد من أنني سأستطيع أن أسامح نفسي،‏ وأن تتذكريحبي لك بدلاً‏ من غضبي املجنون الجامح.‏82


الفصل الثامنالغرية شعور رهيب،‏ عندما نقول إنها ‏«تأكل صاحبها»‏ فإننالا نعبر عنها التعبري الأمثل.‏ الغرية تستنزف كل طاقات املرءوتفتقر إلى أي منطق،‏ وهي مضنية حقٍّا.‏ يتحول أروع الناس فيالعالم إلى حيوانات هائجة حني يقعون في براثن الغرية.‏نيكول يا حبيبتي،‏ في العام املاضي لم أخبرك الحقيقة كاملةبشأن نهاية زواجي من سارة،‏ لقد شككت شهورًا في أنها علىعلاقة برجال آخرين في الليالي التي تقضيها في لندن.‏ كانت هناكالكثري من العلامات الكاشفة — عدم انتظام اهتمامها بالجنس،‏ملابس جديدة لم ترتدها لي أبدًا،‏ مكاملات لا يجيب الطرف الآخرحني أرد عليها — ولكنني كنت أحبها بجنون،‏ وكنت متأكدًا تمامًامن أن زواجنا سينتهي إذا واجهتها،‏ فلم أتخذ أي رد فعل إلاعندما أفقدتني الغرية صوابي.‏في الواقع،‏ عندما كنت أرقد على سريري في كيمبريدج وأتخيلسارة مع رجل آخر،‏ كانت الغرية تستبد بي إلى درجة تجعلني لاأنام إلا بعد أن أتخيل سارة وقد لقيت مصرعها.‏ عندما اتصلتبي السيدة سينكلري في تلك الليلة وأدركت أنني لم أعد أستطيعأن أتظاهر بأن سارة مخلصة،‏ ذهبت إلى لندن بنية صريحة فيقتل كل من زوجتي وعشيقها.‏لحسن الحظ لم يكن بحوزتي مسدس،‏ ومن فرط غضبيالذي انفجر حني رأيتهما معًا،‏ نسيت السكني الذي وضعته فيجيب معطفي،‏ ولكنني كنت بالتأكيد سأقتلهما إذا لم يكن صوتالشجار قد أيقظ الجريان الذين كبحوا جماحي.‏ربما تتساءلني عن علاقة كل هذا بك.‏ تعلمني يا حبيبتي أنكلاٍّ‏ منا يكوّن أنماط سلوك مميزة في حياته،‏ لقد نشأ نمط غريتيالعمياء قبل أن أقابلك،‏ ولم أستطع منع ذكريات سارة من العودةأثناء املرتني اللتني توجهتِ‏ فيهما إلى مايكل ملضاجعته.‏ أعرفأنك لست سارة،‏ وأنك لا تخونينني،‏ ولكن مشاعر الغرية تعودوتثور بنفس الجنون.‏ ولأنه يصعب علي حقٍّا تخيل خيانتك لي،‏83


جنة رامافإنك عندما تكونني مع مايكل تنتابني مشاعر أسوأ من املشاعرالتي كانت تنتابني وسارة مع ‏«هيو سينكلري»‏ أو مع أي منأصدقائها من املمثلني،‏ وأشعر بخوف أكبر من الخوف الذي كنتأشعر به حينها.‏آمل أن تقدري ما قلت.‏ إني راحل لأنني لا أستطيع أن أتحكمفي غريتي،‏ مع أنني أعترف أنها طائشة.‏ لا أريد أن أصبح مثلوالدي،‏ أسكر لأتغلب على تعاستي وأحطم حياة كل من حولي.‏أشعر بأنك ستحملني من مايكل بطريقة أو بأخرى،‏ وأفضل أنأجنبك سوء تصرفاتي أثناء ذلك.‏أتوقع أن أعود قريبًا،‏ إلا لو قابلت مخاطر غري متوقعة أثناءرحلاتي الاستكشافية،‏ ولكن لا أعرف متى بالتحديد.‏ أحتاج فترةتداوٍ‏ حتى أستطيع أن أصبح عنصرًا من العناصر الفعالة فيأسرتنا.‏ أخبري الفتاتني أنني مسافر،‏ وارفقي بكيتي على وجهالخصوص؛ لأنها ستكون أشد من سيفتقدني منكم.‏أحبك يا نيكول.‏ أعرف أنه سيصعب عليك فهم سبب رحيلي،‏ولكن حاولي من فضلك.»‏١٣ مايو/أيار ٢٢٠٥ريتشاردقضيت اليوم خمس ساعات على سطح نيويورك في البحث عن ريتشارد،‏ذهبت إلى الحفر وإلى النافذتني وإلى الساحات العامة الثلاث،‏ ومسحت محيطالجزيرة بمحاذاة السور.‏ هززت شبكة ملجأ الأوكتوسبايدر ونزلت برهة فيأرض املخلوقات الطائرة،‏ ناديته في كل مكان.‏ أتذكر أن ريتشارد عثر عليمنذ خمس سنوات بفضل املرشد امللاحي اللاسلكي الذي وضعه على الأمريهال،‏ الإنسان الآلي الشكسبريي الذي صنعه،‏ ولو كان معي املرشد اللاسلكياليوم لاستخدمته.‏84


الفصل الثامنلا يوجد أثر لريتشارد في أي مكان،‏ أعتقد أنه غادر الجزيرة،‏ فهوسباح ماهر،‏ وبسهولة يمكنه العبور إلى نصف الأسطوانة الشمالي،‏ ولكنهناك مخلوقات غريبة تسكن البحر الأسطواني؟ هل ستتركه يعبر بسلام؟عد يا ريتشارد،‏ إني أفتقدك،‏ إني أحبك.‏من الواضح أنه كان يفكر في الرحيل على مدى عدة أيام؛ فقد جددورتب الفهرس الذي نستخدمه في التعامل مع سكان راما ليجعل هذا أسهلما يمكن علي أنا ومايكل.‏ أخذ أكبر حقائبنا وصديقه املفضل ‏«شني»،‏ ولكنهترك الآليني الذين صنعهم على نمط شخصيات بيكيت املسرحية.‏أصبح إعداد الوجبات التي تتناولها أسرتنا مهمة رهيبة منذ رحيلريتشارد.‏ كيتي غاضبة في معظم الأوقات،‏ تريد أن تعرف متى سيعودوالدها وسبب سفره كل هذه املدة.‏ مايكل وسيمون يتحملان حزنهما فيصمت،‏ وتزداد الرابطة التي تربط بينهما،‏ ويبدو أن كلاٍّ‏ منهما قادر علىمواساة الآخر.‏ أما أنا فقد حاولت أن أزيد من اهتمامي بكيتي،‏ ولكنني لمأنجح في أن أكون بديلاً‏ من والدها الحبيب.‏الليالي رهيبة،‏ لا أستطيع أن أنام،‏ أظل أستحضر تعاملاتي مع ريتشاردخلال الشهرين املاضيني وأتذكر ما ارتكبته من أخطاء،‏ لقد استفاض فيالبوح في الخطاب الذي تركه قبل الرحيل.‏ لم أكن لأفكر أبدًا في أن املشاكلالتي واجهها مع سارة ستكون لها أدنى أثر على زواجنا،‏ ولكنني فهمتالآن ما كان يقوله عن أنماط السلوك.‏هناك أنماط في حياتي العاطفية أنا الأخرى،‏ تعرفتُ‏ على معنى الرعبالذي ينطوي عليه فقد الأحبة عند وفاة أمي وأنا في العاشرة من عمري،‏وساهم خوفي من فقدان أي علاقة قوية أدخل فيها في إضعاف إحساسيبالثقة مع الناس وعرقلة دخولي في علاقة حميمة معهم … بعد وفاة أمي،‏فقدت جنيفياف ووالدي والآن فقدت ريتشارد ولو مؤقتًا.‏ في كل مرة يحدثفيها هذا تستيقظ أشباح املاضي.‏ عندما ظللت أبكي حتى غلبني النعاسمنذ ليلتني،‏ أدركت أنني لم أكن أفتقد ريتشارد فحسب وإنما أيضً‏ ا أفتقدوالدتي وجنيفياف ووالدي الرائع.‏ شعرت أنني أفقد كلاٍّ‏ منهم من جديد؛لذا أستطيع أن أفهم الآن كيف أثارت صحبتي ملايكل ذكريات ريتشارداملؤملة مع سارة.‏85


جنة راما‏«يموت املعلم دون أن يتعلم».‏ أنا في الحادية والأربعني من عمريواكتشفت لتو ِّي وجهًا جديدًا من أوجه الحقائق املتعلقة بالعلاقات الإنسانية،‏فمن الواضح أنني جرحت ريتشارد جرحًا لا يندمل،‏ لا يهم أنه ليس هناكأسس منطقية لخوف ريتشارد من أن تؤدي علاقتي بمايكل إلى النيل منحبي له؛ فاملنطق لا ينطبق على هذا املوقف،‏ الإدراك الحسي والشعور هماالعنصران املهمان.‏كنت قد نسيت كم أن الوحدة قاتلة،‏ وقد مر على بداية علاقتي بريتشاردخمس سنوات،‏ قد لا يحمل ريتشارد كل صفات فارس أحلامي،‏ ولكنه كانرفيقًا رائعًا،‏ وهو بلا شك أذكى إنسان التقيت به في حياتي،‏ وسيصيبنيكرب عظيم إن كان من املقدر له ألا يعود.‏ ينتابني الحزن عندما أفكر،‏ ولوللحظة،‏ أن تلك كانت آخر مرة أراه فيها.‏في الليل عندما يحتدم شعوري بالوحدة،‏ غالبًا ما أقرأ الشعر.‏ كانبودلري وإليوت من الشعراء املفضلني لدي منذ فترة دراستي الجامعية،‏ ولكنعلى مدى الليالي الأخرية،‏ وجدت سلواي في قصائد بينيتا جارسيا Benita.Garcia عندما كانت طالبة في أكاديمية الفضاء في كولورادو،‏ تسبب لهاحبها الشديد للحياة في قدر هائل من الألم،‏ رمت نفسها في أحضان دراسةالفضاء وفي أحضان الرجال بالقدر نفسه من الحماس.‏ وعندما اُستدعيتللمثول أمام لجنة تأديب الطلاب لا لجرم إلا نشاطها الجنسي الجامح،‏أدركت كم أن معايري الرجال في الحكم على الجنس مزدوجة.‏معظم النقاد الأدبيني يعجبهم ديوانها الشعري الأول الذي جاء بعنوان‏«أحلام فتاة مكسيكية»‏ Dreams of a Mexican Girl الذي صنع شهرتهاوهي لا تزال مراهقة،‏ ويفضلونه عن الديوان الذي يضم قصائدها الأكثرحكمةً‏ والأقل عاطفةً‏ الذي نشرته في السنة الأخرية لها في الأكاديمية.‏ وفيظل رحيل ريتشارد وانشغال عقلي بمحاولة فهم ما حدث طوال الأشهرالأخرية،‏ فإنني أجد في نفسي صدى قصائد بنيتا التي تعبر عن حالات الكآبةوالشك التي ميزت عهد صباها.‏ كان طريقها إلى النضج وعرًا للغاية.‏ ومعأن كتابات بنيتا ظلت مفعمة بالصور،‏ فإنها لم تعد تلك التي تغلب عليهاروح التفاؤل حتى وهي تتجول بني الأطلال في أوشمال.‏ الليلة قرأت إحدى86


