20.12.2022 Views

ماكو فضاء حر للابداع -4-2022

مجلة الكترونية تهتم بتاريخ الفن العراقي، تتابع نشأته في القرن الماضي وما حصل من تبدلات في الاسلوب والرؤيا، مع اهتمام بنشر ما يتوفر من وثائق وصور ذات علاقة بهذا التاريخ.

مجلة الكترونية تهتم بتاريخ الفن العراقي، تتابع نشأته في القرن الماضي وما حصل من تبدلات في الاسلوب والرؤيا، مع اهتمام بنشر ما يتوفر من وثائق وصور ذات علاقة بهذا التاريخ.

SHOW MORE
SHOW LESS

Create successful ePaper yourself

Turn your PDF publications into a flip-book with our unique Google optimized e-Paper software.

يف العدد القادم<br />

فائق حسن<br />

168


167


166


165


164


163


162


161


160


سجاد مصطفى<br />

159


158


مهدي صبا<br />

رؤى سعد نايف<br />

157


156


رنيم كفاح االلوسي<br />

طه محمد<br />

155


154


153


اسامه صادق<br />

152


نواره احمد<br />

رهاف حبي<br />

151


150


نور منير<br />

حيدر سلمان<br />

149


148


147


ندى حسني و مارسلني تاكي<br />

146


محمد املندالوي<br />

145


144


مهند عماد صادق<br />

مرتضى كامل<br />

مصطفى لطفي<br />

143


142


141


140<br />

مؤمل علي


علي كاظم الرسام<br />

139


علي كاظم الرسام<br />

138


137


عادل االعنزي<br />

احمد غامن عبادي<br />

136


135


علي خليفة<br />

134


أمجد محسن<br />

133


أمجد محسن<br />

132


131


أنور البديري<br />

داليا فرج<br />

130


رائد<br />

داليا فرج<br />

129


128


127


126


125


124


سنان حسني<br />

123


122


121


120


119


118


117


116


115<br />

اجلنوبية الفقيرة التي أفنت عمرها يف تربيته<br />

وتنشئته،‏ لتصبح رمزاً‏ لكل أم عراقية،‏ ويبقى<br />

صفاء من خالل الرسم على اجلدران خالداً‏ يف<br />

ذاكرة جيل صرخ بأعلى الصوت ‏)نريد وطن(.‏<br />

كان نصب احلرية الذي أجنزه جواد سليم بعد<br />

الثورة عام 1958، حاضراً‏ للتعبير عن صراع<br />

االنسانية ضد الظلم.‏ ورسم الفنانون سردية<br />

جديدة للنصب تعكس انتفاضتهم وبسالتهم،‏<br />

وكأمنا االنتفاضة وجدارية جواد مبفرداتها<br />

ومجملها يكمل بعضها بعضاً،‏ وال معنى<br />

ألحدهما مبعزل عن اآلخر.‏<br />

جدراية الشهداء<br />

حيدر سالم اسكندر<br />

سنان حسني


114<br />

على حتقيق الوطن الذي يحلم به،‏ بال عنف<br />

أو فساد أو مصادرة املستقبل.‏ وأصبحت<br />

ساحة الت<strong>حر</strong>ير منوذجاً‏ للوطن املنشود،‏ وعكف<br />

الفنانون على رسم النفق أسفل الساحة،‏<br />

وجدران مبنى املطعم التركي،‏ مبا يعكس<br />

واقعهم ويعبر عن طموحاتهم.‏<br />

وشكلت رسوم ساحة الت<strong>حر</strong>ير،‏ على عكس ما<br />

سبقها يف فترات مختلفة،‏ ملحمة لبطوالت<br />

الشباب وشاهداً‏ على إصرارهم وتضحياتهم.‏<br />

وأكثر من هذا جسدت هويتهم،‏ كشريحة حيوية<br />

ترفض االنصياع لغير راية العراق املتناغم<br />

حاملة قيم اجلمال والتسامح،‏ ومتسامية على<br />

جراحاتها.‏<br />

رسم كل فنان الثورة بطريقته،‏ وشكلت<br />

مبجموعها ملحمة الصراع بني احلياة واملوت،‏<br />

وكان شهداء االنتفاضة حاضرين يف كل لوحة،‏<br />

وكتبت أسماؤهم على اجلدران ويف الذاكرة.‏<br />

وحتولت عجالت التك تك من وسائل نقل<br />

مزدراة يقودها فقراء مهمشون لكسب قوت<br />

يومهم يف أحياء بغداد الفقيرة،‏ إلى رموز<br />

للشجاعة والشهامة نظراً‏ لدورهم يف نقل<br />

املصابني وجرحى التظاهرات إلى العيادات<br />

واملستشفيات حتت وابل الرصاص احلي<br />

واملطاطي والقنابل الدخانية.‏<br />

وحتول صفاء السراي،‏ الشاعر والرسام الشاب<br />

األعزل الذي استشهد بقذيفة أصابته يف<br />

الرأس،‏ الى إيقونة التضحية بالنفس،‏ وأطلقت<br />

عليه كنية ‏)إبن ثنوة(‏ يف إشارة الى والدته


الرسم على اجلدران<br />

‏)نصب الشباب الثائر(‏<br />

ميسون الدملوجي<br />

انتشر فن الغرافيتي يف بغداد مع انتشار<br />

اجلدران الكونكريتية العازلة يف املرحلة التي<br />

أعقبت احتالل العراق عام 2003 من أجل<br />

حماية بعض املناطق واألبنية والسفارات<br />

واألفراد،‏ أو حلصر وعزل مناطق أخرى مبا<br />

يسهل السيطرة األمية عليها،‏ مما تسبب<br />

بتقطيع أوصال بغداد وتكسير اللحمة بني<br />

أهلها وتشويه معاملها.‏ وكانت الشعارات على<br />

اجلدران قبل االحتالل تعنى باحلزب احلاكم،‏<br />

أو أقوال الرئيس،‏ ومرسومة بدقة من قبل<br />

السلطة.‏ ورمبا أصبحت الرسالة األكثر انتشاراً‏<br />

يف األيام األولى بعد االحتالل ‏)إخوان سنة<br />

وشيعة هذا الوطن ما نبيعه(،‏ يف إشارة إلى<br />

رفض الهوية الطائفية اجلديدة التي أقحمت<br />

على احلياة العامة.‏<br />

أثارت اجلدران اخلرسانية حفيظة األهالي<br />

ملا يحمله هذا العنصر اجلديد والطارئ<br />

والعدواني يف مدينتهم من دالالت سلبية،‏<br />

سواء من حيث اللون والشكل،‏ أو ما يرمز إليه<br />

من تضييق على احلريات وتقسيم املجتمع<br />

البغدادي وفق خطوط مذهبية أو طبقية بني<br />

حاكم ومحكوم من اخلرسانة البشعة.‏ وانعكس<br />

إقحام هذه اجلدران على املدينة يف أعمال<br />

الفنانني،‏ وقام بعضهم بتلوينها برسومات<br />

تستذكر حضارة وبهاء املدينة وسعادة أهلها<br />

يف زمن سابق مضى ولم يعد موجوداً‏ اال يف<br />

اخليال واآلمال املنسية.‏ فرسموا ناس سعداء<br />

بألوان مبهجة،‏ نساء ورجال وأطفال يف مدينة<br />

هادئة ينعمون بالعيش الرغيد،‏ ودبكات كردية<br />

بألوان زاهية،‏ وقباب اجلوامع بالشذري<br />

املبهج،‏ ومعالم من حضارة العراق مثل الزقورة<br />

وامللوية وقيثارة أور وتفاصيل من بوابة عشتار،‏<br />

ليطلعوا العالم على وطن يسكن يف أعماقهم،‏<br />

يختلف عن واقع القتل والدمار خارج اجلدران<br />

اخلرسانية.‏ وجاءت احلياة يف رسومهم سعيدة<br />

ومستقرة،‏ والشمس مشرقة.‏<br />

مثلت انتفاضة تشرين عام )2019( انعطافة<br />

كبيرة يف الرسم على اجلدران،‏ وحتول من<br />

تعبير عن خوالج الفنان ذاته،‏ إلى ‏)نصب(‏<br />

مبفهوم مختلف،‏ يجسد رمزيات الشباب<br />

املتمسك بوطنه واملتطلع إلى إصالح منظومة<br />

القيم بأكملها.‏ فقد عزم الشباب املنتفض<br />

113


246


سواء.‏<br />

هذه مناسبة مهمة،‏ أن نتذكر أهمية احلفاظ<br />

على جداريات تشرين،‏ ون<strong>حر</strong>ص على بقائها<br />

وإدامتها.‏ فهي لم تكن مجرد ألوان وخطوط<br />

وضعت على واجهة ساحات االحتجاج،‏ بل أنها<br />

رمزيات لثورة كتبت على نفسها اخللود يف<br />

ذاكرة البلد وأجياله.‏<br />

هناك ثورات عظيمة يف تاريخ العالم،‏ ليس<br />

لديها سجل جمالي؛ تشرين وحدها،‏ ورمبا<br />

هي احلالة النادرة،‏ التي جتسدت يف الشوارع<br />

والساحات،‏ كما طبعت خطابها على اجلدران<br />

بألوان كثيرة الشبه مبالمح رموزها اليافعة.‏<br />

األمر ليس أرشيفياً‏ يخلد ذكرى ثورة معرضة<br />

للنسيان،‏ بل هو عمل من أعمال الذاكرة،‏ التي<br />

متلك شروط استمرارها وتدفقها يف الزمن<br />

على هيئة احتجاج،‏ يحمل معه كل ذلك املعطى<br />

من اجلمال الذي ال ينسى.‏<br />

املفارقة،‏ أن جائزة املسابقة،‏ لن تتوجه لشخص<br />

أو مجموعة أشخاص بحد ذاتهم،‏ أنها تتوجه<br />

نحو تشرين بكل معناها الوطني وكل جتلياتها<br />

االحتجاجية،‏ فهي أول جائزة متنح ملجهولني<br />

- معلومني،‏ ملجاميع من فنانني وثوريني لم<br />

يتركوا تواقيعهم على أعمالهم،‏ منحت اجلائزة<br />

لغياب له صوت احلضور،‏ لذلك هي جائزة لكل<br />

تشريني،‏ بل لكل عراقي ما زال يحلم بوطن<br />

احمد غامن عبادي<br />

111


شهد الراوي<br />

بإعالنها فوز األعمال الفنية،‏ التي أنتجتها<br />

ثورة تشرين مبسابقة حتمل اسم الفنان امللهم<br />

‏“ضياء العزاوي”‏ تكون ‏“جائزة متيّز”‏ قد<br />

نقلت هذه األعمال من حقل االحتجاج الشعبي<br />

إلى مجال الفن باملعنى العام للكلمة.‏<br />

و”‏ متيّز”‏ مؤسسة معمارية رصينة مقرها<br />

جامعة كوفنتري البريطانية،‏ يديرها مجموعة<br />

من الشباب املعماريني املهتمني باإلرث<br />

املعماري والفني،‏ وتشترك يف جلان حتكيمها<br />

مجموعة من معماريني معروفني على مستوى<br />

العالم،‏ وكانت اخلالدة زهاء حديد قد ترأست<br />

واحدة من أولى جلانها.‏<br />

إذن،‏ نحن بصدد تقييم أكادميي غير متحيز<br />

للمعنى الثوري،‏ الذي حملته رسومات<br />

الغرافيتي تلك،‏ والتي رافقت احلدث العراقي<br />

األهم ومنحته معناً‏ جمالياً‏ يشير إلى األهداف<br />

املدنية لتشرين ويعززها.‏<br />

يف مناسبة سابقة،‏ كنت قد كتبت عن هذه<br />

األعمال يف مقاالً‏ نشرته الدورية األمريكية<br />

( Quarterly )Virginia يف عددها سبتمبر<br />

2020، أطلقت حينها على تلك األعمال “<br />

التجسيد املادي ملعنى األمل يف جماليات<br />

الثورة”‏ وقلت:‏ أن تلك األعمال اجلميلة<br />

والعفوية،‏ مبعنى ما،‏ هي تعبير من نوع آخر<br />

يتجاوز حلظة االحتجاج إلى ما هو خالد<br />

وأبدي يف الفن.‏<br />

واملعروف أن شعار تشرين كان املطالبة<br />

باستعادة فكرة الوطن،‏ التي غيبت لصالح<br />

مفاهيم جديدة مثل املكونات والكتل والطوائف<br />

وغيرها.‏<br />

اليوم،‏ إذ تستعيد هذه األعمال حضورها من<br />

خالل فوزها ب ‏“جائزة ضياء العزاوي”‏ للفن<br />

العام،‏ وهي املسابقة األحدث يف مسابقات<br />

‏“متيّز”‏ فأنها تستقر يف التاريخ كمعطى<br />

جمالي يبدو مستقالً‏ عن حلظة والدته،‏ ولكنه<br />

ال يبتعد عنها،‏ تستعاد معه فكرة الوطن الذي<br />

تبناه املخيال الشعبي بعد واقعة تشرين.‏ كما<br />

أن تلك األعمال تعد الوالدة احلقيقة لفن<br />

ال<strong>فضاء</strong> العمومي،‏ الذي تأخر يف الدخول<br />

الى العراق بعد أن حقق حضوره يف معظم<br />

مدن العالم وعواصمه،‏ حتى صارت ظاهرة”‏<br />

الغرافيتي”‏ تشكل مدخالً‏ أنثروبولوجياً‏ لقراءة<br />

عالقة املجتمعات اجلمالية بالفنون من خالل<br />

متاحف اجلدران واجلسور واملرافق العامة<br />

والشوارع.‏<br />

أنه س<strong>حر</strong> الثورة عندما يأتي ممسوساً‏ باحلب<br />

والشغف والرغبة العميقة بالتغيير،‏ فيقترح<br />

ماكيتاً‏ صغيرا للوطن احللم،‏ يف نفق الت<strong>حر</strong>ير،‏<br />

يأتي بهذه الفنون مع والدة جديدة وشابة<br />

للهوية الوطنية،‏ التي منحتها تشرين موضعاً‏<br />

تاريخياً‏ فاصالً‏ يف الذاكرة العراقية ‏.لذلك<br />

لم نستغرب حني شهدنا تلك احملاوالت،‏ التي<br />

استهدفت محوها أو تشويهها بغية محو كل ما<br />

يتعلق باالحتجاجات وسؤالها الوطني العميق.‏<br />

فبني حني وآخر يتسلل أبناء الظالم وأعداء<br />

احلياة والفن،‏ ليعبثوا بتلك الرسومات،‏ ثم<br />

يعيدها التشرينيون ثانية الى الوجود،‏ يف<br />

معادلة لعبة الوطن-‏ الالوطن.‏<br />

أعترف،‏ أنني تلقيت خبر فوز هذه األعمال<br />

مباشرة من الصديق أحمد املالك رئيس جلنة<br />

“ متّيز”‏ بشيء من االرتباك يف بداية األمر،‏<br />

فأن تشرين يف ذاكرتي ويف عمق مشاعري،‏ هي<br />

حدث متأصل على نحو كلي،‏ لم أفكر يف فصل<br />

مجرياتها عن بعضها،‏ ولم أضع مسافة بني<br />

منتجاتها الفنية واجلمالية وأسلوبها البطولي<br />

يف املواجهة ورمزية شهدائها اخلالدين.‏<br />

كنت سعيدة مع شيء من احلزن،‏ وكنت مبتهجة<br />

مع الكثير من احلداد على أولئك الشباب<br />

الذين غابوا عن حياتنا وتركوا هذا اجلمال<br />

املصحوب باألمل.‏<br />

إن فوز تخطيطاتهم على اجلدران بجائزة<br />

رفيعة،‏ ميثل اعترافاً‏ فنياً‏ بنقاء ثورتهم،‏ مثلما<br />

يؤكد أن غيابهم كان ألسباب تنتج اجلمال<br />

أيضاً‏ .<br />

بدأ االنسان أولى ممارساته الفنية على جدران<br />

الكهوف،‏ كما يخبرنا تاريخ الفن،‏ وعاد اإلنسان<br />

يقدم رموزه الفنية على جدران املباني،‏ لتأكيد<br />

فكرة أن <strong>فضاء</strong> الفن ليس متحفياً‏ بالضرورة،‏<br />

وليس من الدوام وجوده يف القاعات ذات<br />

االضاءة اخلافتة،‏ أنه رفيق رحلة اإلنسان<br />

العادي بيومياته العادية والثورية على حد<br />

110


أمجد محسن<br />

109


قيثارات هوائية مصطفة كنصب تذكاري.‏<br />

األصوات تصمم ‏»الفراغ«‏ الذي تكون من محو<br />

احلي،‏ عبر ريح عابرة - تعزف سيمفونية بال<br />

غرور - يعزفها غير املوجود أو غير املرئي مُ‏ ذكرً‏ ا<br />

بتاريخ العائالت وحياتهم التي كانت قائمة<br />

على هذه األسس.‏<br />

صور على كرسي - علي كرميي وكميل زخاريا<br />

نوع العمل الفني:‏ عرض حضري<br />

الب<strong>حر</strong>ين<br />

صور على كرسي هو عمل فني مستمر يف<br />

الب<strong>حر</strong>ين،‏ يهدف إلى اجلمع بني اجلمهور<br />

والفن والتصوير الفوتوغرايف.‏ ينظم العرض<br />

الفنانة اللبنانية كميل زخاريا،‏ واملعماري<br />

الب<strong>حر</strong>يني علي إسماعيل كرميي،‏ يف عطلة<br />

نهاية أسبوع واحدة يف الشهر،‏ بالتعاون مع<br />

فنان مختلف يف كل مرة،‏ لتنظيم جلسة<br />

تصوير ملدة ثالث ساعات يف مواقع مختلفة يف<br />

جميع أنحاء الب<strong>حر</strong>ين.‏<br />

يعمل احلدث كحاضنة لألماكن العامة<br />

املختلفة يتم تنشيطها وجتربتها ودعوة<br />

األشخاص إلى أماكن نادرًا ما يذهبون إليها<br />

بخالف ذلك.‏ يسمح مزيج املواقع والفنانني<br />

للحدث بالربط بني األعراق واألجناس<br />

واخللفيات املختلفة.‏ كتثبيت مؤقت للصور،‏<br />

يهدف عمل صور على كرسي إلى كسر احلدود<br />

بني الفن واجلمهور،‏ وكذلك بني املجتمعات<br />

املختلفة يف جميع أنحاء اخلليج.‏<br />

نفق الت<strong>حر</strong>ير - فنانو انتفاضة تشرين<br />

نوع العمل الفني:‏ جرافيتي<br />

العراق<br />

بدأ العمل على جدران نفق الت<strong>حر</strong>ير بشكل<br />

عفوي أثناء انتفاضة تشرين األول/أكتوبر 2019<br />

يف العراق،‏ وقد رسم اجلداريات عدد كبير من الشباب<br />

العراقي من فنانني وطلبة فنون وحتى بعض الهواة،‏<br />

وامتدت األعمال على طول جانبي نفق الت<strong>حر</strong>ير<br />

أسفل ساحة الت<strong>حر</strong>ير الشهيرة وسط بغداد.‏ كان لهذه<br />

الرسومات العفوية غير املنسقة مسبقً‏ ا موضوعات<br />

مختلفة،‏ بعضها صوّر األوضاع املزرية للبالد،‏<br />

وأخرى ركزت على رد فعل القوات األمنية العنيف<br />

جتاه املتظاهرين،‏ واألكثرية وثقت شعارات ومطالب<br />

املتظاهرين مثل ‏»نريد وطن ‏»و«سلمية«.‏<br />

ميثل العمل الفني الروح السلمية وطموحات<br />

انتفاضة تشرين والشعور اجلمعي للكثير من<br />

العراقيني بأختالف أعمارهم.‏<br />

‏*انتفاضة تشرين تشير إلى انتفاضة أكتوبر<br />

2019 التي اندلعت يف جميع أنحاء العراق.‏<br />

يقول احمد املالّك،‏ االكادميي يف جامعة<br />

كوفنتري و مؤسس جائزة متيُّز:‏ « مبارك لكل<br />

مشاريع القائمة القصيرة،‏ نحن سعداء باختيار<br />

اللجنة ونفتخر بتسليط الضوء على هذه<br />

املجموعة من االعمال الفنية التي ساهمت<br />

بشكل إيجابي يف بيئهم املختلفة.‏ على الرغم<br />

من ان هنالك فائز واحدة لهذه اجلائزة،‏ اال ان<br />

الهدف هو االحتفاء باالعمال املتأهلة و تسليط<br />

الضوء عليها.‏<br />

كان التميز هو املعيار األساسي جلائزة ضياء<br />

العزاوي للفن العام،‏ حيث أن األعمال التي<br />

تأهلت للقائمة القصيرة هي املشاريع التي<br />

حققت التميّز من خالل التأثير اإليجابي على<br />

بيئة العمل،‏ أو التميز بالتصميم والسرد واملواد<br />

والتقنية،‏ باإلضافة إلى األعمال التي مثلت<br />

الروح أو الشعور اجلمعي جلماعة من البشر.«‏<br />

أعلنت جائزة متيّز عن فوز ‏“جداريات نفق الت<strong>حر</strong>ير”‏ التي نفذها شباب االحتجاجات<br />

العراقية يف تشرين عام 2019، بالدورة األولى جلائزة ضياء العزاوي للفن العام،‏ وهي<br />

اجلائزة األحدث،‏ التي أضيفت إلى برنامج جائزة متيّز املتخصصة يف مجال العمارة يف<br />

الشرق األوسط وشمال أفريقيا وخارجها.‏<br />

وحملت جائزة ‏“الفن العام”‏ – التي ستنظم مرة كل عامني – اسم الفنان العراقي ضياء<br />

العزاوي،‏ الذي يعد أحد أهم رواد الفن العربي احلديث،.‏<br />

باإلضافة إلى جداريات نفق الت<strong>حر</strong>ير لفناني انتفاضة تشرين،‏ اختارت جلنة حتكيم<br />

اجلائزة؛ عملني فنيني يف مدينة عمّ‏ ان وهما جديران بالثناء واإلشادة:‏ األرض املسطحة؛<br />

وهو تركيب معماري متعدّ‏ د األوجه من تصميم استديو ميس العزب.‏ وسمفونية الغياب،‏ وهو<br />

