13.07.2015 Views

BOOK 91

BOOK 91

BOOK 91

SHOW MORE
SHOW LESS
  • No tags were found...

You also want an ePaper? Increase the reach of your titles

YUMPU automatically turns print PDFs into web optimized ePapers that Google loves.

تاريخ الفنونوأشهر الصورتأليفسالمة موىس


محتوى الكتاب4722273034445061687278849298104111117127138145152157161168........................................................الفنون الجميلة .................... ..............المقدمة .......................الفصل األول .............الفصل الثاني .............الفصل الثالث .............الفصل الرابع .............الفصل الخامس .............الفصل السادس .............الفصل السابع ..............الفصل الثامن ..............الفصل التاسع ..............الفصل العاشر .............الفصل الحادي عشر ......الفصل الثاني عشر.........‏الفصل الثالث عشر .......الفصل الرابع عشر ........الفصل الخامس عشر ....الفصل السادس عشر ....الفصل السابع عشر ......الفصل الثامن عشر .......الفصل التاسع عشر ......الفصل العشرون ............الفصل الحادي والعشرون ...الفصل الثاني والعشرون ...الفصل الثالث والعشرون ...الفصل الرابع والعشرون ...الجمال ومعايير وحدوده .................... ..عصر االنحطاط ..................................الفنون اإلسامية ................................أصل الرسم الحديث:‏ مدرسة فلورنسا .........الرسم بالزيت:‏ المدرسة الفلمنكية ..............نجوم النهضة .....................................نحو البندقية ......................................مجد البندقية ......................................نهضة الفنّ‏ في ألمانيا .........................المدرسة الفلمنكية ................................نهضة الفنّ‏ في إسبانيا .........................فنّ‏ الرسم في هولندا ............................هولندا في القرن السابع عشر ..................نهضة الفنّ‏ في فرنسا ...........................الرسّ‏ امون اإلنجليز في القرن الثامن عشر .....رسم األشخاص في إنجلترا ....................الثورة الفرنسية والفنون ......................رسم المناظر الطبيعية عند اإلنجليز ...........الرسّ‏ امون اإلنجليز في عصر فكتوريا .........فرنسا في القرن التاسع عشر ...................هويسلر وتأثير الشرق األقصى ................النزعة التقريرية والتأثيرية في فرنسا ........الوحوش،‏ والتكعيبيون،‏ واالستقباليون .....


المقدمةإذا استثنينا الفصول األربعة األولى من هذا الكتاب،‏وبعض الفصول التي رأينا حذفها،‏ أمكننا أن نقول إنهملخَّ‏ ص عن كتاب ِ السّ‏ يْر ‏»وليم أوربن«‏ ‏»خالصة الفن«،‏فقد تقيَّدنا بآرائه وإن لم نتقيَّد بصوره،‏ بل أخذناها منمصادر كثيرة أخرى،‏ ولم نذكر كل الذين ذكرهم منالرسّ‏ امين،‏ بل اقتصرنا على المشهورين.‏والغاية من إخراج هذا الكتاب هي أن ِ نقدّ‏ م للقرّاء مجموعةفاخرة من الصور والرسوم المشهورة في أوروبا،‏ مع لمحةمن تاريخها وتاريخ الرسّ‏ امين الذين أدّوها،‏ ووصفالظروف التي بعثت الفنون وعملت على تطويرها فياألزمنة المختلفة،‏ أما الفصول األربعة األولى فقد حاولتفيها أن أشرح النظرية العامّة عن الفنون الجميلة،‏ ِ وأبيّنأوجه االنحطاط الذي يعتريها،‏ ولذلك فأنا المسؤول عمّ‏ اأبديت فيها من رأي.‏7


تاريخ الفنون وأشهر الصوروعندنا اآلن نهضة فنية ابتعثها من الموت األمير يوسفكمال،‏ وهو رجل ال يتكلَّم كثيراً‏ ولكنه يعمل كثيراً،‏ فقدأسَّ‏ س مدرسة الفنون الجميلة فكانت البذرة الصالحة لفنّ‏الرسم في مصر،‏ وقد جلب لها ِ معلّمين أكفاء من أوروبا،‏وأنفق عليها عشرات األلوف من الجنيهات،‏ وهو ‏-إلىاآلن-‏ ما زال دائباً‏ في هذا العمل الشريف،‏ ومن بينأساتذة هذه المدرسة األستاذ ‏»سانتس«‏ الذي استحدثفي الصحف المصرية الفنّ‏ الكاريكاتوري.‏وإلى جانب هذه المدرسة نشأ هواة آخرون تعلَّمواباجتهادهم،‏ فكان الرسم مهواتهم التي أكبّوا عليها وبرعوافيها،‏ وتألّف من هؤالء وهؤالء ‏»جمعية محبّي الفنونالجميلة«‏ التي أقامت أوّل معارضها سنة 1923 في مصنعاألستاذ فؤاد عبد الملك.‏ والفضل في تأسيس هذه الجمعيةلألمير يوسف كمال،‏ ومحمد ‏)بك(‏ محمود خليل،‏ وفؤاد‏)أفندي(‏ عبد الملك.‏وحدث أن اثنين من الرسّ‏ امين المصريين أرادا أن يرحالإلى إيطاليا لدرس القدماء،‏ ولم يكن في استطاعتهما أنينفقا على هذه الرحلة والبقاء طويالً‏ في رومية،‏ وكانا،‏وهما في مصر،‏ يعمالن في تعليم الرسم في المدارسالمصرية،‏ فاتّفق كالهما على أن يعمل أحدهما عمل اآلخر8


في مصر ويرسل له مرتَّبه،‏ ثم يعود اآلخر إلى مصر فيعملعمل األول،‏ وهكذا يتعاونان على االرتحال إلى المدينةالخالدة،‏ وكان هذان االثنان هما:‏ راغب عياد،‏ ويوسفكامل،‏ فلمّ‏ ا علمت الحكومة بهذا المجهود الشريف تبرَّعتبنفقات بعثة تتعلّم الرسم في إيطاليا.‏وكانت هذه البعثة األولى تتألّف من محمود مختار المَ‏ ثّالالمعروف،‏ ثم هؤالء الرسّ‏ امين:‏ محمد حسن،‏ ويوسفكامل،‏ وراغب عيّاد.‏ورأت وزارة المعارف أن تنهض بالفنّ‏ المصري الحديثفأسَّ‏ ست مكتباً‏ للفنون،‏ ثم ما زال هذا المكتب يكبر حتىصار له رئيس،‏ هو وكيل الوزارة للفنون الجميلة األستاذأحمد نجيب الهاللي ‏)بك(.‏9


تاريخ الفنون وأشهر الصور10


الفصل األولالفنون الجميلةالفنون الجميلة ‏-كما نسمّ‏ يها اآلن،‏ أو اآلداب الرفيعة كماكان يسمّ‏ يها العرب-‏ هي:‏ الموسيقى،‏ والشعر،‏ والنثر،‏والبناء،‏ والرسم،‏ والنحت،‏ والرقص،‏ والغناء،‏ والتمثيل.‏وغاية هذه الفنون جميعها هو الجمال،‏ ولكن الجمال ليسشيئاً‏ موضوعيّاً‏ له حقيقة أصلية في الكائنات التي حولنامن حيّ‏ وجماد،‏ وإنما هو ذاتي في أذهاننا،‏ فالعالم أوالكون نفسه ليس جميالً‏ أو قبيحاً،‏ وإنما الجمال والقبحاعتباران ذهنيّان أي:‏ قائمان في أذهاننا فقط.‏ويمكننا أن ِ نوضّ‏ ح ذلك بالمقابلة بين صورة فوتوغرافيةتؤخذ عن حقل أو حيوان أو إنسان وبين هذه الصور نفسهايرسمها رسّ‏ ام ماهر من رجال الفنّ‏ العبقريين،‏ فأما من حيثالنقل ِ واتّباع األصل فالصورة الفوتوغرافية أمينة تطابقاألصل أكثر من الصورة التي يرسمها الرسّ‏ ام،‏ ولكننا ‏-مع11


تاريخ الفنون وأشهر الصورذلك-‏ نستحسن صورة الرسّ‏ ام ونقول إنها تفضل الصورةالفوتوغرافية.‏والسبب في ذلك أن الجمال ذاتيّ‏ وليس موضوعيّاً،‏ نعنيأنه في ذهن الرسّ‏ ام وليس في ذات الحقل أو الحيوانأو اإلنسان،‏ فإذا كان الرسّ‏ ام عبقريّاً‏ يدرك ببصريّته مراميالفنون استطاع أن ينفذ إلى ما ال تنفذ إليه اآللة الفوتوغرافية،‏وينقل لنا روح المنظر كما ينقل لنا جسمه،‏ فمهمّ‏ ته ليستالنقل الساذج كما هي مهمّ‏ ة اآللة الفوتوغرافية؛ ألن عليه أنِ يفسّ‏ ر ويكشف لنا عما خفي عن أنظارنا من آيات الجمالفي المنظر الذي يرسمه.‏فنحن ال نرى في صورة الرسّ‏ ام خياله هو كما نرى أيضاً‏صورة المنظر األصلي؛ نعني أنه ال يقنع بالمحاكاة وإنماهو مع نقله ِ يفسّ‏ ر ويشرح ويُكسِ‏ ب الطبيعة التي ينقل عنهاشيئاً‏ من خياله ومن بصيرته في معنى الجمال.‏ولهذا السبب كثيراً‏ ما نعجب بالصورة يرسمها الرسّ‏ ام لحقلأو حيوان أكثر مما نعجب بهذا الحقل أو هذا الحيواننفسه؛ ألننا ونحن بإزاء الصورة نرى تفسيراً،‏ بينما نحنأمام الحقل أو الحيوان ال نرى سوى الطبيعة،‏ فالرسّ‏ اميُكِ‏ سب بخياله جماالً‏ جديداً‏ للطبيعة التي ينقل عنها.‏وخيال الرسّ‏ ام أبعد في إدراك الجمال من الطبيعة التي ينقل12


عنها،‏ فقد حُ‏ كِ‏ ي عن ‏»موسلر«‏ الرسّ‏ ام اإلنجليزي أن سيّ‏ ِ دةوقفت تنظر إلى رسمه،‏ فلمّ‏ ا تأمّلته انتقدت عليه مخالفتهللطبيعة فأجابها:‏ ‏»هو ‏-كما قلت-‏ مخالف للطبيعة،‏ ولكنأما كنت تودّين أن تكون الطبيعة كذلك؟«،وهذا يجرّناإلى البحث عن األصل أو الباعث الذي يبعثنا على ممارسةالفنون الجميلة،‏ فإننا عند التأمُّل ال يسعنا إال االعتراف بأننانمارس الفنّ‏ الجميل ألننا نبتغي منه جماالً‏ نرى فيه مايرضينا،‏ أكثر من الحقائق الواقعة التي حولنا؛ أي أننا نرىفي الطبيعة نقصاً‏ نحاول بخيالنا أن نكمله بالفنّ‏ الجميل.‏مثال ذلك أن الفخّ‏ اري قد يصنع قدراً‏ من الطين يشويهاعلى النار فتخرج سوداء كابية،‏ فيعمد إلى تزيينها وزخرفتهاباأللوان والرسوم،‏ فهو إنما ِ يجمّ‏ لها بهذه الزخارف ألنهافي األصل قبيحة،‏ ولكن هب أن صائغاً‏ قد صنع كوباً‏من الذهب الخالص،‏ فهل نحتاج ونحن ننظر إلى هذاالكوب إلى أن نطلب من هذا الصائغ أن ِ يزيّنه ويزخرفهباأللوان والرسوم؟ كال،‏ فالصائغ،‏ وهو يصنع هذا الكوبمن الذهب،‏ ال يحتاج إلى أن يمارس فيه فنّ‏ الرسم،‏ ولكنّ‏الفخّ‏ اري،‏ وهو يصنع القدر من الطين،‏ يحتاج إلى ممارسةفنّ‏ الرسم.‏فالذي يبعثنا على ممارسة الفنون أننا ال نرضى برؤية13


تاريخ الفنون وأشهر الصورالطبيعة ساذجة؛ ألنها ‏-في سذاجتها-‏ ليست جميلة،‏فلو كنّا نأكل ونشرب في صحاف وأكواب من ذهب لمّ‏ ااحتجنا إلى زخرفتها،‏ ولكن المواد التي نصنع بها أدواتالطعام والشراب ليست جميلة فنحن ِ نجمّ‏ لها بالفنون.‏ولو كانت األحجار التي نبني بها منازلنا حسنة ِ تمتّعالعين برؤيتها لمّ‏ ا احتجنا إلى أن نكسوها بالطالء ِ ونجمّ‏ لهابالرسوم،‏ ولو كان سواد الناس حائزين صفات الجمال لمّ‏ ااحتجنا إلى صنع التماثيل ورسم الرسوم للوجوه الجميلة،‏ولو كنّا نتكلّم فيلذّ‏ للناس سماع كالمنا كأنه الغناء لمّ‏ اتعلَّمنا الغناء،‏ ولو كان في حفيف الشجر وهفيف الرياحوتغريد الطيور ما يقنعنا ويستهوي أفئدتنا لمّ‏ ا احتجنا إلىفنّ‏ الموسيقى،‏ ولو كنا نمشي كأننا نرقص لمّ‏ ا ظهر فنّ‏الرقص.‏فالذي يبعثنا على ممارسة الفنون الجميلة أننا ال نجد فيالطبيعة ما يرضينا وال نجد في مواد الصناعة ما تشتهيهنفوسنا من الجمال،‏ وهناك موادّ‏ جميلة،‏ ولكنها قليلة التكفي الناس،‏ وهي لجمالها ال نحبّ‏ أن نزينها،‏ فلو كانالدرَج الذي نرتقي عليه إلى منازلنا من البلّور الصافيالرتقيناه ساذجاً‏ ال نقش عليه،‏ ولو كانت أدواتنا المنزليةمن الذهب لقنعنا بها ساذجة أيضاً.‏14


والحرير من األقمشة الفاخرة،‏ ولذلك نعجب به إذا كانساذجاً،‏ والمرأة الجميلة نعجب بها أكثر كلما أنقصت منثيابها،‏ وإنما التكحُّ‏ ل فنّ‏ يقوم مقام الكَ‏ حَ‏ ل.‏واعتبر ذلك في جميع الفنون حتى النثر والشعر،‏ فإنه إذاكان المعنى عميقاً‏ يبلغ القلب ويعكس لنا حقيقة بارعة،‏لم نحتج إلى الزخارف اللفظية التي تسمّ‏ ى بالبالغة،‏ وإنمانحتاج إلى هذه الزخارف إذا سخف المعنى،‏ كما يحتاجالقماش السخيف إلى مختلف الصبغ والحواشي إلخفاءسخافته،‏ وأكثر الكُ‏ تّاب في العربية انغماساً‏ في الزخارفاللفظية هو الحريري؛ ألنه ال يعالج من المعاني سوى النزرالتافه.‏ونحن والطبيعة كلّها من أصل واحد،‏ وألننا نشترك فيوحدة األصل نشترك أيضاً‏ في الغايات،‏ فما هو راقٍ‏ جميلعند الطبيعة كذلك هو راقٍ‏ جميل عندنا.‏فنحن نعرف من قصّ‏ ة التطوّر في العالم أن الجماد سبقالنبات،‏ وهذا سبق الحيوان،‏ ثم نعرف من تطوّر األحياءكيف أن الحياة ظهرت ‏-أوالً-‏ في أشكال حقيرة في خاليامنفردة كالميكروبات،‏ ثم متّصلة بال نظام كاإلسفنج،‏ ثمفيها بعض النظام الهندسي مثل نجمة البحر والقشريات،‏ثم السمك،‏ ثم حيوان اليابسة من برمائيات وزواحف،‏15


تاريخ الفنون وأشهر الصوروأخيراً‏ نرى في رأس التطوّر الطيور واللبونات.‏فإذا صحّ‏ أننا والطبيعة نتَّفق في النظر،‏ وجب علينا أن نرىالجمال في أرقى أحيائها ونراه في أدون درجاته في أدنىأحيائها أو حتى في جمادها،‏ وهذا هو الواقع الذي نحسّ‏به،‏ فأقلّ‏ المناظر جماالً،‏ بل أكثرها قبحاً،‏ هو منظر الطبيعةالجرداء الخالية من أمارات الحياة؛ أي منظر الجماد.‏ولكننا نحسّ‏ بشيء من الجمال إذا رأينا صورة لألعشابوالنبات،‏ ويزداد هذا اإلحساس إذا رأينا حيواناً،‏ ولكننانتدرَّج في استجمال الحيوان،‏ فليس منّا من يقول:‏ إنصورة اإلسفنج جميلة تساوي الجمال الذي نحسّ‏ به عندمانرى صورة سمكة،‏ وصورة السمكة دون صورة الفرس أوالطاووس.‏وخالصة القول أن الحياة أجمل من الجماد،‏ والحيوانأجمل من النبات،‏ وأرقى الحيوان،‏ وهو اإلنسان،‏ أجملهاأيضاً،‏ فنحن نصنع التماثيل لإلنسان حبّاً‏ في جماله،‏ وقلّمانصنع تمثاالً‏ لحيوان إال إذا كان من أرقى اللبونات التيننتمي إليها مثل الفرس أو الكلب أو األسد.‏وقد يُعتَرض علينا بأننا أحياناً‏ نحبّ‏ الجماد ونستجمله،‏كما يحدث لنا عندما نرى السحاب وقت الشفق أوعندما نصنع ثعباناً‏ من البلّور أو عندما نتزيَّن بفصوص16


اللؤلؤ والماس والياقوت،‏ وهذا صحيح،‏ ولكن لو أن هذهاألشياء كانت حيّة لزاد استجمالنا لها،‏ وهل يمكنك أنتتصوَّر الشفق حيواناً‏ فيه روح الحيوان وفيه سرّ‏ الحياة؟ أوهل يمكنك أن تكسب هذا الثعبان من البلّور أو فصوصالجواهر بالحياة دون أن تقول:‏ إنه ليس في العالم أجملمنها؟ فهذه األشياء جميلة وهي جامدة،‏ ولكنها كانتأجمل جدّ‏ اً‏ لو كانت حيّة.‏ولكن،‏ ما الذي يجعلنا نقول:‏ إن هذا الشيء جميل وذاكاآلخر غير جميل؟إن هذا الذي يجعلنا ِ نقدّ‏ ر الجمالونتوخّ‏ اه ونحبّه هو شيء آخر غير هذا العقل الذي يوازنويقابل ويبرهن ويعرف األسباب والنتائج،‏ فنحن نفهمالجمال بشيء آخر نسمّ‏ يه ‏»البصيرة«،‏ وهذه البصيرة هينفسها تلك التي نفهم بها الدين،‏ وهي التي تحملنا أحياناً‏كثيرة على التصوُّف،‏ وهي تلك التي تحملنا على الحبّ‏ ،والرغبة في الخير والشجاعة،‏ واألريحية والتضحية،‏ فالعقلوحده ال يعرف سوى الفائدة المادّ‏ ية المحسوسة،‏ لكنالبصيرة تناقض العقل أحياناً‏ وتطالبنا بأن نضحّ‏ ي بذواتنا،‏بينما العقل يدعونا إلى الفرار والنجاة.‏ولنضرب مثالً‏ بالموسيقى،‏ فنحن ال نفهم األنغام واأللحانبعقولنا،‏ وإنما ندركها ببصيرتنا،‏ واألغلب أن هذه البصيرة17


تاريخ الفنون وأشهر الصورأقدم في النفس البشرية من العقل،‏ بدليل أننا نجد منالحيوان ما يلذّ‏ له سماع الموسيقى،‏ وهذه الموسيقىتُحدِ‏ ث في نفوسنا من الطرب ما ال نستطيع أن نقول إنهمعقول،‏ ولو أننا اجتمعنا عشرة أو عشرين نفساً‏ نسمعأحد األلحان،‏ فرأينا بعضاً‏ منا يستطيره الطرب أكثر مناآلخرين،‏ لما قلنا إن هذا البعض أذكى من اآلخرين،‏ وإنمانقول:‏ إنه أبصر بالموسيقى،‏ والذكاء من صفات العقل،‏ولكن الطرب من صفات البصيرة،‏ فالشهيد يتقدَّ‏ م إلىالنار وهو في طرب االستشهاد،‏ والمحبّ‏ يعانق حبيبتهوهو في طرب الحبّ‏ ، كما أن الوطني يتقدّ‏ م للدفاع عنوطنه وهو في طرب الشجاعة الوطنية،‏ ونحن نقف أمامالصورة الجميلة ونحن في طرب كأنه السحر،‏ والبصيرةألصق بالحياة وأعرف بغاياتها من العقل،‏ ولذلك فنحننجزم بأن الشجاعة والحبّ‏ وتوخّ‏ ي الجمال غايات ملهمةترسمها لنا البصيرة،‏ ولكن العقل يخدمها بالعلم،‏ كرجلالفنّ‏ يتوخّ‏ ى الجمال ولكنه يتوسَّ‏ ل إليه بالصنعة،‏ فالعقليصنع اآللة الموسيقية،‏ ولكن اللحن من شأن البصيرة،‏والعقل يدبّر األلوان واألصباغ ويدرس كيمياءهما للصورة،‏ولكن البصيرة تكشف لنا سرّ‏ الجمال فيها.‏ فالفنّ‏ للبصيرةواإللهام،‏ والصنعة للعقل والعلم،‏ وكالهما ضروري لإلتقان.‏18


والفنون الجميلة هي الصلة بين اإلنسان والطبيعة،‏ ففيالطبيعة إيقاع نرى مثله في الموسيقى والشعر والرقص،‏وصور الطبيعة وأشباحها من حيوان ونبات وجماد نرىمثلها في فَنَّي النحت والرسم.‏ولكن رجل الفنّ‏ ال يقتصر على محاكاة الطبيعة،‏ بل هويتجاوز حقيقتها إلى خياله ويتسامى بها إلى أرفع ما تلهمهإليه بصيرته،‏ وليس شك في أن الفنون قامت في األصلعلى المحاكاة،‏ وكانت تقنع بذلك،‏ كما أن الطفل إذا أرادأن يرسم أو يصنع تمثاالً‏ من الطين ال يتجاوز الحقيقة.‏ولكن،‏ من الرؤية تنشأ الرؤيا؛ أي من الحقيقة ينزع رجلالفنّ‏ إلى الخيال،‏ وإذا كنّا قد قلنا إن الفنون هي الصلة؛أي الجسر بين اإلنسان والطبيعة،‏ فهي أيضاً‏ الجسر بينالحقيقة والخيال.‏ولكننا،‏ ونحن نجنح إلى الخيال،‏ نرتكز على الحقيقة،‏ألننا نحن من الطبيعة وهي منّا،‏ وإنما نحسّ‏ ونحن علىرأس التطوّر بمغزى هذا التطوُّر،‏ فنَسْ‏ تَكْ‏ نه روحه ونتجاوزحاضره إلى مستقبله،‏ فإذا لم تخطئنا بصيرتنا حططنا علىالحقائق الخافية التي لم تتكشَّ‏ ف عنها الطبيعة بعد.‏ففي الطبيعة مثالً‏ إيقاع يتّضح في الجماد كما في تيّاراتالبحر وأمواجه،‏ وفي تعاقب الليل والنهار،‏ وفي النبات؛19


تاريخ الفنون وأشهر الصورفي غذائه وراحته ونموّه ونضوجه،‏ وهو أوضح في الحيوانحين يرقص ِ ويغرّد،‏ ولكن رجل الفنّ‏ يُسْ‏ تَكْ‏ نِه الروح في هذهالمظاهر،‏ فيخرج منها برؤيا الموسيقى والشعر والرقص،‏ فهو‏-مع تجاوزه الحقيقة-‏ يجعل أساسه فيها،‏ كذلك المثَّاليرى البشر والحيوان أجساماً‏ مختلفة وهيئات متفاوتة فينظرمن وراء هذه األجسام والهيئات إلى الغاية التي يرمي إليهاالتطوُّر،‏ وإلى الروح التي وراء هذه المناظر،‏ فينحت لنا منالحجر رجالً‏ ِ يمثّل الشجاعة أو امرأة ِ تمثّل الحبّ‏ .فالفنون الجميلة في أدنى مراتبها محاكاة،‏ وفي أعالهاتفسير ورؤيا،‏ والفنون الجميلة جميعها متجانسة،‏ كمايتَّضح لنا من األلفاظ التي نستعملها،‏ فالروي في الشعرهو اإليقاع في الموسيقى والرقص،‏ وأحياناً‏ يمكن للكاتبالناثر أن يرسم ‏»صورة«‏ قلمية لمّ‏ ا هو بشأنه من الوصف،‏و»البيت«‏ من الشعر يوهمنا أن الشاعر ‏»يبني«‏ الكلماتكأنه معماري،‏ وهناك ‏»موسيقى«‏ األلوان،‏ والراقص الماهريرقص على اللحن الموسيقي.‏وهذا التجانس يجعل األديب؛ أي رجل الفنّ‏ ، محيطاً‏بالفنون جميعها أو أكثرها أو واقفاً‏ على غاياتها،‏ وإن كانجهله بالصنعة الالزمة لكل منها يعوقه عن ممارستها فيغير الفنّ‏ الذي يختصّ‏ به،‏ وصِ‏ لة االشتراك بين جميع20


الفنون هي وحدة األصل فيها؛ أي تلك البصيرة التي تنفذإلى ما وراء المظاهر في الطبيعة ِ فتفسّ‏ ر وتتخيَّل وتتسامىبهذه المظاهر.‏ولكن،‏ يجب أال يفوتنا هنا أن نقول إن الفنون الجميلة،‏مع أنها تنبع من معين واحد هو البصيرة،‏ فهي تبتعد أوتقترب من الذهن بنسبة متفاوتة،‏ وأبعد الفنون عن الذهنهي الموسيقى،‏ حتى إننا ال نحبّ‏ ، ونحن نسمع لحناً‏جميالً‏ ، أن يفسده علينا أحد بغناء يرافقه؛ ألن في الغناءمن المعاني الذهنية ما نراه غير متَّفق مع اللحن الذييخاطب بصيرتنا ويطربنا دون أن يطالبنا بتعليل ذهني،‏ فإننانقنع بتلك األنغام تسري إلى نفوسنا فتجعلنا ننبض لهاكأننا الصدى.‏ وأقرب الفنون إلى الذهن هو الشعر الذيتنطوي معانيه أحياناً‏ على الحكمة تغذو العقل ويمكنالمناقشة فيها،‏ يليه بعد ذلك العمارة التي تتَّصل كثيراً‏بعلم الهندسة،‏ ثم الرسم والنحت،‏ ولكن،‏ يجب أال ننسىأن األساس األصيل للفنون هو البصيرة،‏ وأن أحبّ‏ الفنونإلينا لهذا السبب وأطربها ألفئدتنا هو أبعدها عن الذهن؛نعني الموسيقى،‏ وأن الكاتب الذي يستطيع أن يجعل منقصّ‏ ته أو نثره أو شعره ‏-أيّاً‏ كان-‏ شيئاً‏ يشبه الموسيقى فيالطرب،‏ دون أن نجنح إلى الذهن،‏ هو أقرب الكُ‏ تَّاب إلى21


تاريخ الفنون وأشهر الصورأن يجعل ما يمارسه فنّاً‏ جميالً‏ .وللفنون عيوبها،‏ فنحن نعرف مثالً‏ أن الشعر قد يسقطأحياناً‏ إلى أن يكون نظماً،‏ وإذا أردنا أن نعرف الفرق بينالنظم والشعر أمكننا أن نقول:‏ إن األول يعتمد على الذهن،‏فهو معقول ولكنه غير جميل،‏ والثاني يعتمد على البصيرة،‏فهو جميل،‏ ولكن ال يمكن أن يوصف بالعقل،‏ فلو أن أحداً‏نظم قواعد الحساب أو قواعد النحو أو النظام الدستوريفي قصيدة أو قصائد،‏ لما استطعنا أن نقول إنه كاذب،‏ ألنهيعالج حقائق نعترف بها،‏ ولكنا مع ذلك نقول إنه نَظّ‏ ام،‏ألنه يجنح إلى الذهن دون البصيرة،‏ ويطلب الواقع دونالخيال،‏ وينقل دون أن ِ يفسّ‏ ر،‏ ويقنع بالرؤية وال يستطيعالرؤيا.‏وأكبر عيوب الفنّ‏ األنانية،‏ فالرجل الذي ال تسخو نفسهبالحبّ‏ للعالم وكائناته ال يستطيع أن يرى جماله،‏ فأنت التستطيع أن تصف امرأة جميلة وتجيد الوصف،‏ ما لم تكنتحبّها،‏ فالحبّ‏ أساس اإلحساس بالجمال،‏ فنحن نستجملالزهر والحيوان واإلنسان والطبيعة الجامدة ألننا نحبّها،‏وما ال نحبّه نستبشع منظره،‏ فالكاتب أو الشاعر أو الرسّ‏ امأو المَ‏ ثّال الذي تغمر نفسه الكراهة،‏ وهو دائم الحقد علىالناس،‏ ال يمكنه أن يجيد فناً‏ من الفنون الجميلة.‏22


ومن عيوب الفنّ‏ المحاكاة،‏ فنحن ال نقنع من الرسّ‏ ام بأنينقل لنا صورة فوتوغرافية،‏ وال من الموسيقى بأن يحاكيتغريد الطيور،‏ وإنما نطلب من كل منهما أن يتجاوز ذلكإلى روح الطبيعة وينقلها لنا.‏وربّما كان أكبر العيوب التي تُعاب بها الفنون هو العرفاالجتماعي الذي يقضي على رجل الفنّ‏ بأن يحدّ‏ منبصيرته،‏ ويكفّ‏ ‏-خشية العقاب-‏ عن ممارسة أشياء تدعوهنفسه إلى ممارستها في الفنون،‏ فقد حُ‏ رِ‏ م مثالً‏ رجل الفنّ‏العربي من ممارسة النحت والرسم من الطبيعة الحيّة بحكمالعرف الديني.‏ وهذا العرف قد تصنعه الهيئة االجتماعيةحين تُلزِ‏ م رجل الفنّ‏ بأن يراعي األخالق وال يتمادى فيالحرّيّة،‏ فتمنعه مثالً‏ من أن ينحت أو يرسم رجالً‏ أو امرأةعارية،‏ مع أن دواعي فنّه قد تدعوه إلى ذلك،‏ أو حين يضعالدين حدوداً‏ للفنون،‏ فيحدّ‏ بذلك بصيرة األمّة،‏ كأن يُحَ‏ رَّمالنحت أو الرسم،‏ أو حين ينشأ بين أهل الفنّ‏ نفسه عرفيحدّ‏ من نزعة التجديد،‏ كأن يرسم الرسّ‏ ام أو ينحت المثّالعلى غرار من سبقوه فال يبتدع وإنما يقنع بالجري علىخطّ‏ ة السلف،‏ والبدعة شرط أساسي للرقي سواء أكان ذلكفي البصيرة أم في العقل،‏ في الفنون أو في العلوم،‏ وذلكألن الجمود يناقض الطبيعة التي تدأب في الرقي والتطوّر،‏23


تاريخ الفنون وأشهر الصورفإذا لم ينزع رجل الفنّ‏ نزعتها ويرقى ويتطوّر ويبتدعفإنه يخالف أهمّ‏ شروط الفنّ‏ الصحيح،‏ وهو استكناه روحالطبيعة وسبقها إلى مراميها.‏ويمكننا أن نلخّ‏ ِ ص هذا الفصل في الكلمات التالية علىسبيل التذكير:‏- إن الجمال ذاتي؛ أي في رأس رجل الفنّ‏ وليس فيالطبيعة.‏- إن الباعث الذي يبعثنا على ممارسة الفنّ‏ أننا ال نجدفي الطبيعة أو المواد التي حولنا مشتهانا من الجمال.‏- إننا والطبيعة نتَّفق في الغاية،‏ فأرقى األحياء في التطوُّرهي أيضاً‏ أجملها في نظرنا.‏- إننا ندرك الجمال ببصيرتنا وليس بذهننا،‏ فالجماليطرب النفس ولو كان غير معقول.‏- الفنّ‏ هو الصلة بين اإلنسان والطبيعة،‏ ولكن رجل الفنّ‏ال يقنع بنقل الطبيعة،‏ بل يتجاوزها إلى كنهها ومرماها،‏فهو يبني فنّه على أساس من الواقع،‏ ولكنه يتسامى به إلىالخيال،‏ وهو في ذلك ال يناقض الطبيعة بل يسبقها إلىغايتها.‏- الفنون كلّها متجانسة؛ ألنها تنبع من معين واحد هوالبصيرة،‏ وعلى ذلك يمكن أن نقول إن أقربها إلى البصيرة24


وأبعدها عن الذهن هو أفضلها.‏- للفنون الجميلة عيوب كثيرة منها الجنوح إلى العقلدون البصيرة،‏ ومنها األنانية،‏ ومنها المحاكاة،‏ وأكثر هذهالعيوب شيوعاً‏ هو العرف الذي يحدّ‏ من حرّيّة رجل الفنّ‏ .25


تاريخ الفنون وأشهر الصورالفصل الثانيالجمال ومعاييره وحدودهالجمال،‏ في أشكاله المختلفة،‏ ال يختلف فيه الناس إالبمقدار تربيتهم الفنية التي تزيد البصيرة الطبيعية نوراً‏وتورثهم هذا الذوق الذي نراه على أكمله في رجل الفنّ‏ ،فجميع البشر على السواء يتذوّقون الجمال الساحر فيالزهرة الزاهية،‏ والشجرة النضرة،‏ والوجه المشرق،‏ ويجمعونعلى أن في الفرس رشاقة هي نقيض السماجة التي ترتسمعلى وجه الخنزير أو الكركدن،‏ ولكنّ‏ للوسط أثراً‏ فيتربية الذوق،‏ فالزنجي والياباني واألوروبي والمصريكلّهم يتّفقون ‏-إجماالً-‏ على ماهية الوجه الجميل ولكنهميختلفون تفصيالً‏ ، ولكن يجب أال نبالغ في هذا االختالفألن الواقع أن الزنجي يستجمل المرأة الجميلة كما كانينحتها المثّال اإلغريقي قديماً‏ أو كما يرسمها الرسّ‏ ام26


اإلنجليزي اآلن كما نستجملها نحن،‏ وذلك ألن الوسطالذي أثّر في مالمح المرأة الزنجية لم ِ يؤثّر بعد في بصيرةالزنوج،‏ ونحن ‏-المصريين-‏ نعرف أننا نستجمل الوجهاألوروبي الجميل كما يستجمله األوروبيون بال أدنى فرق،‏مع أننا في هيئة الوجه نختلف بعض االختالف،‏ وعندمانتأمّل صور الوجوه التي يرسمها رجل الفنّ‏ الياباني يريدبها أن ِ يصوّر الجمال،‏ نراها قريبة الشبه جدّ‏ اً‏ من الشكلاألوروبي،‏ مع أن الوجه الياباني في حقيقته يختلف جدّ‏االختالف من الوجه األوروبي.‏إن للتربية والعرف والوسط بعض األثر الذي ال يُنكَ‏ رفي تكوين الذوق الفنّي،‏ فالفتاة التي نشأت ال ترى منالرجال سوى الرجل الحليق،‏ ال يمكنها أن تستجمل الشابالملتحي إال بعد تربية جديدة،‏ والزنجي الذي لم يرَ‏ قطّ‏في حياته امرأة بيضاء يشكّ‏ ، أوّل ما يرى امرأة بيضاء،‏في سالمة صحّ‏ تها،‏ والفالح يتزيَّن باأللوان الزاهية الزاعقةبينما الرجل المهذَّ‏ ب يقنع باأللوان الخفيفة،‏ ولكن كلهذه تفاصيل ال قيمة لها أمام البصيرة التي يشترك فيهاجميع الناس ويتَّفقون فيها على معنى الجمال في الشخصأو الصورة أو التمثال أو البناء.‏ولكن األمم تتفاوت في النزعة التي تنزعها نحو الجمال،‏27