الفصل الثامنالقصائد التي أفضلها عدة مرات والتي كتبتها أثناء دراستها الجامعية،‏وفيها تقول:‏فساتيني تضفي البهجة على غرفتيكورود في صحراءروتها السماءستأتي الليلة،‏ يا آخر أحبتي،‏بأي وجه تود رؤيتي؟ثيابي ذات الألوان الشاحبةتناسب أمسية للحديث عن الكتب.‏الثياب الزرقاء والخضراءتجعل املساءيليق بلقاء صديقةأو حتى من تنوي الزواج بها.‏أما إن كنت تفكر في الشهوة؛فالثياب الحمراء أو السوداء.‏والعيون القاتمة،‏تناسب العاهرة التي سأتحول إليها.‏لم تكن أحلام طفولتي هكذا،‏ففيها جاء أمريي من أجل قبلة فحسب،‏وحملني بعيدًا عن الأحزان،‏ألن أراه ثانية؟الوجوه الزائفة تجرحني،‏يا زميل الدراسة،‏فأرتدي فستاني دون أي ابتهاج.‏وحتى أسري ويدك في يديأحقر نفسي كما تبتغي.‏87


الفصل التاسع١٤ ديسمبر/كانون الأول ٢٢٠٥أعتقد أنني يجب أن أحتفل بهذه املناسبة،‏ ولكنني أشعر أن ثمن هذا النصركان باهظًا جدٍّا.‏ أنا حامل أخريًا بابن مايكل،‏ ولكن يا للثمن الذي دفعته،‏لم نسمع أي أخبار حتى الآن عن ريتشارد،‏ وأخشى أن أكون قد تسببت فيشعور مايكل بالاغتراب أيضً‏ ا.‏اعترفت أنا ومايكل بمسئوليتنا الكاملة عن رحيل ريتشارد.‏ واجهتإحساسي بالذنب على أفضل نحو ممكن؛ إذ أدركت أنني يجب أن أتناساهحتى أصبح أمٍّا جيدة لابنتي َّ . أما مايكل فكان رد فعله على رحيل ريتشاردوإحساسه بالذنب هو الاستغراق في العبادة؛ فهو لا يزال يقرأ الإنجيل مرتنييوميٍّا على الأقل،‏ ويصلي قبل كل وجبة وبعدها،‏ وعادة ما يختار ألا يشارك فيأي من نشاطات الأسرة حتى يستطيع أن ‏«يتواصل»‏ مع الله،‏ وأصبح لكلمة‏«الكفارة»‏ مكانة كبرية جدٍّا في الحصيلة اللغوية التي يستخدمها مايكل.‏لقد جرف سيمون في موجة حماسه املسيحي،‏ ويضرب باعتراضاتيالخفيفة على هذا عرض الحائط.‏ تحب سيمون قصة املسيح،‏ مع أنهاليس لديها أدنى فكرة عن فحواها،‏ وتسحرها املعجزات بصفة خاصة،‏فهي — مثلها مثل معظم الأطفال — لا تجد صعوبة في تصديق كل ماتسمعه،‏ فعقلها لا يسأل أبدًا ‏«كيف»‏ عندما تسمع أن املسيح يمشي على املاءأو يحول املاء إلى خمر.‏


جنة رامانيتي في قول هذه التعليقات ليست خالصة؛ فأنا على الأرجح،‏ أشعربالغرية من علاقة مايكل وسيمون.‏ بصفتي أمها كان ينبغي أن أكون سعيدةلأنهما منسجمان إلى هذا الحد،‏ على الأقل كل منهما لديه الآخر.‏ أما أناوكيتي،‏ فمهما حاولنا،‏ فإننا نعجز عن تكوين مثل هذه العلاقة العميقة.‏جزء من املشكلة يكمن في أن كلينا عنيدة جدٍّا.‏ مع أن كيتي لم تتجاوزالثانية والنصف من عمرها،‏ فإنها تريد أن تتحكم في حياتها بنفسها.‏ لننظرإلى أمر بسيط مثل مجموعة الأنشطة اليومية التي نخطط لها على سبيلاملثال لا الحصر.‏ منذ بداية وجودنا في راما وأنا أضع الجداول لكل أفرادالأسرة،‏ ولم يتجادل معي أحد جدالاً‏ شديدًا حول هذا،‏ ولا حتى ريتشارد.‏مايكل وسيمون دائمًا ما يقبلان ما أنصح به،‏ ما دمت أمنحهما وقتًا يكفيلكل نشاط ولا أقيدهما بالقيام بالأنشطة في أوقات محددة.‏أما كيتي فحكايتها مختلفة.‏ إذا وضعتُ‏ التمشية أعلى نيويورك قبلدرس الأبجدية،‏ تسعى إلى تغيري الترتيب.‏ إذا خططت لتناول الدجاج علىالغداء،‏ تريد هي لحم الخنزير أو اللحم البقري.‏ إننا نبدأ كل أيامنا تقريبًابالشجار حول الأنشطة التي سنقوم بها.‏ عندما لا تعجبها قراراتي،‏ تعبسأو تمد شفتيها في سخط أو تنادي ‏«بابا».‏ إنني أتألم حقٍّا حني أسمعهاتنادي على ريتشارد.‏يقول مايكل إنني ينبغي أن أذعن لرغباتها،‏ ويؤكد أن هذه مجردمرحلة من مراحل النمو،‏ لكن عندما أشري إلى أن جنيفياف وسيمون لميكونا أبدًا مثل كيتي،‏ يبتسم ويهز كتفيه.‏لا نتفق أنا ومايكل دائمًا على أساليب التربية.‏ دارت بيننا عدة نقاشاتشيقة حول الحياة الأسرية في ظروفنا الغريبة.‏ قرب نهاية أحد الحوارات،‏كنت متكدرة قليلاً‏ من تأكيد مايكل على ‏«صرامتي الزائدة عن الحد»‏ معالفتاتني،‏ لذا قررت أن أطرح موضوع التدين،‏ وسألت مايكل عن سبباهتمامه بتعريف سيمون بتفاصيل حياة املسيح.‏قال بغموض:‏ ‏«ينبغي أن يلم أحد منا بالتعاليم.»‏‏«إذن فأنت تعتقد أنه سيبقى لنا تعاليم ينبغي الإملام بها وأننا لنننجرف في الفضاء إلى الأبد ونموت واحدًا تلو الآخر في وحدة قاتلة.»‏90


الفصل التاسعأجابني:‏ ‏«أؤمن أن الله يدبر أمور جميع البشر.»‏سألت:‏ ‏«وما تدبريه لنا؟»‏أجاب مايكل:‏ ‏«لا أعرف تدبريه لنا مثلما لا يعرف مليارات البشرالذين لا يزالون على الأرض تدبريه لهم،‏ فالحياة ما هي إلا بحث عن ماهيةتدبريه.»‏هززت رأسي وتابع مايكل قائلاً‏ : ‏«تعرفني يا نيكول،‏ يجب أن يكونالتدين أسهل كثريًا علينا؛ فلا يوجد حولنا الكثري من الأشياء التي قدتشتتنا،‏ لا يوجد مبرر لبعدنا عن الله،‏ لذا يصعب جدٍّا عليّ‏ أن أسامح نفسيعلى انشغالي السابق بالطعام وتاريخ الفن.‏ في راما،‏ يصبح على البشر أنيبذلوا مجهودًا جبارًا حتى يتمكنوا من أن يشغلوا وقتهم بشيء غري الصلاةوالعبادة.»‏أقر بأن يقينه يزعجني في بعض الأوقات.‏ في ظروفنا الراهنة،‏ يبدو أنحياة املسيح لا تحمل لنا أي أهمية تمامًا،‏ مثل حياة أتيلا الهوني أو أيإنسان آخر عاش على الكوكب الذي يبعد عنا سنتني ضوئيتني،‏ فنحن لمنعد جزءًا من الجنس البشري.‏ فنحن إما هالكون،‏ وإما أننا سنمثل بدايةما سيكون نوعًا جديدًا.‏ هل مات املسيح من أجل آثامنا نحن أيضً‏ ا،‏ نحنالذين لن نرى الأرض ثانية أبدًا؟لم أكن لأستطيع أن أقنع مايكل بإنجاب طفل أبدًا إن لم يكن كاثوليكيٍّاونشأ منذ نعومة أظفاره على الإيمان بأهمية الإنجاب.‏ لم أكن لأقنعه بإنجابطفل،‏ إذ كانت لديه مئات الأسباب التي تثبت أن ذلك أمرٌ‏ يجانبه الصواب.‏ولكن في النهاية وافق،‏ ربما لأنني كنت أفسد عبادته الليلية بمحاولاتي امللحةلإقناعه.‏ ولكنه حذرني من أنه من املحتمل جدٍّا ‏«ألا ينجح هذا أبدًا»،‏ وأنه‏«لن يتحمل مسئولية»‏ الإحباط الذي سيصيبني.‏استغرقنا ثلاثة أشهر حتى أحمل،‏ وأثناء دورتي التبويض الأوليني،‏عجزت عن إثارته،‏ وجربت استخدام عدة وسائل مثل الضحك والتدليكواملوسيقى والطعام،‏ جربت كل شيء ورد في املقالات التي تتحدث عن العجزالجنسي،‏ ولكن شعوره بالذنب وتوتره كانا دائمًا أقوى من رغبتي.‏ وأخريًاجاء الخيال ليكون الحل،‏ فحني اقترحت على مايكل ذات ليلة أن يتخيلني91