جزء من املشروع البحثي)جزيرة 861( للمعمارية والفنانة األردنية دينا حدادين.‏<br />

سيتم تسليم اجلائزة يف احلفل السنوي العاشر يف مسقط - عٌ‏ مان ،<br />

كانون الثاني 2023<br />

108


يسر جائزة متيز إعالن القائمة القصيرة<br />

للدورة األولى جلائزة ضياء العزاوي للفن العام<br />

يف العالم العربي.‏ .<br />

أعمال فنية من الب<strong>حر</strong>ين والعراق واألردن وقطر<br />

كانت الدعوة ملشاركة األعمال الفنية - الدائمة<br />

واملؤقتة - من جميع األنواع كاجلداريات،‏<br />

واملنحوتات،‏ واجلرافيتي،‏ والعروض احلضرية،‏<br />

والتركيبات،‏ والعمارة،‏ والتخطيط.‏ شريطة أن<br />

تكون هذه األعمال الفنية يف أماكن عامة وأال<br />

تكون داخل املتاحف واملعارض.‏<br />

جائزة الفن العام هي أحدث إضافة إلى<br />

برنامج جائزة متيز الذي يحتفي بأفضل<br />

ما تنتجه العمارة سنويًا،‏ وحتمل اجلائزة<br />

املستحدثة اسم الفنان ضياء العزاوي،‏ أحد<br />

رواد الفن العربي احلديث.‏<br />

متُ‏ نح اجلائزة لألعمال الفنية يف السياق<br />

احلضري التي كان لها تأثير إيجابي على<br />

مجتمعاتها يف العالم العربي بني عامي 2016 و<br />

.2021<br />

أعضاء جلنة التحكيم<br />

كالوديا ليندرز - هولندا:‏ معمارية،‏ وفنانة<br />

تشكيلية هولندية.‏ تشغل كالوديا مناصب<br />

استشارية وإدارية مختلفة،‏ فهي رئيسة هيئة<br />

تنسيق الفن العام يف أمستردام،‏ ورئيسة جلنة<br />

الفنون البصرية واللجنة االستشارية الثقافية<br />

لبلدية نيميغن،‏ وعضوة يف املجلس االستشاري<br />

ملجلة .Oase Journal for Architecture<br />

قامت كلوديا ليندرز برعاية العديد من<br />

املعارض والبرامج الدولية متعددة التخصصات<br />

ونسقت دراسات التصميم ألكادميية أمستردام<br />

للعمارة.‏<br />

محمود العبيدي - العراق/كندا:‏ فنان عراقي<br />

كندي عرضت أعماله يف املتاحف وصاالت<br />

العرض حول العالم.‏ بعد مغادرته العراق عام<br />

1991، حصل على درجة املاجستير يف الفنون<br />

اجلميلة من جامعة جيلف يف كندا،‏ وأكمل<br />

دبلومات يف اإلعالم اجلديد والسينما من<br />

تورنتو ولوس أجنلوس.‏ أقام محمود أكثر من<br />

40 عرضً‏ ا يف أماكن مختلفة حول العالم.‏<br />

فيليب مايكل ولفسون - الواليات املتحدة<br />

األمريكية/اململكة املتحدة:‏ بعد دراسة الهندسة<br />

املعمارية يف جامعة كورنيل يف إيثيكا،‏ نيويورك،‏<br />

التحق املصمم املعماري األمريكي فيليب مايكل<br />

ولفسون مبدرسة جمعية املعمارية يف لندن،‏<br />

حيث التقى بزهاء حديد.‏ بعد إنهاء دراسته،‏<br />

أمضى 10 سنوات رئيسً‏ ا لقسم التصميم<br />

يف مكتب زهاء حديد.‏ ويف عام 1991 أسس<br />

االستوديو اخلاص به.‏ عمل يف جميع أنحاء<br />

أوروبا والواليات املتحدة على التصميمات<br />

الداخلية السكنية والقطع الفنية الوظيفية،‏<br />

والتي عُرضت يف معارض الفن والتصميم<br />

الدولية الرائدة واملعارض واألماكن العامة يف<br />

جميع أنحاء العالم.‏<br />

القائمة القصيرة<br />

تتكون القائمة القصيرة من 6 مشاركات من<br />

الب<strong>حر</strong>ين والعراق واألردن وقطر،‏ وقد مت<br />

اختيارها من بني 41 مشاركة وردت من جميع<br />

أنحاء العالم العربي،‏ املشاريع املتأهلة هي<br />

‏)مرتبة أبجديًا(:‏<br />

احتفال باحلياة - سنان حسني<br />

نوع العمل الفني:‏ جدارية<br />

الب<strong>حر</strong>ين<br />

احتفلت اجلدارية بحياة الذين فقدناهم<br />

والذين ما زالوا على قيد احلياة.‏ تصور<br />

الشخصيات يف اجلدارية االحتفال باحلياة<br />

وهي تضحك وحتب وترقص وتصلّي وتتساءل<br />

يف حالة من احلب والسكينة.‏ الهدف من<br />

العمل هو تشجيع الناس ومنحهم فرصة<br />

لالبتسامة واإليجابية كلما مرّوا بهذه<br />

اجلدارية.‏<br />

تُذَكِ‏ ر اجلدارية أننا لسنا بحاجة إلى يوم<br />

محدد لالحتفال باحلياة ومعجزة احلياة<br />

وما جتلبه لنا.‏ فاالحتفال باحلياة ال يقتصر<br />

على أعياد امليالد واحتفاالت الذكرى السنوية.‏<br />

رُسمت هذه اجلدارية لتذكرنا باالستمرارية<br />

والنمو واملرونة.‏<br />

اجتماع العائلة - عبد العزيز يوسف<br />

نوع العمل الفني:‏ جدارية<br />

قطر<br />

تلخص جدارية ‏»اجتماع العائلة«‏ العادات<br />

القطرية للتجمعات العائلية املمتدة التي تقام<br />

يف بيت العائلة وغالبًا ما تكون يف منزل اجلد.‏<br />

على الرغم من مشاركة األسرة،‏ إال أن األجيال<br />

املختلفة تأتي مع أفكار ومعتقدات مختلفة<br />

مع احلفاظ على العالقات الدافئة مع بعضها<br />

البعض.‏ فقد المست مجموعة متنوعة<br />

من ثقافات الناس ومعتقداتهم وحتتفل<br />

باالنسجام واحلب.‏<br />

أرض مسطحة - استوديو ميس العزب<br />

نوع العمل الفني:‏ تركيب<br />

األردن<br />

‏»جناح األرض املسطّ‏ حة«‏ هو إنشاء فني<br />

متعدّ‏ د األوجه يتالعب بالنظم واإلمكانات<br />

الهندسية.‏ تكمن أهمية العمل يف محاولته<br />

تسليط الضوء على األماكن العامة غير<br />

املستغلة وتفعيلها يف مدينة مثل عمّ‏ ان تفتقر<br />

لألماكن العامة املصممة بشكل يتناسب مع<br />

احتياجاتها.‏<br />

تظهر شعريّة نحت اجلناح كبيان تصميمي<br />

بذاته من وجهة نظر حضريّة.‏ بينما يحقّ‏ ق<br />

حضوره يف مكان عام مظهرً‏ ا جتميليّ‏ ‏ًا<br />

يساعد على حتسني اإلدراك البصري للناس<br />

ومشاركتهم الفاعلة يف مدينتهم.‏<br />

سيمفونية الغياب - دينا حدادين<br />

نوع العمل الفني:‏ تركيب<br />

األردن<br />

سيمفونية الغياب هي جزء من مشروع بحثي<br />

مدته 7 سنوات بعنوان ‏»جزيرة 861« حول حي<br />

عمّ‏ اني عانى من التطهير الرمزي ملستوطنة<br />

‏»عشوائية«‏ مهمشة من الالجئني الفلسطينيني<br />

يف خمسينيات القرن املاضي.‏<br />

خضع سكان املستوطنة للتهجير والتدمير<br />

بشكل منهجي تلبية لرؤية رأسمالية طوباوية<br />

للوادي الذي يفصل بني شرق عمان وغربها،‏<br />

حيث كانت مفاهيم احلداثة تبرر ‏»التدمير«‏ ب<br />

‏»التقدم«،‏ أو ‏»ثمن التقدم«.‏<br />

يالمس العمل املستوى ‏»غير املرئي«.‏ وهو عمل<br />

منبثق من روح املوقع،‏ يتكون من سلسلة من 9<br />

107


106<br />

جائزة ضياء العزاوي للفن العام


ب<strong>حر</strong>كات متسقة.‏ غابت معالم هذا اجلسد عن<br />

األنظار،‏ فلم تعد تبدو للعني إال كحلم أو رسم<br />

أولي لصورة سيرسمها الفنان من ذاكرته بعد<br />

حني على لوحته املهجورة«.‏<br />

يف فيلم آخر،‏ استخدم الفنان عمار داود<br />

مفردة الدودة يف سياق جناسي.‏ واجلناس هو<br />

تشابه كلمتني يف اللّفظ مع اختالف املعنى.‏<br />

عنوان الفيلم ،)Mask( ويعني هذا اللفظ<br />

الواحد شيئني مختلفني يف اللغة السويدية<br />

التي يستخدمها الفنان الذي يعيش يف السويد،‏<br />

هما ‏)قناع(‏ و)دودة(.‏ يؤكد أمبرتو ايكو،‏ على<br />

أن أمر حتديد مضمون امللفوظ ذي املعنيني:‏<br />

القناع والدودة - يعود إلى قصدية املرسل،‏<br />

فهو إما يريد اإلشارة الى القناع أو الدودة.‏ ما<br />

يجعلنا نؤكد أن تأويل االستعارة مرتبط بقرار<br />

صادر عن قصدية املتكلم.‏<br />

يف هذا الفيلم القصير نرى دودة تت<strong>حر</strong>ك<br />

ترتدي قناعاً‏ ميثل جمجمة بشرية ضاحكة<br />

سيسقط تدريجياً‏ عن ‏)وجهها(‏ يف النهاية.‏ أعدّ‏<br />

هذا الفيلم واحداً‏ من املفارقات والدعابات<br />

السود التي يصنعها عمار داود مبزاجه امليال<br />

إلى التسليم بحالة الالجدوى التي لوّنت حياة<br />

العراقيني بصبغة سوداء.‏<br />

تعيش الدودة حتت األرض،‏ حيث ترقد أجساد<br />

املوتى.‏ أهي إشارة إذن إلى مملكة املوتى<br />

أو العالم السفلي؟ لعلها إشارة نافذة إلى<br />

شعور الالجدوى إزاء نهاية ال معنى لها.‏ أيا<br />

كان األمر،‏ مييل عمار داود إلى االستعارات<br />

اإليحائية التي تنتشر داخل عمله الفني على<br />

نحو مباشر وغير مباشر،‏ مبا يوحي بالغرابة<br />

والغموض.‏<br />

مارست أغاني فرقة البيتلز البريطانية دوراً‏<br />

أساسياً‏ يف كل من فيلمي الفنان محمد<br />

الشمري ‏)بيان رقم ١(، والفنان عادل عابدين<br />

‏)باألمس(.‏<br />

تظهر كلمات األغنية املترجمة من اإلجنليزية<br />

إلى العربية يف عمل عابدين مثبتة على خطوط<br />

شبيهة بخطوط البانر النموذجية لإلعالنات<br />

اإلخبارية العاجلة يف التلفزيون،‏ علقت على<br />

أسفل جدران صاالت العرض الفنية.‏ استدعت<br />

معاني عبارات األغنية األحالم واألماني<br />

الضائعة،‏ لتصف حاالت اخلذالن واليأس<br />

التي أصابت الشعب العربي بعد الثورات<br />

التي اندلعت يف تونس ومصر وليبيا واليمن<br />

ثم انتشرت عدواها إلى سائر الدول العربية،‏<br />

وأدت بدورها إلى سقوط بعض األنظمة<br />

العربية وانتعاش األصوليني اإلسالميني<br />

وقيام جمهورية ‏)الدواعش(:‏ تنظيم الدولة<br />

اإلسالمية!‏<br />

تقول األغنية:‏<br />

‏»باألمس<br />

بدت كل متاعبي بعيدةٌ‏ جداً،‏<br />

واآلن يبدو أنها هنا لكي تبقى<br />

أوه،‏ أنا أؤمن باألمس<br />

فجأة<br />

أنا لست حتى نصف الرجل الذي اعتدت أن<br />

أكونه<br />

هناك ظل يخيّم فوق حياتي<br />

آه لقد مرّ‏ األمس فجأة«‏<br />

عمار داود،‏ فيلم قناع<br />

عادل عابدين،‏ فيلم باإلمس<br />

105


أخرى،‏ وأن قصدية املتكلم لن تكون حاسمة يف<br />

التعرف على الطابع االستعاري لكلمة ‏)وين(‏ يف<br />

مثل هذه األحوال.‏<br />

يف هذا العمل الفني،‏ يضع عمار داود كماً‏<br />

كبيراً‏ من يرقات الذباب يف <strong>حر</strong>كة دائبة<br />

رجراجة داخل مجسّ‏ م ثالثي األبعاد اتخذ<br />

شكل متاهة.‏ هذا املجسّ‏ م ذو شكل وبنيان يقف<br />

على الضد من البيئة احلقيقية التي تنتمي لها<br />

اليرقات املتكونة من املواد العضوية املتفسخة<br />

مثل جثث األحياء امليتة،‏ بقايا الطعام،‏ اللحوم<br />

القدمية.‏ بواسطة هذا السياق اجلديد<br />

ميعن الفنان التركيز على إظهار واقع <strong>حر</strong>كة<br />

اليرقات الدائبة،‏ ألنّها بحاجة إلى تناول الغذاء<br />

باستمرار ومن غير توقف.‏<br />

يقول عمار داود:‏ ‏»يتناسل الذباب أبداً‏ وبال<br />

هوادة،‏ وستضع إناثه البيوض على اجلثث<br />

املتهرئة املتعفنة بال كلل.‏ إنها رحلة احلي<br />

الذي يحيا على امليت«،‏ هي إذن تلك الرحلة<br />

التي يصورها عمار كالكابوس املؤثث بجثة<br />

امليت التي تشكلت أجزاؤها السوداء يف صور<br />

متاهات بال نهاية،‏ متاهات يف ثنايا سِ‏ فر<br />

احلياة واملوت.‏ أهي صورة كابوسيه لوطنه؟<br />

أم لعامله الذي يحيا فيه؟ أم كالهما؟ وهذه<br />

اليرقات،‏ أهي كناية عن حالتنا الوجودية نحن<br />

البشر؟<br />

ذكرني فيلم عمار داود بقصيدة الشاعر<br />

الفرنسي بودلير واملعنونة ب)جيفة(.‏ يقول<br />

واحد من مقاطعها:‏ ‏»وكانت السماء تنظر إلى<br />

هذه اجلثة الرائعة كأنها زهرة تتفتح،‏ وكانت<br />

رائحة العفن الشديدة حتى كدت تسقطني على<br />

األعشاب مغشياً‏ عليك.‏ وكان الذباب يطن<br />

حول هذه األحشاء املجفرة التي تنبعث منها<br />

حشرات صافات سود تنحدر كأنها سائل ثقيل<br />

على هذه األسمال احلية،‏ وهي تعلو وتهبط<br />

كاألمواج،‏ وتندفع يف صخب،‏ فيخيل إلى املرء<br />

أن اجلسد وهو ينتفخ بأنفاس خفية يستمر يف<br />

احلياة بتكاثر أجزائه.‏ كان هذا احلشد يردّد<br />

أنغاماً‏ غريبة،‏ كأنه ماء جار،‏ أو ريح عاصفة،‏<br />

أو وسوسة حبوب ّ تُذرَىَ‏ مبنسفه يف الهواء<br />

104


ليس بسبب إمياني،‏ بل هم جتار دين يختبئون<br />

وراء عباءاتهم وعماماتهم لضمان مصاحلهم<br />

الدنيوية وإرضاء شهواتهم ومنافعهم الذاتية.‏<br />

كيف ياترى يصور هذه احلالة املعقدة؟ ببناء<br />

مسجد من السكر وضعه بالقرب من مستعمرة<br />

منل.‏ على هذا النحو وضعنا أمام استعارتي<br />

السكر والنمل:‏ القطبان املتجاذبان بالفطرة.‏<br />

سنرى أن النمل يتجمع باملئات حول ذلك املبنى<br />

السكري احللو ويتسلقه،‏ ليأخذ كل نصيبه<br />

ويرحل بعد أن ميأل جوفه تاركاً‏ ما تبقى<br />

لآلخرين.‏ على هذا النحو من التآكل اللذيذ<br />

ينهار املبنى!‏<br />

إزاء ذلك يقدم لنا الفنان عمار داود يف فيلمه<br />

‏)وين/‏ )when املنجز عام 2014، استعارة<br />

لفظية اعتمدها وهي كلمة تعني ‏)أين(‏ باللهجة<br />

العراقية العامية،‏ ويف الوقت نفسه تتطابق<br />

صوتياً‏ مع كلمة »when« اإلجنليزية،‏ وتعني<br />

متى.‏ بهذا الشأن يشير أمبرتو إيكو إلى أن<br />

الطبيعة اإلستعارية مللفوظ ما تعود إلى قصدية<br />

الفنان/‏ املؤلف واختياره،‏ وأن حتديد مضمون<br />

امللفوظ يعود إلى الفنان املرسل خلطابه،‏ إال أن<br />

تأويل االستعارة اللفظية مرتبط أيضا بقرار<br />

صادر عن قصدية املتكلم/‏ املشاهد.‏ وال شك<br />

سيختلف التأويل إذا كان املتكلم يتحدث أي لغة<br />

عادل عابدين.‏ فيلم رغوة<br />

محمود العبيدي،‏ السموات العادلة<br />

عمار داود.‏ فيلم أين<br />

103


أربعة صبيان بالتتابع يف حالقة رغوة غطّ‏ ت<br />

سطوح البالونات السوداء املنتفخة،‏ والتي<br />

سرعان ما تنفجر الواحدة تلو األخرى بعد<br />

حالقتها.‏<br />

أثارتني هذه املشاهد،‏ فبحثت طويالً‏ يف<br />

ذاكرتي لعلّي استحضر إحدى األفكار واألقوال<br />

املأثورة القريبة من داللة هذه املشاهد،‏ فلم<br />

أجد غير الصورة التي رسمها الشاعر املصري<br />

اجلميل صالح جاهني يف رباعياته الشهيرة.‏<br />

ولدي إليك بدل البالون ميت بالون<br />

انفخ وطرقع فيه على كل لون<br />

عساك تشوف بعينك مصير الرجال<br />

املنفوخني يف السترة والبنطلون<br />

عجبي!‏<br />

يبحث عابدين يف الفيلم املعنون ب ،)Tasty(<br />

الذي أنتج عام 2007، عن الدافع احلقيقي<br />

لبعض األشخاص الذين يترددون على املساجد<br />

102


ظهرت االستعارات يف فن الفيديو العراقي،‏<br />

كجزء من اخلطاب البصري،‏ سواء كانت<br />

استعارة لفظية،‏ أو بصرية،‏ أو إيحائية،‏ أو<br />

محض مصادفة تظهر أثناء العمل”‏ عن طريق<br />

تداعيات فكرية ال ميكن التحكم فيها،‏ أو يتم<br />

ذلك عن طريق اخلطأ«‏ على حد قول أمبرتو<br />

إيكو يف كتابه ‏)التأويل بني السيميائيات<br />

والتفكيكية(.‏ االستعارة هي قصدية الفنان<br />

مبقاربته أشياء تبدو متعاكسة أو غير ذات<br />

صلة ببعضها البعض.‏ من هنا حتيلنا االستعارة<br />

إلى املقارنة وطبيعة السياق الذي تتولد فيه<br />

أو جتترح منه داللة جديدة.‏ ‏»إال أن معيار<br />

مشروعية التأويل ال ميكن أن يأتي إال من<br />

السياق العام املتضمن يف امللفوظ«،‏ املصدر<br />

السابق.‏ لكن ليس بالضرورة أن تأتي كظاهرة<br />

مقصودة،‏ وإمنا رمبا تأتي بسبب قيام تأويل<br />

ما مبنحها معنى استعارياً.‏ أحياناً‏ أخرى<br />

تأتي كحالة من حاالت اإليحاء.‏ فمثال تشير<br />

العبارات:‏ ‏)الذي معك،‏ بعيد،‏ يف كل مكان(‏<br />

التي وردت على لسان مايكل يف فيلم عادل<br />

عابدين ‏)مايكل(،‏ إلى استعارة إيحائية أو إلى<br />

تعبير ملضمون ‏)<strong>فضاء</strong> بني الوالدة واملوت(.‏<br />

لقد مثلت استعارة الدهان امللون يف التعبير<br />

املجازي عن اجلنس البشري امللون يف عمل<br />

الفنان محمود العبيدي،‏ ‏)السماوات العادلة(،‏<br />

وعن الوعي يف عمل الفنان عادل عابدين<br />

‏)التطهير(.‏ إذ يتهكم عابدين على فكرة<br />

التطهير بكل أبعادها االجتماعية والدينية،‏<br />

باستخدام خراطيم مياه حتيلنا إلى آلة احلرب،‏<br />

لتغييب الوعي،‏ يلجأ العبيدي إلى فكرة التمويه<br />

‏)الكومفالج(‏ عن طريق تلوين البشرة والشعر<br />

وعدسات العيون للتقرب من العرق األبيض.‏<br />

محمد الشمري هو اآلخر يستخدم الدهان<br />

امللون يف عمله ‏)رقعة الشطرجن(،‏ وذلك برش<br />

الفريقني املتخاصمني باللون األبيض واألسود<br />

لغرض املباغتة وتبديل األدوار النتزاع املزيد<br />

من املكاسب.‏<br />

يف عملي الفنان عادل عابدين:‏ )Tasty( و<br />

،)Foam( جند مجازات بصرية منتخبة بعناية.‏<br />

ففي العمل املعنون ب )Foam( أو ‏)رغوة(،‏ يقوم<br />

101


الصريح والغامض واملبتكر يف االستعارات البصرية<br />

عادل عابدين،‏ فيلم لذيذ<br />

100


العمل،‏ احلوار األول مع علي من ناحية،‏<br />

واملونولوج الداخلي أو حوار النفس من ناحية<br />

أخرى،‏ وكما كان احلال يف عمل ‏)غودو الذي<br />

سيأتي البارحة(.‏ ويستدعي صادق من خالل<br />

هذين العملني،‏ مرحلة الطفولة ويتبنى رؤيته<br />

لألشياء بعيون علي تارة،‏ وبعيونه تارة أخرى،‏<br />

ثم يبث يف روح الصبي علي احلماس ويحذره<br />

يف آن واحد،‏ ثم يفشي صادق له عن رغبته<br />

احلقيقة يف سرقة القارب الذي من املفترض<br />

أن يكون وسيلته الوحيدة للوصول إلى هولندا.‏<br />

حينها يقرر الفنان السفر بالقارب الى عوامله<br />

املنشودة.‏ وتستعرض حتديات السفر باحللم،‏<br />

تلك الصور التي تتموضع يف أسفلها رأس<br />

ثابتة وعيون مت<strong>حر</strong>كة،‏ وهي وسيلة الفنان التي<br />

يستخدمها إلظهار املشاعر أكثر من غيرها.‏<br />

ويف أعلى ذلك القارب.‏ يسافر علي/‏ صادق،‏<br />

متحدياً‏ الصعوبات التي تواجهه،‏ والتي مثلها<br />

الفنان برموز تلك اللعبة القادمة أيضاً‏ من<br />

خزانة الذاكرة:‏ األافعى والساللم ‏)حيّة ودرج(،‏<br />

وقطيع الذئاب والظواهر الطبيعية كاملطر<br />

املصحوب بالبرد والعواصف الرعدية التي<br />

طاملا أقلقت عاملنا الطفولي البريء.‏<br />

يتألم علي/صادق،‏ ويبكي وحيداً‏ يف الليل،‏ ويف<br />

النهار،‏ ومتر عليه الفصول األربعة…‏ وهكذا،‏<br />

تهيمن الصور املشحونة بالعواطف والطفولة<br />

على عمله الذي استغرقت مدته أقل من سبع<br />

دقائق.‏<br />

يف مجمل تلك احلكايات التي يصنعها الفنان<br />

صادق كويش،‏ بواسطة االنيميشن ‏)الرسوم<br />

املت<strong>حر</strong>كة(،‏ نطالع نصوصاً‏ مرئية،‏ مونودرامية،‏<br />

ذات طابع عاطفي،‏ بطلها الرئيسي الفنان<br />

ذاته والبيئة احمليطة التي تسكن ذاكرته دون<br />

سواها.‏<br />

99


صادق كويش.‏ قارب علي<br />

98


صادق كويش.‏ يف انتظار غودو<br />

صادق كويش.‏ قارب علي<br />

97


غير مدرك لذلك الوجود،‏ وهو بهذا يبحث<br />

بصبر عن صادق الذي أراد له أن يكون،‏ يف<br />

مكنون ذاته.‏ فهو إذن يف حالة انتظار لواحدة<br />

من أهم املقابالت يف حياته،‏ وهي مقابلة ذاته<br />

أو ذلك اجلزء اخلفي الذي كان يرافقه منذ<br />

األمس وليس الغد كما هو غودو املنتظر يف<br />

املسرحية.‏ هو إذن ال يحتمل فكرة انتظار<br />

املجهول،‏ لذا هو يبحث عن غودو يف داخله،‏<br />

وهو هناك،‏ يف الذاكرة واحللم،‏ ويف األماني<br />

واآلمال،‏ وهو ذلك الذي يتمنى أن يكونه.‏<br />

نستنتج من هذا كله،‏ أن الشخص الظل هو<br />

غودو،‏ أو شبح غودو،‏ الذي ينتظره صادق يف<br />

األمس،‏ الرجل الظل الذي معنا وليس معنا.‏<br />

ويف واقع احلال أن هذا ليس هو العمل الوحيد<br />

الذي يجعل الفنان فيه من ذاته موضوعاً،‏<br />

وإمنا يف معظم أعماله الفنية التي عبرت<br />

عن ولعه بتفاصيل األشياء التي أثثت ذاكرته<br />

اليومية أثناء وجوده داخل العراق.‏<br />

كما لو كان يأمل أن تؤدي هذه الكلمات وتلك<br />

الرسالة إذا فتحت يف املكان املناسب،‏ ويف<br />

الوقت املناسب،‏ إلى نوع من الس<strong>حر</strong>،‏ مثل<br />

افتح يا سمسم أو ابراكادابرا،‏ ويحمله القارب<br />

إلينا.‏ لقد وضع حلمه على قارب،‏ وهو ال يعلم<br />

أن قاربه املتواضع قد حملني إليه،‏ بدالً‏ من<br />

إحضاره لي.‏ لم يكن يعلم أن قاربه كان يف<br />

الواقع قاربي الذي كنت أحلم به،‏ قاربي الذي<br />

ميكنني أن أركبه ملغادرة منزلي وعائلتي ووطني<br />

عندما كنت صغيراً‏ وتواقاً‏ للهروب من البؤس<br />

ألستكشف العالم،‏ هو اآلن،‏ نفس القارب الذي<br />

أحلم بأن يعيدني إلى هناك عندما كنت طفالً،‏<br />

محتضناً‏ مالعب طفولتي التي امتدت بني<br />

عتبات منزلنا إلى اآلفاق الشاسعة.‏<br />

يبني صادق روايته على رسالة الصبي علي<br />

وأحالمه يف الهجرة،‏ وهناك حواران يف هذا<br />

يعبر هذا العمل وغيره عن لوعة الفنان بسبب<br />

غربته عن ذاته،‏ وعن رحلة البحث عنها،‏ وكيف<br />

يفقد أشياء ويعثر على أخرى.‏ اشياء كمثل<br />

أشياء العائلة،‏ كاخلزانات،‏ واملالبس،‏ والبومات<br />

الصور،‏ واألماكن التي غابت عن الذاكرة،‏<br />

وحديقة األمة،‏ والبيت الذي بناه أبيه.‏<br />

يروي كويش يف عمل آخر بعنوان ‏»قارب علي«‏<br />

حكاية الفتى علي ذو األحد عشر ربيعاً.‏<br />

يتكون العمل من ثالثة أفالم أنيميشن وسلسلة<br />

من الرسومات والدفاتر والرسائل،‏ ومجسم<br />

لقارب.‏ صنعت الرسوم املت<strong>حر</strong>كة الرئيسية<br />

للفيلم القصير بالفحم األسود،‏ والعمل<br />

مستوحى من رسالة أرسلت للفنان من قبل ابن<br />

أخيه الصبي الصغير الذي يعيش يف بغداد.‏<br />

ماهي حكاية علي ورسالته كما جاءت يف رواية<br />

صادق كويش لألحداث؟<br />

يقول صادق:‏ ‏»علي هو ابن أخي األصغر،‏ فتى<br />

صغير التقيته بضعة أيام يف بغداد عام ٢٠٠٩<br />

وكان ذلك ألول مرة.‏ يف الصباح الذي كنت<br />

متوجهاً‏ فيه إلى املطار،‏ سلّمني ظرفاً‏ مغلقًا<br />

وطلب مني بصدق أن ال أفتحه حتى أصل<br />

إلى منزلي يف هولندا.‏ ولقد حافظت على<br />

وعدي،‏ ولم أفتح الرسالة املزينة بشكل جميل<br />

إال عندما وصلت إلى املنزل.‏ يف الرسالة كتب<br />

أسماء أطفالي ومن ضمنهم اسمه،‏ ووضع يف<br />

منتصف الرسالة رسم قارب صغير كتب يف<br />

األسفل:‏ ‏»أمتنى أن تأخذني رسالتي إليك«،‏<br />

96


أهذا أنت .. الظل الطويل الذي ينحني من فرط ابتعاده،‏ أم<br />

هو قرينك،‏ أم هو خيالك املرسوم؟<br />

املؤثرات التي تصنعها التقنيات املعاصرة.‏<br />

ففي العمل التركيبي املعنون:‏ ‏»ذلك البيت الذي<br />

بناه أبي«‏ املكون من فوتوغراف و انيميشن<br />

ومالبس والد الفنان،‏ يظهر رجل من ظل<br />

بقياس أربعة أمتار ونصف،‏ وطول ستة أمتار<br />

ونصف،‏ وصور فوتوغرافية صغيرة احلجم لكل<br />

من والد ووالدة الفنان،‏ ومالبس والده.‏<br />

يسجّ‏ ل الفنان يف عمله هذا تداعيات زيارته<br />

ألهله بعد غياب طويل،‏ وعلى وجه التحديد<br />

تلك اللحظات التي دخل فيها غرفة والده<br />

املتوفى،‏ ليجد مالبسه مازالت معلقة على<br />

جدار الغرفة.‏ وسيعيد صادق كويش يف ما بعد<br />

تعليقها وبنفس الطريقة يف عمله الفني،‏ رمبا<br />

تأكيداً‏ على حضور األب من خالل آثاره رغم<br />

غيابه اجلسدي.‏<br />

يؤكد صادق مراراً‏ على تلك اللحظات<br />

املشحونة مبشاعر األسى التي سببها الفقدان<br />

وكل ماتبقى من والده،‏ فيقول:‏ ‏»كانت معلقة<br />

هناك،‏ ومرتبة كما كان احلال دائماً،‏ وكأنها<br />

كانت جاهزة لالرتداء ومتاماً‏ كما كان والدي<br />

يعلقها بيديه.‏ كانت على اجلدار وكأن حولها<br />

أطياف وخياالت عائمة وقلقة ال استقرار فيها،‏<br />

وكأنها تت<strong>حر</strong>ك مع صوته الذي مازال ميأل<br />

الغرفة عابقاً‏ برائحة القهوة واملواويل احلزينة.‏<br />

كانت هناك كوفية،‏ وعقال،‏ ومسبحة وثوب،‏<br />

أشياء كانت من صميم هويته ووجدانه،‏ وكانت<br />

مع دالل قهوته،‏ تعزز هيبته وكرامته وانتمائه«.‏<br />

نستشف من هذا البوح عالقة الفنان مبحيطه<br />

الذي يسكن ذاكرته،‏ من خالل عالقاته<br />

احلميمة،‏ و ‏»والدته التي لم تكتمل حكاياتها<br />

بعد«‏ - على حد قوله - وتلك اللحظات<br />

الطفولية الدافئة التي كانت جتمعه وعائلته يف<br />

ذلك البيت الذي بناه أبيه.‏<br />

يصف صادق الرجل الظل الذي رسمه يف<br />

عمله - وهو ميثل شخصيته ذاتها - بهذه<br />

الكلمات:‏ ‏»تخيل أن قامتك ترتفع لألعلى،‏<br />

وتطول أكثر فأكثر،‏ فوق كل األشياء،‏ ثم<br />

تنحني لتنظر إلى األسفل عندها سترى<br />

نفسك تت<strong>حر</strong>ك بانفعال داخل زحمة األشياء<br />

والعواطف،‏ حينها ستفقد توازنك وتدرك أنك<br />

لست أكثر من قصة قصيرة،‏ أو حكاية ضائعة<br />

بني كون من احلكايات التي ال نهاية لها،‏<br />

ستعرف أنك أنت احلكاية واحلكواتي«.‏<br />

لقد ارتبطت <strong>حر</strong>كة الالمعقول،‏ أو الكوميديا<br />

السوداء،‏ مبرحلة اخلمسينيات والستينيات<br />

من القرن املاضي،‏ غير أن بدايتها األولى التي<br />

ظهرت لفترة وجيزة ثم غابت،‏ تعود الى املرحلة<br />

املبكرة من القرن العشرين.‏ لقد عبّرت من<br />

خاللها األجيال الفتية املنتفضة عن سخطها<br />

واحتجاجها،‏ وعن الدمار الذي أصابها إثر ما<br />

تعرضت له من أهوال احلربني العامليتني األولى<br />

والثانية وما تعرض له املجتمع األوربي من<br />

تداعياتهما.‏<br />

وبالرغم من واقع حاضرنا العبثي الذي نعيشه<br />

اليوم،‏ واملادة الدسمة الكفيلة بإنعاش الدراما<br />

العبثية املشحونة باألسئلة املعادة وجدلية الال<br />

منطق،‏ إال أن هذه األخيرة توارت عن عاملنا،‏<br />

بعد أن انقضّ‏ عليها عالم الشقاء املوحش<br />

التعس،‏ عالم التوافه،‏ عاملنا الذي ال يفضي<br />

إلى شيء سوى إلى الال جدوى.‏ لقد كان<br />

طمس ذلك الشعور بالال منطق،‏ مبثابة مؤامرة<br />

أجهزت على األجيال اجلديدة التي غرقت يف<br />

متاهات حلم جمع الثروة واكتساب اجلمال<br />

والشباب الدائم.‏<br />

وبالرغم من االنتشار الواسع لفن الفيديو<br />

الذي يشترك والدراما العبثية بعدة روابط،‏<br />

مثل الالمنطق على سبيل املثال،‏ أو ما ال ليس<br />

له بداية وال نهاية،‏ أو ذلك الذي تختلط فيه<br />

األزمنة وتتداخل فيه األحداث واألمكنة غير<br />

الواقعية،‏ إضافة إلى تلك املقاطع احلوارية<br />

الناقصة أحياناً،‏ والتي من شأنها خلق حالة<br />

من التيه والال معنى إذا ما وضعت يف سياقات<br />

معينة…‏ أقول:‏ أن كل ذلك،‏ وجد له أثراً‏ واضحاً‏<br />

سواء يف االستعارات االيحائية التي تضيف<br />

طاقة جمالية استثنائية كما هو يف عدد من<br />

أفالم الفيديو آرت العراقية التي ظهرت فيها<br />

شخوص أو عبارات،‏ كتورية أو تصريح علني<br />

وضمن سياقات مختلفة كما ‏-على سبيل املثال<br />

يف أعمال الفنان عادل عابدين،‏ وأيضا يف<br />

أعمال عمار داود ومحمود العبيدي ومحمد<br />

الشمري.‏<br />

ويستعير صادق كويش بدوره من مسرح العبث<br />

وبشكل صريح شخصية غودو،‏ يف احدى<br />

أعماله املنتج بتقنية االنيميشن واملعنون:‏ ‏»غودو<br />

الذي سيأتي البارحة«،‏ لإلشارة إلى بطل<br />

مسرحية ‏)يف انتظار غودو(،‏ رائعة صمويل<br />

بيكيت.‏<br />

يقسم هذا العمل إلى جزئني:‏ األول هو فيلم<br />

من صور مت<strong>حر</strong>كة ‏)االنيميشن(‏ والثاني هو<br />

سلسلة من الصور املطبوعة ب الالمبادا.‏<br />

وثمة هنا نسختان أو شخصان من الظالل<br />

او االشباح ثنائية األبعاد متقابالن يف إحدى<br />

<strong>فضاء</strong>ات كويش الرمادية.‏ أبطال احلكاية هما:‏<br />

صادق واألنا اخلاصة به،‏ يف جلسة مونولوج<br />

داخلي،‏ بينما تت<strong>حر</strong>ك الشخوص بإيقاع بطيء،‏<br />

كما لو أنها تغوص أو تتقلب حتت املاء ويسأل<br />

أحدهم اآلخر:‏<br />

هذا انت،‏ لست متأكداً‏ أنك فعالً‏ تراني!‏<br />

أو أنني فعالً‏ أراك<br />

أنت هنا<br />

وأنا هناك<br />

اشك يف هذا الصوت<br />

أشك يف مالمحك<br />

من أنت<br />

حلمت أنني حني أكبر سأكون كما أراك<br />

يبحث صادق هنا عن وجود غودو يف ذاته،‏ لكنه<br />

95


صادق كويش<br />

صادق كويش.‏ ذلك البيت الذي بناه أبي<br />

الذاكرة هي وسيلة صادق املثالية التي تنقله<br />

إلى أي مكان وزمان يود الذهاب إليه.‏ إنها حقا<br />

أداة مغرية،‏ وميكنها أن تبيعك الوهم من غير<br />

أن تشعرك بذلك.‏<br />

هي إذن رفيق مزيف،‏ ميكنه أن يقول أنصاف<br />

احلقائق،‏ وهي كتلك اجلنية املسحورة يف<br />

القصص الشعبية التي تقدم لك معروفاً‏<br />

مقابل طلب قد تخسر من بعده حياتك.‏ كثيرا<br />

ما ارتبطت الذاكرة بالفنون واألدب،‏ وغنى<br />

لها الصغار والكبار،‏ وخير من مثلها يف الفن<br />

التشكيلي احلركة الرومانسية التي اتسمت<br />

بإعالء شأن العواطف واخليال وتراجع العقل<br />

من خالل إمعان النظر يف التراكيب الوجدانية<br />

الدراماتيكية.‏<br />

عادة ما تستحوذ الذاكرة على األشياء التي<br />

تعود إلى مراحل الطفولة والشباب وبضمنها<br />

اآلثار التي تعود للعائلة،‏ وهي من خالل<br />

ارتباطها بوجدان الفنان،‏ كانت السبب وراء<br />

إجناز العديد من أعمال الفنانني ومنهم الفنان<br />

صادق كويش.‏<br />

بينما كان الفنان يكتفي سابقاً‏ مبحاكاة<br />

الطبيعة،‏ يراهن اليوم على مضاعفة الشحنات<br />

الوجدانية،‏ كإحدى الوسائل التعبيرية يف الفن<br />

البصري احلديث والتي من شأنها التفوق على<br />

94


93


ودون أن نعرف ما إذا كان علينا ان نلتزم<br />

الصمت أو اي شيء آخر،‏ فقد كان املجهول<br />

يجهز لنا طاولته العامرة باملفاجآت،‏ ولم<br />

يكن إعالن بيان رقم واحد أفظع شيء على<br />

اإلطالق،‏ كما أننا لم نكن على يقني تام من<br />

عجزنا عن معرفة أبعاد هذه املرحلة.‏ لقد كنا<br />

جنتر تكهناتنا الساذجة عسانا ننعم بلحظة<br />

سالم عابرة ال غير.‏ ومبجرد التفكير يف<br />

احلرب وحيثياتها،‏ كان كفيال بإطالق العنان<br />

خلياالتنا املجنونة واستنتاجاتنا املريضة.‏<br />

حينها كان صفاء هناك،‏ واقفا متجمدا،‏ يف<br />

ركن الشارع الذي يلتهب حتت أشعة الشمس<br />

الالسعة،‏ ال يبالي،‏ ويتوق قلبه للقائها بعد<br />

انتهاء الدوام الرسمي...‏<br />

ويف ذلك املقهى اتفق زياد وميان على إعالن<br />

خطوبتهما...‏<br />

تتأمل جناة ولدها...‏ متى كبر،‏ تهمهم،‏ كنت<br />

أرقبه وهو يحاول ركوب دراجته الهوائية ألول<br />

مرة قبل عامني او أكثر بقليل...‏<br />

تزوج منير قبل أسبوعني من ابنة عمه هالة.‏<br />

كان ليث يف الطريق الى اجلامعة،‏ اذ لم يتبق<br />

سوى سنة واحدة على تخرجه.‏<br />

ومازن جهز أوراق الهجرة وهو يستعد اآلن<br />

إلجراء املقابلة يف السفارة األسترالية...‏<br />

أما ذاك الذي يجلس يف الزاوية،‏ فظل محدقا<br />

يف الفراغ...‏<br />

جنح الشمري يف صياغة هيكلية احلبكة<br />

واملونولوج الداخلي،‏ وجنح أيضا باستدراجي<br />

نحو فخ الذاكرة العرضية،‏ التي لم أكن أرغب<br />

اخلوض يف تفاصيلها،‏ ورمبا كان هذا بسبب<br />

األداء الواقعي وتلك املعاني الكبرى التي<br />

تدور حولها.‏ عدت ألخلص مقدمة للمشاريع<br />

السابقة،‏ فوجدت جملة مشتركة مفادها:‏ كل<br />

شي كان على ما يرام،‏ وتنتهي ب:‏ كل شي مر<br />

على ما يرام!‏<br />

أحدهم يطلب النجدة بصوت فرقة البيتلز،‏<br />

واألخر ينتج سحنات جديدة لوجوه مسافرين<br />

يريدون تخطي احلواجز بسالم…‏<br />

لم يعد املواطن العراقي قبل البيان رقم واحد<br />

كما هو بعده،‏ وكما هو بطل رواية املسخ أو<br />

املتحول،‏ كريكور سامسا،‏ للكاتب فرانز كافكا،‏<br />

حني استيقظ صباح أحد األيام ليجد نفسه قد<br />

حتول إلى حشرة كبيرة زاحفة،‏ كائن مختلف،‏<br />

مرفوض من اجلميع،‏ ورغم هذا كله،‏ لم يبد<br />

أية ردود فعل عنيفة او متهورة،‏ بل كان متوازنا<br />

بشكل مذهل،‏ كان قلقه األكبر هو مسألة<br />

الوصول للعمل من اجل اعالة اسرته.‏ هذا كل<br />

شيء..‏ لتبدأ بعد ذلك مرحلة جديدة يف حياته<br />

ومسيرته النضالية من داخل زنزانته اجلديدة<br />

‏)غرفته اخلاصة(،‏ من أجل استعادة مكانه<br />

كفرد من أفراد األسرة.‏<br />

92


91<br />

أفاضل،‏ هم وكثير من رجال الدين الناطقني<br />

باسم اهلل.‏ ويف الواقع،‏ يؤكد الشمري على<br />

أن القضية لم تكن سوى سلطة لعبة األبيض<br />

واألسود والعكس،‏ متاما كما هي لعبة األبيض<br />

واألسود للفنان محمود العبيدي،‏ ولكن بأبعاد<br />

اخرى.‏ ترش،‏ أحد االيادي السلطوية،‏ الدهان<br />

امللون لتنعش روح البيادق املتصارعة يف تلك<br />

احلرب املجنونة التي حصدت مئات االالف<br />

من األرواح البريئة واجلمهور يتفاعل،‏ حيث<br />

اجلثث املقطعة متأل الشوارع،‏ والتفجيرات<br />

تطال املارة يف األسواق ودور العبادة،‏ واملكتبات<br />

واملراكز الترفيهية،‏ واجلمهور يتفاعل،‏ وماليني<br />

من املهجرين واملهاجرين و املسبيني واملنهوبني<br />

واملهمشني والعالم لم يتفاعل.‏<br />

لقد انضم الالعب املبتدئ إلى فيلق الساخطني<br />

والغاطسني برذيلة اجلشع والعنصرية<br />

املستعصية،‏ الذين يستمدون قسوتهم من<br />

الينابيع السرية،‏ وبالتالي ال يهم،‏ فعلى رقعة<br />

الشطرجن يبقى احلمقى دائما منتصرون.‏<br />

لكن من املثير للسخرية أن من كان يلعب<br />

بالقطع البيضاء بكامل إرادته،‏ ينسى متاما<br />

غاياته ومخططاته حني ي<strong>حر</strong>ك القطع السوداء<br />

يف ذات الوقت،‏ إذ ال ميكن يف كل األحوال إال<br />

أن تلعب مع خصمك،‏ وحني تتحول ذواتنا الى<br />

خصومنا الشرسني نخسر معاركنا،‏ وال شيء<br />

أسوء من البقاء وحيدين نواجه اشباح ذواتنا.‏<br />

األحجار/‏ األفراد،‏ يتلونون بكل وقاحة،‏ بينما<br />

تقف األخرى عاجزة،‏ احداهما تدفع مبصائر<br />

حلفاءها الى املوت األليم بينما تدفعهم األخرى<br />

الى الفوز العظيم،‏ فأما املعتقالت الباردة او<br />

املنتجعات املبهجة.‏ لقد بدت اللعبة محيرة يف<br />

بادئ األمر،‏ ورمبا ستنتهي اجلولة بالتعادل،‏<br />

وهذه رمبا أفضل النتائج التي نخرج بها،‏ لكن<br />

بدهان الرشاش امللون لم نكن بحاجة الى<br />

التزام الدفاع،‏ بل كان علينا بالهجوم املباغت.‏<br />

أماكن عامة من الفريق األبيض الذي يقابله<br />

باملثل الفريق األسود،‏ لنباغت اخلصم بعدما<br />

تكهنا بردود أفعاله البلهاء،‏ حتى صار الولع<br />

بالقتل يف اعلى جتلياته،‏ وكلما متازجت القطع،‏<br />

زاد عجزنا عن تأويل مصيرنا احلتمي.‏<br />

لم يتبق يف نهاية العمل سوى امللوك فهم<br />

بالضرورة اول واخر الناجون…‏<br />

ويف عمل تركيبي للفنان محمد الشمري<br />

بعنوان ‏)بيان رقم 1(، والذي يستدعي فيه<br />

ذلك اليوم األول من احلرب العراقية اإليرانية<br />

عام 1980. ثمة مفردات عراقية من احلياة<br />

اليومية العادية،‏ جهاز تلفزيون،‏ سلك هوائي،‏<br />

أغنية البيتلز وبيان إعالن بدء احلرب العراقية<br />

اإليرانية.‏ وبتقنية تقترب كثيرا من طريقة<br />

إعادة متثيل احلدث أو توثيقه،‏ يقدم لنا<br />

