09.05.2021 Views

Num243

Create successful ePaper yourself

Turn your PDF publications into a flip-book with our unique Google optimized e-Paper software.

ا ل حد‏ ث 4

خرب وحتليل

لبنان

يف بقعةٍ‏ منسيّ‏ ة مهمّ‏ ‏شة يف مدينة طرابلس

‏ساكنٌ‏ بني املقابر يحلم:‏ اأنا الدكتور ‏شادي

Journal Alhadath-LInternational Num 243, 7 mai 2021

كتبت الزميلة نوال نصر في جريدة نداء

الوطن:‏

ننسى في متاهات الحياة ان في الدنيا

موتاً.‏ أما هم،‏ أطفال حيّ‏ الغرباء في

طرابلس،‏ فيلعبون في أماكن،‏ نبتت

فيها أزهار صفراء،‏ وتقوم عليها شواهد،‏

ويقولون عنها:‏ مقابر.‏ فهل تصدقون ان

المقابر قد تتحول لبعض األطفال ساحات

للعب؟ واألموات يُصبحون مصدر عيش؟

وأن الطفولة في جنبات كثيرة تتبدد فيكبر

الصغار قبل األوان في مجتمعات ال تُميّز

بين مقبرة وحياة؟

حين نرى،‏ ونحن نمشي في سبيلنا،‏ سيارة

دفن الموتى،‏ نشيح بنظرِنا عنها،‏ نشعر

بخوفٍ‏ ، بقلق،‏ بانزعاج،‏ برهبة،‏ أما هم

فيركضون نحوها مهللين فرحين معللي

األنفس بعشرة آالف ليرة أو عشرين ألفاً‏

‏)إذا كان المرء شهماً‏ كريماً(‏ لقاء تنظيف

المقبرة ورش القبر بالمياه.‏

قصدنا المكان.‏ زقاق ضيق جداً.‏ مطبات

وحفر.‏ وكثيرات من النسوة اللواتي ظننّ‏

أننا نحمل مساعدات.‏ نحاول أن نقنعهنّ‏

بالعكس لكنهن ال يُصدقنَ‏ . يشددن بنا

يميناً‏ ويساراً‏ مشكلين ما يُشبه ‏»الكماشة«‏

حولنا بأجسادِ‏ عشرات النساء واألطفال

الذين يلهثون من أجل الحصول على مالٍ‏

وغذاء.‏ طفلٌ‏ يتسلّى بجرّ‏ كرتونة فيها طفل

آخر ويضحكان معاً‏ كثيراً.‏ وطفلة ٌ تلعب

‏»بيت بيوت«‏ مع صديقتها.‏ وحنايا المقبرة

هي البيت.‏ مشاهد بالفعل موجعة في

مجتمعٍ‏ مهمل،‏ مهمّش،‏ منسي في القرن

الواحد والعشرين.‏

الدينامو

الطفل شادي )13 عاماً(‏ يبدو ‏»دينامو«‏

الحيّ‏ . يمشي ومعه تسعة أو عشرة فتيان.‏

نراه يتغامز معهم ويضحكون.‏ التعساء

أيضاً‏ يضحكون.‏ ونتأكد من تعاسة شادي

بعد أن يبدأ في إخبارنا بحالِه.‏ نسمع منه

ما يجعلنا نخال أننا أمام رجلٍ‏ ال فتى.‏ فما

قصّ‏ ة شادي؟

ننتظره الى حين ينتهي من تنظيف

إحدى المقابر.‏ ننظر إليه وهو فرحٌ‏ في

جني خمسة عشر ألف ليرة بدل عمله.‏

نجلس بين الضرائح،‏ في محاذاة الشواهد،‏

وننصت إليه بانتباه شديد وهو يُكثر

من ترداد ‏»الحمدلله«.‏ يقول:‏ ‏»اسمي

شادي،‏ أعمل،‏ منذ كنت طفاً،‏ في المقابر

ألساعد أهلي.‏ منذ بلغت سن السادسة

وأنا أعمل هنا.‏ أنزع األعشاب،‏ أرفع

النفايات،‏ وأجلب المياه الى زوار القبور.‏

أتقاضى ماالً‏ من الزائر،‏ ‏»شو بيطلع من

خاطرو باخد«،‏ وأعطي أهلي كل ما أجنيه

‏»شي عشرين تاتين ألف ليرة«‏ في آخر

النهار.‏ والدي مريض.‏ مريض أعصاب.‏ أراه

يتألم لياً‏ ونهاراً‏ وال أحد يبالي به وبنا...‏

ال أحد«.‏ يضع شادي وجهه بين كفيه،‏

ينظر الى رفاقه،‏ ينظر الى المقابر،‏ يُمسك

بعصا يغرزها بين حين وآخر في الوحل