تاريخ الفنون وأشهر الصورفقد كانت النزعة السائدة عند المصريين القدماء هيالدين،‏ فكان المثَّال إذا نحت تمثاالً‏ قصد منه إلى معنىالخلود والهدوء الديني،‏ وكان اإلغريق القدماء ينزعون إلىالجمال الذي عبدوه في أشخاص آلهتهم وأبطالهم وفيرياضتهم وألعابهم حتى صاروا لسائر األمم أسوة وإيحاء،‏فليس هناك اآلن أديب يخدم فنّاً‏ من الفنون إال ويستلهماإلغريق القدماء،‏ بل الفلسفة الحديثة نفسها قد نحت هذاالنحو،‏ وهذا على خالف الرومان الذين كانوا ينزعون نزعةعملية تتّجه نحو االستعمار وتشييد البناء،‏ حتى عرفوا أشياءكثيرة عن الهندسة،‏ فكانوا أشبه بالعلماء منهم باألدباء،‏ أمانزعتنا نحن،‏ اآلن،‏ فهي النزعة االقتصادية التي تجعلنا كلّنامنهمكين في جمع المال واالستكثار من العقار.‏وربما كان سؤالنا عن السعادة،‏ ومن هو أسعد الناس خير مايدلّنا على نزعة كلّ‏ أمّة من حيث الفنّ‏ ، فقد سأل اإلغريقأنفسهم هذا السؤال،‏ وأجابوا عن لسان أرسطوطاليس بأنالرجل السعيد يجب أن يكون جميالً‏ ، وذلك ألنهم قدانغمسوا في الفنون والبسوها في معيشتهم ورياضتهم حتىصاروا يعتقدون باستحالة السعادة إذا لم تُقرَن إلى الجمال،‏وكانوا،‏ مع تقديرهم للفنون،‏ يرون أن اإلنسان الحيّ‏ يجبأن ِ يمثّل الجمال في شخصه،‏ ولو وضعت مثل هذا السؤال28


للمصري القديم ألجابك أن الرجل السعيد هو الذي ترضىعنه اآللهة،‏ بينما الروماني يرى السعادة في كثرة العبيدووفرة المساكن،‏ أما نحن فال نكاد نتخيَّل السعادة إالمقرونة بالثروة.‏والفنون الجميلة تتأثّر بالنزعات األدبية،‏ فهنا الرسم أوالنحت التقريري،‏ مثلما هناك القصّ‏ ة التقريرية التي تصفاألشياء والحوادث كما تقع،‏ وهناك الرسم الخيالي الذييقصد إلى المثل األعلى كما أن هناك القصّ‏ ة الخيالية،‏وكذلك هناك الرسم التأثيري الذي ينقل األثر الذي ينطبعفي الذهن من المنظر دون اإلحاطة بتفاصيل هذا المنظر،‏وقد نجد في الشعر والقصّ‏ ة مثل هذه النزعة،‏ وهناكالنزعات الطبيعية التي تنقل عن الطبيعة أو تنسخها،‏ ولكنكلّ‏ هذه النزعات في األدب والفنون تنتهي حتماً‏ إلى أنتكون خيالية،‏ فاألديب والرسّ‏ ام ال يقنعان بتقرير األشياءعلى حالها،‏ وإنما هما يرسمان الواقع ولو كان قبيحاً‏ لكييتوسَّ‏ ال به إلى الخيال والمثل األعلى،‏ وإال لو كان الواقعغاية،‏ لقنع الرسّ‏ ام التقريري بأن يرسم لنا جسم اإلنسانكما يُرسَ‏ م في كتب التشريح.‏وكلمة أخرى نقولها قبل ختام هذا الفصل عن الفنونالجميلة،‏ أنها - العتمادها على البصيرة دون العقل أو29


تاريخ الفنون وأشهر الصورالعتمادها على األولى أكثر من الثاني،‏ أو ألن البصيرةهي التي ترسم الغايات والعقل هو الذي ِ يهيّئ الوسائل -تتّسم بشيء من مسحة الخلود،‏ فاألدب والفنون الجميلةخالدان العتمادهما على البصيرة،‏ وذلك ألن هذه البصيرةقديمة في اإلنسان،‏ بل ربما كانت في القرون البعيدةالماضية أقوى منها اآلن،‏ ومن هنا إعجابنا بفنون القدماءدون علومهم.‏ويجب ألّا ننسى هنا أن النزعة العقلية تكاد تناقض نزعةالبصيرة،‏ ومن هنا احتقار رجل العلم الذي يبني علومه علىالعقل للفنون الجميلة القائمة على البصيرة،‏ وقد يصحّ‏ أننتساءل هنا:‏ ما هو مصير الفنون في المستقبل إذا انبسطتالعلوم وصارت السيطرة للعقل؟30


الفصل الثالثعصر االنحطاطيعتري االنحطاط الفنون الجميلة من جملة نواحٍ‏ ، أوّلهاالمنع من الناحية الدينية،‏ فقد كانت الفنون الجميلة تجدعند المصريين واإلغريق من القدماء أسعد الفرص ألنتتجلّى وتتمثَّل ذلك ألن للوثنية معابد فخمة وأصناماً‏ ِ تزيّنهاورسوماً‏ تنقش على جدرانها.‏ ولكن،‏ لمّ‏ ا فشا التوحيد عناليهودية أوّالً‏ ثم المسيحية ثم اإلسالم،‏ أخذ ِ الموحّ‏ دونيحاربون الوثنية ويهدمون األصنام ِ ويحرّمون على الناساقتناءها أو رسم األشخاص.‏ والهيئات االجتماعية القديمةكانت هيئات أرستقراطية،‏ تنحصر الثروة في الطبقة العاليةوسائر األمّة تعيش في فقر،‏ فلم يكن للفنون قدرة على أنتعيش ما لم تجد هذا العون من المعابد؛ ألن أفراد األمّةكانوا من الفاقة بحيث ال يستطيعون شراء التماثيل والصور،‏31


تاريخ الفنون وأشهر الصورفلمّ‏ ا ماتت الوثنية ماتت فنون الرسم والنحت والبناء،‏ وذلكألن البناء ‏-أيضاً-‏ كان يقوم على المعابد،‏ وهو شديدااللتصاق بفَنَّي النقش ‏)الرسم،‏ والنحت(،‏ وبتحريم هذينالفنّين اعتراه هو اآلخر بعض االنحطاط.‏ والطبقة العاليةفي كل أمّة هي أولى الطبقات التي تسيطر على الدين أوالدين يسيطر عليها،‏ فيجب أن تتّخذ مظاهره،‏ ولذلك نجدأنها بعد أن كانت تحمي الفنون الجميلة في عهود الوثنيةصارت تقاومها في عهود التوحيد المختلفة.‏ولكن األديان لم تؤثّ‏ ِ ر في الفنون من هذه الناحية فقط،‏بل لها تأثير آخر،‏ فمن المتَّفق عليه أن الفنون الجميلة تُعَدّ‏من الترف،‏ ولكن األديان ترمي جميعها ‏-باختالف فيالدرجة-‏ إلى التقشُّ‏ ف والزهد وإساءة الظنّ‏ بالترف،‏ ومنهنا كان بعض سخطها على الفنون الجميلة.‏وعصر االنحطاط في الفنون الجميلة يبتدئ في أوروبا منأوّل انتشار المسيحية إلى زمن النهضة،‏ ومصر تابعة ألوروبافي هذا االنحطاط أيضاً،‏ فقد حطّ‏ م المسيحيون األصناموهدّ‏ موا المعابد في إيطاليا واليونان ومصر وسورية،‏ ونشأعلى هذه الحطامة فنّ‏ بيزنطي منحطّ‏ نرى ‏-إلى اآلن-‏صوره في كنائس مصر واألستانة،‏ ويتّسم هذا الفنّ‏ بأنالعرف يأخذ من الرسّ‏ ام االعتبار األول،‏ وأكثر الرسوم تُعنى32


بالقدّ‏ يسين والعذراء والسيّد المسيح.‏وقد بنى المسيحيون األُوَل فنونهم على اآلثار الوثنيةالقديمة على الرغم من كراهتهم لها واجتهادهم فيتحطيمها ومحوها،‏ فصورة العذراء وابنها ترجع إلى الصورالمصرية القديمة التي كانت ِ تمثّل الربّة العذراء إيزيسوابنها أوزوريس،‏ وصورة القدّ‏ يس جرجس الذي يُرى‏-إلى اآلن-‏ نقشه على الجنيه اإلنجليزي ِ تمثّل أسطورةترجع إلى عهد انتشار الثقافة القديمة.‏والرسوم البيزنطية تجري ‏-كما قلنا-‏ على العرف،‏ فالرسّ‏ امونيُعنَون بالهالة المنيرة حول الرأس أكثر مما يُعنَون بمالمحالوجه وأعضاء الجسم،‏ وللتذهيب مقام عندهم أكثر منمقام األلوان الطبيعية التي تعكس لون البشرة اإلنسانية،‏أما الفنون عند األمم اإلسالمية في القرون الوسطى،‏ونعني هنا الزمن الواقع بين ظهور اإلسالم والنهضة العربيةالحديثة،‏ فقد اقتصرت على فَنَّي البناء والزخارف،‏ وذلكألن النحت والرسم قد حُ‏ ‏ِرّما تحريماً‏ باتّاً‏ إال عند الشيعةمن الفرس،‏ فإن رسم الوجوه عندهم لم يُحَ‏ رَّم،‏ ولذلك فإنالزخارف اإلسالمية اتَّخذت أشكاالً‏ هندسية ليس فيهاصورة إنسان أو حيوان.‏33


تاريخ الفنون وأشهر الصورالفصل الرابعالفنون اإلسالميةلمّ‏ ا كان العرب في جزيرتهم لم يرحلوا عنها بعد إلى مصروالعراق وسورية عقب النهضة اإلسالمية فقد كانوا يجهلونالفنون الجميلة شأن البدو في كلّ‏ مكان،‏ فلمّ‏ ا اختلطوا باألممِ المتحضّ‏ رة في هذه األقطار نقلوا عنها فنونها الشائعة بعدأن حذفوا منها ما ال يتَّفق وروح اإلسالم،‏ وصبغوا سائرهابالصبغة اإلسالمية،‏ ولذلك فالفنون اإلسالمية هي،‏ فيالواقع،‏ فنون مصرية أو عراقية أو هندية أو فارسية،‏ ونحن،‏في مصر،‏ نعرف أن الكنائس القبطية القديمة كانت تُزَيَّنبالمشربية والفسيفساء،‏ وكلتاهما نراهما،‏ بعد ذلك،‏ فيالمباني اإلسالمية.‏وقد نزع اإلسالم نزعة توحيدية،‏ وجعل للتوحيد المقاماألول في اإليمان،‏ فتأثّرت الفنون من هذه الناحية بحذف34


كل ما يختصّ‏ برسم اإلنسان أو الحيوان أو نحت تماثيلهما،‏وذلك ألن الصور والتماثيل تومئ إلى األوثان التي يُخشىعلى التوحيد منها،‏ ولكننا نجد أمَّتين إسالميتين هما:‏الفرس،‏ ومصر ‏)فترة الفاطميين(‏ تسامحتا بعض التسامحفي الرسم والنحت حتى كانت تُرى قي قصور الفاطميينمناظر الرقص والصيد والغزالن،‏ وكانت كتب الفرسوقصورهم تزيَّن أيضاً‏ بصور الحيوان والنبات،‏ ولكن هذاال يطعن فيما نثبته من معارضة اإلسالم لهذين الفنَّين،‏ بلهو أجدر بأن ِ يؤيّد ما قلناه،‏ وذلك ألن فارس ليست سنُية،‏وكذلك مصر أيام الفاطميين كانت شيعية،‏ والتشيُّع نوعمن االنشقاق عن اإلسالم وخروج على جمهور المسلمين،‏فاتفاق مصر في ذلك العهد مع الفرس وتسامحهما فيالرسم والنحت للحيوان والنبات يدلّان على صحّ‏ ة قولنا.‏ومما هو جدير بالذكر أننا ال نرى بين المسلمين في سوريةأو شمال إفريقية ما يدلّ‏ على أن رسم الحيوان أو اإلنسانأو نحت التماثيل لهما كان يُرَخَّ‏ ص فيهما ألحد.‏ولمّ‏ ا وجد رجال الفنّ‏ المسلمون أن الدين يعارض النزعةالفنية في الرسم والنحت عمدوا إلى تصوير الجمال عنطريق الذهن ال عن طريق البصيرة،‏ فجعلوا فنونهم ذهنية،‏ولذلك فإنهم بالغوا في إتقان الصنعة مع إهمال الفنّ‏ ، إال35


تاريخ الفنون وأشهر الصورحيث يميل الفنّ‏ بطبيعته ألن يكون ذهنيّاً‏ كما نرى ‏-مثالً-‏في البناء،‏ فإنهم أقاموا عدداً‏ كبيراً‏ من المباني الفخمة،‏وكذلك في الشعر ألّفوا القصائد الرائعة،‏ ولكنهم أتقنواالصنعة هنا دون الفنّ‏ ، فإن لهم القصائد،‏ ولكن ليست لهمالدراما أو الملحمة.‏والفنون اإلسالمية ‏-على وجه العموم-‏ هي فنون الذهن،‏تنقصها البصيرة والرؤيا والخيال،‏ وهي تميل إلى إتقانالصنعة مع تناسي الغاية من الفنّ‏ ، ولذلك فإن مقامها لميكن عظيماً‏ عند المسلمين،‏ حتى إننا قلّما نجد اسم الصانعمدوَّناً‏ بجانب أحد النقوش أو حتى العمارات،‏ وإهمالاسمه يدلّ‏ على االحتقار الذي كان يضمره له مستخدموه.‏وقد سار فنّ‏ الرسم اإلسالمي في ثالثة اتّجاهات:‏)1( الزخارف الهندسية المتقابلة من أقواس وخطوطتتقابل فترتاح العين إلى شكلها الهندسي.‏)2( الزخارف التي تعود في األصل إلى ‏»باعث«‏ منرسم حيوان أو نبات يعمد الرسّ‏ ام إليه فيطيل في بعضأعضائه أو يفرطحها أو يشرشرها حتى يخفي أصله،‏ ثميجعله يتقابل مع شكل آخر ال يختلف معه،‏ فيحصل علىشكل هندسي يمتاز من الزخارف الهندسية المحضة بمافيه من هذا ‏»الباعث«‏ الذي يزيد حالوته في العين.‏36


)3( لمّ‏ ا رأى المسلمون ضيق الميدان الذي يمكنهم أنيستخدموا فيه مواهبهم الفنية اضطرّوا إلى أن يجعلوا منالخطّ‏ العربي فنّاً،‏ فزيَّنوه وزخرفوه حتى صار له جمالخاصّ‏ .وأقدم اآلثار العربية في مصر هو جامع عمرو،‏ ولكناإلصالحات ِ المتكرّ‏ رة قد تعاورته حتى ال يمكن اآلن أنيقال إن به شيئاً‏ من أيام عمرو،‏ ولذلك ال يمكننا أن نستشهدبه على تطوُّر الفنّ‏ المعماري اإلسالمي،‏ ولكن يمكن أنيقال بال خوف كبير من الخطأ:‏ إن العصر الذهبي األوللهذا الفنّ‏ هو عصر الفاطميين الذين ذكرنا جرأتهم فيتزيين قصورهم برسوم الحيوان،‏ ويلي الفاطميين األيوبيون،‏ولكن هؤالء ال يبلغون ما بلغه المماليك بعدهم،‏ ففي أيامالصناعات فشت العمارات والمساجد العظيمة في القاهرة،‏وراجت الصناعات وظهر المقرنص الذي يُرى فوق أبوابالمساجد،‏ و»الباعث«‏ لهذا المقرنص هو القناديل ألنهاِ تمثّل قناديل مدلّاة قد مسح عليها العرف مسحة هندسيةكما هو الشأن في الفنون اإلسالمية.‏37


تاريخ الفنون وأشهر الصورالفصل الخامسأصل الرسم الحديث:‏ مدرسة فلورنساجوتو ، تشني ، أوركينا ، أنجليكو ، لبي،‏بوتيتشيل ، تشيمابوبقي الرسم مدّ‏ ة العصور المظلمة يجري على عرفالكنيسة وتتغلَّب عليه طريقة بيزنطية،‏ هذه الطريقة التيما زلنا نراها في الكنائس القبطية في مصر حيث تتشابهالوجوه وتجمد األجسام ويحيط بها كلّها هالة القداسة،‏وتُرسَ‏ م الصورة على فرش مذهَّ‏ ب فال يمكنك أن تميز منالنظر إلى الوجوه اختالفاً‏ في العاطفة أو األخالق.‏وقد كان الدين أساس الحياة في القرون الوسطى؛ لذلكفإنه جمع ‏-من ناحية-‏ بين فلسفة اإلغريق والالهوت،‏كما جمع أيضاً‏ بين النظر الديني والفنون،‏ وكما استعمل38


كتّاب الكنيسة فالسفة كأفالطون وأرسطوطاليس للدفاععن الدين،‏ كذلك استعملوا الرسم لخدمة الدين،‏ فكانتموضوعات الرسّ‏ ام ال تخرج عن رسم المالئكة والعذراءوالمسيح والقدّ‏ يسين،‏ وكان العرف هو القاعدة التي يجبعلى الرسّ‏ ام أال يتخطّ‏ اها،‏ وكان الرسّ‏ ام إذا أراد أن يرسمالمسيح صَ‏ وَّرَه في هيئة طفل ساذج جميل الوجه باسمالمحيّا،‏ أو ربما صَ‏ وَّره شيخاً‏ في هيئة قاضٍ‏ كبير،‏ أما العذراءفكان هَ‏ مّ‏ الرسّ‏ ام أن يبعد عنها،‏ ما استطاع،‏ تلك اللوثةاإلنسانية لكي يجعلها أشبه بالمالئكة منها بالناس؛ ولذلكفإنك ال تحسّ‏ منها بعاطفة األمومة،‏ وفي كلتا الحالتينيحاط المسيح والعذراء بهالة القداسة التي تخرجهما منصفّ‏ اآلدميّين.‏ولكن،‏ في القرن الثالث عشر نرى بذرة النهضة األوروبيةفي آراء ‏»روجر بيكون«‏ الذي يدعو إلى ترك التقاليدووضع العقل فوق النقل،‏ وأيضاً‏ في طريقة الرسم الجديدةفي إيطاليا حيث شرع الناس يفهمون من المسيحية أنهاديانة الحبّ‏ ، وأكسب هذا االعتقاد الجديد صورة إنسانيةللعذراء ِ تمثّل الحبّ‏ باألمومة.‏ولعلّ‏ أوّل من مَسَ‏ حَ‏ هذه المسحة على الدين هو القدّ‏ يسفرانسيس،‏ فإنه جمع بين حبّ‏ الطبيعة واإليمان بالدين،‏39


تاريخ الفنون وأشهر الصورفكان يخاطب الطبيعة ويتآخى مع الطير والسمك ويطربفي لذة االجتماع بالخليقة واالشتراك معها في طربالصوفية،‏ فنقَلَ‏ الدين بذلك من جمود القاعدة وضيقالعرف الكنسي إلى رحابة الطبيعة وما فيها من ألوانمختلفة.‏وأوَّل من نقَّح في الطريقة البيزنطية هو ‏»جوني تشني«‏وهو رجل فلورنسي وُلِد سنة 1240، ومات سنة 1302،وهو ما يزال في رسومه يتّبع ‏-على وجه اإلجمال-‏ قواعدبيزنطة،‏ ولكنه يمسح على رسومه مسحة إنسانية جديدة فيهامعاني العطف والحبّ‏ ، وقد كُ‏ ‏ِلّف بأن ِ يزيّن الكنيسة التيدُ‏ فِن فيها القدّ‏ يس فرانسيس برسومه،‏ فكان هذا القدّ‏ يس،‏بصوفيته،‏ إلهاماً‏ له يبعثه على اتّخاذ البدعة بدالً‏ من التقليدفي الفنون،‏ ومما يذكر أيضاً‏ أن تلميذه ‏»جوتو«‏ كان منعظماء رجال النهضة.‏ويمكن ِ لمؤرّخ النهضة الفنية أن يبدأ ب»جوتو«‏ فهو الفاصلالحقيقي بين النهضة وتقاليد بيزنطة،‏ وكان جوتو في صباهراعياً‏ يرعى الغنم،‏ وحدث ذات مرة أن رآه تشني وهوقاعد يرسم فأعجبه رسمه،‏ وطلب من أبيه أن يأذن للصبيبمرافقته لكي يتتلمذ له،‏ فأَذِ‏ ن األب.‏ولمّ‏ ا كُ‏ ‏ِلّف تشني بتزيين كنيسة القدّ‏ يس فرانسيس خصّ‏40


جوتو ببعض الرسوم التي ِ تمثّل حياة القدّ‏ يس،‏ وهنا ظهرتعبقرية التلميذ حتى تفوَّق على ِ معلّمه؛ إذ إنه أبدى كمايقول رسكين:‏ ‏»خروجاً‏ على التقاليد والعرف والمثلاألعلى«،‏ وعمد إلى الطبيعة ينقل عنها.‏وقصد إلى روما،‏ وهناك كُ‏ لّ‏ ِ ف أيضاً‏ بتزيين بعض الكنائس،‏فرسم صورة ‏»البكاء على القدّ‏ يس فرانسيس«،‏ وأيضاً‏صورة ‏»عيد ميالد هيرودس«،‏ ونعرف بعد ذلك أنه ذهبحوالي سنة 1306 إلى ‏»بدوا«‏ ألن المعروف أن دانتيالشاعر كان هناك في ذلك الوقت،‏ وكان يوعز إلى الرسّ‏ امبرسم واختيار بعض الموضوعات،‏ وهذا يدلّنا على مكانة‏»جوتو«‏ الذي كان يعرفه ‏»بترارك«‏ أيضاً‏ ويصادقه.‏ومن المفيد أن نقابل بين رسم تشني ‏»العذراء وابنها«‏ورسم جوتو ‏»البكاء على القدّ‏ يس فرانسيس«‏ لكي نعرفالفرق بين العهدين أو بين ِ المعلّم والتلميذ،‏ فما زالتعلى صورة تشني المسحة البيزنطية:‏ هاالت من نور حولالرؤوس وفرش مذهّ‏ ب للصورة،‏ ولكن التنقيح في القواعدالبيزنطية واضح من المسحة اإلنسانية التي على الوجوه،‏أما صورة القدّ‏ يس فرانسيس والرجال الذين حوله يبكونهفليس فيها شيء من قواعد بيزنطة،‏ وإنما كل ما يعاب عليهاالنقص في الصنعة أي في األبعاد،‏ ودقّة التصوير ونحو41


تاريخ الفنون وأشهر الصورذلك،‏ وليس هذا غريباً‏ إن اعتبرنا أن جوتو قد شرع فيمحاولة جريئة،‏ ففيه النقائص التي تالزم كل مبتدئ،‏ فهوأوّل من ترك موضوع القداسة الجامدة إلى نشاط الطبيعة،‏فصار يرسم الحقول واألشجار والحيوان واإلنسان.‏وقد كان جوتو ‏-مع عبقريّته في الرسم-‏ معماريّاً‏ عظيماً‏ بنىالبرج المعروف اآلن باسمه في فلورنسا،‏ ولمّ‏ ا عاد إلى هذهالمدينة التي هي مدينته األصلية لقي الترحيب واإلكراممن أهلها سنة 1334، وتعيَّن هناك مديراً‏ لألعمال فيالكاتدرائية الكبرى،‏ وبقي هناك يعمل في الرسم والعمارةإلى أن مات سنة 1337.ومن الفلورنسيين الذين انتفعوا بالطريقة الجديدة التيوضعها جوتو نجد ‏»أوركنيا«‏ صاحب صورة ‏»تتويجالعذراء«‏ وهو ‏-مع لزومه السذاجة الطبيعية-‏ لم يبلغ مبلغجوتو في تصوير نشاط الطبيعة.‏وهذه النزعة نحو الطبيعة التي أوجدها جوتو في المدرسةالفلورنسية تفرَّعت فرعين:‏ أحدهما نفسي،‏ واآلخر جسمي،‏فرجال الفرع األول اتّجهوا نحو إتقان التصوير للعاطفةالقوية العميقة مع الحركة والعمل،‏ بينما رجال الفرع الثانياتّجهوا نحو تقرير الواقع مع التدقيق في رسم األعضاءبحيث ينطبق الرسم على الحقيقة،‏ واستطاع هؤالء أن42


يتغلَّبوا على صعوبات الصنعة كتحقيق األبعاد الخطيةوالهوائية ودرس التشريح لألجسام العارية في الكونوالحركة وسائر التفاصيل الخاصّ‏ ة باألحياء والجماداتلوناً‏ وشكالً،‏ وبذلك أمكن الخروج من العرف والقواعدالبيزنطية.‏ويلي أوركنيا في النهضة الفلورنسية رجل راهب له شهرةال تقلّ‏ عن شهرة جوتو،‏ وإن كانت عبقريّته الفنية دونه،‏وهذا الراهب هو ‏»األخ أنجليكو«‏ الذي وُلِد سنة 1387،ومات سنة 1455، وكان من رجال الفرع النفسي فيالتصوير،‏ ولكنه كان،‏ مع ذلك،‏ يجيد رسم الجبال واألزهارواألشجار،‏ حتى ليظنّ‏ اإلنسان أن هذا هو موضوعه األصليالذي خصّ‏ فنّه فيه،‏ ولكن الحقيقة أن أنجليكو لم يرسمهذه األشياء إال ألنها وسطه الذي عاش فيه معظم حياته،‏إذ قضى في قرية كارتونا وقرية فيوسول خمسين سنة،‏ فلميختلط بالمدن الكبرى مثل فلورنسا أو روما إال بعد ذلك،‏ولكن هواه وبراعته يتّجهان نحو تصوير الحاالت النفسية،‏فقد كتب عنه ‏»فساري«‏ يقول:‏ ‏»إن مالئكته التي يرسمهاتبدو كأنها كائنات من الفردوس«،‏ وذلك للخيال الذهنيالذي قاده إلى تصويرها،‏ وهذا الخيال كان يخالف الطبيعة.‏وقال عنه موتهور:‏ ‏»إن رسومه التي ِ يصوّر فيها االستشهاد43


تاريخ الفنون وأشهر الصورتوهمك بأنه يرسم صبياناً‏ أو شبّاناً‏ قد اتّخذوا هيئة الشهداءوالجلّادين،‏ أما رجاله الملتحون فيبكون بكاء النساء،‏ولذلك فهو ال يقنعك بأنه يصوّ‏ ِ ر لك الحقيقة،‏ ولكنه عندمايلزم موضوعه الخاصّ‏ به،‏ وعندما ينقل إليك رقّة الشعورأو الفرح العظيم الصامت للقلب أو الحزن الرقيق أو الطربالديني،‏ فإن لصوره تأثير الصالة الصامتة للطفل«.‏وصورته ‏»البشارة«‏ التي ِ تمثّل المَ‏ لَك وهو ِ يبشّ‏ ر العذراءبالمولود تدلّ‏ على صدق ما قاله موتهور،‏ فهمّ‏ الرسّ‏ ام هناأن ينقل إليك صورة التقوى والدين أكثر مما يريد أن يدقّ‏ ِ قفي رسم األشخاص.‏ومن رجال ذلك العصر أيضاً‏ ‏»األخ لبي«،‏ وال بدّ‏ أنالقارئ يقف هنا متأمّ‏ ِ الً‏ هؤالء الرهبان الذين انسلخوا منالرهبانية إلى الفنون،‏ ولكنه إذا عرف أننا نتكلَّم على عصرالنهضة التي ليست شيئاً‏ آخر سوى الخروج من التقاليدالدينية إلى الدرس البكر في مسائل الحياة والطبيعة،‏وإذا عرف أن الثقافة والفنون كانت مدّ‏ ة القرون الوسطىخاضعة للرهبان مصبوغة بالدين حين كانت األديار مثوىاآلداب،‏ لم يتعجَّ‏ ب بعد ذلك،‏ من أن تكون بداية النهضةفي الفنون على أيدي بعض الرهبان،‏ ولكن هؤالء الرهبانكانوا خارجين على تقاليد الكنيسة وإن لم يشعروا بذلك،‏44


ألن روح الزمن كانت قد أنضجت العقول،‏ وهيّأتها للثورةوالخروج.‏و»لبي«‏ هذا يمتاز عن ‏»أنجليكو«‏ بأن العذارى عنده أشبهببنات فلورنسا،‏ منهن ببنات السماء،‏ فهو يفهم الجمالالنسائي كما هو في طبيعته،‏ ويجيد رسم األزهار كما تدلّ‏على ذلك صورته ‏»البشارة«.‏ِ ويمثّل ‏»لبي«‏ الروح العلمية في الرسم،‏ فقد درس األبعاددرساً‏ دقيقاً،‏ ورسم معركة حربية ألوَّل مرّة في تاريخ النهضة،‏ولم يحاول أحد بعده رسم معركة حربية إال بعد مضيّ‏ قرنكامل على وفاته،‏ ورسم هذه المعركة يدلّ‏ على ميل رجالالفنّ‏ في ذلك الوقت إلى االنفصال من الدين،‏ وقد وُلِد‏»لبي«‏ سنة 1406، ومات سنة 1469.وفي سنة 1447 وُلِد ‏»بوتيتشلي«‏ الذي مات سنة 1535،وفي عصره تمّ‏ االنفصال بين الدين والفنّ‏ ، فقد كانتالكنيسة راعية الفنون مدّ‏ ة القرون الوسطى وفي بدايةالنهضة،‏ فكان الرسّ‏ امون والمعماريون يعملون لها،‏ ولكنالقرن الخامس عشر كان يتّسم بالتجديد،‏ وظهر فيه رعاةآخرون للفنون غير الكنيسة.‏وكان هؤالء الرعاة ال يبالون بالدين،‏ وال ِ يكلّفون الرسّ‏ امينلزوم القصص التوراتية أو اإلنجيلية،‏ ولذلك فإننا نجد45


تاريخ الفنون وأشهر الصوربوتيتشلي يرسم صوراً‏ تمثّ‏ ِ ل القصص اإلغريقية القديمة،‏مثل صورته ‏»الربيع«،‏ حيث ترى في الوسط ‏»الزهرة«‏ربّة الحبّ‏ تنتظر قدوم الربيع يحوم فوقها ‏»قوبيد«‏ الربيبالصغير الذي يقنص القلوب ويوقعها في شباك الغرام،‏وعلى يمينها الفتيات الثالث وعطارد رسول اآللهة،‏ وعلىيسارها يتقدّ‏ م الربيع تدفعه إلى األمام بلطف ‏»فلورا«‏ربّة الزهر ويحذوه ‏»زفير«‏ الذي ِ يمثّل النسيم،‏ وأينما تطأقدماها تظهر األزهار،‏ وهذه صورة تدلّ‏ على الجراءة التياتَّسم بها ذلك الزمن،‏ ألنها لو ظهرت في القرون الوسطىلعوقب صاحبها وأُتلفت الحتوائها على آلهة وقصص وثنية.‏وقد تعلَّم ‏»بوتيتشلي«‏ على يدي ‏»لبي«،‏ وكان ِ متأثّراً‏ بهيتبع طريقته إلى أن ترك ‏»لبي«‏ مدينة فلورنسا في مهمّ‏ ة،‏فلمّ‏ ا انفرد ‏»بوتيتشلي«‏ ترك لعبقريته العنان في التأليف،‏فصار يرسم الناس كما يراهم،‏ وال يمسح عليهم مسحةالتواضع الديني.‏ولمّ‏ ا ذاعت شهرته في فلورنسا استدعاه البابا إلى روميةحيث رسم فصوالً‏ من تاريخ موسى،‏ وبعد سنتين عادإلى فلورنسا،‏ وهناك وجد ‏»سافونا روال«،‏ وهو رجل كانِ متحمّ‏ ساً‏ للدين وعمد إلى الكتب فأحرقها،‏ وتأثّر بأقوالهبعض الرسّ‏ امين حتى أتلفوا ما رسموه من األوثان واآللهة،‏46


وهذا يدلّ‏ على أن الصراع بين الدين والنهضة كان ما يزالقائماً،‏ ولكن الجمهور الذي كان ‏»سافونا روال«‏ يحمّ‏ ِ سهإلى الدين عاد فانقلب عليه وأحرقه هو نفسه.‏ورأى ‏»بوتيتشلي«‏ هذه الحوادث في مدينته فحزن،‏وخصوصاً‏ عندما رأى أن األسرة التي كانت ترعاه قدانهزمت ونُفِيت من المدينة،‏ وهي أسرة مديتشي،‏ بل حينرأى أخاه يتلف رسومه السابقة بيده لإلشارات الوثنية التيفيها .وممن يُذكَ‏ رون أيضاً‏ في عصر هذه النهضة تشيمابو الذيولد سنة 1240، ومات سنة 1302، وأحسن رسومه صورةالعذراء وابنها.‏47


تاريخ الفنون وأشهر الصورالفصل السادسالرسم بالزيت:‏ المدرسة الفلمنكيةفان إيك ، مملنك ، ماسيس ، مابوزال نعرف كيف نشأ الفنّ‏ في إقليم الفلمنك،‏ وكيف كانفي طفولته وفي حداثته،‏ فإننا نجده أوّل ما نجده راقياً‏مبتدعاً‏ يجري على أسلوب تقريري يراعي الدقّة في تصويرالحقائق دون تزيين أو زخرفة.‏وقد كان الرسم الشائع في أوروبا الغربية إلى نهاية القرنالثالث عشر،‏ مثل العمارة الشائعة أيضاً‏ في ذلك الوقتوبعده،‏ قوطيّاً،‏ ما زلنا نراه في أوراق اللعب حيث ترىصور الملوك والملكات،‏ وهذا الرسم القوطي ال عالقةله بتاتاً‏ برسم اإليطاليين من مدرسة فلورنسا،‏ ولذلك فإنفضل المدرسة الفلمنكية وانتقالها من هذا الرسم القوطي48


إلى الرسوم المتقنة التي أدَّتها عظيم جدّ‏ اً.‏ويجب،‏ عند المقابلة بين المدرسة الفلمنكية والمدرسةالفلورنسية،‏ أن ِ نميّز بين األساس الذي قامت عليه كلمنهما،‏ فأساس األولى هو الفنّ‏ القوطي،‏ وأساس الثانيةهو فنّ‏ الكنيسة أي الفنّ‏ البيزنطي،‏ ولذلك فإن الفلورنسيينلزموا ‏-إلى حَ‏ دّ‏ ما-‏ الموضوعات الدينية،‏ وكان معظمرسومهم على جدران الكنائس،‏ أما الفلمنكيون فإنهمخرجوا بالفنّ‏ من حظيرة التقاليد الدينية إلى رسم أشخاصاألغنياء وتصوير األثاث،‏ وهناك سبب آخر ساعد علىبلوغ هذه النتيجة،‏ وهو أن الكنائس في إيطاليا ال ِ يخيّمالظالم على جدرانها ألن الجوّ‏ ‏-في أغلب أوقاته-‏ فيصحو ونور،‏ ولذلك فإن الرسم على الجدران يمكن رؤيتهوتقديره،‏ ولكن الغيوم تتغلَّب في المناخ الشمالي،‏ فاليكون للرسوم التي تُرسَ‏ م على الجدران الداخلية في هولنداأو ألمانيا تلك القيمة أو ذلك الجمال الذي نجده لها فيإيطاليا أو إسبانيا،‏ ولهذا السبب اتَّجهت جهود الفنّيين فيالشمال إلى تزيين زجاج النوافذ بدالً‏ من تزيين الجدران،‏ألن الزجاج يسطع عليه الضوء ‏-مهما ضعف-‏ فيبدي مافيه من رسوم.‏وقد اشتهر في المدرسة الفلمنكية رجالن شقيقان،‏ هما:‏49