الشمري عمال على مدار دقيقة واحدة فقط.‏<br />

حيث يعلن فيها عن أولى <strong>حر</strong>وبنا بعد إعالن<br />

استقالل دولة العراق و يوثق حلظة والدة<br />

كريكور العراق.‏<br />

يتضمن العمل ثالث أبعاد،‏ هذا يف حالة<br />

استبعادنا لصانع العمل:‏ املشاهد،‏ ومفردات<br />

احلياة اليومية العراقية العادية،‏ والبث<br />

التلفزيوني.‏ ليس هناك من خلفية او ضوضاء<br />

محيطة،‏ وال نص يقرأ على الشاشة التي<br />

حتركت فيها األشياء عند الثواني اخلمس<br />

األولى فقط،‏ لتستقر يف املنتصف صامتة.‏<br />

ويف مساحة ال يظهر منها سوى خلفية بيضاء،‏<br />

إشارات شاعرية مثل:‏ السلك الهوائي الذي<br />

ارتبط كثيرا بالذاكرة العراقية بسطوح سقوف<br />

املنازل،‏ ومجموعة من املتناقضات يف تلك<br />

املشاهد املتداخلة،‏ وبينما تغني فرقة البيتلز<br />

أغنيتها املشهورة،‏ ‏)ساعدوني(،‏ يتلو علينا مذيع<br />

القناة العراقية،‏ بيان رقم واحد.‏<br />

إن من يعزز تلك املفارقات الكوميدية السوداء،‏<br />

يف ذلك اليوم،‏ هو ذلك املذيع الذي ألقى علينا<br />

نص بيان رقم واحد،‏ بصوت هادئ عذب،‏<br />

بارد حد اللعنة،‏ كمن يبشرنا بإحدى الفقرات<br />

املنوعة.‏<br />

ثم يكمل املشهد يف العمل الفني،‏ املت<strong>حر</strong>ك/‏<br />

الصامت،‏ البارد.‏ حيث ال صوت وال ردود<br />

أفعال تذكر،‏ ودقيقة واحدة فقط فارة من زمن<br />

مواطن عراقي.‏ احتلت فيها تلك الثنائيات<br />

املرسلة من داخل شاشة التلفزيون،‏ التي يعد<br />

أحدها شرط لوجود اآلخر،‏ واملركز األساسي<br />

يف اخلطاب السياسي االجتماعي الذي<br />

حمله العمل الفني.‏ ومن خالل تلك الرسالة<br />

الواضحة وامللفتة لالنتباه،‏ ثبت محمد تلك<br />

العالقات املتبادلة التي تخلق بعضها البعض،‏<br />

بني مفردات العمل التي تظهر على شاشة<br />

التلفاز وتلك احمليطة بها،‏ أقول:‏ ثبت موقفا<br />

واضحا ومعنى تاريخيا محددا.‏<br />

يقول البيان رقم واحد:‏ ‏»بناءا على الظروف<br />

الدقيقة التي أحاطت املوقف والتي اوضحها<br />

بيان مجلس قيادة الثورة الصادر هذا اليوم<br />

والذي أكد استمرار السلطات الرجعية<br />

اإليرانية باستخدام قواتها املسلحة ضد<br />

األهداف احليوية العسكرية واملدنية«...‏<br />

وتقول اغنية فرقة البيتلز:‏<br />

ساعدوني!‏<br />

انا بحاجة لشخص ما<br />

ليس أيا كان<br />

ويسترسل البيان رقم واحد:‏ ‏»فقد قامت<br />

قوات قواتنا اجلوية يف الساعة 1200 من<br />

هذا اليوم،‏ ٢٢ سبتمبر‎1980‎‏،‏ للتعرض على<br />

القواعد واملطارات العسكرية يف عمق االراض<br />

اإليرانية.«‏<br />

وتستمر اغنية فرقة البيتلز:‏<br />

ساعدني،‏ إن كان بوسعك،‏ فانا اشعر باليأس<br />

وكأن العالم قد اختزل يف فيديو صامت،‏ يف<br />

اغنية وإعالن <strong>حر</strong>ب مباغت،‏ وكأن األسئلة<br />

البلهاء تخفي أسئلة أخرى،‏ ماذا وماذا؟ متى<br />

وكيف؟<br />

محمد الشمري،‏ لعبة الشطرجن.‏ 2007


90


على رقعة الشطرجن،‏ امللوك هم أول وآخر الناجني<br />

محمد الشمري،‏ بيان رقم واحد<br />

89


محمد الشمري<br />

يقدم الشمري عاملنا بصورة رمزية،‏ مواضيع<br />

غير قابلة للتشخيص،‏ متمثال بعالماته<br />

البريدية واختام شحن البضائع.‏ مثال:‏ احذر<br />

عليك وضع الشحنة بشكل عمودي،‏ ويجب<br />

التعامل مع السلعة بحذر،‏ وعالمة أخرى تشير<br />

الى حساسية السلعة للرطوبة وهكذا سيعكس<br />

لنا الشمري كل شيء بعد ان يحولنا الى سلع<br />

وبضائع للشحن.‏ يقينا،‏ نحن امام خيار واحد<br />

ال مفر منه وما يضيفه الفنان على العمل<br />

امنا هو خياراته،‏ من يصلح منا للبيع ومن ال<br />

يصلح،‏ بعد ان حتولنا من سلع قطاع خاص<br />

الى قطاع عام،‏ مسيرين ال مخيرين،‏ حتكمنا<br />

الدول القادرة على ممارسة السلطة والنفوذ،‏<br />

والغايات السياسية العليا.‏ نعم انها لعبة كما<br />

استطرد الشمري،‏ اال انها لعبة الكبار اللذيذة<br />

التي متثلت ب سلعنة االنسان قبل كل شيء<br />

وحتويله الى طرد مختوم.‏<br />

أبهرت محمد الشمري مجموعة الفنون<br />

التقنية،‏ فوجد ظالته يف الفن الرقمي كاداة<br />

تشكيلية للتعبير،‏ فانتج سلسلة من االعمال<br />

الفنية مستخدما تقنية الفيديو كوسيط<br />

سمعي بصري،‏ حيث اثمرت باكورة اعماله<br />

عن ‏)لعبة الشطرجن(‏ 2007. ‏)كش ملك(:‏ لعبةٌ‏<br />

يسعى الطرفان املتنازعان فيها إلسقاط ملك<br />

اآلخر،‏ عن طريق إحلاق اخلسائر به،‏ وبالقدر<br />

املمكن؛ للتمهيد للحظة الفوز األخيرة.‏ إن<br />

اللعبة تعتمد على املنطق أكثر من احلظ،‏ ويف<br />

إطار زمنٍ‏ محدد،‏ عليك التخطيط للخطوات<br />

الالّ‏ حقة التي تأخذك للحظة الفوز احلاسمة.‏<br />

دخلت هذه اللعبة يف الكثير من أعمال الفنان<br />

‏)محمد الشِّ‏ مْري(‏ بالرغم من أنه ال يجدُ‏ لذّةً‏<br />

وميْالً‏ شديدًا لها؛ ألنها ‏–برأيه-‏ ال تعتمد<br />

على احلظ،‏ وفكرة احلظ والقدر فكرة شرقية<br />

بحتة؛ إذ يعزو الشرقيون األحداث التي<br />

تصادفهم سواء إلى الشر واخلير إلى احلظ،‏<br />

وهذا ما ال يعتمده الغربيون الذين يؤمنون<br />

بالسبب واملُسَ‏ بَّب،‏ ولكن اختيار هذه اللعبة دون<br />

سواها،‏ كان له دوافع نفسية غير مُعْلنة،‏ فعالم<br />

الكبار الذي راح ضحيته وطن ‏)الشمري(‏ هو<br />

العالم الذي يديره خصمان يتنازعان كما هي<br />

شروط،‏ وأحكام لعبة الشطرجن.‏<br />

اما يف فيلم الشمري،‏ فيتصارع فريق القطع<br />

البيضاء املكون من ملك ووزير وحصان وقلعة<br />

وفيل وبيادق مع الفريق املماثل من السود على<br />

رقعة،‏ ‏)لعبة الشطرجن(،‏ وثمة يد من األعلى<br />

ترش بدهان اللون على اخلصمني بني احلني<br />

واآلخر،‏ يف عمل اختزل فيه الفنان صراعات<br />

احلرب االهلية العراقية،‏ والتي كانت من أسوأ<br />

تداعيات احتالل العراق.‏ على تلك الرقعة<br />

الصغيرة املقسمة الى مربعات،‏ او تلك املناطق<br />

املتنازع عليها.‏ وبني <strong>حر</strong>كة األبيض لألمام<br />

و<strong>حر</strong>كة األسود للخلف،‏ ويف حلقة دوران عبثية<br />

مجنونة،‏ حتسم املعركة.‏ لكن مهال،‏ لم حتسم<br />

بالكامل،‏ فدهان الرشاش امللون يغير من مسار<br />

املتصارعني،‏ فهو يحول األسود إلى أبيض<br />

واألبيض الى األسود ليخلط األوراق،‏ كما حتول<br />

القوميون العرب الى مؤمنني شيعة ومؤمنني<br />

سنة والشيوعيون الى اسالميني،‏ وقطاعي<br />

الطرق الى شيوخ أجالء،‏ والسراق إلى<br />

88


نوفمبر عام 2007 وعزّزتها قرارات أخرى يف<br />

يناير عام 2008.<br />

و ‏»ضم اإلعالن أيضاً‏ تصريحاً‏ وقحاً‏ بشكل<br />

ملحوظ بشأن استغالل موارد العراق،‏ ذكر فيه<br />

أن على االقتصاد العراقي أي موارده النفطية<br />

بالطبع أن يكون متوفراً‏ أمام االستثمار<br />

اخلارجي«.‏ و«خصوصاً‏ لالستثمار األميركي«،‏<br />

ومبعنى آخر«لقد اجتحنا دولتكم لنسيطر عليها<br />

ونحصل على امتياز الوصول إلى مواردكم«‏<br />

على حد قول نعوم تشومسكي ‏)نفط العراق،‏<br />

صفقة مع الشيطان(،‏ يف السادس من يوليو<br />

عام 2007.<br />

إذن من ميتلك احلق يف الدفاع عن النفس؟<br />

لكن بإمكاننا فهم تصريحات اجلالدين التي<br />

أتينا على ذكرها يف هذا النص،‏ من خالل<br />

إعادة قراءة تاريخ العبودية والرق،‏ ويف جدلية<br />

األنا واآلخر والسيد والعبد،‏ إذ يوضح هيجل<br />

أن الضرورة تفرض هيمنة إحدى الذوات على<br />

األخرى عندما جتُ‏ بر الذات على إدراك وجود<br />

ذوات أخرى.‏<br />

أي أن جوهر اإلنسان هو <strong>حر</strong>يته،‏ ونظام<br />

الفتّوات ولسان حاله الذي يقول:‏ نحن منلك<br />

العالم وعلى الشعوب طاعتنا وإال دفع الثمن<br />

نظام بدائي ال ينسجم مع مفهوم العالم<br />

املتحضر الذي سوّق لنا.‏<br />

ويذهب سارتر إلى أبعد من هذا بقوله:‏ ‏»ال<br />

يوجد شهود على العنف،‏ بل شركاء فيه فقط«‏<br />

وأن هذا « العنف الذي ال ميكن قهره...‏ إمنا<br />

هو جوهر اإلنسان إذ يعيد خلق نفسه بنفسه«‏<br />

وأن ‏»معذبي األرض ال ميكنهم أن يصبحوا<br />

بشراً‏ إال عبر اجلنون القاتل«‏ حسب فانون.‏<br />

ويضيف فانون : ‏»ال يرفع االستعمار يده إال<br />

إذا وضعت السكني يف رقبته«.‏ ويقول أيضا<br />

واصفاً‏ املضطهدين:«إن املذلة والعار واأللم<br />

تثير فيهم غضب يغلي غليان البراكني وتساوي<br />

قوته قوة الضغط الذي يقع عليهم.‏ لقد<br />

أصبحوا هكذا بسبب املُستعمِ‏ ر الذي أراد لهم<br />

أن يكونوا اناساً‏ معذبني كما أصبحوا كذلك من<br />

أجل أن يقاوموه.‏ يف هذه احلالة على املُستعمِ‏ ر<br />

أن يناضل ضد نفسه من أجل أن يناضل ضد<br />

االستعمار،‏ وهذان النضاالن ليسا إال نضال<br />

واحد.‏ ينبغي لكل الصراعات الداخلية أن<br />

تنصهر يف نار املعركة«.‏<br />

محمود العبيدي،‏ فيلم سجن ابو غريب<br />

87


تلك التي تختار الواليات املتحدة مهاجمتها،‏<br />

أي العراق وصربيا والئحة طويلة معروفة من<br />

الدول األخرى«.‏<br />

وعودة إلى فيلم العبيدي،‏ أرى شخصياً‏ <br />

كطرف تفاعلي وليس كمتلق سلبي أن لسان<br />

حال خطابه هو اآلتي:‏<br />

املقترحات املطروحة على القارئ/‏ املشاهد،‏<br />

يف احلكم على جالد أبو غريب هي أن تختار<br />

الغرفة املناسبة من الغرف التالية:‏<br />

الغرفة رقم ٢: جالد أبو غريب األميركي،‏ هو<br />

اإلنسان األعلى،‏ املتفوق،‏ صانع املستقبل،‏ وبهذا<br />

يجوز له شرعنة ما يفعل.‏<br />

الغرفة رقم 1: أحد ضحايا الواجب<br />

الغرفة رقم 2: مريض نفسي<br />

الغرفة رقم 1: مارس حق الدفاع عن النفس<br />

الغرفة رقم 2: كان وحشا<br />

الغرفة رقم 2: يف نيته بث رسائل حتذيرية<br />

لضحايا االحتالل<br />

الغرفة 1،2،3: كل هؤالء<br />

دعونا نلقي نظرة على ما قاله الفيلسوف<br />

فرانز فانون يف كتابه معذبو األرض بهذا<br />

الشأن:‏ ‏»إنك ال تستطيع أن تفكك مجتمعاً‏<br />

من املجتمعات،‏ مهما يكن بدائياً،‏ ما لم حتزم<br />

أمرك منذ البداية،‏ على أن حتطم جميع<br />

احلواجز التي ستلقاها يف طريقك.‏ واملُستعمِ‏ ر<br />

الذي يقرر أن يحقق هذا البرنامج،‏ يكون له<br />

احملرك،‏ مهيأً‏ للعنف منذ زمن طويل.‏ لقد<br />

أدرك منذ والدته إدراكاً‏ واضحاً‏ أن هذا العالم<br />

الضيق،‏ املزروع بأنواع املِنَع،‏ ال ميكن تبديله إال<br />

بالعنف املطلق«.‏<br />

إذن،‏ نستنتج مما ورد أعاله،‏ أن تشريع<br />

القوانني واألنظمة التي ينبغي إرغام اجلميع<br />

على تطبيقها خلدمة اخلالص العام«‏ كما ذكر<br />

سبينوزا،‏ ما هي إال أنظمة من صنع ‏)الفتّوات<br />

الشّ‏ قاوات(.‏ والعنف الذي ميارس من قبل<br />

جماعات أو أفراد ما هو إال طبيعة متأصلة<br />

يف عقول املتفوقني،‏ لقمع اآلخر أو لوضعه<br />

على مسار ‏)العالم احلضاري(،‏ معللني بذلك<br />

اجلرائم التي ارتكبت عن ‏)حسن نية!(.‏<br />

لكن ماذا لو كان اجلالد يسعى لتنفيذ األوامر<br />

ال أكثر؟ فمن خالل توزيع املهام والوظائف<br />

واملسؤوليات على األفراد يتسنى ‏)للبلطجية(،‏<br />

توفير املكونات املطلوبة لتنفيذ اجلرائم الفردية<br />

واجلماعية،‏ إذ يقوم اجلميع بتنفيذ األوامر<br />

كأمر مسلم به،‏ من دون احلاجة للدخول يف<br />

طبيعة التفاصيل،‏ طاملا هناك سلطة تتحمل<br />

املسؤولية القانونية واألخالقية بدالً‏ عنهم.‏ ويف<br />

كل األحوال،‏ يؤكد نيتشه أن اإلنسان يخضع<br />

للفكر السائد دون تفكير،‏ كأحد أفراد القطيع.‏<br />

وماذا لو كان اجلالد مرغماً‏ ملمارسة حق<br />

الدفاع عن النفس وقت اخلطر؟ قالت إحدى<br />

أعضاء الفرقة العسكرية األميركية اآلنفة<br />

الذكر،‏ إنها غير نادمة على فعلتها و ‏»أنهم لم<br />

يكونوا أبرياء وأنهم كانوا يحاولون قتلنا،‏ فهل<br />

تريدون مني أن أعتذر لهم؟ إنه يشبه االعتذار<br />

للعدو؟«‏<br />

لقد قطع األميركان البحار واجلبال لدخول<br />

العراق حتت غطاء احلجج الواهية واألعذار<br />

الغامضة املتتالية،‏ فتبني فيما بعد أن الغايات<br />

التي تقف خلف االجتياح كانت الستهالك<br />

الثروة العراقية،‏ ليس أكثر.‏ وقد ثبتت خطوات<br />

تلك الغايات الصفقة االستغاللية الشهيرة<br />

التي قرّها كل من جورج بوش ونوري املالكي يف<br />

86


محمود العبيدي،‏ فيلم سجن ابو غريب<br />

85


واقع العنف القائم ضد نوع اجلنس البشري،‏<br />

والصراعات الوجودية املستمرة مع اآلخر<br />

يف عمله املعنون ب ‏)ثالث غرف(:‏ غرف<br />

تلقي بظاللها القامتة على ازدواجية النفس<br />

البشرية،‏ حيث ثنائية املالئكة والشياطني،‏<br />

اخلير والشر،‏ الفضيلة والرذيلة.‏<br />

يف تلك الغرف الثالث التي تظهر بالتوازي<br />

على شاشة العرض،‏ يقطن شخص واحد،‏ هو<br />

إشارة إلى زميل عمل يف الغرفة األولى،‏ ويف<br />

الثانية اجلالد،‏ ويف الثالثة رب أسرة.‏ حتيلنا<br />

تفاصيل مشاهد غرفة اجلالد إلى األحداث<br />

سيئة الصيت يف سجن ‏)أبو غريب(‏ األميركي<br />

يف العراق،‏ حيث عمليات التعذيب والترويع<br />

املمنهج ضد املقاومني رافضي االحتالل التي<br />

ارتكبها أفراد من الشرطة العسكرية األميركية<br />

من قوات االحتالل يف العراق،‏ عام 2004.<br />

يفتح بهذا العمل املسرحي أبواب األسئلة<br />

اجلدلية على مصراعيها:‏ كيف يتوارى كل<br />

من العنف والقسوة داخل النفس البشرية؟<br />

كيف لسيكولوجية اجلالد املتوحشة التي<br />

تثير القشعريرة أن تخالط أفراد املجتمع<br />

اإلنساني؟ ما هو احلد الفاصل بني الواجب<br />

املهني واحلساسية اإلنسانية؟ إلى أي حد<br />

ميكننا التحايل ألجل مصاحلنا؟ وما هو سقف<br />

قدراتنا على إخفاء طبائعنا الشرسة حتت رداء<br />

الفضيلة والدفاع عن النفس والوطن والقضية؟<br />

وهل صحيح أن ‏»اإلنسان ميتنع عن إخراج<br />

الوحش فيه«‏ كما قال البير كامو؟<br />

ثمة من يؤكد أن بني العنف،‏ ‏)كفعل ورد<br />

فعل(،‏ والطبيعة البشرية،‏ مسألة تبريرات،‏<br />

إذ يقول سبينوزا يف كتابه املعنون ب ‏)رسالة<br />

يف السياسة(:‏ ‏»إذا كانت الفطرة التي جبل<br />

الناس عليها،‏ جتعلهم يرغبون بكل قوة فيما<br />

يؤدي إلى احلفاظ على مصاحلهم العليا،‏ فإن<br />

أي تدخل سريع بغرض نشر الوئام وحسن<br />

النية بينهم سيكون سطحياً،‏ هذا األمر ال<br />

يعني بالضرورة أن هذا امليل هو امليل املعتاد<br />

للطبيعة اإلنسانية.‏ ومع ذلك فهو يدفع بالدولة<br />

إلى تنظيم أمورها بطريقة تسمح للحكام<br />

واحملكومني ‏)طوعاً‏ أو كراهية(‏ بأن يضبطوا<br />

سلوكهم يف خدمة اخلالص العام.‏ وبتعبير<br />

آخر،‏ ينبغي إرغام اجلميع على العيش وفق<br />

نظام العقل بالقوة ألن الضرورة تستوجب<br />

ذلك«.‏<br />

اذن،‏ نستنتج من هذا أن على اجلميع خدمة<br />

الصالح العام،‏ لكن ما هو الصالح العام؟ صالح<br />

احلاكم احملتل أم احملكوم احملتل؟<br />

تعود مالمح الظالل الثقيلة للفيلم التفاعلي<br />

يف هذا العمل للواجهة من جديد،‏ إذ يقترح<br />

علينا الفنان ضمن سياق فيلمه،‏ إلى مناقشة<br />

الطبيعة البشرية،‏ ووضع اخليارات لفهم سلوك<br />

اجلالد.‏ واحلال ميكن للمرء أن يتفق مع فكرة<br />

أن أي عنف يولّد عنفاً،‏ والصراع الوجودي<br />

أحد أهم سمات العصر والبقاء فيه لألقوى،‏<br />

هكذا تعلمنا احلضارة الغربية.‏ لكن سيظهر لنا<br />

كم هائل من األسئلة مثل:‏ من أشعل احلرب؟<br />

احلرب ضد من؟ هل كانت <strong>حر</strong>ب أخالقية أم<br />

نفطية؟ هل كانت <strong>حر</strong>ب الكل ضد الكل؟<br />

هذا ويذكر نعوم تشومسكي يف إحدى املقاالت<br />

التي نشرت يف عموده الشهري يف صحيفة،‏<br />

نيويورك تاميز،‏ بعنوان ‏»جورجيا واحملافظون<br />

اجلدد احملاربون يف احلرب الباردة«،‏<br />

9 سبتمبر،‏ عام 2008، أن ‏»جورج بوش<br />

وكونداليزا رايس وغيرهما من الشخصيات<br />

الكبرى كثيرا ما حتدثوا عن قدسية األمم<br />

املتحدة والنظام الدولي،‏ مهددين باحتمال<br />

إقصاء روسيا من املؤسسات الدولية..‏ ألنهم<br />

يعتبرون أن من الواجب احترام سيادة كل<br />

الدول ووحدة أراضيها،‏ ‏)كل الدول(‏ ماعدا<br />

84


أجبته:‏ أنا أحمل جواز سفر ‏)األبيض(‏<br />

التفت اجلميع نحوي.‏ شعرت باحلرج وأنا<br />

أدلّه على مكان ختم األبيض.‏ عبس الشرطي<br />

واشتط غضباً،‏ ثم صرخ بوجهي:‏ ال ترفع يدك<br />

بوجهي!‏ ثم تناول جهاز االتصال ودعا زميله<br />

الشرطي اآلخر للحضور.‏<br />

كانت اإلنسانية املزعومة يف عيونهم حتثّني<br />

على الصمت..‏<br />

وعلى جلم احتجاجي والسير بهدوء<br />

فجأة،‏ وجدت نفسي متهماً‏ ومرغماً‏ على<br />

مغادرة الطابور.‏<br />

قال الشرطي:‏ االسم ‏...العنوان<br />

ردّدت يف سري:‏ أنا ... ولون شعري فحمي…‏<br />

ولون عيني بني!‏<br />

...<br />

ولم مير الوقت - كما شعرت به – بسرعة.‏<br />

غير أنني بعد كل هذا،‏ حلقت يف الدقائق<br />

األخيرة بالطائرة،‏ وها أنا وحيداً‏ أجلس على<br />

املقعد املخصص لي فيها.‏<br />

إثر هذه املالبسات،‏ وجد محمود العبيدي<br />

يف ‏)الكوموفالج(‏ ‏)وبالعربية:‏ التمويه(،‏ حالً‏<br />

ساخراً‏ ملعاجلة تلك اإلشكالية،‏ كما فعل عادل<br />

عابدين من قبله يف عمله ‏)مناديل التاريخ(.‏<br />

يقترح علينا العبيدي من خالل العدسات امللونة<br />

الالصقة ومستحضرات التبييض وأصباغ<br />

فروات الرأس،‏ وصفات س<strong>حر</strong>ية تخلصنا،‏ نحن،‏<br />

ذوي اجللود السمراء،‏ من مخالب العنصريني<br />

‏)البيض(‏ الغربيني،‏ ومن النظرات التي تنم عن<br />

االستعالء والعجرفة.‏<br />

كان للحادثة هذه مدلوالت نفسية مؤملة،‏<br />

وإرهاب معنوي ولقد صوّر مثيالتها من<br />

املواقف والسلوكيات املشينة الكثير من<br />

الفنانني،‏ ومنهم الفنان األميركي ميشيل<br />

باسكيات والبريطاني بانكسي،‏ رسام الشوارع.‏<br />

إال أن العبيدي يقلب الطاولة بوجه ذلك<br />

اخلطاب السردي الرتيب ورثاء الذات البائس،‏<br />

ليرفع راية التهكم على التفوق املزعوم للعرق<br />

األبيض.‏ يف صورة بيان لقرار وضع خط<br />

لصناعة السحنات البيضاء.‏<br />

وضع العبيدي اسما لهذا املنتج وهو:‏<br />

FAIR SKIES او OBAIDISM<br />

وفيه يقترح مساحيق ومستحضرات ‏)عبيدية(‏<br />

لتبيض اجللود،‏ وأصباغ للشعر،‏ وعدسات<br />

زرقاء،‏ ودهان مثبت.‏<br />

تلك هي إذن مستحضراته للوصول إلى<br />

مالمح عرق أبيض سيحلق بنا عالياً‏ نحو<br />

سماوات عادلة يقطنها هذا اجلنس وحده،‏<br />

سماوات عادلة متنحنا مصائر رائعة قرب<br />

اإلنسانية املزعومة.‏ ليس هذا فحسب بل<br />

وسيمنحنا املستقبل:‏ ذلك املستقبل الذي<br />

يقطنه األشخاص الذين سجلهم يونسكو<br />

بطريقته العبثية الساخرة يف إحدى نصوصه<br />

يف مسرحيته املعنونة ب)املستقبل يف البيض(:‏<br />

‏»سياسيون رؤساء أسياد أبطال جواسيس<br />

قتلة ملوك أباطرة جزارون برغماتيون<br />

ليبراليون دميقراطيون ماركسيون <br />

سرياليون مفكرون علماء وصوليون <br />

ماديون نفعيون وحوش عبثيون وجوديون<br />

عدميون ساخطون ناقمون مكتئبون <br />

كهنة حاقدون لصوص كارهون أنانيون<br />

نرجسيون فضوليون غدارون سفاحون <br />

قضاة انسانيون وحوش فالسفة ثرثارون<br />

مزيفون ارهابيون عنصريون متطرفون<br />

بائعو الهوى طموحون جبناء،‏ ينتظرون<br />

فرصة عشائريون متعصبون متحضرون<br />

متخلفون شموليون دكتاتوريون برابرة <br />

مستوطنون ساللم وأحذية أشقاء مزيفون <br />

أصحاب أعداء«.‏<br />

نستشف يف عمل العبيدي املذكور آنفاً‏ وصفات<br />

من قبيل:‏ املساحيق العبيدية،‏ وغيرها من املواد<br />

التي متنحنا املرور بسالم من غير نظرات<br />

االزدراء.‏ هي إذن املستحضرات التي ستزيل<br />

عنا هموم الذل واإلذعان.‏<br />

ال يكتفي العبيدي بتلك املستحضرات،‏ بل<br />

يسجّ‏ ل أيضاً‏ بعض التحذيرات من قبيل:‏ ليس<br />

هناك من أعراض جانبية،‏ فهي ال تخدش<br />

الكرامة اجلريحة.‏<br />

وثمة فقط،‏ شعور وقتي بالفقدان،‏ وشيء من<br />

اخلذالن.‏<br />

تذكرت يف معرض حديثي هذا القول البليغ<br />

للكاتب املاغوط:‏ ‏»هكذا أريدك أميراً‏ ... عارياً‏<br />

مذعوراً‏ حتت ثلج اإلنسانية ونار الهوية«‏<br />

لم يكتف العبيدي بتصعيد قضية التمييز<br />

العنصري،‏ بل حثّنا على إمعان النظر يف<br />

83


محمود العبيدي،‏ السماوات العادلة.‏<br />

82


وصفات للمرور أمام الشرطة العنصرية مرفوع<br />

الهامة<br />

81


محمود العبيدي<br />

واجه الفنان العبيدي حتدِّياتٍ‏ كبيرةً‏ يف حياته،‏<br />

األمر الذي أثَّر بشكلٍ‏ واضح على خياراته يف<br />

صناعة أعماله الفنية.‏ خيارات اتسمت بتمثيل<br />

الواقع السياسي واإلنساني بشكل مباشر أو<br />

غير مباشر مع احلفاظ على بثِّ‏ املتعة التي<br />

مينحها العمل الفني لدى املتذَوّق.‏ لعلّ‏ من أهم<br />

أعماله فيلم اتخذ هذا العناون املثير:‏ ‏)كيف<br />

ال تبدو مبظهر اإلرهابي بعيون املسؤولني عن<br />

املطار األميركي(،‏ وهذا العنوان:‏ ‏)السماوات<br />

العادلة(.‏<br />

يقدّم الفنان محمود العبيدي عرضه املسرحي<br />

املمزوج بنمط أدائي يف جزئني:‏ يف اجلزء<br />

األول يوثق اليوم الذي تعرض فيه إلى التمييز<br />

العنصري،‏ ويطرح يف اجلزء الثاني حلوالً‏<br />

تخيلية ساخرة.‏ أبطاله هم عشرات من الدمى<br />

املنحوتة التي اتخذت صورة العبيدي ذاته،‏<br />

وعدد من شرطة املطار األميركي.‏ يعرض<br />

العبيدي مشهداً‏ صامتاً‏ يتضمن الكثير من<br />

اإليحاءات املشحونة باملشاعر التي تستفز<br />

ذاكرة املشاهد.‏ فمن خالل العرض األدائي<br />

للدمى التي ي<strong>حر</strong>كها باليد،‏ مثلما حتُ‏ رّك<br />

عرائس املاريونيت،‏ يوثق العبيدي ويدين<br />

سلوكيات عاملنا اإلنساني املتحضر يف تلك<br />

الساعات التي سبقت إقالع الرحلة رقم كذا<br />

وكذا واملتجهة إلى الدوحة،‏ كما يحيلنا إلى<br />

األداء املنهجي لقسطنطني ستانسالفسكي،‏<br />

زعيم املسرح الواقعي الروسي،‏ وهو املنهج<br />

الذي ابتكره إلظهار الطبيعة البشرية احلقيقية<br />

معتمداً‏ على بناء شخصيات مقنعة ميكن<br />

تصديقها على خشبة املسرح.‏<br />

إن نظام ‏)ماجيك اف(،‏ أو ‏)لو الس<strong>حر</strong>ية(،‏<br />

ي<strong>حر</strong>ضك على سؤال نفسك،‏ عن أدائك يف<br />

مثل هذه املواقف:‏ ماذا كنت لتفعل حينها<br />

أو ما الذي ميكنني فعله؟ إنها األسئلة التي<br />

تطرحها ‏)لو الس<strong>حر</strong>ية(‏ على املمثلني قبل األداء<br />

على املسرح.‏ يحيلني عمل الفنان العبيدي<br />

إلى الصورة الفوتوغرافية التي أنتجها الفنان<br />

الكندي ‏)جيف وول(،‏ واملستلهمة فكرتها من<br />

رواية ‏)رالف إليسون(‏ بعنوان Invisible(<br />

،)Man تلك التي تناول فيها معاناة رجل<br />

أمريكي من أصل أفريقي مُهَمَّش.‏ يقول بطل<br />

الرواية:‏ ‏»أنا غير مرئي،‏ أفهم،‏ ببساطة ألن<br />

الناس يرفضون رؤيتي«.‏ ذلكم إذن مبثابة حوار<br />

دراماتيكي دار بني الفنان ‏)العبيدي(،‏ والفنان<br />

‏)وول(‏ عبر أعمالهما.‏ فكالهما يردّدان:‏ أن<br />

تتظاهر بالعمى،‏ أو تتفحصني بريبة،‏ أن تراني<br />

إرهابيًّا،‏ أو ال تراني،‏ تلك هي املسألة!‏<br />

يروي العبيدي التداعيات التي كانت وراء إنتاج<br />

عمله ‏)السماوات العادلة(:‏<br />

‏»لقد كان معرض الفنانني العراقيني املغتربني،‏<br />

وأنا منهم،‏ يف متحف الفن املعاصر يف<br />

تكساس،‏ معرضاً‏ استثنائياً.‏ يف طريق عودتي<br />

إلى الدوحة بعد انتهائي من زيارة املعرض،‏ لم<br />

يكن هناك من طريق مباشر إليها سوى خطوط<br />

الطيران الهولندي،‏ لكن لم يكن يف ذلك بأس.‏<br />

يف املطار،‏ وثناء طريقي للصعود على منت<br />

الطائرة وبالتحديد عند البوابة،‏ تفحصت وجوه<br />

املسافرين من حولي،‏ فكان أغلبهم من البيض،‏<br />

وعدد قليل من امللونني،‏ وأنا منهم،‏ أحمل<br />

هويتي العربية بسحنتها السمراء ونظراتها<br />

الناطقة.‏<br />

ال أحد اعترض طريقي،‏ قلت لنفسي:‏ جنحت<br />

إذن،‏ وها انا أجتاز حاجز التفتيش يف املطار<br />

األميركي من غير مضايقة.‏ لم متر سوى بضع<br />

حلظات حتى استوقفني شرطي،‏ فتاعبت تلك<br />

املشاهد التي لم تغب عن ذاكرتي.‏<br />

كنت أعلم أنه سيعود،‏ وفعال عاد.‏<br />

وراح الشرطي يخاطبني بصوت مرتفع:‏ كيف<br />

وصلت إلى هنا؟<br />

80


التساؤالت عند قراءة النصوص والتساؤل عن:‏<br />

من املتحدث؟ من املدعي؟ حتى ‏»نختار ألنفسنا<br />

احلكاية«.‏<br />

ومن االجدر كما اعتقد ان نغيب املؤلف أو<br />

الفنان،‏ ونعيد قراءة أعماله بشكل منفصل<br />

عنه،‏ ونتفاعل مع العمل كما لو كان أحد<br />

األفالم التفاعلية التي ظهرت يف اآلونة األخيرة<br />

واملنسوبة إلى ما يسمى بالسينما التفاعلية،‏<br />

حيث ميكن للمشاهد التأثير فيها على<br />

السيناريو لتغيير األحداث.‏ وذلك عن طريق<br />

طرح عدد من اخليارات أسفل الشاشة لتتاح<br />

من خاللها الفرصة للمشاهد أن يتبادل األدوار<br />

مع بطل الفيلم وليقرر ما سيفعله لتغيير<br />

مسار القصة.‏ ويف األمثلة التي سوف أوردها<br />

يف هذا النص،‏ توجد مجموعة محدودة من<br />

االفالم لعدد من الفنانني اآلخرين تنتمي لفن<br />

الفيديو،‏ لم يقدم الفنانون فيها أي خيار سوى<br />

اخليار الذي حدده سياق الفيلم.‏ ولكن مع ذلك<br />

سنكتشف أن هناك مرونة يف تلك السياقات<br />

املفتوحة مما يجعلها حتتمل التفاعل.‏ كما يؤكد<br />

الفيلسوف جاك دريدا يف قوله:‏ ‏»ان األفعال<br />

االدائية ميكن ان تستمر يف انتاج معنى جديد<br />

يتجاوز نوايا مبتكريها«.‏<br />

اعتقد،‏ ان فن الفيديو،‏ ال يقدم حكايات<br />

سينمائية محبوكة،‏ أي ليست هناك بدايات<br />

أو نهايات،‏ بل خطابات مرئية سياسية او<br />

اجتماعية،‏ او سيكولوجية.‏ ويف عمل ‏)الفأر<br />

األخضر(‏ يتناول عابدين قضية اجلرائم<br />

البشعة التي ارتكبت بحق الناس،‏ وراح<br />

ضحيتها عشرات اآلالف من األبرياء،‏ إذن هي<br />

يف حقيقتها تستعرض يف النهاية قضية املجازر<br />

بحق اإلنسانية والتي يندى لها اجلبني،‏ وهي<br />

ليست لعبة إلكترونية،‏ بل خطاب سياسي مؤثر<br />

ستضاف له املاليني من شهادات من عاشوا<br />

تلك السنوات الصعبة.‏<br />

وكما اعتقد،‏ فالسؤال الذي ميكن للفيلم أن<br />

يشير إليه هو من قبيل:‏<br />

كيف لك أن تتصرف لو كنت انت يف دور عامل<br />

النظافة؟<br />

ثم اإلجابات التي تعقبه،‏ مثل:‏<br />

سأكتفي فقط بأداء ما يقوم به عامل النظافة.‏<br />

سأجتاهل االنفجارات وأكمل طريقي بعيدا عن<br />

االنقاض.‏<br />

سأغير إجتاهي بهدوء،‏ واذهب بعيدا عن<br />

مسرح احلدث.‏<br />

اترك العربة،‏ ثم اركض مسرعاً‏ بعيدا عن<br />

املكان.‏<br />

ويف جملة كتبها عابدين باألنابيب املضاءة،‏<br />

ثبتت على واجهة املتحف العربي للفن احلديث<br />

يف قطر،‏ قال فيها:‏ ‏»طلبوا مني أن أغيرها<br />

ووافقت«‏<br />

وتبدو هذه اجلملة كما لو أنها تستدعي منطاً‏<br />

من االسئلة احمليرة،‏ وهي على غرار منط<br />

التساؤل الذي نطرحه على أنفسنا ونحن نتابع<br />

ما يدور من أحداث مسرحية يف انتظار غودو<br />

لبيكيت،‏ بني اثنني ينتظران شخصا اسمه ‏)غودو(‏<br />

وهذا االخير - كما يف املسرحية يتراوح ما بني أن<br />

يأتي،‏ او ال يأتي،‏ ثم وهل سيأتي،‏ ومتى يأتي؟…‏ وهكذا<br />

نتسائل ايضاً:‏ من هي التي تغيرت؟ من الذي طلب منه<br />

أن يغير؟ وكيف؟ ومتى وأين؟ ...<br />

عادل عابدين،‏ فيلم الفأر االخضر.‏<br />

79


نحو غرفتها وهي تغني:‏<br />

فأر أخضر<br />

يجري بني األعشاب،‏<br />

أمسكته من ذيله<br />

عرضته على هؤالء الرجال.‏<br />

قال الرجال:‏<br />

اغمسيه يف الزيت،‏<br />

أغمسه يف املاء<br />

سوف يصبح حلزون<br />

لطيف ودافئ<br />

وضعته يف الدرج<br />

قال لي:‏ ‏»اجلو مظلم للغاية.«‏<br />

وضعته داخل قبعتي<br />

قال لي:‏ ‏»اجلو حار للغاية.«‏<br />

وفجأة،‏ يُسمَع صوت دوي انفجار،‏ وتنتشر<br />

األتربة والغبار املتطاير يف الهواء،‏ ثم يظهر<br />

عامل نظافة يبدو أنه غير مبالي مبا حدث،‏<br />

وهو يجر عربته باطمئنان يف املمر،‏ وقبل أن<br />

يهم برفع جزء من األنقاض،‏ يدوي صوت<br />

انفجار آخر.‏ يحدق العامل يف الفراغ،‏ ويؤدي<br />

واجبه باسترخاء،‏ يرفع بعضاً‏ من احلطام<br />

يف احد مكاني االنفجارين لينتقل بعدها إلى<br />

املكان اآلخر.‏ وهكذا دواليك،‏ بعد كل انفجار<br />

جديد يتلو اآلخر.‏<br />

يتعامل بطل الفيلم وهو هنا عامل النظافة <br />

بهدوء وسكينة مع االنفجار الذي هو نذير قتل<br />

وخراب،‏ وكأنه يعيش يوماً‏ عادياً‏ مير حسب<br />

العادة،‏ كما لو أنه ميارس عمله اليومي املألوف<br />

من غير احلاجة الى االهتمام بصغائر األمور.‏<br />

ثمة هنا دراما سوداء مليئة باملفارقات،‏<br />

كاخلطر واألمان،‏ والطمأنينة والفزع…‏ وندرك<br />

من خالل تلك الدراما حقيقة احلياة كما هي<br />

حقا،‏ من غير زيف أو تصنع…‏<br />

ومما يُذكر عن تلك املفارقات العبثية يف حياتنا<br />

اليومية،‏ ما قاله الفيلسوف توماس نيكَل:‏ ‏»أن<br />

شخصاً‏ ما يلقي خطاباً‏ حماسياً‏ ما،‏ لدعم<br />

اقتراح،‏ كان قد مت متريره مسبقاً،‏ أو ان يصبح<br />

أحد املجرمني،‏ سيئ السمعة،‏ رئيساً‏ ملؤسسة<br />

خيرية كبرى،‏ أو بعد اإلعالن عن حبك عبر<br />

الهاتف،‏ وبينما يتم منحك لقب فارس،‏ يسقط<br />

سروالك«.‏<br />

لكن من أين اتى عابدين بهذا،‏ وتلك النظرات<br />

الصامتة البليغة الال مكترثة،‏ من اين اتت؟<br />

يبدو،‏ وبال شك،‏ انه اكتسب ذلك لكونه عراقي،‏<br />

تعايش مع املوت والدمار،‏ حتى أمده ذلك<br />

الواقع املؤلم وهشاشة احلياة والعنف احلاضر<br />

يف يوميات وطنه،‏ وتلك األحداث الدامية بكل<br />

هذا.‏<br />

ففي هذا املشهد الصادم من كوميديا املخاطر،‏<br />

هناك طفلة،‏ واغنية،‏ وممر،‏ وعامل نظافة،‏ هي<br />

إذن،‏ دراما ال منطقية،‏ ولعبة تدور بني الفكرة<br />

ونقيضها يف مكان ضيق محدود،‏ كمثل تلك<br />

االحداث التي تظهر على مسرح الالمعقول.‏<br />

كانت األسباب الرئيسية التي تقف خلف<br />

إنتاج هذا العمل،‏ هي تلك األحداث اإلرهابية<br />

اليومية يف بغداد،‏ واملوقف الذي اتخذه العالم<br />

إزاء جرائم التفجير املروعة واالنتهاكات التي<br />

كانت تطال أفراد الشعب العراقي يوميا ولعدة<br />

سنوات.‏<br />

ويؤكد لنا الفيلسوف نيتشه،‏ على ضرورة طرح<br />

78


77<br />

يعرض على الشاشات العريضة يف الشوارع،‏<br />

بني حماس اجلمهور،‏ وتعابير البهجة العفوية<br />

والصادقة واملشاعر املتدفقة من عامة الناس،‏<br />

صغيرهم قبل كبيرهم.‏ وثمة مشهد آخر هو<br />

ذلك الذي يصور من داخل االستوديو،‏ يف لقاء<br />

خاص مع مقدم برنامج ‏)التوك شو(،‏ الشاب<br />

اللبق والوسيم.‏ يف جلسة سا<strong>حر</strong>ة األجواء،‏<br />

حيث يجلس مايكل بلباس ابيض على الكرسي<br />

املقابل،‏ كمالك قادم من السماء،‏ ليجيب<br />

على تلك األسئلة الوجودية التي تخص املوت<br />

واحلياة،‏ والتي تطرح عليه تباعاً‏ من قبل كالً‏<br />

من اجلمهور ومقدم البرنامج،‏ بينما يعلو صوت<br />

الصراخ والتصفيق اجلماهيري احلار خارج<br />

املبنى،‏ بتلك العبارات التي وردت يف مجمل<br />

أغانيه الشهيرة،‏ على سبيل املثال:‏<br />

املكان<br />

ال جتعله واقعي<br />

فقط ألنك قرأته يف مجلة<br />

أو شاهدته على شاشة التلفزيون<br />

وهنا ميرر عابدين رسائله الوجودية بتلك<br />

العبارات املنتخبة،‏ والتي وردت على لسان<br />

شخصية مايكل يف الفيلم،‏ مثال:‏ ان املعلومة<br />

املكتوبة ليست بالضرورة هي احلقيقة بذاتها<br />

ويف العبارات أدناه،‏ رمبا يشير إلى أن رؤية<br />

الشيء ال تعني وجوده:‏<br />

الذي معك<br />

بعيد<br />

يف كل مكان<br />

وأخيراً‏ وليس اخراً،‏ يخبرك عابدين بانك<br />

املسؤول الوحيد عن معنى وجودك بعبارة<br />

بليغة وردت على لسان مايكل:‏ ‏»اختر لنفسك<br />

احلكاية«‏<br />

ولم يكتفِ‏ عابدين يف بث الرسائل عن احلالة<br />

الوجودية،‏ وإمنا فتح األبواب على مصراعيها<br />

يف حتليل الشخصية اجلماهيرية العاشقة<br />

ل ‏)الهيرو(،‏ او البطل،‏ أو اإلنسان األعلى او<br />

املتفوق اخلارق،‏ كما ورد على لسان نيتشه يف<br />

كتابه،‏ هكذا تكلم زرادشت.‏<br />

ويفسر فرويد ظاهرة البطل يف كتابه املعنون ب<br />

‏)ليوناردو دافنتشي(:‏ أن الدافع احلقيقي الذي<br />

يقف خلف تقديس االبطال لدى كتّاب السيرة<br />

الذاتية،‏ هو تلك الصور اجلميلة واملثالية<br />

الوهمية التي يسعون لترويجها،‏ وهي ايضاً‏ تلك<br />

الصورة النرجسية للذات ولالب املثالي الذي<br />

رسمته لهم مراحل الطفولة...‏ ‏»فهم ميحون<br />

مالمحه الفردية ومظهره ويزيلون آثار كفاح<br />

حياته مبقاومات داخلية وخارجية،‏ وال يجيزون<br />

له الضعف والعيوب البشرية،‏ ثم مينحوننا<br />

شكالً‏ بارداً‏ غريباً،‏ مثالياً‏ بدالً‏ من املثال الذي<br />

ميكن ان نشعر منه بأنه صاحب كفاح حقيقي.«‏<br />

ويف العمل املعنون ب ‏)الفأر األخضر(،‏ يبدو<br />

كل شيء على ما يرام يف أحدى ممرات فندق<br />

كالسيكي هادئ،‏ وثمة طفلة تخطو يف املمر<br />

عادل عابدين،‏ فيلم مايكل


األخرى،‏ وسلبت كل ما كان يف املاضي منطقياً‏<br />

ومعقوالً‏ وبسيطاً،‏ ثم وضعت موضوعة<br />

األخالق على احملك.‏ ويسوّق لنا القرن<br />

األمريكي املتحضر - الذي طاملا سخر من<br />

الديكتاتورية الشمولية وعبادة اجلماهير<br />

لشخصية الزعيم الكاريزماتية - اقول،‏ يسوّق<br />

لنا يومياً‏ يف عروض مثيرة للغثيان،‏ عن طريق<br />

ماليني من املواقع اإلعالمية التجارية ومواقع<br />

التواصل االجتماعية االستهالكية أعداداً‏ ال<br />

حصر لها من القدوات السياسية والدينية<br />

والنجوم الوهميني وأغنياء العمالت املشفرة و<br />

سيدات جميالت مفبركات يفتقدن للمواهب،‏<br />

واملؤثرين السطحيني يف املنصات االجتماعية،‏<br />

الذين غيروا كثيرا من نظرة الشباب للعالم<br />

اجلديد،‏ حتى بات من الصعب علينا فهم جدل<br />

املفكرين أمثال نيتشه وفرويد بشأن مفهوم<br />

القدوة ‏)املثال(‏ و)اإلنسان األعلى(‏ أو ‏)اإلنسان<br />

املتفوق(.‏<br />

لم مير هذا األمر على عابدين بسالم،‏ فقرر<br />

ان يتحفنا بعدد من األعمال الفنية،‏ مستعيناً‏<br />

مبختلف الوسائط،‏ التي تباينت بني الفيلم،‏<br />