ثم يرفعها بقوة.‏ نراه متوتراً.‏ يحمل همّاً‏

أكبر بكثير من عمره.‏ نراه طفاً‏ ال ماذ له

وال أفق سوى أن يكبر في بقعة من يحيا

فيها ال يعيش.‏ ومن يعِيش بين األضرحة

يكون على هامش الحياة،‏ مختلفاً‏ بنظر

المجتمع.‏

الولد القبضاي

يتطلع شادي نحو السماء مردداً:‏ ‏»ال

أخاف من الموت وال من الجثث والقبور

والمقابر.‏ أخاف فقط من الله حتى ولو

أبقوني طوال الليل وحدي مع األموات.‏

إسألي كل العالم شادي ‏»شي بيخاف«؟

سيجيبونك:‏ ال.‏ ال أخاف إالّ‏ من ربّ‏

العالمين«.المقابر عالمه ومجتمعه.‏

شادي ‏»قبضاي«.‏ هكذا يبدو.‏ هذا ما

أشعرنا به.‏ لكن،‏ من اين يستمد قوته؟ هل

يبكي؟ هل يصرخ؟ هل يلعب؟ هل ينام

با عشاء؟ يجيب ‏»الحمدلله الحمدلله.‏

الله خلقني،‏ وهو قادر على كل شيء،‏

فلماذا أخاف من الموت ومن الموتى؟

الموتى ال يخيفونني.‏ األحياء يخيفونني

أكثر.‏ ويستطرد:‏ نحن ثاثة أوالد.‏ صبيان

وبنت.‏ ولدت هنا وأكبر هنا أما أصلي

فمن عكار العتيقة.‏ البارحة تناولت قبل

النوم خبزاً‏ وصعتراً.‏ أحياناً‏ نأكل الجبنة.‏

وأحياناً‏ ننام با عشاء«.‏ هل تناول البارحة

العشاء؟ ينظر مجدداً‏ نحو السماء كمن

يريد أن يتهرب من الجواب.‏ نكرر السؤال

فيجيب:‏ ‏»ما تعشيت...‏ الحمدلله«.‏

ليس سهاً‏ جعل شادي يتكلم حول

كل شيء.‏ هو ولدٌ‏ ذكي علّمته الحياة

ما لم يتعلمه كثير من البشر في عقود

مديدة.‏ نراه يتأنى في اختيار مرادفاته،‏

وحين نسأله عن لبنان،‏ يجيب:‏ ‏»لبنان

قلبي«.‏ لكن،‏ ماذا قدّم لبنان له ولرفاقه؟

هل هناك من سعى في لبنان الى رفع

الظلم والتهميش والفقر عن هذه البقعة

الجغرافية التي يترعرع فيها؟ هل هناك

من سأل عن صبيان يعيشون بين المقابر؟

يجيبنا وكأننا في وادٍ‏ وهو في وادٍ‏ آخر،‏

وكأننا لم نفهم ‏»الحياة«،‏ بالقول:‏ ‏»من

يملك المال ‏»الله يرزقو«‏ مرتاح،‏ ال يرسل

أطفاله الى المقابر وال يبالي بأوالد الناس

الذين يعيشون في المقابر،‏ وال يهتم

بالطبع بمن أكل وشرب ونام«.‏

ربّ‏ أسرة

ال يعرف شادي،‏ كما كل رفاقه،‏ شيئاً‏ عن

السينما إال اإلسم.‏ وال يعرف أي شيء عن

مدن الماهي سوى أن األطفال يذهبون

الى هناك في األعياد.‏ أما رقائق البطاطا

‏)الشيبس(‏ ‏»فيا ويلن من الله«.‏ كان

يشتري الكيس بمئتين وخمسين ليرة

وأصبح بثاثة آالف ليرة.‏ ووضعه ال يسمح

له ‏»بالفنكرة«:‏ ‏»كل همي أهلي وإخوتي«.‏

ويعود ليكرر ‏»والدي مريض،‏ مريض جداً،‏

مريض أعصاب.‏ ال يعمل.‏ وكل ما أتقاضاه

أعطيه الى والدتي لتشتري لنا الطعام«.‏

كبُر شادي في بقعةٍ‏ مهملة،‏ متروكة،‏

منسية،‏ مهمشة،‏ غريبة.‏ كبُر وهو يناجي

القبور وأهل القبور متيقناً‏ أن األموات قد

يسمعون أكثر بكثير من أحياءٍ‏ كثيرين.‏

كبُر با لعبة وال ثياب جديدة وال مشاوير،‏

‏»من التربة للبيت ومن البيت للتربة«،‏

لكن الظروف التي يشبّ‏ فيها لم تنجح في

قتل األحام التي فيه.‏ نسأله:‏ بماذا تحلم؟

يجيب ‏»أن أصبح دكتوراً«.‏ طبيب ماذا؟

هل فكّر باختصاصٍ‏ ما؟ ‏»ال،‏ بدي فوت