تاريخ الفنون وأشهر الصورهوبرت فان إيك،‏ وجان فان إيك،‏ وفضلهما ال يقتصر علىاستحداث الرسوم التي ال عالقة لها بالموضوعات الدينية،‏بل يتناول أيضاً‏ طريقة الرسم بالزيت التي اخترعها أحدهماوزاولها كالهما،‏ فإن الرسم كان قبل ذلك يعتمد على الماءواألصباغ،‏ وكان الرسّ‏ ام يستعين أحياناً‏ وهو يجبل أصباغهبمحّ‏ البيض،‏ ولكن هذين الشقيقين استعمال الزيت الحاروزيت الجوز في جبل األصباغ،‏ وشاعت عنهما هذهالطريقة،‏ وتقدَّ‏ م فنّ‏ الرسم بهذه البدعة خطوات إلى األمام.‏وال يُعرف إال القليل عن تاريخ هذين الشقيقين،‏ وهذابخالف الرسّ‏ امين في إيطاليا،‏ ولكن ‏»فساري«‏ كَ‏ تَبَ‏تاريخهم مع تفاصيل حياة كلّ‏ منهم،‏ وكان هو نفسه رسّ‏ اماً‏في القرن السادس عشر.‏والمعروف أن ‏»هوبرت«‏ وُلِد سنة 1365 في قرية قريبةمن كولونيا،‏ والظاهر أنه تعلَّم في هذه المدينة،‏ فلمّ‏ ا بلغسنّ‏ الشباب تركها إلى مدن الفلمنك حيث كانت ‏»غنت«‏و»بروج«‏ قد أحرزتا شأناً‏ في الرخاء والتجارة،‏ وفي غنتأدّى هو وأخوه ذلك الرسم العظيم الذي يسمّ‏ ى ‏»عبادةالحمل«،‏ وهو من الرسوم الكبيرة،‏ وال تقلّ‏ مساحته عنألف قدم،‏ أما شقيقه ‏»جان«‏ فأصغر منه بعشرين سنة،‏ إذ50


وُلِد سنة 1385، وهو أدقّ‏ في الصنعة وأعمق بصيرة فيالفنّ‏ وأبعد شهرة،‏ وقد اشتغل بالسياسة،‏ ورحل إلى إسبانياوبرتغال في خدمة فيليب،‏ وهو أوَّل من اتَّبَع األسلوبالتقريري،‏ وابتدع تصوير األشخاص،‏ وكان إذا رسم شخصاً‏لم يترك في وجهه أو جسمه أي عالمة أو قبح حتى ينقله،‏كما ترى في رسمه ‏»الرجل الحامل للقرنفل«،‏ وهذه روحغريبة ال تدلّ‏ على الرغبة في تصوير الحقيقة وكراهة المبالغةوالتزيين فقط،‏ بل تدلّ‏ أيضاً‏ على أن الهيئة االجتماعيةالتي عاشت في ذلك العصر كانت سليمة من الزهو والغرورقانعة بالواقع،‏ والفنّ‏ ظاهرة من ظواهر االجتماع،‏ فإذا كانهذا االجتماع مختلّاً‏ لم يسلم الفنّ‏ من الخلل،‏ وتجد فيهذه الصورة دقّة عجيبة في نقل الصغائر والتفاصيل،‏ حتىعروق اليد وأسارير الوجه واضحة،‏ ومن ينظر إلى الصورة،‏وقد افترَّ‏ الثغر،‏ يكاد ينتظر منها أن تخاطبه.‏ول»جان فان إيك«‏ صورة أخرى عن زوجين من الطبقةالمثرية ِ تمثّالن عنايته بنقل األثاث وتفاصيل المالبس ممايجعل لها قيمة تاريخية زيادة عمّ‏ ا لها من القيمة الفنية،‏وهذان الزوجان هما:‏ ‏»جان أرنولفيني وزوجته«،‏ بل بلغتعنايته حدّ‏ اً‏ عجيباً‏ في نقل ظلّ‏ الزوجة في المرآة المستديرةالتي في الوسط.‏51


تاريخ الفنون وأشهر الصورويلي هذين الشقيقين في الشهرة ‏»هانز مملنك«‏ الذيوُلِد حوالي سنة 1430، ومات سنة 1494، وال نعرفتفاصيل حياته على وجه التحقيق،‏ وإنما األرجح أنه تعلَّمفي كولونيا،‏ ثم قضى سائر حياته في بروج حيث كانيملك داراً‏ وعقارات أتاحت له العيش في رخاء،‏ وقد زَيَّنَ‏مستشفى سان جون في ‏»بروج«‏ بطائفة من رسومه.‏وفي تزيين المستشفى في بروج في إقليم الفلمنك مايجعلنا نلمح شيئاً‏ من هذه الروح الشمالية التي تختلف عنروح الجنوب في إيطاليا مثالً‏ ، حيث نجد آثار الرسّ‏ امينفي الكنائس.‏ولم يكن مملنك خلواً‏ من الروح الدينية فإن أحسن آثارهفي الفنّ‏ ما رسمه من الصور عن حياة القدّ‏ يسة ‏»أورسوال«،‏ولكن العناية بالمستشفيات وتزيينها في القرن الخامسعشر يعدّ‏ وه بدعة تدلّ‏ على روح الزمن وترينا أن الشماليينأدركوا،‏ في ذلك الوقت أن البِ‏ رّ‏ ال يقتصر على األعمالالدينية بل يتجاوزها إلى األعمال المدنية.‏وأحسن ما تركه ‏»مملنك«‏ هو صورة الدوق كليف،‏ فهيِ تمثّل جمال الشباب قد امتزج إلى راحة اإليمان،‏ وهذهالصورة من النفائس التي يزدان بها،‏ اآلن،‏ المتحف الوطنيفي لندن.‏52


وحوالي هذا الزمن نجد أن الرسم قد انطلق تماماً‏ منالتقاليد الدينية؛ ألن الحياة المدنية كان شأنها قد ارتفع،‏فظهرت طبقة من التجّ‏ ار والصيارفة وأصحاب المصانعلها من الجاه والثروة ما يجلب إليها ذلك االحترام الذيكان مقصوراً‏ على رجال الدين أو على األمراء والملوك،‏فنرى ‏-مثالً‏ - رسّ‏ اماً‏ مثل ‏»كانتان ماسيس«‏ الذي وُلِد سنة1466 ومات سنة 1530 يعيش في انفرز،‏ وينقل لنا صورةصيرفي مع زوجته،‏ وقد اشتغل هو بِ‏ عَدّ‏ النقود،‏ والتفتتهي إليه بعد أن كانت تقرأ في كتاب ديني مذهّ‏ ب،‏ وقدبالغ الرسّ‏ ام في الدقّة حتى رسم على المرآة المستديرةصورة نافذة مفتوحة.‏وبوفاة ماسيس يُختَم العصر األوّل للمدرسة الفلمنكية،‏ وهوعصر االستقالل واالبتعاد عن إيطاليا وتقاليدها البيزنطيةالضعيفة،‏ أما الرسّ‏ امون الفلمنكيون بعده فقد تأثّروابإيطاليا مثل ‏»مابوز«‏ الذي وُلِد سنة 1472، ومات سنة1535، فإنه أدخل الطريقة اإليطالية بعد أن زار إيطالياوعرف هناك دافنشي،‏ وأحسن ما خلقه من الرسوم صورة‏»مرجريت تودور«‏ التي تُرى ‏-إلى اآلن-‏ في أدنبرج فيإسكوتالندا.‏53


تاريخ الفنون وأشهر الصورالفصل السابعنجوم النهضةدافنيش ، أنجلو ، رفائيلمن يقرأ حياة دافنشي بتفاصيلها الصغيرة يمثل في ذهنهتلك االضطرابات الذهنية التي أصابت الناس في عصراالنتقال من القرون الوسطى إلى القرون الحديثة؛ نعنيبذلك الزمن الذي عاش فيه دافنشي بين ميالده سنة 1452ووفاته سنة 1519.ففي حياة دافنشي رأت أوروبا دخول األتراك إلىالقسطنطينية،‏ وهزيمة المسيحيين أمام المسلمين،‏ كما رأتاكتشاف أميركا،‏ وفي كلتا الحادثين ما يدفع إلى التفكير،‏ووضع العقل فوق النقل،‏ والرأي فوق العقيدة،‏ والشكّ‏مكان اليقين.‏54


ويمثّ‏ ِ ل دافنشي عصره،‏ ألنه عبقريّ‏ أحاط في دراستهوهمومه الذهنية بطائفة كبيرة من العلوم والفنون كأنه كانيجوع إلى التجارب والمعارف،‏ فكان رسّ‏ اماً‏ كما كانمثَّاالً‏ يصنع التماثيل،‏ وكان عالماً‏ أدرك بذهنه أن جبالاأللب كانت تحت الماء،‏ وكان يدرس الرياضة درس الهوىوالتعلُّق والشغف،‏ وكان ال يكفّ‏ عن التجارب الجديدةحتى صنع مرّة طيّارة،‏ ولم يمنعه من االستمرار في تتميماختراعها إال حماسة تالميذه الذين خشي عليهم من اقتحامالهواء،‏ وكان يخترع آالت الحرب وأدوات السلم،‏ وكانموسيقيّاً‏ ماهراً،‏ ومع ذلك وضع أحسن كتاب في زمنه عنالتشريح،‏ قال عنه ‏»فساري«:‏ ‏»يحدث أحياناً‏ أن السماءتهب أحد األشخاص من الجمال والنعمة والقدرة بحيثأن كلّ‏ ما يعمله يبلغ من الروعة اإللهية أن يسبق جميع مايعمله سائر الناس،‏ ويثبت بوضوح أن عبقريته إنما هي هبةمن الله وليست اكتساباً‏ بالحذق اإلنساني،‏ وقد رأى الناسهذا في ليوناردو دافنشي الذي ال يمكننا ‏-مهما فعلنا-‏أن نبالغ في جماله الشخصي،‏ والذي كان له من القدرةالخارقة ما كان يستطيع به أن يحلّ‏ أية معضلة تعترضه.«.‏ولم يبالغ فساري في هذا الوصف فقد كان دافنشي موهوباً،‏يجمع إلى قوّة جسمه التي كان يمكنه بها أن يلوي نعل55


تاريخ الفنون وأشهر الصورالفرس بيده،‏ جمال طلعته ورقّة نفسه،‏ حتى ذُ‏ كر عنه أنهكان يشتري العصافير من التجّ‏ ار ثم يطلقها في الهواء.‏وقد أرسله أبوه إلى المدرسة،‏ ولكنه ‏»كان يدرس عدّ‏ ة أشياءثم يتركها«،‏ ومع ذلك كان ‏-مع نزقه هذا-‏ يلزم شيئاً‏ اليتركه وهو الرسم،‏ فأخذه أبوه إلى الرسّ‏ ام ‏»فروشيو«‏ لكييتتلمذ عليه،‏ ويحكى أن فروشيو هذا كان يعمل في إتمامصورة كبيرة ِ تمثّل ‏»يوحنا المعمدان«‏ وهو ِ يعمّ‏ د المسيح،‏وكان قد كُ‏ ‏ِلّف بعمل صورة أخرى،‏ فاضطرّ‏ ‏-للسرعة-‏ أنِ يكلّف دافنشي بأن يرسم على الصورة أحد المالئكة،‏ وقامدافنشي بهذا العمل،‏ وكان المَ‏ لَك الذي رسمه خيراً‏ منالمالئكة التي رسمها أستاذه،‏ فلمّ‏ ا عاد فرشيو تعجَّ‏ ب لهذهالعبقرية التي تفجَّ‏ رت من هذا التلميذ،‏ ولكنه ‏-في الوقتنفسه-‏ تأسَّ‏ ف ألن تلميذاً‏ لم يُدَ‏ رَّب يجيد الرسم أكثر منه،‏ويُقال إنه من ذلك الوقت لم يتناول الريشة،‏ وقصَ‏ رَ‏ نفسهعلى نحت التماثيل.‏وذاعت شهرة دافنشي بعد ذلك فطلبه الدوق سفورتسا لكييكون في خدمته في ميالن،‏ وهناك رسم الصورة المشهورة‏»العشاء األخير«‏ الذي مَثَّل فيه المسيح بين تالميذه عندماأخبرهم بأن واحداً‏ منهم سيخونه،‏ وكان دافنشي ‏-لتشعُّبخواطره بين العلم والفنّ‏ والرياضة-‏ يتباطأ في عمله،‏56


وكان يصنع هذه الصورة ألحد األديار القريبة من ميالن،‏فلمّ‏ ا أبطأ شكاه رئيس الدير إلى الدوق،‏ وأرسل هذا إلىدافنشي يلومه على تباطئه،‏ فأجابه دافنشي بخطاب جميلقال فيه:‏ ‏»بقي عليَّ‏ من الصورة رأسان لم أتمّ‏ هما بعد،‏فإني أشعر بالعجز عن تصوُّر الجمال السماوي الذي يتمثَّلفي موالي ‏)المسيح(،‏ والرأس اآلخر الذي يجعلني ِ أفكّ‏ رهو رأس يهوذا الخائن،‏ فإني أعتقد أني لن أتمكَّ‏ ن منتصوير وجه هذا الرجل الذي استطاع أن ينطوي على نيّةالخيانة لمواله بعد أن انتفع به كل هذا االنتفاع،‏ ولكن،‏رغبة في توفير الوقت،‏ فإني لن ِ أفكّ‏ ر كثيراً‏ في هذا الرأس،‏بل أقنع بوضع رأس رئيس الدير،‏ فهذا هو رأيي الذي الأجد خيراً‏ منه اآلن.«،‏ فضحك الدوق من هذه الفكاهةالجميلة،‏ وطلب من رئيس الدير أال يقلق دافنشي بعد ذلكبشكاويه وإلحاحه في السرعة.‏ولِدافنشي صورة أخرى أشهر من صورة ‏»العشاء األخير«‏هي صورة ‏»موناليزا«‏ المشهورة باسم ‏»الجيوكندا«‏ فقدقضى فيها ثالث سنوات وهو ال يتمّ‏ ها،‏ إمّا ألنه كان كلّ‏يوم يجد في هذه المرأة معنىً‏ جديداً‏ يريد أن ينقله إلىاللوحة،‏ وإمّا ألنه أحبَّها،‏ فكان يتعلَّل بالتأخير ألنها كانتتأتيه كل يوم،‏ وكان ‏-بالطبع-‏ يخشى إذا كَ‏ مُ‏ لت الصورة أن57


تاريخ الفنون وأشهر الصوريمنعها زوجها من الذهاب إلى مرسمه،‏ ويبدو من تاريخهأن حبّه لها كان عذريّاً.‏وترك دافنشي الدوق وانضمّ‏ إلى فرنسيس ملك فرنسا الذيأحبَّه واحترمه وحمله معه إلى فرنسا،‏ وهناك مات،‏ وكانتصورة ‏»موناليزا«‏ معه لم تفارقه،‏ حتى إن الملك أراد أنيضعها في قصره،‏ فرجاه دافنشي أن يتركها له حتى يموت،‏وهي،‏ اآلن،‏ في متحف اللوفر في باريس،‏ وقد ذكر فساريأنه بلغ من عناية الملك فرنسيس بهذا الرسّ‏ ام أنه عندماسمع بمرضه زاره وحمل رأسه بين يديه،‏ وكان دافنشي فيغيبوبة،‏ فلمّ‏ ا أفاق ووجد الملك يُعنى به ويحنو عليه تأثّرومات.‏ويجدر بنا،‏ هنا قبل أن نتكلَّم على النجمين اآلخرَيْن،‏ أننذكر واحداً‏ عاصَ‏ رَ‏ الثالثة وهو غرلندايو الذي وُلِد سنة1449، ومات سنة 1494، وهو ِ يمثّل ديموقراطية الفنّ‏ ،فقد كان أولئك العظماء الثالثة يرعاهم البابا أو الملك أواألمير،‏ أمّا هو فقد جعل مرسمه دكّ‏ انه الصغير الذي كانيبيع منه إكليالً‏ اخترعه،‏ وصار يصنعه لكي تضعه السيداتعلى رؤوسهن،‏ والروح المسيحية التي وضعت جمالالنفس فوق جمال الجسم واضحة في رسومه،‏ فهو ِ يصوّرجمال النفس وال يبالي بالجسم،‏ وهذا يخالف المألوف58


عند األمم القديمة أيّام الوثنية،‏ فإنها كانت تفهم الجمالفي الجسم،‏ وأحسن صور غرلندايو هي صورة ‏»الجَ‏ دّ‏وحفيده«،‏ وأنف الجَ‏ دّ‏ قبيحة،‏ بل وجهه دميم،‏ ولكنالناظر إليه يستشفّ‏ جماالً‏ في النفس في عاطفة األبوّةالمرتسمة عليه وهو يحنو على حفيده الصغير،‏ وله أيضاً‏صورة ‏»جيوفانا ترنابيوني«.‏أما النجم الثاني فهو ميخائيل أو ‏)مايكل(‏ أنجلو الذيوُلِد سنة 1475، ومات سنة 1564، وهو يفوق دافنشي فيالرسم والنحت،‏ ولكن دافنشي يسمو عليه في الحكمة،‏وقد عاش دافنشي لذلك سعيداً،‏ أما أنجلو فقد كان يضيقبالناس وبنفسه.‏وقد كان والده قاضياً‏ وأراد أن يربّي ابنه على أن ينشأ تاجراً،‏لكن عبقريّة الصبي أبت إال الظهور والتفجُّ‏ ر،‏ واضطرّ‏ أبوهأن يلحقه بمرسم غرلندايو وهو في الثالثة عشرة،‏ ولكنه مالإلى النحت أكثر مما مال إلى الرسم.‏وكانت أسرة مديتشي لها السيطرة واالسم في ذلك الوقت،‏وكان لورنتسو عميدها،‏ فبسط عليه رعايته وعَ‏ يَّنَ‏ له مرتَّباً‏وخصَّ‏ ه بالتعليم في ‏»مدرسة الحديقة«‏ التي كانت قدأنشأها لتخريج المثَّالين.‏وحوالي سنة 1490 اهتزّت فلورنسا بذلك المدعو ‏»سافونا59


تاريخ الفنون وأشهر الصورروال«،‏ فقد كان هذا الرجل راهباً‏ رأى حواليه أمارات االنتقالمن التقاليد الدينية إلى العصر الحديث،‏ عصر الشكّ‏ ، فكبرعليه ذلك وأخذ يدعو إلى كراهة العلوم والفنون،‏ وكانتالكتب تُجمَ‏ ع وتُحرَق علناً‏ في ميادين فلورنسا،‏ وكانكثيرون يهجرون أعمالهم لكي يدخلوا في الرهبانية،‏ ورأىمايكل أنجلو ذلك فلم يتأثّر به،‏ بل العكس؛ إذ عمد إلىالوثنية اإلغريقية فصار ينقل عنها،‏ وصار يصنع التماثيلالرائعة لآللهة ‏»باخوس«‏ و»أدونيس«‏ و»قوبيد«.‏وبقي سافونا روال ِ يصلّي ويعظ الناس في الشوارع،‏ ويسبّ‏البابا،‏ ويصبّ‏ اللعنات على المترفين والكافرين والذينيقرؤون الكتب الوثنية،‏ إلى أن سئمه أهل فلورنسا فأحرقوهسنة 1498، ونصروا بذلك النهضة التي أوشكت أن تموتفي مدينتهم.‏وكان أنجلو قد فَرَّ‏ من البندقية في هذه المدّ‏ ة،‏ ثم عاد إليها،‏وكان أحد التجّ‏ ار قد اشترى منه تمثاله ‏»قوبيد«‏ وباعهألحد الكرادلة في روما بعد أن أوهمه أنه تحفة قديمةصنعها اإلغريق،‏ ولكن الكردينال عرف الغشّ‏ ووقف علىالحقيقة،‏ ثم فرح لهذا الغش عندما تحقَّق أن إيطاليّاً‏ حديثاً‏يمكنه أن يصنع تمثاالً‏ يشبه تماثيل قدماء اإلغريق،‏ وبعثمن فوره في طلب أنجلو الذي قصد روما،‏ وهناك بقي في60


رعاية الكردينال،‏ وبقي مدّ‏ ة في روما وهو متشبّ‏ ِ ع بالروحالوثنية،‏ ولكن وثنيته انتهت قبل أن يبرح روما إلى فلورنساسنة 1501 حيث صنع تمثاالً‏ لداود.‏وبقي في فلورنسا أربع سنوات لم يسعد فيها،‏ ولذلك فإنهما كاد البابا يوليوس الثاني يستدعيه إلى روما حتى رحلإليها،‏ وهناك عرض عليه البابا أن يبني له ضريحاً،‏ فسافرمايكل أنجلو إلى مقالع كرارة،‏ واقتلع المرمر الذي يحتاجإليه،‏ ثم عاد إلى البابا فرآه قد أبدل رأيه،‏ فإن أحد الذينحوله أوهموه أن بناء الضريح في حياته فأل ِ سيّئ،‏ فأحجمالبابا عن المضيّ‏ في مشروعه وطرد المثَّال من قصره.‏عاد أنجلو إلى فلورنسا،‏ ولكن البابا عاد فاستدعاه،‏ فلمّ‏ ابلغ روما أخبره البابا بأنه يريد أن ِ يكلّفه رسم السقففي مصلّى سستين،‏ وكان أنجلو يؤثر النحت على الرسم،‏فنصح له بأن يستخدم رفائيل بدالً‏ منه،‏ فأصرَّ‏ البابا علىإنفاذ كلمته.‏وفي 10 مارس من سنة 1508 كتب مايكل أنجلو هذهالعبارة:‏ ‏»اليوم ‏-أنا مايكل أنجلو المثَّال-‏ قد شرعت فيرسم المصلّى«.‏ وفي السنة التالية كتب يقول:‏ ‏»ليست هذهمهنتي … فأنا ِ أضيّع وقتي«.‏ولكنه بعد أربع سنوات وهو راقد على ظهره انتهى من61


تاريخ الفنون وأشهر الصوررسم السقف الذي يُعَدّ‏ اآلن من مفاخر الفنّ‏ اإليطالي.‏وقد قسَّ‏ م السقف ثالثة أقسام،‏ كلّ‏ قسم منها مُجَ‏ زَّأ ثالثةأجزاء:‏ القسم األول يشتمل على خلق الدنيا في ثالثةأجزاء:‏ في أوّلها يفصل الله عز وجل بين النور والظالم،‏وفي ثانيها يخلق النجوم،‏ وثالثها الله يبارك الله األرض،‏والقسم الثاني يحتوي على سقوط اإلنسان في ثالثة أجزاءأيضاً:‏ أولها خلق آدم،‏ وثانيها خلق حواء،‏ وثالثها اإلغواءوالسقوط،‏ والقسم الثالث يحتوي على الطوفان،‏ وهو أيضاً‏ثالثة أجزاء:‏ أولها تَقَدَّ‏ مَه نوح،‏ وثانيها الطوفان،‏ وثالثهاسكر نوح.‏وقد أصيب المثَّال بآالم وأوجاع من بقائه أربع سنواتوهو ينسطح كل يوم لكي يرسم السقف،‏ حتى بقي بعدذلك مدّ‏ ة إذا أراد أن يقرأ أو يرى شيئاً‏ جليّاً‏ رفعه فوق رأسهعلى ما اعتاد من أيام الرسم.‏وعاد إلى فلورنسا،‏ وكانت قد ذاعت شهرته وصار أهلفلورنسا يفاخرون به،‏ وقادهم الحبّ‏ له إلى االغترار به،‏فأقاموه في ثورة لهم مديراً‏ للتحصينات يقاتل أسرة مديتشي،‏وفَرَّ‏ من المدينة التي انهزمت،‏ وعادت هذه األسرة التيكان يحاربها فاستخدمته وأذلّته.‏ ولكن البابا بولس الثالثأنقذه من هذا الذل،‏ فكلفه برسم ‏»يوم القيامة«،‏ ثم عاد62


فكلَّفه بصنع القبّة التي ما تزال روما تفتخر بها.‏وقد زاره فساري في أواخر سنيّه وذُ‏ كِ‏ ر عنه فقره،‏ وأنه اليأكل سوى القليل من الخبز والنبيذ،‏ وأنه ‏-مع ذلك-‏ لميكفّ‏ عن النحت،‏ فقد صنع لنفسه خوذة يلبسها على رأسهويضع فيها الشمعة،‏ فيقوم في الليل ويكبّ‏ على عمله فيضوء هذه الشمعة التي لم تكن تشغل إحدى يديه.‏وقبل أن يموت بيوم أحسَّ‏ باقتراب األجل المحتومفأوصى وصيّته بحضور خادمه وأصدقائه،‏ وجاء فيها قولهإنه ‏»يوصي بروحه لله وبجسمه لألرض«.‏أما النجم الثالث فهو رفائيل الذي وُلِد سنة 1483، وماتسنة 1520 وهو في السابعة والثالثين من عمره،‏ وقد قضىهذه الحياة القصيرة يتقلَّب في السعادة،‏ بخالف تلكالحياة الطويلة التي قضاها مايكل أنجلو في الشقاء والفقر.‏وقد درس رفائيل في فلورنسا فاستدعاه البابا إلى روماسنة 1508، وهناك شرع في تزيين قصر الفاتيكان،‏ ثمتعيَّن المعماري األوّل لكنيسة القدّ‏ يس بطرس واألمينآلثار رومية القديمة،‏ وكان جميل الوجه ال يمشي في روماإال وحوله حاشيته،‏ حتى يُحكى عنه أنه وهو في سيرهالتقى بمايكل أنجلو،‏ فقال له هذا بلهجة الحسد وهو يرىالحاشية التي حوله:‏ ‏»تسير هنا كأنك قائد على جيش!«،‏63


تاريخ الفنون وأشهر الصورفأجابه رفائيل:‏ ‏»وأنت تسير كأنك الجلّاد يقصد إلىالنطع!«.‏ومعظم رسوم رفائيل دينية،‏ وهو أفضل مَنْ‏ رَسَ‏ م ‏»العذراء«‏وأكسبها جماالً‏ وشباباً‏ ال يجدهما اإلنسان عند أيّ‏ رسّ‏ امآخر،‏ ومات في يوم ميالده سنة 1520 بحمّ‏ ى،‏ لم تمهلهسوى بضعة أيام.‏64


الفصل الثامننحو البندقيةمانتنيا ، كوريجيو ، بليني ، جورجونيإذا ذُ‏ كِ‏ رت الفنون في إيطاليا كان لفلورنسا والبندقية أكبرالمقام،‏ بل لهما أكبر المقام في أوروبا ألنهما أساسالنهضة الفنية،‏ وهما تُذكَ‏ ران لظهورهما،‏ وألن نصيبهما مننهضة الفنون كان عظيماً،‏ ولكن،‏ إلى جانبهما،‏ ظهرتجملة مدن أخرى في شمال إيطاليا عُ‏ ني أعيانها وأغنياؤهابالفنون مثل:‏ بدوا،‏ وبولونيا،‏ وبارما،‏ وفرارا.‏وقد كان للنهضة اإليطالية أسباب اقتصادية،‏ فإن الفنونال تنشأ وتزدهي بين الفقر والفاقة،‏ فالفنّ‏ الجميل نباتيحتاج لنموّه إلى روح الرفاهية ووسَ‏ ط الرخاء،‏ إن لم نقلإنه يحتاج إلى عادات الترف،‏ وذلك ألن الصورة الجميلة65


تاريخ الفنون وأشهر الصورأو التمثال الرائع ال يقتنيه إال رجل قد استراح من همومالمعاش الضروري،‏ ووجد في وقته وماله تلك السعة التيتتيح له التأنُّق وإحاطة نفسه بضروب الترف الكمالية.‏وقد كان الجزء الشمالي من إيطاليا بين القرنين الثالث عشروالسادس عشر في نهضة اقتصادية أساسها التجارة بينأوروبا والشرق،‏ فظهرت البندقية وفلورنسا وجنوه،‏ وظهرتفيها طبقة غنية تعزى إليها،‏ في ذلك الوقت،‏ رعاية الفنون.‏وقد كانت فلورنسا األولى في رعاية هذه النهضة،‏ ولكنلم يمضِ‏ وقت طويل حتى انتشر رجال الفنّ‏ في المدناألخرى التي حولها أو القريبة منها عندما كثر الرسّ‏ امونوضاقت بهم فلورنسا،‏ وأعظم المدن التي تناولت النهضةمن فلورنسا وسارت بها شوطاً‏ بعيداً‏ هي البندقية،‏ تلكالجمهورية الغنية التي ما تزال آثارها الفنية ماثلة يتمتّعبها كل زائر،‏ بل يمكن أن نقول إن منازل أغنيائها هياآلن تُحَ‏ ف عجيبة من المرمر الذي ينهض من بين الماءكأنه الجواهر،‏ ولكن قبل أن نذكر عظماء البندقية يجب أننجول جولة قصيرة في المدن الصغيرة التي انتشرت فيهاالفنون الجميلة قبل أن تبلغ البندقية وتزدهي فيها:‏ففي ‏»بدوا«،‏ حيث كانت هناك جامعة قد شرعت فيدرس اإلغريق والرومان،‏ وجد أحد الخيّاطين المدعو66


‏»سكوراتشوني«‏ أن األهالي والطلبة يعنون باآلثار ويسخونفي دفع أثمانها أكثر مما يعنون باألزياء،‏ فعمد إلى االتّجارباآلثار ومأل حانوته بالتماثيل،‏ وكان الطلبة يزورونه لكيِ يصوّروا هذه التماثيل،‏ وفي سنة 1441 ادّ‏ عى هو نفسهالرسم،‏ ودخل عضواً‏ في ‏»نقابة الرسّ‏ امين«‏ في بدوا،‏واألرجح أنه هو نفسه لم يرسم وإنما كان يغذو شهرتهبأعمال تالميذه،‏ ومن هؤالء التالميذ صبيّ‏ صغير يدعى‏»مانتنيا«‏ تبنّاه صبيّاً،‏ وما فتئ الصبيّ‏ يالحظ التماثيلِ ويقلّد الطلبة الذين يتردّدون إلى الحانوت للنقل حتىحذق الصنعة وأخذ ينقل هو نفسه هذه التماثيل ويدرسقصص اإلغريق،‏ وكان بليني ‏)األب(‏ الرسّ‏ ام المعروف قدعَ‏ رف هذا الخيّاط وصادقه ورأى من عبقريّة هذا الصبيّ‏ما أعجبه،‏ ونشأت بينهما صداقة أثمرت زواجاً‏ بين مانتنياوابنة بليني.‏واستقلّ‏ عندئذ مانتنيا وترك الخيّاط الذي تبنّاه،‏ وصاريعمل لنفسه،‏ واستدعاه البابا أنوسنت الثامن لكي ِ يزيّنجدران البلفدير بصوره،‏ وأحرز ثروة كبيرة،‏ فاشترى عقاراً‏في مدينة ‏»مانتوا«،‏ ومات فيها سنة 1506.وكان مانتنيا وثنيّ‏ المزاج للنشأة األولى التي نشأها فيدكّ‏ ان الخيّاط بين التماثيل اإلغريقية،‏ ولذلك فإنه يتناول67


تاريخ الفنون وأشهر الصورالموضوعات القديمة مثل ‏»انتصار يوليوس قيصر«،‏وأحسن رسومه صورة ‏»برناسوس«‏ التي رسم فيها رباوةبرناسوس في اليونان التي هي وطن ربّات الفنون التسعوهنّ‏ ِ يمثّلن الفنون الجميلة،‏ وعلى الرباوة فينوس أي الزهرةمع أبولو وبجانبه قوبيد الصغير ينفخ في البوق وترقصالربّات حولهم،‏ وقريب منهم وقف عطارد رسول اآللهةومعه جواده المجنَّح ينتظر وحي اآللهة للشعراء ورجالالفنّ‏ على األرض.‏ولكن،‏ يعاب على مانتنيا أن أشخاصه جامدة،‏ فهو يرسمالشخص وكأنه ينقله عن تمثال من المرمر وليس عنشخص حَ‏ يّ‏ .ومن أعظم الرسّ‏ امين الذين يصلون بين عهد فلورنسا وعهدالبندقية أو يبدؤون عهد البندقية ثالثة هم:‏ كوريجيو،‏وبليني،‏ وجورجوني.‏ أما كوريجيو فال يُعرَف إال القليلعن حياته.فقد وُلِد سنة 1494، ومات سنة 1534، وقضىمعظم عمره في مدينة بارما،‏ وكان وثنيّ‏ المزاج إلى حَ‏ دّ‏ ما،‏يحبّ‏ تصوير األساطير اإلغريقية،‏ وصورته ‏»تربية قوبيد«‏من أجمل ما خطّ‏ ته ريشة رسّ‏ ام في الخيال والصنعة،‏ وقدذكر عنه فساري أنه ‏»كان مغرماً‏ باالدّخار مثل جميع الناسالذين يحملون عبء األسرة حتى صار ِ مقتّراً‏ مبالغاً‏ في68


التقتير«،‏ ويعزو سبب موته إلى أنه حمل عبئاً‏ كبيراً‏ منالنقود النحاسية فأثقله حملها وهو سائر في الشمس،‏ حتىعطش فشرب وهو ضائق بالحَ‏ رّ‏ والجهد فأصابته حمّ‏ ىمات بها وهو في األربعين.‏أما بليني فاسم يطلق على ثالثة من الرسّ‏ امين،‏ أولهم:‏يعقوب بليني ‏)األب(‏ الذي زار الخيّاط في بدوا،‏ وزوَّجابنته بمانتنيا،‏ ثم ابناه جنتيله بليني الذي وُلِد سنة 1429،وجوني بليني،‏ ولم يكن الفرق بينهما في السنّ‏ سوىسنة أو سنتين،‏ وكان الجميع قد انتقلوا إلى البندقية التيأخذ أغنياؤها — وهم في ذلك الوقت أغنى أغنياء العالم— يستخدمون الرسّ‏ امين في تصويرهم وينقدونهم أعلىاألجور.‏والبندقية تقوم في البحر،‏ شوارعها خلجان وقنوات،‏ وهيلذلك رطبة الهواء،‏ وقد وجد الشقيقان أن طريقة الرسمالفلمنكية،‏ أي مزج األصباغ بالزيت،‏ توافق هذه المدينةأكثر من الطريقة السابقة،‏ فاصطنعاها في رسومهما فيكنائس البندقية ومجلس الدوق،‏ قال فساري يصفهما:‏‏»كان الشقيقان يعيشان منفصلين،‏ ولكن،‏ كان كل منهمايحترم اآلخر كما كانا يحترمان والدهما،‏ حتى إن كلّاً‏ منهماكان ِ يصرّح بأنه يعدّ‏ نفسه دون االثنين اآلخرين«.‏69


تاريخ الفنون وأشهر الصورولكن الصغير جوني كان أبرع في الرسم من أخيه وأبيه،‏وقد حدث أن سفير البندقية في األستانة كان قد اقتنىبعض الصور التي رسمها جوني على القماش،‏ فرآهاالسلطان محمد الثاني وأُعجِ‏ ب بها إعجاباً‏ عظيماً،‏ وطلبمن هذا السفير أن يستدعيه لكي يرسمه،‏ فأرسل السفير إلىدوق البندقية يطلب من المجلس اإلذن بسفر جوني إلىاألستانة،‏ ولكن المجلس ضَ‏ نَّ‏ بجوني وأرسل أخاه جنتيله،‏وهناك في األستانة رسم جنتيله بليني صورة محمّ‏ د الثاني،‏وعاد إلى البندقية مزوَّداً‏ بخطاب من محمّ‏ د الفاتح للدوقوللمجلس يمتدح فيه براعة الرسّ‏ ام ويوصي به،‏ وماتجنتيله سنة 1507، أمّا أخوه جوني فقد عاش بعده عشرسنوات ودُ‏ فِن في البندقية.‏ولألخوين عدّ‏ ة صورة يُعرَف منها ‏-حتى اآلن-‏ صورة‏»الدوق لورندانو«‏ رئيس جمهوية البندقية،‏ وهي لجونيبليني،‏ وصور أخرى تزدان بها كنائس البندقية ومجلسالدوق.‏وقد عَ‏ لَّمَ‏ جوني بليني طائفة بارزة في الشهرة منهمجورجوني وتسيانو المعروف عند اإلنجليز باسم تيتيان،‏وقد وُلِد جورجوني سنة 1470 ونشأ في الريف،‏ وكانوالداه يشتغالن بالفالحة،‏ وكان يجمع بين الموسيقى70