والعمل النحتي والفن التلصيقي،‏ ليثبت لنا<br />

وجهة نظره يف هذا الشأن.‏ فعلى سبيل املثال<br />

اشتركت األعمال الثالثة:‏ العمل النحتي<br />

‏)أطالل(،‏ و ‏)مقاطع(‏ وذلك العمل الذي سماه<br />

ب ‏)يا(،‏ بتسليط الضوء على قضية قدسية<br />

السلطة الكهنوتية التي حكمت العراق بعد<br />

االحتالل،‏ حيث تضمن العمل األخير لفافة<br />

كبيرة من امللصقات البيضاء الالمعة،‏ التي<br />

طبع عليها <strong>حر</strong>ف النداء ‏)يا(،‏ وهي تتدلى من<br />

السقف على شكل سلم يصعد الى األعلى<br />

أو العكس.‏ وال شك يف أن خطاب الفنان<br />

عابدين فيه الكثير من التساؤالت التي سادت<br />

عصور السلطات الدينية،‏ والتي على إثرها<br />

نشأت نظرية احلق اإللهي،‏ التي جتيز لبعض<br />

األفراد ‏)احلكام(،‏ الناطقني باسم اإلله،‏<br />

بسط السيطرة على احملكومني ‏)املؤمنني من<br />

الشعب(.‏ وقد جادل الكثير من الفالسفة<br />

واملتخصصون ومن ضمنهم عالم النفس<br />

فرويد،‏ بشأن نشأة األخالق يف املجتمعات<br />

اإلنسانية البدائية القدمية،‏ ورجحت سبب<br />

هذا التصور األسطوري األنثروبولوجي،‏<br />

وقدسية االب،‏ و سلطوية احلاكم أو الكاهن<br />

واالسالف الى تلك املعتقدات التي شرعّ‏ ت<br />

الهيمنة االجتماعية،‏ والتسلسل الهرمي التي<br />

سادت عند الشعوب البدائية والتي أطلق عليها<br />

‏)الطوطمية والتابو(.‏ ويحل نظام الطوطمية،‏<br />

لدى بعض الشعوب البدائية يف استراليا<br />

وامريكا وافريقيا محل الدين ويقدم أساساً‏<br />

للتنظيم االجتماعي،‏ ويف جانبه الديني يقوم<br />

على صالت االحترام والرحمة املتبادلة بني<br />

اإلنسان وطوطمه.‏ ويذكر الفيلسوف فونت<br />

‏»ان احلضارة الطوطمية كونت يف كل مكان<br />

املرحلة التمهيدية للتطورات الالحقة،‏ واملرحلة<br />

االنتقالية من احلالة البدائية الى عصر<br />

األبطال وااللهة«.‏ بينما يشبه فرويد،‏ امللوك<br />

والكهنة أصحاب النفوذ والقوة العظيمة،‏<br />

بالتابو،‏ تلك الشخصية املقدسة املباركة،‏ يف<br />

احلضارات الرومانية واالغريقية واالسيوية<br />

التي تعود الى تلك القوة الس<strong>حر</strong>ية الغامضة<br />

التي تالزم األشخاص واألرواح،‏ كتلك االشياء<br />

املشحونة بالطاقة.‏ ويعرف التابو املقدس بكونه<br />

متثيل جلميع العادات االجتماعية التي ترتبط<br />

بتصورات أسطورية تهدد وتتوعد بعواقب<br />

انتهاك قدسية التابو الوخيمة والتي ال ميكن<br />

اخلالص من شرها إال بالكفّارات والقرابني،‏<br />

وهذا ما كان يف املاضي السحيق،‏ أما هدر<br />

الدماء واالغتياالت املعنوية فهي من مخرجات<br />

العصر احلديث.‏ وعلى هذا األساس يؤكد<br />

فرويد يف كتابه ‏)الطوطم والتابو(،‏ انه لم يفلت<br />

شعب او مرحلة حضارية من مضار هذا التابو.‏<br />

ويف الفيلم املعنون ب ‏)مايكل(،‏ يتناول عابدين<br />

منوذج الفنان القدوة،‏ الذي يرتقي به أحيانا<br />

إلى أعلى درجات النبوة.‏ وفيه يتم اإلعالن<br />

عن قيامة االيقونة،‏ ملك البوب،‏ ‏)مايكل<br />

جاكسون(،‏ الذي غادر عاملنا عام 2009 إثر<br />

ازمة قلبية ثارت من حولها الشكوك.‏ ويصيغ<br />

عابدين فيلمه يف شكل برنامج حواري او ‏)توك<br />

شو(،‏ يفتتحه باستعراض سلسلة من املقاطع<br />

اإلخبارية العاملية،‏ التي تؤكد ظهور مايكل يف<br />

أماكن مختلفة بعد بعثه،‏ يف الشوارع مع العمال<br />

واملشردين وكبار السن،‏ ثم يتم استضافته<br />

شخصياً‏ يف البرنامج التلفزيوني املزيف،‏ الذي<br />

76


ضروب اخليال يف زمن ليس بالبعيد،‏ يطرح<br />

لنا عابدين يف عمله ‏)مناديل التاريخ(‏ حلوالً‏<br />

تهكمية،‏ حيث نرى مناديل مطهرة لألرواح<br />

املعذبة،‏ ومناديل منظفة إلزالة الوجع واخلطيئة<br />

ووصمات العار التي تالحقهما.‏ وتبشرنا خالل<br />

املقطع الصوتي املرافق للعمل باخلالص.‏ حيث<br />

ينبه صوت االنسان االلي املرافق للمقاطع<br />

املركبة،‏ وكذلك الصوت الذي يقتحم مسامعنا<br />

عند الدخول الى موقع الكتروني مشبوه مبا<br />

يلي:‏<br />

انتبه!‏ فايروس<br />

مرحبا بكم يف النسيان.‏<br />

...<br />

لقد زالت مخاوفك بشأن املاضي<br />

لقد زالت مخاوفك بشأن املستقبل<br />

...<br />

تنفس الصعداء<br />

.........<br />

ثم ينتقل بنا عادل عابدين من عملية تطهير<br />

الروح الطوعية يف عمله املعنون ب ‏)مناديل<br />

التاريخ(‏ الى العملية القسرية لتطهير العقول،‏<br />

يف إشارة منه الى التغييب واالعترافات<br />

االجبارية يف معتقالت الدول ‏)املتمدنة(،‏ وذلك<br />

يف العمل املعنون ب ‏)التطهير(‏ عام 2018،<br />

املستوحى من لوحة اإلعدام للفنان اإلسباني<br />

غويا،‏ واملعنونة ب)الثالث من مايو 1808(.<br />

رمبا لم يتناول عابدين موضوعة فكرة التطهير<br />

املسيحية التي ال تكتمل إال بالتوبة والغفران،‏<br />

كما يبدو يف العنوان،‏ إال أنها تناولت سلب<br />

االرادة وعمليات غسيل االدمغة وتزييف الوعي<br />

واالضطهاد الفكري والسياسي،‏ يف األنظمة<br />

السلطوية،‏ ومنها األنظمة الدينية القهرية.‏<br />

ويتضمن العمل جزئني كما هو احلال يف العمل<br />

األول ‏)مناديل التاريخ(،‏ حيث اجلزء األول هو<br />

فيلم،‏ يبدو فيه ال<strong>فضاء</strong> املسرحي غريباً‏ بعض<br />

الشيء.‏ ففي مبنى ذي جدران عالية وأمام<br />

بوابة حديدية مغلقة،‏ يؤدي عدد من األفراد،‏<br />

أدوارهم كجالدون وضحايا،‏ ورجال قانون<br />

وإعالميون،‏ يف مشهد سينمائي دراماتيكي<br />

مشحون وعالي اجلودة.‏<br />

ان التنصيص على عمل غويا،‏ والبناء عليه،‏<br />

دفع عابدين إلى استبدال بنادق احلرب االهلية<br />

اإلسبانية بخراطيم املياه.‏ حيث يتم تصويب<br />

تلك اخلراطيم التي يتدفق منها املاء بغزارة،‏<br />

يف عرض ادائي،‏ باجتاه األجسام املظلمة<br />

املتسخة باأللوان القامتة،‏ التي سرعان ما<br />

تفارق جلودهم،‏ منسابة على ذلك اجلزء الثاني<br />

من العرض االدائي،‏ تاركة آثارها على سطح<br />

القماش امللقى على األرض،‏ وكأن لسان حاله<br />

يقول:‏ ال مفر.‏<br />

وبالرغم مما اضمره الفنان اال ان هناك<br />

إشارات سيكتشفها املتلقي قد تذهب الى<br />

جانب تأويلي اخر،‏ فاملشهد يحتوي على<br />

فريقني أساسيني متقابلني وهما:‏ البيض<br />

وامللونني،‏ وكأن لسان حال حاملي اخلراطيم<br />

يقول:‏ ان جلودكم امللونة،‏ قذارة،‏ وجب علينا<br />

تطهيركم منها.‏<br />

كل شيء يف تفاصيل هذا املشهد يفضي الى<br />

اإلثارة،‏ ورمبا يبحث عابدين عن خلق حالة من<br />

الصدمة والفزع عند املتلقي،‏ ورمبا ايضاً‏ يثير<br />

فينا حالة من التضامن والشفقة أو غليان ثورة<br />

داخلية عارمة.‏<br />

تهيمن قضية التفوق العرقي التي ابتكرها<br />

تاريخ االستعمار االستيطاني وعززها الغرب<br />

املعاصر،‏ على مفاصل حياتنا،‏ حيث يؤكد<br />

البروفسور يف فن السينما،‏ ريكارد داير،‏ على<br />

أن العنصرية قضية مركزية،‏ مت التسويق لها<br />

يف العالم احلديث،‏ ودخلت املشكلة العرقية يف<br />

احملافل الدولية،‏ واإلعالم الغربي،‏ وعلى سبيل<br />

املثال:‏ يتم التساؤل عمن يفجر القنابل؟ ومن<br />

يتعرض للقصف؟ ومن يحصل على الوظائف<br />

واالمتيازات والتعليم والرعاية االجتماعية؟<br />

وما هي األنشطة الثقافية التي يتم دعمها؟<br />

هذا باإلضافة الى القرارات الدقيقة التي<br />

ال تعد وال حتصى واألحكام املتعلقة بقدرات<br />

الشعوب واألفراد بناءً‏ على اشكالهم،‏ ومواقعهم<br />

اجلغرافية،‏ وكيف يتحدثون،‏ وماذا يأكلون،‏<br />

وهكذا...‏ ويبقى األشخاص ذوو النيات<br />

احلسنة يف كل مكان يكافحون للتغلب على<br />

التمييز واحلواجز العرقية دون جدوى.‏<br />

ومن اجلدير بالذكر،‏ ان عادالً‏ صور يف هذا<br />

الفيلم،‏ وبلغة بليغة،‏ إحدى أقدم الصراعات<br />

البشرية،‏ وهي صراعات األجناس املتنازعة،‏<br />

ليس فقط من خالل األداء اجلسدي للفرق<br />

املشتركة،‏ وإمنا بتلك النظرات االدائية احلازمة<br />

التي يؤديها الفريق من العرق األبيض،‏ حامل<br />

اخلراطيم،‏ واألداء البارد،‏ الال مكترث،‏ لنظرات<br />

رجال الشرطة،‏ واإلعالميني الذين اكتفوا<br />

بتغيير مواقعهم اللتقاط زوايا مختلفة للحدث،‏<br />

بل ورمبا تشير أيضاً‏ الى تصوير األحداث من<br />

وجهات النظر املتنوعة،‏ ومنها تلك التي تناسب<br />

املؤسسات التي تدفع لهم،‏ ومن جهة أخرى<br />

غابت مالمح امللونني املشغولني باالستسالم<br />

الطوعي للبيض،‏ والصراع الوجودي اخلجول<br />

الذي يحثهم على رباطة اجلأش واستمرارية<br />

املقابلة والوقوف،‏ يف أفضل األحوال.‏<br />

لقد أعلنت الرأسمالية املتوحشة انتصارها<br />

الساحق على خصومها،‏ فخلقت األزمات<br />

االجتماعية والبيئية املتالحقة واحدة تلو<br />

75


. عادل عابدين،‏ فيلم مناديل التاريخ<br />

أحدهما يف االخر،‏ حملت املقاطع االولى،‏ تلك<br />

املشاهد األكثر دراماتيكية يف التاريخ البشري<br />

كالوفيات اجلماعية،‏ والتعذيب يف املعتقالت<br />

النازية،‏ واملقاطع املنسوبة للسجون العراقية،‏ ثم<br />

تلتها احلوادث الفردية واملناسبات،‏ بينما حمل<br />

اجلزء الثاني من الفلم،‏ معنى اإللغاء،‏ او املسح،‏<br />

والذي عززته تلك القفازات واملناديل التي<br />

تستخدم حملو بعض من املشاهد املعروضة،‏<br />

وهي مستوحاة،‏ كما أشار عابدين،‏ من قفاز<br />

لوحة الفنان السُ‏ ريالي ،Giorgio de Chirico<br />

الشهيرة ‏»أغنية احلب«.‏<br />

من املؤسف ان ملفات خطايانا عامرة،‏<br />

وتاريخنا البشري حافل باجلرائم الوحشية<br />

املخجلة التي يندى لها اجلبني،‏ حيث<br />

املؤامرات،‏ واملكائد،‏ والصراعات،‏ وقتل<br />

وتعذيب،‏ ومجازر وابادات جماعية،‏ نهب<br />

وسلب وتدمير منهجي.‏ وعلى الرغم من<br />

جميع احملاوالت املستمرة للحد من الفظائع<br />

البشرية إال أننا على علم ودراية من أن ثنائية<br />

اخلير والشر يف الوجود ما هي اال تعبيراً‏<br />

عن ازدواجية الذات البشرية،‏ وثنائية التملك<br />

والكينونة،‏ أو بعبارات أخرى:‏ بني امللكية<br />

والوجود،‏ بني طريقة يف احلياة تقوم على<br />

االقتناء واالستحواذ واالكتناز واجلشع،‏ وأخرى<br />

تقوم على ترسيخ قواعد الوجود اإلنساني<br />

اخلَيِّر إلتاحة الفرصة للبشر لكي يستخرجوا<br />

أجمل ما عندهم من مواهب وملكات واخالق«‏<br />

على حد قول الفيلسوف وعالم النفس<br />

األمريكي إريك فروم.‏<br />

وبينما جتاهد العلوم والتكنولوجيا والطب<br />

النفسي يف محاوالت ابتكار سبل ووسائل حملو<br />

أجزاء من الذاكرة التي اعتبرت ضرباً‏ من<br />

74


املجاز والتهكم إزاء عالم زاخر باملفارقات<br />

تلك اليقينيات املطلقة التي ال جدال فيها.‏ إال<br />

ان إثارة الشكوك حول مصداقية تلك األقوال<br />

املنسوبة،‏ تدخل يف صلب إشكالية مصداقية<br />

التاريخ املكتوب واملتداول.‏<br />

ويتألف العمل ‏)مناديل التاريخ(‏ الذي سبق<br />

ذكره،‏ من جزئني رئيسيني:‏ األول هو فيلم<br />

يتضمن مقاطع مركبة وتأثيرات صوتية،‏<br />

والثاني جدار نحتي مكون من مجموعة من<br />

القناني أو عبوات مواد التنظيف،‏ التي جتاوز<br />

عددها ٣٠٠ قنينة مصنوعة من اجلبس،‏<br />

وضعت يف أماكن كانت قد خصصت لها،‏<br />

ورتبت على شكل صفوف،‏ مع ترك بعض<br />

الفتحات الفارغة ليضع فيها عابدين رسائله<br />

املجازية.‏ وثمة شاشة مقابلة يعرض عليها<br />

الفيلم الذي قُسِّ‏ م أيضا الى جزئني يتنافذ<br />

عادل عابدين.‏ فلم ( التطهير(‏ 2018<br />

73


عادل عابدين<br />

ملع اسم الفنان العراقي عادل عابدين يف<br />

السنوات األخيرة،‏ من خالل <strong>فضاء</strong>اته املسرحية<br />

وأسلوبه الس<strong>حر</strong>ي التهكمي املعبر عن القضايا<br />

الوجودية والوجدانية سواء يف الفن التركيبي<br />

أو فن الفيديو.‏ فقد أثارت أفالمه بغموضها<br />

وغرابتها وسخريتها املشاعر،‏ بعد أن رسخت<br />

العالقة ما بني الفنون البصرية وما بني الهوية<br />

السياسة والثقافة الشعبية.‏ ولعبت العبارات<br />

املتداولة واألقوال املأثورة دور البطولة فيها،‏<br />

واتخذت بعض الفلسفات اإلنسانية موضوعاً‏<br />

خلطاباتها.‏ بعد ان شككت يف مصداقية<br />

التاريخ وسخرت من التابو وعبادة األسالف،‏<br />

واحتجت على تدمير الطبيعة والبيئة.‏ كل هذا<br />

خلصه الفنان يف ما يشبه السيرة الذاتية يف<br />

فيلمه األخير املعنون ب ‏)بيان موسيقي(.‏<br />

تنطوي أعمال عابدين على روح صاهرت بني<br />

الثقافات الغربية والشرقية،‏ وعلى التالقح<br />

الثقايف بينها،‏ الذي ظهر بفضل ما أحاط بها<br />

من معطيات جديدة مثل:‏ االحتالل والهجرات،‏<br />

والتهجير.‏<br />

وكان من أهم ما مييزه عن سواه،‏ هو تلك<br />

القوة التعبيرية التي ولدت من التقاء تلك<br />

احلضارات،‏ وتلك التبادالت الالمركزية<br />

واملفتوحة بني ثقافة الفنان العربية والثقافة<br />

الغربية،‏ والتي أدت بدورها إلى إنتاج منوذج<br />

حضاري جديد مركب،‏ تعزز من خالل اختياره<br />

العبارات البسيطة املأخوذة من االمثال<br />

الشعبية العراقية التي احتوتها أعماله النقدية<br />

الساخرة ومن خالل قصديته يف قلب املعاني<br />

ثم التوجه نحو اإلشارة الى عجز منطق<br />

املعتقدات واألفعال واملؤسسات،‏ وخير مثال<br />

على هذا،‏ ما خلصه عابدين يف فيلمه األخير<br />

‏”بيان موسيقي«‏ وكذلك أفالمه الثالث املعنونة<br />

ب ‏»أغاني حب«،‏ حيث نطالع خطابه املشحون<br />

بالغضب،‏ واملطالب باحلرية،‏ واملعارض لسوء<br />

استخدام السلطة،‏ وغياب العقل،‏ واخلداع<br />

والتالعب باحلقائق وتزييفها.‏<br />

وتعيد األعمال الثالثة املذكورة،‏ أغاني احلب<br />

ضمن صياغات ومعاجلات بصرية يف أجواء<br />

صاالت اجلاز األوروبية الكالسيكية،‏ لتصعد<br />

بذلك من حدة املفارقة يف النوع املنتخب من<br />

األغاني العراقية،‏ والتي تناولت حتديدا،‏<br />

فترة حكم الرئيس العراقي السابق صدام<br />

حسني،‏ لنستشف منها ما يتعلق بثنائية<br />

الشرق والغرب،‏ وثنائية احلب واحلرب،‏ ثم<br />

الغلظة والرقة،‏ واحلساسية والبالدة،‏ واملعرفة<br />

واجلهل الذين نشعر بهم أثناء إصغائنا لكلمات<br />

األغنية املوجهة للرئيس،‏ من قبل تلك املطربة<br />

الرومانسية،‏ الشابة الشقراء،‏ التي ال تعرف<br />

معاني ما تغنيه من كلمات.‏<br />

لقد مت وضع قضية مصداقية كتابة التاريخ<br />

يف عصرنا احلديث يف موضع الشك،‏ إذ يؤكد<br />

املتخصصون يف هذا املجال،‏ عدم إمكانية<br />

التحقق من تلك الرؤى املنتخبة لنشر جانب<br />

تاريخي معني،‏ وذلك بسبب األنظمة السلطوية<br />

احلاكمة التي تدخلت يف صناعة التاريخ وتعلية<br />

شان أمه أو أيديولوجية،‏ او فكر دون سواه.‏<br />

واستفزت هذه القضية املفكرين والفنانني على<br />

حد سواء،‏ فهيمنت على صعيد الفن العراقي<br />

على أعمال الفنانة جنان العاني كما ظهرت<br />

يف أعمال الفنان عابدين وغيرهما.‏<br />

يف فيلمه املعنون ب Wipes( )History أو<br />

‏)مناديل التاريخ(‏ والذي أنتجه عام 2018،<br />

يستعير عادل بعضاً‏ من األقوال املأثورة من<br />

التاريخ،‏ ليضاعف من قوة دالالتها،‏ عن طريق<br />

املقاطع املركبة واملكونات املعقدة واملتفاعلة<br />

فيما بينها،‏ ليمنحها تأثيراً‏ أكبر.‏<br />

ويحيلنا الفنان إلى العبارات املأثورة التي<br />

كثيراً‏ ما مت احلديث عنها،‏ وايضاً‏ عن تلك<br />

األقوال املتضاربة واملنسوبة لشخصيات<br />

تاريخية مثل:‏ ونستون تشرشل ونابليون<br />

بونابرت وآخرون،‏ ومنها على سبيل املثال:‏<br />

‏»التاريخ يكتبه املنتصرون«‏ و ‏»التاريخ خرافات<br />

يصدقها الناس«‏ و ‏»التاريخ مجموعة من<br />

األكاذيب متفق عليها«،‏ و ‏»يعيد التاريخ نفسه<br />

ألن احلمقى لم يفهموه جيدا«،‏ و ‏»ادرس<br />

التاريخ،‏ ادرس التاريخ،‏ فهناك تكمن اسرار<br />

احلكم«.‏ وبالرغم من أن هناك قدراً‏ كبيراً‏<br />

من املعلومات املضللة فيما يتعلق مبرجعية<br />

هذه األقوال إال أنها عوملت كما لو كان لها<br />

أساساً‏ متيناً‏ ال يقبل الشك،‏ حتى صارت من<br />

72


توشوش فيه إحداهن لألخرى.‏<br />

شبه جزيرة،‏ مسحوق اسود<br />

71


استحضرت الواحد والعشرين يوماً‏ من املعارك<br />

الضارية التي كان يخوضها اجليش العراقي<br />

يف البصرة والناصرية لردع وإيقاف اجليش<br />

األميركي عن التوغل يف األراضي العراقية<br />

عام 2003، وتلك املعركة املنسية،‏ معركة<br />

الناصرية،‏ التي كادت أن تقلب موازين القوى<br />

وتغير التاريخ،‏ حني جنحت بقايا الفرقة 11<br />

من اجليش العراقي وجيش القدس والفدائيني<br />

يف سحق القوات األمريكية واألسترالية بكامل<br />

أسلحتها،‏ وأوقعت يف األسر عدداً‏ من جنود<br />

املارينز،‏ بينهم اجلندية جسيكا لينش التي ذاع<br />

صيتها إثر عملية إنقاذ مفبركة على طريقة<br />

أفالم هوليوود.‏<br />

واقع احلال أن السيناريو الذي ذكره الطبيب<br />

املتدرب،‏ اخلفر،‏ م.‏ ال.‏ العامل آنذاك يف<br />

مستشفى صدام الكائن يف مدينة الناصرية<br />

جنوب العراق،‏ والذي كان يشرف على عالج<br />

األسيرة اجلريحة،‏ كان مختلفاً‏ متاماً،‏ فقد<br />

أكد الطبيب أنه سلّم األسيرة لألمريكان<br />

بنفسه،‏ بعد أن فقد االتصال بالقوات العراقية<br />

ومسؤولي الدولة،‏ هذا باإلضافة إلى نفاد<br />

األدوية الطبية الالزمة لبقائها على قيد<br />

احلياة.‏<br />

وعن املقاطع التي ظهرت على شاشات القنوات<br />

العاملية،‏ يقول:‏ ‏»سألتهم مستغرباً:‏ ما الغرض<br />

من وراء تصوير مشاهد ‏)األكشن(‏ اإلثارة هذه،‏<br />

وأنا الذي أبلغتكم عن مكان األسيرة لينش<br />

واملستشفى تخلو من البشر؟«.‏<br />

لم يدرك الطبيب أن احلرب إعالمية،‏<br />

والتقارير الصحفية تدير دفة هذه املعارك،‏<br />

ومشاهد تصوير مقطع أو مقطعني من فيلم<br />

‏)الترمنيتر(،‏ ضرورة ملحة لرفع املعنويات بعد<br />

ان حتولوا إلى أضحوكة للعالم بسبب تلك<br />

املشاهد التي نقلتها كاميرات قناة اجلزيرة<br />

القطرية عن معركة الناصرية.‏<br />

وبعد أن قطعت الطائرات األميركية املتطورة<br />

تقنياً‏ االتصاالت،‏ وقامت بتدمير اجلسور<br />

والبنى التحتية بالكامل،‏ وبكاميرا صحفي<br />

أخلّ‏ مبيثاق شرف املهنة،‏ رافق مسرحية سيئة<br />

اإلخراج،‏ حيث جرى عملية إنزال الدبابة<br />

الوحيدة على حدود بغداد،‏ لتُحسَ‏ م النتيجة.‏<br />

لقد خسرنا املعركة يف حدث تاريخي هزلي<br />

مكرر،‏ وفلت زمام مصائرنا منا،‏ ولم نعد جنرؤ<br />

على التشكي،‏ فالعراق مريض،‏ ونحن لسنا<br />

بخير.‏<br />

لم تكسب أميركا الرأي العام يف <strong>حر</strong>بها على<br />

فيتنام،‏ بل فشلت فشالً‏ ذريعاً،‏ هذا فضالً‏ عن<br />

تورطها يف مجموعة من اخلروقات للمعاهدات<br />

الدولية.‏ ورجّ‏ ح املفكرون والساسة،‏ آنذاك،‏<br />

أن السبب يعود إلى فشل اخلطاب اإلعالمي<br />

يف حتييد القضية لصالح الواليات املتحدة<br />

األميركية.‏<br />

وعلى إثر ذلك ظهر منوذجان متنافسان من<br />

النظريات اإلعالمية،‏ وهما نظرية املرآة<br />

ونظرية الرأي النخبوي،‏ وتلخص النظرية<br />

األولى ‏)املرآة(‏ دور الصحافة بصفتها السلطة<br />

الرابعة وفيها يحافظ املراسلون املسؤولون على<br />

حماية قوية ملبادئهم الصحفية املوضوعية،‏<br />

ونقل أحداث احلرب بشكل كامل وصادق،‏<br />

حتى لو تعارض ذلك مع احلكومات املعنية.‏<br />

بينما تدعي نظرية الرأي النخبوي أن وسائل<br />

اإلعالم يف <strong>حر</strong>ب فيتنام كانت قد استخدمت<br />

صالحيتها غير املقيدة لعرض احلقائق بشكل<br />

سلبي.‏ هذا واتهمت النخب األمريكية،‏ مثل<br />

اجلنرال ويستر مورالند والرئيس جونسون<br />

والرئيس نيكسون،‏ وسائل اإلعالم وحملتها<br />

مسؤولية خسارة أميركا املدمرة يف فيتنام.‏ هذا<br />

وقد برر الرئيس كندي موقفه يف أبريل 1961<br />

عندما قال:‏ ‏»يجب على كل صحيفة أن تسأل<br />

نفسها اآلن:‏ هل هذه أخبار؟ وكل ما أقترحه<br />

هو أن تضيف السؤال التالي:‏ ‏»هل هذا يف<br />

مصلحة األمن القومي؟«.‏<br />

ومنذ ذلك احلني فازت نظرية الرأي النخبوي<br />

على منافستها يف احلرب اإلعالمية التي<br />

تشعلها أميركا على خصومها يف أي زمان<br />

ومكان.‏<br />

تنقسم <strong>فضاء</strong>ات جنان إلى داخلية مغلقة<br />

‏)ستوديو(‏ وخارجية اتخذت من الطبيعة<br />

مشاهداً‏ لها.‏ بينما احتلت تفاصيل الطبيعة<br />

املصورة جواً‏ مركز الصدارة يف أعمالها<br />

اخلارجية،‏ ولعب ‏»الراس املتكلم«،‏ أو ما يشبه<br />

‏)البورتريه(‏ املت<strong>حر</strong>ك،‏ دور البطولة يف العديد<br />

من أعمالها الفنية املغلقة،‏ مثل ‏)ألف ليلة<br />

وليلة(‏ و ‏)الرجل احلنون(،‏ و)هي قالت(.‏ وقد<br />

متت استعارة الرأس كنوع من أنواع استلهام أو<br />

استدعاء لطريقة األفالم الوثائقية،‏ حيث تتركز<br />

املعاني يف الكلمة املنطوقة وليس سواها.‏ ال<br />

تنطبق على هذه العروض شروط الفن األدائي<br />

التقليدي،‏ ألننا ال جند تلك الشراكة أو التفاعل<br />

احلقيقي بني الفريق الالعب واملتفرجني،‏ ذلك<br />

ألنها عروض مسجلة وليست حيّة على الهواء.‏<br />

وبالتأكيد خضعت إلى املونتاج وحتكم املخرج<br />

يف صياغة السيناريو املرئي.‏ لكننا نتحدث<br />

عن أداء املمثل بواسطة اجلسد أو الرأس أو<br />

األيادي الخ والصوت يف الدور املسند إليه.‏ من<br />

االنفعاالت واملشاعر التي تبثها جنان وأعضاء<br />

فريقها،‏ نختار العمل املعنون ‏)هي قالت(:‏<br />

توجد خمس سيدات،‏ يتناوبن الظهور يف فرق<br />

تتكون من أزواج،‏ يتبدل أعضاؤها بالتناوب يف<br />

مشاهد الغمغمة التي تظهر على خلفية سوداء،‏<br />

70


جنان العاني،‏ فيديو السالسل الزمنية<br />

وذلك بعد أن أدرك العراقيون اخلديعة<br />

والنيات البريطانية يف إنشاء مملكة عراقية<br />

تابعة لهم.‏ وقد تضمنت الصَ‏ حفة النحاسية<br />

مشاهد تراجيدية مؤثرة حلشود من البشر<br />

يف الشوارع،‏ يف أعقاب مجازر عنيفة ارتكبها<br />

طيران االحتالل البريطاني،‏ هذا باإلضافة إلى<br />

مشهد إعدام رجل شنقًا احتل موقعاً‏ مركزياً‏<br />

على سطح الصَ‏ حفة،‏ وذلك بسبب قتله لرائد<br />

يف اجليش البريطاني،‏ كما ورد يف النص املثبت<br />

على صدره.‏<br />

وتردف العاني قائلة:‏ ‏»الطائرة آنذاك كانت<br />

إحدى أجنح التقنيات اجلديدة التي استخدمت<br />

يف احلرب العاملية األولى،‏ ومن غير تلك<br />

احلملة اجلوية لترويع املدنيني،‏ لرمبا كانت<br />

الثورة قد جنحت،‏ وتاريخ العراق والشرق<br />

األوسط والعالم أجمع،‏ كان قد اختلف اليوم<br />

متاماً«.‏<br />

وهنا علينا أن نتوقف قليالً‏ ونتساءل عن<br />

األسباب التي دفعت الفنانة لعرض الفيلم على<br />

الشاشة املنحنية دون سواها.‏ علها تشير لتلك<br />

املنحنيات املغلقة والسفر عبر الزمن والعودة<br />

إلى الوراء يف الوقت املناسب،‏ على أمل تغيّر<br />

األحداث.‏ ومنها فكرة الدوران يف احللقات<br />

املغلقة،‏ والغياب،‏ ثم العودة،‏ وخير مثال على<br />

ذلك،‏ تلك احلقيبة املعدنية العراقية التي غابت<br />

أو فقدت ٥٠٠ عام،‏ ثم ظهرت من جديد،‏<br />

والتي تعود أصولها إلى العصر املغولي،‏ حيث<br />

استعانت بها الفنانة لبث رسائلها.‏<br />

وكما دخلت القوات البريطانية ‏)احملررة(‏ يف<br />

عام 1918 للعراق،‏ دخلت القوات األميركية<br />

‏)احملررة ايضا(‏ عام 2003. غير أن محنة<br />

احتالل العراق عام 2003 وما تعرض له<br />

العراقيون على حني غرة،‏ كان حدثاً‏ فظيعاً،‏<br />

قلب حياة ثالثني مليون إنساناً‏ يف داخل وخارج<br />

الوطن،‏ ولم نخرج على إثرها من درب التطور<br />

فحسب،‏ وإمنا من خارطة العالم برمته.‏<br />

لكني أتساءل كما تساءلت جنان:‏ ماذا لو ربحنا<br />

احلرب؟ وعدنا بزمكان جنان املنحني لتلك<br />

األيام؟<br />

وعلى غرار األحداث التاريخية املنسية التي<br />

نقشت على سطح حتفة أثرية مغمورة،‏<br />

69


قامت الفنانة جنان يف الفيلم املعنون<br />

‏)السالسل الزمنية(‏ بسرد األحداث التاريخية<br />

العراقية املتتالية عبر الزمن،‏ على شاشة<br />

منحنية طولها 13 مترا ونصف.‏ استغرق<br />

العرض تسع دقائق وسبع ثوان،‏ وبتصوير<br />

بانورامي،‏ قُسِّ‏ م إلى أربعة فصول،‏ أظهرت<br />

فيها جنان الصور التي التقطتها عن مشاهد<br />

متناهية الدقة نقشت على صَ‏ حفة نحاسية<br />

عراقية تعود إلى عام 1918، ومتكنت من خالل<br />

إعادة صياغتها بشكل مصطنع،‏ أثناء التحليق<br />

والتكبير،‏ من إنشاء عروض ثالثية األبعاد.‏<br />

ويبدأ كل فصل من عملها هذا مبشهد منتخب<br />

من الصَ‏ حفة النحاسية املنسية،‏ مصحوبًا<br />

بصوت الراوي ومجموعة أخرى من التأثيرات<br />

الصوتية،‏ بدءاً‏ من األصوات الطبيعية احمليطة<br />

إلى أصوات احلرب اآللية،‏ هذا باإلضافة<br />

إلى مقطع صوتي سردي مجزأ لصوت أنثوي،‏<br />

‏)والدة جنان(،‏ الذي تستحضر فيه جتربتها<br />

الذاتية.‏ ففي هذا العمل الكثير من االقتباسات<br />

من أحاديث وروايات نقلت عن لسان والدة<br />

الفنانة التي استعادت فيها ذكريات طفولتها<br />

املبكرة باعتبارها ابنة مهاجرين ايرلنديني<br />

نشأوا يف شمال إجنلترا هرباً‏ من احلرب<br />

العاملية الثانية،‏ ثم االنتقال إلى العراق،‏<br />

بعد لقاء والد الفنانة الذي كان يدرس يف<br />

بريطانيا مع العديد من الشباب العراقيني يف<br />

اخلمسينيات والستينيات.‏ حتدثت عن الوضع<br />

السياسي املضطرب يف العراق الذي استمر<br />

حتى يومنا هذا،‏ بينما تفكر أيضً‏ ا يف تأثير<br />

<strong>حر</strong>ب االستقالل األيرلندية.‏ تقول جنان يف<br />

هذا الشأن:‏ ‏»يف احلقيقة أدهشتني الطريقة<br />

التي جنحت بها والدتي يف التغلب على هذين<br />

التحديني املهمني للقوى اإلمبريالية البريطانية<br />

التي كانت تتكشف،‏ يف نفس الوقت،‏ من عام<br />

1920 والتي استمرت يف إحداث صدى،‏<br />

وتشكيل عاملنا اليوم«.‏<br />

كان هناك نهر<br />

جميل وعميق<br />

عميق جداً‏<br />

تياراته سريعة<br />

وخطرة<br />

...<br />

كانوا يعيشون هناك<br />

متفائلني<br />

يحملون آماالً‏ وغداً‏ واعداً‏<br />

...<br />

ثم جاءت الطائرات<br />

حطمت كل شيء<br />

عرضت العاني بواسطة الصور املكبرة واملعدلة<br />

التي التقطت لسطح الصَ‏ حفة النحاسية،‏<br />

مشاهد الطبيعة العراقية العامرة باجلبال<br />

واألنهار واألهوار اجلنوبية االَسرة ذات النظام<br />

البيئي،‏ وتنقلت <strong>فضاء</strong>اتها احمللقة بعيداً‏ من<br />

السطح املائي للنهر،‏ إلى سلسلة اجلبال،‏ ثم<br />

إلى موقع أثري أو واد جاف،‏ كنوع من أنواع<br />

االحتجاج والتنديد التي سعت الكاميرات<br />

إلى عرضها للجمهور الغربي كمشهد عراقي<br />

وحيد ال منافس له،‏ وذلك للتذكير باألراضي<br />

الص<strong>حر</strong>اوية األميركية واألسترالية قبل<br />

االحتالل األوروبي لها،‏ على حد قول العاني.‏<br />

وتذكر جنان أنه على الرغم من أن النقش على<br />

الصَ‏ حفة النحاسية يشير إلى االحتفاالت بيوم<br />

الهدنة يف عام 1918، إال أنه وبعد الفحص<br />

الدقيق تبني أنه يصور مشاهد سحق ‏)التمرد(‏<br />

الذي مهد فيما بعد إلى اندالع ثورة العشرين،‏<br />

68


األدائية،‏ وإن كنا قد عرفنا اللعبة منذ الوهلة<br />

األولى،‏ إال أن مراحل احلجب والكشف التي<br />

متر على الوجوه اخلمسة بالتتابع هي بحد<br />

ذاتها مثيرة،‏ كتلك الستارة التي ترفع يف<br />

مشاهد املسرح التراجيدي بالتناوب.‏ هناك<br />

فتيات مبالمح غربية،‏ يرتدين مالبس عراقية<br />

تقليدية سوداء كالسواد الذي تتوشح به املرأة<br />

العراقية منذ األزل.‏<br />

لم يحمل الفيلم يف طياته اخلطاب النقدي<br />

املستشرق،‏ ولم تكن املرأة املسلمة احملجبة<br />

معنية بهذا،‏ وإمنا استعارة مجازية حلجاب<br />

الرأس،‏ وذلك لتعزيز خطابها السردي<br />

التاريخي بذاته.‏ على أن ثمة حقائق يكشف<br />

عنها الغطاء تباعاً،‏ وبوجه خاص املسلمات<br />

والبديهيات،‏ وثمة شاهد غائب،‏ حان الوقت<br />

لسماعه.‏ تناول املوضوع أيضا الصورة التي<br />

قدمها املستشرقون للجمهور الغربي التي<br />

اعتمدت بشكل كبير على شطحات الفنان<br />

الغربي اخليالية للمرأة الشرقية،‏ وكأن لسان<br />

حال جنان يقول:‏ هي إذن ليست عارية<br />

مستلقية باسترخاء،‏ وال محاطة بالسجاد<br />

املزخرف واحلرير الناعم،‏ وإمنا سيدة حزينة<br />

يكسوها السواد،‏ مكافحة،‏ وقوية،‏ متعبة<br />

وصبورة.‏<br />

ومن يدري،‏ رمبا كانت اللوحات التي صوّرت<br />

تلك السيدات الشرقيات نتاج جلسات فنية<br />

خاصة ملوديالت فتيات مدفوعات األجر،‏<br />

لكنها يف النهاية جلسات لتصوير حكاية،‏ ألفها<br />

وأخرجها فنان،‏ وليس كما أشيع عنها.‏ يف كل<br />

األحوال تؤكد العاني على القدرة الهائلة التي<br />

تتمتع بها العدسة يف صناعة احليل الس<strong>حر</strong>ية<br />

وذلك بسبب جودتها القياسية وعالقتها احلميمة -<br />

على ما يبدو-‏ بالواقع.‏<br />

وصف نيتشة التاريخ على أنه ‏»عبء ميت ثقيل<br />

على احلاضر«.‏<br />

وقال فيه يوهان فون غوتة بأنه ‏»ليس سوى<br />

قاذورات متراكمة،‏ أو مستودع للمهمالت،‏ أو يف<br />

أفضل حاالته أفعال حاكم أو دولة«.‏<br />

ويعتقد فوكو أن اخلطاب واملعرفة هي من<br />

صنع السلطة،‏ ولم يكن يقصد السلطة<br />

السياسية فحسب،‏ بل املؤسسات الثقافية<br />

واالجتماعية والدينية.‏ وأن هناك العديد<br />

من الثغرات يف التاريخ بحاجة إلى املراجعة<br />

والبحث عن احلقائق الغائبة،‏ أو املهمشة ولن<br />

يتحقق هذا إال يف الترابط والتسلسل الزمني.‏<br />

عُرِ‏ ضَ‏ أحدث أعمال الفنانة جنان العاني<br />

الذي حمل عنوان ،)Timelines( يف Towner<br />

Eastbourne يف بريطانيا يف الفترة ما بني<br />

مارس ومايو عام <strong>2022</strong>، جنبًا إلى جنب مع<br />

معرض،‏ Light( ،)Bringing to وهو املعرض<br />

اآلخر الذي كُلفت الفنانة بتنظيمه واإلشراف<br />

عليه.‏<br />

67


جنان العاني،‏ حجاب 1997<br />

66


اعتمد كال الفلمني على احلركة املستمرة<br />

لتتابع الصور اجلوية،‏ ففي العمل األول تتبنى<br />

جنان فكرة التتابع،‏ بينما تبنت يف الثاني فكرة<br />

التكبير،‏ مع التأكيد على <strong>حر</strong>كة األفالم عبر<br />

األزمان من مواقع العصور الغابرة إلى املواقع<br />

العصرية.‏ جرى إنتاج موقع الظل رقم 2، حصريًا<br />

من الصور الثابتة،‏ وكان مبثابة حتية لعمل املخرج<br />

والسيناريست كريس ماركر،‏ ( Jetée ،)1962 La<br />

والسيما حلظة اقتراب الفيلم من النهاية،‏ عندما يتم<br />

إرسال بطل الرواية أخيراً‏ إلى املستقبل.‏<br />

لقد خلق ماركر،‏ تسلسالً‏ قصيرًا من ثالث<br />

صور ثابتة تتداخل إحداها يف األخرى،‏ ثم<br />

قام بلفها وتكبيرها حتى تبدوان مثل الهياكل<br />

اخللوية حتت املجهر،‏ أو كما لو كنا داخل<br />

جسده وهو يتنقل عبر الزمان واملكان.‏ تبدو<br />

الصورة الثالثة كأنها لقطة جوية ملدينة عمالقة<br />

شيّدت على نظام شبكي واسع،‏ ويشير التعليق<br />

الصوتي إلى أن ما ننظر إليه هو باريس يف<br />

املستقبل،‏ وجهة املسافر عبر الزمن،‏ على حد<br />

قول جنان.‏<br />

أنتجت جنان وأعضاء فريقها عمالً‏ زاهداً‏<br />

بال تفاصيل،‏ بعنوان ‏)حجاب(،‏ يف عام 1997:<br />

وجوه تقابلنا وتخاطبنا بصمت،‏ ليظهر الرأس<br />

وشيئاً‏ من األكتاف والصدر كعادة أفالمها<br />

جنان العاني.‏ مواقع الظل،‏ رقم 2<br />

65


.died<br />

A loving man who broke my heart. Helooked<br />

so young and optimistic once.<br />

He was my hero; he was loving, and<br />

he made me laugh. I am my father’s<br />

daughter in so many ways. He was in<br />

love and made promises he couldn't<br />

keep. I understood his dilemma. He<br />

never joined us. He tried, but did he<br />

try hard enough? Complete disbelief,<br />

frustration and deep anger. When<br />

politics, religion, when cultures clash,<br />

it's the ordinary family that pays the<br />

price. He wrote to me of his anguish<br />

and loneliness, and of his memories of<br />

us as though we had all died. He feels<br />

deserted by us and we feel deserted by<br />

.him<br />

أثناء التحضير لغزو العراق يف عام 2003،<br />

شرعت جنان يف إنتاج العمل املعنون «<br />

جماليات االختفاء:‏ أرض بال بشر«‏ بعد أن<br />

راودها شعور ب ‏)ديجاڤو(،‏ وهو ما يعني<br />

بالعربية:‏ وهم ما مت رؤيته سابقاً،‏ إذ أنه أحد<br />

تلك احلاالت الشاذة التي تتعرض لها الذاكرة<br />

أحيانا.‏ يومها كانت ذات أربعة عشر ربيعاً،‏<br />

حني انتقلت من العراق إلى لندن بعد أن حملت<br />

يف ذاكرتها الكثير،‏ لكنها لم تتمكن من مشاهدة<br />

عاصفة الص<strong>حر</strong>اء،‏ كما لم تشاهد <strong>حر</strong>ب<br />

اخلليج التي قبلها إال من على شاشات القنوات<br />

الغربية كأي مواطن غربي آخر.‏ استفزتها تلك<br />

التقارير اإلعالمية النمطية االستشراقية التي<br />

حتمل االنطباعات الغربية التي تعود يف حقيقة<br />

األمر إلى مفاهيم القرن التاسع عشر والتي<br />

تصور العرب كمتخلفني ومتوحشني يفتقرون<br />

للثقافة،‏ وهو ما حتدثت عنه جنان العاني<br />

وكررته يف معظم لقاءاتها،‏ األمر الذي دفعها<br />

إلى بدء التحقيق ومتابعة األحداث التي لم يكن<br />

لها توثيق مرئي،‏ وال أدلة صارمة،‏ وإمنا أدلة<br />

شفوية أو مكتوبة الغير،‏ وراحت تبحث عن<br />

الوجه اآلخر،‏ الغائب.‏<br />

وقد بحثت يف املدونات،‏ ويف أرشيفات التاريخ<br />

الشفوي،‏ ومن نصوص محاكمات جرائم<br />

احلرب،‏ كما فحصت املقابالت التي أجراها<br />

باحثون آخرون يف امليدان،‏ ومن بينهم علماء<br />

األنثروبولوجيا وعلماء االجتماع،‏ الذين<br />

عملوا مع الناجني من القتل اجلماعي،‏ ثم<br />

اعتمدت فيما بعد،‏ بعضاً‏ مما عثرت عليه<br />

من التسجيالت الصوتية التي تنسجم مع<br />

تلك الصور التي التقطتها للمناظر الطبيعية<br />

يف الشرق األوسط.‏ وعلى عكس ما حدث يف<br />

العمل ‏»مواقع الظل 1 و 2«، كانت اخللفيات<br />