على الجامعة وصير دكتور وعالج بيي«.‏

يحتاج والده الى عاج كلفته ثاثة أو

أربعة آالف دوالر وال تملك العائلة ثاثمئة

او أربعمئة الف ليرة.‏

نعود ونسأله:‏ هل هو سعيد؟ هل هو طفل

حزين؟ متى يبكي؟ هل يتمنى الذهاب

الى المدرسة؟ ال يُميّز الطفل الذي ترعرع

بين القبور بين مفهومي الحزن والسعادة

لكن ما هو أكيد منه أنه ال يبكي أمام

أحد غير ‏»رب العالمين«:‏ ‏»ال أقبل أن

يراني أحد ضعيفاً.‏ أبكي وحدي.‏ اإلنسان

‏»بينقهر«‏ أحياناً.‏ أشعر بالقهر حين ال أجد

طعاماً‏ في البراد.‏ أشعر بالقهر حين تطلب

والدتي ماالً‏ ال أملكه«.‏ أتمنى لو كنت

طفاً‏ كما كل األوالد.‏ أدرس.‏ ألعب.‏ آكل ما

أشاء ساعة أشاء.‏ لكن،‏ الحمدلله«.‏

هل يلوم الدولة على حاله؟ يجيب:‏

‏»دولة؟ شو يعني دولة؟«.‏ وصل الجواب.‏

يستخدم شادي مصطلح المال كثيراً.‏ فهل

الفاقة جعلته يحب المال؟ يجيب ‏»ال،‏ ال

أحب المال ألن من معه ومن ليس معه

سينتهي هنا في القبر«.‏ رهيبٌ‏ أن يصدر

هذا النوع من الكام من طفل يفترض أن

يرى الضوء ال العتمة.‏

حي الغرباء

يرددُ‏ شادي،‏ أمام عدسة الكاميرا،‏ نفس

العبارات كما الببغاء.‏ وحين تُطفئ الكاميرا

يتحرر،‏ يتحدث أكثر ويبدأ في الهرولة مع

رفاقه،‏ بين القبور،‏ كما سرب العصافير.‏

تصل والدته.‏ تتحدث معه.‏ فيهرع في

اتجاه ما.‏ فماذا به؟ ماذا أخبرته؟ يهمس

أحد الصغار ممن يحومون حولنا:‏ ‏»هو

حزينٌ‏ على والده المريض«.‏ نتذكر أنه

أخبرنا أنه يهرب،‏ الى حيث ال أحد،‏ حين

ينوي البكاء.‏ نتركه مع حاله.‏ ونسرح في

أرجاء حيّ‏ الغرباء.‏

حبال الغسيل تتدلى في كل مكان.‏ مئة

وخمسون عائلة لبنانية تعيش هنا على

مساحة ال تزيد،‏ مع المقابر،‏ عن 4000

متر مربع.‏ جبانة الغرباء تعود للوقف

اإلسامي،‏ ويدفن فيها كل غريب،‏ ليست

لديه مقبرة،‏ ولم يكن لديه في هذه الدنيا

سند.‏ هنا يطلقون على كل الرجال ‏»أبو

سعيد«.‏ كلهم بهذا اإلسم.‏ وأبو سعيد

العلي هو الذي استلم المقبرة منذ

البدايات قبل سبعين عاماً.‏ وبدأ يتقاطر

كل من ليس له بيت،‏ من الغرباء،‏ من

عكار العتيقة،‏ ومن جنسيات بالفعل

غريبة،‏ الى ضفاف المقابر حاجزاً‏ مساحة

مترين بمترين ليحيا فيها مع عائلته.‏ كثر

األحياء وكثر األموات.‏ وباتوا يتشاطرون

نفس المكان.‏ هنا تتحقق مقولة:‏ المسافة

بين الحياة والمقبرة شجرة،‏ نصفها للسرير

والباقي للتابوت.‏

يا إلهي.‏ يا لقساوة بعض المشاهد في

هذه الحياة.‏ يا لقهر البعض ممن تُركوا

لمصائر لم يختاروها،‏ ويناضلون لتجاوزِها.‏

شادي أحد هؤالء مع فارق أنه ما زال

يحلم.‏ ما زال يقول:‏ لبنان قلبي.‏ وسأصبح

‏»دكتوراً«‏ ووالدي سيستعيد صحته

وسنتعشى مساء وننام.‏ ومن يحلم يسعَ.‏

ومن يسعى قد تتحقق أحامه.‏ فمن يدري

قد يقف شادي بعد عشرين عاماً‏ ويقول:‏

أنا الدكتور شادي.‏

‏)تصوير رمزي الحاج(‏

Hooray! Your file is uploaded and ready to be published.

Saved successfully!

Ooh no, something went wrong!