جنة رامازوجته كاثلني من البداية حتى النهاية،‏ نجحت املحاولة أخريًا.‏ فلا شك أنالعقل مخلوق بديع حقٍّا.‏وحتى في ظل اللجوء إلى الخيال،‏ لم تكن مضاجعة مايكل مهمة سهلة.‏ففي املقام الأول،‏ كانت الخطوات اللازمة لتحضريه وحدها كفيلة بإصابةأي امرأة بالضيق،‏ ولعله من غري اللائق أن أقول ذلك.‏ وكان مايكل دائمًاما يدعو الله،‏ قبيل خلع ملابسه،‏ ترى ما الذي كان يدعو به؟ ليتني أعرفالإجابة.‏كان زوج إليانور الأكويتينية الأول،‏ لويس السابع ملك فرنسا،‏ قد نشأليكون راهبًا،‏ ولم يصبح ملكًا إلا بسبب مصادفة تاريخية.‏ وفي الرواية التيكتبها أبي عن إليانور،‏ يأتي حوار داخلي طويل تشكوه فيه من أن العلاقةالجسدية الحميمة كانت ‏«تحفها أجواء من الوقار والتقوى وروح الزهد.»‏وكانت تتوق إلى وجود املرح والضحك في علاقتها الزوجية،‏ وتتوق للكلامالبذيء والرغبة الجامحة.‏ إنني أتفهم سبب طلاقها من لويس وزواجها منهنري الثاني.‏وهكذا فأنا حامل الآن بابن مايكل ‏(آمل أن يكون ولدًا)‏ الذي سيمنحنسلنا التنوع الجيني.‏ لقد كان الأمر في غاية الصعوبة،‏ ولم يكن يستحقالثمن الذي بذلته فيه بالتأكيد؛ فبسبب رغبتي في أن أحمل بابن مايكل رحلريتشارد،‏ ولم يعد مايكل — على الأقل مؤقتًا — صديقي الحميم ورفيقياملقرب كما كان طوال سنواتنا الأولى في راما.‏ دفعت ثمن نجاحي.‏ الآن آملأن تكون لهذه السفينة وجهة محددة تتجه إليها حقٍّا.‏١ مارس/آذار ٢٢٠٦أعدت اختبار الجينوم الجزئي هذا الصباح لأتأكد من النتائج الأولية.‏ لاشك في أن ولدنا الذي لم يأت إلى الدنيا بعد مصاب بمتلازمة ويتينجهام،Whittingham’s syndrome ولحسن الحظ،‏ لا توجد عيوب ملحوظةأخرى،‏ لكن هذا املرض وحده كان سيئًا في حد ذاته.‏أطلعت مايكل على البيانات عندما تسنى لنا الجلوس بمفردنا لدقائقبعد الإفطار.‏ في البداية لم يفهم ما أخبرته به،‏ ولكن عندما استخدمت كلمة92


الفصل التاسع‏«متخلف»‏ ظهر رد فعله على الفور،‏ وفهمت من رد الفعل هذا أنه تخيلأن طفلنا سيعجز تمامًا عن الاعتناء بنفسه.‏ هدأت مخاوفه بعض الشيءعندما شرحت أن متلازمة ويتينجهام ما هي إلا شكل من أشكال العجزعن التعلم،‏ وهو ناتج عن قصور بسيط في العمليات الكهروكيميائية للمخيمنعه من العمل كما ينبغي.‏عندما أجريت أول اختبار للجينوم الجزئي الأسبوع املاضي،‏ شككت فيإصابته بمتلازمة ويتينجهام ولكن لم أخبر مايكل لاحتمال وجود التباسفي النتائج.‏ أردت أن أراجع ما هو معروف عن هذه الحالة قبل أن آخذعينة ثانية من السائل الأمنيوسي،‏ ولسوء الحظ لم ترد معلومات كافية فياملوسوعة الطبية املختصرة.‏بعد الظهر،‏ بينما كانت كاتي تغفو،‏ طلبت أنا ومايكل من سيمونأن تقرأ كتابًا في حجرة نومها لحوالي ساعة،‏ ووافق ملاكنا الرائع بسرور،‏وأصبح مايكل الآن في حالة أهدأ من التي كان عليها في الصباح.‏ أقرَ‏ بأنما سمعه بشأن بينجي ‏(يريد مايكل أن يسمي الطفل باسم جده بينجامنيريان أوتول)‏ أصابه بالاكتئاب في البداية،‏ لكن من الواضح أن قراءة سفرأيوب ساعدته على استعادة اتزانه.‏شرحت ملايكل أن نمو بينجي العقلي سيكون بطيئًا ومملاً‏ . ولكنه شعربالعزاء عندما أخبرته أن الكثريين ممن يعانون من متلازمة ويتينجهامحققوا نموٍّا عقليٍّا يوازي نمو من هم في الثانية عشرة من عمرهم بعدعشرين عامًا من التعليم.‏ أكدت ملايكل أنه لن تظهر علامات جسدية لهذااملرض،‏ كما هو الحال في متلازمة داون،‏ وأن احتمال تأثر ذريته فيما بعدبهذا املرض قبل الجيل الثالث على الأقل ضئيل لأن متلازمة ويتينجهام هيصفة متنحية نافرة.‏عندما اقتربنا من نهاية حديثنا،‏ سألني مايكل:‏ ‏«هل هناك سبيل إلىمعرفة من منا يحمل هذه املتلازمة في جيناته؟»‏أجبت:‏ ‏«لا،‏ من العسري جدٍّا فصل هذا الاعتلال لأنه ينشأ فيما يبدوعن عدد من جينات مختلفة بها عيوب،‏ ولا يكون التشخيص واضحًا إلاعندما تكون املتلازمة نشيطة،‏ كما أن محاولات تحديد من يحملون املرضفشلت حتى على الأرض.»‏93


جنة رامابدأت أخبره أنه منذ تشخيص املرض لأول مرة عام ٢٠٦٨، لم تظهرتقريبًا أي حالات منه في أفريقيا وأسيا،‏ فهو اعتلال يصيب املنحدرين منالعرق القوقازي أساسً‏ ا،‏ وجاءت أعلى نسبة للإصابة به في أيرلندا.‏ أيقنتأن مايكل سرعان ما سيعرف هذه املعلومة ‏(فهي واردة في املقال الرئيسيفي املوسوعة الطبية التي يقرأها الآن)،‏ ولم أرد أن ينتابه شعور سيء.‏سألني بعد هذا:‏ ‏«ألا يوجد علاج؟»‏أجبت وأنا أهز رأسي:‏ ‏«ليس في حالتنا.‏ ظهرت دلائل في العقد الأخريتدل على أن الإجراءات الجينية املضادة قد تكون فعالة إذا استخدمت فياملدة من الشهر الرابع إلى الشهر السادس من الحمل،‏ غري أن هذا الإجراءمعقد حتى على الأرض،‏ وقد يؤدي إلى فقدان الجنني نهائيٍّا.»‏كان هذا هو الوقت املناسب في النقاش ليذكر مايكل كلمة ‏«إجهاض»،‏لكنه لم يفعل،‏ فمجموعة معتقداته ثابتة جدٍّا ولا تتزعزع،‏ ثباتًا يجعلنيمتأكدة من أنه لم يفكر في هذا مجرد التفكري.‏ هو يعتقد أن الإجهاض إثمعظيم،‏ سواءً‏ في راما أم على الأرض.‏ وجدت نفسي أتساءل عن احتمال وجودأي ظروف قد تجعل مايكل يفكر في الإجهاض،‏ ماذا يكون قراره لو كانالطفل يعاني من متلازمة داون وكان أعمى؟ أو لو كان يعاني من مشاكلخلقية متعددة ترجح أنه سيموت في سن مبكرة؟لو كان ريتشارد هنا،‏ كنا سنتناقش مناقشة منطقية حول مزايا وعيوبالإجهاض؟ كنا سنفتح إحدى صفحات برنامج بينجامني فرانكلني الذيصممه،‏ ونسجل الحجج املؤيدة على أحد جانبي الشاشة الكبرية والحججاملعارضة على الجانب الآخر.‏ كنت سأضيف قائمة طويلة من الأسبابالعاطفية املعارضة للإجهاض ‏(التي كان ريتشارد سيحذفها من قائمتهالأساسية)،‏ وفي النهاية كنا سنتفق جميعًا على الأرجح على إتاحة الفرصةأمام بينجي للمجيء إلى راما،‏ كان القرار سيكون قرارًا مشتركًا يقوم علىالتفكري املنطقي.‏أريد هذا الطفل،‏ ولكنني أريد من مايكل أن يعيد تأكيد التزامهبالواجبات التي تمليها عليه أبوته لبينجي،‏ كان يمكنني دفع مايكل إلىتجديد هذا الالتزام عن طريق الدخول في مناقشة حول احتمال الإجهاض.‏94


الفصل التاسعأحيانًا قد يؤدي التقبل الأعمى لأحكام الله أو الكنيسة أو العقائد الراسخةإلى دفع املرء لكتم تأييده لقرار محدد،‏ آمل ألا يكون مايكل من هذا النوعمن الأشخاص.‏95


الفصل العاشر٣٠ أغسطس/آب ٢٢٠٦ولد بينجي مبكرًا.‏ بدا الارتياح على مايكل عندما ولد الطفل منذ ثلاثةأيام بلا أي عيوب جسدية،‏ مع أنني كنت قد أكدت له مرارًا وتكرارًا أنالطفل سيبدو بأتم صحة.‏ كانت هذه الولادة سهلة كالسابقة،‏ وكانت سيمونمتعاونة لدرجة مدهشة طوال مرحلتي املخاض والولادة،‏ إنها شديدة النضجقياسً‏ ا بسنها الذي لم يبلغ السادسة بعد.‏بينجي أيضً‏ ا له عينان زرقاوان،‏ ولكن زرقتهما ليست ذات درجة فاتحةكزرقة عيني كيتي،‏ ولا أظن أنهما سيبقيان زرقاوين.‏ بشرته بنية فاتحة؛أغمق قليلاً‏ من بشرة كيتي وأفتح من بشرتي وبشرة سيمون،‏ كان وزنهعند ولادته ثلاثة كيلوات ونصف،‏ وبلغ طوله اثنني وخمسني سنتيمترًا.‏لم يطرأ أي تغيري على عاملنا،‏ لقد يئسنا جميعًا — فيما عدا كيتي — مناحتمال عودة ريتشارد،‏ مع أننا لا نتحدث عن ذلك كثريًا.‏ نحن مقبلون علىالشتاء الرامي مرة أخرى،‏ بلياليه الطويلة وأيامه القصرية.‏ أذهب أنا أومايكل إلى أعلى على فترات منتظمة للبحث عن علامة ترشدنا إلى ريتشاردولكن هذا مجرد طقس روتيني؛ فنحن لا نتوقع حقٍّا أن نجد شيئًا،‏ واليوميكون قد مر على رحيله ستة عشر شهرًا.‏أتناوب مع مايكل حساب مسارنا باستخدام برنامج تحديد املسار الذيقام ريتشارد بتصميمه،‏ في البداية استغرق الأمر منا عدة أسابيع لنفهمكيفية استخدامه مع أن ريتشارد ترك التعليمات املفصلة معنا.‏ نتحقق مرة