الصوتية تتنقل بني الهادئة التي توحي<br />

بالسالم،‏ واملتوترة التي توحي باخلالف<br />

والعنف،‏ وال تنسجم مع طبيعة الصور<br />

الفوتوغرافية املرافقة لها.‏<br />

made promises he couldn't keep. I am<br />

.my father's daughter in so many ways<br />

A loving man who broke my heart. Helooked<br />

so young and optimistic once.<br />

He was my hero; he was loving, and<br />

he made me laugh. He was in love and<br />

made promises he couldn't keep. I am<br />

my father’s daughter in so many ways. I<br />

.understood his dilemma<br />

A loving man who broke my heart. He -<br />

looked so young and optimistic once.<br />

He was my hero; he was loving, and<br />

he made me laugh. He was in love and<br />

made promises he couldn't keep. I am<br />

my father’s daughter in so many ways.<br />

I understood his dilemma. He never<br />

joined us. He tried, but did he try hard<br />

enough? Complete disbelief, frustration<br />

.and deep anger<br />

A loving man who broke my heart. Helooked<br />

so young and optimistic once.<br />

He was my hero; he was loving, and<br />

he made me laugh. He was in love,<br />

and he made promises that he couldn't<br />

keep. I am my father’s daughter in so<br />

many ways. I understood his dilemma.<br />

He never joined us. He tried. Did he<br />

try hard enough? Complete disbelief,<br />

frustration and deep anger. When<br />

politics, religion. When cultures clash.<br />

It's the ordinary firmly that pays the<br />

.price<br />

A loving man who broke my heart. Helooked<br />

so young and optimistic once.<br />

He was my hero. He was loving and<br />

he made me laugh. He was in love and<br />

made promises he couldn't keep. I am<br />

my father’s daughter in so many ways.<br />

I understood his dilemma. He never<br />

joined us. He tried, but did he try hard<br />

enough? Complete disbelief, frustration<br />

and deep anger. When politics, religion,<br />

when cultures clash, it's the ordinary<br />

family that pay the price. He wrote to<br />

me of his anguish loneliness and of his<br />

memories of ours, as though we had all<br />

64


بهذه القوة غير العادية جلعل املشاهد يعتقد<br />

أن ما ينظر إليه يحدث حقًا يف الواقع.‏ هذا،‏<br />

يف احلقيقة،‏ ما كان يهمني،‏ ولم أكن مهتمة<br />

قط بتمثيل النساء املسلمات حسب ما كُتب<br />

بهذا الشأن.‏<br />

++++<br />

نفذت الفنانة جنان العاني العمل املعنون<br />

ب)رجل حنون(‏ مع فريق مكون من خمسة نساء،‏<br />

حيث تظهر جنان جنباً‏ إلى جنب مع والدتها<br />

وأخواتها يف خمس شاشات دائرية مثبتة على<br />

جدار غرفة مظلمة،‏ ويلعب العرض األدائي<br />

واختبارات الذاكرة دورًا رئيسيًا يف صناعة<br />

النص السردي.‏ يتناوبن النساء احلديث عن<br />

الرجل املعني والذي هو والد جنان،‏ بشكل يبدو<br />

غامضاً‏ للوهلة األولى،‏ إال أنه سرعان ما تندفع<br />

إلى املتابعة والتحديق بالوجوه املضاءة من<br />

لم تربكني العبارات غير املترابطة،‏ بل سرعان<br />

ما أدركت أصل احلكايات املرصوصة بإيقاع<br />

هادئ،‏ وبدا اإلرسال واالستقبال بني أعضاء<br />

الفريق يف املشهد املسرحي املشحون منظماً‏<br />

ومتجانساً.‏ فالروايات جماعية وفردية،‏<br />

موضوعية وذاتية،‏ ولم يكن األداء لفظي<br />

فحسب،‏ بل كان هناك أداء اميائي خلمس<br />

سيدات،‏ لكل منهن شخصية ال تشبه األخرى.‏<br />

A loving man who broke my-<br />

.heart<br />

A loving man who broke my heart. He-<br />

.looked so young and optimistic ones<br />

خلف العتمة،‏ وتسمع عباراتهن التي تتكرر على<br />

لسان واحدة تلو األخرى،‏ بعد أن أضافت كل<br />

منهن جزءاً‏ جديداً‏ عليها.‏<br />

لم أفقد التواصل،‏ يف حقيقة األمر،‏ بل<br />

استمتعت باللعبة،‏ وشاركتهن إياها.‏ فهناك<br />

العديد من املعايير التي تدفعني واآلخرون<br />

ملتابعة هذا العمل.‏ فهو مواجهة مباشرة بني<br />

الفريق واجلمهور،‏ وثمة مشاعر حميمة مثل<br />

األلفة والتضامن التي تبثها تلك اإلمياءات<br />

والضحكات االرجتالية،‏ ناهيك عن العبارات<br />

املؤملة التي ال تخلو من العتب،‏ والشعور بالفقد،‏<br />

واخلسارة،‏ والندم،‏ والكثير من التساؤالت التي<br />

قيلت ولم تقال.‏<br />

جنان العاني،‏ فيديو رجل حنون.‏<br />

A loving man who broke my heart. Helooked<br />

so young and optimistic once.<br />

He was my hero; he was loving, and he<br />

.made me laugh<br />

A loving man, he broke my heart. Helooked<br />

so young and optimistic once.<br />

He was my hero; he was loving, and he<br />

made me laugh. He was in love, and he<br />

.made promises he couldn't keep<br />

A loving man who broke my heart. Helooked<br />

so young and optimistic once.<br />

He was my hero; he was loving, and<br />

he made me laugh. He was in love and<br />

63


األفالم منذ عدة سنوات.‏<br />

بعد إلقائي النظر على العمل،‏ كان أول شيء<br />

قلته هو:‏ حسنا،‏ هذا العمل ال يتعلق بالهدنة<br />

كما هو مسجل،‏ وال بنهاية احلرب العاملية<br />

األولى،‏ إمنا يتعلق بالتمرد على االحتالل<br />

البريطاني يف العراق عام 1920.<br />

وباعتقادي أن هناك الكثير من السرد<br />

التاريخي ال يزال مخفيًا ويحتاج إلى التنقيب<br />

والكشف عنه،‏ وأن وظيفتي كفنانة هي السرد<br />

القصصي الذي يتناول األشياء املوجودة التي<br />

ال يجري سردها بدقة أو بشكل كامل.‏<br />

أنت تعلمني أن دولة العراق أنشئت بعد احلرب<br />

العاملية األولى،‏ ومنذ تلك اللحظة فصاعدًا،‏<br />

بدأت املشاكل.‏ لم تبدأ الصراعات يف 1991<br />

أو ، 2003 فهذه قصة قدمية طويلة األمد،‏<br />

وليست القوى الغربية فقط،‏ وإمنا الروس كانوا<br />

هناك أيضا.‏ أعلم أن األمر أكثر تعقيدًا،‏ وأن<br />

الصراعات ليست بسبب التدخالت اخلارجية<br />

فقط،‏ وإمنا صراعات القوى داخل العالم<br />

العربي معقدة للغاية كذلك.‏<br />

تغريد هاشم:‏ هل حتاولني إعادة بناء أو كتابة<br />

التاريخ؟<br />

جنان العاني:‏ ال،‏ بل هي استراتيجية إثارة<br />

األسئلة والتشكيك،‏ وهي أيضا عرض لتاريخ<br />

موجود بالفعل،‏ لكنه مستتر ومهمش.‏ عندما<br />

يخبرك أحد ما عن حدث تاريخي أرى أن<br />

يتذكر اجلميع أن للقصة منظورات أخرى،‏ وأن<br />

ما نسمعه هو فقط جزء من احلقيقة وليس<br />

احلقيقة كاملة.‏<br />

أظن أن األمر يتعلق بكيفية إثراء الفكر أيضاً.‏<br />

هناك دائمًا روايات متعددة حول حدث ما،‏<br />

وعادة ما يكون أحدهم ذو صوت عال واآلخر<br />

مكتوم،‏ لذلك،‏ فأنا مهتمة بالعودة والنظر إلى<br />

من لم يسمع صوته جيدًا،‏ فهناك بالتأكيد أحد<br />

ما فقد صوته يف هذه القصة.‏ هذه الفكرة<br />

تنطبق ليس فقط على مفهوم الشرق والغرب<br />

وإمنا أيضا على الصوت النسوي،‏ فلدينا مثال<br />

الفنانة ،Vigée Le Brun والفنانة Artemisia<br />

،Gentileschi والكثير من الفنانات اللواتي<br />

كن يتمتعن بشهرة وشعبية قوية إال أنهن<br />

لسبب ما غير مفهوم وال محدد،‏ جرى جتاهل<br />

أهميتهن التاريخية.‏ هناك شخص ما قرر إلغاء<br />

أسمائهن من السجل التاريخي وفقدت بذلك<br />

أصواتهن.‏<br />

تغريد هاشم:‏ ما السبب برأيك؟<br />

جنان العاني:‏ أيا كان السياق السياسي والوضع<br />

االقتصادي لعالم الفن آنذاك،‏ فأنا أرجّ‏ ح أن<br />

تكون العادات احملافظة التي كانت سائدة جزءاً‏<br />

من األسباب،‏ ولهذا فإن هناك الكثير ممن لم<br />

يرغب يف أن تصبح أو يعلن أن ابنته فنانة،‏<br />

ولذلك يجري التعتيم على حقيقة أن هناك<br />

فنانات مستقالت وناجحات ويجنني الكثير من<br />

األموال عن طريق بيع األعمال الفنية.‏<br />

تغريد هاشم:‏ كيف تصفني خطابات أعمالك<br />

الفنية؟<br />

جنان العاني:‏ يف الواقع،‏ خطابي أقرب إلى أن<br />

يكون سردياً.‏ أنا مهتمة بالشكل ودالالته أيضا،‏<br />

وإضافة عنصر اخليال الذي يرتبط بالعاطفة<br />

بشكل وثيق،‏ واألهم من ذلك التأثير الفكري،‏<br />

لذلك فهو مزيج من التحدي الفكري.‏ هذا ما<br />

يفسر إقحام أفراد عائلتي على سبيل املثال يف<br />

العمل أو احلديث عن والدي بذات الطريقة<br />

التي يكتب بها الروائي.‏ فهو يُشَ‏ يّد أبحاثه حول<br />

فترة تاريخية معينة،‏ بدقة شديدة،‏ ال تخلو من<br />

السرد اخليالي.‏<br />

تغريد هاشم:‏ هناك من يطلق على هذا النوع<br />

من األعمال بالفن الوثائقي.‏<br />

جنان العاني:‏ نعم،‏ لكني لست صانعة أفالم<br />

وثائقية،‏ وأنا ال أحكي قصصً‏ ا حقيقية عن<br />

أشخاص حقيقيني،‏ فأنا مهتمة بالتحقيق فيما<br />

حدث يف مثل هذه الظروف،‏ أيا كانت،‏ سواء<br />

كانت صراعًا سياسياً‏ أو عالقات إنسانية.‏<br />

أعتقد أن الكثير من الفنانني الذين يعملون<br />

بالطريقة التي أعمل بها،‏ قد يطلق على<br />

أعمالهم بالفن الوثائقي،‏ لكنه ليس كذلك على<br />

اإلطالق.‏ يف الواقع أنا ال أجد الغرض من<br />

هذا النوع من الفنون هو إلنتاج أفالم وثائقية،‏<br />

فنحن لسنا مصورين وثائقيني،‏ وأنا ال أحاول<br />

إخبارك قصة حدث حقيقي مع أشخاص<br />

حقيقيني،‏ يف الوقت نفسه،‏ نعم،‏ أنا مهتمة<br />

باملواد الوثائقية،‏ وكيف يجري تداولها،‏ فهمها<br />

وتفسيرها يف العالم،‏ وهذا بحث آخر.‏<br />

أنا أبحث عن الغائب،‏ استكشف اجلزء ‏)الذي<br />

سقط سهواً(‏ من القصة التاريخية،‏ كيف<br />

ي<strong>حر</strong>ّف التاريخ،‏ وتسود الشائعات.‏ هذا ما<br />

يحدث مثالً‏ يف منصات التواصل االجتماعي،‏<br />

فبمجرد نشر صورة شخص ما يبدأ صراع<br />

التأويالت مبعدل متسارع جداً.‏ أضف إلى<br />

ذلك،‏ األجندات اخلفية،‏ أو التفسيرات<br />

اخلاطئة،‏ لسبب أو آلخر،‏ واستخدام العديد<br />

من أساليب التالعب باملعلومة لتحييد املوقف.‏<br />

تغريد هاشم:‏ حدثيني عن جتاربك األولى يف<br />

فن التصوير الفوتوغرايف.‏<br />

جنان العاني:‏ جميع أفالمي هي صور<br />

مت<strong>حر</strong>كة،‏ أقصد أنها مصنوعة من صور<br />

فوتوغرافية،‏ لكنها عبارة عن مزيج،‏ لذا كانت<br />

صناعة أعمالي مثل مواقع الظل والسالسل<br />

الزمنية كذلك من الصور الفوتوغرافية،‏ إذ<br />

قمت بتصوير تفاصيل اللقية بكاميرا عالية<br />

الدقة،‏ ثم قمت ببناء الفيلم باستخدام برامج<br />

احلاسوب.‏<br />

تغريد هاشم:‏ كنت اقصد الصور الفوتوغرافية<br />

التي تناولت فيها املرأة الشرقية.‏<br />

جنان العاني:‏ كنت مهتمة جداً‏ يف العالقات<br />

التي تربط التصوير الفوتوغرايف بالرسم،‏<br />

وكنت أتأمل الرسم االستشراقي،‏ حيث<br />

التالعب باإلضاءة والفانتازيا التي تدور<br />

حول األجساد يف القرنني الثامن عشر<br />

والتاسع عشر.‏ عندما جرى اختراع التصوير<br />

الفوتوغرايف يف أوائل القرن التاسع عشر،‏<br />

سافر أوائل املصورين إلى الشرق األوسط<br />

وشمال أفريقيا،‏ إلى مصر ثم إلى فلسطني،‏<br />

ألنهم أرادوا تصوير املناظر الطبيعية املصرية<br />

القدمية،‏ وتلك املناظر الطبيعية املتعلقة<br />

بالكتاب املقدس.‏ ولكن لم تكن تلك الصور التي<br />

يظهر فيها السكان احملليني أو الطبيعة،‏ نقال<br />

واقعيا <strong>حر</strong>فيا كما يبدو،‏ وإمنا كانت من نتاج<br />

خياالت الفنان والتأثيرات احمليطة.‏<br />

هناك مثال صوراً‏ لسيدات شرقيات شبه<br />

عاريات،‏ محاطات ببعض املالبس أو األقمشة<br />

والسجاد،‏ لن يخطر يف بالك وال للحظة أن كل<br />

هذا من وحي اخليال،‏ بل يعتبر أحيانا دليالً‏<br />

دامغاً‏ من تلك األدلة الفوتوغرافية التي تتمتع<br />

62


البريطاني.‏ لم يحدث هذا يف العراق فقط<br />

وإمنا يف اليمن والهند أيضا.‏ لقد وجدت أن<br />

تاريخ الهجوم البريطاني على املدنيني جواً‏<br />

ليس شائعاً،‏ حتى مع وجود لقية جرى صنعها<br />

يف العراق،‏ من ضمن املجموعة املتحفية.‏<br />

وتيقنت متاماً‏ أن صانع هذا العمل إما كان<br />

شاهداً‏ أو متابعاً‏ لألحداث عن كثب.‏<br />

وكما ذكرت سابقاً‏ كنت بالفعل أبحث عن<br />

إمكانية العمل مع مقتنيات املتاحف الغربية<br />

والتي ترجع أصولها إلى العراق،‏ باألخص<br />

تلك التي تستعرض االضطرابات السياسية<br />

أو االجتماعية العنيفة التي شهدتها البالد.‏<br />

لذلك،‏ اتصل بي تيم ستانلي،‏ أمني متحف<br />

فيكتوريا وألبرت،‏ وأشار لي بوجود لقية تصور<br />

طائرتني تعود إلى احلرب العاملية األولى<br />

جنبًا إلى جنب مع حشود من الرجال والنساء<br />

العرب،‏ باإلضافة الى جنود بريطانيني بزيهم<br />

العسكري.‏ لقد حدث كل شيء بالصدفة،‏ فلو<br />

لم أصنع عملي مواقع الظل رقم ١ و‎٢‎ ملا اتصل<br />

بي أمني املتحف وكان يعلم بتصويري لتلك<br />

جنان العاني،‏ فيديو السالسل الزمنية<br />

61


احلرب،‏ وبالطبع تفادت الصور النمطية التي<br />

عرضت فيها <strong>حر</strong>ب فيتنام،‏ كالتي تظهر اجلنود<br />

ممزقني إلى أشالء أو عرض خسائرهم<br />

الفادحة.‏ كان أحد أهم األسباب هو األعداد<br />

الكبيرة من املصورين املرافقني للجنود<br />

األميركان آنذاك،‏ ممن نقلوا الوضع الفظيع<br />

للجيش األميريكي بغض النظر عن اجليش<br />

الفيتنامي.‏<br />

لقد أضرّ‏ ذلك بالدعاية لل<strong>حر</strong>ب وكسب الرأي<br />

العام األميركي والعاملي.‏ لذلك أخذ بنظر<br />

االعتبار هذا األمر يف <strong>حر</strong>ب اخلليج 91<br />

وكذلك 2003. لم يكن األمر خاص بالدعاية<br />

لل<strong>حر</strong>ب فقط وإمنا ما تسمح به التكنولوجيا<br />

من حيث متثيل الصراع.‏ لقد تطور الفيلم<br />

اجلوي والتصوير الفوتوغرايف لدرجة أنه<br />

كان من املمكن،‏ يف احلقيقة،‏ عرض احلرب<br />

على الشاشة عن بعد،‏ وجرى إدارتها وحترير<br />

إعالمها بشكل مباشر،‏ كما لو كان يف الواقع.‏<br />

إنه وضع معقد،‏ إذ تغيرت صورة احلرب متامًا،‏<br />

لم نعد ننظر إلى اجلنود على األرض وهم<br />

يقاتلون،‏ ولم نعد نرى نتائج هجوم جوي على<br />

قرية،‏ بلدة أو مدينة،‏ لم نعد نرى أيًا من ذلك.‏<br />

كان هذا مذهالً‏ وصادمًا حقًا بشأن <strong>حر</strong>ب<br />

اخلليج 91. ما جرى عرضه بدا كأنه عملية<br />

جراحية دقيقة ونظيفة.‏ لم تبدُ‏ <strong>حر</strong>باً،‏ بل كانت<br />

مبثابة عملية جراحية مبعنى الكلمة.‏<br />

هناك رسائل مهمة قدمت للرأي العام كان<br />

باإلمكان قراءتها،‏ وهي أن احلرب تدار<br />

بواسطة اآلالت وليس البشر وهذا ليس<br />

صحيحً‏ ا.‏ لكن هذه هي صور احلرب،‏ وهذه<br />

هي كل األشياء التي تهمك كمشاهد،‏ خصوصا<br />

ونحن نراقب كل هذا عن بُعد.‏<br />

لقد أثارت اهتمامي أيضا الطريقة التي<br />

عرضت بها املناظر الطبيعية واملشاهد املجردة<br />

لتبدو قطع مسطحة من الورق أو شاشة فارغة<br />

وهو نوع مختلف متامًا من املشاهد التي كانت<br />

تدور فيها احلرب.‏<br />

لقد أدهشتني األدوار التي قامت بها<br />

التكنولوجية يف هذه احلرب،‏ وكيف جرى<br />

اختيار عرضها من خالل الكاميرا والصورة.‏<br />

ما أثار اهتمامي سهولة التالعب بالصورة،‏ ولو<br />

أن هذه ليست املرة األولى،‏ إذ صنع اإلنسان<br />

سابقاً،‏ كما تعلمني،‏ عاملاً‏ فانتازياً‏ كامالً‏<br />

باستخدام الصورة الفوتوغرافية.‏ لقد برع<br />

املصور بخلق عامله املتخيل باستخدام الصورة<br />

الفوتوغرافية،‏ وكان األكثر إقناعاً‏ للناس بأن ما<br />

تقوله صوره حقيقيًا.‏ على العكس من الرسام<br />

على سبيل املثال،‏ أو الشاعر أو الكاتب.‏<br />

تغريد هاشم:‏ خلق عدو مشترك،‏ إشعال فتيل<br />

احلرب،‏ استخدام العنف لنشر السالم،‏ وهكذا،‏<br />

اال تعتقدين أن كل ما ذكرتيه ما هو إال دالالت<br />

للثنائيات التي حتتم وجود طرفني،‏ أحدهم<br />

الوجود واآلخر بالضرورة هو العدم،‏ فإذا<br />

حضرت دول العالم األول،‏ غابت دول العالم<br />

الثالث،‏ وهل تشاطريني الرأي يف أن هذه من<br />

مخلفات الصورة النمطية التي خلقها الغرب<br />

عن ‏)اآلخر(؟<br />

جنان العاني:‏ يف احلقيقة أنا ال أؤمن بوجود<br />

هذه العوالم،‏ وأعتقد أن القضية هي صراعات<br />

على مراكز القوى على وجه التحديد،‏ فالسلطة<br />

تضمن السالم النسبي للشعوب،‏ على األرجح،‏<br />

ألن العنف ميكن أن يحدث يف مكان آخر،‏<br />

هذا ونحن نعلم ما يجب فعله باملوارد كالنفط<br />

والغاز،‏ يف القرن العشرين وما وصلنا إليه<br />

اآلن،‏ ما هو اال استمرار لتلك املعركة الطويلة.‏<br />

فاحلروب التي تشن بهذا التحديد هي <strong>حر</strong>وب<br />

على املوارد،‏ إذن هي ليست مفاجئة.‏<br />

تغريد هاشم:‏ ما الذي دفعك لصناعة العمل<br />

الفني املعنون ب)السالسل الزمنية(؟ وهل هناك<br />

مشتركات ربطت العمل man( A( Loving<br />

بالعمل املعنون ‏)‏Timelines‏(؟<br />

جنان العاني:‏ أعتقد أن هناك اختالفًا يف<br />

الفكرة،‏ إذ ليس من الواضح حقًا عندما تستمع<br />

إلى الصوت يف عمل man( A(، Loving<br />

حتديد السياق التاريخي الذي يتم التحدث<br />

عنه..‏ هل هو يف الستينيات ام العشرينات من<br />

القرن املاضي،‏ وهكذا.‏<br />

اختلف هذا متاماً‏ يف العمل املعنون ب)السالسل<br />

الزمنية(،‏ لكوني أصبحت مهتمة أكثر بكيفية<br />

إضفاء الطابع التاريخي على األعمال الفنية<br />

املتحفية،‏ وباألخص،‏ بعد أن دخلت أعمالي<br />

ضمن مقتنيات العديد من املتاحف،‏ لذلك<br />

بدأت يف البحث عن األعمال التي مت صنعها<br />

يف العراق منذ زمن بعيد،‏ إذ ميكنني العثور<br />

على مجموعة كاملة من األنواع املختلفة من<br />

األعمال املوزعة على املتاحف الغربية الكبيرة<br />

سواء كانت يف أوروبا أو يف أمريكا.‏ وأنا اآلن<br />

أبحث بعناية شديدة يف كيفية سرد القصص<br />

التي تدور حول تلك األعمال،‏ وبالطريقة التي<br />

يجري فيها متثيل الصراع وكتابة تاريخه.‏<br />

يف التاريخ البريطاني الذي يدرّس يف املدارس،‏<br />

وجدت أن هناك الكثير من املغالطات.‏ هناك<br />

نوع من فقدان الذاكرة املتعمد،‏ بالطبع هذا<br />

مناسب للبريطانيني.‏ مناسب أن ال يأتي ذكر<br />

الطيارين يف ماضيهم اإلمبراطوري،‏ والناس ال<br />

تريد النظر إليه بعد اآلن ألنه أمر مخز.‏ وعلى<br />

كل حال،‏ لم يكن معروفاً‏ استخدام الطائرات<br />

يف سحق <strong>حر</strong>كات التمرد ضد االحتالل<br />

60


مساعي البحث عن احلقيقة املغيبة<br />

الذاتية،‏ وذلك لتحييد سطوة شخصية الفنان<br />

عند قراءة نتاجاته الفنية،‏ لكن يف عملك<br />

املعنون man( A( loving واعمال اخرى<br />

اجد انك تطرحني فكرة االب الغائب.‏<br />

جنان العاني:‏ نعم،‏ يبدو العمل كذلك،‏ إال<br />

أنه يف احلقيقة استدعاء للذاكرة،‏ استدعاء<br />

رواية شخصية،‏ عن عالقة حميمة أو أحداث<br />

تاريخية،‏ واألمر سيان،‏ إذ كان السؤال املطروح<br />

هو:‏ كيف تسجل الذاكرة األحداث؟ وهي،‏ أي<br />

الذاكرة،‏ األداة غير املوثوق بها سواء كانت على<br />

صعيد شخصي أو عام،‏ وما مدى تأثيرها على<br />

صياغة تاريخ العالقات اإلنسانية والصراعات<br />

السياسية؟<br />

لقد جمعت بني جتاربي التي عشتها عن بعد،‏<br />

إبان احلرب العراقية اإليرانية و<strong>حر</strong>ب اخلليج،‏<br />

ألني كنت قد غادرت العراق قبل احلرب<br />

العراقية اإليرانية بشهرين،‏ وبالطبع لم أكن<br />

موجودة أثناء <strong>حر</strong>ب اخلليج ٩١، لكني كنت<br />

أراقب األحداث عن طريق اإلعالم الغربي،‏<br />

وأراقب صناعة التاريخ الذي اعتمد بشكل<br />

كبير على راوي أحداثه،‏ أحداث كارثية مفجعة<br />

كالتي حدثت يف احلربني العاملية األولى<br />

والثانية،‏ تلك احلرب التي تركت آثارها على<br />

الناس.‏<br />

يف هذا العمل،‏ يروي الشخوص،‏ الشهود،‏ من<br />

خالل لعبة الذاكرة،‏ األحداث من وجهات نظر<br />

ذاتية،‏ وبشكل مختلف متاماً‏ الواحد عن اآلخر.‏<br />

بتفعيل عامل الزمن،‏ تسرد األحداث مراراً‏<br />

وتكراراً،‏ تتغير األحداث وتضيع احلقيقة.‏<br />

فحني يبدأ أحد املشتركني برواية حدث ما،‏<br />

يضيف اآلخر على هذا احلدث حكايته ومن<br />

ثم اآلخر،‏ وهكذا دواليك،‏ تكبر ثم تكبر وتتغير<br />

رويداً‏ رويداً،‏ وكلما زاد عدد التفاصيل فقدت<br />

احلقيقة.‏<br />

لقد عمدت أن أجعلها تدور حول عالقة<br />

شخصية حميمة للغاية من خالل نص سردي<br />

تاريخي كبير،‏ لكي تقترب أكثر من املتلقي.‏ لم<br />

أتخيل أبداً‏ أن هناك من هو مهتم لسماع قصة<br />

عائلة،‏ وإمنا كان األمر أكثر موضوعية.‏ كان<br />

لهذا تأثير أفضل بكثير مما لو كانت قصة عن<br />

احلرب العراقية اإليرانية أو <strong>حر</strong>ب اخلليج 91،<br />

من املنظور العراقي،‏ الذي ال أحد يف الغرب<br />

مهتم لسماعه،‏ أو تناول تأثيرات احلروب<br />

وعواقبها على حياة األشخاص العاديني.‏<br />

قد ينسى األشخاص حكاياتهم وإذا أخطأوا<br />

يروونها بشكل مضحك تارة ومأساوي تارة<br />

أخرى.‏ لذلك فما يروى يت<strong>حر</strong>ك عبر كل هذه<br />

املشاعر املتنوعة،‏ ومرة أخرى،‏ هي محاولة<br />

جذب تفاعل اجلمهور.‏ فالعمل الفني مدته 15<br />

دقيقة،‏ وهو وقت طويل جدًا ملتابعة شخص ما<br />

ألحد األعمال الفنية يف محيط املعرض،‏ وأنا<br />

مدركة لهذا متاماً،‏ لذلك أ<strong>حر</strong>ص على إبقاء<br />

عامل التشويق واملتعة طوال فترة العرض،‏ من<br />

دون أن يتسلل الشعور بامللل أو التعب يف روح<br />

املتلقي.‏<br />

إذن فاألمر ال يتعلق حقًا بخلفية عائلتي أو<br />

استلهام التجربة الشخصية،‏ وإمنا التأكيد على<br />

بنية السرد القصصي الشخصي والتاريخي،‏<br />

والتشكيك يف مصداقيته،‏ لذا فإن قصتك عن<br />

<strong>حر</strong>ب العراق ستكون مختلفة عن قصتي عنها<br />

أو قصة والدي،‏ وهكذا.‏ خصوصا ونحن جميعًا<br />

نؤمن بأن هناك قصة حقيقة واحدة،‏ إال أن<br />

احلقيقة هي وجود وجهات نظر شخصية ال<br />

أكثر.‏<br />

تغريد هاشم:‏ حتدثت يف مقابالت سابقة عن<br />

تأثير اإلعالم الغربي يف احلرب على العراق<br />

والدور الذي لعبته اآللة اإلعالمية يف صناعة<br />

التاريخ وعرّجت كذلك على ادوارد سعيد..‏<br />

مدى تأثير هذا كله على أعمالك الفنية الحقاً.‏<br />

جنان العاني:‏ كما ذكرت سابقاً‏ عن آلية صناعة<br />

التاريخ،‏ من املؤسف أن وسائل اإلعالم الغربية<br />

تخضع لبعض االعتبارات،‏ فمثال،‏ متت دعوة<br />

إدوارد سعيد للتحدث عن احلرب على قناة<br />

ال بي بي سي البريطانية عند منتصف الليل،‏<br />

لذلك لم يسمعه اجلميع،‏ وكان قد حتدث<br />

بشكل حقيقي عن احلرب،‏ لكن لم يكن صوته<br />

مسموعاً.‏<br />

ومن املثير لالهتمام أن القوات األميركية يف<br />

<strong>حر</strong>ب اخلليج 91، هي من قادت ذلك الصراع،‏<br />

وهي من قادت الدعاية لعرض صورة تلك<br />

59


حوار مع جنان العاني<br />

جنان العاني،‏ فيديو رجل حنون.‏<br />

دخلت التقنيات احلديثة يف الفن العراقي منذ<br />

تسعينيات القرن املاضي،‏ وظلت محصورة<br />

بني عدد ضئيل من الفنانني،‏ يكاد يكون بعدد<br />

أصابع اليد.‏ ثم ملعت أسماء عراقية مثل جنان<br />

العاني وعادل عابدين،‏ ووفاء بالل،‏ وحليم<br />

الكرمي،‏ وصادق كويش،‏ ومحمد الشمري،‏<br />

وقحطان األمني،‏ وجتارب أخرى محدودة<br />

لفنانني مثل محمود العبيدي،‏ وعمار داود،‏<br />

وغسان غائب،‏ وندمي كويف،‏ وكرمي رسن،‏ و<br />

دلير شاكر،‏ ونزار يحيى وفاضل العكريف<br />

وغيرهم.‏ توزعت نتاجات هؤالء ما بني<br />

التصوير الفوتوغرايف،‏ الفوتو مونتاج،‏ والفن<br />

التركيبي وفن الفيديو.‏ وقد سعوا من خالل<br />

تلك الوسائط إلى إبراز مواهبهم ومهاراتهم من<br />

خالل التنوع يف الفكرة واملضمون على الرغم<br />

من سيادة اخلطاب السياسي والتاريخي.‏<br />

إزاء ذلك أرى أن أعمال الفنانة العراقية/‏<br />

األيرلندية،‏ جنان العاني،‏ اتخذت من شكوك<br />

ديكارت وحفريات فوكو منهجاً‏ خلطابها،‏<br />

متناولة املرأة والسياسة والتاريخ يف أنساق<br />

دراماتيكية مؤثرة.‏<br />

تشكل أعمالها الفنية سلسلة من احلوارات<br />

السردية التي صبغت مشاهد أحداثها<br />

وتفاصيلها الدقيقة األلوان البنية الداكنة<br />

اجلميلة.‏ وعبر الزمكان،‏ حلقت بنا فوق<br />

العصور الغابرة،‏ وقطعت مساحاتها الشاسعة<br />

بحثاً‏ عن صوت الغائب.‏<br />

فيما يأتي حوار معها يتناول أعمالها ورؤاها:‏<br />

تغريد هاشم:‏ اعتدت أن أجتنب تقدمي السيرة<br />

58


ولقد عزّزتْ‏ ، بل فتحت التجارب السابقة،‏<br />

الطريق إلى آفاق جديدة متخَّ‏ ضتْ‏ عن مشروع<br />

أطلق عليه Café( )Electronic من قِ‏ بَلِ‏ ‏)كالوي(‏<br />

و)رابينوفيتز(،‏ حيث اعتمد ‏»املقهى اإللكتروني«‏<br />

يف بداياته على شبكات االتصاالت السلكية<br />

والالَّ‏ سلكية التي ربطت ست مجتمعات<br />

متميّزة يف لوس أجنلوس ليتسنَّى لها التواصل<br />

االجتماعي عن بُعْد عن طريق:‏ تبادل الصور،‏<br />

واملعلومات،‏ واملوسيقى،‏ وكتب الشعر،‏ كما هي<br />

منصَّ‏ ات التواصل االجتماعي اليوم.‏<br />

كما استمرت منهجية التواصل والتفاعل<br />

مبساعدة ‏)ناسا(‏ حتى باتت تشكّل املفصل<br />

الرئيس يف النتاجات الفنية يف التسعينيات<br />

من القرن املاضي وما بعدها،‏ وتوالت األعمال<br />

البصرية واألدبية واملسرحية التعاونية،‏<br />

باإلضافة إلى األلعاب،‏ تلك التي أسهمت يف<br />

دراسة العالقات التي تربط األفكار بالصور<br />

املرئية.‏ ثم دخلت اإلمييالت بعد ذلك،‏ عام<br />

1979 لكن بشكل محدود،‏ إذ كانت تقتصر<br />

على األغراض العسكرية فقط،‏ ثم تطورت إلى<br />

النشاطات االجتماعية.‏<br />

ولعلّ‏ جتربة احللم عن بُعْد،‏ تلك التي تعدّ‏<br />

باكورة التجارب السابقة التي قلبت السلوكيات<br />

اإلنسانية رأسً‏ ا على عَقِ‏ ب،‏ وأجهزت على عاملنا<br />

الواقعي بالضربة القاضية،‏ ذلك الذي انهار<br />

سريعًا رافعًا الراية البيضاء أمام منافسه -<br />

شاذّ‏ السلوك،‏ ذلك الغريب املضطرب - ‏»العالم<br />

االفتراضي«.‏ إذْ‏ عرض الفنان البريطاني ‏)بول<br />

سيرمون(‏ ألول مرة يف عام 1992 يف متحف<br />

،)Kiasma( يف فنلندا،‏ عمالً‏ مشتركًا،‏ أو<br />

جتربة الختبار األبعاد الوجدانية لتقنيات<br />

املعلومات وتأثيرها على الفرد.‏ حيث نُفِّذَتِ‏<br />

التجربة يف موقعني،‏ وكانت تفصل بينه واآلخر<br />

مسافات شاسعة،‏ حيث يجلس الشخص األول<br />

على سرير مجهّز بشاشات للعرض،‏ ويتواصل<br />

هذا األول عن طريق الهاتف مع اآلخر يف<br />

املوقع الثاني.‏ بينما زُوِّدَ‏ سرير الثاني بكاميرا<br />

فيديو،‏ ليتم إرسال صور من املوقع الثاني<br />

إلى الشاشات التي نُصِ‏ بَتْ‏ حول السرير يف<br />

املوقع األول.‏ كان اختبار العالقات احلميمية<br />

اإلنسانية يف هذا العمل،‏ مؤثّرًا جِ‏ دًّا،‏ لكنه<br />

رمبا طرح حلوالً‏ جديدة للعالقات اإلنسانية،‏<br />

باألخصّ‏ بعد حتديد ‏»اإليدز«‏ كَوَباء عاملي،‏ كما<br />

قيل عنه آنذاك.‏<br />

ويف العقدين املاضيني،‏ شارك الفنانون يف<br />

خلق أمناط من احلياة االصطناعية التي<br />

أسهمت يف تشكيل أنظمة معقّدة،‏ ففي<br />

عام 1995- على سبيل املثال - أطلقت<br />

الفنانة البريطانية ‏)جانيت بروفيت(،‏<br />

جتربة عبر اإلنترنت،‏ يف مشروع أطلق عليه<br />

.»TechnoSpher« حيث يقوم الزائر ببناء<br />

مخلوق اصطناعي من سلسلة من األشكال<br />

األولية ثالثية األبعاد قبل أن يطلق هذا املخلوق<br />

يف العالم االفتراضي.‏ وعلى عكس بيئات<br />

احلياة السابقة استكشف »TechnoSphere«<br />

بشكل مباشر إمكانية تشكيل احلياة<br />

االجتماعية عن طريق حتفيز االستجابات<br />

العاطفية من قِ‏ بَلِ‏ املستخدمني.‏ إذ يقوم النظام<br />

اإللكتروني بانتظام بإرسال بريد إلكتروني إلى<br />

املستخدم إلبالغه بأنشطة املخلوق،‏ مبا يف<br />

ذلك األكل والتزاوج - يف العالم االفتراضي<br />

- بحيث ميكن للمالك متابعة املخلوق منذ<br />

الوالدة حتى املوت.‏ موقع »TechnoSphere«<br />

ذائع الصيت،‏ يستقبل ما بني 70000 و 80000<br />

زيارة يف اليوم.‏<br />

إذن..‏ نستنتج من خالل ما ذُكِ‏ رَ‏ أعاله،‏<br />

ومن خالل الكثير من األمثلة التي ال يتسنّى<br />

لنا ذكرها يف هذا املقال املتواضع املعد من<br />

مزيج من مصادر متنوعة يف تاريخ الفن،‏ أن<br />

تطور هذه الوسائط وخطاباتها جاء من عمق<br />

السياقات السياسية الثقافية،‏ التي تعدّ‏ جزءًا<br />

ال يتجزّأ من جتارب مماثلة.‏ ولم تأتِ‏ أيضً‏ ا<br />

لتعطيل وإلغاء ثقافة بعينها،‏ بل إلعادة تشكيل<br />

وسائل أخرى.‏ لكنها - بال شك - جاءت من<br />

أجلنا؛ إلعادة صياغتنا من جديد،‏ وإلعادة<br />

تنظيم إدراك طبيعتنا البشرية،‏ بالتواصل عن<br />

بُعْد،‏ والتفاعل عن بُعْد،‏ واحللم عن بُعْد،‏ وكلّ‏<br />

شيءٍ‏ ملحق ب ‏)عن بُعْد(‏ حتى كدنا أالّ‏ نعرفَ‏<br />

أنفسنا!‏<br />

57


هذا وقد طوّر الفنان األمريكي ‏)تشارلز<br />

فرايزر(‏ املنحوتات الطائرة.‏ وهي عبارة عن<br />

منحوتات تقاد بالراديو،‏ ولها القدرة على<br />

الطيران ملسافة ميل واحد.‏ وهي فكرة مطوّرة<br />

عن فكرة ‏)ميداال(،‏ التي كانت عبارة عن سِ‏ رْب<br />

من الطيور اآللية املستقلة.‏ تلك التي نالت<br />

إعجاب الباحثني يف الشأن العسكري.‏<br />

وبالرغم من األعمال العديدة،‏ وانتعاشها يف<br />

أوروبا على إثر التقنيات املتطوّرة التي أسهمت<br />

يف تعزيز الفن احلركي والفن السيبراني؛ إالّ‏<br />

أنه ظلّ‏ مهمَّشً‏ ا يف الواليات املتحدة األمريكية،‏<br />

بالرغم من تلك اجلهود التي بذلها املهندس<br />

السويسري ‏)بيلي كلوفر(‏ لتعزيز التعاون بني<br />

العلوم والفنون،‏ تلك التي كُلّلتْ‏ بالنجاح لفترة<br />

وجيزة.‏<br />

هذا وقد عرض ‏)كلوفر(‏ وهو أحد الباحثني<br />

يف ‏»مختبر بيل الفيزيائي«،‏ واملختص يف أشعة<br />

الليزر حتت احلمراء،‏ خبرته،‏ على فناني<br />

نيويورك الالّ‏ معني مثل ( أندي وارهول(،‏ ‏)جان<br />

تينغلي(،‏ ‏)ميرس كننغهام(،‏ و)روبرت روشنبرغ(،‏<br />

وفنانني آخرين.‏ ونظم فيما بعد باالشتراك<br />

مع ‏)روشنبرغ(‏ ما أطلق عليه ‏)تسع أمسيات:‏<br />

املسرح والهندسة(‏ عام 1966، احلدث الذي<br />

كان له األثر األكبر يف تأسيس املنظمة ،EAT<br />

للتجارب يف الفن والتكنولوجيا عام 1967.<br />

وقد كان جناح ‏»بيبسي كوال«‏ يف ‏»إكسبو 70«<br />

يف ‏»أوساكا-‏ اليابان«‏ من أهم املشاريع التي<br />

قدّمتها منظمة .EAT<br />

ولكن،‏ سرعان ما فقد الفن السيبراني<br />

س<strong>حر</strong>ه؛ وذلك بسبب ارتباطه بالفن العسكري<br />

والتجاري،‏ وباألخص يف ‏»<strong>حر</strong>ب فيتنام«،‏ بينما<br />

تفوّق عليه الفن املفاهيمي،‏ حيث إن الكثير من<br />

الفنانني قد غادروا منصّ‏ اته بحثًا يف الوسائط<br />

اجلديدة مثل:‏ التليفزيون والفيديو واحلاسوب.‏<br />

وعلى الرغم من البحوث والتجارب التي<br />

قدَّمها فنانون مثل:‏ ‏)روي أسكوت(‏ منذ<br />

السبعينيات،‏ تلك التي مت فيها ربط أجهزة<br />

احلاسوب وأجهزة االتصاالت،‏ إالّ‏ أن أجهزة<br />

الكومبيوتر ‏-احملدودة التقنيات آنذاك-‏ لم<br />

تسمح بأكثر ممَّا توصّ‏ لوا إليه.‏ ولكن بعد تطوير<br />

وخصخصة احلاسوب الشخصي التي حدثت<br />

يف منتصف الثمانينيات.‏ بدأ فنانو السبعينيات<br />

يف استخدام شبكات مختلفة لتأسيس التواصل<br />

بني املشاركني عن بُعْد.‏<br />

ومن أهم املشاريع الثالثة التي برزت يف تنظيم<br />

‏)إدراك الطبيعة البشرية(،‏ تلك التي أطلق<br />

عليها Place( ،)Video يف عام 1975. وهي<br />

دراسة يف ‏)البيئات االستجابية(،‏ أو البيئات<br />

املطواعة.‏ والعمل عبارة عن <strong>فضاء</strong> صُ‏ مِّمَ‏<br />

من قِ‏ بَلِ‏ عالم الكومبيوتر األمريكي ‏)مايرون<br />

كروجر(،‏ حيث يتكوَّن من موقعني مختلفني،‏<br />

يدخل املشارك يف كلٍّ‏ منهما ليجد نفسه يف<br />

غرفة مظلمة،‏ تتوسطها شاشة تضمّ‏ صورته،‏<br />

ويتمّ‏ إسقاط صورة املشترك اآلخر الذي<br />

يتواجد يف املوقع اآلخر لتبدأ عملية التفاعل<br />

عن طريق احلركة التي يؤدّيها كلٌّ‏ منهما على<br />

الشاشة.‏<br />

أما املشروع الثاني،‏ فكان ‏)فنون األقمار<br />

الصناعية:‏ ،) A Space With No Boundaries<br />

ذلك الذي نُفِّذَ‏ بدعمٍ‏ من وكالة ‏)ناسا(‏ يف عام<br />

1977. وهو عمل مشترك بني،‏ ،Kit Galloway<br />

و،‏ .Rabinowitz Sherie والعمل كان عبارة<br />

عن مشروع تعاوني دمجت فيه عروض أربعة<br />

من الراقصني على صور القمر الصناعي،‏<br />

زوج منهم يف مدينة ‏»ماريالند«،‏ والثاني يف<br />

‏»كاليفورنيا«.‏<br />

وأما املشروع الثالث،‏ فكانت تكاليفه باهظة<br />

الثمن،‏ Space( A(، Hole in إذ ربط موقعان<br />

عبر األقمار الصناعية،‏ األول يف نيويورك،‏<br />

واآلخر يف لوس أجنلوس،‏ ثم يجري تصوير<br />

الناس يف الشوارع،‏ واملدينة من األعلى.‏<br />

56


ويف عام 1968، اشترك كلٌّ‏ من ‏)باسك(،‏<br />

و)أسكوت(‏ يف عدة مشاريع فنية ضخمة؛<br />

ونظرًا ألهمية تلك األعمال الفنية ذات<br />

التقنيات املتطوّرة،‏ فقد أقيمت لها املعارض يف<br />

كلٍّ‏ من ‏»معهد الفن املعاصر«‏ يف لندن،‏ والعديد<br />

من املراكز املرموقة يف املدن األخرى.‏ ومن أهم<br />

األعمال التي قدّمها ‏)باسك(‏ كان ذلك الذي<br />

حمل عنوان Mobiles( ،)Colloquy of ذلك<br />

املعرض الذي فاجأ اجلمهور مبجموعتني من<br />

الهواتف اجلوّالة املتدلّية من السقف..‏ األولى<br />

إناث،‏ واألخرى ذكور،‏ وتتفاعل مع بعضها<br />

بعضً‏ ا من خالل إصدار أصوات وأضواء<br />

وامضة - جماعية أو فردية - ليأتي دور الزائر<br />

الت<strong>حر</strong>يضي،‏ من خالل أضواء املصباح اليدوي<br />

الذي يحمله،‏ فيتم جذب انتباه الهواتف.‏<br />

هذا وقد أسهم الفنان البولندي البريطاني<br />

‏)إدوارد إيناتوفيتش(،‏ ذلك الرائد يف الفن<br />