والرسم،‏ يجيد النفخ في الناي كما يجيد الغناء،‏ وكثيراً‏ ماكان يزيّ‏ ِ ن رسومه باآلالت الموسيقية،‏ وكان يقول إن الرسميؤدّي من المعاني أكثر من النحت،‏ ولكي يثبت صحّ‏ ة قولهرسم جسماً‏ عارياً‏ قد التفّت تحت أقدامه فسقية من الماءالصافي يعكس ماؤها صورة الجسم من األمام،‏ وعلى أحدالجانبين من الفسقية رسم درعاً،‏ الدرع صورة أحد جانبيالجسم ألن المعدن يعكس صورة األشياء،‏ وفي الجانباآلخر من الفسقية مرآة تعكس صورة الجانب الثاني منالجسم.‏ وله من الصور اآلن،‏ غير آثاره في البندقية،‏ ‏»صورةشاب«‏ و»صورة العذراء على العرش«.‏مات جورجوني سنة 1510 ألنه كان يحبّ‏ فتاة مرضتبالطاعون فلزمها ولم يتركها،‏ فانتقلت إليه العدوى،‏ وماتوهو في الرابعة والثالثين.‏71


تاريخ الفنون وأشهر الصورالفصل التاسعمجد البندقيةتسيانو ، تنتوريتو ، فريونيز ، مورونيكانت البندقية في وقت من األوقات أغنى دولة في العالمتكاد تحتكر التجارة بين أوروبا وآسيا وإفريقية،‏ وكان لهاأكبر أسطول.‏ ولكن،‏ ذهبت قوتها كما ذهب غناها،‏ ولميبق لها من المفاخر سوى هذه اآلثار الفنية التي تركها لهاالرسّ‏ امون.‏وأساس الفنّ‏ في البندقية هو الفنّ‏ الفلورنسي،‏ فقد أخرجتفلورنسا ِ المعلّمين الذين علَّموا البندقيين أو علَّموا منعلَّموهم.‏وإذا ذُ‏ كِ‏ رت البندقية في الفنون طار الخيال إلى تسيانو الذييسمّ‏ يه اإلنجليز ‏»تيتيان«.‏72


وُلِد هذا الرسّ‏ ام العظيم سنة أو حوالي سنة 1482، ويقال إنهبلغ التسعين من عمره وهو في خدمة البندقيين،‏ ولم تكنالبندقية بلدته األصلية،‏ فقد نشأ في قرية صغيرة على جبالاأللب،‏ وال نعرف شيئاً‏ كثيراً‏ عن طفولته أو صباه،‏ وإنمانجده حوالي سنة 1516 رسّ‏ اماً‏ معروفاً‏ في البندقية بعد وفاةجورجوني وبليني،‏ وقد تعيَّن في تلك السنة رسّ‏ اماً‏ للحكومة.‏قال فساري عنه:‏ ‏»كان جميع األمراء والعلماء واألعيان الذينيزورون البندقية يقصدون إليه … ولم يكن تسيانو عظيماً‏ فيفنّه فقط،‏ بل كان نبيالً‏ أيضاً‏ في شخصه«.‏وأعظم ما يعرف به تسيانو اآلن صورته لإلمبراطور شارلالخامس ‏»فإنه صوَّرَه عقب انتصاره في واقعة أوجسبرج،‏وكافأه اإلمبراطور بألف قطعة من الذهب،‏ وكان،‏ بعد ذلك،‏كلّما صنع له صورة كافَأه بمثل هذا المبلغ،‏ وكان تسيانو إذارسم المرأة أخرجها وسطاً‏ ناضجاً‏ في األنوثة،‏ ال هي شابةوال هي عجوز،‏ حتى في صوره الوثنية أو المسيحية.«.‏مات سنة 1576، وبلغ من إعجاب البندقيين به وحبهم لهأنهم خالفوا أوامر الحكومة التي كانت تقضي بدفن الموتىخارج المدينة لتفشّ‏ ي الطاعون،‏ ودفنوه في إحدى الكنائسالتي زَيَّنَ‏ هو نفسه جدرانها برسومه.‏وظهر البندقية بعده ‏»تنتوريتو«‏ الذي تتلمذ عليه وهو صغير،‏73


تاريخ الفنون وأشهر الصورولكن تسيانو طرده لسبب غير معروف؛ فقد روى بعضهم أنهغار منه،‏ وروى آخرون أنه كان يعصيه.‏ واألرجح أن السببالثاني هو الصحيح.‏وُلِد ‏»تنتوريتو«‏ بالبندقية سنة 1518، وكان سريعاً‏ في عمله.‏حُ‏ كي عنه أن ‏»األخوة سان روكو«‏ عرضوا على الرسّ‏ امين أنِ يقدّ‏ م كلّ‏ منهم رسماً‏ لسقف الغرفة الخاصّ‏ ة بالطعام،‏ فذهبكلّ‏ منهم إلى مرسمه يفكّ‏ ر في الرسم،‏ ولكن ‏»تنتوريتو«‏ قصدإلى هذه،‏ وقاس السقف ثم اشترى القماش ورسم الرسمعليه وذهب وعَ‏ لَّقَه،‏ فلمّ‏ ا كان اليوم المعيَّن لفحص الرسومرأى الرهبان أن ‏»تنتوريتو«‏ قد انتهى من عمله فأجازوه،‏ ولميلتفتوا إلى ما عمله اآلخرون.‏يمتاز ‏»تنتوريتو«‏ بأنه رسم أكبر صورة هي صورة الفردوسفي قصر الدوق،‏ يبلغ عرضها 84 قدماً،‏ كما يمتاز أيضاً‏ بأنهآخر الرسّ‏ امين اإليطاليين الذين عنوا برسم المواقف الدينية،‏بل يمكن أن يقال إنه بموته سنة 1594 أدّى الفنّ‏ اإليطاليمهمّ‏ ته،‏ وصار على األمم األخرى أن يتمّ‏ وا ما بدأته فلورنساوالبندقية.‏وكان يعاصر ‏»تسيانو«‏ و»تنتوريتو«‏ رجل آخر تعلَّم منهماهو ‏»بول فيرونيز«‏ الذي وُلد سنة 1588، وكان مولده فيفيرونا،‏ ولكنه قضى حياته في البندقية.‏74


وهو الذي زيَّنَ‏ قصر الدوق بجملة مناظر فخمة تتَّسم باألبّهةوالفخامة والجسامة.‏ وأحسن صوره هي صورة ‏»أسرة داراأمام اإلسكندر المقدوني«.‏وكان ‏»بول فيرونيز«‏ يحبّ‏ ملذّ‏ ات الدنيا ومسرّاتها،‏ وينقلبعض هذه المسرّات إلى رسومه،‏ حتى أدّى ذلك إلىمحاكمته أمام ‏»محكمة التفتيش«،‏ فقد كُ‏ لّ‏ ِ ف بأن يرسم‏»العشاء األخير«‏ للمسيح فما كان منه إال أن حشد الصورةبالطعام الشهي والشراب الكثير والخدم والحرير،‏ فلمّ‏ ا علمت‏»محكمة التفتيش«‏ بذلك استدعته وقنعت بتوبيخه،‏ وقدرسم بعد ذلك صورة ‏»عبادة المجوس«‏ فتوقّى فيها تلكالملذّ‏ ات التي كان هو نفسه غارقاً‏ فيها.‏ ومن أحسن صورهصورة ‏»رؤيا القدّ‏ يسة هيالنة للصليب«.‏ومن عظماء الرسّ‏ امين في البندقية ‏»موروني«‏ الذي وُلِدسنة 1520، ومات سنة 1578. وكان يجيد رسم األشخاص.‏بل يمكن أن نقول إن جميع البندقيين من الرسّ‏ امين كانوايجيدون رسم األشخاص،‏ ألن سكّ‏ ان البندقية كانوا تجّ‏ اراً‏يتنافسون في رسم وجوههم ويكافئون الرسّ‏ ام بأكبر قيمة.‏وموروني مشهور برسمه ألحد الخيّاطين،‏ وبرسم آخر ألحدالنبالء اإليطاليين.‏وقد أنجبت البندقية عدداً‏ غير قليل من الرسّ‏ امين غير هؤالء75


تاريخ الفنون وأشهر الصورمثل ‏»لوتو«‏ الذي كان يستوحي الفنّ‏ البيزنطي القديم منحيث الروح واإليمان.‏ أما من حيث الصنعة فإنه إيطالي.‏76


الفصل العاشرنهضة الفنّ‏ في ألمانيادورير ، هولبيناتّفقت النهضة الفنية في ألمانيا والنهضة الدينية،‏ ولكنهمالم تشتركا ولم تتعاونا،‏ بل سارت كل منهما في طريق،‏ونهجت إحداهما نهجاً‏ يخالف النهج الذي اتّخذتهاألخرى.‏وبعبارة أوضح نقول:‏ إن الكنيسة الكاثوليكية ساعدتالنهضة الفنية،‏ كما ال بدّ‏ أن القارئ قد الحظ ذلك بينرجال الفنّ‏ في فلورنسا والبندقية،‏ فإن معظم أعمالهم الفنيةأتمّ‏ وها بمساعدة الكنيسة البابوية التي تجيز تزيين جدرانهابالصور والتماثيل،‏ بل كانت تتسامح أيضاً‏ في نقل الصورالوثنية القديمة،‏ وال تعدّ‏ هذا كفراً.‏77


تاريخ الفنون وأشهر الصورولكن لمّ‏ ا ظهرت البروتستانتية في ألمانيا على يد لوثرسنة 1517 كان من دعوتها تطهير الكنائس من التماثيلوالصور،‏وقد كان ‏)وما يزال(‏ لصورة العذراء واإليمان بشفاعتها شأنكبير في الكنيسة الكاثوليكية.‏ والعذراء من الموضوعاتالتي توحي إلى رجل الفنّ‏ ، وتجعله ِ يصوّر األنوثة واألمومةفي شخص أمّ‏ المسيح،‏ ولكن الدعوة البروتستانتية قاومتاإليمان بالعذراء،‏ وأنزلتها من مكانتها التي لها في الكنيسةالكاثوليكية؛ ولذلك ال نجد أن الفنّ‏ يزكو في البيئةالبروتستنتية كما زكا في البيئة الكاثوليكية،‏ ويمكن ‏-معذلك-‏ أن نقول إن الفنّ‏ انتفع،‏ كما استضرّ،‏ بهذا التطبيق؛ألنه وجَّ‏ هَ‏ نظر رجاله إلى موضوعات أخرى ال تمتّ‏ إلىالدين بِ‏ صِ‏ لة.‏وقد رأينا نهضتين:‏ إحداهما في إيطاليا في مدينتي فلورنساوالبندقية،‏ واألخرى في أقاليم الفلمنك حيث عرف الرسمبالزيت.‏ والنهضة األلمانية تعتمد على النهضة الفلمنكيةأكثر مما تعتمد على النهضة اإليطالية.‏وهذه النهضة األلمانية تكاد تنحصر في رجلين هما دورير،‏وهولبين:‏أما ‏»دورير«‏ فقد وُلِد سنة 1471، ومات سنة 1528، وهو78


من أصل هنغاري،‏ وُلِد أبوه في هنغاريا،‏ ولكنه رحل إلىنورمبرج وأقام فيها منذ سنة 1471. ونشأ الصبيّ‏ شغوفاً‏بالرسم،‏ فألحقه أبوه بأحد الرسّ‏ امين وهو غير راض عنهذه الحرفة،‏ لكنّ‏ عبقريّته تفجّ‏ رت بعد مدّ‏ ة قليلة،‏ وذاعتشهرته،‏ ورحل إلى البندقية،‏ وهناك التقى بجوني بليني.‏ومما يُحكى عنه،‏ وهو هناك،‏ أن بليني أُعجب بالطريقةالتي يرسم بها الشَّ‏ عر حتى ظنّ‏ أن دورير قد اخترع ريشةخاصّ‏ ة لرسم الشَّ‏ عر.‏ فلمّ‏ ا عرف كل منهما اآلخر،‏ طلببليني من دورير أن يهدي إليه ريشة من تلك الرياش التييرسم بها الشَّ‏ عر،‏ فأخرج له دورير كل ما عنده من الرياشفإذا بها عادية.‏ فتعجَّ‏ ب بليني،‏ ولم يكد يصدق ما قالهدورير حتى رسم أمامه بإحدى هذه الريش بعض هذاالشَّ‏ عر الذي يُعجَّ‏ ب به.‏وكان في البندقية،‏ في ذلك الوقت،‏ جالية ألمانية استدعتهلكي يزخرف لها بعض األبنية الدينية الخاصّ‏ ة بها،‏ وبلغمن إعجاب البندقيين به أن عرضوا عليه ما يسمّ‏ ى ‏»حرّيّةالمدينة«‏ أي أن يكون بندقيّاً،‏ وقد عرضت عليه الفرسذلك أيضاً‏ عندما زارها.‏وأحسن رسومه صورته التي رسمها لنفسه،‏ وفيها منالسذاجة المقرونة بالكرامة ما يجعل اإلنسان يقف ِ متأمّ‏ الً‏79


تاريخ الفنون وأشهر الصورفي هذا الوجه الجميل،‏ وكذلك له رسوم أخرى ما زالتباقية مثل ‏»آدم«‏ و»حواء«‏ و»صلب المسيح«.‏وفي سنة 1518 استدعاه اإلمبراطور مكسيمليان إلىأوجزبرج فرسمَ‏ ه هو وحاشيته.‏ وقد أعلن لوثر المبادئالبروتستينية في حياته،‏ ولكنه بقي محايداً.‏ وهذا هوالسبب في أن اإلمبراطور مكسيميليان لم يجد ما يمنعه منأن يبعث في طلبه.‏ ويبدو،‏ من أخالقه وأعماله بعد ذلك،‏أنه كان بروتستنتيّاً.‏أما الرجل الثاني فهو ‏»هولبين«‏ الذي وُلِد سنة 1497،ومات سنة 1543. ولمّ‏ ا مات دورير 1528 كان هولبينشابّاً‏ ال يزيد عمره على 31 سنة يرسم في لندن،‏ ولكنهمايختلفان كثيراً؛ فإن دورير قديم ليست فيه تلك الروحالجديدة التي كانت تضطرم في صدر هولبين.‏ وهذه الروحالجديدة هي الطباعة الجديدة،‏ واكتشاف أميركا،‏ وذلكالشك العلمي الجديد الذي أخذ مكان العقائد القديمة.‏وقد نشأ هولبين في أسرة تتشغل بالرسم،‏ ولكن لم يشتهرفيها أحد.‏ وهناك من يقول إنه زار إيطاليا،‏ وليس هناك مايدلّ‏ على ذلك في تاريخه.‏والمعروف عنه أنه نزل في بازل ولوسيرن.‏ قال السيرأوربن:‏ ‏»وقد كان أستاذاً‏ في فنّه إلّا أنه كان من طراز آخر80


غير طراز دورير،‏ فكان يحترف الرسم ويبغي إتمام عملهاليومي على أكمل وجه،‏ ولكنه لم يحاول أن ِ يوضّ‏ ح للناسكيف يجب أن يعيشوا أو أن ينفذوا إلى خفايا الحياة.‏ وكانقانعاً‏ بأن يرسم ما يراه فينقله نقالً‏ صادقاً‏ رائعاً،‏ إال أنهكان حكيماً‏ يعيش في عصر الخداع والغشّ‏ ، فكان يحجمعن أن ينفذ إلى ما تحت السطح؛ فهو إذا رسم رجالً‏ مثليعقوب ماير قنع بوصف أخالقه،‏ ولكن دورير يحاول أنيطلعك على نفسه«.‏ولمّ‏ ا رأى هولبين أن النهضة البروتستنتية تحول دون رواجالرسم شرع يرسم قصصاً‏ غير دينية مثل أمثولة ‏»رقصالموت«.‏وفي سنة 1526 رحل إلى إنجلترا بدعوة من ِ السّ‏ يْرتوماس مور صاحب الكتاب عن ‏»الطوبى«‏ وهناك رسمههو وأسرته،‏ ثم اتّصل بالجالية األلمانية في لندن ورسمبعض األشخاص،‏ فأقبلوا عليه وربح منهم أمواالً‏ غير قليلة،‏ثم طمع أن يبلغ الملك هنري الثامن،‏ وكان يعتقد أن السيرتوماس مور هو الوسيلة إلى ذلك،‏ ولكن الملك غضبعلى السير توماس ألنه رفض أن يوافق على طالقه المرأته،‏فتوسَّ‏ ل إلى الملك برسم بازداره روبت تشزمان،‏ وعرفالملك بعد ذلك فقبل رسمه.‏81


تاريخ الفنون وأشهر الصوروكان في أثناء إقامته في إنجلترا يتردَّد على بازل،‏ ويرسمصور األمراء واألعيان في أوروبا.‏‏»وكما لم يكن لدورير وهولبين سلف عظيم،‏ كذلك لميكن لهما خلف عظيم،‏ واحتاجت أوروبا أن تنتظر أربعاً‏وثالثين سنة قبل ميالد رسّ‏ ام عظيم خارج إيطاليا،‏ وذلكهو روبنز«.‏82


الفصل الحادي عشرالمدرسة الفلمنكيةروبنز ، فانديكلم يكن ‏»روبنز«‏ رسّ‏ اماً‏ فقط،‏ بل كان أيضاً‏ سياسيّاً‏ يختلطببالطات الملوك واألمراء ويثقّ‏ ِ ف ذهنه بمختلف العلوموالفنون.‏ وقد نشأ في بيت من البيوتات الكبيرة؛ إذ كانأبوه جون روبنز قد تربّى في إيطاليا،‏ وعاد إلى إقليمالفلمنك موطنه األصلي،‏ وقضى معظم حياته في انفرز.‏وكان إقليم الفلمنك في ذلك الوقت خاضعاً‏ لحكم إسبانيا،‏فلقي جون روبنز اضطهاداً‏ دينيّاً‏ وسياسيّاً‏ جعله يرحل بأسرتهإلى كولونيا.‏وهناك تعرَّف إلى وليم الصامت وعرف زوجته أميرةأورانج.‏ثم زادت العالقة بينهما إلى حبّ‏ افتُضِ‏ ح أمره،‏ فحبس83


تاريخ الفنون وأشهر الصورجون روبنز ولم يطلق سراحه إال بعد أن تَمَّ‏ الطالق بينوليم الصامت وزوجته.‏ ومات بعد خروجه من السجنبزمن قليل،‏ أي في سنة 1587.وُلِد الرسّ‏ ام بطرس روبنز في وستفاليا سنة ‎1577‎؛ أي أنهكان قد بلغ العاشرة عند وفاة أبيه.‏ وعادت أمّه إلى انفرزفلم يتعلّم الصبي كثيراً،‏ ولكنه التحق بمرسم ابن عمه.‏ويجب أن نذكر هنا أنه،‏ منذ وفاة ملبوز سنة 1533، لميظهر رسّ‏ ام عظيم قبل بطرس روبنز،‏ ولم يلبث عند ابنعمه ستة أشهر حتى تركه إلى مرسم رجل آخر أشهر منهيدعى ‏»فاينيوس«.‏ وكان أحسن ما لقيه من هذا ِ المعلّمحثّه له على زيارة إيطاليا.‏ورحل بطرس إلى البندقية،‏ وعرف الدوق مانتوا،‏ فدخلفي خدمته وتمكن من زيارة فلورنسا ودرس رسومها،‏وحضر زواج ماري دي مديتشي بملك فرنسا،‏ ثم أرسلهالدوق على رأس بعثة إلى ملك إسبانيا مزوَّداً‏ بالهدايا منالجياد والرسوم.‏عاد من إسبانيا إلى إيطاليا ونزل في جنوة،‏ ثم بلغه أنأمّه مريضة في انفرز فسافر إليها سنة 1608، وكان فيهذا الوقت قد صار له شأن وذاعت له شهرة،‏ فطلب إليهاألرشدوق ألبير في بروكسل أن يترك الدكتور مانتوا لكي84


يكون رسّ‏ ام البالط.‏قَبِ‏ ل روبنز هذا التعيين،‏ ولكنه اشترط أن يكون مقامه في انفرزمدينته األصلية؛ وهناك تزوَّج بزوجته إيزابيال سنة 1609.وفي السنة الثانية وضع روبنز ترسيماً‏ لقصره شيَّده علىالطراز اإليطالي،‏ وقضى هناك اثنتي عشرة سنة وهو اليشتغل بشيء سوى الرسم.‏وهناك رسم صورتين شهيرتين هما ‏»رفع الصليب«‏و»النزول من الصليب«.‏وكان من عادة روبنز أن يستعمل تالميذه في إنجاز صوره،‏ ثميقنع هو بالمسحة أو اللمسة األخيرة.‏ وأنشأ مصنعاً‏ في انفرزلصنع الصور،‏ وقد نشأ على يديه طائفة كبيرة من الرسّ‏ امينمنهم ‏»فانديك«.‏ وفي سنة 1622 طلبت ماري مديتشيملكة فرنسا من روبنز أن يحضر لكي ِ يزيّن قصر لوكزمبرج،‏وما تزال صوره إلى اآلن ِ تزيّن جدران هذا القصر،‏ وكانتالغاية من هذه الرسوم رفع شأن أسرة مديتشي.‏ ومن أعجبما هدته إليه عبقريّته أنه صوَّر الملك هنري الرابع وهو ينظرإلى صورة زوجته نظرة اإلعجاب والعشق،‏ وحاط الصورةبآلهة الحبّ‏ .ولمّ‏ ا مات األرشيدوق ألبير استدعته زوجته لكي يكونمستشارها في بروكسل،‏ وكانت سياستها في ذلك السعي85


تاريخ الفنون وأشهر الصورفي صداقة هولندا وإنجلترا وإسبانيا،‏ والوفاق بين هذهالدول الثالث مع مجانبة فرنسا.‏ وسافر روبنز إلى الهايلكي يعقد محالفة بين الفلمنك والهولنديين سنة 1623، ثمسافر بعد ذلك إلى باريس،‏ حيث عرف الدوق بكنجهام،‏وهو الحاكم الحقيقي،‏ في ذلك الوقت،‏ إلنجلترا أيامالملك تشارلز األوّل الذي قتله الثائرون.‏ أرسله بكنجهامإلى إسبانيا لكي يجسّ‏ نبض الحكومة إذا كانت ترضىبمحاربة فرنسا التي كان هذا الدوق يكرهها لمخاصمتهللدوق ريشليو.‏وبلغ روبنز مدريد وهناك رسم الملك فيليب الرابع،‏وعرف فالسكس الرسّ‏ ام اإلسباني.‏ وكان روبنز أكبر منهبنحو 22 سنة.‏ سافر روبنز بعد ذلك موفَداً‏ من قِبَل فيليبالرابع إلى إنجلترا،‏ وهناك رسم الملك تشارلز سنة 1629،ووضع أساس الصلح بين إنجلترا وإسبانيا.‏ ومما يدلّ‏ علىكياسته أنه مهَّدَ‏ لهذا الصلح بصورة رسمها وقدَّ‏ مها هديّةلملك إنجلترا وهي ‏»بركات السالم«‏ وفيها ‏»منيرفا«‏ ربّةالحكمة تدفع الحرب إلى الوراء بينما السالم يستقبل الغنىوالسعادة وأبناءهما المبتسمين.‏ومما يحكى عنه أنه عندما بلغ لندن قال له أحد اإلنجليزالذين في البالط:‏ هل موالي السفير يلهو أحياناً‏ بالرسم؟،‏86


فأجاب روبنز:‏ كال،‏ إنما ألهو أحياناً‏ بالسفارة.‏وأنعم عليه الملك بلقب ‏»سِ‏ يْر«‏ سنة 1630، وهي السنةالتي عاد فيها إلى انفرز،‏ وكانت زوجته قد ماتت،‏ فتزوَّجفتاة صغيرة تدعى ‏»هيلين«‏ لم تبلغ السادسة عشرة.‏ وقضىبعد ذلك سبع سنوات يهنأ بالزراعة والرسم،‏ ولم ينغَّصبشيء سوى مرض النقرس.‏وكان سريعاً‏ في الرسم،‏ حتى يُحكى عنه أن الملك فيليبكلَّفه برسم جملة صور،‏ وكان رسوله يتعجَّ‏ له،‏ فقال له ذاتيوم:‏ ‏»سأرسمها كلّها بنفسي لكي ننتهي منها بسرعة«،‏وهذا يدلّ‏ على سرعة يده في الرسم وعلى أنه كان ال يوكلعنه غيره في تأدية بعض الصور.‏قال موتهور عنه يصف رسومه الطبيعية:‏ ‏»إننا ال نجد هنانزاعاً‏ بين العناصر،‏ بل نجد كل شيء يلمع بالندى والرطوبة.‏وفي األشجار بهجة تشبه بهجة األطفال ِ السّ‏ مان الذينقاموا من المائدة وشبعوا«.‏وقال أورين:‏ ‏»لقد قيل إن هناك مناظر طبيعية ِ تهدّ‏ ئ النفسِ وتسكّ‏ نها،‏ وأخرى ِ تنشّ‏ طها.‏ ومناظر روبنز هي من هذاالصنف الثاني،‏ فإنه لم يكن يتصوَّف في نظره إلى الطبيعةبل كان يقترب منها بال هيبة،‏ تحدوه كبرياء الرجل القويالذي يحترم القوّة«.‏87


تاريخ الفنون وأشهر الصورويقارب روبنز في شهرته وإن كان ‏-مع ذلك-‏ دونه‏»فانديك«‏ الذي ولد في انفرز سنة 1599. وقد تعلَّمالرسم على أيدي كثيرين أشهرهم روبنز.‏ ولمّ‏ ا بلغ رشدهكان قد برع في الرسم،‏ حتى إن سفير إنجلترا في الهايدعاه إلى زيارة إنجلترا فقصد إليها سنة 1620، ولكنهلم يمكث طويالً‏ بل عاد إلى انفرز،‏ وهناك أغراه روبنزبزيارة إيطاليا فعمل فانديك بإشارته،‏ وانتفع فانديك منهذه الزيارة،‏ فعاد وقد قويت فيه ملكة التمييز بين األلوانوالقدرة على أداء التفاصيل،‏ وسافر إلى إنجلترا حيث رسمالملك تشارلز األوّل على جواده،‏ وكان الثائرون قد استولواعلى هذه الصورة بعد أن قتلوا الملك،‏ ثم باعوها حتىوقعت في يد أمير بافاريا،‏ وبقيت هناك إلى أن اشتراهامنه الدوق مارلبرا.‏ وما زالت في بيته إلى سنة 1885 حينابتاعتها الحكومة هي وصورة ‏»العذراء«‏ لرفائيل بمبلغ87000 جنيه.‏وكان فانديك رقيق المزاج ضعيف الجسم،‏ وانغمس فيالملذّ‏ ات فلم يتحمّ‏ ل جسمه أضرارها،‏ وقد مات سنة 1641وهو في الثانية واألربعين من عمره،‏ وكان يؤمن بالخرافاتويبحث عن ‏»حجر الفالسفة«،‏ وقد أنفق في البحث عنهقوّته وماله.‏88


الفصل الثاني عشرنهضة الفنّ‏ في إسبانياإلجريكو ، فالسكس ، موريلوترجع نهضة الفنّ‏ في إسبانيا إلى إيحاء الفلمنك ثم إلىإيحاء اإليطاليين؛ وليس هذا غريباً‏ إذا عرفنا أن الفنّ‏الفلمنكي انتشر في بلجيكا وهولندا،‏ وهذه الثانية كانتمن ممتلكات إسبانيا ولم تنل استقاللها إال بعد حروبدينية طويلة.‏وكان فان إيك الفلمنكي قد زار إسبانيا في سنة 1428،وتبعه آخرون جرَّأهم على الرحلة إليها ما لقيه هو من تقديروحظّ‏ ، ثم دخلت ‏-بعد ذلك-‏ نابولي وصقلية في دائرةالممتلكات اإلسبانية،‏ فاتَّصل اإلسبان بالفنّ‏ اإليطالي.‏وكان الفنّ‏ قد ظهر في نابولي وارتقى على يد كرافاجيو89


تاريخ الفنون وأشهر الصورالذي وُلِد سنة 1569، ومات سنة 1609، وكان قد استقلّ‏بأسلوب خاصّ‏ في نقل الطبيعة كما هي،‏ فكان بذلكرائداً‏ لألسلوب التقريري أو التحقيقي في حين أن معظمالرسّ‏ امين في زمنه كانوا يقتصرون على نسخ رسوم العظماء،‏فكان هو طليعة الرقي الجديد،‏ بينما الكثرة الغالبة حولهمن الرسّ‏ امين كانوا قد انحطّ‏ وا ودخلوا في طور النسخوالقنوع بما أدّاه عظماء فلورنسا والبندقية.‏لكرافاجيو رسوم قليلة باقية أهمّ‏ ها وأبدعها صورة ‏»الغشفي الكوتشينا«،‏ ورسومه كلُّها ناصعة األلوان.‏ ولكن هذهالنصاعة لم يبلغها إال بالمبالغة في رسم الظلّ‏ ، بحيثيهمل االندغام والتدرُّج بين األلوان فيجعل النور أضوأوالظالم أحلك من حقيقتيهما.‏ وقد ورث عنه هذا النقصفالسكس.‏وانتقلت طريقة كرافاجيو إلى إسبانيا على يد ربيبرا،‏ وهورسّ‏ ام إسباني غير مشهور ِ توفّي سنة 1656. ولكن إسبانياكانت قد تأثّرت برسّ‏ ام أجنبي وُلِد في جزيرة كريت،‏ولذلك أُطلق عليه اسم ‏»الجريكو«‏ أي اإلغريقي،‏ وكانتوالدته سنة 1545 ووفاته سنة 1614، وقد زار البندقيةوتتلمذ لتسيانو،‏ وفي سنة 1575 هاجر إلى إسبانيا ونزل فيطليطلة،‏ وهناك في مدينة طليطلة وجد تلك الحركة الدينية90


التي أحدثها لويوال زعيم اليسوعيين ومنشئ فرقتهم،‏ وقدسبق أن ذكرنا للقارئ ما كان من التأثيرات المختلفة التيأحدثتها الحركات الدينية في فنّ‏ الرسم،‏ وكيف أثّرت حياةالقدّ‏ يس فرانسيس ثم حياة الراهب سافونا روال،‏ ثم ظهورالنهضة البروتستانتية،‏ واآلن نقول:‏ إن النهضة اليسوعية كانلها أثر غير صغير أيضاً‏ في فنّ‏ الرسم في إسبانيا،‏ فقدكانت الغاية من هذه النهضة مكافحة البدعة الجديدة التيأوجدها لوثر؛ أي البروتستنتية،‏ ولكن سبيل هذه المكافحةهو تطهير الكنيسة الكاثوليكية؛ ولذلك نجد أن الموضوعالذي استهوى إلجريكو فأجاد رسمه هو ‏»المسيح يطردالصيارفة من المعبد«،‏ وهذه الصورة أشبه ما تكون بالرمزلنهضة لويوال الذي يريد أن ِ يطهّر الكنيسة كما أراد المسيحأن ِ يطهّر المعبد من المرابين.‏وإذا ذُ‏ كِ‏ رت إسبانيا من ناحية الرسم خطر بالبال ‏»فالسكس«‏أعظم رسّ‏ اميها،‏ بل من أعظم الرسّ‏ امين في العالم،‏ وقد وُلِدفي إشبيلية سنة 1599 وكان أبوه برتغاليّاً‏ وأمّه إسبانية،‏فلمّ‏ ا بلغ الرابعة عشرة دخل مرسم رجل رسّ‏ ام غير مشهوريدعى ‏»هريرا«‏ لم يبق عنده إال بضعة أشهر ثم تركه إلىرجل آخر أشهر منه يدعى ‏»باشيكو«،‏ فبقي هناك يتتلمذعليه نحو خمس سنوات،‏ وتزوَّج سنة 1618 ابنته،‏ فعمل<strong>91</strong>


تاريخ الفنون وأشهر الصورباشيكو على مساعدته وتقديمه وإذاعة اسمه.‏وكان من مواتاة الظروف لفالسكس أن ارتقى العرش،‏سنة 1621، فيليب الرابع واستوزر الكونت أوليفاريز،‏ وكانوالد هذا الكونت حاكماً‏ على إشبيلية،‏ وفيها نشأ ابنه،‏فلمّ‏ ا صار وزيراً‏ أخذ الرسّ‏ امون في إشبيلية وغيرهم منطلّاب المصالح والمناصب يتقدّ‏ مون إليه بحقّ‏ االشتراكفي االنتساب إلى مدينة إشبيلية،‏ وقصد فالسكس إلىمدينة مدريد سنة 1623، وهناك سعى له الكونت أولفاريزحتى اقتنع الملك بأن يقعد له حتى يرسمه.‏ومن ذلك الوقت ذاعت شهرة فالسكس،‏ وصادقه الملكوأحبَّه وجعله رسّ‏ ام البالط وعمره وقتئذ لم يكن يتجاوز24 سنة،‏ وعمر الملك 18 سنة،‏ وكان الملك يزوره كل يومفي غرفته بالقصر،‏ وكان قد جعل هذه الغرفة مرسماً‏ يرسمفيه الملك وسائر أعضاء األسرة والنبالء.‏وفي سنة 1628 زار روبنز مدريد وعرف فالسكس الذيانتفع بنقده ونصيحته،‏ وخصوصاً‏ عندما نصح له بزيارةإيطاليا التي كانت،‏ في ذلك الوقت،‏ محجّ‏ رجال الفنّ‏يقصدونها لمشاهدة نفائس المدن في عواصمها الكبرى،‏وانصاع فالسكس لنصيحته ورحل إلى إيطاليا حيث زارالبندقية ورومية ونابولي،‏ ثم عاد إلى مدريد واستأنف92


أعماله في القصر.‏وعاد سنة 1649 إلى زيارة إيطاليا ثم رجع إلى مدريدبعد أن شاهد معظم الصور الفنية واشترى طائفة كبيرة منهاللملك.‏ فتمَّ‏ ت بذلك تربيته ونفذت بصيرته إلى دقائق لميكن يلتفت إليها في أوّل نشأته.‏وفي عالم الرسم اثنان،‏ كلّ‏ منهما شغف بإحدى الصورهما:‏ رمبرانت الهولندي الذي شغف برسم صورته وتركمنها عدداً‏ كبيراً‏ ما يزال ‏-حتى اآلن-‏ ِ يزيّن المتاحفوالقصور،‏ وفالسكس الذي شغف برسم الملك فيليبالرابع حتى إنه ما يزال من رسومه ‏-حتى اآلن-‏ 26 رسماً،‏غير ما أضاع الحريق منها.‏قال أوربن:‏ ‏»يمكننا أن نعرف ثمرة هذا اإلكباب على رسمأنموذج واحد في فالسكس،‏ وذلك بمشاهدة هذه الرسومالتي قدَّ‏ رت له أن يدرك ما يدركه في النهاية كلّ‏ رسّ‏ ام،‏وهو أنه إذا أراد أن يتفوَّق فإنما سبيل هذا التفوُّق ال يكونفي موضوع الرسم بالذات،‏ وإنما في طريقة المعالجة لهذاالموضوع.‏ ولم يكن فالسكس ينشد وحيه أو إلهامه فيطرافة الموضوع الجديد،‏ وإنما كان ينشدهما في الدأبالمتواصل في زيادة الفحص وترقية الرسم لشيء سبق أنرآه«.‏93


تاريخ الفنون وأشهر الصوروكانت عالقة الرسّ‏ ام بالملك عالقة الصداقة واالحترامالمتبادل،‏ حتى كان يلزم أحدهما اآلخر وتسقط بينهماالتكاليف التي توجبها عادات البالط،‏ وكانت سلواهماالرسم والصيد واقتناء الخيول والكالب.‏من أحسن الصور التي رسمها صورة وليّ‏ العهد كارلوسالذي لم يعش إلى أن يرتقي عرش إسبانيا،‏ وقد رسمهفي هيئة ملوكية وهو قابض على العصا،‏ ولكنه مع ذلكأضفى عليه مسحة الطفولة التي ِ تحبّبه إلى كل من يرى هذهالصورة الفريدة.‏ ومن رسومه الفريدة صورة ‏»إيزوب«‏ التيِ تمثّل فليسوفاً‏ قد أنهكه الدرس والفقر فهو ِ سيّئ اللباسمشعَّث الشَّ‏ عر قد تغضَّ‏ ن وجهه وبرزت عظامه وذهبتعن عينيه لمعة الشباب.‏ ولعلّه صوَّر فيها أحد أصدقائهالكثيرين المفلوكين الذين كان يعرفهم قبل أن يرتقي إلىمعرفة الملك.‏وتعيَّن بعد ذلك ‏»مارشال القصر«‏ فكان يؤدّي أعماالً‏كثيرة جعلته يهمل الرسم.‏ وفي سنة 1659 كان الكردنالمازران الفرنسي قد عقد صداقة جديدة بين فرنسا وإسبانيابعقد الزواج بين لويس الرابع عشر وماري تيريز اإلسبانية،‏وحضر فالسكس هذا الزفاف،‏ وكان عليه أن ِ يهيّئ جميعما تتطلّبه األبّهة الملوكية،‏ فأنهكه العمل،‏ فلمّ‏ ا عاد إلى94