جنة راماكل أسبوع من أننا نسري باتجاه الشعري اليمانية،‏ دون أن يأتي في طريقنانظام شمسي آخر.‏رغم وجود بينجي،‏ بدأ الوقت الذي أخصصه لنفسي يزداد أكثر من ذيقبل.‏ أقرأ بنهم وعدت لاهتمامي بالبطلتني اللتني هيمنتا على عقلي وخياليفي مرحلة املراهقة مرة أخرى.‏ ملاذا كانتا جان دارك وإليانور الأكويتينيةدائمًا ما تجذبانني كثريًا؟ لأنهما أظهرتا قوة داخلية واكتفاء ذاتيٍّا كما أنكلاٍّ‏ منهما نجحت في مجتمع يهيمن عليه الرجال عن طريق الاعتماد علىقدراتها اعتمادًا تامٍّا.‏كنت أعاني من وحدة رهيبة في مرحلة املراهقة.‏ البيئة الطبيعية املحيطةبي في بوفوا كانت خلابة وكان والدي يغمرني بحبه،‏ ولكنني في الواقعأمضيت فترة املراهقة كلها في حالة من الوحدة؛ ففي قرارة نفسي،‏ لطاملاكنت أشعر بالرعب من أن يأخذ املوت أو الزواج والدي الغالي مني،‏ وأردتأن أكون أكثر استقلالاً‏ لأتجنب الألم الذي سأشعر به إذا ما انفصل والديعني.‏ جوان وإليانور أفضل قدوتني لي،‏ حتى اليوم،‏ أجد الطمأنينة في القراءةعن حياتيهما.‏ لم تسمح أي من املرأتني للعالم من حولها أن يحدد ما هومهم فعلاً‏ في حياتها.‏لا تزال صحتنا جميعًا بخري.‏ في الربيع املاضي قمت بتركيب مجموعةمما تبقى من مجسات مراقبة الظواهر البيولوجية إحصائيٍّا على أجسادكل منا،‏ وراقبت البيانات لأسابيع قليلة،‏ لا لشيء إلا لأشغل نفسي.‏ ذكرتنيعملية املراقبة بأيام حملة نيوتن،‏ هل من املمكن حقٍّا ألا يكون قد مر علىرحيلنا نحن — الاثني عشر — عن الأرض لنقابل راما سوى ست سنوات؟على أي حال،‏ انبهرت كيتي بهذه العملية،‏ فكانت تجلس بجواري وأناأفحص سيمون ومايكل وتسأل عشرات الأسئلة عن البيانات التي تظهر،‏وسرعان ما فهمت كيفية عمل النظام ومهام كل ملفات التحذير،‏ وعلقمايكل على هذا قائلاً‏ إنها فائقة الذكاء وإنها تشبه والدها.‏ لا تزال كيتيتشتاق إلى ريتشارد بشدة.‏مع أن مايكل يقول إنه يشعر أنه يتقدم في السن،‏ فإن هيئته رائعةقياسً‏ ا برجل في الرابعة والستني من عمره.‏ إنه مهتم للغاية بالحفاظ على98


الفصل العاشرلياقته البدنية اهتمامًا يكفي لتمكينه من القيام بواجباته تجاه الأطفال،‏ وبدأممارسة الجري الوئيد مرتني أسبوعيٍّا منذ بداية حملي،‏ مرتني أسبوعيٍّا!‏ هذامضحك؛ لقد ظللنا نتمسك بتقويمنا الأرضي بمنتهى الوفاء،‏ مع أنه لا معنىله هنا على راما.‏ في إحدى الليالي سألت سيمون عن الأيام والشهور والسنني،‏بينما كان مايكل يشرح دوران الأرض وفصول السنة ومدار الأرض حولالشمس،‏ تراءى لي فجأة مشهد الغروب الرائع في ولاية يوتا الذي شهدناهأنا وجنيفياف في رحلتنا إلى الغرب الأمريكي،‏ فأردت أن أخبر سيمون عنه،‏ولكن كيف يمكنك أن تشرح معنى الغروب ملن لم ير الشمس؟يذكرنا التقويم بماضينا،‏ إذا وصلنا إلى كوكب جديد،‏ بنهار وليلحقيقيني بدلاً‏ من نهار راما وليلها الزائفني،‏ سنترك التقويم الأرضي بالتأكيد.‏ولكن في الوقت الحالي،‏ تذكرنا العطلات والإجازات وأعياد امليلاد — خاصةً‏ —ومرور الشهور بجذورنا على الكوكب الجميل الذي لم يعد يمكننا مجردالعثور عليه وإن استخدمنا أفضل تيليسكوبات راما.‏بينجي الآن مستعد للرضاعة.‏ قدراته العقلية ليست الأفضل،‏ ولكنهبالتأكيد لا يواجه مشكلة في أن يخبرني بأنه جوعان.‏ أنا ومايكل لم نخبرسيمون وكيتي عن حالة أخيهما،‏ وقد اتفقنا على هذا سلفًا؛ فسيكون منالصعب عليهما تقبل حقيقة أنه سيستولي على الاهتمام الذي كان منصبًاعليهما وهو رضيع،‏ فكيف لنا أن نتوقع منهما،‏ وهما في هذه السن الصغرية،‏أن يتفهما أن حاجته للاهتمام ستستمر،‏ بل ستكبر،‏ حني يصل إلى مرحلةتعلم املشي،‏ وعندما يصبح صبيٍّا.‏١٣ مارس/آذار ٢٢٠٧كيتي بلغت الرابعة من عمرها اليوم،‏ وعندما سألتها منذ أسبوعني عن الأمنيةالتي تريدها في عيد ميلادها،‏ لم تتردد ثانية وقالت:‏ ‏«أريد أن يعود والدي.»‏إنها فتاة صغرية منطوية وتميل إلى الوحدة،‏ كما أنها سريعة التعلم،‏وهي أشد أبنائي تأثرًا بتقلب الحالة املزاجية.‏ كان مزاج ريتشارد سريعالتقلب كذلك،‏ كان أحيانًا يشعر بابتهاج شديد وحماسة جارفة لدرجة يعجزمعها على تمالك نفسه،‏ وغالبًا ما يحدث هذا عقب مروره مباشرةً‏ بتجربة99


جنة راماتثري حماسه للمرة الأولى،‏ ولكن نوبات الاكتئاب التي كان يمر بها مخيفة،‏ففي بعض الأحيان كان يمر عليه أسبوع أو أكثر دون أن يضحك،‏ بل دونأن يبتسم.‏ورثت كيتي موهبته في الرياضيات،‏ إنها تقوم بعمليات الجمع والطرحوالضرب والقسمة في هذه السن الصغرية،‏ وإن كان ذلك يقتصر على الأرقامالصغرية.‏ سيمون ليست كسول بالتأكيد وتتميز بأنها موهوبة بالقدر نفسهفي عدة مجالات فيما يبدو،‏ وهي عمومًا أكثر اهتمامًا بمجموعة أكبر مناملواد الدراسية،‏ ولكن كيتي بالتأكيد تفوقها في الرياضيات.‏طوال املدة التي مرت منذ رحيل ريتشارد،‏ والتي تبلغ نحو عامني،‏ وأناأحاول بلا جدوى أن أحتل مكانه في قلب كيتي،‏ الحقيقة هي أنني أصطدممعها؛ فشخصيتانا لا تنسجمان مثلما تنسجم شخصية الأم مع شخصيةابنتها.‏ إن التفرد والجموح اللذين أحببتهما في ريتشارد أجدهما مخيفني فيكيتي،‏ ورغم حسن نواياي،‏ دائمًا ما ينتهي بنا الأمر إلى الخصام.‏بالطبع،‏ لم نتمكن من أن نشق الأرض ونحضر ريتشارد حتى تحتفلكيتي بعيد ميلادها،‏ ولكنني حاولت أنا ومايكل بكل جد أن نقدم هدية تنالاهتمامها،‏ ومع أننا لا نتمتع بمهارة كبرية في الإلكترونيات،‏ فإننا نجحنا فيابتكار لعبة فيديو أسميناها ‏«تائهًا في راما»‏ ‏(اضطررنا للتواصل مع أهلراما عدة مرات لإحضار املكونات املناسبة،‏ واستغرق الأمر منا قضاء عدةليالٍ‏ من التعاون معهم لصناعة شيء كان يمكن أن ينتهي منه ريتشاردغالبًا في يوم).‏ راعينا في تصميمنا للعبة أن تكون بسيطة؛ لأن كيتي لمتتجاوز الرابعة من العمر،‏ وبعد اللعب بها ساعتني كانت قد استنفدت كلالخيارات وعرفت كيف تعود إلى البيت،‏ إلى ملجئنا،‏ من أي نقطة انطلاق فيراما.‏جاءت املفاجأة الكبرى الليلة،‏ عندما سألناها عما تحب أن تفعله فيليلة عيد ميلادها ‏(وهذا السؤال أصبح تقليدًا نتبعه في راما).‏ قالت وعيناهاتتألقان:‏ ‏«أريد الدخول إلى ملجأ الكائنات الطائرة.»‏حاولنا أن نثنيها عن ذلك بأن أوضحنا لها أن املسافة بني درجاتالسلالم أكبر من ارتفاعها.‏ ردٍّا على ذلك،‏ ذهبت كيتي إلى السلم املصنوع100


الفصل العاشرمن الحبال املكون من الشرائح الخشبية الذي يتدلى على جانب حجرة نومهاوأرتنا أنها تستطيع أن تتسلقه.‏ ابتسم مايكل وقال:‏ ‏«ورثت شيئًا من أمها.»‏قالت كيتي بصوتها الخافت الذي ينم عن نضج مبكر:‏ ‏«أرجوك ياأمي!‏ كل شيء ممل جدٍّا،‏ أريد أن أرى الحارس بنفسي من قرب.»‏مع أنني انتابتني بعض املخاوف،‏ مشيت مع كيتي إلى ملجأ الكائناتالطائرة،‏ وطلبت منها أن تنتظرني بأعلى حتى أضع السلم املصنوع منالحبال في مكانه.‏ وقفت لحظة على منبسط السلم الأول املواجه للخفري،‏ونظرت عبر الفجوة إلى الآلة التي لا تكف عن الحركة والتي تحمي مدخلاملمر الأفقي،‏ وتساءلت بيني وبني نفسي:‏ تُرى أظللت في مكانك ذاك دائمًا؟ألم يستبدلوك أو يصلحوك طوال هذه املدة؟سمعت ابنتي تناديني من أعلى:‏ ‏«هل أنت مستعدة يا أمي؟»‏ قبل أنأتسلق بسرعة لأقابل كيتي،‏ وجدتها تنزل على السلم.‏ وب َّختها حني لحقتبها عند السور الثاني،‏ ولكنها لم تلقِ‏ بالاً‏ . وكان يتملكها حماس شديد.‏قالت:‏ ‏«أرأيت يا أمي؟ لقد نزلت بمفردي.»‏هنأتها مع أن عقلي كان لا يزال مضطربًا من مجرد تصور كيتي تزلوتقع من على السلم وتصطدم بأحد الأسوار ثم تنقلب في الأعماق السحيقةللممر الرأسي.‏ واصلنا نزول السلم وأنا أساعدها من أسفل حتى وصلناإلى املنبسط الأول والنفقني الأفقيني.‏ على الجانب الآخر من الفجوة،‏ كانالحارس يواصل حركته التكرارية،‏ وكانت كيتي في نشوة بالغة.‏انهمرت أسئلتها:‏ ‏«ما الذي يقع وراء هذا الشيء؟ من صنعه؟ ماذايفعل هنا؟ هل قفزت حقٍّا عبر هذه الفتحة؟»‏إجابةً‏ على أحد أسئلتها،‏ استدرت وخطوت عدة خطوات في النفق الذييقع خلفنا،‏ متبعةً‏ شعاع النور الصادر من كشافي وأنا أفترض أن كيتيتتبعني.‏ بعد لحظات،‏ تجمدت من الخوف عندما اكتشفت أنها كانت لا تزالواقفة على حافة الفجوة.‏ شاهدتها تخرج شيئًا صغريًا من جيب فستانهاوتلقي به عبر الفجوة على الحارس.‏صرخت في كيتي،‏ ولكن بعد فوات الأوان؛ إذ اصطدم الشيء بمقدمةالحارس.‏ على الفور صدر دوي كدويّ‏ الرصاص واصطدمت قذيفتانمعدنيتان بحائط امللجأ فوق رأسها بما لا يزيد عن متر.‏101