الروبوتي يف املعرض آنف الذكر،‏ بعملٍ‏ أطلق<br />

عليه اسم « ،»SAM أو Activated( Sound<br />

.)Mobile ويتكوّن ‏»سام«،‏ وهو نحتٌ‏<br />

كهروهيدروليكيّ‏ تفاعليّ‏ : من زهرة وأربع<br />

بتالت مصنوعة من األلياف الزجاجية ‏)الفايبر<br />

كالس(‏ مثبتة على هيكل من األلومنيوم<br />

قريب الشبه بالعمود الفقري.‏ وللتفاعل مع<br />

األصوات التي يصدرها زوَّار املعرض،‏ مت<br />

تركيب امليكروفون على كلِّ‏ بتلة من املكابس<br />

الهيدروليكية املنشطة،‏ تلك التي تؤدي بدورها<br />

إلى حتريك العمود.‏<br />

ويف عام 1969 كلفت ‏»شركة فيليبس«‏ الفنان<br />

‏)إيناتوفيتش(‏ ببناء حاسوب يتحكم بروبوت<br />

أطلق عليه اسم ‏»سنستر«،‏ ليتمّ‏ عرضه يف<br />

‏»إيندهوفن«‏ يف ‏»هولندا«‏ يف األعوام من 1971<br />

إلى 1974. ويتكوَّن ال ‏»سنستر«‏ من ستّة<br />

أنظمة هيدروليكية على هيئة مخالب جراد<br />

الب<strong>حر</strong>.‏ حيث رُكِّبَ‏ على الرأس أربعة من<br />

امليكروفونات املصطفّة جنبًا إلى جنب على<br />

مسافة من جهاز الرادار الذي بدوره يساعد<br />

الروبوت بتحديد مصدر الصوت واحلركة،‏<br />

واالستجابة للمحفّزات.‏ حيث يستجيب ال<br />

‏»سنستر«‏ لألصوات العالية،‏ واإلمياءات العنيفة<br />

التي يطلقها الزوَّار،‏ بالنفور واالبتعاد عنهم،‏ وال<br />

يقترب مرة أخرى إالّ‏ إذا متت مخاطبته بصوت<br />

ناعم،‏ و<strong>حر</strong>كات لطيفة.‏ هذا ويتم برمجة ال<br />

‏»سنستر«‏ لتعلُّم سلوكيات جديدة وفقًا لنظرية<br />

‏»فينر«‏ اإللكترونية.‏<br />

وقد أكّد الفنان والناقد األميركي ‏)جاك<br />

برنهام(‏ يف كتابه ‏»ما وراء النحت احلديث«،‏<br />

مدى تأثير علم التحكم االَلي،‏ ونظرية النظم<br />

على املمارسات الفنية املعاصرة،‏ واعتبر أن<br />

الفن السيبراني هو املرحلة التالية،‏ بل ورمبا<br />

النهائية من فن النحت.‏ ولقد رفض <strong>حر</strong>فية<br />

الفنان،‏ وعزّز فكرة التعبير عن العالقات التي<br />

تربط األجزاء املكوّنة للعمل،‏ والتفاعل مع<br />

بيئاته.‏ ممّا أدّى إلى دخول عناصر جديدة<br />

من الطبيعة مثل الهواء واملاء يف أعمال<br />

الفنان األملاني ‏)هانس هاكة(‏ والفنان الفلبيني<br />

‏)ديفيد ميداال(،‏ وهكذا استمرت األبحاث يف<br />

األنظمة املستقلة،‏ واالستجابات البيئية،‏ وعدم<br />

االستقرار يف األشياء املادية.‏<br />

وتعدّ‏ سلسلة األعمال للفنان ‏)ميداال(،‏ تلك<br />

التي أطلق عليها Canyons( ،)Cloud أيقونة<br />

األعمال النحتية يف الفن احلركي يف منتصف<br />

القرن املنصرم.‏ وتتكون بشكل رئيسي من<br />

مجموعة من صناديق اخلشب املليئة بخليط<br />

من الصابون واملاء.‏ إذ تقوم مضخَّ‏ ات الهواء<br />

على حتويل هذا اخلليط تدريجيًّا إلى رغوة،‏ ما<br />

يؤدّي بدوره إلى تغيير شكل الصندوق كنتيجة<br />

حتمية جلاذبية الهواء والضغط اجلوي.‏ وهكذا<br />

يتخذ النحت شكالً‏ متفاعالً‏ مع محيطه؛ بسبب<br />

عدم استقرار املادة.‏<br />

من اعمال الفنان ميداال<br />

متحف كباساما<br />

محتف كباساما<br />

55


عمل فني مبني على أسس النظام السيبراني<br />

املخصص للمسرح،‏ وفيه يجري إسقاط<br />

مجموعة من الصور املرئية جنبًا إلى جنب<br />

العرض املوسيقي.‏ ولم يكتفِ‏ ‏)باسك(‏ بغزارة<br />

إنتاج أعماله الفنية وحسب،‏ وإمنا عزم على<br />

إصدار كتاب عام 1962 أطلق عليه ‏»منهج<br />

السيبرانية « أو ‏»علم التحكم اآللي«.‏<br />

كما أثار هذا النوع من األعمال أيضً‏ ا<br />

الفنان البريطاني ( روي أسكوت(‏ ذلك الذي<br />

ذاع صيته يف األوساط الفنية العاملية إثر<br />

كتاباته األولى التي أظهرت اهتمامًا باألنظمة<br />

واالستجابات.‏ وما بني األعوام 1963 1970،<br />

نشر ‏)أسكوت(‏ مقاالت مؤثرة على تطبيقات<br />

علم التحكم اآللي يف الفن،‏ ذلك الذي يتميز<br />

بالغموض وعدم االستقرار،‏ فضالً‏ عن<br />

اعتماده الكلي على التفاعل بني كلٍّ‏ من الفنان<br />

واجلمهور.‏<br />

ولقد صاغ ‏)أسكوت(‏ مصطلحً‏ ا فنيًّا جديدًا<br />

أطلق عليه ‏»الفن السلوكي«،‏ بعد إدراكه أن<br />

الفن لم يعدْ‏ بصريًّا - على حَ‏ دّ‏ قوله - وإمنا<br />

يعتمد على التجربة احلسّ‏ يّة الفردية كالسمع<br />

واللمس،‏ وألهمية ما توصّ‏ ل إليه من نتائج<br />

مذهلة،‏ مت حتويلها إلى منهج تعليمي يف<br />

بريطانيا بعدئذٍ‏ .<br />

54


الضوء واللون التي تظهر على سطح تفاصيل<br />

عمله الفني الذي يدور حول نفسه بشكل<br />

عشوائي،‏ ثم أنتج بعد ذلك سلسلة من األعمال<br />

النحتية التي حملت الطابع نفسه ليتمكّن من<br />

التربّع على عرش الريادة يف الفن السيبراني.‏<br />

وتعود هذه االبتكارات إلى اخلمسينيات من<br />

القرن املاضي،‏ عندما كان ‏)نيكوالس شوفر(،‏<br />

فنانًا ومنظِّ‏ رًا متعدّد التخصصات،‏ وممارسً‏ ا<br />

رئيسيًّا للفن احلركي،‏ حيث يعدّ‏ من أوائل<br />

املبشِّ‏ رين بظهور الفن اإللكتروني والرقمي.‏<br />

وال ننسى كالًّ‏ من الباحث واملخترع ‏)جوردون<br />

باسك(،‏ والفنان ‏)روي أسكوت(،‏ فهما من<br />

أبرز الشخصيات التي عملت على تطوير<br />

الفن السيبراني يف بريطانيا.‏ ويذكر أن<br />

‏)باسك(،‏ الذي كان معروفًا يف األوساط الفنية<br />

اللندنية عام 1953 قد أنتج بالتعاون مع عالم<br />

الرياضيات ‏)روبن ماكينون وود(‏ مشروعًا أطلق<br />

عليه اسم Musicolour( (. وهو عبارة عن<br />

53


ومضمونه،‏ فبينما سعى الفريق األول إلثبات<br />

الشعور باالنفعاالت اجلمالية الناجتة عن<br />

العالقات الناشئة بني اخلطوط واأللوان،‏<br />

أكد الفريق اآلخر على أن ‏»األشكال من غير<br />

مضامني فارغة«.‏<br />

هذا ولم يُنْظر لألعمال الفنية من قِ‏ بَلِ‏<br />

الفالسفة واملفكرين على أنها كيانات ثابتة<br />

ومستقلة؛ وإمنا كمناهج يف حالة تطور<br />

وانتعاش دائم،‏ تبعًا لظروف معينة؛ ويرجع<br />

السبب يف ذلك لتلك املنظورات التي اعتمدت<br />

على فلسفة كلٍّ‏ من األمريكي ‏)مانويل ديالندا(،‏<br />

والفرنسي ‏)جيل دولوز(،‏ تلك الفلسفة التي<br />

نصت على أن للواقع الديناميكي جتليات<br />

مختلفةً‏ تعتمد باألساس على تلك املراحل<br />

االنتقالية التي تطرأ على املادة الطاقة،‏<br />

باأل<strong>حر</strong>ى الطرق املختلفة التي تعبر فيها املادة<br />

الطاقة عن نفسها،‏ فمثالً‏ : الصخور والرياح<br />

واجلراثيم والكلمات ما هي إالَّ‏ مظاهر مختلفة<br />

لهذا الواقع الديناميكي.‏ ثم يجادل املنظّ‏ ران<br />

‏)برايان ماسومي(،‏ و)إليزابيث جروسز(‏ من<br />

بني آخرين،‏ أن جلسم اإلنسان كيانني:‏ أحدهما<br />

مادِّيٌّ‏ ، واآلخر افتراضيٌّ‏ يف الوقت نفسه،‏ وأن<br />

العالقة بني املادّيّ‏ واالفتراضيّ‏ هي عالقة<br />

مماثلة لتلك التي جمعت بني املادة والطاقة.‏<br />

وعلى هذا األساس ال ميكن لكينونة العمل<br />

الفني أن تبقى يف حالة سكون،‏ ولم يكتفِ‏ كلٌّ‏<br />

من ‏)ديالندا(،‏ و)ماسومي(‏ بكسر املفاهيم<br />

التقليدية للممارسات الفنية من حيث أداء<br />

العمل الفني وحسب؛ وإمنا أكدا على ضرورة<br />

التخلِّي عن دور الفنان كذلك،‏ أي أن يكون<br />

الفنان مسؤوالً‏ عن البداية؛ لكنه ال يتحكم يف<br />

النهاية،‏ وهو ما ستعمل عليه أجهزة احلاسوب<br />

الحقًا.‏<br />

هذا،‏ ويزعم علماء أسس الثقافة الرقمية أن<br />

بدايات ‏»تقنيات احلاسوب«‏ تعود إلى القرن<br />

التاسع عشر،‏ أو حتى قبل ذلك حني اكتشف<br />

علماء الرياضيات مفاهيم الطاقة واإلنتروبيا<br />

التي عُرِ‏ فَتْ‏ ‏)بالطاقة السالبة(‏ يف بداية األمر<br />

قبل أن يطلق عليها الحقًا ب)املعلومات(.‏ تلك<br />

اخلطوة التي ربطت كالًّ‏ من:‏ العلوم الطبيعية،‏<br />

واإلنسانية،‏ واالجتماعية،‏ والفنون.‏<br />

لكن ملاذا يتوجّ‏ ب علينا النظر إلى اخللف..‏<br />

إلى التاريخ،‏ ونحن نتحدث عن العالم<br />

اجلديد..‏ عالم املستقبل املغامر اجلسور؟<br />

اجلواب هو:‏ رمبا ال يغيِّر العالم اجلديد من<br />

األسئلة اإلنسانية املُلِحّ‏ ة النابعة من عمق<br />

جوهر التجربة اإلنسانية،‏ إالّ‏ أنه يعدنا بنتائج<br />

جديدة،‏ وأساليب حتليلية جذريّة،‏ وطرائق<br />

نشر جديدة،‏ فبعد أن اعتمد الفنان يف السابق<br />

على مهاراته مستخدماً‏ الوسائط واألساليب<br />

التقليدية،‏ بات عليه استغالل املمكن واملتاح<br />

بعد الغزو التقني املتسارع،‏ حيث إن الوسائط<br />

النمطية لم تعد تلبّي الغرض يف فنٍّ‏ كالفنِّ‏<br />

املفاهيمي-‏ مثالً‏ - وبالطبع ليس هناك أفضل<br />

من تلك احللول،‏ واإلمكانيات الهائلة التي<br />

قدمتها التقنية اإللكترونية،‏ على األقل يف<br />

الوقت احلالي..‏ إذْ‏ ورث الفنانون النشطون يف<br />

أواخر اخلمسينيات والستينيات التكنولوجية،‏<br />

التقدم احملُ‏ ‏ْرَز خالل العقود السابقة،‏ هذا<br />

فضالً‏ عن مجموعة من التطورات اجلديدة<br />

للتخصصات التي متّ‏ إنشاؤها فيما بعد،‏ مبا<br />

يف ذلك:‏ نظرية املعلومات،‏ علم التحكم اآللي،‏<br />

الذكاء االصطناعي.‏ هذا وقد ساعدت املراحل<br />

التي مرَّتْ‏ بها الطباعة التي كانت تساعد<br />

كثيرًا يف نسخ األعمال الفنية،‏ وكانت قد بدأت<br />

بالنقش اخلشبي،‏ واحلفر،‏ والطباعة احلجرية،‏<br />

ثم الطباعة اجلرافيكية..‏ تلك التي أتاحت<br />

للفنان نسخ العمل الفني،‏ والغزارة يف اإلنتاج،‏<br />

هذا قبل أن يجتاح التصوير الفوتوغرايف سوق<br />

الفن،‏ ويكتسح خصومه.‏ وبينما يحتفظ العمل<br />

األصلي بسلطته الكاملة يف مواجهة النسخ<br />

املصنوع يدويًّا،‏ يُبْرِ‏ ز التصوير الفوتوغرايف<br />

الدقة املتناهية يف التفاصيل التي ال ميكن أن<br />

تُدْرَكَ‏ حتى بالعني املجرَّدة.‏<br />

هذا وقد أعيد النظر يف املمارسات الفنية<br />

بعد احلرب العاملية الثانية؛ وذلك بسبب تلك<br />

العالقات الطارئة التي نشأت ما بني الفن<br />

احلركي والفن املفاهيمي،‏ والفن اإللكتروني.‏<br />

ومن املثير لالهتمام هو العالقة احلميمة التي<br />

جمعت بني املهتمّني بالعلم والفن،‏ على سبيل<br />

املثال وليس احلصر:‏ علم اجلينات،‏ ودراسة<br />

اإلدراك احلسي،‏ والعالم االفتراضي الغامض،‏<br />

واملمنهج،‏ وغير املتوازن،‏ وكذلك العالقات التي<br />

جتمع بني الكائنات احلية،‏ وبيئاتها املتباينة.‏<br />

هذا باإلضافة إلى الهوس مبفهوم الزمن الذي<br />

هيمن على العقول العلمية والفنية بعد عام<br />

1960، وذلك لعدة أسباب منها:‏ تلك التأثيرات<br />

الفكرية والنفسية التي تركتها نظرية،‏ ‏)نوربرت<br />

وينير(‏ عن السيبرانية،‏ أو علم التحكم اآللي،‏<br />

وكذلك كتاب ‏»شكل الزمن«‏ الذي يعود ملؤرخ<br />

الفن ‏)جورج كويلر(‏ عام 1962 على حَ‏ دّ‏ قول<br />

الباحثة ‏)باميال لي(.‏<br />

وألسباب سياسية وعسكرية،‏ انتعشت احلاجة<br />

بعد ذلك إلى فكِّ‏ وتشفير االتصاالت،‏ والعمل<br />

على تطوير أجهزة الكومبيوتر احملمولة بشكل<br />

أكبر يف احلرب العاملية الثانية،‏ باإلضافة<br />

الى مواصلة ‏»وزارة الدفاع األمريكية«‏ متويل<br />

أبحاث الكومبيوتر بسخاء؛ من أجل احلفاظ<br />

على الزعامة التكنولوجية للواليات املتحدة<br />

األميركية خالل احلرب الباردة.‏<br />

هذا ويعدّ‏ عالم الرياضيات ‏)نوربرت فينر(‏<br />

أحد أهم مؤسسي علم التحكم اآللي وهو ‏)علم<br />

القيادة،‏ أو التحكم يف األحياء واآلالت،‏ ودراسة<br />

آليات التواصل يف كلٍّ‏ منهما(.‏<br />

ومن املعلوم أنه قد ظهر علم االتصال والتحكم<br />

بني الكائنات احلية،‏ واآلالت قبل ظهور الذكاء<br />

االصطناعي..‏ أي يف بداية األربعينيات من<br />

القرن املاضي؛ وكان الغرض منه محاكاة<br />

احلاسوب الذكي،‏ والوظائف الفكرية العليا<br />

مثل:‏ حلّ‏ املشكالت الرياضية واإلبداع من<br />

خالل التالعب املنطقي باألنظمة.‏ لقد<br />

اشتركت كلٌّ‏ من نظرية االتصاالت والتحكم<br />

اآللي،‏ والذكاء االصطناعي يف دراسة عمليات<br />

التنظيم والتطوير والتفاعل،‏ األمر الذي كان<br />

محطَّ‏ اهتمام العلماء والفالسفة املعاصرين.‏<br />

وممّا ال شكَّ‏ فيه أنّ‏ ظهور نظرية املعلومات،‏<br />

وعلم التحكم اآللي والذكاء االصطناعي،‏ قد<br />

ألقى بظالل تأثيراتها الكبيرة على املمارسات<br />

الفنية وباقي العلوم.‏<br />

ومن اجلدير بالذكرأن اهتمامات الفنانني<br />

البصريني بالنتاجات الفلسفية والفكرية<br />

والتكنولوجية،‏ كانت مبكرة جِ‏ دًّا،‏ حيث تعود<br />

إلى أوائل القرن العشرين،‏ األمر الذي أدَّى إلى<br />

ظهورها يف أعمال ‏)دوشامب(،‏ و)مان راي(،‏<br />

و)لني الي(،‏ و)توماس(،‏ و)ولفريد(،‏ كدراسات<br />

خلصائص الضوء،‏ وتأثير احلركة على الرؤية،‏<br />

وعدم استقرار اإلدراك احلسي.‏<br />

ويف أواخر األربعينيات طوَّر النحَّ‏ ات والرسَّ‏ ام<br />

املجري الفرنسي،‏ ‏)نيكوالس شوفير(‏ نظريته<br />

عن ديناميكية املكان يف عمل نحتي مت<strong>حر</strong>ك<br />

صاغ فيه املصطلحني ألول مرة،‏ ‏)الديناميكية<br />

الضوئية،‏ والديناميكية اللونية(؛ لوصف <strong>حر</strong>كة<br />

52


الشرقية لكي يفيقوا من بقايا افتتانهم<br />

الكسول باملاركسية والشيوعية،‏ وتوجيههم<br />

نحو رؤية أكثر توافقاً‏ مع األسلوب<br />

األمريكي.‏ ونتيجة لذلك تكونت شبكة<br />

محكمة من البشر الذين يعملون بالتوازي<br />

مع الوكالة للترويج لفكرة مؤداها أن العالم<br />

يف حاجة إلى سالم أميركي وإلى عصر<br />

تنوير جديد،‏ وأن ذلك سوف يسمى ب<br />

‏»القرن األميركي«.‏<br />

عن كتاب:‏ من الذي دفع للزمار؟<br />

احلرب الباردة الثقافية<br />

املخابرات املركزية األمريكية وعالم الفنون<br />

واآلداب<br />

.<br />

التفاعل يف العمل الفني املعاصر بصفته اداة خلطاب التغيير.‏<br />

51<br />

يُنظر إلى الفيديو على أنه وسيط أقلّ‏ شأناً‏<br />

من الفيلم من الناحية الفنية،‏ فهو غير مناسب<br />

للبثّ‏ ، ويصعب عرضه يف دور العرض،‏ ثم<br />

شهدت هذه الفترة املهمة تغيّرات ديناميكية<br />

اجتماعية واقتصادية وثقافية،‏ أدّت بدورها<br />

النتعاشة فنية كبيرة يف ‏»فن الفيديو«،‏ وقد<br />

أسهم خطابه العابر للحدود،‏ يف استلهامه<br />

بشكل كبير من احلركات واألفكار الفنية<br />

اجلديدة،‏ ومنها:‏ فن األداء،‏ وفن اجلسد،‏ والفن<br />

الفقير،‏ وفن البوب،‏ والنحت التقليلي،‏ والفن<br />

املفاهيمي،‏ واملوسيقى الطليعية،‏ واألفالم<br />

التجريبية،‏ والرقص واملسرح املعاصر.‏ أدى<br />

هذا إلى انتشاره كظاهرة عاملية ال تخلو من<br />

التأثيرات الثقافية املتنوعة كاألفكار واملواقف<br />

السياسية التي أدّت إلى إثراء املمارسات<br />

الفنية.‏<br />

لقد كانت عالقة فن الفيديو بالبثّ‏ التلفزيوني<br />

عالقة تنافسية متوترة؛ وذلك لعدة أسباب،‏<br />

منها:‏ التقنية املشتركة،‏ خاصةً‏ فيما يتعلق<br />

بكيفية تقدمي الصور،‏ وجتارب األصوات؛<br />

وكذلك بسبب الكثير من االحتجاجات التي<br />

كان يطلقها الفنانون ضد الصورة النمطية<br />

الثقافية التي يتمتع بها األخير.‏ وكانت معدات<br />

تسجيل الفيديو املتاحة عمومًا للفنان يف<br />

أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات مرهقة،‏<br />

ومكلفة،‏ وغير موثوق بها.‏ لكن لم يستمر<br />

هذا األمر طويالً‏ ، إذ أسهم التطور السريع<br />

يف تقنية التصوير اإللكتروني والرقمي،‏ يف<br />

حتويل كاميرا الفيديو من أداة باهظة الثمن،‏<br />

تخصّ‏ مقدمي البرامج التليفزيونية واملؤسسات<br />

الكبرى إلى منتج مستهلك شائع.‏ ولم تتمتع<br />

كاميرات الفيديو بجودة عالية حتى منتصف،‏<br />

أو أواخر الثمانينيات من القرن املاضي،‏ حني<br />

حتولت إلى جهاز خفيف الوزن يسهل حمله<br />

واستخدامه يف أي مكان،‏ هذا باإلضافة إلى<br />

قدرته على إنتاج صور عالية الدقة.‏ وكان<br />

لهذا التحول التقني الذي تغذيه متطلبات<br />

سوق املستهلك،‏ وتقنية احلاسوب،‏ تأثيرٌ‏ كبيرٌ‏<br />

على الثقافة البصرية بشكل عام،‏ وعلى البث<br />

التلفزيوني بشكل خاص.‏ وبدا تأثير ذلك بشكل<br />

ملحوظ على ما ينتجه الفنانون من أعمال<br />

فنية،‏ وتركيبية على الشاشة.‏ وال ننسى أن فن<br />

الفيديو - وهو أحد الوسائط الفنية املعتمدة<br />

كليًّا على التقنيات احلديثة - يسهم يف نهاية<br />

املطاف يف خلق معايير جمالية جديدة،‏ تلك<br />

اجلماليات التي ترتبط بشكل ال جدال فيه<br />

بالتغييرات السريعة يف التقنيات املستخدمة.‏<br />

ويشير الكاتب الهولندي ومنظم املعارض<br />

يف فن الفيديو Perry( )Rob إلى أن األعمال<br />

املبكرة لفن الفيديو كانت قد أكدت على الفكرة<br />

أكثر من اهتمامها بفن التصوير املرئي،‏ إالّ‏ أن<br />

هذا لم يستمر طويالً‏ وحتديداً‏ بعد اكتشاف<br />

الفرص واإلمكانيات التي متنحها العالقة بني<br />

الصوت والصورة.‏ بعد ذلك سعى الفنانون<br />

الستغالل الوسيلة اجلديدة إلجناز أفالم كانت<br />

األولى من نوعها.‏ ويف منتصف السبعينيات<br />

من القرن املاضي،‏ أنتجت الفنانة والرائدة يف<br />

فن الفيديو Lucier( )Mary عدداً‏ من األعمال<br />

التركيبية عن طريق توجيه كاميرا فيديو<br />

مباشرة إلى الشمس ومصادر الضوء القوية<br />

األخرى.‏ وقد استُخْ‏ دِ‏ مَ‏ الفيديو كأحد أساليب<br />

التقنيات احلديثة للسماح للعني البشرية<br />

بالتحديق مباشرة إلى الشمس دون خوف من<br />

حدوث ضرر دائم للبصر؛ وكذلك للتغلب على<br />

رغبة قدمية يف النظر إلى الشمس دون خوف<br />

من العمى.‏<br />

لقد وصف الفيلسوف ‏)إميانويل كانط(‏ اجلمال<br />

يف الفن،‏ لكن لم يعدَّه أحد السمات الضرورية،‏<br />

غير أن النظريات التي أعقبته قد شدّدت على<br />

مفهوم االستجابة اجلمالية،‏ بل أكد العديد من<br />

الفالسفة واملفكرون أن للفن وظيفة حتريضية<br />

نبيلة..‏ هي تلك التي أثارت ردود فعل إنسانية<br />

صادقة،‏ هذا باإلضافة إلى الدور املهمّ‏ الذي<br />

يلعبه املكوّن اجلمالي يف جذب اجلمهور<br />

لإلشادة بالفنانني الناشئني.‏<br />

وقد جادل آخرون كذلك يف داللة الشكل


القرن االمريكي وصناعة املستقبل<br />

‏»نحن نؤلف امبراطورية اليوم وعندما نتصرف<br />

نصنع واقعنا اخلاص.‏ وفيما حتللون هذا<br />

الواقع بتبصّ‏ ر،‏ سنتصرف من جديد لنخلق<br />

واقعًا اَخر ميكنكم حتليله أيضّ‏ ا،‏ وهكذا تسير<br />

األمور،‏ فنحن صُ‏ نّاع التاريخ ... وأنتم،‏ جميعاً،‏<br />

ستحللون أعمالنا ليس أكثر.«‏<br />

كبير مستشاري الرئيس السابق جورج دبليو<br />

بوش،‏ مجلة،‏ نيويورك تاميز،‏ 17 أكتوبر 2004<br />

لقد أدركت احلكومة األميركية،‏ مبكراً،‏<br />

أن الدول التي تتلقى مساعدات اقتصادية<br />

أميركية ال ميكن أن تتخلى تلقائياً‏ عن<br />

االشتراكية،‏ لذا سعت السياسة األميركية<br />

جاهدة إلى تقدمي النموذج األميركي<br />

الرأسمالي ثقافياً،‏ مبا يف ذلك األفكار<br />

والفنون واآلداب والعلوم،‏ وكل ما يتعلق<br />

بالكلمة املرئية واملسموعة.‏ بينما كانت<br />

احلرب الباردة يف أوجها،‏ كرّست حكومة<br />

الواليات املتحدة األمريكية موارد واسعة<br />

من أجل برنامج سري للدعاية الثقافية يف<br />

أوروبا الغربية.‏ إن أحد املالمح األساسية<br />

لهذا البرنامج هو احلرص الشديد على<br />

أن يبدو غير مرئي،‏ بينما من يديره هي<br />

ذراع التجسس السرية ألميركا،‏ أي وكالة<br />

املخابرات املركزية .CIA كانت ركيزة هذه<br />

احلملة السرية منظمة احلرية الثقافية،‏<br />

،Congress For Cultural Freedom<br />

التي أدارها رجل املخابرات األمريكية،‏<br />

مايكل جوسلسون،‏ يف الفترة ما بني 1950<br />

إلى 1967. يف قمة ازدهارها،‏ كان ملنظمة<br />

احلرية الثقافية مكاتب يف 35 دولة،‏<br />

ويعمل بها عشرات املوظفني،‏ وتصدر أكثر<br />

من 20 مجلة ذات نفوذ،‏ وتنظّ‏ م املعارض<br />

الفنية،‏ ومتتلك مؤسسات إعالمية،‏ وتعقد<br />

مؤمترات دولية حتضرها شخصيات بارزة،‏<br />

وتكافئ الفنانني واملوسيقيني باجلوائز،‏<br />

وترعى معارضهم وحفالتهم.‏ كانت مهمتها<br />

الرئيسية هي تنبيه املثقفني يف أوروبا<br />

ملف فنون<br />

املستقبل<br />

فنون املستقبل<br />

نصوص بقلم:‏<br />

تغريد هاشم<br />

لقد أسهمت األمناط األسلوبية،‏ والوسائط<br />

اجلديدة بشكل مباشر يف صناعة املستقبل<br />

األمريكي الذي نعيشه اليوم،‏ حتى إذا عدنا<br />

إللقاء النظر على ‏»عاداتنا اليومية«،‏ فإننا<br />

سنجد أنها رحلة من االكتشافات املتخمة<br />

باملعلومات التي لم يسبق لها مثيل يف التاريخ<br />

البشري.‏ تشير تلك املعلومات التي يطلق<br />

عليها Data« »Big أي ‏)البيانات الضخمة(‏<br />

إلى الكميات الهائلة من البيانات التي ننتجها<br />

يومياً،‏ تلك التي تؤثر بشكل متزايد على<br />

الوجود اإلنساني ونظرته للتاريخ؛ وألننا اعتدنا<br />

- ولفترات طويلة من الزمن - على منط معني<br />

من التفكير،‏ بات من الواجب علينا اليوم تعقّب<br />

التحدِّيات اجلديدة يف جميع املجاالت.‏<br />

ويعدّ‏ تاريخ الفن - بحكم تعريفه - حقالً‏<br />

يعتمد على ‏»البيانات الضخمة«،‏ وطرق<br />

التجريب التقليدية،‏ باإلضافة إلى التأويالت<br />

التي احتاجت من العلماء كميات هائلة من<br />

املعارف املتراكمة حول الفنون البصرية.‏ فقد<br />

ظهرت - على سبيل املثال - يف منتصف القرن<br />

العشرين - يف أوروبا والواليات املتحدة -<br />

واسطة فنية محيّرة ومعقّدة،‏ أطلق عليها عِ‏ دة<br />

تسميات منها:‏ فن الفيديو،‏ فيديو الفنانني،‏<br />

الفيديو التجريبي،‏ تلفزيون الفنانني،‏ التلفزيون<br />

اجلديد..‏ ال بل أطلق عليها أيضاً:‏ ‏»تلفزيون<br />

<strong>حر</strong>ب العصابات«،‏ ففي بدايته األولى كان<br />

50


وتداعياته.‏<br />

وفاء:‏ بالضبط،‏ وهذا الشيء يؤدي إلى وجود<br />

جتدّد يف الطرح،‏ وترى العديد من الفنانني<br />

يتبنى هذا النهج،‏ ألن التفاعل يؤدي إلى نتائج<br />

مختلفة،‏ وعلى هذا سيكون لكل مشارك سيرته<br />

اخلاصة الناجتة عن تفاعله مع احلدث.‏<br />

عمار:‏ هذا يرجعنا إلى ما نادى به اآلن كابرو<br />

حني قال:‏ ‏»الفن يكون أكثر عمقاً‏ وفعالية كلما<br />

ألغى احلدود بينه وبني الواقع«.‏<br />

وفاء:‏ هذا صحيح،‏ ألن كابرو حني بدأ،‏ كانت<br />

إحدى األفكار التي تبناها هي إلغاء البنية أو<br />

البناء )Structure( وحتى تغيير العالقة بني<br />

الفنان والفن واملشاهد،‏ حيث كانت العالقة بني<br />

هذه األطراف الثالثة يف السابق جتعل الفنان<br />

كمثلث بأكمله.‏ مع كابرو أصبح للمشاهد والفن<br />

موقعيهما يف الزاويتني الثانيتني من املثلث.‏ لكن<br />

إذا افترضنا أن الفنان ألغى البنية أو البناء،‏<br />

ماذا سيحدث إذن؟ سيكون الفنان بهذه احلال<br />

مشاركاً‏ يف العمل وليس صانعه األوحد.‏ إنه<br />

كما أنت قلت:‏ ‏»الطرف الذي أوقد الفتيلة<br />

49


مع األسف الفرصة لكي التحق مبدرسة فن،‏<br />

درست بدل ذلك اجلغرافيا.‏ حني وصل عمري<br />

إلى 18 سنة،‏ أتيت إلى بغداد،‏ بدأت أدرس<br />

اجلغرافيا بالرغم من حبي للفن بشكل كبير.‏<br />

كنت مع ذلك أزور كلية الفنون اجلميلة،‏ وكان<br />

لي فيها أصدقاء،‏ وكنت أزور مشغل األستاذ<br />

فائق حسن وإسماعيل الترك.‏ بدأت أرسم<br />

يف بغداد،‏ وحني حدثت لي مشاكل سياسية<br />

بسبب األعمال التي كنت أقدمها،‏ خرجت<br />

من العراق وأقمت بالسعودية يف ‏)رفحاء(.‏<br />

بعد ذلك انتقلت إلى أميركا،‏ ألبدأ يف تقييم<br />

حياتي والتفكير باخلطوة اجلديدة التي كان<br />

عليّ‏ أن أخطوها.‏ قررت دراسة الفن،‏ وجاءتني<br />

فرصة جميلة جداً،‏ فقد درست البكالوريوس<br />

يف الفن،‏ يف جامعة نيو مكسيكو عام 1992،<br />

وبعدها درست يف شيكاغو،‏ حيث حصلت<br />

على درجة املاجستير يف الفنون من معهد<br />

الفنون يف شيكاغو.‏ كان هذا ما بني 2001<br />

و 2003، وأصبحت بعدها أستاذاً‏ مساعداً‏<br />

يف العام التالي.‏ يف هذه الفترة،‏ أوليت للفن<br />

والتكنولوجيا اهتماماً‏ كبيراً،‏ بعد أن كنت قد<br />

درست الرسم والنحت وفن التنصيب.‏ وبعد<br />

مرور السنوات األربع من دراستي،‏ قررت أن<br />

أصب اهتمامي بالفن والتكنولوجيا،‏ وكانت<br />

هناك طبعاً‏ تقنيات الفوتوشوب ووسائط مثل<br />

االنترنت فتولعت بهما.‏ ويف العام 2001، حدثت<br />

كارثة 11 سبتمبر التي أحدثت تغييرات كبيرة<br />

يف العالم،‏ وعلى الصعيد الشخصي،‏ فقد نكبت<br />

مبقتل أخي حقي يف الكوفة من قبل األميركان<br />

بواسطة طائرة الدرون.‏ هذا احلدث غير يف<br />

نفسي أشياء كثيرة،‏ غَيَّرَ،‏ أو حتى أنه ألغى<br />

بعض احلدود التي كنت أضعها على ما أقدمه<br />

يف فني.‏ يف تلك األوقات العصيبة كنت أسأل<br />

نفسي عن الكيفية التي سأقدم فيها أعمالي<br />

ليتم تفاعل أفضل بيني وبني املتلقي؟ بعد ثالث<br />

سنوات من وفاة أخي حقي،‏ جاءتني فكرة أثناء<br />

متابعتي ألحداث يف التلفزيون،‏ حني شاهدت<br />

جنوداً‏ يتواصلون من على بعد مع طائرات<br />

بال طيار.‏ ففكرت بشيء مشابه ضمن عمل<br />

فني:‏ قمت بتهيئة منصة حلدث أولي اقترحته<br />

كنقطة انطالق،‏ وبعد ذلك أدعو املتلقني إلى<br />

املشاركة معي يف منوه.‏ قمت بتقسيم العمل<br />

إلى منطقتني:‏ األولى هي ‏)منطقة الراحة(‏<br />

zone( )Comfort والثانية اسمها ‏)مكان<br />

احلرب(.‏ أردت من ذلك أن يدرك الناس كيف<br />

يعيش العراقيون،‏ من خالل متكني هؤالء<br />

الناس من إطالق النار على العراقي ‏)رمزياً(.‏<br />

صُ‏ نِفَ‏ هذا العمل ب)‏art )interactive أي<br />

الفن التفاعلي،‏ أال أنني أطلقت عليه عبارتي<br />

encounter( )dynamic أي لقاء ديناميكي.‏<br />

الفنان هنا يوصل الفكرة،‏ لكن بأي معنى؟ حني<br />

تصنع عمالً‏ بهذا االجتاه،‏ يعني أنك لن تسمح<br />

له أن يكون حدثاً‏ مكتمالً‏ منذ البداية،‏ بل<br />

تكتفي بوضع نقطة انطالقه...‏ ملاذا؟ ألنه إذا<br />

كان عمالً‏ كامالً،‏ فمعنى هذا أنك وضعت له<br />

حدوداً،‏ أي وضعت النتائج )outcome( مسبقاً،‏<br />

ما يعني أن العمل لن يكون متصفاً‏ باحلدث<br />

الطبيعي الذي يتميز بعدم قدرتنا على التنبؤ<br />

مبا ميكن أن يؤول اليه.‏ الفنان يقدم إذن بداية<br />

للحدث،‏ ومن منصة مقترحة،‏ وهذه املنصة<br />

ميكن لها أن تكون قاعة فنية أو مكاناً‏ مفترضاً‏<br />

موصال باالنترنت.‏ سيتصف العمل إذن<br />

بالديناميكية،‏ والواقعية،‏ بسبب كون الفنان لم<br />

يحدد نهايته،‏ وعملي املعنون ب ‏)اطلق النار على<br />

العراقي(‏ جعلني أفكر بهذا االجتاه...‏ ملاذا؟<br />

نحن نحب تفاعل الناس مع أعمالنا،‏ إال أننا<br />

حني نقدم عمالً‏ كامالً‏ لن يكون هناك تفاعل<br />

داخل احلدث بل مراقبة تأملية من اخلارج،‏<br />

أنا إذن،‏ أقدم عمالً‏ يتفاعل معه الناس بشكل<br />

فعلي.‏<br />

عمار:‏ هل تتفق معي،‏ ونحن ضمن هذا<br />

السياق،‏ أن ما تقترحه يف عملك هو أقرب<br />

ملنهجية التفاعل يف الفن احلدوثي happening(<br />

،)art وأبعد طبعاً‏ من منهجية الفن األدائي<br />

،)Performance( حيث أن األول يعتمد على<br />

أن الفنان هو احملرك األول أو الطرف الذي<br />

أوقد الفتيلة،‏ واملتلقون هم من يكملون عمله،‏<br />

أما األدائي فهو ليس أكثر من استعراض ألداء<br />

فردي،‏ أليس كذلك؟<br />

وفاء:‏ صحيح،‏ لدينا الفنان األميركي آالن<br />

كابرو Kaprow( )Allan الذي حدّد مالمح<br />

فن احلدث.‏ طبعاً‏ فن األداء يعود يف تاريخه<br />

إلى منجزات الفنانني اإليطاليني منذ عقد<br />

العشرينات.‏ ما أريد أن أقوله يف مشروعي<br />

اخلاص هو:‏ إذا كان الفنان الذي يصنع األداء<br />

أو احلدث،‏ ويحدد نهاية للحدث فسيكون<br />

النشاط بهذا املستوى غير تفاعلي،‏ وبهذا<br />

التحديد سنضع الفروق بني النشاطني الفنيني.‏<br />

عمار:‏ نستطيع القول إن العمل ينمو من خالل<br />

العالقة الديناميكية بينك وبني اجلمهور أو<br />

املتلقني املتفاعلني،‏ اليس كذلك؟<br />

وفاء:‏ نعم بالضبط،‏ ما مييز فن احلدث هو<br />

أن نهايته غير معروفة،‏ ولم يتم تصنيعها أو<br />

تخطيطها مسبقاً،‏ متاماً‏ كما هو حديثنا اآلن،‏<br />

فأنا وانت لم نتبع برنامجاً‏ ما للحوار منذ<br />

البداية،‏ ولم نضع خطة له،‏ وبهذا يكون فن<br />

احلدث أقرب للواقع.‏ إضافة إلى أن املنغمسني<br />

يف احلدث هم أناس واقعيون،‏ يجلبون جتربتهم<br />

ويدخلوها يف العمل.‏<br />

عمار:‏ نعم،‏ هم مساهمون بصناعة احلدث،‏<br />

ويحدث األمر قبل كل شيء من خالل نشاطهم<br />

التفاعلي والعفوي،‏ وحتى لو كان هناك نص<br />

مكتوب لطريقة البدء،‏ فسيتم التعامل مع<br />

تلك الطريقة ب<strong>حر</strong>ية تامة،‏ أي كنقطة بداية<br />

لالنطالق منها إلى املزيد من االرجتال<br />

والعشوائية،‏ والتي تشكل تلقائياً‏ طبيعة احلدث<br />

48


47


وفاء بالل وصديقته ساره نوربخاش.‏<br />

دبي آرت فير <strong>2022</strong><br />

وفاء بالل 2010<br />

عمار:‏ حسناً‏ عزيزي وفاء لنقل إن النصف<br />

األول من القرن العشرين شهد حتوالً‏ يف مجال<br />

نبذ النزعة الواقعية،‏ على إثر اختراع الكاميرا،‏<br />

لكن ماذا تقول يف شأن ما طرحه دوشامب يف<br />

عمله الفني ( الزجاجة الكبيرة(؟<br />

وفاء:‏ نعم عمل دوشامب:‏ ( العروس املنزوعة<br />

الثياب من قبل فتيانها...(.‏<br />

عمار:‏ يقول دوشامب:‏ « ثمة اعتقاد كان<br />

عندي،‏ فحواه هو:‏ مبا أن املرء يستطيع أن<br />

يحصل على ظل ثنائي األبعاد ألي شيء ثالثي<br />

األبعاد أي مثلما تفعل الشمس مع األرض،‏<br />

حيث متنح األشياء ذات األبعاد الثالثة ظالالً‏<br />

ذات بعدين،‏ اعتقدت بعد عملية فكرية بسيطة<br />

أن البعد الرابع يستطيع أن يأتي لنا بشيء ذي<br />

ثالثة أبعاد كظل له.‏ بعبارات أخرى أن الشيء<br />

الثالثي األبعاد ميكن له أن يكون ظال لشيء<br />

رباعي االبعاد جنهله.‏ ‏)العروس(‏ وهي إحدى<br />

شخصيات الزجاجة الكبيرة كانت قائمة على<br />

أساس هذا املبدأ مبعنى أنها كما لو كانت<br />

نتيجة لشيء ذي أربعة أبعاد ».<br />

قلنا إن الكاميرا حجّ‏ مت الرسم الواقعي،‏<br />

ملاذا إذن ال نقول إن الكاميرا الفيلمية قضت<br />

أيضاً‏ على النحت الثالثي األبعاد،‏ ألن األخير<br />

جامد والكاميرا الفيلمية أتت إلينا بأشياء<br />

تت<strong>حر</strong>ك،‏ مبعنى أنها تتوفر على البعد الرابع<br />

وهو احلركة والزمن،‏ وحتول الفنان إذن إلى<br />

مصور فيلم فيديو آرت كمحصلة لهذا التطور،‏<br />

لكنه لم يصنع فيلماً‏ سينمائياً‏ مبني على رواية،‏<br />

.)feature film(<br />

وفاء:‏ نعم صحيح،‏ إنه البعد الرابع،‏ لنسأل<br />

إذن:‏ ما الذي يقدمه هذا البعد للمشاهد<br />

والفنان؟ إنه يقدم أشياء لم تكن ممكنة يف<br />

األساليب التي سبقت ظهوره.‏ بهذا البعد<br />

ازدادت جرعة تأثير الواسطة media(<br />

.)reaktion حني ننظر إلى جسم مت<strong>حر</strong>ك يف<br />

فيلم ال ننتبه،‏ أو يغيب عنا اإلدراك به،‏ بوصفه<br />

شيئاً‏ غير حقيقي،‏ وهي القيمة املهمة التي<br />

جلبتها السينما.‏ لكن يبقى اخليط الواصل<br />

بينها وبني الفن موجود.‏ بأي كيفية يا ترى؟<br />

سأقول:‏ حني نرى لوحة جميلة وواقعية على<br />

سبيل املثال،‏ وهي جميلة ألننا نرى األشياء<br />

كلها بوصفها بديهياً‏ موجودات واقعية.‏<br />

ما الذي يختلف إذن بني العمل السينمائي<br />

والعمل الفني؟ أعتقد أن األول يُغَيب الواقع<br />

الذي نعيش فيه متاماً،‏ ونعيش يف البعد الرابع<br />

الذي هو أمامنا.‏ باختصار:‏ نحن نستهلك<br />

واقعنا اجلديد يف الفيلم،‏ وننسى واقعنا<br />

احلقيقي.‏ إنها حالة هروب صريحة.‏ السينما<br />

جميلة ألنها تعطينا إمكانية الهروب من الواقع.‏<br />

تولد التسلية بالتأكيد من قابلية الهروب من<br />

الواقع.‏ تواجه السينما اآلن ما يعرف بالواقع<br />

االفتراضي،‏ reality( )Virtual ويف هذه<br />

الواسطة اجلديدة ستجد خيارك احلقيقي.‏<br />

عمار:‏ دعنا اآلن نعرج على طبيعة أو مظاهر<br />

عملك،‏ فمن خالل حوارنا هذا تذكرت إحدى<br />

أولى أعمالك حني جلست يف غرفة وأغلقتها<br />

على نفسك.‏ أليس هذا أول أعمالك؟<br />

وفاء:‏ ال،‏ قبل هذا كنت أرسم،‏ يوم كنت أعيش<br />

يف الكوفة.‏ بدأت بالرسم يف عمر مبكر،‏ كنت<br />

أرسم بالزيت منذ عمر 13 سنة.‏ لم تسنح لي<br />

46


وفاء بالل ، . توتر داخلي . 2007<br />

للسلطة والدين والنخبة املمولة واعتماده<br />

عليها.‏ وحتى تكون فناناً‏ يف ذلك الزمان،‏<br />

وجب عليك أن تذهب إلى املدرسة وتتلمذ<br />

على يد أستاذ.‏ إذن الفن كان مقصوراً‏ على<br />

عدد قليل من صانعيه،‏ لهذا ترى أن هناك<br />

تشابهاً‏ يف األساليب.‏ لكن ما حدث يف ما<br />

بعد،‏ أن احلربني األولى والثانية أحدثتا ثورة<br />

سياسية واجتماعية،‏ بدأ الفنان يتمرد على<br />

املؤسسة،‏ ألن املؤسسة جلبت دماراً‏ واسعاً‏<br />

للبشرية.‏ أغلب الفنانني الذين استحدثوا<br />

أشياء مغايرة هم ممن هربوا من أوروبا بعد<br />

احلربني العامليتني،‏ إذ هاجروا إلى أميركا ورأوا<br />

أشياء مختلفة متاماً‏ عن األشياء التي كانت<br />

عندهم.‏ بدأ الفنان يستفز املتلقي ويتداول معه<br />

موضوعات العمل الفني.‏ إن ما قاله جوزيف<br />

بويز صحيح،‏ إذ أن اكتشاف الكاميرا غير<br />

العمل الفني،‏ أقصد هنا اكتشاف الفوتوغراف،‏<br />

وهذا يعني أن تصنع الكاميرا الصورة ويقدمها<br />

الفنان.‏ طبعا كانت كاميرا بساكورا ‏)الفانوس<br />

الس<strong>حر</strong>ي(‏ معروفة قبل الكاميرا الفوتوغرافية،‏<br />

لكن ليس بنفس مبدأ الكاميرا الفوتوغرافية<br />

التي تنجز الصورة بالكامل.‏ إذن ما قبل وجود<br />

الكاميرا،‏ كان لزاماً‏ أن تُصنَع الصورة <strong>حر</strong>فياً.‏<br />

لكن الكاميرا الفوتوغرافية أثّرت حتى على<br />

أسلوب اللوحات،‏ أو أسلوب الرسم...‏ ملاذا؟<br />

ألن الفنان جاءه حتد جديد.‏ حدثت إذن ثورة<br />

ضد األساليب القدمية،‏ وعلى أثرها ظهر<br />

الفن االنطباعي والفن التكعيبي.‏ وأذكر هذا<br />

األخير ألنه أحدث ثورة ضد النزعة الواقعية<br />

أو األكادميية.‏<br />

45


ما هي تداعيات ظهور هذه الواسطة اجلديدة<br />

التي دخلت عالم الفن؟ أقصد هنا ‏)الفيديو<br />

آرت(‏ ونشأته،‏ وجواباً‏ على ذلك أقول:‏ أن أولى<br />

تلك التداعيات كانت يف نيويورك،‏ من خالل<br />