مدريد في السنة التالية سنة 1660 مات.‏وأعقبت وفاته فترة من ‏»الجاهلية«‏ في إسبانيا ترجع إلىسيادة رجال الدين الذين ما زالوا سائدين حتى نُسِ‏ ياسم فالسكس.‏ ولكن منذ خمسين سنة أخذ هويسلر فيإنجلترا،‏ ومانيه في فرنسا يشيدان بذكر فالسكس وكأنماقد اكتشفاه،‏ فبُعِثت شهرته من جديد.‏وتُعرَف إسبانيا برسّ‏ ام آخر هو دونَ‏ فالسكس،‏ ولكنه علىشيء من النبوغ الذي يجعل لرسومه بعض القيمة حتىاآلن،‏ وهو ‏»موريلو«‏ الذي وُلِد سنة 1600 ومات سنة1667، وقد نشأ أيضاً‏ في إشبيلية وسافر إلى مدريد وانتفعبمعرفته لفالسكس،‏ ثم عاد إلى إشبيلية،‏ وهناك رسمتلك الرسوم التي ِ تمثّل الطبقات المنحطّ‏ ة مثل الشحّ‏ اذينوالفقراء ونحوهم.‏ومن أشهر رسومه ‏»اثنان يأكالن الشمّ‏ ام والعنب«،‏ وهيِ تمثّل حالة إسبانيا االجتماعية في ذلك الوقت،‏ حالة القوّةفي الدولة والضعف في األمّة؛ فكانت الدولة مشهورةبالغنى والسالح والحروب،‏ واألمّة تتمرّغ على ترابالفقر،‏ كما له صورة أخرى هي ‏»حمل العذراء«‏ وهيِ تمثّل السذاجة والحالوة في العذراء التي تتطلَّع إلى فوقبنظرة ممزوجة من الدهشة واألمل،‏ وقد اشترت الحكومة95


تاريخ الفنون وأشهر الصورالفرنسية هذه الصورة سنة 1852 بمبلغ 23400 جنيه.‏ولم يظهر في إسبانيا رسّ‏ ام آخر بعد ‏»فالسكس«‏و»موريلو«‏ إال بعد مضيّ‏ نحو مئة،‏ سنة وهو ‏»جوبا«‏الذي سنذكره بعد.‏96


الفصل الثالث عشرفنّ‏ الرسم في هولنداهالز ، رمربانتظهر الرسم في هولندا بعد أن أينع في إقليم الفلمنك.‏وكانت هولندا قد أوشكت على الخراب أمام النوازلالتي أنزلتها بها إسبانيا.‏ ولم تكن هذه النوازل مما يهونعلى أمّة أن تكابدها وتبتسم للدنيا،‏ وخصوصاً‏ إذا عرفناأن الهولنديين كانوا أمّة صغيرة واإلسبان في ذلك الوقتِ يؤلّفون إمبراطورية كبيرة؛ ولذلك نجد حياة الهولنديينمصوَّرة في رسوم ‏»فرانز هالز«‏ التي تبدو وعلى الوجوهمسحة القلق والغمّ‏ واالضطراب.‏ وهذه هي المدّ‏ ة التي كانالكفاح فيها شديداً‏ بين الهولنديين واإلسبانيين،‏ والخاتمةمجهولة.‏ ولكن،‏ بعد أن انتصر الهولنديون واضطرّت إسبانيا97


تاريخ الفنون وأشهر الصورإلى االعتراف باستقاللهم نجد الوجوه في رسوم ‏»هالز«‏قد استبشرت وانطلقت،‏ والفنّ‏ هو مرآة الحياة.‏والمعروف عن ‏»فرانز هالز«‏ أن أباه خرج،‏ أو فرَّ‏ بأسرته منهارليم،‏ المدينة الهولندية المشهورة،‏ واإلسبان يحاصرونها،‏إلى مدينة انفرز البلجيكية.‏ولوال فراره لمّ‏ ا عرف العالم هذا الرسّ‏ ام،‏ فإن اإلسبانعندما دخلوا المدينة ذبحوا السكّ‏ ان،‏ وهناك في انفرز وُلِدله ‏»فرانز هالز«‏ سنة 1580.وال يُعرَ‏ ف متى رجعت أسرة فرانز هالز إلى هارليم وال كيفتعلَّم الرسم،‏ وإنما هناك بضعة حوادث تثبت أنه كان فيسنة 1616 مقيماً‏ في تلك المدينة وله زوجة قد شكته إلىوالة األمور ألنه أساء معاملتها،‏ وأنه قد طُ‏ لِب إليه رسمياً‏ أنيكفّ‏ عن اإلساءة إلى زوجته ويتجنَّب مخالطة السكّ‏ يرين.‏وقد ماتت الزوجة بعد هذه الشكوى بقليل.‏وال يمكن أن يتحقّق اإلنسان من مقدار التبعة التي تحمّ‏ لها‏»فرانز هالز«‏ في هذه الحادثة،‏ ولكن،‏ يجب أال ننسى أنتهمة اإلدمان ال تتّفق وإجادة الرسم،‏ فإن اليد المرتعشة،‏والذهن المخبول،‏ ال ِ يهيّئان الرسّ‏ ام ألن يكون عظيماً،‏ وقدتزوَّج ‏»هانز«‏ بعد ذلك وعاش مع زوجته الثانية خمسينسنة دون شقاق أو خصام،‏ وممّ‏ ا يدل على أنه كان رجالً‏98


محترماً‏ أنه تعيَّنَ‏ وهو في الرابعة والستين رئيساً‏ لنقابةالرسّ‏ امين في هارليم،‏ ولكن الذي ال يمكن إنكاره أنه كانيحبّ‏ الشراب ومجالسة اإلخوان؛ وهذا واضح من بعضرسومه التي يمثّ‏ ِ ل فيها النور في تشرّدهم ولعبهم،‏ كمايمثّ‏ ِ ل،في رسوم أخرى،‏ العازفين في الشوارع.‏ ثم حدثتله أزمات مالية آخر حياته تثبت تبذيره،‏ فقد حجز عليهالخبّاز سنة 1652، وبعد عشر سنوات ضاق بعيشه حتىطلب من المجلس البلدي أن يتصدّ‏ ق عليه،‏ فدفع له 150فلورينا.‏ وبعد سنتين عَ‏ يَّنَ‏ له معاشاً‏ سنويّاً‏ قدره 200 قطعةمن الذهب.‏وقد بدأ حياته الفنية في عاصفة الحرب الوطنية التي شرعتفيها هولندا قبل أن يولد بنحو 12 سنة والتي استمرت مدّ‏ ةطويلة في حياته،‏ ورأى بعينيه االستقالل يتحقّق لبالده،‏والحرّيّة تُنتَزع انتزاعاً‏ من اإلسبان فتأثّر فنه بذلك.‏ومن أحسن الصور التي رسمها صورة ‏»الفارس الضاحك«‏وهي ِ تمثّل فارساً‏ هولنديّاً‏ قد ارتسم على محيّاه االستبشارواالبتسام،‏ وذلك عندما حالت األحوال واتَّضح للهولنديينأن النصر سيكون حليفهم.‏ ومن أحسن رسومه أيضاً‏ صورة‏»المربّية مع الطفل«‏ وقد أوشك الطفل أن ينفجر بالضحك،‏ومثل هذه الصورة ال يمكن أن يرسمها رجل سكّ‏ ير يعقّ‏99


تاريخ الفنون وأشهر الصورأوالده كما يتوهَّ‏ م اإلنسان من شكوى زوجته األولى.‏ومات ‏»فرانز هالز«‏ سنة 1666، وهو في مقدّ‏ ِ مة الرسّ‏ امينالهولنديين ال يبزّه سوى ‏»رمبرانت«.‏ قال أوربن:‏ هناكفرق أوّلي بين هالز ورمبرانت هو أن هالز قضى معظمعمره في زمن الحرب،‏ أما رمبرانت فقد بلغ فنّه النضوج،‏وأتمَّ‏ معظم رسومه بعد عقد الصلح؛ ولذلك عاش هالزفي وسط الحياة النشيطة ِ المتحرّكة التي ال تتيح للناسالتفكير والهدوء،‏ وقد نقل صورة هذه الحياة في رسومه،‏أما رمبرانت فقد أمضى عمره بعد شبابه في عصر السالموالهدوء عندما أتاحت الظروف لهولندا أن يكون لها منالفراغ ما ِ تفكّ‏ ر فيه،‏ وتتأمَّل عظمة استقاللها الذي نالتهكما أتيحت ‏-أيضاً-‏ مسائل حياتها،‏ ويمكن أن نقول إنهالز كان ِ يمثّل فروسية هولندا ونشاطها،‏ بينما رمبرانتِ يمثّل عمق تفكيرها.‏وُلِد ‏»رمبرانت«‏ سنة 1607 في مدينة ليدن،‏ وهي مدينةهولندية كبيرة تمتاز بجامعة كبيرة،‏ وكان أبوه يريد أن ِ يعلّمهفي الجامعة،‏ ولكن الصبيّ‏ لم ِ يؤهّ‏ ل نفسه لذلك،‏ فإنهقضى معظم وقته في المدرسة وهو يرسم الرسوم المختلفةعلى هوامش الكتب وال يؤدّي شيئاً‏ من واجباته المدرسية،‏فأخرجه أبوه وألحقه بمرسم أحد الرسّ‏ امين،‏ الذي لم يبقَ‏100


عنده إال قليالً‏ ريثما يتقن الصنعة،‏ أما الفنّ‏ فقد كان يعرفهبسليقته وقوّة بصيرته.‏وفي سنة 1631 انتقل ‏»رمبرانت«‏ من ليدن إلى أمستردام.‏وهناك عرف أسرة غنية طلبت منه أن يرسم صورة فتاةتدعى ‏»ساسكيا فان أولينبورج«،‏ فرسَ‏ مها،‏ وتبادل االثنانالحبّ‏ وتزوَّجا سنة 1634. وقد عاش االثنان في هناء مدّ‏ ةطويلة،‏ وكان هذا الحبّ‏ المتبادل الذي هو أساس السعادةبين الزوجين موفوراً‏ بينهما،‏ بل من ينظر إلى رسم الزوجةوهي قاعدة على رِ‏ جْ‏ ل زوجها يتمالكه الشعور بذلك السرورالذي يجمع بينهما.‏ وكان لزوجته دخل يستعين به علىتحقيق الرفاهية التي كان يحبّها،‏ وكان هو نفسه كثير الربحمن رسومه،‏ وقد أثّث منزله وزيَّنه بأفخر الرياش والتحف،‏مما يدلّ‏ على هناء الحياة الزوجية الذي كان يشعر بهويستزيد منه،‏ ولكن هذا الهناء لم يدم فقد ماتت زوجتهبعد أن مات له ولدان منها،‏ ولم تترك سوى ولد واحدهو ‏»تيطس«‏ الذي ما تزال صورته تُرى ‏-حتى اآلن-‏ فيلندن.‏ وقامت منازعات بشأن ميراث زوجته بينه وبين أهلزوجته عقب وفاتها؛ فقد أغاظهم منه زواجه بالخادمة.‏ومات ابنه ولم يترك سوى طفلة وُلِدت بعد وفاته،‏ فعاش‏»رمبرانت«‏ بعد ذلك يعاني صنوف الفاقة،‏ وأعلن إفالسه101


تاريخ الفنون وأشهر الصورلكثرة ديونه التي كان يقع فيها حتى في أيام الرخاء األولىمع زوجته األولى،‏ ويدلّ‏ على ذلك أنه عندما ماتت أمّهوورث منها نصف طاحون احتاج إلى أن يتهارب منالدائنين بتنازله عن حقّه ألخيه.‏مات في سنة 1669 وهو وحيد فقير،‏ ومن أشهر رسومهصورة ‏»العجوز«‏ التي صوَّر فيها الشيخوخة وأحاطهابمعاني الحبّ‏ واالحترام والرقّة،‏ أما غرامه بنفسه فكانكبيراً‏ جدّ‏ اً‏ حتى أنه رسم نفسه عدّ‏ ة مرّات في أعمارمختلفة،‏ وأحسن ما فيه أنه ينقل العاطفة ِ ويعبّر عن الفكرالمستتر وراء الوجه؛ وهذا واضح في جميع صوره.‏102


الفصل الرابع عشرهولندا في القرن السابع عشرجرياردو ، دوهوش ، فرمري ، وطر ، جوب ،هوبيما ‏،دي فلتعُ‏ قِدت معاهدة مونستر سنة 1648 بين إسبانيا وهولندا،‏وبها استقلّت هولندا وزال عنها كابوس االضطهاد اإلسباني،‏فسارت في طريق الرقي االقتصادي والفني،‏ ولم يمضِ‏عليها نحو قرن حتى صارت من أكبر القوى البحريّة فيالعالم.‏وعمَّ‏ الرخاء األهالي،‏ وبعمومه دخل الفنّ‏ في طور جديد منحيث نزعته وبواعث رجاله؛ فقد كان في أوروبا - وحتىاآلن - ِ يصوّ‏ ر حياة العظماء من ملوك وأمراء،‏ أو كان رجلالفنّ‏ يستخدم ريشته في رسم جدران الكنائس أو تزيين103


تاريخ الفنون وأشهر الصورالقصور بالحوادث التاريخية؛ وذلك ألن الكنيسة والبالطكانا يستأثران بالسلطان المادّي والسلطان السياسي.‏ ولكنهولندا أزالت هذين السلطانين إذ ألغت البابوية كما ألغتالملوكية فصارت بروتستانتية كما صارت جمهورية؛ ولهذانجد أن الفنّ‏ الهولندي في القرن السابع عشر ِ يمثّل الحياةالعادية أكثر ممّ‏ ا يمثّل حياة العظماء.‏ أما الحياة اإلكليريكيةأو حياة القدّ‏ يسين التي نراها في إيطاليا فال نجد ما ِ يمثّلهافي هذا الوقت في هولندا.‏وقد كان لهذا التطوّر في الفنّ‏ الهولندي ربح وخسارة:‏أما الربح فهو دخول الفنّ‏ في ميادين جديدة من حياةاألمّة وتمثيله ألحوال معايشها المختلفة في الريف والحضروالبرّ‏ والبحر،‏ وأما الخسارة فترجع إلى أن رجل الفنّ‏ وجد‏-باالختبار-‏ أن الجمهور والعامّة يحبّون الصنعة أكثر ممايحبّون الفنّ‏ ؛ وذلك ألن الصنعة يسهل على العامّي أنيفهمها؛ ألنها ال تزيد على أن تكون تدقيقاً‏ في نقل األصلالطبيعي،‏ أما الفنّ‏ فيحتاج إلى خيال الرسّ‏ ام الذي يصعبعلى العامّي أحياناً‏ أن يفهمه؛ وهذا هو عين ما نجده فياألدب.‏ فاألديب الكبير ال يبالي بالصنعة مقدار ما يبالي بهااألديب الناشئ الذي يُعنى باأللفاظ والتزويق والبهرجة،‏في حين أن لألوّل من ثقافته وهمومه الذهنية ودراساته104


المختلفة ما يلفت نظره إلى ما هو أهمّ‏ من هذه الفسيفساءاللفظية يفهمها العامّي ويعجب بها ويتذوّق أسلوبها أكثرمما يستطيع فهم ما يكتبه األديب الكبير.‏وكذلك الحال في فنّ‏ الرسم؛ فالعامة ال يمكنها أن تفهمالفنّ‏ اإليطالي الراقي أو فنّ‏ رمبرانت،‏ ألن خيال الرسّ‏ امينالذين أدّوا تلك الرسوم السامية التي ما تزال ‏-إلى اآلن-‏تزيّ‏ ِ ن المتاحف والقصور والكنائس كان من السموّ‏ كماكانوا هم أيضاً‏ من الثقافة،‏ بحيث يتجاوز خيالهم أذهانالعامّة،‏ وكانت الطبقات الراقية من الكهنة والعظماءالمتعلّ‏ ِ مين يفهمونهم ويساعدونهم.‏أما الديموقراطية الجديدة،‏ ديموقراطية العامّة،‏ فلم تفهمهمفي هولندا؛ ولذلك تغلبت الصنعة على الفنّ‏ وأخذ النقلالساذج المتقن من الطبيعة مكان الخيال واالختراع.‏وهذا النقل المتقن يصوّ‏ ِ ر لنا حياة الهولنديين في القرنالسابع عشر ولكنه ال يلهمنا،‏ فنحن نكاد نرى فيه صوراً‏فوتوغرافية متقنة،‏ فإذا نظرت إلى طائر رسمه أحد هؤالءالرسّ‏ امين ألفيت كل ريشة فيه قد رُسِ‏ مت بألوانها وظاللألوانها كأنك ترى األصل،‏ ولكنك تقف عند هذه الحقيقةوال تعدوها إلى الخيال،‏ وليست هذه غاية الفنّ‏ .ولذلك نرى في القرن السابع عشر في هولندا طائفة كبيرة105


تاريخ الفنون وأشهر الصورمن صغار الرسّ‏ امين مثل ‏»جيراردو«‏ الذي وُلِد سنة 1613،ومات سنة 1675. ومن أحسن رسومه صورة ‏»بائعةالدجاج«‏ نعني لحم الدجاج،‏ ألن األوروبيين ال يشترونالدجاج حيّاً‏ ويكلّ‏ ِ فون أنفسهم مشقّة ذبحه في البيوت.‏ومنهم ‏»بطرس دوهوش«‏ الذي وُلِد سنة 1629، وماتسنة 1677، وله ميزة على أقرانه من حيث اهتمامه بتصويرالنور عندما تقع أشعّته على أنحاء الغرفة،‏ ويتَّضح ذلكللقارئ من رسمه الذي يمثّ‏ ِ ل فيه غرفة في منزل هولنديفيها فتاة ‏»التارنة«‏ تقرأ في ضوء الشمس الذي ينسكبعلى جدار الغرفة من النوافذ.‏ومنهم ‏»مومير«‏ الذي وُلِد سنة 1632، ومات سنة 1675.وكان يمتاز بالدقّة في تصوير األلوان.‏ ومن أحسن رسومه‏»رأس فتاة«؛ وفي هذا الرسم من حالوة الصبا وبزوغالشباب ما يجعل الصورة ذكرى لمن يراها،‏ وهي تفوقعصره في الفنّ‏ والخيال.‏ومنهم ‏»بول بوطر«‏ الذي وُلِد سنة 1625، ومات سنة1654، ويمتاز بما له من الرسوم الريفية.‏ وهولندا بالدتُعنى بالزراعة من زمن قديم بل هي ‏-اآلن-‏ أعظم أمّة فيالقدرة على استغالل األراضي وأقدر أمّة على استخراجالحاصالت الزراعية،‏ ولذلك كان من الطبيعي أن يُعنَى106


رسّ‏ اموها بتصوير حياتها الريفية.‏ أحسن رسوم ‏»بوطر«‏ هورسمه ‏»العجل«،‏ وهو عجل أوروبي بارد،‏ إذا تأمَّلته خُ‏ يّ‏ ِ لإليك أنه يجترّ،‏ فليس فيه شيء من معاني الفحولة.‏وممن رسموا الماشية في هولندا ‏»ألبرت جوب«‏ الذيوُلِد سنة 1620، ومات سنة 16<strong>91</strong>، وله مناظر ريفية مثلمنظره ‏»عند النهر«.‏ومن عظماء الرسّ‏ امين في هذا القرن ‏»مندرت هوبيما«‏الذي وُلِد سنة 1638، ومات سنة 1709. وهو ينزع إلىشيء من الخيال يميزه عن سائر الرسّ‏ امين الهولنديين فيذلك الوقت،‏ ورسومه عن الطبيعة من أبدع ما خلَّفه منالتحف الفنية.‏ وأحسن رسومه ‏»الطريق«،‏ وقد كانترسومه وحياً‏ للمدرسة اإلنجليزية التي عُ‏ نِيت برسم الطبيعةواألشجار واألنهار والجبال.‏ وهنا يجب أن نالحظ أن حبّ‏الطبيعة والريف والرياضة الخلوية نشأ في األمم الشمالية،‏حيث الطبيعة ‏-في الجمال-‏ دون ما هي عليه عند األممالجنوبية مثل إيطاليا أو إسبانيا،‏ فالرياضة البدنية الخلويةهي من المخترعات اإلسوجية أو اإلنجليزية أو األلمانية،‏وحبّ‏ الطبيعة والدعوة إليها هما أيضاً‏ من خصائص أهلالشمال في أوروبا.‏ هذا مع العلم بأن السماء أصحى فيالجنوب مما هي عليه في الشمال،‏ والطبيعة أزكى نباتاً‏107


تاريخ الفنون وأشهر الصوروحيواناً‏ في الجنوب أيضاً،‏ وكذلك الفنّ‏ فقد نحا نحوالطبيعة في الشمال في هولندا أو إنجلترا،‏ وال ترى هذاالنحو عند رجال الفنّ‏ في جنوب أوروبا،‏ وتكاد توهمناهذه الشواهد بأننا نحبّ‏ الطبيعة والريف والشمس والصحوبمقدار ابتعادنا عنها،‏ فنتخيّلها في الرسم،‏ ونتغنّى بها فياألدب،‏ وننزع إليها في الرياضة،‏ أما إذا كنا نعيش بينهاونالبسها في حياتنا فإننا ال ِ نقدّ‏ رها وال نهيم بها.‏وكما كانت هولندا أمّة زراعية كذلك جاء عليها وقت كانتفيه أمّة بحريّة كبيرة كادت تنازع إنجلترا سيادة البحار.‏ولذلك نجد أن الفنّ‏ الهولندي قد تناول موضوع الحياةالبحريّة.‏ وأشهر من قام بذلك ‏»فان دي فلت«‏ الذي وُلِدسنة 1633، ومات سنة 1707، فقد صوَّر البحر في سكونهوهياجه،‏ وأشهر رسومه صورة ‏»العاصفة«‏ التي ِ تمثّلالكفاح بين األمواج والملّاحين.‏108


الفصل الخامس عشرنهضة الفنّ‏ في فرنساواطو ، بوشيه ، شاردن ، فراجونار ، جروزظهر فنّ‏ الرسم في فرنسا في القرن السابع عشر وقد نزعنزعتين:‏ إحداهما نزعة ديموقراطية تمت إلى الفلمنكيينوالهولنديين،‏ ويُعنى بها الرسّ‏ ام برسم أحوال الطبقاتالوسطى والفقيرة،‏ واألخرى نزعة أرستقراطية ترتبطباإليطاليين،‏ ويُعنى بها الرسّ‏ ام برسم حياة العظماء والملوكوتزيين القصور.‏وأعظم الرسّ‏ امين الفرنسيين في القرن السابع عشر هو ‏»أنطونواطو«‏ الذي وُلِد سنة 1683، ومات سنة 1721. وكانمولده في فالنسين قريباً‏ من الحدود الفرنسية الفلمنكية.‏ولمّ‏ ا حاول أن يتعلّم الرسم رفض أبوه أن يساعده ألنه109


تاريخ الفنون وأشهر الصوركان يرغب في أن ينشأ نجّ‏ اراً‏ مثله،‏ ولمّ‏ ا بلغ التاسعة عشرةفَرَّ‏ إلى باريس،‏ وهناك عرف أحد التجار الذي يتَّجرونبالصور الدينية فاشتغل عنده بنقل هذه الصور،‏ ولم يكنالطبع بالحجر قد عُ‏ رِ‏ ف بعد،‏ فكانت الصور تُرسَ‏ م باليد.‏ويُحكى عنه في ذلك الوقت أنه قصد إلى غرفته التي يأويإليها على سطح أحد المنازل ومعه قماشه وريشته وأصباغه،‏ولكنه نسي صورة ‏»القدّ‏ يس نقوال«‏ الذي كان عليه أنينقلها،‏ وجاءت زوجة التاجر تحمل معها هذه الصورة إليه،‏ولكنها عندما بلغت غرفته وشرعت في توبيخه ألنه نَسِ‏ يَ‏األنموذج الذي ينقل منه،‏ حانت منها التفاتة فرأت أنه قدرسم صورة هذا القدّ‏ يس معتمداً‏ على ذاكرته فقط،‏ ولمينس شيئاً‏ من التفاصيل،‏ لكنه ترك هذا العمل الذي يشبهالسخرة واشترك مع رسّ‏ ام آخر يدعى جيلو،‏ إلّا أنهما افترقاألن جيلو رأى أن شريكه أبرع منه في الرسم،‏ وعرف فيذلك الوقت أمين قصر لوكزمبرج،‏ فصار يتردَّد إليه،‏ يرسمما حوله من األشجار ويدرس ما في جدرانه من الرسومالتي زيَّنه بها روبنز،‏ وفيها وصف حياة ماري دو مدسيس‏)مديتشي(.‏تشبَّعَ‏ ‏»واطو«‏ برسوم روبنز،‏ حتى أثّر بذلك في الفنّ‏الفرنسي فجعله يتَّجه نحو الطريقة الفلمنكية الهولندية بدالً‏110


من االتّجاه نحو إيطاليا.‏ ومن أحسن رسومه،‏ في ذلكالوقت رسمه ‏»السيدة تلبس مالبسها«.‏وكان يحنّ‏ إلى رؤية إيطاليا،‏ محج الرسّ‏ امين في كل وقت،‏ورغب في أن ينال الجائزة المالية التي تمنحها األ كاديميةلكي يسافر بها إلى إيطاليا،‏ وكان قد سافر إلى بلدته،‏وهناك أدّ‏ ى بضعة رسوم ِ تمثّل حياة الجيش،‏ فأخذ لوحتينكبيرتين من هذه الرسوم وتوسَّ‏ ل بالرجاء إلى أن عُ‏ ‏ِلّقتا علىجدران األكاديمية.‏ وحدث أن أحد األعضاء وهو المسيودوال فوس رآهما وأُعجِ‏ ب بهما،‏ فسأل عن الرسّ‏ ام وتعرَّفإليه،‏ فلمّ‏ ا بثَّه ‏»واطو«‏ دخيلة سرّه وأنه يرغب في أن يظفربالجائزة لكي يسافر بها إلى إيطاليا أجابه المسيو دوالفوس بأنه ليس في حاجة إلى ذلك ألنه يحسن الرسمكاإليطاليين إن لم يفضلهم،‏ وسعى له حتى جعله عضواً‏معه في األكاديمية.‏ وكان هذا خيراً‏ من الجائزة،‏ ألنه أذاعشهرته فأقبلت عليه الدنيا وراجت رسومه.‏ ولكنه لم يتمتَّعكثيراً‏ بهذه الشهرة،‏ فقد كان مصاباً‏ بالدرن الذي تفشّ‏ ى فيرئتيه أيام البؤس األولى،‏ فلمّ‏ ا كان في السابعة والثالثينساءت حاله فكان ال يستطيع العمل إال قليالً‏ ، وكان يحبّ‏العزلة واالعتكاف،‏ وهما من الصفات الذهنية التي يحدثهاالتدرُّن في نفس المصاب به،‏ وخطر له أن يسافر إلى111


تاريخ الفنون وأشهر الصورإنجلترا سنة 1719، وهناك لَقِي توفيقاً،‏ ولكن الجو القائموالرطوبة أثّرا في صحّ‏ ته فعاد إلى فرنسا وقد تبدَّ‏ لت نفسه،‏فصار يكبّ‏ على الصالة وقراءة األناجيل وينتظر الموت.‏وكان قد آوى إلى كوخ في قرية صغيرة تدعى نوجان أقامفيها إلى أن مات سنة 1721. وكان آخر ما أدّاه من الرسومرسم ‏»صلب المسيح«.‏ومن الرسّ‏ امين في ذلك العصر ‏»بوشيه«‏ الذي وُلِد سنة1703 ومات سنة 1770، وقد نال جائزة األكاديمية وهوفيما يقارب العشرين من العمر.‏ وقد عرف تلك المرأةالجميلة المدام دو بومبادور وأتحفها بطائفة كبيرة منرسومه،‏ كما أنه ابتدع بدعة جديدة في األلوان،‏ وهوأن يتخفّف منها كلّها فلم يستعمل األلوان الصارخة التيكانت شائعة في زمنه.‏ومن رسّ‏ امي ذلك العصر أيضاً‏ ‏»شاردن«‏ الذي وُلِد سنة1699، ومات سنة 1779. وكان ديموقراطي النزعة ينشدالجمال بين الفقراء من الصنّاع والتجّ‏ ار والعمّ‏ ال.‏ من أحسنرسومه صورة طبّاخة تصنع الفطير،‏ وعلى الرغم من أنه كانيعيش في زمن من أفسد األزمنة،‏ هو ذلك الزمن الذي هَ‏ يَّأالتربة لنبات الثورة،‏ فإنه لم يغترّ‏ ببهارج الطبقة السائدة ولمينشد الجمال إال في سذاجة الطبيعة وسالمة النفس.‏112


ومن أحسن الرسّ‏ امين في ذلك العصر ‏»فراجونار«‏ الذيوُلِد سنة 1732، ومات سنة 1806، وقد نال جائزةاألكاديمية سنة 1752، ورحل إلى إيطاليا فقضى فيها أربعسنوات،‏ وعاد إلى باريس فنال الحظوة بين النبالء،‏ وهوأشبه الرسّ‏ امين ‏-من هذه الناحية-‏ ببوشيه الذي كان يحظىبرعاية المدام دي بومبادور عشيقة الملك.‏قالت الليدي دلك اإلنجليزية:‏ ‏»لقد وجد بوشيه فيفراجونار خَ‏ لَفاً‏ صادقاً.‏ فإن أزياء البالط وعاداته بمافيها من التصنُّع الكبير،‏ حتى في التظاهر بالبساطة ولزومالطبيعة،‏ ثم مزاج الهيئة االجتماعية التي كانت تنغمسفي الشهوات على الرغم من ادّعائها الحنان والعطف،‏ كلهذا كان سبباً‏ لتلك األكاذيب الكثيرة التي تجري في حياةالناس العادية.‏حدائق فراجونار كلّها سرور،‏ ولكن ما فيها من آالم وعواقبوخيمة كان يتجاهلها الرسّ‏ ام في رسومه،‏ كما أن األمراضواألحزان كان الناس يتجاهلونها في الحياة الواقعة أيضاً«.‏والفنّ‏ ‏-كما سبق أن قلنا-‏ مرآة الحياة،‏ وقد صوَّر هذهالحياة التعسة بين نبالء فرنسا كل من ‏»فراجونار«‏و»بوشيه«‏ ونقالها في رسومهما بروح اإلعجاب ال بروحاالستيالء؛ وكان ذلك دليالً‏ على مقدار الغفلة ِ المتسلّطة113


تاريخ الفنون وأشهر الصورعلى هؤالء النبالء الذين اكتسحتهم،‏ بل ذبحتهم الثروةالكبرى.‏وقد كان يعاصر ‏»فراجونار«‏ رسّ‏ ام آخر هو أعظم منذكرناهم شهرة وهو ‏»جروز«‏ الذي وُلِد سنة 1725، وماتسنة 1805، وهو يمثّ‏ ِ ل أفكار جان جاك روسو في تصويرالبساطة وسذاجة اإليمان،‏ وقد نال شهرته لصورة رسمها عن‏»والد يشرح الكتاب المقدَّ‏ س ألسرته«.‏ حياته تشبه حياة‏»واطو«‏ من نواحٍ‏ كثيرة؛ فقد كان والد كل منهما نجّ‏ اراً‏يعارض ابنه في اتّخاذ الرسم صناعة،‏ وكما فرَّ‏ ‏»واطو«‏كذلك فرَّ‏ ‏»جروز«‏ إلى باريس،‏ وكالهما نال شهرته وهوفي الثالثين:‏ األوّل بدخوله عضواً‏ في األكاديمية،‏ والثانيبعرضه هذه الصورة التي ذكرناها،‏ وقد تألّم كل منهما فيآخر حياته:‏ األول بالمرض،‏ والثاني بالفقر.‏وأصل هذا الفقر الذي وقع فيه ‏»جروز«‏ هو زوجته،‏ فقدأحبّها وهو يعلم بفساد أخالقها،‏ ولكنه كان يمنّي نفسهبإصالحها،‏ وقد خلَّدها في رسم بديع هو ‏»رأس فتاةتتطلَّع«؛ فإن هذه المرأة لم تكفّ‏ عن فسادها وزادت علىذلك أنها أتلفت ماله وأضاعت كل ما كان يدّ‏ خره.‏ وجاءتالثورة الفرنسية فكانت عنصراً‏ جديداً‏ لم يألفه ‏»جروز«‏فمات غريباً‏ عنها ال يُعنى به أحد.‏114


الفصل السادس عشرالرسّ‏ امون اإلنجليز في القرن الثامن عشرهوجارث ، ولسون ، رينولدزلم يكن ‏»هوجارث«‏ أوّل الرسّ‏ امين اإلنجليز،‏ ولكنه كانأوّل من اعتمد على بصيرته في الرسم دون النسخ الذيكان دأب الذين سبقوه،‏ وهو لم يكن ‏-فقط-‏ ‏»أوَّل رسّ‏ امإنجليزي وطني،‏ وأوَّل من نظر إلى الحياة اإلنجليزية نظراً‏إنجليزيّاً‏ ورسمها بدون تصنُّع أو تأثير أجنبي،‏ بل كان أيضاً‏أوّل من جعل الصور محبوبة عند الشعب«.‏وُلِد ‏»هوجارث«‏ سنة 1697. وكان أبوه معلّ‏ ِ ماً‏ مستنيراً،‏ فلميعارض في أن ينشأ ابنه رسّ‏ اماً.‏ وكان السير ثورنهل قد أنشأجمعية للفنون،‏ وكان يلقي فيها محاضرات،‏ فصار هوجارثيواظب على حضورها،‏ ولكنه سئمها،‏ في اآلخر،‏ عندما115


تاريخ الفنون وأشهر الصوررأى أن الرسم مقصور على النسخ من الصور القديمة،‏ وكانيقول:‏ ‏»النسخ أشبه األشياء بصبّ‏ الماء من إناء إلناء«،‏أي أنه كان يرغب في أن يستنبط ماءه بنفسه من الحياةذاتها.‏ولكنه بقي يالزم مرسم السير ثورنهل ألنه أحبَّ‏ ابنته،‏ ولميكن يطمع في أن ينال رضا السير ثورنهل بزواجه بابنته،‏ولذلك عمد إلى الفرار معها وتزوَّجها،‏ وبقي الزوجان أربعسنوات وهما بعيدان عنه حتى ساعده الحظّ‏ ورفعه إلىمكانة أصبح فيها جديراً‏ بمصاهرة السير ثورنهل،‏ فاصطلحاوأسَّ‏ س لنفسه مرسماً‏ في لندن.‏ولم يبتغِ‏ ‏»هوجارث«‏ حظوة النبالء والطبقة العالية،‏ ولكنهكان يرسم الطبقات المتوسّ‏ طة والوضيعة ِ كالممثّلين والخدموأفراد أسرته،‏ وهو يرسم هؤالء على حقيقتهم من أجملرسومه رسم ‏»فتاة الجنبري«‏ التي تنبض بالحياة ويكادينطلق وجهها ِ مؤدّياً‏ تلك المعاني التي ِ توضّ‏ حها العينانوالفم.‏وقد ابتدع طريقة جديدة في الرسم،‏ وهي أن يؤلّف القصّ‏ ةثم يرسمها فصالً‏ بعد فصل.‏ وقد كان الرومان ينقشون علىاألعمدة والجدران الرسوم الخاصّ‏ ة بوقائع اإلمبراطورية،‏وكان جوتو يرسم أسفار التوراة،‏ ولكن ‏»هوجارث«‏ كان116