جنة راماصرخت كيتي ‏«هيييييييه»‏ وأنا أدفعها بعيدًا عن الحفرة.‏ كنت أستشيطغضبًا،‏ بدأت ابنتي تبكي،‏ وصارت الضوضاء في امللجأ صاخبة.‏بعد مرور ثوان توقفت عن البكاء فجأة وسألتني:‏ ‏«أسمعت؟»‏سألتها وقلبي لا يزال يخفق بشدة:‏ ‏«ماذا؟»‏ردت قائلة:‏ ‏«هناك»‏ وأشارت عبر املمر الرأسي إلى الظلام الذي يغلفاملنطقة الواقعة خلف الحارس.‏ سلطت ضوء املشعل الكهربائي على الخواءولكننا لم نرَ‏ شيئًا.‏وقفنا في مكاننا دون حراك وشبكنا أيدينا،‏ كان هناك صوت قادم منالنفق خلف الحارس،‏ ولكنني عجزت عن تمييزه بسبب بعده،‏ ولهذا لمأستطع التعرف عليه.‏قالت كيتي بلهجة تنم عن اليقني:‏ ‏«إنه مخلوق طائر،‏ أسمع رفرفةجناحيه.»‏ وصرخت ثانيةً‏ بأعلى صوت:‏ ‏«هيييييييييييييييييييييه.»‏توقف الصوت،‏ ومع أننا انتظرنا خمس عشرة دقيقة قبل أن نتسلقامللجأ خارجني منه،‏ لم نسمع أي صوت آخر.‏ أخبرت كيتي مايكلَ‏ وسيمونأننا سمعنا مخلوقًا طائرًا.‏ لم أستطع أن أؤكد صحة قصتها ولكنني آثرتألا أُجادلها،‏ كانت سعيدة،‏ وهكذا كان عيد ميلادها زاخرًا بالأحداث.‏٨ مارس/آذار ٢٢٠٨ولد باتريك إيرين أوتول بعد ظهر أمس في الساعة الثانية والربع،‏ وهوطفل سليم تمامًا من كل النواحي،‏ ووالده يحمله في هذه اللحظة في فخرويبتسم في حني تتحرك أصابعي على لوحة مفاتيح كمبيوتري املحمول.‏نحن في وقت متأخر من الليل الآن،‏ وضعت سيمون بينجي في فراشهكما تفعل كل ليلة في الساعة التاسعة،‏ ثم خلدت إلى النوم.‏ كانت متعبةجدٍّا،‏ اعتنت ببينجي بدون مساعدة من أحد أثناء مدة املخاض التي جاءتطويلة على غري املتوقع،‏ كلما صرختُ‏ ، بكى بينجي،‏ وحاولت سيمون أنتهدئه.‏102


الفصل العاشراعتبرت كيتي باتريك أخاها الصغري،‏ إنها تفكر تفكريًا منطقيٍّا للغاية:‏إذا كان بينجي من نصيب سيمون فإن باتريك يجب أن يكون من نصيبها.‏على الأقل،‏ هي تظهر اهتمامًا بفرد آخر من أفراد الأسرة.‏لم أخطط أنا ومايكل لإنجاب باتريك ولكننا سررنا بمجيئه وانضمامهلأسرتنا،‏ حملت به في وقت ما في آخر الربيع املاضي،‏ على الأرجح في أولشهر يمر بعد أن بدأت أنا ومايكل في املبيت في غرفة نومه ليلاً‏ . فكرة النوممعًا فكرتي،‏ ولكنني متأكدة من أن مايكل فكر في هذا هو الآخر.‏في الليلة التي كان قد مضى على رحيل ريتشارد فيها عامان،‏ جافانيالنوم،‏ وكان ينتابني الشعور بالوحدة كاملعتاد،‏ حاولت أن أتخيل أننيأستطيع النوم ما تبقى من الليالي بمفردي فأصبت باكتئاب شديد،‏ بعدمنتصف الليل مباشرةً،‏ قطعت املمر واتجهت إلى حجرة مايكل.‏منذ هذا الوقت خلت علاقتنا أنا ومايكل من أي توتر أو تكلف،‏ أظنأن كلينا كان مستعدًا لهذا.‏ بعد مولد بينجي انشغل مايكل انشغالاً‏ كبريًابمساعدتي في رعاية الأطفال،‏ وفي هذه الأثناء،‏ خفف مايكل قليلاً‏ من نشاطاتهالدينية وزاد اهتمامه بالتعامل معنا،‏ وخصوصً‏ ا أنا،‏ وفي النهاية،‏ عاد توافقناالطبيعي يؤكد نفسه،‏ ولم يبق أمامنا سوى التسليم بأن ريتشارد لن يَعودأبدًا.‏مريحة.‏ هذه أفضل كلمة تصف علاقتي بمايكل.‏ مع هنري،‏ كانتالسمة املميزة لعلاقتنا هي النشوة،‏ ومع ريتشارد كانت العاطفة املتقدةوالإثارة هي السمة املميزة،‏ إذ كانت علاقتي به أشبه بركوب لعبة القطارالأفعواني.‏ مايكل يريحني،‏ ننام ويدي في يديه،‏ هذا أفضل رمز لعلاقتنا،‏نادرًا ما نقيم علاقة حميمة،‏ ولكن هذا يكفي.‏قدمت بعض التنازلات،‏ حتى إنني أصلي أحيانًا،‏ من وقت إلى آخر،‏ لأنهذا يسعد مايكل.‏ أما هو،‏ فإنه أصبح أكثر تساهلاً‏ بشأن تعريف الأطفالبأفكار وقيم النظم التي تقع خارج إطار مذهبه الكاثوليكي.‏ اتفقنا على أنما نهدف إليه هو تحقيق التوافق والثبات في أسلوب تربيتنا املشترك.‏بلغ عددنا الآن ستة،‏ نحن أسرة من البشر في مكان ما في الكون أقربإلى العديد من النجوم الغريبة منه إلى كوكب الأرض وإلى الشمس.‏ ما زلنا لا103


جنة رامانعرف ما إذا كان الهيكل الأسطواني العملاق الذي يندفع في الفضاء ذاهبًاإلى وجهة محددة أم لا،‏ وفي بعض الأحيان لا يبدو هذا مهمٍّا؛ فقد صنعناعاملًا خاصً‏ ا بنا هنا في راما،‏ ومع أن هذا العالم محدود،‏ فإنني أعتقد أنناسعداء.‏104


الفصل الحادي عشر٣٠ يناير/كانون الثاني ٢٢٠٩كنت قد نسيت الشعور الذي ينتاب املرء عندما يسري الأدرينالني في الجسم.‏في الثلاثني ساعة الأخرية نُسِ‏ فت حياتنا الهادئة الساكنة في راما نسفًا.‏بدأ كل هذا بحلمني،‏ ففي صباح أمس،‏ قبل أن أستيقظ مباشرةً،‏ حلمتبريتشارد،‏ وكان الحلم واضحًا وضوحًا غريبًا،‏ لم يظهر ريتشارد في حلميبمعنى الكلمة،‏ أعني أنه لم يظهر مع مايكل وسيمون وكيتي ومعي،‏ ولكنوجهه ظل في الركن الأيسر العلوي ملا يشبه شاشة الحلم،‏ بينما كنا نحنالأربعة منهمكني في أحد الأنشطة اليومية،‏ وظل يناديني مرارًا وتكرارًا،‏وكان يناديني بصوتٍ‏ عالٍ‏ حتى إنني ظللت أسمعه بعد أن استيقظت.‏وما إن بدأت أخبر مايكل عن الحلم حتى ظهرت كيتي في املدخلببيجامتها،‏ وكانت ترتعد خوفًا،‏ فسألتها وأنا أدعوها بذراعي املفتوحتنيلتقترب:‏ ‏«ما الأمر يا حبيبتي؟»‏اتجهت إلي وألقت نفسها في حضني ثم قالت:‏ ‏«إنه والدي،‏ لقد نادانيأمس في الحلم.»‏سرت قشعريرة في جسدي واعتدل مايكل جالسً‏ ا على الفراش.‏ طمأنتكيتي ببضع كلمات،‏ ولكن تلك الصدفة أربكتني،‏ ترى هل سمعت حديثيمع مايكل؟ مستحيل،‏ فقد رأيناها في اللحظة التي وصلت فيها إلى حجرتنا.‏بعد أن عادت كيتي لتبدل ملابسها في حجرة نومها،‏ أخبرت مايكلبأنني لا أستطيع تجاهل ما رأيته أنا وكيتي في منامنا.‏ كثريًا ما كنا نتحدث