الفنان ذو األصل الكوري Paik( ،)Nam June<br />

الذي أجنز أول مقطع فيديو له يف عام 1965،<br />

ففي ذلك الزمان،‏ كانت السينما والتلفزيون<br />

غير متاحني كأدوات شعبية لالستخدام من<br />

قبل اإلنسان العادي.‏ السينما كانت تعمل من<br />

خالل إمكانيات هائلة،‏ أما التلفزيون فكان<br />

عبارة عن منصة )platform( تذاع منها مواد<br />

مختلفة.‏ لكن الثورة أو االنقالب على هذا<br />

االحتكار أتيا من شركة سوني،‏ حني أنتجت<br />

أول كاميرا باسم:‏ Portapak( .)Sony وكان من<br />

املمكن شراؤها واستخدامها من قبل اإلنسان<br />

العادي بإمكانياته البسيطة.‏ هذا التحول من<br />

احتكار املؤسسة إلى وضع ملكية البث يف يد<br />

األفراد ومنهم الفنان،‏ أصبح له أهمية عظيمة،‏<br />

ألن هذا األخير مترد على املؤسسات املوجودة<br />

آنذاك،‏ من خالل تقدمي أعمال يستخدم فيها<br />

التكنولوجيا بسهولة وبساطة دون احلاجة إلى<br />

منصة مؤسساتية حتدد له نوعية بث هذا<br />

العمل.‏<br />

عمار:‏ صار الفنان بهذا الشكل هو املنصة أو<br />

البؤرة التي تبث على حسابها اخلاص وبدون<br />

احلاجة إلى املؤسسة.‏<br />

وفاء:‏ بالضبط.‏ واآلن إن سألتني كيف أعرّف<br />

أعمالي،‏ فسأقول لك إنها معرّفة من خالل<br />

وصفي للفنان كمرآة لعكس الواقع االجتماعي<br />

والسياسي.‏ وحني نأتي إلى الفروق بني<br />

السينما والفيديو آرت،‏ نقول إنها كبيرة جداً..‏<br />

ملاذا؟ ألن السينما كما عرفناها،‏ من خالل<br />

هوليوود مثالً،‏ تشتغل بتقنية سينمائية عالية،‏<br />

يف حني قام فنان الفيديو آرت بتجريدها من<br />

تلك التقنية العالية،‏ وجرد أيضاً‏ عمله الفني<br />

من الهيكلية املعقدة )formula( التي اتخذتها<br />

املؤسسات إلنتاج أعمالها السينمائية،‏ وألغى<br />

مركزية املكان الذي يتم البث منه،‏ فهو يستطيع<br />

أن يبث أفالمه من شقته التي يسكن فيها،‏<br />

ال ننسى ايضاً‏ أن ظهور الفيديو كان موازياً‏<br />

ألحداث <strong>حر</strong>ب فيتنام،‏ فبعد أن احتكرت<br />

شركات البث التلفزيوني نوعية اخلطاب،‏<br />

قام الفنان،‏ بعد أن أصبحت بيده هذه اآللة،‏<br />

بسحب البساط من حتت تلك املؤسسات،‏<br />

فعمد إلى التسجيل واإلذاعة من خالل<br />

كاميرته،‏ الفرق إذن كان كبيراً‏ كما ترى.‏<br />

عمار:‏ لقد وضعنا عدداً‏ من النقاط املهمة.‏<br />

دعني أوضح لك فكرتي.‏ زرت مركز بومبيدو<br />

يف باريس،‏ واطلعت على كم كبير من أفالم<br />

الفيديو آرت يف أرشيفهم،‏ تتبعتها منذ<br />

اخلمسينات وإلى زمننا احلالي،‏ فوجدت<br />

عدا ما ذكرته من مترد على مأسَ‏ سة اإلنتاج<br />

السينمائي واحتكار البث،‏ أو محاولة ترسيخ<br />

مرجعية للبث بعينها،‏ وأن الفنان أخذ دور<br />

صانع الفيلم على عاتقه،‏ فأصبح هو املنصة<br />

التي تبث،‏ كما ذكرت،‏ لكن الفنان ايضاً‏ لم<br />

يعد منشغالً‏ بصناعة فيلم فيه أحداث متتابعة<br />

مشغولة ضمن تتابع البداية ثم القمة ونهاية<br />

األحداث،‏ أقصد ال توجد هنا على األغلب <br />

حكاية أو سرد.‏ إن الفيديو آرت منشغل أكثر<br />

بصياغة حدث واحد،‏ أال ترى ذلك؟<br />

وفاء:‏ أنا متفق معك يف نزع تلك الهيكلية التي<br />

يعتمدها الفلم العادي،‏ لدينا ايضاً‏ مشكلة<br />

أن املتذوق ليس دائماً‏ عارفاً‏ بتطور تاريخ<br />

الفن،‏ هناك تفاؤل وحتوالت كبيرة مفهومة و<br />

مستوعبة من العاملني يف الفن،‏ لكن املتلقي<br />

يف أغلب األحوال لم يفهم بعد تلك التطورات<br />

والتحوالت التاريخية،‏ ويذهب إلى حد اعتبار<br />

تلك التحوالت كلعبة الغرض منها االستهانة<br />

بعقل املتلقي.‏ يف حني أن هناك دائماً‏ أسباباً‏<br />

منطقية دفعت وتدفع الفنانني إلى اتخاذ هذا<br />

املسلك أو ذاك،‏ املتلقي ليس دائماً‏ مجهزاً‏<br />

بإمكانية التعرف على مراحل التطور التي أدت<br />

إلى استحداث أصناف جديدة لفن اليوم.‏ فمن<br />

أجل أن نفهم ما هو اجلديد يكون لزاماً‏ علينا<br />

أن نتعرف على ما كان قبله.‏<br />

عمار:‏ إنها إذن عملية متابعة السياق التاريخي،‏<br />

لفهم الفن اجلديد!‏<br />

وفاء:‏ بالضبط.‏ لكن مع األسف جتد فنانني<br />

كثيرين يتبنون نوعاً‏ من الفن ويتخذونه صوتا<br />

لهم،‏ دون أن يكون هذا الفن نتيجة النقالب<br />

على املاضي،‏ ما يؤدي يف أحوال كثيرة إلى<br />

فشل هذا الصوت،‏ ذلك ألنه ال يعطي أهمية<br />

للتعرف على املاضي وسبل جتاوزه،‏ وبسبب<br />

ذلك سيفتَقر إلى االبتكار والتفرد.‏ لهذا السبب<br />

لن نستغرب حني تُقدم أعمال جرى تقدميها<br />

يف املاضي فتنعدم قيمتها الفنية،‏ على الرغم<br />

من أنها ميكن أن تكون ذات قيمة <strong>حر</strong>فية<br />

عالية،‏ وهي منطقة لطاملا توقفت هذه األعمال<br />

عندها.‏<br />

عمار:‏ أتذكر هنا ما شرحه الفنان األملاني<br />

جوزيف بويز عن السياق التاريخي لتطور<br />

الفن،‏ حيث قال:‏ ‏»إننا نعي غريزياً‏ بأن تطور<br />

الفن،‏ هو واحد من أهم األشياء يف العالم،‏<br />

ألنه يعكس واقعاً،‏ تكون فيه األسرار متواجدة<br />

يف صيغة مركزة،‏ وخصوصاً‏ حني يتعلق األمر<br />

بالبشر.‏ لهذا فإن توجه الفن نحو ما هو داخلي<br />

هو اقتراب من هذه املرحلة التي أسلفت يف<br />

ذكرها.‏<br />

ال متلك تقاليد اليوم أي سلطة على أحد،‏ كما<br />

حصل على سبيل املثال يف الثقافة املصرية<br />

القدمية أو الرومانية أو حتى النهضوية.‏ وعلى<br />

التقاليد اليوم أن تُستحدَث من قبل الناس<br />

أنفسهم.‏<br />

أما الصفة األكثر أهمية يف التحديث فهي<br />

إلغاء هذه التقاليد لصالح املقاصد الفردية.‏<br />

لهذا ال يوجد طراز واحد،‏ كما حدث مثال يف<br />

املرحلة الباروكية أو القوطية،‏ حيث مت إقرار<br />

نظام مشترك.‏<br />

يتم حالياً‏ لكل وجود إنساني أن يطور ثقافته<br />

اخلاصة.«‏<br />

اضع لك النص ذاته باالنكليزية:‏<br />

The development of art, of which we all<br />

instinctively realize is one of the most<br />

important things in the world, because<br />

it reflects the fact that secrets exist in a<br />

concentrated form, especially when it<br />

comes to people. Hence the art movement<br />

inside is approaching this threshold. The<br />

rules are no longer imposed by external<br />

authorities, as was the case in the cultures<br />

of Egypt, Rome or the Renaissance.<br />

Today, rules must come from people. the<br />

most interesting feature of modernism is<br />

the elimination of traditions in favor of<br />

individual concepts. That's why there isn't<br />

one style like in Baroque or Gothic, where<br />

common doctrine was in force. now every<br />

human being develops his / her own culture<br />

وفاء:‏ لكل عصر أسلوبه،‏ بسبب خضوع الفنان<br />

44


وفاء بالل.‏ شارع املتنبي،‏ 2014<br />

43


التي تتكون بها أعمالهم،‏ وليس األفكار التي<br />

عاجلوها،‏ بينما جيلنا الذي جاء بعدهم يعتمد<br />

على ماهية الفكرة وكيف ستؤسس بدورها<br />

لهذا العمل أو ذاك،‏ األمر الذي جعل كل عمل<br />

يختلف عن اآلخر.‏ ملاذا؟ ألنك ترى أن هناك<br />

فكرة سياسية أو اجتماعية تتضمنه،‏ وبالتبعية<br />

جتد الواسطة مختلفة من عمل إلى آخر.‏<br />

عمار:‏ طيب،‏ ما دمنا قد بدأنا بتقدمي الفكرة<br />

سأقترح عليك أن نتفحص قضية مفاهيمية..‏<br />

ما رأيك؟<br />

وفاء:‏ بكل سرور.‏<br />

عمار:‏ يف املباحث الفاحصة للفن،‏ توجد مفردة<br />

مهمة وهي مادة علم اجلمال ‏)االستطيقا(،‏<br />

ومسبقاً‏ نعرف أن تعريف اجلميل هو أمر<br />

صعب وملتبس،‏ وال يوجد تعريف محدد له<br />

منذ أيام الدادائية.‏ لكن أقترح عليك أن نبحث<br />

عن األشياء التي جتعل الفن فناً‏ مبعنى من<br />

املعاني،‏ لدينا مثالً‏ حقل الفلسفة،‏ وهو حقل<br />

مستقل،‏ لكنه يشترك مع الفن املفاهيمي مبا<br />

نعرفه عن املفهوم،‏ أو الفكرة.‏ الفيلسوف بكل<br />

بساطة صياد أفكار،‏ وثمة يف الفن تيار يصطاد<br />

األفكار.‏ يف الستينات ظهر الفن املفاهيمي مع<br />

الفنان اإليطالي ‏)فونتانا(،‏ وكان مهتما بالفكرة<br />

أكثر من الشكل،‏ ثم جاء بعده الفنان األميركي<br />

جوزيف كوست يف السبعينات،‏ وهو صاحب<br />

عمل ‏)كرسي وثالثة كراسي(،‏ ما يدور يف<br />

خلدي بهذا الشأن هو أن تشاركني البحث عن<br />

تعريف للفن،‏ من وجهة نظر فنان مفاهيمي<br />

باحث عن األفكار.‏ وهناك سؤال يلح عليه<br />

الباحثون يف حقل الفن وهو:‏ ما الذي يجعل<br />

الفن املفاهيمي مختلفاً‏ عن الفلسفة؟ وهناك<br />

سؤال ثان جرى طرحه إبان ظهور أفالم<br />

الفيديو آرت والفن األدائي والفن احلدوثي<br />

عن احلد الفاصل بني الفيديو آرت والسينما،‏<br />

وما احلد الفاصل ما بني الفن األدائي والفن<br />

احلدوثي؟<br />

وفاء:‏ لنتوقف عند هذين السؤالني،‏ فهما<br />

سؤاالن جميالن جداً،‏ دعني أوالً‏ أن أقول لك<br />

ماهو تعريف الفن بالنسبة لي:‏ إن تعريفي<br />

بسيط جداً،‏ الفن وبغض النظر عن وجوده يف<br />

أي مرحلة،‏ هو أساساً‏ كينونة تتوارى خلفها<br />

فكرة،‏ وميكن أن نسمي هذه الفكرة ب)رمز/‏<br />

،)Code وهو عنصر موجود يف الشيء،‏ ويف أي<br />

شيء تفعله،‏ سواء كان حدثاً‏ أو أداءً.‏ الفن هو<br />

أيضاً‏ أن متنح للشيء أو للحدث رمزاً.‏ ترى<br />

اآلن أننا إذا وضعنا التعريف بهذه البساطة،‏<br />

سوف نتوسع يف معرفتنا لكل من الفن والفنان،‏<br />

وال يوجد اليوم من يستطيع أن يعرف الفنان<br />

بشكل إطالقي.‏ لكن إذا اتخذ أحدهم مسؤولية<br />

تعريف نفسه بكونه فناناً،‏ ويقول أنا فنان،‏ بهذا<br />

ينتهى األمر،‏ هو إذن فنان مبعزل عن كونه<br />

جيدا أو ال،‏ فهذا أمر مختلف.‏ يكفي أن يقول<br />

املرء أنا فنان أو هذا الشيء هو فن،‏ وكفى،‏<br />

وذلك هو التحديد الذي ظهر منذ بداية القرن<br />

العشرين،‏ وباألخص منذ مارسيل دوشامب.‏<br />

وأقول أيضاً‏ إذا أعطى الفنان قيمة للشيء أو<br />

احلدث يصبح بهذا احلال فناً.‏ ليس للتقييم<br />

يف هذه احلالة أهمية،‏ ملاذا؟ ألننا نرى األشياء<br />

من خالل العدسة التي نرى بها األشياء أو من<br />

خالل ما نعرفه عن الفن،‏ أو الطريقة التي<br />

نرى فيها هذا احلدث.‏ نرى اآلن أن األشياء<br />

اختلفت من مرحلة ‏)الفن اجلاهز(‏ كما قدمها<br />

دوشامب،‏ والفن اآلن.‏ ثمة اختالف وتغيير<br />

كبيرين.‏ لقد بدأنا حديثنا عن الرواد يف<br />

بالدنا،‏ وعن األجيال التي أتت بعدهم،‏ ونفس<br />

األمر يتعلق بكيفية تقدميك للفن،‏ بعدما قدم<br />

دوشامب فكرة الفن اجلاهز،‏ اختلف التقييم<br />

أساساً،‏ وبشكل نهائي،‏ وتقييمنا سيختلف<br />

كثيراً‏ وباستمرار،‏ إذا ما التزمنا مبا ذكرناه من<br />

تعريف للفنان أو الفن.‏<br />

سأعرف لك مهمة الفنان باللغة االنكليزية:‏<br />

you have the artist in code, insert a code, in<br />

either a concept, assign a code to an act or<br />

an art<br />

دعني أعرج إلى سؤالك الثاني:‏ ما الفرق<br />

ما بني الفيديو آرت والسينما؟ علينا أوالً‏ أن<br />

نصنّف مادة الفيديو،‏ ونقول إنها كحال مادة<br />

األكريلك أو الزيت يف الرسم،‏ إنها كحدث<br />

مستمر يف الزمان ميكننا أن نصنع منه عمالً‏<br />

فنياً‏ يعمل يف الزمان املتدفق الذي يظهر به.‏<br />

42


عمار:‏ كان لدينا االميان بأسطورة احلرفية<br />

وإمكاناتها،‏ فمن خاللها كان مستوى الفنان<br />

يقيّم.‏<br />

وفاء:‏ هذا صحيح.‏ آخر مرة التقيت األستاذ<br />

ضياء العزاوي يف قطر العام 2010 او 2011<br />

على ما اذكر،‏ قلت له إننا جيل بدأ يهتم<br />

بالفكرة ويؤكد عليها،‏ أما جيلكم فقد أكد على<br />

احلرفية،‏ ولهذا ترى أن اجليل الذي قبلنا،‏ بات<br />

صعباً‏ عليه أن يعترف مبا نفعله،‏ ألن املعيار<br />

عندهم كان احلرفية،‏ وكأن لسان حالهم يقول:‏<br />

يجب عليك أن تضبط احلرفة وبعدها تذهب<br />

إلى الفكرة.‏ بالنسبة جليلنا حدث العكس،‏<br />

حيث ننطلق من الفكرة،‏ أما اجلانب احلريف<br />

فيأتي يف ما بعد.‏ اجلانب احلريف مهمته<br />

توصيل الفكرة أو إكمالها،‏ وليس هو كل شيء.‏<br />

عمار:‏ هل نستطيع أن نطلق شعار:‏ املفهوم أو<br />

الفكرة أوالً،‏ ثم التقنية ثانياً؟<br />

وفاء:‏ صحيح،‏ الفكرة هي التي حتدد أو<br />

تستدعي األداة.‏ األجيال التي سبقتنا اعتمدت<br />

- عدا احلرفية - على األسلوب أيضاً،‏ فترى<br />

أن كل فنان يف تلك األزمنة يقضي السنني<br />

باحثاً‏ عن ما مييزه أسلوبياً،‏ ويجعله مختلفاً،‏<br />

أو لنقل يسعى إلى أن يكون معروفاً‏ من خالل<br />

أسلوبه الشخصي.‏ حني نتحدث عن الرواد<br />

تتبادر إلى أذهاننا أوالً‏ الكيفية األسلوبية<br />

وفاء بالل،‏ املكتبة . 2016<br />

جانب آخر من املكتبة.‏ 2016<br />

وفاء بالل،‏ توتر داخلي . 2007<br />

41


لي عن حظر التجوال لديهم.‏ أثناء احلديث<br />

ذكر بوفاء األستاذ شاكر حسن آل سعيد الذي<br />

كان معجباً‏ بأعماله،‏ وخصوصاً‏ عمله املعنون<br />

ب)الفاو(،‏ مشيراً‏ إلى ثقافة آل سعيد وموقعه<br />

املتقدم يف احمليط الفني العراقي.‏<br />

اتفقنا ووفاء على أن ال نضع حلوارنا أية<br />

تخطيط مسبق،‏ بل نتركه يتخذ لنفسه مساراً‏<br />

تلقائياً.‏<br />

قال وفاء مفتتحاً‏ حوارنا:‏ ‏»كان لدى أغلب<br />

الرواد تأكيد على التقنية أكثر من الفكرة.‏<br />

لقد تغيرت االهتمامات لدينا نحن األجيال<br />

التي أعقبتهم ممن خرجوا من العراق واطّ‏ لعوا<br />

على ما يحدث حولهم يف العالم،‏ فقد اجتهت<br />

خياراتنا نحو تغليب قيمة الفكرة أكثر من<br />

قيمة االهتمام باحلرفية التقنية والبحث عن<br />

األسلوب الشخصي«.‏<br />

40


حوار مع الفنان املفاهيمي وفاء بالل<br />

عمار داود<br />

ننطلق من الفكرة واجلانب احلريف<br />

يأتي يف ما بعد!‏<br />

التحول من احتكار املؤسسة إلى<br />

وضع ملكية البث يف يد األفراد<br />

والفنانني!‏<br />

حدث طبيعي يبدأ به الفنان وال<br />

ينهيه!‏<br />

عني العديد من فناني احلداثة يف املنتصف<br />

الثاني من القرن العشرين املنصرم،‏ باملفاهيم<br />

القائمة على معارضة مناهج الفن السابقة<br />

جليلهم ونبذها.‏ بل إن منهم من استغل عجز<br />

علم اجلمال يف حتديد معنى اجلميل دافعاً‏<br />

ملعارضته واإلتيان بحلول جديدة أخرى اتصفت<br />

بعدم مناقشة فكرة اجلميل ودوافعه.‏ وفقاً‏<br />

لذلك جرى التأسيس على العمل الفني الذي<br />

يكتسب قيمته من وجوده الفعلي املدرك<br />

احملسوس،‏ أما مهمة الفنان فهي يف حتقيق<br />

هذا الوجود عن طريق إلهام مستوحى من<br />

احلياة املعاشة.‏<br />

بهذا املعنى دخل الفنان بشكل أعمق يف معترك<br />

احلياة،‏ وتعامل بشكل مباشر معها،‏ فلم يعد<br />

يعبر عما ‏)يفكر به مسبقآً(،‏ بل عما ‏)يتعايش<br />

معه(،‏ ومبعنى آخر حلّ‏ ‏)التفاعل والتعايش<br />

مع الواقع(‏ محل التعبير عما سماه بول كلي<br />

‏)الالمرئي(‏ أو ‏)نشاط الالوعي أو الوعي<br />

الذاتي للفنان(.‏ إذن هو قبل كل شيء تفاعل<br />

مع األشياء ذاتها،‏ قبل التعبير عن الوعي الذي<br />

يصفها.‏ الفنان إذن لم يعد يعبر عما ‏)يفكر<br />

به(‏ حسب،‏ بل ‏)وما يتعايش معه(‏ ويف اللحظة<br />

نفسها أيضاً.‏ وبذلك صارت أدوات التعبير<br />

هي من صلب احلدث الواقعي عينه،‏ وبه سيتم<br />

التعبير عن ذاته.‏<br />

يف اعتقادي أن الفنان العراقي وفاء بالل<br />

رمبا انطلق من خلفية تلك املفاهيم اجلديدة<br />

التي أتيت على ذكرها،‏ وعلى وجه التحديد<br />

يف معنى وهدف العمل الفني.‏ جاء ذلك بعد<br />

دراسته للفن يف أميركا،‏ وبتأثير ما خاضه<br />

من جتارب شخصية أليمة خالل حياته يف<br />

العراق ومعاصرته إلحداثه العصيبة،‏ والسيما<br />

أثناء احلرب التي فقد يف آتونها عدداً‏ من<br />

أفراد عائلته،‏ ثم مقتل شقيقه ‏)حقي(‏ بهجوم<br />

صاروخي أميركي عبثي عام 2004.<br />

ما يُعزز اعتقادي هذا هو عمله عام 2007، يف<br />

مشروع مدته 30 يوماً‏ سماه ‏)التوتر الداخلي(‏<br />

احتجاجاً‏ على احلرب ، حيث عزل نفسه<br />

يف غرفة صغيرة،‏ ميكن رؤيته داخلها ألربع<br />

وعشرين ساعة يومياً‏ من خالل كاميرا ربطت<br />

باإلنترنت،‏ وباإلضافة إلى تلك الكاميرا،‏ قام<br />

وفاء بإعداد بندقية رمي تطلق كرات عليه وهو<br />

جالس يف الغرفة عن طريق التحكم بها عن<br />

بعد من قبل املشاهدين يف أي وقت يشاؤون.‏<br />

تطلق البندقية طالءً‏ أصفر كريه الرائحة<br />

وتصدر صوتاً‏ قوياً‏ مثل صوت البندقية<br />

احلقيقية يف كل مرة يتم إطالق الكرات منها.‏<br />

من الواضح أن هذه التجربة تشير إلى ميل<br />

وفاء لعنصر ‏)احلدث(‏ الذي يتخذ من طبيعته<br />

الزمانية أساساً‏ للتعبير،‏ كما هو ‏)استراتيجية(‏<br />

ممكنة وفعالة تقف على الضد من الفنون<br />

البصرية املكانية املتصفة بطبيعة سكونية.‏<br />

يُصنَّف احلدث النامي يف سياق الفنون<br />

الزمانية كاملسرح والسينما كنشاط تفاعلي<br />

ينشأ ما بني أطراف العمل الفني جميعها.‏<br />

يحدث التفاعل قبل كل شيء من خالل<br />

الت<strong>حر</strong>يض،‏ وردود األفعال العفوية واملقصودة.‏<br />

حتى لو كان هناك مخطط معدّ‏ سلفاً‏ للحدث<br />

التفاعلي،‏ فإنه سرعان ما يتم التعامل معه<br />

ب<strong>حر</strong>ية وارجتال بعد جتاوز نقطة البداية التي<br />

يقترحها الفنان.‏ وتندرج التفاعالت العشوائية<br />

يف صلب اخلط النامي للحدث الذي تنشأ<br />

دالالته وتنمو معانيه من ذلك التفاعل النامي<br />

الذي يؤثر املتلقون على مساره ونتائجه.‏<br />

جرى حواري مع وفاء بالل،‏ املقيم يف نيويورك،‏<br />

يف زمن جائحة كورونا الصعب،‏ وقد حتدث<br />

39


38<br />

وفاء بالل


عادل عابدين.‏ فراغ محلي 2007<br />

37


هذه األماكن تسمع أشياء مختلفة عن نفس<br />

الشيء.‏ كنت أشعر يف العراق بالتيه دائماً،‏<br />

احلقيقة كما كانت وال أزال أراها هي املوت،‏<br />

لكن املهم هو أن حتب بكل جوارحك،‏ وما عدا<br />

ذلك ليس سوى متغيرات مستمرة ال تصل إلى<br />

نتائج نهائية أبداً.‏ كل شيء يغدو هباء بالنتيجة<br />

النهائية،‏ ال شيء يستحق االهتمام،‏ واسأل<br />

مراراً:‏ ملاذا نؤله الفنان؟ أرى أن الزبال أهم<br />

منه،‏ ألنه يؤثر على حياتنا إن تخلى عن عمله،‏<br />

لكنني كفنان لن أكون مؤثراً‏ على أحد إن تركت<br />

عملي كفنان.‏ الفنان إنسان عادي«.‏<br />

هوامش<br />

* ولد عادل عابدين عام 1973، يف بغداد،‏<br />

العراق.‏ بعد أن تخرج من أكادمییة الفنون<br />

اجلمیلة ببغداد سنة 2000.<br />

منذ عام 2001 هاجر ليعيش ويعمل يف فنلندا،‏<br />

ويف هلسنكي أكمل دراسته وحصل على شهادة<br />

املاجستير سنة 2005 من أكادميية الفنون<br />

اجلميلة هناك،‏ عرض أعماله يف أماكن<br />

مختلفة من العالم.‏ قام بتمثيل فنلندا بشكل<br />

خاص يف بينالي البندقية الثاني واخلمسني<br />

يف عام 2007 وعرض أعماله مرة ثانية يف<br />

البندقية يف اجلناح العراقي يف البينالي<br />

الرابع واخلمسني الذي أقيم يف عام 2011.<br />

أدار مشاريع يف محل إقامته بهلسنكي ويف<br />

فرنسا والواليات املتحدة من خالل اإلقامة يف<br />

املوقع )One( بنيويورك،‏ له أعمال يف متحف<br />

الفن املعاصر يف الدوحة بقطر ويف سيدني<br />

بأستراليا.‏<br />

.1 ديفيد سال،‏ David Salle<br />

فنان أمريكي ولد يف 28 سبتمبر 1952،<br />

أوكالهوما،‏ الواليات املتحدة األمريكية،‏ تخرج<br />

من معهد كاليفورنيا للفنون.‏ كرافيكي ومصور<br />

ومصمم مسرح.‏ يعيش ويعمل يف إيست<br />

هامبتون،‏ نيويورك.‏<br />

.2 سيندي شيرمان،‏ Cindy Sherman<br />

مصورة وفنانة تصوير أمريكية،‏ ولدت يف 19<br />

يناير 1954 يف نيو جيرسي،‏ الواليات املتحدة<br />

األمريكية.‏<br />

36


35<br />

إلى عمل لم أتوقع تأثيره«.‏<br />

ثمة إشارات يف جتارب عادل عابدين الفيلمية،‏<br />

هي مبثابة شرفات تطل على معان تتجمع<br />

لتكون مادة العمل،‏ متاما كما تنتظم اخلرز يف<br />

العقد.‏ إشارات متتاز بنزعة ساخرة تهكمية<br />

تسربلها صفة اجلدية وصرامة احلدث الذي<br />

هو يف النهاية ناجت عن ما تسقطه أحداث<br />

حياته الشخصية ومعاناته،‏ وهي التي يت<strong>حر</strong>ز<br />

عادل من احلديث عنها:‏ ‏»ال أميل دائماً‏ إلى<br />

استعادة األحداث املؤملة يف حياتي،‏ وأربأ<br />

بنفسي عن تذكرها.‏ أحب أن أكون طفالً‏<br />

متجدداً‏ يف مواجهة العالم.‏ إن من يشتغلون<br />

معي يكتشفون أنني يف مزاج يذهب نحو<br />

التبسيط،‏ وتظهر عندي بسبب مزاجي هذا<br />

أفكار بسيطة أيضاً‏ تتحول فيما بعد إلى أفالم<br />

ومجسّ‏ مات فنية«.‏<br />

قادت تلك البساطة عادالً‏ إلى إجناز فيلم<br />

عنونه ب)التطهير 2018( حيث أتى بفريق من<br />

الناس لوَّن وجوههم باللون األسود والبني<br />

الغامق،‏ ثم قام فريق ثان من املشاركني بالفيلم<br />

بإزالة اللونني بطريقة قاسية ومؤملة،‏ وذلك<br />

باستعمال خراطيم املياه املستعملة من قبل<br />

رجال اإلطفاء!‏<br />

4<br />

يرى عادل أن يف دنيانا التي نعيشها اجتماع<br />

للعبث والالمعنى،‏ لذلك سيجد دائماً:‏ ‏»حباً‏<br />

لتلك االمكانية املثيرة لتحويل السخيف إلى<br />

حامل لدالالت الالمعنى«.‏<br />

إن فيلم ‏)يا بلبول 2019( يدخل ضمن هذا<br />

السياق،‏ إذ يعيد تصوير حادثة قدمية يف تاريخ<br />

الدبلوماسية العراقية يف العهد امللكي،‏ عن<br />

طريق فلم يحمل مزايا الفيلم الوثائقي القدمي،‏<br />

وبلبول هذا كان يهودياً‏ عراقيآً‏ ومدرب سباحة<br />

للصبيان،‏ فإذا ما تخرجت دورة من الدورات،‏<br />

نزل معها إلى مياه نهر دجلة وصاح بأعلى<br />

صوته:‏ ‏»بلي يبلبول!«،‏ فيرد املتدربون وراءه:‏<br />

‏»بلي«َ!‏<br />

ويف عام 1935 إبان عهد املرحوم امللك غازي<br />

بالتحديد،‏ كان الفنان حافظ الدروبي على<br />

رأس الوفد املشارك يف إحدى الدورات<br />

األوملبية التي أقيمت يف أملانيا قبل احلرب<br />

العاملية الثانية،‏ وعقد املهرجان برعاية الزعيم<br />

النازي هتلر،‏ وكان على كل وفد أن يردّد<br />

النشيد الوطني اخلاص ببالده.‏ لم يكن للعراق<br />

آنذاك نشيداً‏ وطنياً،‏ فأ<strong>حر</strong>ج ذلك الوفد<br />

العراقي كثيراً،‏ لكن الدروبي تدارك املوقف<br />

صائحاً‏ بأعلى صوته عند االقتراب من منصة<br />

الزعيم األملاني:‏ ‏»بلي يبلبول!«،‏ فردد الفريق<br />

بعده:‏ ‏»بلي«‏ ثم صاح الدروبي:‏ ‏»ما شفت<br />

عصفور؟ ليأتيه اجلواب ب«بلي«...‏ وهكذا،‏ إلى<br />

نهاية النشيد املزعوم،‏ فرد هتلر التحية على<br />

الوفد،‏ ومضى األمر بسالم.‏ كان هذا سرد<br />

حلكاية تناقلتها األلسن،‏ ويف هذا العمل يتناول<br />

عادل بتهكم معضلة غياب التوثيق احلقيقي<br />

لتاريخ بلد اعتمد ويعتمد حلد اليوم على القيل<br />

والقال.‏<br />

قال عادل لي مرة:‏ ‏»أشعر بأن هناك لغطاً‏<br />

كبيراً‏ يف تصورات الناس عن حياتهم ويف<br />

حياتهم يف بلدي.‏ أنت تسمع تناقضات يف<br />

املواقف والتحليالت والرؤى،‏ رمبا أكثر بكثير<br />

من أماكن أخرى يف العالم.‏ يف املدرسة،‏ يف<br />

بيتك،‏ تخرج إلى الشارع،‏ ويف كل مكان من<br />

عادل عابدين.‏ فيديو سفريات<br />

عادل عابدين.‏ 2007


مرة مع أحد جامعي األعمال حول ما يدفعه<br />

إلى شراء أعمال فنية،‏ فأجاب:‏ ‏»اني اشتري<br />

األعمال التي تذكرني بأسلوب ما تعرفت عليه<br />

يف الفن سابقاً«.‏<br />

وعدا االلتزام باألسلوب الذي حتدث عنه<br />

عادل،‏ وكانت احلداثة األولى ترسّ‏ خه،‏ مؤكدة<br />

أيضاً‏ على تعزيز عنصر األصالة واالستثنائية<br />

والتفرد واإلمكانية احلرفية،‏ وتهتم بأن<br />

يكون للفنان مرجعية محددة وواضحة.‏<br />

مع ذلك كانت حبلى مبا سيأتي فيما بعد<br />

من جديد،‏ وكانت من بوادره األكثر أهمية<br />

فتوحات الفنان الفرنسي مارسيل دوشامب<br />

االنقالبية واالستفزازية،‏ ومن أهمها تأكيده<br />

على استخدام اللغة والفكر يف الفن،‏ ورفضه<br />

إعالء القيمة البصرية وحدها،‏ بل التوجه نحو<br />

استبدالها بقيمة الفكرة.‏<br />

كان يف فن دوشامب وشخصيته الكثير من<br />

السخرية والنقد الذين دفعا به إلى نبذ<br />

األمناط التقليدية وما تتمخض عنه من<br />

جماليات الشكل.‏ وكان استخدامه اجلناس<br />

يف اللغة،‏ واللعب بالكلمات مبزاج ساخر،‏ ينم<br />

عن حساسية وحدس واضحني لديه،‏ بالرغم<br />

من أنه لم يكن قد صرّح مبفاهيمية واضحة<br />

ومحددة بعد.‏<br />

ثمة اليوم نوعان من الفنانني اجلدد:‏ من يتبع<br />

حدسه وقلبه،‏ مقابل من يؤصل نفسه برؤية<br />

تنظيرية واعية مبا يفعل،‏ وهو ماجند له<br />

شواهد ملموسة يف الفن العاملي،‏ عندما نقارن<br />

مثال بني اندي وارهول بحياده البارد وعدم<br />

رغبته يف التصريح حول مفاهيم عمله،‏ وما بني<br />

الفنان اإلنكليزي فرانسيس بيكون وانغماسه<br />

مبعاني األلم والوجود والتصريح العميق<br />

والدقيق عن ذلك.‏<br />

نالحظ اليوم توجه الكثير من املبدعني إلى<br />

محو أو إثبات العديد من هذه الشروط<br />

واملقومات،‏ وبسبب ذلك سنحتاج إلى املزيد<br />

من اجلهد واملثابرة ومران النظر والتفكر لتبني<br />

ذائقة حتتوي املظاهر اجلديدة يف فن اليوم،‏<br />

بالرغم من أن جله يبدو من الوهلة األولى<br />

‏)رديئاً(.‏<br />

لقد عشت شخصياً‏ جتربة عسر تذوق األعمال<br />

اجلديدة التي ظهرت يف الثمانينات من القرن<br />

املنصرم،‏ ويف التسعينات حني وقع بيدي<br />

كتاب بعنوان ‏)الفن اآلن(‏ ملؤلفه كالوس هونف<br />

Honnef( ،)Klaus واجهت صعوبة يف تقبل<br />

ما رأيته من أعمال،‏ إال أنني اشتريت الكتاب<br />

على أمل أن أمتكن يف زمن الحق من أن أتقبل<br />

وأتذوق ما جاء فيه من أعمال فنية.‏ وهذا<br />

ما حدث بالفعل بعد سنوات،‏ إذ بدأت أتذوق<br />

هذا النمط من الفن اخلشن الغليظ الهجني<br />

الساخر املستهتر واألرعن،‏ واملازج بني القبيح<br />

واجلميل،‏ الهش أحياناً‏ يف مواد صنعه،‏ واملختل<br />

يف عالقته مع املتلقي وحتى السخيف بقصدية<br />

من لدن الفنان ذاته…‏<br />

يقول عابدين:‏ ‏»هناك فنانون يدعون بالباحثني<br />

artist( .)research based بالنسبة لي أجد أن<br />

<strong>فضاء</strong> الالوعي يتوفر على تصورات ومفاهيم<br />

كبيرة،‏ ولم يشغلني البحث عن املعنى،‏ بقدر<br />

اهتمامي باالشتغال على الصورة،‏ فأنا يف<br />

الكثير من أعمالي أكتب مفهوم العمل بعد أن<br />

أنتهي منه وليس قبله.‏ إن أغلب أعمالي تولد<br />

مقاصدها يف الوعيي،‏ وأنا ال أنتبه لذلك إال<br />

أثناء العمل وحده،‏ حيث تتضح وتنكشف،‏ وأرى<br />

أن الفكرة تنبجس أثناء العمل،‏ بالرغم من<br />

أن السذاجة والسطحية تتلبسها يف البداية.‏<br />

ويحدث أثناء العمل أنني نفسي أتفاجأ بتحولها<br />

34


به إلى معنى ما،‏ ويرى إن كان باإلمكان أن<br />

يصنع منها مشروعاً‏ لعمل جديد.‏ يقول<br />

عادل يف هذا الشأن:‏ ‏»أحب أن أستخدم<br />

منتجات الثقافة الشعبية،‏ culture( .)pop<br />

لقد أعجبت مببارزة السيوف التي هي على<br />

شكل أنابيب مضيئة ‏)نيونات(،‏ كما تعرضها<br />

أفالم ال<strong>فضاء</strong>،‏ وعروض مايكل جاكسون،‏<br />

ووجدت ما هو جميل فيها تبعاً‏ للزاوية التي<br />

اختار النظر من خاللها،‏ وما هو ايضاً‏ قابل<br />

لالستلهام«.‏<br />

إزاء ما قاله عادل،‏ تذكرت فنانة الفوتو<br />

آرت االمريكية سيندي شيرمان Cindy(<br />

)Sherman * ففي مقتبل حياتها اإلبداعية<br />

يف السبعينات استخدمت يف أعمالها<br />

الفوتوغرافية مفردات تعود إلى طفولتها،‏<br />

مستوحاة من أفالم هوليوود،‏ لتعيد صياغتها<br />

بطريقتها.‏ كانت شيرمان هي املمثل واملخرج،‏<br />

تصنع من حلظة حدث مجمدة،‏ صورة<br />

فوتوغرافية مبثابة وثيقة مُنَصّ‏ صة حلدث<br />

هوليوودي سينمائي.‏ حققت ذلك يف عملها<br />

Stills( ،)Untitled Film وكرست بذلك<br />

العمل ‏)سبعون صورة فوتوغرافية(‏ وشكل<br />

تعاملها مع الهوية االنسانية التي خلخلتها<br />

ودفعتها ألن تكون متحققة يف شخصيات<br />

متباينة لها ذاتها لكن متحققة يف عدة<br />

متظهرات.‏<br />

ال يؤمن عادل برسوخ األسلوب الشخصي<br />

للفنان،‏ على النحو الذي كانت تفرضه تقاليد<br />

احلداثة السابقة.‏ يقول يف ذلك:‏ ‏»الزال<br />

العديد من فنانينا اليوم يكرس التمسك<br />

باألسلوب الشخصي كتقليد ثابت،‏ تكلمت<br />

عادل عابدين.‏ فيديو ( اخلبز(‏ 2008<br />

33


أيضاً‏ من التقدم يف دراسة املاجستير.‏<br />

كان هذا القسم،‏ يُعلّم الطلبة طرق وأدوات<br />

القيام مبشروعات تنتمي إلى البحث الزمكاني<br />

يف الفن،‏ مبا فيها التصوير الفوتوغرايف<br />

والسينمائي وفن األداء والفيديو آرت،‏ أما<br />

الدراسة النظرية،‏ فشملت تاريخ السينما ومادة<br />

الفلسفة التي كانت مفتوحة لكل االقسام.‏ أجنز<br />

عادل فيلماً‏ قصيراً‏ ملدة 13 دقيقة بعنوان:‏<br />

‏»األيام املجنونة«،‏ كما أجنز عمالً‏ آخر تركيبياً‏<br />

صغيراً.‏<br />

أعجبت تلك األعمال البروفيسور،‏ ومنذ<br />

ذلك اليوم تعمق عادل يف هذا املجال،‏ وآمن<br />

بأن التأثير على املتلقي من خالل احلركة<br />

والصوت والتواصل الفيزيائي هو أكثر فعالية<br />

من التواصل عن طريق اللوحة.‏ واحلال إنه<br />

تعلم كثيراً‏ من الطالب أنفسهم،‏ وحتى أكثر<br />

من أساتذته،‏ وكان يقوم بإجناز أعماله بنفسه<br />

بشكل كامل،‏ لكن حني بدأ يحصل على منح<br />

مالية إلجناز مشروعاته،‏ انتقل إلى العمل<br />

اجلماعي الذي يقسم مجاالت العمل بني<br />

مصور وصانع ديكور وصوت وممثل...‏ الخ.‏<br />

ساهم عادل فيما بعد يف بينالي فينيسيا عام<br />

2006 بعمله املعنون ‏)سفريات عابدين(‏ ممثالً‏<br />

به اجلناح الفنلندي،‏ وهي املساهمة التي<br />

دفعت جتربته إلى أمام،‏ وكان من أهم مزايا<br />

هذه املشاركة هو متثيل فنان عراقي لبلد من<br />

دول الشمال األوروبي.‏ يف هذا العمل يصعِّد<br />

عابدين وقع املفارقة ما بني تصورنا لسفرة<br />

سياحية مبا حتتويه من مسرّات،‏ وبني واقعها<br />

الفعلي الذي تعرضه سفريات عابدين،‏ حيث<br />

بشاعة ومآسي مشاهد احلياة واألمكنة بعد<br />

االحتالل األميركي.‏<br />

يف العام نفسه قدم عادل فيلماً‏ بعنوان ‏)موقع<br />

البناء(‏ عرض فيه مشهداً‏ مقرّباً‏ لكفي طفلة<br />

متسك مبلعقتني من البالستيك األبيض،‏ وهي<br />

تلعب بحصى صغير من بقايا انفجار وتغني يف<br />

الوقت نفسه أغنية عن السالم.‏<br />

ثم نفّذ عمالً‏ آخر وصفه بأن له أهمية يف<br />

تاريخه الشخصي مضيفاً‏ : ‏»إن العمل الذي<br />

أهّ‏ لني ودفع بي إلى املساهمة ببينالي فينيسيا<br />

هو ذلك الفيلم الذي مثلت فيه دور رجل<br />

يشفط اجلليد مبكنسة كهربائية،‏ كناية عن<br />

املهاجرين الذين صار أغلبهم يعمل يف مجال<br />

التنظيف،‏ وفيه أيضاً‏ سخرية من وضعية<br />

املهاجرين يف البرد االسكندنايف القارس«.‏<br />

يرى عابدين أنه ال يصنع أفالمه باملنطق<br />

العقلي بل باحلدس.‏ عن طريق هذا احلدس<br />

صنع فيلم لعبة كرة املنضدة Pong( ،)Ping<br />

وأجنز مادته اخلام مبدة زمنية هي خمس<br />

عشرة دقيقة،‏ وذلك عام 2004، لكن جرى<br />

تشذيب أجزائه وترتيبها ثم تقدميه للعرض يف<br />

سنة 2009. يقول عادل بصدد جتربته تلك:‏<br />

‏»حني تترك األفكار املتعلقة بعملك على الرف<br />

وتعود إليها من وقت إلى آخر،‏ ستكتشف بعد<br />

إنهاء العمل أنك قمت بعمل اختزاالت وتشذيب<br />

ودمج وتقصير لألحداث،‏ حتى تصل إلى نتيجة<br />

مختزلة.‏<br />

احتاج عادل يف هذا الفيلم إلى كاميرا خاصة<br />

تصور األحداث بطريقة احلركة البطيئة،‏ حتى<br />

تتجسد فيها طبيعة احلركات.‏ يف هذا الفيلم<br />

اختار فتاة واحدة من مجموع 15 من الفتيات،‏<br />

هي األكثر بياضاً.‏ ويقول يف هذا الشأن:‏<br />

‏»كنت أبحث عن فتاة تذكرني بفتيات ليوناردو<br />

دافنشي..‏ فتيات من لوحات عصر النهضة:‏<br />

ذوات بشرة بلون حليبي وبُنية هشّ‏ ة«.‏<br />

ثمة عمل مثير لعادل يصوّر أشخاصاً‏ يعزفون<br />

على اخلبز املدوّر،‏ أجنز عام 2007 يف مصر.‏<br />

ظهرت فكرة الفيلم بعد جلوسه يف مطعم قدم<br />

صاحبه نوعاً‏ من اخلبز الصلب واملدور الشكل.‏<br />

أكد عادل أنه بكل بساطة لم يفهم كيف ميكن<br />

أن يؤكل ذلك اخلبز وهو بتلك الصالبة،‏ فراح<br />

يوقّع عليه إيقاعاً،‏ فجاءت يف ذهنه فكرة عمل<br />

فيلم مع أرغفة اخلبز.‏ اتصل يف الیوم الثاني<br />

مبنتج منفذ ليشرح الفكرة له،‏ وطلب منه أن<br />

يجلب له أربعة من عازيف اإليقاع من أربعة<br />

مالهي ليلية مختلفة،‏ واختار لهم بدالت أنيقة<br />

متثل ذوق أصحاب تلك املهنة،‏ ثم استأجر<br />

مكاناً‏ مخصصاً‏ حلفالت الزار يف القاهرة،‏<br />

وطلب منهم أن يعزفوا على اخلبز من غير<br />

مترين مسبق.‏ استغرق العزف ملدة ساعة،‏ لم<br />

تكن لدى عادل - كما قال لي مادة واضحة<br />

بخصوص مفهوم هذا العمل،‏ إال أنه اعتبره<br />

بعد اكتماله من أفضل أعماله.‏ ميكن أن نتخيل<br />

مع فكرة عادل التهكمية أن الفقر ميكن أن<br />

يحوّل املأساة واملعاناة إلى موسيقى أو إلى أي<br />

شيء غير متوقع!‏<br />

يف ذات االجتاه حوّل عادل أغاني املديح<br />

ل)القائد صدام حسني(‏ العربية،‏ إلى نصوص<br />

تغنى باللكنة االجنليزية،‏ يقول:‏ ‏»لقد كتبت<br />

كلمات االغاني العربية باحلروف االجنليزية<br />

وطلبت من فتيات اجنبيات أن يغنينها بأحلان<br />

غربية:‏ جاز،‏ بلوز وبوب…«‏<br />

3<br />

تترسخ يف أعمال عادل الفيلمية املذكورة<br />

وغيرها،‏ مفاهيمية التباس الهوية،‏ التي<br />

جتلت بالعديد من التمثالت،‏ حيث منح عادل<br />

للخبز مثالً‏ هوية آلة موسيقية هي الطبل،‏<br />

وكذا احلال مع البنت التي صارت مبثابة<br />

شبكة لكرة املنضدة،‏ والغبار حتوّل إلى ثلج<br />

يشفط باملكنسة الكهربائية.‏ يف كل هذا مال<br />

نحو استلهام ما هو تافه وسطحي وما ال<br />

قيمة له،‏ ما هو بائس وهزلي وفقير،‏ أو ما<br />

يعرف باإلنكليزية ب)‏kitschy‏(،‏ الذي نطالعه<br />

يف بعض أفالم هوليوود الساذجة والسخيفة،‏<br />

حيث يلتقط منها ما هو نتاج صدفة تذهب<br />

32


عادل عابدين.‏ فلم ( التطهير(‏ 2018<br />

31


30