يؤلّف القصّ‏ ة ثم يرسمها،‏ وكثيراً‏ ما كان يضمّ‏ ِ نها العِبَروالعظات في األخالق.‏ وله سلسلة تسمى ‏»زواج المودّة«‏تعمَّ‏ د فيها نقد األخالق،‏ في األُسَ‏ ر الراقية وتهزئة ما يتصنّعهأفرادها من ثقافة وكبرياء.‏وكان ‏-مع بلوغه حاالً‏ حسنة من اليسار-‏ متواضعاً‏ يكرهاألبّهة،‏ خرج ذات مرة من مرسمه فسار إلى منزله والمطريهطل،‏ وقد نسي أن له مركبة فاخرة تنتظره،‏ فأصابه برد،‏فمات سنة 1764.وُيعَدّ‏ ‏»ولسون«‏ الحلقة التي تصل بين ‏»هوجارث«‏و»رينولدز«‏ كما يعدّ‏ ون - هم الثالثة - واضعي األساسلنهضة الفنّ‏ في إنجلترا.‏ وكان مولد ‏»ولسون«‏ سنة 1714.وكان أبوه قسّ‏ يساً‏ فقيراً،‏ ولكن أمّه كانت متّصلة بأسرة كبيرةتعرف قيمة الفنون،‏ فلمّ‏ ا رأى بعض أفرادها ميل الشابإلى الرسم بعثه إلى لندن ليتعلَّم،‏ وقد بدأ برسم األشخاص،‏ولكنه اشتهر برسم مناظر الريف والطبيعة.‏حدث ‏-ذات مرة-‏ أنه دُ‏ عي سنة 1748 إلى رسم وليّ‏العهد والدوق يورك ومعلّمهما،‏ ونال أجراً‏ كبيراً‏ تمكَّ‏ ن بهمن أن يرحل إلى إيطاليا لكي يدرس صور عظماء النهضةاإليطالية.‏ وهناك رسم بعض المناظر الطبيعية.‏عاد إلى إنجلترا فَلَقِيَ‏ حظوة كبيرة بين األغنياء الذين117


تاريخ الفنون وأشهر الصورصاروا يتغالون في شراء صوره،‏ إال أن الحظّ‏ عاد،‏ فانقلبعليه حتى قضى سنيّه األخيرة وهو في فاقة بالغة؛ إذ لميكن ينال من الطعام سوى الخبز.‏أما سبب نكبته فيرجع إلى أن الجمهور لم يداوم علىطلب المناظر الريفية والطبيعية التي كان يرسمها،‏ وأيضاً‏إلى حادثة صغيرة حدثت له؛ فقد رسم منظراً‏ من حدائقكيو،‏ وعندما عرضه أراد الملك أن يشتريه،‏ فبعث إليه اللوردبوت،‏ وكان هذا اللورد من اإلسكوتالنديين المتزمّتين الذينال يفهمون الفكاهة،‏ فلمّ‏ ا شرع يساومه في الثمن أجابالرسّ‏ ام أن الثمن 60 جنيهاً‏ ال ينزل عنه،‏ فاستكثر اللوردبوت هذا الثمن فأجاب الرسّ‏ ام مداعباً:‏ ‏»قل لجاللة الملكيُدفَع الثمن أقساطاً«،‏ واستكبر اللورد بوت هذه الكلمةوأنزل بالرسّ‏ ام غضب البالط الذي استتبع ‏-أيضاً-‏ غضبالنبالء.‏ ولوال أن ‏»ولسون«‏ كان قد تعيَّنَ‏ أميناً‏ لمكتبة‏»األكاديمية الملوكية«‏ بمرتَّب 50 جنيهاً‏ في العام قبل أنيفوه بهذه الدعابة لهلك جوعاً.‏ ومات بعد فاقة مؤلمة،‏سنة 1782، عند أقاربه في ويلز.‏ومعظم الرسوم الباقية لولسون هي مناظر طبيعية إلنجلتراوإيطاليا.‏ ولم يكن أثره مقصوراً‏ على جَ‏ عْل الرسوم الطبيعيةمحبوبة،‏ بل لقد جَ‏ عَل الريف اإلنجليزي نفسه محبوباً‏ بما118


أظهر فيه من محاسن يغفل عنها الزائر المتنزّ‏ ِ ه،‏ ولكنهاتتَّضح في الرسم الذي تؤدّ‏ يه اليد الماهرة والخيال السامي.‏وأعظم الثالثة هو ‏-بال شك-‏ ‏»رينولدز«‏ الذي وُلِد سنة1723 في ميناء بليموث،‏ وهناك عرضت له فرصة حسنةلزيارة إيطاليا،‏ فقد نشأ الفتى يحبّ‏ الرسم،‏ واتّفق أن قبطانإحدى البوارج الراسية في تلك الميناء رآه هناك وأحبّهوأُعجِ‏ ب برسومه وأفضى إليه الفتى بهواه في رؤية إيطاليا،‏وكانت البارجة على وشك السفر إلى البحر المتوسّ‏ ط،‏فعرض عليه القبطان أن ينقله إلى إيطاليا.‏وهناك أخذ يدرس الرسوم المشهورة في رومية والبندقيةوفلورنسا،‏ ولمّ‏ ا عاد إلى لندن أقام مرسماً‏ عاش فيه أعزب،‏يقول عن نفسه إنه قد تزوَّج فنّه،‏ وكان أصمّ‏ يعيش معأخته وسائر قريباته،‏ ولم يكن بيته يخلو من حالوة الطفولةوجمال الصبا،‏ ورسومه الخاصة بالطفولة مأخوذة من أعضاءأسرته.‏ ولمّ‏ ا تأسّ‏ ست ‏»األكاديمية الملوكية«‏ تعيَّن رئيساً‏لها.‏ قال لوكاس:‏ ‏»لم يكن الناس يطلبون رينولدز إعجاباً‏ببراعته في الرسم،‏ بل حبّاً‏ في محادثته.‏ ومع أنه لم يكنينشد مصادقة الطبقة العالية فإنه كان يعرف قيمتها.‏ وهناكمن ذوي األذهان السامية من صادقوه مثل:‏ بورك،‏ وجولدسمث،‏ وجونسون،‏ فكان منزله مركزاً‏ للمسامرة واألنسة.«.‏119


تاريخ الفنون وأشهر الصورمن أحسن رسومه صورة ‏»اآلنسة بوت تمثّل طائس«.‏وطائس هذه هي الفتاة اإلغريقية التي رافقت اإلسكندرالمقدوني في حروبه،‏ فلمّ‏ ا مات أخذها بطليموس األولفولدت له ثالثة أوالد،‏ وصورته الثانية ‏»الطفل صمويل«‏ وقدجعلها رمزاً‏ لسذاجة اإليمان،‏ وصورته ‏»وقت السذاجة«.‏ومما يؤسف له أن ‏»رينولدز«‏ كان يحبّ‏ من األلوان أزهاهاوأنضرها،‏ فكان يمزج أصباغه ببعض مستخرجات القار.‏ومن المعروف أن القار يذوب في الحرّ،‏ كما يتّضح لناذلك في الصيف في الشوارع المفروشة باإلسفلت،‏ لذلكفإن بعض رسومه تَلِفَت واختلطت أصباغها.‏وكان ‏»رينولدز«‏ قد فقد إحدى عينيه فحزن لذلك كثيراً‏في آخر أيامه،‏ وبقي في خشية العمى إلى أن مات سنة1792، وقد دُ‏ فِن باحتفال رسمي في كنيسة القدّ‏ يسبوليس أكبر كنائس لندن،‏ وكان أديباً‏ يجيد الكتابة كمايجيد الرسم،‏ وله ‏-اآلن-‏ كتاب يدعى ‏»محاضرات عنالرسم«،‏ هو مجموعة المحاضرات السنوية التي كان يلقيهاعلى طلبة ‏»األكاديمية«.‏120


الفصل السابع عشررسم األشخاص في إنجلتراجينز بورا ، رومني ، رايبورن ، هوبنر ، لورانس ، كوفمانوُلِد ‏»جينز بورا«‏ سنة ‎1727‎؛ أي قبل أن يبلغ ‏»رينولدز«‏الرابعة من عمره.‏ وقد بقي االثنان طول حياتهما يتباريانفي ميدان الفنّ‏ مع شيء من التحاسد.‏ ويُحكى عن ‏»جينزبورا«‏ أنه،‏ وهو صبي صغير،‏ كان شغوفاً‏ بالرسم حتى إنهشهد ذات مرّة رجالً‏ يتسوَّر بستاناً‏ للسرقة فرسمه،‏ وكانتهذه الصورة التي رسمها دليالً‏ اهتدت به الشرطة للقبضعلى السارق،‏ ولكنه لم يكن يستعمل هذه البراعة لمصلحةاألمن العام على الدوام،‏ فقد حدث أنه أراد أن يحصلعلى إجازة من المدرسة،‏ فأرسل خطاباً‏ لناظرها عن لسانأبيه،‏ وأجاد نقل خطّ‏ ه وإمضائه،‏ ونجح في نيل اإلجازة،‏لكن أباه عرف ‏-بعد ذلك-‏ حقيقة ما جرى.‏ ولمّ‏ ا رأىأبوه أنه ال ينتفع بالمدرسة؛ إذ يقضي معظم وقته فيالرسم،‏ أرسله إلى لندن وهو في الخامسة عشرة حيث121


تاريخ الفنون وأشهر الصورتتلمذ على رسّ‏ ام فرنسي يدعى جافلو،‏ وكان ‏-في الوقتنفسه-‏ طالباً‏ في مدرسة للرسم،‏ فلمّ‏ ا حذق شيئاً‏ من أصولالرسم التحق بمرسم فرانسيس هيمان فبقي عنده نحو أربعسنوات،‏ وعاد سنة 1745 إلى مدينته األصلية في واليةسفوك حيث شرع يرسم باألَجْ‏ ر.‏ وكان رسمه مقصوراً‏ علىاألشخاص،‏ ولكنه كان،‏ من وقت إلى آخر،‏ يرسم المناظرالطبيعية والريفية.‏تزوَّج ‏»جينز بورا«‏ وهو في التاسعة عشرة بفتاة تدعى‏»مارجريت بور«،‏ وكان لها - فوق الجمال - دخل اليقلّ‏ عن مئتي جنيه في العام،‏ وجعل الزوجان مقامهما فيمدينة إبزويك حيث اشتغل بورا بالرسم وجنى منه ربحاً‏متوسّ‏ طاً،‏ وكانت معيشته في هذه المدينة سعيدة إذ وُلِدتله بنتان،‏ وكان يقضي أوقات فراغه من الرسم في التعرُّفإلى الكمنجة التي برع في العزف عليها أيضاً.‏وفي سنة 1760 رحل إلى مدينة باث،‏ وكانت ‏-إذ ذاك-‏مزار العلية واألغنياء في لندن وسائر المدن الكبرى،‏ وصاريرسم األشخاص ويرفع من أجوره حتى ازداد دخله،‏ ولكنسعادته البيتية تناقصت بنسبة هذه الزيادة،‏ فإنه تعرَّف إلىكثير من السيدات اللواتي أثرن الغيرة في نفس زوجته،‏وزاد شقاؤه عندما اختلَّت أعصاب زوجته وابنته وفسدت122


قواهن العقلية.‏وفي سنة 1768 تعيَّن ‏»عضواً‏ ِ مؤسّ‏ ساً«‏ في الجمعيةالملوكية في لندن،‏ ولكنه لم يبرح باث إال في سنة 1774حين قصد إلى لندن واستقرّ‏ فيها.‏وكانت شهرته قد سبقته فما إن استقرّ‏ حتى توافد عليهالكبراء واألغنياء يطلبون منه أن يرسمهم،‏ وكلّفه الملكبرسم شخصه؛ وهنا بدأت المنافسة بينه وبين ‏»رينولدز«،‏ويقال إن أحسن رسومه هو ‏»الغالم األزرق«‏ الذي لميرسمه بهذا اللون إال ألن ‏»رينولدز«‏ كان قد حاضر تالميذهبشأن األلوان،‏ فأشار عليهم بأال يكثروا من استعمال اللوناألزرق،‏ فأراد ‏»جينز بورا«‏ أن يناقضه ورسم هذا الرسمالفريد.‏ ويُظنّ‏ أنه أكثرَ‏ من هذا اللون في رسمه الفريداآلخر ‏»المسز سيدونز«‏ لهذا الغرض أيضاً.‏وكانت ‏»المسز سيدونز«‏ ِ ممثّلة بارعة الجمال رسمها كلمن ‏»رينولدز«‏ و»جينز بورا«.‏ ومن المقابلة بين الرسمينتتّضح طريقة كل منهما وعبقريّته،‏ وكان عمر الممثلة وقتالرسم حوالي الثامنة والعشرين؛ ففي الصورة التي رسمها‏»رينولدز«‏ نجد التأكيد واضحاً‏ من ناحية إظهار ذكائهاوفهمها،‏ أما ‏»جينز بورا«‏ فقد رسمها امرأة جميلة رشيقة.‏وكان لكل منهما مهواة تدلّ‏ على مزاجه الذهني؛ فقد كان123


تاريخ الفنون وأشهر الصوراألدب مهواة ‏»رينولدز«،‏ أما ‏»جينز بورا«‏ فلم يكن يهوىسوى الموسيقى،‏ وهو لم يكن يجيد العزف فقط،‏ بل كانأيضاً‏ يطرب للسماع،‏ ويُحكى عنه أنه سَ‏ لَّمَ‏ أحد العازفينصورة عظيمة ألنه طَ‏ رِ‏ ب لعزفه.‏وقد جمع ماالً‏ عظيماً‏ من رسمه لألشخاص،‏ أما صورهالريفية والطبيعية فلم تُجْ‏ دِ‏ ه شيئاً،‏ حتى إنه عندما ماتكانت جدران منزله مكسوّة بهذه الصور،‏ ومات سنة 1788بسرطان ظهر في عنقه،‏ وقد طلب وهو على فراش الموت‏»رينولدز«‏ واستغفره إلساءاته الماضية،‏ وقال له:‏ ‏»سنذهبكلّنا إلى السماء،‏ ومعنا فانديك«.‏يلي ‏»جينز بورا«‏ في الشهرة في رسم األشخاص ‏»رومني«‏الذي وُلِد سنة 1734، وقد أهمل تعليمه في الصغر،‏ وكانيعاون أباه في حانوت صغير يملكه،‏ فلمّ‏ ا بلغ العشرين رأىرجالً‏ رسّ‏ اماً‏ جوّاباً‏ يسير من مدينة إلى أخرى ويرسم للناسبأجور بخسة،‏ ففتنت الشابَّ‏ ‏»رومني«‏ حياةُ‏ التجوال وسارمعه تاركاً‏ أباه،‏ وشرع يتعلّم الرسم،‏ ولكنه في السنة التاليةمرض،‏ وكانت ِ ممرّضته فتاة ساذجة أحبَّها وتزوّجها بحكمعاطفة الحنان التي تشتد وقت المرض والوحدة،‏ وكانتهذه الغلطة الكبرى في حياته؛ فإنه عندما ارتفعت أحوالهونبغ في الرسم،‏ ورحل إلى لندن وأقام فيها لم يستطع أن124


يحضر معه زوجته لسذاجتها،‏ فبقي طول حياته منفرداً‏ فيلندن.‏ولمّ‏ ا أقام في لندن نشط في الرسم،‏ فكثرت أرباحه،‏واستطاع عندئذ أن يتوفَّر على بعض الرسوم التاريخيةمثل:‏ ‏»وفاة ولف«،‏ و»وفاة الملك إدوارد«‏ التي نال عليهاجائزة جمعية الفنون،‏ واستطاع ‏-بما أحرزه من الثروة-‏أن يسافر إلى إيطاليا،‏ ونزل في رومية حيث أخذ يدرسرسّ‏ امي النهضة.‏ وفي عودته إلى لندن زار البندقية وبارما.‏وكان رسم األشخاص قد ذاع بين الناس في ذلك الوقت،‏حتى إن ‏»رينولدز«‏ بلغت تَرِ‏ كته 80000 جنيه،‏ وبلغ دخل‏»رومني«‏ 3635 جنيهاً‏ في سنة 1785. وهذه أرقام ضخمةإذا عرفنا أن قيمتها،‏ وقتئذ،‏ كانت أضعاف قيمتها اآلن.‏وأحسن ما يُذكَ‏ ر به ‏»رومني«‏ اآلن صورته للفتاة ‏»أماليون«‏التي عُ‏ رِ‏ فت بعد ذلك باسم ‏»الليدي هاملتون«،‏ وكانتهذه الفتاة فقيرة تعيش بحماية من يُدعى ‏»شارل جريفل«،‏فلمّ‏ ا ضاق به الحال سلَّمها لعمّ‏ ه السير هاملتون،‏ وقد أحبّها‏»رومني«‏ وبقي خمس سنوات وهو يرسمها رسوماً‏ مختلفة،‏وقد كثرت األقوال عن عالقتهما،‏ ولكن األرجح أن حبّهلها كان أفالطونيّاً،‏ وأن إعجابه بجمالها كان فنيّاً‏ أكثر مماكان جنسيّاً.‏ وهذه الفتاة هي التي عشقها،‏ بعد ذلك،‏ اللورد125


تاريخ الفنون وأشهر الصورنلسون.‏من رسومه المشهورة ‏»المسز روبنسون«‏ أو ‏»برديتا«،‏ وهيِ ممثّلة كانت في ‏»حماية«‏ وليّ‏ العهد الذي صار بعد ذلكجورج الرابع،‏ ولكنه تخلّى عنها بعد أن أعطاها صكّ‏ اً‏بعشرين ألف جنيه لم يدفعها،‏ وماتت المسكينة سنة 1800فقيرة مفلوجة.‏ وفي الصورتين نجد عطفاً‏ من ‏»رومني«‏يكاد يكون عطف األب على ابنته أكثر مما نجد غراماً،‏فقد رسم الليدي هاملتون والمسز روبنسون وكأنه يعطفعلى حالهما،‏ ويريد أن يظهرنا على الجوهرة المكنونة منالجمال في كلّ‏ منهما.‏ وله صورة أخرى تعرف باسم ‏»ابنةالقسّ‏ يس«‏ ال يُعرَف أصلها.‏ولم يستدع ‏»رومني«‏ زوجته إلى لندن استحياءً‏ منالجمهور ِ المتمدّ‏ ن أن يرى هذه الفتاة الساذجة كما سلف،‏ولكنه كان يبعث إليها بالمعونة المالية،‏ ولمّ‏ ا اقتربت وفاتهقصد إليها فمات بين ذراعيها سنة 1802.وقد أنجبت إسكوتالندة رسّ‏ اماً‏ عظيماً‏ في ذلك الوقت هو‏»رايبورن«‏ الذي وُلِد سنة 1756 في ضاحية من ضواحيأدنبره.‏ ودخل المدرسة،‏ ولكنه كان يقضي وقته في رسمِ المعلّمين والتالميذ رسوماً‏ كاريكاتورية،‏ فأخرجه أبوهوألحقه بصائغ حتى يتعلَّم منه صياغة الذهب،‏ ولكنه دأب126


في الرسم حتى برع فيه،‏ وأسَّ‏ س مرسماً‏ له في أدنبره.‏وحدث أن قصدت إليه سيّدة أرملة لكي يرسمها،‏ فأحبهاوتزوَّجها،‏ وكان لها مال أغناه عن ابتذال نفسه في الرسومالتجارية.‏وفي سنة 1785 زار لندن والتقى هناك برينولدز،‏ فحثَّه هذاعلى زيارة إيطاليا ‏»لكي يتشبَّع بمايكل أنجلو«،‏ وعرضعليه المعونة المالية التي ظنّ‏ أنه يحتاج إليها،‏ ولكن‏»رايبورن«‏ لم يكن في حاجة إليها،‏ وسافر إلى إيطالياومكث في رومية سنتين،‏ وعاد سنة 1787 إلى أدنبرهحيث استفاضت شهرته.‏بقي إلى يوم وفاته سنة 1823 وهو في سعادة وإقباليُغبَط عليهما،‏ ولم يذهب إلى لندن للرسم،‏ فقد استمع إلىنصيحة لورنس الذي قال إنه خير له أن يكون أوّل رسّ‏ امفي أدنبره من أن يكون ‏»أحد«‏ الرسّ‏ امين في لندن.‏قال أوربن:‏ ‏»واألرجح أن رايبورن كان سديد النظر حيناستقرّ‏ رأيه على اإلقامة في إسكوتالندة فإن مما يُشَ‏ كّ‏ فيهأن حبّه للصدق والحقّ‏ في رسومه كان يجد من يرضى بهفي لندن،‏ وكان أقوى رسّ‏ ام في المدرسة اإلنجليزية فيالقرن الثامن عشر،‏ ولم ينجح أحد قطّ‏ في رسم شخصاإلنسان على القماش كما نجح هو.‏ ومع أنه قد ترك لنا127


تاريخ الفنون وأشهر الصوربضعة رسوم فخمة للنساء فإن تفوّقه كان في رسم الرجال.‏أحسن رسومه هو رسم ‏»السير جون سنكلير«‏ وهو رسميمكن أن يُعَدّ‏ ، من حيث الحيوية والوقار والقوة،‏ من أحسنرسوم الرجال في العالم«.‏ومن الرسّ‏ امين المعروفين في ذلك الوقت ‏»هوبنر«‏ الذيوُلِد سنة 1758، ومات سنة 1810، وأحسن رسومه ‏»المسزجوردان«‏ و»وليّ‏ العهد«‏ و»الكونتس أوكسفورد«،‏ وكانرجالً‏ مثَّقفاً‏ يشبه رينولدز،‏ وله مقاالت بديعة في مجلّةالكوارترلي،‏ ولكن،‏ لمّ‏ ا كانت هذه المجلة ِ تعبّر عن رأياألحرار،‏ وهم في ذلك الوقت من المغضوب عليهم فيالبالط،‏ فقد أضاع ‏»هوبنر«‏ مركزه في البالط النتمائه إلىهذه المجلّة،‏ والطبقة العالية التي تشتري الرسوم وتغاليبها تتبع البالط،‏ ولذلك فإنه فقد فيهم نصراء للفنّ‏ .ومن الرسّ‏ امين في ذلك الوقت أيضاً‏ ‏»لورانس«‏ الذي وُلِدسنة 1769، ومات سنة 1830، وكان رئيساً‏ لأل كاديميةالملوكية.‏وكان أبوه يدير خاناً‏ صغيراً،‏ فكان الصبي يتلهّى برسمالنازلين في الخان،‏ وبرع في ذلك حتى أذن له أصحابالبيوت الكبيرة في نقل الصور المشهورة التي تزدانبها بيوتهم.‏ وفي سنة 17<strong>91</strong> صار عضواً‏ في األكاديمية128


على سبيل االستثناء؛ ألن سنّه لم تكن قد بلغت الخامسةوالعشرين.‏ وتعيَّن رسّ‏ اماً‏ للملك،‏ فكان هذا التعيين فاتحةاإلقبال له،‏ فإنه لم تمضِ‏ عليه مدّ‏ ة طويلة،‏ بعد ذلك،‏ حتىصار رئيساً‏ لأل كاديمية،‏ وكان ‏»هوبنر«‏ أجدر منه بالرياسة،‏ولكن انتسابه إلى حزب األحرار أضرّه.‏قال أوربن:‏ ‏»وشهرته اآلن أقلّ‏ مما كانت في حياته؛ وذلكلضعف أصيل مكين في فنّه وأخالقه.‏ فما زلنا نعجببما في رسومه من لطافة التمييز،‏ ولكن لم يكن فيه حبّ‏الصدق والحقيقة اللذين كانا فيمن سبقوه.‏ وإذا قوبلترسومه برسومهم تراءت لنا كأنها متصنّعة ممسوخة.‏ وأحسنما له هو صورة ‏»الليدي بليسنجتون«.‏ومن الرسّ‏ امين الذين ينتمون إلى المدرسة اإلنجليزية فيذلك الوقت الرسّ‏ امة ‏»إنجليكا كوفمان«‏ التي وُلِدت سنة1741، وماتت سنة 1807، وكان أبوها سويسريّاً‏ هاجرإلى إنجلترا،‏ وكان يشتغل بالرسم،‏ فنشأت الفتاة في وسطالفنون وعلقت بالرسم حتى أدخلها أبوها مدرسة األكاديميةفي زيّ‏ شاب،‏ ألن قواعد المدرسة كانت تحول دون دخولاإلناث،‏ ثم سافرت إلى إيطاليا فزارت مدن الفنّ‏ مثلميالن،‏ وفلورنسا،‏ ورومية،‏ والبندقية.‏ وفي هذه المدينةاألخيرة عرفت سفير إنجلترا الذي أُعجب برسمها وحَ‏ مَ‏ لها129


تاريخ الفنون وأشهر الصورعلى أن تعود إلى إنجلترا.‏وعرفتها الملكة وأحبَّتها،‏ ودخلت األكاديمية ‏»عضواً‏مؤسّ‏ ِ سة«.‏ وحدث أن خدعها رجل ألماني سافل تزوَّجتهوهي تعتقد أنه الكونت دو هورن،‏ فإذا به خادمه،‏ وتخلَّصتمنه بعد أن دفعت له 300 جنيه،‏ واشترطت عليه الرحيلإلى ألمانيا،‏ ولم تستطع الزواج إال بعد وفاته سنة 1780،وتزوَّجت رسّ‏ اماً‏ بندقيّاً‏ يدعى ‏»أنطونيو زوكشي«،‏ وعادتمعه إلى إيطاليا حيث بقيت في رومية إلى وفاتها سنة1807. أحسن ما يُعرَف لها من الصور ‏-اآلن-‏ صورتها.‏130


الفصل الثامن عشرالثورة الفرنسية والفنوندافيد ، جريار ، لوبران ، جروس ، أنجر ، جويالكي نعرف األثر العظيم الذي أحدثته الثورة الفرنسية فيالفنون يجب أن ننظر قليالً‏ في حالة الفنون الفرنسية فيالقرن الثامن عشر؛ ففي سنة 1648 تأسَّ‏ ست ‏»األكاديمية«‏الفرنسية،‏ وغايتها ترقية القنون،‏ ولكنها سارت في خطّ‏ ةتناقض هذه الغاية،‏ فإن ‏»رجال الفنّ‏ الذين لم يكونواأعضاء بهذه األكاديمية أو منتسبين إليها لم يؤذن لهمبعرض رسومهم للجمهور،‏ بل إن أعضاء األكاديمية أنفسهملم يكن لهم أن يعرضوا رسومهم في مكان آخر غيراألكاديمية،‏ وقد طُ‏ رد واحد من األكاديمية يدعى ‏»سير«‏ألنه عرض صورته ‏»طاعون مارسليا«‏ كي تُباع.‏ والمنحة131


تاريخ الفنون وأشهر الصورالوحيدة التي كانت األكاديمية تمنحها لغير األعضاء هياإلذن بالعرض يوماً‏ واحداً‏ في ميدان دوفين في ‏»معرضالشباب«،‏ بحيث ال تزيد مدّ‏ ة العرض على ساعتين«.‏وفي هذا ما ِ ينبّه القارئ إلى الخطر الذي يمكن أن يحدثللثقافة والفنون من المجامع العلمية إذا لم يكن ِ المؤسّ‏ سونلها يقظين يحسبون للرغبة الطبيعية في هذه الهيئات فياالحتكار والسيطرة.‏ ولنا نحن من ذلك عظة.‏فهذه األكاديمية الفرنسية أخَّ‏ رت الفنون بدالً‏ من أن ترقّيها،‏ولذلك لمّ‏ ا جاءت الثورة أذنت ‏»الجمعية الوطنية«‏ لجميعرجال الفنّ‏ ‏-سواء أكانوا أعضاء أم غير أعضاء باألكاديمية-‏أن يعرضوا رسومهم،‏ وألغت بذلك احتكار األكاديميةللعرض.‏ ومن األرقام يتَّضح للقارئ مقدار التقدُّ‏ م بإلغاءالسلطة األكاديمية؛ فقد كان المعروض من الصور قبيلالثورة سنة 1789، والملوكية قائمة،‏ 350 صورة،‏ فزادتإلى 794 سنة 17<strong>91</strong>، أي مدّ‏ ة الثورة،‏ وفي سنة 1795 بلغالعدد 3048 صورة.‏وهذه األرقام تدلّ‏ القارئ على أن ما نحسبه نظاماً‏ مفيداً‏قد يكون تقييداً‏ مضرّاً،‏ وأن الحرّيّة ‏-على ما فيها من قليلمن الفوضى واالضطراب-‏ خير من المبالغة في التقييدبدعوى النظام.‏132


وفي سنة 1793 قرَّرت حكومة الثورة دفع مكافآت لرجالالفنون تبلغ قيمتها السنوية 442000 فرنك،‏ وتأسَّ‏ سمتحف في اللوفر لجميع التحف الفنية.‏ وبينما كان الرعاعيهدمون اآلثار الفنية كان رجال الثورة يجمعون كل مايستطيعون جمعه منها وصيانته.‏وكانت النزعة الفاشية في الفنون مدّ‏ ة الثورة تنحو نحوالقدماء،‏ وتستوحي اإلغريق والرومان،‏ وكان الميل إلىالرومان أكثر من الميل إلى اإلغريق،‏ ولعل هذا هو سببإخفاق الثورة في إنجاب رجل عظيم من رجال الفنّ‏ .ويُعَدّ‏ ‏»دافيد«‏ الذي وُلِد سنة 1748، ِ وتوفّي سنة 1825من أحسن من ِ يمثّل تأثير الثورة في الفنون،‏ وقد رحل إلىروما،‏ وأخذ هناك في درس القدماء،‏ وال نعني القدماءمن الرسّ‏ امين في عهد النهضة،‏ بل قدماء الرومان أياماإلمبراطورية،‏ ولذلك فإنه كان يختار لرسومه موضوعاتقديمة،‏ وعاد إلى بارِ‏ يس فكان من حزب روبسبير،‏ وكاديتعرَّض للخطر،‏ ولكنه كَ‏ فَّ‏ عن السياسة واعتكف فيمرسمه،‏ فنجا بذلك من عواصف الثورة.‏ ولمّ‏ ا ِ أُسّ‏ س ‏»معهدفرنسا«‏ على أنقاض األكاديميات القديمة تعيَّن ‏»دافيد«‏عضواً‏ كي يختار سائر األعضاء.‏ولمّ‏ ا ظهر نابليون وارتفع شأنه كان ‏»دافيد«‏ من أعظم133


تاريخ الفنون وأشهر الصورالمعجبين به،‏ وقد جلس له نابليون جلسة واحدة فشرعفي رسم الرأس،‏ ولكنه لم يتمم الجسم لِسَ‏ أَم نابليون،‏ وألنهكان يحبّ‏ أن يظهر للناس،‏ كما يتخيَّلون،‏ على رأس جيشأو وهو على جواده في المعمعان أو نحو ذلك،‏ ولذلكرسمه رسماً‏ خياليّاً‏ في صورة ‏»نابليون يعبر جبال األلب«.‏وأحسن ما خلَّفه ‏»دافيد«‏ هو صورة ‏»المدام ريكامييه«،‏مع أنه كان يعتقد أنها غير جديرة به،‏ وكاد يتلفها لهذاالسبب.‏ وقد حدث له أنه قبل أن يكمل الصورة تركته هذهالسيدة وقصدت إلى رسّ‏ ام يدعى ‏»جيرار«‏ وثب حديثاً‏ إلىالشهرة لكي يرسمها،فلمّ‏ ا مضت مدّ‏ ة لم تعجبها الصورةفعادت إلى ‏»دافيد«،‏ ولكنه أجابها بقوله:‏ ‏»نحن ‏-ياسيدتي-‏ لنا نزق النساء،‏ فلنترك الصورة حيث وقفنا«.‏ولمّ‏ ا انهزم نابليون سنة 1815 نُفِي ‏»دافيد«‏ من فرنسا،‏فقصد إلى بروكسل حيث مات سنة 1825. وإلى ‏»دافيد«‏يعزى إحياء النزعة إلى درس القدماء من إغريق ورومان.‏ومن أحسن الرسّ‏ امين في ذلك العصر المدام ‏»فيجيهلوبران«‏ التي وُلِدت سنة 1755، وماتت سنة 1842. وكانأبوها رسّ‏ اماً،‏ مات وهي في الثانية عشرة فاستأنفت هيعمله وصارت لها شهرة وهي بعد في الخامسة عشرة،‏وتزوّجت المسيو لوبران،‏ وكان يتّجر بالرسوم والتحف134


الفنية،‏ وعنده مجموعة من الصور،‏ وجدت هي الفرصةالحسنة في درسها والنقل عنها.‏اختيرت عضواً‏ في األكاديمية سنة 1783، وكانت ترسمأعضاء األسرة المالكة،‏ وقد رسمت الملكة ماري أنطوانتوأوالدها،‏ ولمّ‏ ا اشتعلت الثورة خشيت عواقبها فنزحت إلىإيطاليا،‏ وهناك احتفل بها الرسّ‏ امون وأكرموها،‏ وتنقَّلت فيالعواصم األوروبية،‏ ثم عادت إلى فرنسا سنة 1801، ومالبثت أن غادرتها إلى إنجلترا ثم هولندا،‏ ولم تعد إليها إالسنة 1809.لم تتأثّر بالثورة ألنها قضت معظم وقتها خارج فرنسا؛ولذلك فإننا ال نجد فيها تلك النزعة إلى القديم التينجدها في دافيد،‏ وال يمكن أن ننسبها إلى مدرسة خاصّ‏ ة،‏فإنها ال تنتسب إلى المدرسة الفرنسية إال من حيث الرعويةوالزمن فقط،‏ فهي ‏-في الواقع-‏ أمميّة الذوق والنزعة،‏وأحسن ما خلَّفته من الصور هو رسمها لنفسها مع ابنتها.‏ويعدّ‏ ‏»البارون جروس«‏ من تالميذ دافيد،‏ ولكن هذهالتلمذة كانت شؤماً‏ عليه،‏ وكانت سبباً‏ في انتحاره.‏ وقدولد سنة ِ 1771 وتوفّي سنة 1835. ودخل مرسم دافيدسنة 1785 وما زال يمارس الرسم عنده حتى أُشبع بطريقتهوحبّه للقدماء.‏135


تاريخ الفنون وأشهر الصورسافر إلى إيطاليا ونزل في جنوه،‏ وهناك عرف جوزفينالتي صارت بعد ذلك إمبراطورة فرنسا،‏ فقدَّ‏ مته إلى نابليونالذي أحبَّه وأذِ‏ ن له برسمه في الصورة المعروفة باسم‏»نابليون في أركول«.‏وقد كان يمكنه أن يكون زعيم نهضة في الرسم لو لميتأثّر بالنزعة إلى القدماء التي غرسها فيه دافيد،‏ فقد بقيطول حياته تصطرع في نفسه نزعتان:‏ إحداهما تنزع بهإلى رومية وأثينا،‏ واألخرى تنزع به إلى ما يسمّ‏ ى الحركةالرومانية.‏وهذه الحركة الرومانية شاعت في األدب والفنون منذأواخر القرن الثامن عشر إلى منتصف القرن التاسع عشر.‏وكانت ترمي ‏-في الفنون-‏ إلى مخاطبة العواطف بدالً‏من مخاطبة الذهن،‏ ولكنها كانت ‏-في األدب-‏ ترمي إلىالنزوع نحو القرون الوسطى.‏وقد درس ‏»جروس«‏ روبنز،‏ وفانديك وتأثّر بهما من حيثالمبالغة في األلوان.‏ ورأى الحرب بنفسه؛ إذ حوصر،‏ وهومع جنوه بالجيوش الفرنسية،‏ فقاده ذلك ‏-من حيث اليدري-‏ إلى أن يخرج على أستاذه دافيد.‏ وفي سنة 1804عرض صورته ‏»المرضى بالطاعون في يافا«‏ في باريس،‏فأثارت الحماسة في نفوس الشبّان المشتغلين بالرسم حتى136