جنة راماعن قدراتي النفسية الخارقة التي تظهر من حني لآخر،‏ ومع أن مايكلعادةً‏ ما يُسقِ‏ ط من حساباته فكرة تمتعي بالإدراك الفائق،‏ فإنه دائمًا مايقر بأنه من املستحيل الجزم بأن أحلامي ورؤاي لا تتنبأ باملستقبل.‏قلت له بعد الإفطار:‏ ‏«يجب أن أصعد إلى أعلى وأبحث عن ريتشارد.»‏كان مايكل يتوقع أن أقوم بهذه املحاولة فاستعد للاعتناء بالأطفال،‏ لكنالظلام كان يخيم على راما،‏ فاتفقنا على أنه من الأفضل أن ننتظر حتىيحل مساؤنا ويظهر الضوء مرة أخرى في عالم سفينة الفضاء فوق ملجئنا.‏أخذت سِ‏ نة طويلة من النوم حتى أستجمع ما يكفي من الطاقة للقيامببحث شامل،‏ غري أن نومي كان متقطعًا وظللت أحلم بأنني في خطر.‏ وقبلأن أرحل،‏ تحققت من أن حاسوبي املحمول به رسم لريتشارد يتسم بقدركاف من الدقة،‏ إذ كنت أنوي إطلاع أي ٍّ من املخلوقات الطائرة التي قدأقابلها على من أبحث عنه.‏قب َّلتُ‏ الأطفال وألقيت عليهم تحية قبل النوم،‏ ثم توجهت مباشرة إلىملجأ املخلوقات الطائرة.‏ لم أندهش كثريًا عندما وجدت أن الحارس رحل؛فمنذ سنوات،‏ عندما دعتني إحدى املخلوقات الطائرة لزيارة امللجأ،‏ لم يكنالحارس موجودًا،‏ فهل من املمكن أن تكون هذه إشارة إلى أنني أتلقى دعوةلزيارتها مرة أخرى؟ وما علاقة كل هذا بحلمي؟ أخذ قلبي يخفق بعنفوأنا أمر أمام الغرفة التي تحتوي على خزان املياه وأتوغل في النفق الذييحرسه عادة الحارس الغائب.‏لم أسمع أي صوت،‏ وقطعت نحو كيلومتر حتى وصلت إلى مدخلمرتفع إلى اليمني،‏ فأدرت نظري بحذر عند املنعطف؛ كانت غرفة مظلمة،‏مثلها في ذلك مثل باقي أنحاء امللجأ باستثناء املمر الرأسي.‏ أضأت الكشاففرأيت أن الغرفة ليست سحيقة العمق،‏ إذ لا يتجاوز عمقها خمسة عشر مترًاعلى الأكثر،‏ ولكنها كانت شاهقة الارتفاع،‏ ورأيت عدة صفوف من صناديقالتخزين البيضاوية مستندةً‏ إلى الحائط املقابل للباب.‏ وكشف شعاع النورالصادر من كشافي عن أن الصفوف تمتد حتى السقف املرتفع الذي يقععلى الأرجح أسفل أحد ميادين نيويورك مباشرةً.‏لم أستغرق وقتًا طويلاً‏ لأفهم الغرض من هذه الغرفة؛ إذ إنني عندماوجدت أن كل صناديق التخزين تشبه بطيخ املن ِّ من حيث الحجم والشكل،‏106


الفصل الحادي عشرقلت في نفسي إن هذا لا بد أن يكون هو املكان الذي يحتفظون فيه بالأغذية،‏ولا عجب إذن من أنهم يمنعون الدخول إلى هنا.‏بعد أن تأكدت من أن كل الصناديق خاوية بالفعل،‏ بدأت أسري عائدةإلى املمر الرأسي،‏ ثم غريت اتجاهي فجأة وتجاوزت غرفة التخزين وأخذتأسري في املمر،‏ وهذا لأنني استنتجت أن املمر يؤدي حتمًا إلى مكان ما وإلاكان امللجأ انتهي عند غرفة البطيخ.‏بعد نصف كيلومتر أخذ النفق يتسع تدريجيٍّا حتى أفضى إلى غرفةدائرية كبرية،‏ وفي وسط الغرفة ذات السقف املرتفع،‏ كان يوجد بناء كبري لهقبة،‏ وكانت الجدران بها نحو عشرين فجوةً‏ محفورة على مسافات منتظمة،‏ولا يضيئها سوى الضوء الصادر من كشافي،‏ ولذا استغرق الأمر مني بضعدقائق حتى أكون فكرة عامة عن الغرفة إضافةً‏ إلى البناء ذي القبة املوجودفي وسطها.‏مشيت بمحاذاة الحائط وفحصت الفجوات واحدة تلو الأخرى،‏ فوجدتأن معظمها فارغ،‏ لكنني وجدت في واحدة منها ثلاثة حراس متطابقنيمصطفني بنظام أمام الجدار الخلفي،‏ أول إحساس انتابني هو ضرورةتوخي الحذر منهم،‏ لكن لم يكن ذلك ضروريٍّا؛ إذ إنهم جميعًا كانوا فيوضع الخمول …غري أن الفجوة التي أثارت اهتمامي دون غريها هي الفجوة الواقعة فيمنتصف الغرفة،‏ وتحديدًا على بعد زاوية قدرها مائة وثمانني درجة بالضبطمن مدخل النفق؛ إذ إن هذه الفجوة الخاصة كانت مرتبة بعناية وكان بهاأرفف سميكة محفورة في حوائطها يبلغ عددها خمسة عشر:‏ خمسة أرففعلى كل جانب وخمسة على الحائط املواجه ملدخل الفجوة،‏ وكان يوجد علىالأرفف التي تحتل الجانبني أشياء مرتبة ‏(كان كل شيء مرتبًا للغاية)،‏ أماالأرفف التي تغطي الحائط البعيد فكان في كل منها خمس حفر مستديرة.‏وكانت كل حفرة مقسمة إلى أقسام أخرى أصغر،‏ فبدت أشبه بقطعمن فطرية،‏ وكانت محتويات هذه الحفر ساحرة؛ إذ كان أحد أقسام كلحفرة يحتوي على مادة ناعمة جدٍّا كالرماد،‏ ويحتوي قسم ثان على حلقة أواثنتني أو ثلاثة ذات لون أحمر زاهٍ‏ أو ذهبي،‏ وقد تعرفت عليها على الفور107


جنة رامالأنها تشبه الحلقات التي رأيناها حول رقبة صديقنا الطائر ذي الريشالرمادي،‏ أما باقي الأشياء التي في الحفر فلم تكن تتسم بنمط محدد،‏ فيالواقع،‏ كانت بعض الحفر خالية إلا من الرماد والحلقات امللونة.‏في النهاية،‏ استدرت واقتربت من البناء ذي القبة،‏ وكان بابه الأماميمواجهًا للفجوة املميزة،‏ فتفحصت الباب على ضوء مصباحي،‏ ورأيت تصميمًامعقدًا محفورًا على سطحه املستطيل،‏ وكان التصميم ينقسم إلى أربعة ألواحأو قطاعات منفصلة،‏ رُسِ‏ م القطاع الأيسر العلوي مخلوق طائر،‏ والقطاعامللاصق الأيمن كان يحمل صورة ثمرة بطيخ املَن،‏ أما القطاعان السفليان،‏فكانا يحتويان على صورٍ‏ غري مألوفة؛ فعلى الجانب الأيسر رأيت نقشً‏ ا ملخلوقمخطط ذي مفاصل يجري على ست أرجل،‏ ويظهر في القطاع السفلي الأخرياملوجود إلى اليمني صندوقٌ‏ كبري مملوء بشبكة أو نسيج شبكي رقيق للغاية.‏بعد شيء من التردد دفعت الباب فانفتح،‏ وكدت أموت فزعًا عندماشق السكونَ‏ صوتُ‏ إنذار مرتفع كصوت بوق السيارة،‏ فتسمرت بالداخلوظل صوت الإنذار يدوي طوال دقيقة،‏ وعندما توقف،‏ لم أتحرك،‏ وإنماحاولت أن أصغي السمع لأعرف ما إذا كان ثمة استجابة من شخص ما‏(أو شيء)‏ للإنذار أم لا.‏لم يبدد الصمتَ‏ أي ُّ صوت آخر،‏ فبدأت بعد دقائق قليلة استكشفالجزء الداخلي من املبنى،‏ ووجدت أن الغرفة الوحيدة في املكان يحتل وسطهامكعبٌ‏ شفاف يبلغ كل بعد من أبعاده نحو مترين ونصف،‏ وكانت حوائطهملطخة ببقع مما شوش على رؤيتي بعض الشيء،‏ ولكنني لاحظت أن القاعالذي تبلغ مساحته عشرة سنتيمترات كانت تغطيه مادة ناعمة داكنة.‏ كماكانت حوائط وأرضيات وسقف الغرفة التي بها املكعب تزينها أشكالهندسية،‏ وكان لأحد أوجه املكعب مدخل ضيق يسمح بالدخول إليه.‏دخلت،‏ واكتشفت أن املادة السوداء الخفيفة كانت فيما يبدو عبارة عنرماد،‏ ولكن قوامها كان مختلفًا قليلاً‏ عن قوام املادة املماثلة التي وجدتهافي الحفر داخل الفجوات.‏ تابعت عيناي الشعاع الصادر من مصباحي وهويتفقد أنحاء املكعب بنظام،‏ ووجدت قرب الوسط شيئًا مدفونًا جزئيٍّا فيالرماد،‏ فاتجهت نحوه والتقطته ونفضت عنه الرماد،‏ فكاد أن يغمى علي؛إذ إنني وجدت أن هذا الشيء هو شني،‏ ذلك الآلي الذي صنعه ريتشارد.‏108


الفصل الحادي عشرتغري شني تغريًا كبريًا:‏ فقد اسود الجزء الخارجي منه،‏ وذابت لوحةالتحكم الضئيلة الخاصة به،‏ ولم يعد يعمل،‏ ولكنه هو بالتأكيد.‏ وضعتالآلي الصغري على شفتي وقبلته،‏ وتخيلته وهو يلقي إحدى السونيتات التيكتبها شكسبري وريتشارد يستمتع بالاستماع إليه في نشوة.‏من الواضح أن شني قد تعرض لحريق،‏ ترى هل تعرض ريتشاردهو الآخر لحريق ما داخل املكعب؟ فتشتُ‏ في الرماد تفتيشً‏ ا دقيقًا ولكننيلم أجد أي عظام،‏ فتساءلت:‏ ما الذي احترق وخل َّف كل هذا الرماد؟ وماذاكان شني يفعل بداخل املكعب أصلاً‏ ؟كنت مقتنعة بأن ريتشارد كان في مكان ما داخل ملجأ املخلوقاتالطائرة،‏ لذا أمضيت ثماني ساعات أخرى وأنا أصعد وأهبط السلالموأستكشف الأنفاق،‏ وزرت كل الأماكن التي مررت بها من قبل أثناء إقامتيالقصرية السابقة،‏ ووجدت عدة قاعات جديدة لم أعرف الغرض منها،‏ غريأنني لم أجد أية علامة على وجود ريتشارد،‏ بل لم أجد أي علامة علىوجود حياة من أي نوع،‏ وأدركت أن النهار الراميّ‏ القصري كاد أن ينقضيوأن الأطفال الأربعة سرعان ما سيستيقظون،‏ فعدت إلى بيتي وأنا متعبةومكتئبة.‏وعندما وصلت،‏ كان غطاء ملجئنا والشبكة التي تغطيه مفتوحني،‏ ومعأنه كان بداخلي شيء من اليقني من أنني أغلقتهما قبل الرحيل،‏ فإنني لمأستطع تذكر ما قمت به بالضبط لدى مغادرة البيت،‏ وفي النهاية قلتلنفسي إنني ربما كنت منفعلة أكثر مما ينبغي وقتها مما منعني من غلق كلاملداخل،‏ وما إن بدأت أهبط السلم،‏ حتى سمعت مايكل ينادي من خلفي:‏‏«نيكول.»‏التفت،‏ كان مايكل يسري في املمر الشرقي،‏ مسرعًا على غري عادته ويحملباتريك الرضيع بني ذراعيه.‏قال وهو يلهث بينما أنا أتجه نحوه:‏ ‏«ها أنت ذي،‏ كنت قد بدأتأقلق …»توقف فجأة وحدق فيّ‏ للحظة ثم تلفت حوله بسرعة وسأل بقلق:‏ ‏«لكنأين كيتي؟»‏109