جلَّلوها بالزهر.‏ولمّ‏ ا سقط نابليون وأعيدت أسرة البوربون إلى العرش بقي‏»جروس«‏ آمناً،‏ بل أنعم عليه الملك بلقب بارون.‏وكان دافيد في ذلك الوقت ينعي على تلميذه تركهللقدماء وإضاعة وقته في رسم األشياء الحاضرة،‏ ويهيببه إلى أن يعود إلى رسم الصور التاريخية،‏ ويعني بذلكتاريخ رومية وأثينا.‏ ‏»جروس«‏ يتّهم نفسه بخيانة المبادئالتي وضعها أستاذه.‏ ولمّ‏ ا مات دافيد أراد ‏»جروس«‏‏-على سبيل الشكران له-‏ أن يرسم صوراً‏ قديمة،‏ فرسم‏»هرقل وديوميد«،‏ ولكنها،‏ عند عرضها،‏ لم تنل سوىاستهزاء الرسّ‏ امين الجدد الذين شرعوا يدركون،‏ من الحركةالرومانية،‏ معاني أسمى من الدعوة إلى رسم الموضوعاتالقديمة.‏وفي سنة 1835 انتحر ‏»جروس«‏ بأن أغرق نفسه بعد أنيئس من صدّ‏ تيار الحركة الرومانية الجديدة،‏ ولكن زعامةالدعوة إلى القديم كانت في يد ‏»أنجر«‏ أشدّ‏ غرضاً‏ وأقوىسبيالً‏ مما كانت في يد جروس.‏ وقد ولد سنة 1780، وماتسنة 1867. وسافر إلى رومية سنة 1806 وبقي هناك 18سنة ‏»يرسم ليتعلَّم ويصنع الصور ليعيش«،‏ وكان أحسنالقديم عنده ما سبق النهضة اإليطالية،‏ فهو لم يكن يميل137


تاريخ الفنون وأشهر الصورإلى رومية واإلغريق بمقدار ما كان يميل إلى أولئك الرسّ‏ امينالبدائيين في إيطاليا.‏ ولمّ‏ ا عاد إلى فرنسا وجد نفسه زعيماً‏للدعوة إلى القديم،‏ وثَمَّ‏ اختالف بين دافيد وبينه:‏ فاألوّلكان يدعو إلى اتخاذ الموضوع القديم،‏ أما ‏»أنجر«‏ فكانال يبالي بأي موضوع يرسمه،‏ ولكن المهمّ‏ عنده أن يرسمعلى الطريقة القديمة،‏ وليس شكّ‏ في أنه انتفع بهذه الفكرة،‏وخصوصاً‏ عندما كان يرسم الجسم اإلنساني العاري.‏ أحسنما خلَّفه من الصور هو ‏»العين«،‏ وهذه الصورة تحفة ثمينةِ تمثّل فتاة عارية قد وقفت وعلى كتفها دنّ‏ أو جرة لتستقيمن العين،‏ وقد شرع في رسمها سنة 1824، ولكنه تركها،‏ثم عاد إليها فأتممها سنة 1856. فجمع بين خيال الشابوصنعة الشيخ الخبير.‏ومن أحسن رسومه أيضاً‏ صورة ‏»جان دارك«‏ الفتاة الريفيةالتي قادت الجيش الفرنسي وطردت اإلنجليز من فرنسا،‏ ثمأُحرِ‏ قت بالنار بتهمة الهرطقة.‏ ومن أغرب ما يُذكر عن تأثيرالثورة الفرنسية أن الرجل الذي تأثّر بها ونزع نزعتها لم يكنفرنسيّاً‏ بل إسبانيّاً،‏ وهو ‏»جويا«‏ الذي وُلِد سنة 1746، وماتسنة 1828‹ فقد قضى عمره يدعو،‏ بريشته،‏ إلى الثورة،‏ يهزأبالملوكية والكهانة والدين والمجد الحربي.‏ وكانت إسبانياترزح تحت أسرة البوربون كما كانت فرنسا قبل الثورة،‏ وكان138


البالط اإلسباني في غاية االنحطاط.‏ونشأ ‏»جويا«‏ في أراغون،‏ وكان أبوه فلّاحاً،‏ ولكن الفتىأبدى ميله،‏ منذ صباه،‏ إلى الرسم.‏ فأرسله أبوه إلى مرسمأحد الرسّ‏ امين في سراقسة،‏ وانتقل إلى مدريد وتصعلكبتعرُّفه إلى الفئات المنحطّ‏ ة،‏ وكان يطارَد من مكان إلى آخر،‏وأخيراً‏ تزوَّج بأخت أحد الرسّ‏ امين المعروفين في البالد،‏ ثماتَّصل بالملك شارل الثالث ورسمه،‏ فصلحت حاله بعد ذلك،‏وكان يرسم أشخاص الطبقة العالية وكأنه يريد أن يفضحهم،‏فاألصباغ - عند المرأة - واضحة في الوجنتين،‏ والكحلوالتزجيج ظاهران،‏ ولكن إسبانيا كانت من االنحطاط بحيثلم تكن مثل هذه األعمال ممّ‏ ا تُالم عليها امرأة.‏ومن أحسن ما رسمه صورة الدوقة إلفا التي سمّ‏ اها ‏»الماجاالعارية«،‏ ويقال إنه نوى أن يرسمها،‏ في األصل،‏ عارية،‏ولكن زوجها باغَ‏ تَه فرسم عليها ثياباً‏ رقيقة لئلّا يشكّ‏ الدوقفي أمانة زوجته،‏ ثم أعطى الصورة الكاسية للدوق،‏ وصنعصورة أخرى عارية استبقاها لنفسه.‏وله رسوم كثيرة عن األسرة المالكة،‏ وقد تعمَّ‏ د أن يرسمأشخاصها بهيئات تبعث االشمئزاز في نفس الناظر إليهم،‏ورسم سلسلة من الصور سمّ‏ اها ‏»األهواء«‏ لتهزئة الحالةاالجتماعية والدينية،‏ كأنه يرسم نساء ِ متديّنات يعبدن فزّاعة139


تاريخ الفنون وأشهر الصورمن تلك الفزّاعات التي تُنصَ‏ ب في البساتين لطرد الطيور،‏أو يرسم القسوس وهم يصلّون بال تقوى أو خشوع،‏ أو يرسمالجثّة وقد انتفضت من القبر وكُ‏ تِب على أصبعها ‏»العدم«‏كأن اآلخرة التي بُعِثت فيها ال تحتوي على شيء سوى العدم،‏أو كأن يصوّ‏ ِ ر جهل القسوس في صورة مثل ‏»المسحور«،‏حيث ترى كاهناً‏ مرعوباً‏ بالعفاريت التي تتراءى له بهيئةالحمار والتيس،‏ ومن أحسن ما خلَّفه صورة ِ تمثّل فظاعةالحرب في وقت لم يكن أحد ِ يفكّ‏ ر في المجد إال معلَّقاً‏بالحروب والسالح،‏ ففي هذه الصورة يصوّ‏ ِ ر رجالً‏ إسبانيّاً‏ منالمتطوّ‏ ِ عين قد حكم عليه الفرنسيون باإلعدام،‏ فهم يقتلونهفي فظاعة وطمأنينة كأنهم يؤدّون عمالً‏ اعتياديّاً‏ ال غرابة فيه،‏ورسم صورة أخرى سمّ‏ اها ‏»موت الحقّ‏ » مثل فيها الحقّ‏شخصاً‏ عارياً‏ يقتله القسوس.‏وفي سنة 17<strong>91</strong> ماتت زوجته وابنه،‏ وأصيب هو بالصمم،‏ولكنه دأب في رسم الصور التي تمثّ‏ ِ ل أفكاره الثورية،‏ فمنذلك مثالً‏ رسمه لحجر السجون وحجر التعذيب،‏ ومن أشهررسومه اآلن صورة ‏»قتال الثيران«‏ وهو موضوع عرفه أيامصعلكته األولى،‏ ولمّ‏ ا أحسَّ‏ أن الطبقات الحاكمة قد بدأتتفهم مقاصده من رسومه التي هاجم فيها الدين،‏ سافر إلىفرنسا،‏ وهناك نزل في بوردو حيث مات سنة 1828.140


الفصل التاسع عشررسم المناظر الطبيعية عند اإلنجليزمورالند ، تورنر ، كونستابل ، بونتجتونكانت الثورة الفرنسية ترمي إلى تغيير الحكومة،‏ ولكن أهمّ‏ما أحدثته من التغيير كان في الهيئة االجتماعية واألخالقوعالقات األفراد والفنون الجميلة،‏ فقد نزعت بالناس إلىحبّ‏ السذاجة والطبيعة وكراهة التصنُّع والكذب؛ وكانلهذا أثره العميق في الفنون.‏وقد بدأ حبّ‏ الطبيعة ورسمها في فرنسا في القرن السابععشر قبل الثورة،‏ ولكنه لم ينجح،‏ وكان الرسّ‏ ام يضطرّ‏ إلى‏»تزيين«‏ رسمه باألشخاص أو الحوادث التاريخية ألنه لواقتصر على الطبيعة لمّ‏ ا اشترى أحد صورته.‏ وأوّل من رسمالطبيعة هو كلود جيليه الفرنسي الذي وُلِد سنة 1600،141


تاريخ الفنون وأشهر الصورومات سنة 1682.كان يرسم حوادث التوراة على فراش من الطبيعة الزاهيةباأللوان واألضواء الالمعة.‏ وهناك رجل فرنسي آخر أحبَّ‏الطبيعة هو نقوال بوسن الذي وُلِد سنة 1594، ومات سنة1665، وقد عاش طول حياته في رومية.‏بيد أن النزوع إلى الطبيعة لم يظهر تماماً‏ إال عقب ظهورأدباء الثورة الفرنسية،‏ أمثال روسو الذي قضى عمره وهويدعو الناس إلى الرجوع إلى الطبيعة والسذاجة.‏ وقدتأثّرت إنجلترا بهذا الدعوة في أدبها وفنونها؛ ولذلك نرىأن أول من تجرَّأ على رسم الطبيعة هو ‏»جورج مورالند«‏اإلنجليزي الذي وُلِد سنة 1763، ومات سنة 1804، وكانضغط أبويه له قد أفسد أخالقه،‏ حتى إنه عندما انطلق منقيودهما انطلق أيضاً‏ من قيود األخالق،‏ واندفع في حياةاللهو وأكبَّ‏ على الشراب حتى انتهت حياته بالحبس.‏ وقدعرض عليه رومني أن يعطيه مرتَّباً‏ قدره 300 جنيه إذا عاونهفي مرسمه،‏ ولكن ‏»مورالند«‏ لم يطق هذا ‏»التقييد«؛ إذكان يلذّ‏ له أن يتنقل في الريف ويزور الحانات ويعيشعيشة التشرُّد.‏ وكان المتَّجرون بالصور يستأجرونه للرسمويملون عليه الموضوع،‏ فلذلك رسم صوراً‏ سخيفة مثل‏»نتائج اإلسراف والكسل«‏ أو ‏»ثمرة االجتهاد«‏ وكان142


أجره في اليوم أربعة جنيهات يضاف إليها الشراب،‏ وقضىالسنوات األخيرة من عمره في السجن.‏ولكن أعظم الرسّ‏ امين الذين نبغوا في رسم الطبيعة هو‏»تورنر«‏ اإلنجليزي.‏ وهو،‏ للرسم اإلنجليزي،‏ بمثابةشكسبير للدراما اإلنجليزية،‏ وقد وُلِد سنة 1772، وكان أبوهحلّاقاً‏ في لندن،‏ وكان الصبي يخدم في دكّ‏ ان أبيه ويلهوبالرسم،‏ فلمّ‏ ا رأى بعض الزائرين براعته في الرسم نصحواأباه أن يُلحِ‏ قه بمدرسة األكاديمية،‏ وقضى الصبيّ‏ سنواتفي هذه المدرسة،‏ ثم خرج وأخذ يرسم للناس وللمجلّات،‏فاتّضحت للناس قيمته وأقبلوا على شراء صوره.‏وكان في أوّل ظهوره ينقل عن الطبيعة نقالً‏ مجرَّداً‏ منالخيال،‏ ولكنه عندما تقدَّ‏ م ووثق من نفسه صار يضيفخياله إلى الطبيعة،‏ ِ ويؤلّف منهما ألواناً‏ عجيبة من الجمال.‏من أحسن رسومه تلك الصورة التي رسمها سنة 1807،وهي ‏»الشمس تبزغ خالل البخار«،‏ وقد باعها ثم عادفاشتراها لتكون هديّة منه لألمّة.‏ وليس في العالم رجلاستطاع أن يرسم أضواء الشمس والقمر وظالل هذهاألضواء مثل ‏»تورنر«.‏ومن أحسن رسومه أيضاً‏ صورة ‏»البارجة ِ المتهوّرة«،‏ وهيبارجة فرنسية كانت في أبي قير مدّ‏ ة وجود نابليون في143


تاريخ الفنون وأشهر الصورمصر،‏ فلمّ‏ ا دهم اإلنجليز األسطول الفرنسي قاتلت بشجاعةحتى أُطلِق عليها اسم ‏»المتهوّ‏ ِ رة«،‏ وهي في الصورة تقادإلى الميناء لتحطيمها.‏عاش ‏»تورنر«‏ مع أبيه دون أن يتزوّج،‏ ولكنه بعد وفاة أبيهعاش عيشة مزدوجة،‏ فقد عرف سيّدة في لندن كان يقضيمعها أياماً‏ باسم ‏»األميرال بوث«،‏ ثم يعود إلى منزلهفيقضي أياماً‏ باسم ‏»تورنر«،‏ ولم تُعرَف هذه الحقيقة عنهإال قبل وفاته بيوم،‏ فإن السيّدة أبلغت الخادم أن ‏»تورنر«‏عندها.‏ وفي اليوم التالي لوفاته نُقِل إلى منزله األوّل الذيشُ‏ يّ‏ ِ عت جنازته منه،‏ ودفنت جثّته في كنيسة القدّ‏ يس بولسسنة 1851. وقد ترك 120000 جنيه أوصى بمعظمهالترقية الفنّ‏ ومساعدة رجاله،‏ ولكن،‏ حدثت خالفات عقبوفاته في تأويل الوصية،‏ انتهت بالصلح بين ورثته وبيناألكاديمية.‏ وفي سنة 1840 عَ‏ رَف روسكين ‏»تورنر«‏ وألّفكتابه ‏»الرسّ‏ امون المحدثون«.‏ وكانت غاية ِ المؤلّف اإلكبارمن شأن ‏»تورنر«،‏ فزاد هذا من شهرة الرسّ‏ ام الذي هو رمزاآلن للعبقرية الفنية عند اإلنجليز.‏وليس لمن عاصروا ‏»تورنر«‏ ذكر بالنسبة إلى شهرته معأنهم لواله لكانت لهم شهرة وصيت،‏ هذا مع استثناء‏»كونستابل«.‏144


فمن هؤالء:‏ جبرتن،‏ ودوونت،‏ وكوكس.‏ وهذا األخيرأشهرهم،‏ وُلِد سنة 1783 في برمنجهام حيث تعلَّم الرسم،‏ولكنه لم يبرع فيه إال بعد أن استنار ذهنه بالسياحة فيأوروبا.‏ وفي سنة 1839 التقى بالرسّ‏ ام جيمس مولر)1812 1845( - وكان هذا قد زار مصر واليونان وتأثّربمناظرهما الطبيعية التي تخالف المألوف في إنجلترا،‏ وقدانتفع كوكس به ودرس رسومه وتأثّر منها.‏ أحسن ما خلَّفه‏»كوكس«‏ رسمه ‏»يوم عاصف«،‏ وقد مات سنة 1859.أما ‏»كونستابل«‏ فال يقلّ‏ عبقرية عن ‏»تورنر«‏ لكنه دونهشهرة وتوفيقاً؛ وعلّة ذلك أن ‏»تورنر«‏ كان يعرف أن الناسال يحبّون اقتناء صورة الطبيعة والريف،‏ فكان يخترع حادثةتاريخية توهم الناظر كأنها هي األصل،‏ والمناظر الطبيعيةحولها ليست سوى فراش الصورة،‏ بيد أن ‏»كونستابل«‏ لميكن يحتال على أذواق الجمهور بهذه الطريقة،‏ بل كان يقنعبرسم المنظر الطبيعي أو الريفي ويجعله األصل والفصل،‏وقد وُلِد سنة 1776، وتتلمذ ِ للسّ‏ يْر بومونت الذي لم يكنرجالً‏ غنيّاً‏ يرعى الفنون فقط،‏ بل كان رسّ‏ اماً‏ أيضاً،‏ وكانِ يشجّ‏ ع ‏»كونستابل«‏ على الرسم ويعاونه بالمال والنفوذ.‏وفي سنة 1816 تزوَّج ‏»كونستابل«‏ وعاش بعد ذلك سعيداً‏مع زوجته،‏ وأسَّ‏ س له مرسماً،‏ ولكنه لم يحز الشهرة التي145


تاريخ الفنون وأشهر الصوريستحقّها في لندن،‏ وإنما حازها في باريس؛ ألن الفرنسييناستطاعوا أن يقدّ‏ ِ روا عبقريته وبراعته في رسم األضواءواأللوان الطبيعية.‏ومن أحسن رسومه ‏»الجواد القافز«‏ و»حقل القمح«،‏ ولوالأن صهره مات وخلَّف لزوجته 20000 جنيه لَشَ‏ عَر بالفاقة.‏انتُخِ‏ ب في آخر حياته عضواً‏ في األكاديمية،‏ ولكن وفاةزوجته في ذلك الوقت لم تترك له الفرصة ألن يتمتّع بهذااالمتياز،‏ ومات سنة 1837، وازدادت شهرته بعد ذلك.‏واآلن يتغالى الناس برسومه ويدفعون فيها عشرات األلوفمن الجنيهات.‏ويمتاز ‏»كونستابل«‏ عن ‏»تورنر«‏ من حيث إنه إنجليزيأكثر منه في رسومه؛ فإن ‏»تورنر«‏ قد تأثّر بمناظر أوروباالتي ساح فيها،‏ ولكن ‏»كونستابل«‏ لم يكن يعرف سوىريف إنجلترا وجبالها.‏ومن الرسّ‏ امين اإلنجليز في ذلك العصر بونتجتون الذيوُلِد سنة 1801، ومات سنة 1828، وقد زار فرنسا وإيطالياولم يعش طويالً‏ ليكشف عن تلك العبقرية الكامنة فيه.‏وأحسن رسومه صورة ‏»عمود كنيسة القدّ‏ يس مرقس«،‏وهي الكنيسة الكبرى في البندقية،‏ ومنهم جون كروم الذيوُلِد في مدينة نوريتش مدينة النسيج اإلنجليزية المشهورة،‏146


وكانت والدته سنة 1769، ووفاته سنة 1821. وهو ِ مؤسّ‏ س‏»مدرسة نوريتش«‏ إذ جمع حوله طائفة من شباب تلكالمدينة الذين يهوون الفنون الجميلة،‏ فألّفَ‏ منهم جمعيةصارت تنشئ المعارض السنوية في نوريتش ولندن،‏ وظهرفي هذه المدرسة طائفة حسنة من الرسّ‏ امين مثل ‏»جيمسستارك«‏ الذي مات سنة 1859، و»كوتمان«‏ الذي ماتسنة 1842، و»جون كروم«‏ الذي مات سنة 1821.نجحت ‏»مدرسة نوريتش«‏ ألسباب اقتصادية؛ ألنها نشأتفي وسط غني بالصناعة ِ يقدّ‏ ر أهله الفنون ويقتنون التحفالجميلة،‏ وكذلك لنجاحها سبب آخر هو عالقة األقاليمالشرقية اإلنجليزية بهولندا وتأثّرها بالفنّ‏ الهولندي.‏147


تاريخ الفنون وأشهر الصورالفصل العشرونالرسّ‏ امون اإلنجليز في عصر فكتوريافورد مادوكس براون ، روزيتي ، هوملان هونت ، ميليس ،بورن جونز ، ليتون ، بوينتر ، املاتاديما ، مور ،لندسري ، ريفيري ، واطستولّت فكتوريا الحكم سنة 1837، وماتت سنة 1901. وفيهذه المدّ‏ ة الطويلة ظهر عدد كبير من الرسّ‏ امين،‏ ولكنهماختلفوا نزعاتٍ‏ وأغراضاً‏ حتى يمكن تقسيمهم إلى طبقاتثالث:‏)1( طبقة النازعين إلى ‏»ما قبل رفائيل«.‏)2( ثم طبقة النازعين إلى التاريخ القديم.‏)3( ثم طبقة الرسّ‏ امين الديموقراطيين الذين رسمواما حولهم وما يُؤثِره ذوق الجمهور.‏148


ولننظر اآلن في:‏الطبقة األولى:‏ وهي التي نزعت إلى ‏»ما قبل رفائيل«،‏ففي سنة 1848 اجتمع ثالثة من الرسّ‏ امين.‏ هم:‏ روزيتي،‏وهولمان هونت،‏ وميليس،‏ وألّفوا منهم ‏»أخويّة«‏ للرجوعبالفنّ‏ إلى روحه السابقة لعصر رفائيل مع استغالل الصنعةالحديثة،‏ فقد كان الرسّ‏ امون قبل رفائيل يُعنَون بالفكرةأكثر مما يُعنَون بالصنعة،‏ ويرمون إلى شرف الغاية وعبرةالخيال أكثر مما يرمون إلى إتقان الرسم.‏ ولكن،‏ منذرفائيل اتَّجه نظر الرسّ‏ امين إلى إتقان الصنعة مع إهمال هذهالغايات؛ وهذا ما أراد هؤالء الثالثة أن يعودوا إليه،‏ وكانأكبرهم ‏»هولمان هانت«‏ الذي وُلِد سنة 1827، وأصغرهم‏»ميليس«‏ الذي وُلِد سنة 1829، وأوسطهم ‏»روزيتي«‏الذي وُلِد سنة 1828.وكان ‏»روزيتي«‏ أبعدهم خياالً‏ وفلسفة وأضعفهم صنعة،‏وقد كان شاعراً‏ أيضاً،‏ ولذلك كان روح هذه النهضةوالموحي لها.‏وقبل أن نذكر أعضاء هذه األخويّة يجب أن نلمَّ‏ ح إلىرجل لم يكن ممن نزعوا إلى ‏»ما قبل رفائيل«،‏ ولكنه تأثّربالنهضة الجديدة كما أثّر فيها،‏ نعني به ‏»فورد مادوكس149


تاريخ الفنون وأشهر الصوربراون«‏ الذي وُلِد سنة 1821، ومات سنة 1893، وكانمولده ونشأته في فرنسا حيث رأى أشهر الرسوم الفرنسيةواألوروبية في غنت،‏ وبروج،‏ وانفرز،‏ ورومية،‏ وهناك فيهذه المدينة الخالدة انتهى إلى ما يقرب من النتيجة التيانتهت إليها ‏»األخويّة«‏ وهو وجوب الرجوع إلى ما قبلرفائيل في الروح والنزعة مع االحتفاظ بإتقان الصناعة،‏بيد أنه لم يجعل هذا مذهباً‏ كما جعله أولئك الرسّ‏ امونالثالثة،‏ وبقي طول حياته وهو صديقهم،‏ بل هو نفسه كانِ معلّماً‏ لروزيتي.‏ أشهر رسومه صورة ‏»المسيح يغسل قدميبطرس«‏ وهي تتَّفق ونزعته إلى ‏»ما قبل رفائيل«.‏وقد رأى أعضاء هذه ‏»األخويّة«‏ مقاومة بل استهجاناً‏من الجمهور،‏ فأصدروا مجلّة تدعى ‏»الجرثومة«‏ للدفاععن مذهبهم،‏ وغَ‏ لوا فيها إلى حَ‏ دّ‏ الشطط،‏ فزاد استهجانالجمهور لهم،‏ فلم ينثنوا بل دأبوا في الدعوة حتى صارلهم حزب يدافع عنهم،‏ وأعظم من دافع عنهم هو ‏»جونرسكين«‏ الكاتب المعروف.‏وتُرى طريقة ‏»األخويّة«‏ على أوضحها في رسوم ‏»ميليس«‏مثل ‏»األمر باإلفراج«‏ و»العمياء«.‏ مات ميليس سنة.1896أما ‏»روزيتي«‏ فكان أضعف صنعة من ‏»ميليس«‏ ولكنه150


كان أكبر خياالً،‏ وأحسن رسومه ‏»الحبيبة«‏ وقد اتَّخذها مننشيد اإلنشاد في التوراة،‏ وهي تمثّ‏ ِ ل المرأة التي يتغنّى بهاسليمان،‏ وله أيضاً‏ ‏»حلم اليقظة«‏ وقد ساعده رسكين بمالهونفوذه،‏ ولكن حظّ‏ ه كان سيئاً‏ فقد ماتت زوجته التي كانيحبّها كثيراً،‏ وبلغ من وجده أن وضع في كفنها قصائدهالتي ألّفها في حياته معها.‏ ولكنه عندما عضّ‏ ته الفاقةعاد فنبش قبرها واستخرج هذه القصائد ونشرها،‏ وقدبقي سنوات بعد وفاتها وهو ال يعمل شيئاً،‏ للجمود الذياستولى على ذهنه عقب وفاتها،‏ ومات هو سنة 1882.أما ‏»هولمان هونت«‏ فهو أثبت الثالثة على مبادئ‏»األخويّة«،‏ وربما ساعده على ذلك تعلُّقه بالدين؛ ألنهذه الروح تأتلف و»ما قبل رفائيل«.‏ وأحسن ما تركه منالرسوم صورة ‏»نور العالم«،‏ وهي صورة للمسيح وحولههالة من النور وبيده مصباح،‏ وقد زار فلسطين مرّتين كيينقل المناظر التي حدثت فيها والخاصّ‏ ة بتاريخ المسيح،‏ومات سنة 1<strong>91</strong>0.وال يمكن أن يذكر اإلنسان ‏»أخويّة ما قبل رفائيل«‏ إالويخطر بباله ‏»بورن جونز«‏ الذي وُلِد سنة 1833، وماتسنة ‎1898‎؛ فهذا الرسّ‏ ام العظيم لم يكن عضواً‏ في هذهاألخوية،‏ ولكنه ِ تأثرّ‏ بها،‏ ويرى الناظر إلى وجوه النساء151


تاريخ الفنون وأشهر الصوراللواتي يرسمهن شبهاً‏ عظيماً‏ لوجوه ‏»روزيتي«‏ وإن كان‏»روزيتي«‏ يمسح عليهن مسحة الصحة حين يكاد ‏»بورنجونز«‏ يجعلهن مرضى شاحبات.‏ وأحسن ما تركه هو‏»أنشودة الحُ‏ بّ‏ «.الطبقة الثانية وهي التي نزعت إلى التاريخ القديم،‏ فقدسبق أن ذكرنا أن بعض الرسّ‏ امين في الثورة الفرنسية جعلوادأبهم رسم الموضوعات التاريخية،‏ وكانوا يحتقرون رسمالحوادث أو األشخاص التي تعاصرهم،‏ وقد ظهرت طبقةفي إنجلترا في عصر فكتوريا تنزع هذه النزعة،‏ وأعظمأشخاصها هو ‏»اللورد ليتون«‏ الذي وُلِد سنة 1839، وماتسنة 1896، فقد زار ‏-وهو بعد صبيّ‏ - إيطاليا وتشبَّعَ‏بتاريخ القدماء،‏ وبقي مدّ‏ ة في فلورنسا يتعلَّم الرسم منِ المعلّمين اإليطاليين،‏ ثم رحل إلى باريس حيث أسَّ‏ س لهمرسماً،‏ وكان يرسم الحوادث اإلغريقية وأساطير القدماء.‏وأحسن رسومه ‏»استحمام بسيكه«‏ وكان مثّاًالً‏ أيضاً‏ لهتمثال ‏»الرياضي والثعبان«.‏ومن هذه الطبقة أيضاً‏ نذكر الرسّ‏ ام ‏»بوينتر«‏ الذي وُلِدسنة 1836، ومات سنة 1<strong>91</strong>9، ومعظم رسومه تتعلَّقبموضوعات تاريخية عن اإلغريق والرومان والمصريين.‏ومن أحسنها صورة ‏»الجندي الروماني«‏ الذي يقف في152


مركزه وبومباي تحترق بالبركان،‏ وهو ثابت ال يبرح مكانه،‏وكذلك صورته عن ‏»اإلسرائيليين في مصر«.‏ومن هذه الطبقة أيضاً‏ ‏»الماتاديما«،‏ وهو رسّ‏ ام هولندي،‏ولكنه تابع للمدرسة اإلنجليزية إذ عاش عمره في إنجلترا.‏وقد وُلِد سنة 1836، ومات سنة 1<strong>91</strong>2، وموضوعاته عنالمصريين واإلغريق والرومان.‏ من أحسن رسومه ‏»الحبّ‏في الكسل«.‏ومنهم أيضاً‏ ‏»ألبرت مور«‏ الذي وُلِد سنة 1841، وماتسنة 1893، وأحسن رسومه ‏»الزهر«‏ أو باألحرى ‏»النور«،‏وهي صورة امرأة واقفة وراءها مقدار كبير من النور،‏ وهو لميكن ينزع إلى التاريخ من حيث رسم الحوادث التاريخيةبل من حيث االنقياد للروح اإلغريقية.‏الطبقة الثالثة:‏ وهي تلك التي نزلت ‏-تقريباً-‏ على ذوقالجمهور،‏ وصار أعضاؤها يرسمون الحوادث الجارية،‏ فنذكرمنهم ‏»لندسير«‏ الذي وُلد سنة 1802، ومات سنة 1837،وكان بارعاً‏ في رسم الكالب.‏ من أحسن رسومه ‏»الوقاروالوقاحة«‏ وهما كلبان:‏ أحدهما صغير وقح،‏ واآلخر ضخموقور،‏ واشتهر برسم الكالب في هيئات وأوضاع مختلفة،‏حتى إنه يُحكى عن قسّ‏ يس أنه عندما عُ‏ رِ‏ ض عليه أنيرسمه ‏»لندسير«‏ أجاب بقوله:‏ ‏»لست كلباً«.‏ وله رسوم،‏153


تاريخ الفنون وأشهر الصورمع هذا،‏ كثيرة عن األُسُ‏ ود،‏ فقد مات أسد عند إحدىالفرق البهلوانية فأخذ جثّته ودرسها لوناً‏ وتشريحاً،‏ وبرعبعد ذلك في رسم هذا الحيوان.‏ومن هؤالء الرسّ‏ امين ‏»بريتون ريفيير«‏ الذي وُلِد سنة 1840،ومات سنة 1920، وهو مشهور أيضاً‏ برسم الحيوان.‏ أحسنرسومه ‏»العطف«،‏ وهي صورة تمثّ‏ ِ ل صبيّة قد غضبت منهاأمّها وطردتها ومعها كلبها يعطف عليها في هذا الموقفالمحزن.‏لكن أحسن هؤالء هو ‏»واطس«‏ الذي وُلِد سنة 1817،ومات سنة 1904. من أحسن رسومه ‏»مامون«‏ وهو يمثّ‏ ِ لربّ‏ الذهب أو حبّ‏ المال،‏ وله أذنا حمار وتاج أو إكليلمن الذهب،‏ وقد قعد على عرش دموي أقيم على جماجم،‏وفي حجره أكياس النقود،‏ وقد سحق بيده اليمنى رأسامرأة،‏ وتحت إحدى قدميه رجل قد انطرح ميتاً.‏ والصورةِ تمثّل قوّة المال في القرن التاسع عشر،‏ وله رسم آخر بديعهو ‏»األمل«.‏154


الفصل الحادي والعشرونفرنسا في القرن التاسع عشرجريكول ، دوال كروا ، كورو ، روسو ، ميليهذكرنا في فصل سابق أن الثورة الفرنسية أحدثت بينالرسّ‏ امين انقالباً‏ جعلهم يلتفتون إلى درس اإلغريقوالرومان،‏ ولكن،‏ في القرن التاسع عشر حدث ارتداد عنهذه النزعة إلى القدماء،‏ وخصوصاً‏ بين الشباب الجديدالذي كانت صيحته العالية:‏ ‏»هل من خالص من اإلغريقوالرومان؟«.‏ومن هؤالء الداعين إلى ترك القدماء نجد ‏»جريكول«‏ فيِ المقدّ‏ مة،‏ وقد ولد سنة 17<strong>91</strong>، ومات سنة 1824.ويُحكى عنه أن ‏»دافيد«‏ طلب إليه أن يهجر الرسم ألنهلم يعدّ‏ له،‏ ولكن الفتى عرف نفسه وقدرها،‏ وأقام على155


تاريخ الفنون وأشهر الصورالرسم كما تهديه إليه سليقته.‏ ومما يذكر عنه أنه رأى ذاتيوم جواداً‏ جامحاً،‏ فأخرج دفتره ودَوَّنَ‏ ما يذكره من هيئته،‏وأخذ بعد ذلك يدرس حركات الخيول،‏ ورسم لوحة كبيرةفيها ضابط على جواده في هيئة النشاط والحركة على غيرالمألوف،‏ إذ كانت الجياد تُرسَ‏ م قبالً‏ جامدة ال تتحرَّك،‏ففتح بهذه الصورة عهداً‏ جديداً‏ للرسّ‏ امين في فرنسا.‏رحل ‏»جريكول«‏ إلى إيطاليا لكي ‏)يعبد(‏ ‏»مايكل أنجلو«‏المثَّال الرسّ‏ ام العظيم،‏ وحكى عن نفسه أنه كان يقصد إلىرسومه وتماثيله ‏»فيرتجف«.‏ ولمّ‏ ا عاد إلى فرنسا سمع عنغرق السفينة ‏»ميدوزا«‏ فقصد إلى النجّ‏ ارين الذين كانواقد اشتركوا في صنعها وجعلهم يصنعون له أنموذجاً‏ منها،‏ثم قصد إلى اثنين من الذين نجوا من الغرق ورسم السفينةفي حالة نزول الكارثة بها،‏ وعليها ملّاحوها،‏ ومنهم هذاناالثنان اللذان نجَ‏ وَا من الغرق،‏ وذاعت شهرته بهذه اللوحة،‏وصارت لطريقته الحرمة التي كانت قبالً‏ لطريقة الداعينإلى الرومان واإلغريق.‏ومن عظماء الرسّ‏ امين أيضاً‏ في القرن التاسع عشر ‏»دوالكروا«‏ الذي وُلِد سنة 1798، ومات سنة 1863. وهو رسّ‏ امالخيال الذي كان ينتزع موضوعاته من شكسبير وبيرونودانتي.‏ ومن أحسن رسومه ‏»المتاريس«‏ أو ‏»الحرّيّة تقود156


الشعب«.‏ وهي صورة قد امتزجت فيها الحقيقة بالخيال،‏فقد رسم الثائرين والقتلى رسماً‏ تقريريّاً،‏ وفي وسط اللوحةرسم خيالي لفتاة جميلة تحمل بإحدى يديها العلم المثلَّث،‏وباألخرى البندقية.‏ولمّ‏ ا عُ‏ رِ‏ ضت خشي مدير الفنون الجميلة في فرنسا ما فيهامن إغراء بالثورة،‏ ولكنه ‏-في الوقت نفسه-‏ لم يستطعإنكار البراعة بل العبقرية في رسمها.‏ وأخيراً‏ عمد إلى حَ‏ لّ‏طريف،‏ وهو أنه اشترى الصورة وقَلَبَ‏ وجهها إلى الحائط،‏وهي اآلن ِ تزيّن متحف اللوفر.‏وقد سافر ‏»دوال كروا«‏ إلى مراكش حبّاً‏ في األلوان الزاهيةالمتأللئة التي لم يجدها في شمس فرنسا،‏ وأكبَّ‏ على رسمالمناظر المراكشية حتى شاعت بعده الرغبة في الرسومالشرقية.‏ومن الرسّ‏ امين في هذه النهضة ‏-أيضاً-‏ ‏»كورو«‏ الذيوُلِد سنة 1796، ومات سنة 1875، وكان مغرماً‏ بالطبيعةوالريف،‏ ال يسأم رسمهما في مختلف األضواء واأللوان.‏ولكنه كان سيّئ الحظ،‏ قال إنه بقي ثالثين سنة وهو اليجد من يشتري شيئاً‏ من رسومه،‏ ألن الجمهور الفرنسي كانمثل الجمهور اإلنجليزي في جموده نحو المناظر الطبيعيةوالريفية،‏ ولكن رجال الفنّ‏ وعظماء األدب مثل ألفرد دو157