جنة راماسألته وقد أفزعتني نظرته:‏ ‏«ماذا تعني؟»‏سأل:‏ ‏«أليست معك؟»‏هززت رأسي نفيٍّا وقلت إنني لم أرها فانفجر مايكل باكيًا فجأة،‏فأسرعت لأهدئ باتريك الصغري إذ أرعبه بكاء مايكل فانفجر هو الآخر فيالبكاء.‏قال مايكل:‏ ‏«آه يا نيكول،‏ أنا آسف،‏ آسف جدٍّا،‏ كان باتريك يعاني منالأرق لذا أحضرته إلى غرفتي،‏ وبعدها شعر بينجي بألم في املعدة واضطررتأنا وسيمون إلى أن نمرضه طيلة ساعتني،‏ ثم نمنا جميعًا وكيتي بمفردهافي حجرة الأطفال،‏ وعندما استيقظنا منذ حوالي ساعتني اكتشفنا اختفاءها.»‏لم أرَ‏ مايكل في هذه الحالة من الاضطراب من قبل فحاولت أن أهدئهوأن أقول له إن كيتي على الأغلب تلعب في مكان قريب ‏(وأكملت في عقلي:‏وإنني سأوبخها توبيخً‏ ا لن تنساه أبدًا عندما نجدها)‏ ولكن مايكل خالفنيالرأي.‏قال:‏ ‏«لا،‏ لا،‏ إنها ليست في مكان قريب،‏ لقد بحثت عنها أنا وباتريكلأكثر من ساعة.»‏نزلت أنا ومايكل وباتريك لنطمئن على سيمون وبينجي،‏ فأخبرتناسيمون أن كيتي استاءت جدٍّا عندما قررت أن أبحث عن ريتشارد بمفردي،‏وقالت بهدوء:‏ ‏«كانت تأمل أن تأخذيها معك.»‏سألت ابنتي ذات الثماني سنوات:‏ ‏«لِمَ‏ لَمْ‏ تخبريني بهذا الليلة املاضية؟»‏أجابت:‏ ‏«لم يبد أن هذا مهمٍّا حينها،‏ كما أنني لم أتخيل أبدًا أن كيتيستحاول أن تبحث عن والدي بنفسها.»‏كنت أنا ومايكل مرهقني،‏ ولكن كان على أحدنا أن يبحث عن كيتي،‏ورأيت أن الاختيار السليم هو أن أذهب أنا،‏ فغسلت وجهي وطلبت إفطارًاللجميع من سكان راما وقصصت عليهم سريعًا رحلة نزولي ملجأ املخلوقاتالطائرة،‏ وأخذ مايكل وسيمون يقلبان شني املسود ببطء في أيديهما،‏ وكانمن الواضح أنهما كانا يتساءلان مثلي عما حل بريتشارد.‏وقبل أن أرحل مباشرةً‏ قالت سيمون:‏ ‏«قالت كيتي إن والدي ذهبليقابل الأوكتوسبايدر،‏ وقالت إن عاملهم شيق أكثر.»‏110


الفصل الحادي عشراجتاحني الرعب وأنا أمشي بصعوبة في الساحة القريبة من ملجأالأوكتوسبايدر،‏ وبينما كنت أمشي انطفأت الأنوار وعاد الليل يخيم على راما،‏فغمغمت لنفسي قائلةً:‏ ‏«رائع،‏ لا يوجد ما هو أفضل من البحث عن طفلةتائهة في الظلام!»‏كان غطاء ملجأ لأوكتوسبايدر مفتوحًا،‏ وكذا شبكتَا الحماية،‏ لم أرالشبكتني مفتوحتني من قبل،‏ فخفق قلبي ذعرًا،‏ ودلتني غريزتي إلى أنكيتي نزلت إلى امللجأ وإلى أنني سأتبعها بالرغم من خوفي.‏ في البداية جثوتعلى ركبتَي َّ وناديت عليها مرتني باتجاه الظلمة التي تبدو أسفل قدمَي،‏فسمعت صدى اسمها يتردد في الأنفاق،‏ وأصغيت السمع لعل أذني تلتقطاستجابة،‏ ولكن لم أسمع أي صوت،‏ فقلت لنفسي:‏ ‏«على الأقل لم أسمعصوت احتكاك فرشاة على الأرض يصحبها طنني ذو تردد عالٍ‏ .»نزلت املنحدر ووصلت إلى الكهف الكبري الذي به الأنفاق الأربعة التيأطلقنا عليها أنا وريتشارد أسماء ‏«إيني وميني ومايني ومو.»‏ كان الأمرصعبًا،‏ ولكنني أجبرت نفسي على دخول النفق الذي مشيت فيه أنا وريتشاردمن قبل،‏ ولكن بعد خطوات قليلة توقفت،‏ ثم تراجعت ودخلت النفق املجاور؛وكان هذا املمر الثاني يفضي أيضً‏ ا إلى املمر املنحدر ذي الشكل البرميلي الذيتغطي جدرانه النتوءات الشائكة،‏ ولكنه كان يتخطى الغرفة التي أسميتهاأنا وريتشارد متحف الأوكتوسبايدر،‏ وتذكرت جيدًا الرعب الذي شعرت بهمنذ تسع سنوات عندما وجدت د.‏ تاكاجيشي معلقًا في ذلك املتحف وهومحنط مثل تذكار الصيد.‏أردت زيارة متحف الأوكتوسبايدر لسبب لا يتعلق ببحثي عن كيتي؛وهو أن الأوكتوسبايدر إذا كانوا قد قتلوا ريتشارد ‏(كما قتلوا تاكاجيشي،‏حسب افتراضنا،‏ مع أنني حتى الآن لست مقتنعة بأنه أصيب بأزمة قلبية)‏أو إذا كانوا قد وجدوا جثته في مكان آخر في راما،‏ فإنه ربما يكون في هذهالغرفة.‏ إذا قلت إنني لم أكن متخوفة من أن أرى زوجي محنطًا على طريقةالتحنيط املتبعة لدى سكان الكواكب الأخرى فإنني بهذا أخالف الحقيقة،‏ولكن أكثر ما كان يهمني هو أن أعرف ما الذي حل بريتشارد،‏ خاصة بعدالحلم الذي شاهدته.‏111


جنة راماأخذت نفسً‏ ا عميقًا عندما وصلت إلى مدخل املتحف،‏ ودخلت متجهةً‏ إلىاليسار ببطء.‏ أُضيئت الأنوار فور أن عبرت العتبة،‏ ولكن لحسن الحظ لميكن د.‏ تاكاجيشي يحدق في وجهي مباشرة؛ فقد نُقِ‏ ل إلى الجانب الآخر منالغرفة.‏ في الواقع لقد أعادوا ترتيب املتحف كله على مدى السنوات املاضية،‏فقد أزيلت كل الكائنات الآلية التي كانت تشغل معظم مساحة الغرفة عندمازرتها أنا وريتشارد من قبل لفترة وجيزة،‏ وصارت ‏«املعروضات»‏ — إذاكان من املمكن أن نطلق عليهما هذه التسمية — تتألف من نوعني همااملخلوقات الطائرة والبشر.‏كانت املعروضات من املخلوقات الطائرة أقرب إلى الباب،‏ وكانت تضمثلاثة مخلوقات طائرة معلقة في السقف وأجنحتها منبسطة،‏ ومن بينهااملخلوق الطائر ذو الريش الرمادي والعنق املزدان بحلقتني حمراوين الذيرأيته أنا وريتشارد قبيل موته.‏ وكانت توجد في قسم املخلوقات الطائرةأشياء أخرى ساحرة بل وصور،‏ ولكنني وجدت عيني تنجذبان إلى الجانبالآخر من الغرفة حيث املعروضات املحيطة بدكتور تاكاجيشي.‏تنفست الصعداء عندما أدركت أن ريتشارد ليس في الغرفة،‏ غري أنمركبنا الشراعي الذي عبرت فيه البحر الأسطواني مع ريتشارد ومايكلكان على الأرض بجوار دكتور تاكاجيشي مباشرة،‏ كما كانت هناك تشكيلةمن حاجياتنا التي حصلوا عليها بعدما خلفناها أثناء نزهاتنا في نيويوركوغريها من الأنشطة التي قمنا بها هناك.‏ أما وسط املعرض فيضم مجموعةصور ذات إطارات معلقة على الحوائط الخلفية والجانبية.‏من موقعي عبر الغرفة،‏ لم أستطع تمييز الكثري عن محتويات الصور،‏ولكنني شهقت عندما اقتربت منها؛ كانت الصور كلها صورًا فوتوغرافيةً‏موضوعةً‏ في أطر مستطيلة،‏ يصور الكثري منها الحياة داخل ملجئنا،‏ رأيتصورًا لنا جميعًا وفيها الأطفال،‏ وهي تصورنا ونحن نأكل وننام بل ونحنفي الحمام.‏ شعرت بالخدر يسري في جسدي وأنا أتأمل املعروضات،‏ وعلقتقائلة:‏ ‏«إنهم يراقبوننا حتى داخل بيتنا.»‏ سرت قشعريرة رهيبة في جسدي.‏كانت هناك مجموعة خاصة من الصور معلقة على الحائط الجانبيأفزعتني وأخجلتني،‏ ولو كنا على كوكب الأرض،‏ لرُش ِّ حت هذه الصور للعرض112


الفصل الحادي عشرفي متحف للصور واملعروضات ذات الطابع الشهواني؛ فهي تصورني وأناأضاجع ريتشارد،‏ وتوجد صورة واحدة لي مع مايكل،‏ ولكنها أقل وضوحًالأن حجرتنا كانت مظلمة في تلك الليلة.‏أما صف الصور املُعل َّقة أسفل املشاهد الجنسية فيصور ولادات الأطفال،‏وكانت كل ولادة ظاهرة في الصور،‏ بما فيها ولادة باتريك،‏ مما يؤكد أنعملية التجسس لم تتوقف.‏ ويكشف وضعُ‏ الصور الجنسية بجانب صورالولادة عن أن الأوكتوسبايدر ‏(أو سكان راما)‏ فهموا عملية التكاثر عندنا.‏استغرقت الصور انتباهي تمامًا طوال خمس عشرة دقيقة،‏ ثم انقطعتركيزي عندما سمعت صوتًا عاليًا جدٍّا لفرشاة تحتك بمعدن،‏ وكان يأتيالصوت من اتجاه باب املتحف.‏ اجتاحني رعب شديد وتسمرت في مكانيوتلفت حولي في ارتياع،‏ لا يوجد مخرج آخر للحجرة.‏بعد ثوان دخلت كيتي من الباب وهي تقفز،‏ وصاحت عندما رأتني:‏‏«ماما»،‏ واندفعت تجري عبر املتحف حتى كادت تُسقِ‏ ط دكتور تاكاجيشيوألقت بنفسها في أحضاني.‏قالت وهي تحتضنني وتقبلني بقوة:‏ ‏«ماما،‏ كنت أعرف أنك ستأتني.»‏أغمضتُ‏ عيني وأمسكت بابنتي التائهة بكل قوتي،‏ وانهمرت الدموععلى وجنتي،‏ وأخذت أهدهد كيتي وحاولت أن أطمئنها وأنا أقول:‏ ‏«لا بأسيا حبيبتي،‏ لا بأس.»‏عندما كفكفت دموعي وفتحت عيني،‏ وجدت أوكتوسبايدر واقفًا عندمدخل املتحف،‏ وظل ساكنًا لوهلة وكأنه يتأمل حدث لَم ِّ شمل الأم وابنتها،‏فشُ‏ ل َّت حركتي واجتاحتني موجة من املشاعر يمتزج فيها الفرح بالرعبالشديد.‏أحست كيتي بخوفي فقالت وهي تستدير نحو الأوكتوسبايدر:‏ ‏«لا تقلقييا أمي،‏ لن يؤذيك،‏ إنه يريد أن يشاهد وحسب،‏ لقد اقترب مني مرارًا.»‏وصل مستوى الأدرينالني في جسدي إلى الحد الأقصى.‏ ظل الأوكتوسبايدرواقفًا ‏(أو جالسً‏ ا،‏ أو أيٍّا ما كان الأوكتوسبايدر يفعله وهو ساكن)‏ عند الباب.‏كان رأسه الأسود الكبري شبه مستدير،‏ وجسده يفترش الأرض وتنبثق منهثمانية مجسات مخططة بخطوط سوداء وذهبية،‏ وكانت وسط رأسه فجوتان113