تاريخ الفنون وأشهر الصورموسيه التفتوا إليه وأعجبوا به.‏ من أحسن رسومه ‏»الربيع«‏و»المشرع«.‏ومن أشهر الرسّ‏ امين في القرن التاسع عشر في فرنسا‏»روسو«‏ الذي وُلِد سنة 1812، ومات سنة 1867، ورسومهأيضاً‏ تتعلَّق بالريف والطبيعة،‏ ومنها ‏»نزول البقر«.‏ولكن أعظم هؤالء جميعاً‏ هو ‏»ميليه«‏ الذي وُلِد سنة 1814،ومات سنة 1875، وقد قصد،‏ بمساعدة المجلس البلديفي شيربورج - إلى باريس حيث بقي يدرس ويرسم علىالطريقة المألوفة،‏ ولكنه في سنة 1849 نزع إلى الطبيعةفي معيشته وفنّه،‏ فترك باريس وقصد إلى باربيزون حيثكان هناك الرسّ‏ امان الشهيران:‏ ‏»روسو«،‏ و»دياز«.‏وهناك رسم صورته الخالدة ‏»الباذر«‏ وهو فلّاح يبذرالحَ‏ بّ‏ في الحقل،‏ ثم صورة ‏»الجامعات«‏ أو ‏»الالقطات«‏وهي لوحة فيها ثالث نساء يجمعن ما تخلَّف في الحقلمن الحصيد.‏وكان سيّئ الحظّ‏ في بيع رسومه،‏ يُتَّهَم باالشتراكية،‏ حتىإن ‏»روسو«‏ اشترى ‏-سرّاً-‏ أحد رسومه بمبلغ 160 جنيهاً؛وذلك لكي ال يجرح كبرياءه،‏ وادّ‏ عى أن أحد األميركييناألغنياء يطلبها.‏ولمّ‏ ا أُعلِنت الحرب الفرنسية األلمانية سنة 1870 غادر158


باربيزون إلى شيربورج وبقي فيها إلى جالء األلمان عنباريس.‏ واستدعته الحكومة الجمهورية الجديدة إلى باريسلكي يرسم جدار البانثيون،‏ لكن صحّ‏ ته ساءت فمات سنة.1875159


تاريخ الفنون وأشهر الصورالفصل الثاني والعشرونهويسلر وتأثير الشرق األقصىفي أواخر القرن الماضي اتّصلت أوروبا بالشرق األقصىاتّ‏ ِ صاالً‏ وثيقاً‏ في التجارة،‏ وتبادلت مع الصين واليابانالبضائع والسلع،‏ وانتقلت إلى أوروبا بعض الرسوماليابانية والصينية فأحدثت أثراً‏ واضحاً‏ في مناهج الرسم،‏وقد عُ‏ رِ‏ ضت في المعرض األممي في لندن سنة 1862طائفة من الرسوم اليابانية كان لها وقع كبير في نفوسالرسّ‏ امين،‏ كما أنشئ حانوت في شارع ريفولي في باريسلبيع الرسوم.‏ وكان يزور هذا الحانوت الرسّ‏ امون الفرنسيونأمثال ديجاس،‏ ومونيه،‏ ومانيه،‏ وكذلك فتى ناشئ أميركيالمولد يدعى ‏»هويسلر«.‏وقد قضى ‏»هويسلر«‏ هذا معظم حياته الفنية في فرنساوإنجلترا،‏ وكان له أثر كبير في فنّ‏ الرسم عند كلتيهما،‏وقد اتّجه،‏ منذ أن ابتدأ يرسم،‏ نحو ‏»فالسكس«‏ اإلسبانيو»هوكوصاي«‏ الياباني،‏ فنبَّه األوروبيين إلى األوَّل،‏ وقد160


كان مغموراً‏ أو شبه المغمور،‏ كما فتح أعينهم إلى مناهجالفنّ‏ في الشرق األقصى.‏وُلِد ‏»هويسلر«،‏ في الواليات المتحدة سنة 1834 وهاجرمع أبويه إلى روسيا حيث كان أبوه يشرف على بناء سكّ‏ ةحديدية بين موسكو وبتروغراد.‏ وكانت إقامة الصبي فيبتروغراد حيث تعلَّم الفرنسية.‏مات أبوه فعادت به أمّه إلى الواليات المتحدة،‏ وأدخلتهمدرسة الضباط،‏ ولكنه لم يفلح فيها،‏ وكان ميله للرسمواضحاً،‏ فسعى حتى تعيَّن في قسم المساحة في واشنطون.‏ولكن الرسم الذي كان يمارسه للمساحة لم يكن هو الذييطمع فيه.‏ فلمّ‏ ا بلغت سنّه الحادية والعشرين سافر إلىباريس،‏ وهناك شرع يدرس الرسم درساً‏ منتظماً،‏ والتفتبوجه خاص إلى ‏»فالسكس«‏ و»هوكوصاي«،‏ ولذلكنهج منهجاً‏ خاصّ‏ اً‏ هو مزيج من هذين الرسّ‏ امَيْن،‏ وهذا بعدأن طبعه بطابعه الشخصي.‏ ونحن نرى أثر الشرق األقصىعلى أبلغه في رسمه ‏»أميرة بالد الصين«‏ وهي صورةاآلنسة سبارتالي ابنة قنصل اليابان في لندن،‏ ففي هذهالصورة نرى كل شيء يابانيّاً‏ ما عدا الوجه فإنه أوروبي.‏وفي سنة 1872 رسم أمّه رسماً‏ جميالً‏ يلمع إلى الطريقةاليابانية إلماعاً‏ خفيفاً‏ بتزيينها الباهر.‏ ورسم أيضاً‏ صورة161


تاريخ الفنون وأشهر الصورالكاتب المشهور ‏»كارليل«‏ وهي الصورة الشائعة اآلن عنهذا الكاتب.‏قامت في حياته خصومة كبيرة بينه وبين نَقَدة الرسم،‏وخصوصاً‏ بينه وبين ‏»رسكين«،‏ وأساس هذه الخصومةهو أنه ابتدع،‏ ولم يقنع بالجري على الطرق الممهَّدةالمألوفة.‏ وقد أوذي ‏»هويسلر«‏ من هذه الخصومة،‏ حتىترك الرسم مدّ‏ ة وصار يتكسَّ‏ ب بالحفر على المعدن،‏ ولمّ‏ األحَّ‏ عليه ‏»رسكين«‏ بالنقد والتشهير،‏ وكان لكالمه قيمةعند الجمهور،‏ ورأى ‏»هويسلر«‏ أن هذا الناقد يتحامل عليهويؤذيه،‏ رافعه إلى القضاء يطلب تعويضاً.‏ وكان قد رسمصورة ‏»الليل بين األزرق والذهبي«‏ فقال عنها رسكين:‏‏»إنها لوحة قد أراق عليها الرسّ‏ ام قدراً‏ من األصباغ«.‏وكان ‏»هويسلر«‏ قد طلب ثمناً‏ لهذه الصورة مئتي جنيه،‏فلمّ‏ ا كان وقت المحاكمة اتَّضح من سؤاله أنه رسم هذهالصورة في يومين،‏ فسأله محامي رسكين:‏ ‏»وهل تطلبمئتي جنيه في عمل يومين اثنين؟«‏ فقال ‏»هويسلر«:‏ ‏»ال.‏لكني أطلب هذا المبلغ للمعرفة التي جنيتها طول حياتي«.‏وكان بالمحكمة محلَّفون على النظام األوروبي،‏ وبينهمجَ‏ هَلة،‏ حتى إنه عندما قَدَّ‏ م رسماً‏ للرسّ‏ ام اإليطالي العظيم‏»تسيانو«‏ يستشهد به على حسن طريقته ظَ‏ نَّه أحد المحلَّفين162


أنه من رسوم ‏»هويسلر«‏ نفسه،‏ فنحّ‏ ى الرسم عنه وهو يقول:‏‏»حسبنا منك ومن رسومك«.‏ وحكم ل ‏»هويسلر«‏ بتعويضقدره أربعة مليمات فقط،‏ وكان هذا سبباً‏ ألن يهجر الرسممدّ‏ ة طويلة.‏ ولكن،‏ بينما كان اإلنجليز يستهجنون طريقتهكان الفرنسيون ِ يقدّ‏ رونه ويمنحونه أوسمة الشرف،‏ بليشترون رسومه للمتاحف الفرنسية.‏ وأخيراً‏ عرف اإلنجليزقدره،‏ وذلك الرسم الذي استكثر عليه ‏»رسكين«‏ مئتيجنيه بيعَ،‏ بعد ذلك،‏ بمبلغ ألفي جنيه.‏ مات ‏»هويسلر«‏سنة 1902 في لندن.‏163


تاريخ الفنون وأشهر الصورالفصل الثالث والعشرونالنزعة التقريرية والنزعة التأثّرُ‏ ية في فرنساكوربيه ، مانيه ، مونيه ، ديجاس ، رينوار ، روداننشأت النزعة التقريرية في فرنسا حوالي سنة 1840، وكانزعيمها ‏»كوربيه«‏ الذي وُلِد سنة 1819، ومات سنة 1877.وقد نشأ ‏»كوربيه«‏ في أورنان،‏ إحدى مدن فرنسا الصغيرةالتي خَ‏ لَّد الرسّ‏ ام ذكرها في رسومه،‏ وقصد إلى باريس لكييتعلّم الحقوق،‏ ولكنه عكف على الرسم،‏ وكان جمهوريالمبدأ،‏ يعطف على العمّ‏ ال،‏ ولذلك فمعظم رسومه ‏-إن لمنقل جميعها-‏ يتعلّق بحياة الطبقات الفقيرة،‏ وكان يكرهالخياليين،‏ الذين كانوا يستخرجون موضوع رسومهم مناألشعار وقصص القرون الوسطى،‏ ويقول إن الحياة وأعمالالناس هي الموضوع الذي يجب على الرسّ‏ ام أن يتناوله164


ويدرسه وينقله على لوحاته.‏ويُحكى عنه أن أحد األغنياء رغَّ‏ ب إليه أن يرسم بعضالمالئكة في إحدى الكنائس فأجابه قائالً‏ : ‏»مالئكة!‏ولكني ما رأيت في حياتي مالئكة،‏ فكيف أرسمها وأنالم أرَها؟!«.‏ ولمّ‏ ا عمّ‏ ت الثورات أوروبا سنة 1848 راجترسوم ‏»كوربيه«‏ لديموقراطيته وحبّه للعمال،‏ ونال،‏ فيتلك السنة،‏ وساماً‏ يجيز له عرض رسومه بدون أن تقرّ‏ علىذلك لجنة المعارض.‏ وقد انتفع هو بذلك،‏ ألنه عندمازالت النشوة الثورية وجاء وقت االرتداد،‏ وكُ‏ رِ‏ هت رسومهبقي يعرضها ويستعمل حقّه.‏ من أحسن رسومه صورة‏»الحجّ‏ ارين«‏ أي مقتلعي األحجار،‏ و»جنازة في أورنان«،‏لكن صورته ‏»رسم الرسّ‏ ام:‏ رمز حقيقي«‏ هي أحسن ماخلَّفه؛ ألنها ِ تمثّل لنا حياته وأغراضه من فنّ‏ الرسم،‏ فقدرسم نفسه وهو يشتغل برسم الريف حول أورنان،‏ مدينتهاألصلية،‏ وعن يمينه شحّ‏ اذ وعامل وتاجر وقسّ‏ يس ولصّ‏ولحّ‏ اد،‏ وهم األشخاص الذين كان يعطف عليهم ويرسمهم،‏وعن يساره بعض أصدقائه ومنهم ‏»بودلير«‏ و»برودون«.‏وفي سنة 1871 حوصرت باريس وأعلنت الشيوعية فتعيَّنهو رئيساً‏ للجنة الفنون الجميلة،‏ فأمر بهدم العمود الذييخلد ذكرى نابليون،‏ فلمّ‏ ا زال الحصار ورجعت الحكومة165


تاريخ الفنون وأشهر الصورالفرنسية حوكم على ذلك،‏ وحُ‏ كِ‏ م عليه بغرامة قدرها400000 فرنك،‏ لكنه فَرَّ‏ من فرنسا،‏ ومات بعيداً‏ عنبالده سنة 1877.وخلف ‏»كوربيه«‏ في قيادة النزعة التقريرية ‏»أدوار مانيه«‏الذي وُلِد سنة 1833، ومات سنة 1883، وكان يتبع طريقتهبفرق واحد هو أنه لم يكن ديموقراطيّاً‏ مثله،‏ فكانتأشخاصه من الطبقة ِ المتوسّ‏ طة ولم تكن من العمّ‏ ال.‏وكان مولد ‏»مانيه«‏ في باريس،‏ وكانت نيّة أبويه أنيدريس الحقوق،‏ ولكنه ‏-مثل ‏»كوربيه«-‏ ترك هذا العلموالتحق بمرسم ‏»كوتور«‏ ‏)توفي سنة 1879(، ثم ساح فيألمانيا والنمسا وإيطاليا لدرس القدماء.‏ وكان يلتفت إلىموضوع ظالل األضواء في الصورة.‏ ويُحكى عنه أنه سئلذات مرة وهو يرسم جماعة من الناس:‏ ‏»من هو أهمّ‏ هؤالءاألشخاص؟«،‏فقال من فوره:‏ ‏»أهمّ‏ األشخاص عندي هو الضوء«.‏ولمّ‏ ا أقيم معرض الصور سنة 1883 في فرنسا عرض ‏»مانيه«‏بعض رسومه فرُفِضت،‏ لكن نابليون الثالث عندما سمع بأناللجنة المكلَّفة بدرس الصور وقبولها أو رفضها قد رفضتعدداً‏ كبيراً،‏ أمرَ‏ بإيجاد معرض آخر ‏»للمرفوضين«.‏ وكانبين هؤالء المرفوضين:‏ ‏»هويسلر«،‏ و»مانيه«،‏ و»التور«،‏166


و»كلود مونيه«،‏ و»رينوار«،‏ وغيرهم.‏وكان من الرسوم المعروضة صورة ‏»غروب الشمس«‏ لكلودمونيه،‏ وقد كتب تحتها ‏»تأثّرُ‏ «، وبدالً‏ من أن تستثير هذهالصورة إعجاب الزائرين استثارت ضحكهم حتى إنه أطلقعلى هؤالء المرفوضين اسم ‏»التأثّريين«،‏ ولصق هذاالوصف بكلود مونيه فَرَضِ‏ يه منهجاً‏ جديداً‏ للرسم يُنسَ‏ بإليه،‏ وسار فيه.‏ولم يكن ‏»إدوار مانيه«‏ يعرف كلود مونيه قبل هذاالمعرض،‏ ولكنهما ‏-للتشابه بين اسميهما،‏ ولالشتراك فيالطريقة الجديدة-‏ صارا هدفاً‏ للسبّ‏ والتشهير.‏وقد سبق أن قلنا:‏ إن ‏»إدوار مانيه«‏ كان تقريريّاً‏ ينزع إلىوصف الحقيقة،‏ وقد بقي كذلك مدّ‏ ة طويلة يجري علىخطّ‏ ة ‏»كوربيه«.‏ أحسن رسومه في ذلك الوقت هو صورة‏»الكوكب السائغ«،‏ لكنه انتهى بأن انضوى إلى المدرسةالجديدة التأثّرُ‏ ية كما يُرى في رسمه لصورة ‏»مشرب الفوليبيرجير«.‏واآلن يجدر بنا أن نلخّ‏ ص النزعات الفنية منذ الثورةالفرنسية،‏ ثم نشرح النزعة التأثّرُ‏ ية،‏ ففي مدّ‏ ة الثورة ظهر‏»القديميون«‏ أي الذين ينزعون إلى درس الرومان واليونانويرسمون آلهتهم وأساطيرهم،‏ ثم ظهر ‏»الخياليون«‏ الذين167


تاريخ الفنون وأشهر الصورينزعون إلى رسم حوادث القرون الوسطى ويستخرجونموضوعاتهم من الشعراء والقصصيين،‏ ثم ظهر بعدهم‏»التقريريون«‏ الذين يقتصرون على تقرير الحقائق،‏ وأخيراً‏ظهر ‏»التأثّريون«،‏ وعلى رأسهم ‏»كلود مونيه«.‏فالرسّ‏ ام التقريري يرسم األشياء كما هي حين يتأمّل المنظرويتدبّره،‏ ولكن الرسّ‏ ام التأثّري يرسم الصورة كما تفجأهبمنظرها،‏ وكما يتذكّ‏ رها خواطر سريعة تمرّ‏ بذهنه وتترك فيهأثراً‏ بارزاً‏ تُنسى فيه التفاصيل ويبقى األثر البارز.‏ وبعبارةأخرى نقول:‏ إن المنهج التأثّري يرمي إلى التأليف بينالشكل العمومي بال تحليل أو عناية بالتفاصيل.‏وقد احتاج التأثّريون إلى درس األلوان درساً‏ علميّاً،‏ ومالواإلى األلوان البرّاقة مع معرفة التغيُّر الطارئ على األشياءلتغيُّر الضوء الساطع عليها؛ فلون األعشاب إذا رؤيت عنكثب أخضر،‏ ولكنها إذا رؤيت عن بعد صارت زرقاء.‏ولون الثلج عن كثب أبيض،‏ ولكنه إذا رؤي عن بعد ‏-كماترى أسناد جبال األلب-‏ صار نحاسيّاً،‏ فهذه االختالفاتأخذ التأثّريون يدرسونها لمعرفة األثر الذهني الذي تتركهالصورة في نفس الناظر.‏وقد وُلِد ‏»كلود مونيه«‏ سنة 1840، وقضى مدّ‏ ة الخدمةالعسكرية في الجزائر،‏ وعرف ‏»رينوار«‏ وصادقه،‏ كما168


صادق بعد ذلك ‏»مانيه«‏ وأسَّ‏ س مرسماً‏ في باريس.‏ منأحسن رسومه صورة ‏»جسر لندن«.‏ومن الثائرين أيضاً‏ ‏»ديجاس«‏ الذي وُلِد سنة 1834،ومات سنة 1<strong>91</strong>7، وقد رحل ‏»ديجاس«‏ سنة 1856 حيثتشبَّع برسوم النهضة،‏ ولمّ‏ ا عاد إلى باريس شرع يرسمالموضوعات التاريخية.‏ من رسومه في ذلك لوحة كبيرةهي ‏»منظر الحرب في القرون الوسطى«،‏ ولكنه ترك ذلكإلى نقل صور الحياة التي يحياها الناس حوله،‏ فكان يرسمالمناظر في القهوة ودار التماثيل ومضامير السباق والمرأةالتي تكدّ‏ للعيش.‏ وقد تأثر فنّه،‏ مثل هويسلر،‏ بالفنّ‏ الياباني.‏من أحسن رسومه صورة ‏»الراقصة«‏ التي تتوهّ‏ ج بشبابالفتاة وحماستها وانتعاشها بالفرح واالنتصار وهي تتلقّىهتاف ِ المتفرّجين.‏ وكاد يختصّ‏ برسم أوضاع الرقص حتىنبغ في ذلك،‏ وباع إحدى لوحاته المسمّ‏ اة ‏»الراقصات فيالحانة«‏ بعشرين جنيهاً.‏ وقبل أن يموت بيعت هذه اللوحةنفسها بمبلغ 17400 جنيه.‏ومن الثائرين أيضاً‏ ‏»رينوار«‏ الذي وُلِد سنة 1841، وماتسنة 1<strong>91</strong>9، وقد بدأ حياته الفنية بالرسم على الصيني،‏وبقي طول حياته يميل إلى الزخارف،‏ وفيّاً‏ لهذا الميلأو التربية األولى.‏ وقد نشأ في ليموج،‏ لكنه غادرها إلى169


تاريخ الفنون وأشهر الصورباريس حيث أقام له مرسماً‏ واختصّ‏ برسم األشخاص.‏ومن أحسن من أنجبتهم فرنسا المثَّال ‏»رودان«‏ الذيأعاد إلى الناس في عصرنا ذكرى مايكل أنجلو والعبقريةاإليطالية القديمة.‏ ولد في باريس سنة 1840، ومات سنة.1<strong>91</strong>7استعمل الطريقة التأثّرُ‏ ية في نحته،‏ وصنع تمثال الكاتبالقصصي ‏»بلزاك«‏ على هذه الطريقة،‏ وقد ابتدع طريقةجديدة في نحت التماثيل،‏ وهو أنه كان أحياناً‏ يصنعالتمثال وينحته كامالً‏ ناصعاً،‏ ولكنه يتركه في الحجرالغشيم األصلي الذي نُحِ‏ ت منه ليتوَّهم الناظر إليه كأنه قدانتفض من ذلك الحجر.‏170


الفصل الرابع والعشرونالوحوش،‏ والتكعيبيون،‏ واالستقباليونسيزان ، فان جوخ ، جوجان ، ماتيس ، بيكاسو ،مارينتي ، جواكيمو باالحدث عقب ‏»النزعة التأثّرُ‏ ية«‏ نزعات جديدة هي أشبهباالنحرافات الجنونية منها بالنزعات السليمة.‏ ربّماكان لظهور اآللة الفوتوغرافية بعض األثر في ذلك،‏ فإنالرسّ‏ امين أرادوا أن يمتازوا من ِ المصوّرين الفوتوغرافيين،‏فكان ذلك فيهم داعية إلى الشذوذ واالنحراف،‏ فقد قالوا:‏‏»إذا كانت اآللة الفوتوغرافية ِ تصوّر الجسم،‏ فعلى الرسّ‏ امأن ِ يصوّر الفكرة«.‏وهؤالء الذين نذكرهم في هذا الفصل من العبقريين الذينانحرفوا أو مالوا إلى الشطط،‏ وأوّلهم ‏»سيزان«‏ الذي وُلِد171


تاريخ الفنون وأشهر الصورسنة 1830، ومات سنة 1906. فقد بق لماطويلة وهويعرض رسومه مع التأثّريين،‏ ويعدّ‏ في جملتهم،‏ وكان صديق‏»مونيه«‏ و»رينوار«،‏ ولكنه لم يكن يستعمل تلك األلوانالمتأللئة التي كان يستعملها التأثّريون،‏ إذ إن معظم رسومهتكسوها السمرة،‏ وكان يهوى الرسم لذّ‏ ةً‏ وطرباً‏ بالفنّ‏ ، اليبغي منه أجراً،‏ حتى لقد حُ‏ كِ‏ ي عنه أنه كان يخرج إلىالحقل أو الغابة للرسم فإذا أتمَّ‏ لوحته تركها مكانها كأنه لميكن يرسم إال لكي يدرس الطبيعة،‏ فكانت زوجته تخرجوتحمل اللوحة إلى البيت.‏ وهو يعدّ‏ تأثّريّاً‏ لوال حبّه لأللوانالسمراء،‏ وليس هذا انحرافاً‏ كبيراً.‏ أحسن رسومه صورتهلنفسه،‏ و»العبا الورق«.‏وقريب من ‏»سيزان«،‏ في نزعته،‏ ‏»فان جوخ«‏ الذي وُلِدسنة 1853 ومات منتحراً‏ سنة 1890. وهو هولندي كانأبوه قسّ‏ يساً،‏ فنشأ وقد أشبعت نفسه بالتعصُّ‏ ب الديني،‏واشتغل في باريس ببيع الرسوم،‏ ثم صار ِ معلّماً‏ في إنجلترا،‏وعاد إلى أمستردام لكي يصير قسّ‏ يساً،‏ ولكنه ترك كلّيّةالالهوت التي التحق بها وقصد إلى منطقة عمّ‏ ال المناجمفي بلجيكا بوصفه مرسالً‏ دينيّاً،‏ وهناك درس أحوال هؤالءالعمّ‏ ال وعطف عليهم حتى لفت نظر والة األمور بعطفه،‏وكان يُعطي العمّ‏ ال كلّ‏ ما يملك حتى كان يجوع أحياناً،‏172


ويؤثرهم على نفسه،‏ وكان يتلهّى،‏ ويزجي السأم برسمهأشخاصهم.‏وقد بدأ ‏»فان جوخ«‏ هاوياً،‏ ولكنه أتقن الرسم،‏ وسار علىطريقة التأثّريين وجعل مقامه في أرل في جنوب فرنسا،‏وهناك ظهرت عليه عوارض الشذوذ،‏ فإن إحدى فتياتالحانة عرضت عليه أن يهدي إليها هديّة،‏ فلمّ‏ ا أبى طلبتمنه ‏-على قبيل المزاح-‏ أن يهدي إليها أذنه الضخمة،‏ فلمّ‏ اكان عيد الميالد وجدت الفتاة طرداً‏ من طرود البريد قدأُرسِ‏ ل إليها،‏ فلمّ‏ ا فتحته وجدت أذناً‏ ما يزال دمها ينضح،‏وذهب الطبيب إلى ‏»فان جوخ«‏ فألفاه محموماً‏ يهذي،‏وحُ‏ مِ‏ ل المسكين إلى المارستان حيث بقي مدّ‏ ة،‏ ثم خرجبعد أن شفي.‏ ولكن السوداء ما زالت تعاوده وتظلم ذهنهحتى انتحر سنة 1890. ومع جنونه فإن رسومه تدلّ‏ علىإنسانية عجيبة،‏ وأحسن رسومه صورة ‏»المساجين يؤدّونالتمرين اليومي«‏ في فناء السجن،‏ وهي تدلّ‏ على العطفاإلنساني وتبعث في النفس األسى والحزن العميق لهؤالءالمساكين.‏ويبدأ الشذوذ واالنحراف في ‏»جوجان«‏ الذي وُلِد سنة1848، ومات سنة 1903. وهو فرنسي من أمّ‏ بيروية،‏ قضىشبابه في السياحة ولم يشرع في الرسم إال وهو حوالي173


تاريخ الفنون وأشهر الصورالثالثين،‏ وكان يرسم على طريقة التأثّريين،‏ ولكنه حوالي18<strong>91</strong> هجر فرنسا إلى تاهيتي مُؤثِراً‏ معيشةَ‏ المتوحشّ‏ ينورسمَ‏ هم على معيشة ِ المتمدّ‏ نين.‏عاد إلى باريس في أواخر القرن الماضي وهو يدعو إلىطريقة جديدة في الرسم والحياة فلقيت دعوته قبوالً‏ عندأولئك المنهوكين الذين اصطُ‏ لِح على تسميتهم ‏»أبناء آخرالقرن«‏ أولئك الذين ال يطيقون تكاليف الحضارة وماتطلبه من األعصاب من الجهد،‏ فينزعون إلى السذاجةوالرجوع إلى الفطرة.‏ أحسن رسومه التي تمثل هذهالسذاجة ‏»امرأتان من تاهيتي«.‏وقد تبع ‏»جوجان«‏ كثيرون من الفرنسيين أطلِق عليهم اسم‏»الوحوش«‏ ألنهم يُؤثِرون حال البداوة والتوحُّ‏ ش علىالحضارة،‏ وهذه الرغبة في السذاجة نجدها على أوفاهاعند ‏»هنري ماتيس«‏ الذي وُلِدَ‏ سنة 1869، وقد سار‏-أوالً-‏ على الطريقة التأثّرية،‏ ولكنه بالغ في الرغبة فيالبساطة كما يرى القارئ في صورته ‏»رأس امرأة«.‏وظهرت عقب ‏»الوحوش«‏ مدرسة أخرى هي مدرسة‏»التكعيبيين«‏ التي ما يزال الشكّ‏ قائماً‏ حول ِ مؤسّ‏ سها:‏هل هو ‏»براك«‏ الفرنسي أم ‏»بيكاسو«‏ اإلسباني؟ وتتّصلحركة ‏»التعكيبيين«‏ بحركة ‏»الوحوش«‏ من ناحية الرغبة174


في الرجوع إلى األصل والفطرة،‏ فقد قالوا:‏ إن البلَّوْرةهي الشكل الفطري األصلي في الطبيعة،‏ ولذلك عليناأن نتخلَّص من األقواس ونضع مكانها الزوايا كما نرىفي أشعّة البلَّورة،‏ ثم علينا أن نستعمل الخطوط المستقيمةألنها أقوى من الخطوط المنحنية؛ ولذلك فهي أجمل ألنالجمال في القوّة.‏ويمكن الردّ‏ على هذه المدرسة بأن الوردة أضعف األشياءوأجملها معاً،‏ وأن القنطرة أقوى من الخط المستقيم.‏ونشأت بعد ذلك مدرسة إيطالية أخرى يسمّ‏ ي أفرادهاأنفسهم ‏»االستقباليين«،‏ ولهم غايات أدبية وفنية يرمونمنها إلى أال يغمر التاريخ الماضي حاضر إيطاليا.‏ زعيمهذه الحركة ‏»مارينتي«‏ الذي وُلِد في اإلسكندرية.‏من أحسن أو أغرب رسّ‏ امي هذه المدرسة ‏»جواكيمو باال«.‏وربما كانت أعظم ميزات هذه المدرسة أنها تحاول أنتنقل إلى الناظر اإلحساس بالحركة في الرسم.‏وقد استعمل الرسّ‏ امون اإلنجليز الطريقتين ‏»التكعيبية«‏و»االستقبالية«‏ مدّ‏ ة الحرب الكبرى في نقل مشاهدالحرب.‏175


تاريخ الفنون وأشهر الصور176


‏»خيانة المسيح«‏ ل ‏»چوتو«‏177


تاريخ الفنون وأشهر الصور‏»زواج چيوفاني أرنولفيني وچيوفانا سينامي«‏ ل ‏»فان أيك«‏178


‏»الچيوكندا«‏ أو ‏»الموناليزا«‏ ل ‏»دافنشي«‏179


تاريخ الفنون وأشهر الصور‏»سانت چيروم«‏ ل ‏»دافنشي«‏180


‏»الدونا فاالتا«‏ ل ‏»رافائيل«‏181


تاريخ الفنون وأشهر الصور‏»بالداسار كاستليوني«‏ ل ‏»رافائيل«‏182


الفنان ‏»دورير«‏ بريشته183


تاريخ الفنون وأشهر الصور‏»قبّعة القش«‏ ل ‏»روبنز«‏184


‏»روبنز«‏ بريشته وهو في الخمسين185


تاريخ الفنون وأشهر الصور‏»الخالسي«‏ ل ‏»هالز«‏186


‏»الرجل ذو الخوذة النحاسية«‏ ل ‏»رامبرانت«‏187


تاريخ الفنون وأشهر الصور‏»فتاة بقِرْط لؤلؤي«‏ ل ‏»فرمير«‏188


‏»حفلة الموسيقى«‏ ل ‏»واطو«‏189


تاريخ الفنون وأشهر الصور‏»درس الموسيقى«‏ ل ‏»فراجونار«‏190


‏»بائعة الجمبري«‏ ل « هوجارث »1<strong>91</strong>


تاريخ الفنون وأشهر الصور‏»إيما هاملتون«‏ ل ‏»رومني«‏192


‏»الملكة شارلوت«‏ ل ‏»لورانس«‏193


تاريخ الفنون وأشهر الصور‏»تتويج نابليون«‏ ل ‏»جاك لويس دافيد«‏ - تفصيل194


‏»بزوغ الشمس من وراء الضباب«‏ ل ‏»تورنر«‏195


تاريخ الفنون وأشهر الصور‏»مدام ريكامييه«‏ ل ‏»جيرار«‏196


‏»جمع ضرائب العرب«‏ ل ‏»دوالكروا«‏197


تاريخ الفنون وأشهر الصور‏»المرجيحة«‏ ل ‏»رينوار«‏198


‏»راقصة الباليه«‏ ل ‏»إدجار ديجاس«‏199


تاريخ الفنون وأشهر الصور‏»المائدة«‏ لسيزان200


‏»الفاز األزرق«‏ ل ‏»بول سيزان«‏201


تاريخ الفنون وأشهر الصور‏»الدكتور كاشيت«‏ ل ‏»فان جوخ«‏202


‏»ركن في المدالن ديه الجاليت«‏ ل ‏»تولوز لوتريه«‏203


تاريخ الفنون وأشهر الصور‏»ثالثة من تاهيتي«‏ ل ‏»جوجان«‏204


‏»آنسات إفينيون«‏ ل ‏»بيكاسو«‏205


تاريخ الفنون وأشهر الصورصدر يف سلسلة كتاب الدوحةطبائع االستبدادبرقوق نيساناألمئة األربعةالفصول األربعةاإلسالم وأصول الحكم - بحث يف الخالفة والحكومة يف اإلسالمرشوط النهضةصالح جاهني - أمري شعراء العاميةنداء الحياة - مختارات شعرية - الخيال الشعري عند العربحرية الفكر وأبطالها يف التاريخالغربالاإلسالم بني العلم واملدنيةأصوات الشاعر املرتجم - مختارات من قصائده وترجامته• فتنة الحكاية جون أيديك - سينثيا أوزيك - جيل ماكوركل - باتريشيا هامبلامرأتنا يف الرشيعة واملجتمعالشيخانورد أكرث - مختارات شعرية ونرثيةيوميات نائب يف األريافعبقرية عمرعبقرية الصدّيقرحلتان إىل اليابانلطائف السمر يف سكان الزُّهرة والقمر أو ‏)الغاية يف البداءة والنهاية(‏ثورة األدبيف مديح الحدودالكتابات السياسيةنحو فكر مغايرتاريخ علم األدبعبد الرحمن الكواكبيغسان كنفاينسليامن فياضعمر فاخوريعيل عبدالرازقمالك بن نب ‏ّيمحمد بغداديأبو القاسم الشايبسالمة موىسميخائيل نعيمةالشيخ محمد عبدهبدر شاكر السيابترجمة:‏ غادة حلواينالطاهر حدادطه حسنيمحمود درويشتوفيق الحكيمعباس محمود العقادعباس محمود العقادعيل أحمد الجرجاوي/صربي حافظميخائيل الصقالد.‏ محمد حسني هيكلريجيس دوبريهاإلمام محمد عبدهعبد الكبري الخطيبيروحي الخالدي12345678<strong>91</strong>0111213141516171819202122232425206


عبقرية خالدأصوات الضمريمرايا يحيى حقيعبقرية محمدعبدالله العروي من التاريخ إىل الحبفتاوى كبار الكتّاب واألدباء يف مستقبل اللغة العربيةعام جديد بلون الكرز ‏)مختارات من أشعار ونصوص مالك حداد(‏سِ‏ اج الرُّعاة ‏)حوارات مع كُتاب عامليّني(‏مقالة يف العبودية املختارة ‏)إيتيان دي البويسيه(‏عن سريتَ‏ ابن بطوطة وابن خلدونحي بن يقظان - تحقيق:‏ أحمد أمنياإلصبع الصغرية - ترجمة:‏ د.عبدالرحمن بوعيلمحمد إقبال - مختارات شعريةتزفيتان تودوروف ‏)تأمُّالت يف الحضارة،‏ والدميوقراطية،‏ والغريية(‏مناذج برشيةالرشق الفنانتشيخوف - رسائل إيل العائلةإلياس أبو شبكة ‏“العصفور الصغري”‏ - مختارات شعريةملاذا تأخر املسلمون؟ وملاذا تقدم غريهم؟مختارات من األدب السوداينرحلة إىل أوروبااملُعتمدُ‏ بنُ‏ عبَّاد يف سنواته األخرية باألسعباس محمود العقادخمسون قصيدة من الشعر العاملييحيى حقيعباس محمود العقادحوار أجراه محمد الداهيترجمة:‏ رشف الدين شكريخالد النجارترجمة:‏ مصطفى صفواند.بنسامل حِ‏ مّ‏ يشابن طفيلميشال سارمحمد إقبالترجمة:‏ محمد الجرطيأحمد رضا حوحود.زيك نجيب محمودترجمة:‏ ياس شعباناألمري شكيب أرسالنعيل املكجُ‏ رجي زيداند.عبدالدين حمروش26272829303132333435363738394041424344454647207


208

Hooray! Your file is uploaded and ready to be published.

Saved successfully!

Ooh no, something went wrong!