جنة رامامتوازيتان متماثلتان حول محور غري مرئي وتمتدان رأسيٍّا،‏ وبينهما،‏ علىارتفاع نحو متر من الأرض،‏ يوجد شكل مربع مدهش أشبه بعدسة يبلغ طولضلعه عشرة سنتيمترات،‏ وكانت مزيجًا هلاميٍّا من خطوط على شكل شبكةومادة سائلة تتألف من اللونني الأبيض والأسود،‏ وبينما كان الأوكتوسبايدريحدق فينا،‏ كانت العدسة تموج بالنشاط.‏كان هناك أعضاء أخرى في جسده بني الفجوتني،‏ فوق العدسة وأسفلها،‏ولكن لم يتح لي الوقت الكافي لإمعان النظر فيها؛ اتجه الأوكتوسبايدر نحونافي الغرفة،‏ وعاد الخوف يداهمني بكل قوته رغم ما قالته كيتي لتطمئنني.‏واكتشفت أن صوت الفرشاة يصدر من الأعضاء الشبيهة بالأهداب امللحقةبالجانب السفلي من املجسات عندما تتحرك على الأرض،‏ وأن الطنني ذاالتردد العالي يصدر من فتحة صغرية تقع في الجانب السفلي الأيمن منرأسه.‏جمد الخوف قدرتي على التفكري عدة ثوان،‏ وبينما كان هذا الكائنيقترب،‏ سيطرت عليّ‏ رغبة تلقائية في الهرب،‏ ولكن للأسف لم يُجدِ‏ ذلكنفعًا في هذا املوقف،‏ لأنه لم يكن هناك مهرب.‏لم يتوقف الأوكتوسبايدر إلى أن صار لا يفصله عنا إلا خمسة أمتار،‏فأوقفت كيتي أمام الحائط ووقفت بينها وبني الأوكتوسبايدر ثم رفعتيدي.‏ مرة أخرى سرت موجة من النشاط في عدسته الغريبة،‏ وفجأة أتتنيفكرة؛ دسست يدي في جيب بذلة الطريان التي أرتديها وأخرجت حاسوبيمنها ‏(وهنا رفع الأوكتوسبايدر اثنني من املجسات أمام عدسته،‏ والآن أجدنفسي أتساءل ما إذا كان يظن أنني سأخرج سلاحًا.)‏ وبيد مرتعشةً،‏كتبت أمرًا يستدعي صورة ريتشارد على الشاشة ثم حركت الشاشة باتجاهالأوكتوسبايدر.‏عندما لم تصدر مني أي حركة أخرى أعاد املخلوق املجسني الوقائينيإلى الأرض ببطء،‏ وحدق في الشاشة دقيقة كاملة،‏ ثم رأيت ما أدهشنيبشدة،‏ إذ اكتست رأسه بالكامل بلون أرجواني زاهٍ‏ ابتداءً‏ من حافة الفجوة،‏وبعد ذلك بثوان قليلة تلون رأسه بطيف من الألوان منها الأحمر والأزرقوالأخضر — وكان كل شريط لوني له سمك مختلف — وانبثقت كلها من114


الفصل الحادي عشرنفس الفجوة،‏ وبعد أن طوق طيف الألوان رأسه،‏ تراجع إلى الفجوة املوازيةالتي تبعد حوالي ثلاثمائة وستون درجة تقريبًا.‏أخذت أنا وكيتي نحدق في انبهار،‏ رفع الأوكتوسبايدر أحد مجساتهوأشار إلى الشاشة وكرر إصدار املوجة الأرجوانية الواسعة،‏ وبعد دقائقظهر طيف الألوان نفسه كما حدث من قبل.‏قالت كيتي بصوت منخفض:‏ ‏«إنه يكلمنا يا ماما.»‏رددت عليها قائلةً:‏ ‏«أعتقد أنك محقة،‏ ولكنني لا أفهم شيئًا مما يقول.»‏بعد مدة انتظار بدت لنا طويلة كدهر،‏ بدأ الأوكتوسبايدر يرجعإلى الخلف باتجاه املدخل وإحدى مجساته املمدودة تشري لنا بأن نتبعه،‏واختفت الشرائط اللونية،‏ فأمسكت بيد كيتي وتبعناه بحذر،‏ وبدأت كيتيتنظر حولها،‏ ولاحظت الصور املعلقة على الحائط لأول مرة،‏ فقالت:‏ ‏«انظرييا أمي،‏ عندهم صور لأسرتنا.»‏طلبت منها أن تصمت وتنتبه إلى الأوكتوسبايدر.‏ رجع الأوكتوسبايدر إلىالنفق،‏ وتوجه إلى حيث الأنفاق واملمر الرأسي الذي تغطي جدرانه النتوءاتحتى وصلنا إلى الفتحة التي نحتاجها،‏ فحملت كيتي وأمرتها أن تتشبثبي بقوة،‏ وجريت في النفق بأقصى سرعة فلم أكد أمس الأرض بقدمَي حتىصعدت املنحدر وعدت إلى نيويورك.‏كاد مايكل أن يطري فرحًا عندما رأى كيتي على ما يرام،‏ ولكنه شعربقلق شديد ‏(وأنا أيضً‏ ا)‏ بسبب وجود كامريات مخبأة في حوائط وأسقفمخبئنا.‏ أما أنا فقد عجزت عن توبيخ كيتي لخروجها بمفردها،‏ إذ كنتأشعر بارتياح شديد للعثور عليها.‏ قالت كيتي لسيمون إنها خاضت ‏«مغامرةرائعة»‏ وإن الأوكتوسبايدر ‏«لطيف».‏ هذا هو عالم الأطفال.‏٤ فبراير/شباط ٢٢٠٩آه،‏ يا لفرحتنا!‏ وجدنا ريتشارد!‏ لا يزال حيٍّا!‏ أو بالكاد حيٍّا،‏ فهو في غيبوبةعميقة ويعاني من حمى شديدة،‏ ولكنه حي.‏وجدَته كيتي وسيمون هذا الصباح ممددًا على الأرض على بعد أقل منخمسني مترًا من فتحة ملجئنا.‏ كنا قد خططنا نحن الثلاثة للعب كرة القدم115


جنة رامافي الساحة العامة وكنا نستعد ملغادرة امللجأ حني طلب مني مايكل العودةلسبب ما،‏ فطلبت من الفتاتني أن تنتظراني في املنطقة القريبة من مدخلامللجأ،‏ وبعد دقائق قليلة أخذتا تصرخان،‏ فأسرعت أصعد السلم وأنا أظنأن مكروهً‏ ا قد وقع،‏ فكان أول ما وقعت عليه عيناي هو جسد ريتشاردالفاقد الوعي.‏في البداية سيطر علي خوف من أن يكون ريتشارد ميتًا،‏ لكن سرعان مابدأت امللكة الطبية داخلي تعمل فأخذت أفحص املؤشرات الحيوية،‏ وتعلقتالفتاتان بي وأنا أفحصه،‏ وخاصة كيتي،‏ إذ ظلت تقول:‏ ‏«هل بابا حي؟ماما،‏ ساعدي بابا على الشفاء.»‏ما إن أكّدتُ‏ لهم أن ريتشارد في غيبوبة حتى ساعدني مايكل وسيمونفي حمله والنزول به،‏ وعندها ركبت مجموعة من مجسات مراقبة الظواهرالبيولوجية إحصائيٍّا على جسده وظللت أراقب النتائج منذ تلك اللحظةوحتى الآن.‏خلعت ملابسه وفحصته من قمة رأسه إلى أخمص قدمه،‏ فوجدت بهبعض الجروح الطفيفة والكدمات التي لم أرها من قبل،‏ وهذا متوقع بعدمرور كل هذا الوقت.‏ ووجدت أن عدد خلايا دمه قريب من املعدل الطبيعي،‏وهذا غريب؛ فقد توقعت وجود اختلال في خلايا الدم البيضاء بعد أن بلغتحرارته أربعني درجة تقريبًا.‏اكتشفنا مفاجأة كبرية أخرى عندما فحصنا ملابس ريتشارد بالتفصيل؛إذ وجدت في جيب سترته الآليني الشكسبرييني:‏ الأمري هال وفولستاف اللذيناختفيا منذ تسع سنوات في العالم الغريب املوجود أسفل املمر الذي تغطيجدرانه النتوءات،‏ والذي ظننا أنه ملجأ الأوكتوسبايدر.‏ لا بد أن ريتشاردقد أقنع الأوكتوسبايدر بطريقة ما بأن يعيدوا رفاق لهوه إليه.‏مرت سبع ساعات حتى الآن وأنا جالسة بجوار ريتشارد.‏ طوال معظمساعات هذا الصباح كان يصحبني بعض من أفراد الأسرة،‏ ولكنني ظللتمعه بمفردي على مدى الساعة الأخرية،‏ فأخذت أتفرس في وجهه لدقائقمتواصلة،‏ وأخذت أملس رقبته وكتفه وظهره،‏ فأثارَ‏ ملسي له فيضً‏ ا منالذكريات واغرورقت عيناي بالدموع مِ‏ رارًا.‏ لم أظن أبدًا أنني سأتمكن116


الفصل الحادي عشرمن رؤيته أو ملسه مرة أخرى.‏ آه يا ريتشارد مرحبًا بعودتك إلينا،‏ مرحبًابعودتك إلى زوجتك وأسرتك.‏117

Hooray! Your file is uploaded and ready to be published.

Saved successfully!

Ooh no, something went wrong!