باحلرب.‏ يف فنلندا تسجل يف كلية الفنون<br />

اجلميلة يف هلسنكي كطالب ماجستير،‏<br />

ومتهيداً‏ للبقاء هناك.‏ يتذكر تلك األشهر<br />

األولى من إقامته حيث كان الفنان األميركي<br />

املعروف دیفید سال Salle( *)David معلمه<br />

األول وملدة ستة شهور.‏<br />

كانت عالقة صداقة طيبة قد نشأت بينهما،‏<br />

وقد أدرك ديفيد مشكلة عادل فقال له:‏ ‏»لديك<br />

مشكلة مع الرسم،‏ وتبدو كما لو أنك ترفضه<br />

»، قال هذا بعد أن وجده ال يرسم شيئاً‏ ملدة<br />

أربعة شهور.‏ كان عادل قد وضع قماشة بيضاء<br />

ليرسم عليها،‏ إال أنه وقف أمامها يبكي.‏ شعر<br />

يومها بأفول مستقبله وتبدد آماله.‏ لكن أمالً‏<br />

واحداً‏ ظل يعتمل يف ذهنه،‏ وهو أن يجرب<br />

وسائط وأدوات إبداعية أخرى.‏<br />

حدث ذات يوم أن ذهب عادل ملالقاة رئيس<br />

قسم ‏)الزمن وال<strong>فضاء</strong>(‏ يف األكادميية،‏ وهو<br />

القسم الذي يدرّس الفيديو آرت وفن التركيب.‏<br />

هناك وجد مالذه األنسب،‏ فعزم على إقناع<br />

رئيس القسم بتبديل نوع دراسته،‏ إال أن األخير<br />

أخبره باستحالة هذا التغيير ألنه ال ميتلك<br />

شهادة البكلوريوس من نفس القسم.‏ وبعد<br />

حوار استطاع عادل أن يقنع رئيس القسم<br />

بأن مينحه فرصة للقبول يف حال إن متكن<br />

من تقدمي مشروعني يثبت فيهما أنه مبستوى<br />

زمالئه يف القسم اجلديد.‏ وبروح التحدي راح<br />

يعمل بجهد إلثبات قدرته،‏ فتعلم بنفسه مجال<br />

االختصاص اجلديد،‏ ومتخض ذلك عن تقدمي<br />

مشروع فيلم قصير وجد فيه رئيس القسم<br />

املؤهالت الكافية لقبول عادل عنده،‏ ما مكّنه<br />

عادل عابدين.‏ فيديو ( بينك بونك(‏ 2009<br />

29


وغالباً‏ ما تبدأ هذه األفالم بال متهيد،‏ حيث<br />

ينمو احلدث مباشرة داخل فضائه املجاني.‏<br />

جند فيها أيضاً‏ نوعاً‏ من مراوغة وحتريف<br />

لطبائع األشياء ورفع احلجب عن بواطن<br />

العالقات الثقافية ما بني الغرب والشرق،‏<br />

وذلك من خالل اعتماد االستعارة.‏<br />

تبدو ثيماته أشبه بأحداث صنعتها الكتابة<br />

اآللية السريالية أو الفعاليات الدادائية:‏<br />

وكالة سفر افتراضية بعنوان ‏»سفريات<br />

عابدين«.‏<br />

أرغفة اخلبز تُستَعمَل كطبول يُعزَف عليها.‏<br />

جسم فتاة عارية يصير شبكة يف لعبة كرة<br />

الطاولة.‏<br />

كثبان من الثلج تُشفَط مبكنسة كهربائية.‏<br />

شاب عربي بدشداشته الطائرة يتمثل ‏)مارلني<br />

مونرو(‏ وثوبها األبيض الطائر.‏<br />

ثالث مغنيات أوروبيات،‏ يرطنّ‏ بالغناء بالعربية<br />

يف مديح رئيس الدولة.‏<br />

بالون يقوم طفل بحالقته.‏<br />

مايكل جاكسون يبعث من بني األموات…‏<br />

2<br />

حدثني عادل عن حياته،‏ وتذكر بحزن يوماً‏<br />

فاصالً‏ مؤملاً‏ يف حياته،‏ حني ألقي عليه القبض<br />

من قبل االنضباط العسكري يف منطقة<br />

الشورجة ببغداد،‏ بسبب تلف صفحة واحدة<br />

من دفتر خدمته العسكرية.‏ كان آنذاك شاباً‏<br />

يف سن الواحد والعشرين،‏ ويومها حشر<br />

منتسبو االنضباط العسكري معه شباباً‏ فارين<br />

من اخلدمة العسكرية أو املشكوك يف هوياتهم<br />

داخل باص مغلق ال يدخله إال بصيص من نور<br />

ينفذ من فتحات صغيرة متفرقة.‏ نقلهم هذا<br />

الباص إلى سجن احلارثية الذي وصفه عادل<br />

بأنه ‏»مكان يصلح كنهاية بكل معنى الكلمة«.‏<br />

بعد أن أطلق سراحه،‏ وذهب عنه روعه،‏ دار يف<br />

خلده أن يرحل من العراق وينجو بنفسه ويحيا<br />

مبا متليه عليه <strong>حر</strong>يته الشخصية.‏<br />

يف تلك األيام كان قد قرر وبحزم أن يصبح<br />

رساماً،‏ على الرغم من أنه لم يجد يف نفسه<br />

تلك القدرة الكافية لذلك،‏ لكنه تذكر الفنان<br />

حافظ الدروبي - صديق والده - الذي علمه<br />

الرسم منذ صغره،‏ وكان يكرر على مسامعه<br />

مراراً‏ أنه سيكون رساماً.‏<br />

وكان قد توجه إلى أكادميية الفنون اجلميلة<br />

للدراسة املسائية،‏ وليس النهارية،‏ كونه لم<br />

يكن منتمياً‏ للحزب احلاكم.‏ وكان القسم<br />

املسائي مفتوحاً‏ للجميع بال اعتبار لالنتماءات<br />

السياسية،‏ وهناك أقام أول معارضه<br />

الشخصية - وهو طالب يف الصف الثالث<br />

باألكادميية - يف قاعة ‏)اإلناء(.‏<br />

بعد حصوله على شهادة البكالوريوس من<br />

األكادميية ببغداد سافر عادل يف عام 2000<br />

إلى فنلندا مستصحباً‏ زوجته،‏ يف الفترة<br />

نفسها التي كان جورج بوش االبن يلوح للعراق<br />

28


عمار داود<br />

عادل عابدين ومكائد حتوّ‏ ل هويّ‏ ات األشياء ووظائفها!‏<br />

1<br />

منذ بداياته توجّ‏ س من مستقبل نشاطه الفني.‏<br />

لم يكن يعلم أين يضع قدميه.‏ توجسه هذا،‏<br />

معزّزاً‏ مبا كان ينتابه من قلق متفاقم،‏ وقف<br />

حائالً‏ أمام شروعه يف الرسم،‏ وأفضى به إلى<br />

النظر يف أدوات أخرى أفرزتها حتوّالت الثقافة<br />

البصرية العاملية تقع خارج فن الرسم.‏<br />

‏»لم يدر بخلدي أن أصبح رساماً،‏ بالرغم من<br />

أنني،‏ ومنذ صغري،‏ كنت أحب الرسم كثيراً«.‏<br />

هذا ما قاله لي عادل عابدين،‏ وهو يتحدث<br />

عن فطرته التي تنزع عن األشياء واحلوادث<br />

طابعها النفعي والواقعي،‏ صاعدة بقوة حدسه<br />

إلى خياله.‏ حدس منطلق مقترن مبزاج مييل<br />

إلى الفكاهة من غير أن يركن إلى رقابة أو<br />

استدالل عقليّ‏ . إنه نتاج الهواجس والالواعي،‏<br />

وهذا األخير،‏ صمام أمان عمله،‏ ومحط<br />

إميانه،‏ وثقته مبا سيصنع اآلن والحقاً.‏<br />

ال يقص عادل عابدين حكايات يف أعماله<br />

الفيلمية،‏ وال يُلمّح إلى حكمة ما،‏ بل يذهب بنا<br />

بوساطة أفالمه القصيرة،‏ إلى حوادث يترجم<br />

لنا فيها العالم املعيش،‏ مبا فيه من أحداث<br />

صادمة تثير السخرية مرة،‏ ومتثل الغرائب<br />

مرة.‏<br />

إنها أفالم تومئ إلى ما هو خلف مظاهر<br />

األشياء،‏ إلى ما ال نراه،‏ لكن ما ميكن أن يشكل<br />

موضوعاً‏ حلساسية وجداناتنا.‏ أراد ألفالمه أن<br />

تكون مكثّفة،‏ مقتضبة،‏ مت<strong>حر</strong>زاً‏ من االستطراد<br />

والسرد،‏ ونابذاً‏ عنها كل نافل،‏ حيث ال براهنيَ‏<br />

وال مواعظ وال سطوة أخالقية أو خلفية<br />

آيديولوجية سياسية باملعنى املباشر،‏ فهي أشبه<br />

بالنصوص املرصوصة البناء املكتفية بالقليل<br />

واملوجز واملكثّف،‏ القائمة بذاتها،‏ متمركزة على<br />

حدثها الوحيد النامي،‏ بال ثرثرة داللية.‏<br />

هي أفالم معمولة باتقان،‏ ينمو احلدث فيها<br />

مت<strong>حر</strong>راً‏ من قشور التزويق،‏ فاللب هو األهم،‏<br />

لبها الذي ملك عادل ناصيته،‏ ظاهراً‏ لنا دون<br />

أن يسقط عليه من شخصيته غير حضورها<br />

كشاهد ساخر مماحك.‏<br />

ال تصف أفالمه أحالماً‏ وال أضغاثها.‏ إنها<br />

أقرب إلى رسوم مختصرة سريعة،‏ وافية<br />

بتلميحاتها،‏ تبثّ‏ أحداثاً‏ نأَت بنفسها عن<br />

التحليل املنطقي،‏ بيد أن عناصرها متتلك<br />

درجات عالية من الواقعية الهادفة إلى<br />

مشاكسة النظر السليم وخلخلة العقل الراكن<br />

إلى املألوف.‏<br />

ثمة أيضاً‏ وحدة عضوية تربط سياقاتها،‏<br />

عادل عابدين امام مجموعة من لوحاته 2015<br />

فيديو االوملبياد يف املانيا ( بلبول(‏<br />

27


26


رند عبد اجلبار،‏ منارة عانه <strong>2022</strong><br />

رند عبد اجلبار.‏ تنقيبات<br />

رند عبد اجلبار يف ندوة حوار<br />

25


عندما تكونني مهندسة معمارية،‏ يعتقد الناس<br />

بأن عملك ينحصر يف تصميم وإنشاء املباني،‏<br />

وعندما تكونني مصممة يعتقد الناس بأن<br />

عملك ينحصر يف تصميم األثاث أو األزياء.‏<br />

أما مصطلح ‏»الفنانة«‏ فيمنحك تلك املساحة<br />

الكافية إلدخال اللمسات من مختلف املجاالت<br />

ضمن عملك.‏<br />

‏)مايسة(:‏ هل لديك وسيلة تفضلينها عن<br />

غيرها يف أعمالك الفنية؟<br />

‏)رند(:‏ نعم لدي عالقة خاصة جداً‏ يف تعاملي<br />

مع الطني،‏ لكنها ال تزال مبثابة استكشاف<br />

بالنسبة لي،‏ وال أريد أن أقيّد نفسي بالعمل<br />

مبادة واحدة.‏ كما أنني أخطط الستخدام<br />

أكثر من مادة طبيعية يف عملي الفني القادم،‏<br />

مثل التراب،‏ والطني،‏ وامللح فضالً‏ عن رغبتي<br />

باستكشاف وجتربة مواد أخرى جديدة،‏ كذلك<br />

سوف أستخدم الطالء يف العمل اجلديد،‏ إال<br />

أن الطني سيبقى األداة املضمونة التي سأعمل<br />

بها من بني كل تلك املواد.‏<br />

‏)مايسة(:‏ سؤالي األخير لهذه املقابلة يرتبط<br />

مبا تطرقت إليه سابقاً..‏ هل كانت هنالك<br />

أي عوامل مؤثرة بالنسبة لك،‏ سواء كان ذلك<br />

فنانني معينني ‏)عرب أو أجانب(،‏ أو أي <strong>حر</strong>كة<br />

فنية أو حلظات معينة يف تاريخ الفن؟ لقد<br />

ذكرت كالً‏ من مور،‏ ونغوشي،‏ ومنى السعودي<br />

وسيمون فتال،‏ لكنن هل هناك أي شخص آخر<br />

ذي تأثير كبير عليك وعلى أعمالك؟<br />

‏)رند(:‏ بالطبع،‏ لقد تأثرت كثيراً‏ بأعمال الفنان<br />

جواد سليم وفكرة ‏»استلهام التراث«‏ ألنني<br />

أشعر بأنها تتماشى والسياق الذي أفكر فيه.‏<br />

لقد كانوا مجموعة من الفنانني ممن يحاولون<br />

تصور الشكل الذي قد تبدو عليه الهوية<br />

الوطنية اجلديدة بالبناء على املاضي العريق.‏<br />

وأشعر بالكثير من التقارب مع أسلوبه وأنا<br />

من أشد املعجبني بالفنان سليم – أمتنى لو<br />

تسنت لي الفرصة للعمل معه كزميلة أو كطالبة<br />

عنده،‏ وإنه ملن احملزن للغاية فقدان فنان بهذا<br />

احلجم مبكراً،‏ ولكِ‏ أن تتخيلي حجم األعمال<br />

التي كان من املمكن أن يساهم بها.‏ كذلك،‏ فإن<br />

للمصممة املعمارية زها حديد مكانة خاصة<br />

والتي حظيت بها من خالل أعمالها ولغتها<br />

اجلريئة التي ابتكرتها والتي حتمل توقيعها،‏<br />

إضافة لتأثري الشديد بها كشخص وكامرأة<br />

وكل ما حققته يف حياتها،‏ فهي تعتبر بالفعل<br />

مثاالً‏ يحتذى على الدوام وتستحق كل التقدير<br />

واالحترام.‏<br />

24


رند عبد اجلبار،‏ والنهر يغسل رجليه<br />

2019<br />

23


‏)رند(:‏ إنه ألمر غريب أن معظم الفنانني ممن<br />

يشكلون مصدر إلهام لي ليسوا بالضرورة<br />

مختصني يف مجال اخلزف ‏)خزّافني(.‏ أعتقد<br />

أن أهم فنانني هما ‏»إيسامو نوغوشي«‏ و<br />

‏»هنري مور«،‏ إضافة إلى ‏»منى السعودي«‏ التي<br />

هي مصدر إلهام كبير لي،‏ فذكريات طفولتها<br />

وهي تركض بني اآلثار وارتباطها العميق<br />

باحلجر شكال مصدرا إلهام لها،‏ وهو األمر<br />

بالنسبة لي لكن مع مادة الطني.‏ لن أقول إنني<br />

أعتبر هؤالء الفنانني مصدر إلهام ألعمالهم<br />

اخلزفية.‏ أما من ناحية فن التشكيل،‏ فهنالك<br />

العديد من الفنانني املؤثرين وأبرزهم الفنان<br />

‏»ضياء العزاوي«.‏ أتذكر أنني رأيت رسومات<br />

ملنحوتته ‏»حدائق بابل املعلقة«‏ يف معهد العالم<br />

العربي يف مدينة باريس منذ فترة،‏ ولم أكف<br />

عن التحديق بها،‏ فهي متنحنا الشعور باللغة<br />

املتأصلة واخلالدة عبر الزمان.‏ أنا كذلك من<br />

أشد املعجبني بأعمال الفنانة ‏»سيمون فتال«‏<br />

التي تعمل يف صناعة اخلزف،‏ ولرمبا هي<br />

األقرب لي يف هذا املجال.‏<br />

‏)مايسة(:‏ لقد بيّنت يف مشروعك ‏»أعمال<br />

اعترافية – مشاهد مما جنا«‏ مع مهرجان<br />

شبّاك كيفية تنفيذك للمشروع مبشاركة نساء<br />

الشتات العراقي يف لندن،‏ وكان جلّ‏ تركيزك<br />

على النساء العراقيات،‏ فهل كانت هناك رغبة<br />

خاصة يف العمل مع النساء العراقيات حصراً؟<br />

وهل كان األمر نابعاً‏ من القواسم املشتركة<br />

بينك وبينهن باعتبارك امرأة عراقية تعيش يف<br />

املهجر؟ وهل شاركت معك أيا منهن،‏ وأي شيء<br />

ساهم بت<strong>حر</strong>يك مشاعرك حتديداً‏ لدى تنفيذ<br />

هذا املشروع؟<br />

‏)رند(:‏ كان العمل يتمحور يف الواقع حول<br />

السيدة انتصار حجالي وهي سورية األصل،‏<br />

لذلك لم يكن األمر محصوراً‏ بالنساء<br />

العراقيات،‏ إال أن احملادثات األولية لتحضير<br />

املشروع كانت مع اجلمعية العراقية ومركز<br />

‏»غراند جنكشن«‏ املجتمعي،‏ وكانت هنالك<br />

مجموعة نسائية تابعة للجمعية العراقية،‏<br />

وأعتقد أنها شكلت النواة األساسية<br />

للمجموعة.‏ كما كان مركز ‏»غراند جنكشن«‏<br />

مسؤوالً‏ عن عمليات التواصل،‏ وقد الحظت<br />

بعض التردد يف بادئ األمر،‏ وفكرت بأنه رمبا<br />

يتعني علينا الفصل ما بني اجلمعية واملركز<br />

والعمل مع مجموعة نسائية ومن ثم العمل مع<br />

مجموعة أخرى.‏ إال أن ذلك كان أفضل ما<br />

حدث على اإلطالق نظراً‏ ملا تعلمته عن دور<br />

املرأة يف اإليصال الشفوي للتاريخ،‏ والهوية<br />

واللغة – اللغة األم،‏ لغة األرض.‏ لقد كانت تلك<br />

اجلوانب مفيدة حقاً،‏ وأعتقد بأنها أسهمت<br />

يف خلق املساحة اآلمنة للنساء.‏ املثير يف<br />

األمر أن هذا اللقاء حدث خالل فترة احلظر<br />

الذي فرضته جائحة كورونا ما اضطررنا<br />

للتواصل عبر تطبيق ‏»زوم«،‏ ولطاملا تساءلت<br />

كيف سيتسنى لنا بناء األواصر والثقة فيما<br />

بيننا على هذا النحو من التباعد؟ بالرغم من<br />

ذلك نشأ تفاهم من خالل املجموعة األصلية<br />

من النساء ممن جتمعهن الصلة واملعرفة<br />

السابقة،‏ إذ الحظت أنهن تعاملن بارتياح،‏ ما<br />

أتاح لنا االنفتاح والتواصل مع بعضنا البعض.‏<br />

وإلى جانب النساء العراقيات واللواتي ميثلن<br />

األغلبية،‏ ضمت املجموعة سيدتني من أصل<br />

سوري وسيدة مغربية،‏ وقد استحوذت قصة<br />

‏»انتصار«‏ على مخيلتي حيث أنها عكست<br />

الكثير من التفاصيل حول التجربة اجلماعية<br />

على الرغم من تفاصيلها الشخصية.‏ إضافة<br />

إلى ذلك حاولنا التوسع يف العمل عبر تنظيم<br />

سلسلة أطول من ورش العمل وتخصيص<br />

إحداها ملوضوع اللغة،‏ إال أننا خلصنا يف<br />

النهاية على اإلبقاء على هذا العمل فقط األمر<br />

الذي كان منطقياً‏ من حيث موقع املشروع<br />

يف حديقة تشيلسي فيزيك والتي تعتبر أقدم<br />

حدائق لندن التي تختص يف علم النبات وتتميز<br />

بالعديد من الروابط بالتاريخ االستعماري<br />

لبريطانيا،‏ وتتشكل من أجزاء من العديد من<br />

األماكن األخرى.‏ ومتثل هذه احلديقة مكاناً‏<br />

يعكس مشاعر االنسجام والتعايش،‏ فضالً‏<br />

عما تعكسه من مفاهيم،‏ فهذه احلديقة ليست<br />

عامة وال خاصة،‏ وليست خارجية بالكامل<br />

وال داخلية،‏ وليست طبيعية وال مصطنعة<br />

بالكامل،‏ بل هي تتسم بكل تلك املظاهر معاً.‏<br />

كذلك كانت قصة انتصار،‏ ما جعل األمر يبدو<br />

منطقياً‏ على مستويات عدة،‏ ويف النهاية أنا<br />

سعيدة حقاً‏ العتمادنا هذا التوجه ألننا متكنا<br />

من تصويره على اجلانبني األدائي والنحتي.‏<br />

وآمل أن أمتكن يف املستقبل من التوسع قليالً‏<br />

على املستويات األخرى.‏<br />

‏)مايسة(:‏ أود أن أطرح موضوع التراث املادي<br />

العراقي،‏ وهو موضوع نوقش كثيراً،‏ والسيما<br />

على الصعيد الفني.‏ برأيك ما دور الفنان يف<br />

احلفاظ على التاريخ أو على ذكرى التاريخ على<br />

األقل؟ أنت بحثت يف ذلك من خالل أعمالك<br />

بطرق مختلفة،‏ هل كان ذلك مقصوداً؟ هل<br />

كانت محاولة شخصية لفهم تراثك واكتشافه<br />

بطريقتك اخلاصة من خالل مشاريعك؟ وما<br />

دور الفنان يف ذلك – هل هو أمر عرضي وغير<br />

مقصود أم أنه يتطلب وجود أهداف محددة؟<br />

‏)رند(:‏ أعتقد يتعني على الفنان دراسة األمر<br />

إلى حد ما،‏ حيث ال ميكن التعامل مع هذا<br />

األمر باستخفاف.‏ عندما أبحث يف القطع<br />

األثرية لبالد ما بني النهرين،‏ ال بد من أن أفهم<br />

أيضاً‏ كل األحداث األخرى التي تدور حولها.‏<br />

ال أعتقد أنني امتلكت قراراً‏ واعٍ‏ ياً‏ للتركيز على<br />

التراث،‏ إذ كان هنالك دافع ما ساعدني خالل<br />

بحثي،‏ ولم تكن لدي اجلذور املرتبطة باملكان<br />

التي تساعدني باالتصال به.‏ لذا لم يكن<br />

أمامي سوى البحث يف املكان والتاريخ وعلم<br />

اآلثار ملساعدتي يف االتصال بالوطن،‏ خاصة<br />

وأنني لم أمتكن من البحث يف اجلانب املعاصر<br />

وذلك ألنني لم أكن جزءاً‏ منه.‏<br />

‏)مايسة:‏ هل ما زلت ترين نفسك كمهندسة<br />

معمارية؟ أنت مصصمة وباحثة بكل تأكيد<br />

باإلضافة إلى تخصصك يف مجال الهندسة<br />

املعمارية،‏ لكن هل شهدت ذلك التحول بالقول<br />

:« أنا لم أعد مهندسة معمارية،‏ لقد أصبحت<br />

فنانة«؟<br />

‏)رند(:‏ أعتقد أن هناك قاسماً‏ مشتركاً‏ بني كل<br />

تلك املجاالت،‏ فقد أقوم بتنفيذ عمل نحتي عن<br />

مدينة عانة من جهة،‏ وأكتب مقالة متخصصة<br />

عن تلك املنحوتة يف مجال الهندسة املعمارية<br />

من جهة أخرى.‏ حتى وإن أصنع املنحوتات من<br />

الطني،‏ أقوم بتصميم القاعدة الالزمة لها،‏<br />

ولذلك أشعر دائماً‏ بنوع من التشابك والترابط<br />

ما بني تلك املجاالت.‏ إن ما أفضل القيام به<br />

هو العمل من ناحية معمارية ومن ثم تصميم<br />

العمل من الناحية الفنية،‏ إال أنني أعتقد بأن<br />

اسم ‏»الفنانة«‏ قد يكون االسم الذي يفيني<br />

حقي يف العمل أكثر من أي اسم آخر.‏<br />

رند عبد اجلبار،‏ متابعة االصل <strong>2022</strong><br />

22


21


رند عبد اجلبار،‏ عجائب الدنيا،‏ كائنات<br />

سماوية 2019<br />

20


إليه هو محاولة إيجاد مفردات أو لغة مناسبة<br />

تنبع حقاً‏ من مكان تاريخي واملواد األكثر صلة<br />

به،‏ وهي الطني.‏ إنها مادة رائعة،‏ وأنا أحب<br />

العمل بها وتشكيلها.‏ قد تكون البداية محبطة<br />

للغاية.‏ ما أقوم به اآلن هو رعاية الفرن..‏ قد<br />

يبدو األمر جنونياً‏ لكنني معجبة به للغاية.‏<br />

ويعود األمر مرة أخرى إلى جتربة الطفولة،‏<br />

إذ كنت أعتقد بأن قيمة هذه األشياء تكمن يف<br />

صفاتها اجلمالية،‏ لكنني أدركت بأن قيمتها<br />

تنبع من متثيلها ألرضنا،‏ حيث أنها تعتبر<br />

جتسيداً‏ لألرض.‏ وإنني أحلم وأطمح أن أمتكن<br />

يف يوم ما من العمل باستخدام الطني العراقي،‏<br />

وآمل أن تتسنى لي الفرصة لذلك يف املستقبل<br />

القريب.‏<br />

‏)مايسة(:‏ من الواضح أن هناك تأثيراً‏ كبيراً‏<br />

لصناعة اخلزف عليك وعلى أعمالك الفنية.‏<br />

هل هناك أي فنانني متخصصني ممن<br />

تستلهمني من أعمالهم؟<br />

رند عبد اجلبار،<strong>حر</strong>كة رقم 3<br />

مشهد احلديقة 2019<br />

19


أم أن هذه التجربة كانت األولى لك يف هذا<br />

املجال؟<br />

‏)رند(:‏ لم أنخرط يف هذا املجال على اإلطالق،‏<br />

وقد اقتصر األمر على مشاركتي بورشتني<br />

أثناء طفولتي.‏ لكنني احتفظت دائما باهتمامي<br />

بهذه املواد،‏ وشاركت بورش عمل يف مجال<br />

صناعة اخلزف خالل السنوات التي سبقت<br />

هذا املشروع.‏ لقد وجهت تركيزي نحو هذا<br />

املجال مؤخراً‏ ، وعرضت لي جموعة واسعة<br />

من أعمالي اخلزفية يف متحف ‏»اللوفر«‏ يف<br />

أبو ظبي.‏ لديّ‏ اآلن نحو %60 من األعمال<br />

اجلديدة التي لم تعرض بعد.‏ الفكرة يف<br />

البداية اقتصرت على صنع بضع قطع،‏ لكن<br />

على نطاق أوسع لم تكن األعمال اخلزفية يف<br />

ذهني على اإلطالق.‏ بعد زيارتي إلى العراق،‏<br />

واملتحف،‏ والعديد من املواقع األخرى،‏ شعرت<br />

بذلك الرابط القوي ما بني املواد واألرض<br />

التي جتسدها،‏ فبدأت يف إعداد بعض<br />

الدراسات املبسطة عن اخلزف،‏ والتدقيق يف<br />

تلك املجسمات يف محاولة لالستلهام منها<br />

والتفكير يف األشكال وكيفية ترجمتها.‏ هنالك<br />

ذلك الشعور الغريب يف جسدك الذي يعكس<br />

نوعاً‏ من املعرفة املجسدة.‏ أعتقد بأن كل<br />

معارفنا مخزّنة ذهنياً،‏ إمنا تبدأين التفكير<br />

بذلك الشخص الذي كان موجوداً‏ قبل 4 آالف<br />

عام وكيف صنع تلك املجسمات،‏ فتشعرين<br />

فجأة بذلك الشعور من التقارب،‏ تشعرين بتلك<br />

احلركات واإلمياءات والتكرارات التي حتدث<br />

وكأنها جزء من سلسلة أكبر وأوسع.‏ ما سعيا<br />

18


رند عبد اجلبار،‏ منارة عانه 2019<br />

17


نظرتنا املستقبلية جتاه بلد نحبه كثيراً،‏ ونهتم<br />

به كثيراً،‏ ونرغب بأن نراه يتقدم نحو األفضل،‏<br />

وهو ما يدفعنا ألن نقدم األفضل من أجله.‏<br />

كان ذلك شعوري خالل عملي مع مشروع<br />

عانة وتعاوني مع السيد يوسف،‏ وإنها لتجربة<br />

رائعة العمل مع شخص ميتلك معرفة وخبرة<br />

كبيرتني،‏ وأنا لم أفعل شيئاً‏ يذكر مقارنة<br />

بجهوده الرائعة يف األرشفة،‏ بالرغم من تعرّض<br />

أرشيفه للسرقة من قبل القوات األميركية ما<br />

اضطره إلعادة جمعه مرة أخرى ألنهم كانوا<br />

يسرقون أجهزة احلاسوب اخلاصة به.‏ بالنسبة<br />

لي،‏ شعرت أن ما ميكنني فعله قد يساعد<br />

يف إيصال تلك الروايات إلى جمهور مختلف،‏<br />

وهو اجلمهور الذي لم يكن بوسعه الوصول<br />

إلى تلك املعلومات بأي حال من األحوال.‏ لم<br />

يكن بوسعي أكثر من إظهار التاريخ،‏ ودعوته<br />

للحديث عنه وضمان معرفة الناس به وإظهار<br />

قدرة املجتمعات احمللية على مواجهة شتى<br />

الصعوبات والتحديات الناشئة.‏ إن كان ليس<br />

مبقدوري الذهاب وتغيير واقع احلال يف مدينة<br />

عانة وجعلها مكاناً‏ أفضل للعيش،‏ فإن بوسعي<br />

على األقل إيصال القصة إلى اآلخرين.‏ كان<br />

مصدر فخر أن أمتكن من العمل يف العراق،‏<br />

وهذه ليست سوى البداية،‏ وأمتنى تقدمي املزيد<br />

لبلدي.‏ أنا أحلم باإلقامة هناك أو الذهاب إلى<br />

‏»بيت تركيب«‏ لتنظيم ورش عمل أو لإلسهام<br />

بأي عمل يف متحف العراق،‏ فأنا أعمل يف<br />

تدريس الترجمة الفورية يف املتاحف،‏ وأثار<br />

استغرابي يف زيارتي للمتحف العراقي من<br />

ترجمة ركيكة للوحات والالفتات املعروضة يف<br />

املتحف.‏ أثناء زيارتي كانت هناك مجموعة<br />

من األطفال يف زيارة مدرسية وكان ذلك أمراً‏<br />

ملهماً‏ للغاية،‏ إال أن املشكلة تكمن يف كيفية<br />

التنقل يف ذلك املكان.‏ إنه أمر صعب للغاية،‏<br />

فأنت ال تعلمني مع من ستتعاملني،‏ ويف الوقت<br />

نفسه ال تريدين أن تكوني شخصاً‏ دخيالً‏<br />

عليهم وتقولني لهم:«‏ دعوني أريكم الطريقة<br />

الصحيحة للعمل!«.‏ إن حتقيق التوازن السليم<br />

هو أمر صعب للغاية،‏ ولكني أعتقد بأنه ممكن<br />

يف حال وجود األشخاص املناسبني للتعاون<br />

والعمل عبر اكتساب ثقتهم واالستماع إليهم<br />

ومعرفة ما ميكن القيام به بشكل مشترك.‏<br />

بالرغم من ذلك ال بد لي أن أقول بأنني لم<br />

أخض تلك التجربة على نحو كامل،‏ فال يزال<br />

هنالك الكثير مما أود القيام به يف الوقت<br />

املناسب وبوجود األشخاص املناسبني.‏<br />

‏)مايسة(:‏ يعتبر مشروعك الذي يحمل اسم<br />

‏»عجائب األرض أساطير السماء«‏ مشروعاً‏<br />

رائعاً‏ حقاً‏ إذ يكشف عن القطع األثرية للعراق،‏<br />

وحتديداً‏ القطع اخلزفية،‏ ومن ثم قمت<br />

بصناعة املجسمات اخلزفية بعد إعداد بحثك،‏<br />

فهل كنت تعملني يف مجال فن اخلزف من قبل<br />

16


رند عبد اجلبار،‏ والنهر يغسل رجليه 2019<br />

15


الكثيرين،‏ وكانت جتربة ناجحة للبدء بشيء<br />

واحد فقط.‏ عندما تطلبني من شخص ما<br />

اختيار شيء واحد يعكس ارتباطه مبوطنه،‏<br />

فإنك تصلينه قبل كل شيء إلى ما يهم الناس.‏<br />

وتعد هذه املجسمات مبثابة رموز - أو قصص<br />

وذكريات،‏ لكن ما من شيء مينحها موقعها<br />

املادي احلقيقي،‏ ولذلك ال بد من تعزيز الصلة<br />

ما بني األشياء امللموسة والذكريات من أجل<br />

خلق جتربة حقيقية تسمح لك بالعودة إلى<br />

املاضي.‏<br />

‏)مايسة(:‏ حتى وإن لم تزوري ذلك املكان قط؟<br />

‏)رند(:‏ بالضبط،‏ فهذه املجسمات تتجاوز<br />

الزمن،‏ لقد كانت موجودة يف املاضي وال تزال<br />

موجودة يف الوقت احلاضر،‏ لذا،‏ فإن هذا<br />

التزامن هو العامل األساسي الذي مينحها<br />

قوتها وأهميتها.‏<br />

أما فيما يتعلق بسؤالك عن التجربة<br />

الشخصية،‏ فقد سبق أن ذكرت بأن مشروع<br />

عانة بدأ بتجربة شخصية،‏ وبالرغم من<br />

عدم رؤيتك لصورة جدي ضمن املشروع،‏<br />

وأنا يف الواقع ال أملك أي صور له يف عانة،‏<br />

إال أن التجربة ترتكز أساساً‏ على املستوى<br />

الشخصي.‏ أما مشروعي القادم فسيكون عن<br />

مدينة احلضر الذي ينبع هو اآلخر من جتربة<br />

شخصية على الرغم من ظهور ذلك املوقع<br />

يف بحوثي ملرات عدة،‏ ولطاملا صرفت النظر<br />

عنه كوني ال أفضل الهندسة املعمارية أو<br />

القطع األثرية نظراً‏ للصبغة األوربية السائدة<br />

عليها بسبب املزيج احلاصل ما بني التاريخني<br />

اإلغريقي والروماني.‏ أذكر أنني رأيت صور<br />

املدينة للمرة األولى يف أرشيف بيل وظننت<br />

بأنها مثيرة لالهتمام لكنني لم أكترث لها<br />

كثيراً،‏ ومن ثم ظهرت لي ثانية خالل بحثي<br />

عن أعمال جماعة ‏»داعش«‏ اإلرهابية ولم<br />

أكترث لها كذلك.‏ إال أن نقطة التحول بالنسبة<br />

لي قد كانت منذ أكثر من عام بقليل لدى<br />

وفاة عمي الذي كان عزيزاً‏ عليّ‏ وتربطني به<br />

عالقة مميزة،‏ وكنت أبحث يف ملفات الصور<br />

ومقاطع الفيديو اخلاصة بوالدي يف األيام التي<br />

أعقبت رحيل عمي ووجدت ملفاً‏ يحمل اسم<br />

‏»فيلم معاً«‏ وتبني لي عند تشغيله أنه التسجيل<br />

الذي أرسله عمي الراحل إلينا يف أواخر<br />

التعسينيات،‏ رمبا يف عام 1999، عن زيارتهم<br />

ملدينة احلضر.‏ لقد كان األمر أشبه برسالة<br />

بالنسبة لي،‏ لذلك حتى وإن كان اجلانب<br />

الشخصي غير ظاهر للعيان إال أنه دائماً‏ ما<br />

يكون حاضراً‏ بالنسبة لي.‏<br />

‏)مايسة(:‏ أخبريني عن جتربتك لدى صناعة<br />

القوالب يف العراق ملشروع ‏»..والنهر يغسل<br />

أقدامه«،‏ هل كنت مدركة لوضعك كعراقية<br />

تعيش يف بالد املهجر؟ وهل تعتقدين أن<br />

بإمكاننا تعزيز أطر التعاون فيما بيننا<br />

كمغتربني يف بالد الشتات والفنانني،‏<br />

واحلرفيني والباحثني احملليني يف العراق.‏<br />

وهل ترين بأن هناك طرقاً‏ أفضل لسد تلك<br />

الفجوات فيما بيننا؟<br />

‏)رند(:‏ أعتقد بأنني واجهت بعض الصعوبات.‏<br />

أتذكر حديثي مع زوجة ابن عمي ‏»سندس<br />

عبد الهادي«‏ حول هذا املوضوع إذ قالت<br />

لي:‏ « رند،‏ لقد سُ‏ رِ‏ قت منا بالدنا،‏ سواء<br />

من األشخاص الذي غادروها أو األشخاص<br />

الذين قرروا البقاء هناك،‏ وهذا هو القاسم<br />

املشترك بيننا«.‏ وأعتقد بأن ذلك احلديث<br />

أحدث تغييراً‏ بالنسبة لي،‏ إذ متكنت أخيراً‏ من<br />

إيجاد العامل املشترك بيننا والذي يكمن يف<br />

14


13


املياه بالكامل ما اضطر سكانها لالنتقال إلى<br />

مكان آخر.‏ كانت مثل احلكايات الشعبية.‏<br />

أما والدتي فمسقط رأسها بغداد،‏ ولم تزر<br />

مدينة عانة مطلقاً،‏ ولرمبا كان ذلك سبب<br />

عدم شعوري باالنتماء لتلك املدينة.‏ أما عندما<br />

بدأت أبحث يف املوضوع،‏ فقد تبني لي شيئاً‏<br />

فشيئاً‏ أنه لم يكن مجرد موقع تعرض للتدمير<br />

من قبل جماعة ‏»داعش«‏ اإلرهابية،‏ إذ إن<br />

هذه املنارة نُقلت يف ثمانينيات القرن املاضي<br />

لغايات بناء السد،‏ وقد تعرضت للتدمير من<br />

قبل جماعة القاعدة يف عام 2006 ثم أعيد<br />

بناؤها وتدميرها مرة أخرى،‏ وال توجد أي<br />

مصادر توثق ذلك،‏ ال توجد أي معلومات سوى<br />

بعض الصور على شبكة اإلنترنت،‏ ثالث منها<br />

تعود ألرشيف ‏»غيرترود بيل«‏ منذ عام 1909.<br />

وهنا بدأت يف مراسلة معاريف يف العراق<br />

وسؤالهم عما إذا كانوا يعرفون أي شخص<br />

يف مدينة عانة،‏ ويعرف هذه القصة.‏ كنت<br />

أريد أن أعرف املزيد عنها؟ وقد تصادف<br />

أن دلني أصدقاء أصدقائي على عالم آثار<br />

يدعى ‏»يوسف الدهام«‏ علمت أنه شارك يف<br />

هذا املشروع،‏ فتواصلت معه وقلت له:‏ ‏»لقد<br />

توصّ‏ لت إلى هذه القصة،‏ فهل لديك املزيد من<br />

املعلومات؟«.‏ اتضح لي بأن له دورأ جوهرياً‏<br />

وهاماً‏ نظراً‏ لعمله يف دائرة اآلثار يف مدينة<br />

عانة لدى وقوع االنفجار يف عام 2006، بل إنه<br />

كان الرجل األساسي الذي قاد جهود إعادة<br />

البناء مببادرة شخصية منه،‏ إذ لم يكن هنالك<br />

أي دعم حكومي – ولقد حصلوا على منحة<br />

مالية بسيطة،‏ لكن لم يكن هناك أي اهتمام<br />

باملبادرة بحد ذاتها.‏ أطلعني السيد يوسف على<br />

جميع مراحل عملية إعادة البناء،‏ وعلى تاريخ<br />

املنارة،‏ كما أخبرني بأن لديه صوراً‏ ووثائق<br />

خاصة عن هذا املوضوع.‏ عندها قررت القيام<br />

بزيارة العراق.‏ ذهبت يف عام 2018 والتقيته يف<br />

متحف العراق حيث قمنا بجولة كاملة لالطالع<br />

على تاريخ العراق ثم مشينا بجوار النموذج<br />

املصغر ملنارة مدينة عانة.‏ يف وقت الحق من<br />

عودتنا إلى املنزل،‏ أحضر جهاز احلاسوب<br />

احملمول خاصته وأطلعني على مجموعة واسعة<br />

من الوثائق والصور تضمنت أدق التفاصيل،‏<br />

مبا يف ذلك صورة إلشعار الدفع مقابل<br />

استخدام املنشار لتقطيع املنارة إلى أجزاء لدى<br />

نقلها.‏<br />

فكرت:‏ ‏»ماذا علي أن أفعل بكل تلك الوثائق؟«.‏<br />

يف هذه األثناء تقريباً،‏ تواصل معي مركز<br />

جميل للفنون ملعرفتهم بقيامي بهذا البحث<br />

يف العراق،‏ وأخبروني بأنهم باشروا برنامجاً‏<br />

جديداً‏ يسمى ‏»حلقات املكتبة«.‏ كانت فرصة<br />

بالنسبة لي لتفحص هذا احملتوى،‏ وفهمه،‏<br />

وفهرسته،‏ وحتليله وتنظيم عرض أولي له.‏ كما<br />

قمنا بتوجيه الدعوة للسيد يوسف لزيارة دبي<br />

للحديث أكثر عن تلك املنارة،‏ وعن التحديات<br />

التي تواجه املختصني يف توثيق التراث يف<br />

املناطق التي تشهد نزاعات.‏ وقد أخبرني<br />

بوجود املئات من التالل التي لم يجر التنقيب<br />

فيها وتفحصها بعد،‏ وكيف يقوم أحد احلراس<br />

مبراقبة 50 منها لوحده!‏<br />

علمت بأن املنارة قد حتولت إلى أنقاض<br />

لدى تدميرها،‏ ولم يتبق منها سوى احملاريب<br />

املنحوتة على واجهتها،‏ وهي العنصر<br />

املعماري األكثر أهمية ومتيزاً.‏ وأشار السيد<br />

يوسف إلى صناعة هذه القوالب لتغطيتها<br />

وحفظها وهي قوالب ال تزال موجودة.‏<br />

لقد استحوذت تلك القوالب على اهتمامي<br />

باعتبارها البقايا الوحيدة من املنارة،‏ وقررت<br />

أن أعيد استخدامها لصنع مشروع مدينة<br />

عانة للمشاركة يف معرض التراث الذي جرى<br />

تنظيمه خالل ‏»حلقات املكتبة«.‏ لذلك عدنا إلى<br />

العراق وأعدنا تشكيل القوالب،‏ وكانت الفكرة<br />

هي إيجاد نسختني لتبقى إحداهما يف عانة<br />

فيما تستخدم النسخة األخرى لغايات املعرض.‏<br />

كنت أتفحص قوالب اجلبس املعروضة يف<br />

متحف ‏»فيكتوريا وألبرت«‏ وكيف مت البحث<br />

عن قوالب اجلبس بعد سنوات طويلة لتكرار<br />

النسخ األصلية عند جتديد املواقع.‏ لقد<br />

أصبحت فكرة صناعة القوالب ذات أهمية،‏<br />

وعرضت ذلك العمل من خالل مقطعني<br />

مصورين أحدهما لرجل يصطحب أطفاله إلى<br />

ضفة النهر ويحدثهم عن املنارة قبل شهرين<br />

من تعرّضها للغمر باملياه.‏ وقد بدا األمر كأنه<br />

ينقل هذه املعرفة ويتأكد من احتفاظ أطفاله<br />

باملعلومات املتصلة بهذه األيقونة يف ذاكرتهم<br />

قبل نقلها إلى موقع آخر،‏ حيث كان الرجل<br />

يغني مقطعاً‏ حزيناً‏ يتحدث عن اخلسارة.‏<br />

أما املقطع الثاني فيتضمن لقطات تصور<br />

ارتفاع منسوب املياه التي أغرقت املدينة ولم<br />

يتبق أي شيء منها واضحاً‏ للعيان سوى قمم<br />

أشجار النخيل..‏ وكان ذلك مدهشاً!‏ لقد فقد<br />

السكان مدينتهم مثلما فقدوا أسلوب حياتهم،‏<br />

واملنارة هي الشيء الوحيد الذي بقي لهم من<br />

مدينتهم،‏ وهذا ما يفسر تعلقهم بها و<strong>حر</strong>صهم<br />

على إعادة بناءها.‏ إال أن ذلك األمر مزعج لي<br />

على الصعيد الشخصي على الرغم من تفهمي<br />

لوجهة نظر املجتمع لها.‏ فنحن إزاء عملية<br />

إعادة بناء إلعادة بناء سابقة يف ظل غياب أي<br />

صلة مادية أو تاريخية،‏ واألمر يقتصر على<br />

إعادة إنشاء صورة ملا كان موجوداً‏ من قبل.‏<br />

‏)مايسة(:‏ هل شعرت بأي نوع من التضارب<br />

لدى تعاملك مع األرشيف،‏ ال سيما األرشيف<br />

اخلاص بعائلتك،‏ مبا يشعرك بضرورة فصل<br />

اجلانب الشخصي عن اجلانب العملي أم أنه<br />

مشابه للقصة اجلماعية؟ هل تشعرين باالرتياح<br />

بكون أرشيف عائلتك وقصتها جزءاً‏ من ذلك<br />

التاريخ؟<br />

‏)رند(:‏ أعتقد بأن اجلانب املرئي كان ظاهراً‏<br />

كثيراً‏ يف البداية،‏ ويتضمن مشروعي الذي<br />

حمل اسم ‏»ترميمات«‏ الكثير من املالمح<br />

الشخصية،‏ لكنها بالتأكيد غير ملحوظة مثل<br />

رائحة الغاردينيا وما تشكله من أهمية ألمي<br />

حني تعود لذكرياتها يف حديقة املنزل،‏ أو<br />

ذلك املجسم لكتف والدي الذي يحمل صورة<br />

أجدادي.‏ ميكن القول بأن املساحة الشخصية<br />

كانت موجودة إال أنها كانت بارزة يف ذلك<br />

العمل بالتحديد،‏ وإن لم تكن مرئية أبعد من<br />

ذلك.‏ أما يف مشروع مهرجان ‏»شباك«،‏ فطُ‏ لب<br />

مني التعاون مع اجلالية العراقية يف لندن،‏<br />

وتساءلت كثيراً‏ كيف ميكنني فعل ذلك وأنا<br />

ال أمثل جزءاً‏ منها.‏ كانت تلك اللحظة التي<br />

أعادتني لذاكرة الطفولة..‏ إذ تذكرت أموراً‏<br />

شخصية للغاية عن نشأتي يف منزل يحتفظ<br />

بتلك األشياء التي تعني لي الكثير،‏ حتى وإن<br />

كانت مجرد مجسمات مصنوعة من الطني أو<br />

كتاب لوصفات الطهي،‏ أو أي شيء آخر.‏ قررت<br />

التعامل مع ذلك املشروع من جتربة شخصية<br />

بحتة وثرية يف الوقت نفسه لدرجة تأثيرها يف<br />

رند عبد اجلبار،‏ مناذج ابداعية متنوعة<br />

12


رند عبد اجلبار،‏ تنقيبات<br />

11


‏)مايسة(:‏ ضمن عملك يف مشروع ‏»عانة«‏<br />

ومشروع « أعمال اعترافية - مشاهد مما<br />

جنا«‏ وغيرها من أعمالك،‏ كنت تتعاملني مع<br />

الصور الفوتوغرافية،‏ واملجسمات،‏ وجميع<br />

أنواع األرشيف.‏ هل كنت تبحثني يف أرشيفات<br />

غير تلك اخلاصة بعائلتك؟ كيف قمت بهذا<br />

البحث؟ هل كنت برفقة أفراد من عائلتك<br />

ليشرحوا لك عن العراق كموطن لك؟ وما سبب<br />

تركيزك على مشروع ‏»عانة«؟<br />

‏)رند(:‏ بدأ األمر بأرشيف العائلة،‏ لكنني كنت<br />

مهتمة بجمع أي مادة متاحة بأي شكل من<br />

األشكال سواء كانت صوراً‏ قدمية من العراق<br />

متت مشاركتها عبر املنصات األلكترونية مثل<br />

‏»تويتر«‏ و«فيسبوك«،‏ أو بالبحث يف مصادر<br />

رسمية كأرشيف ‏»غيرترود بيل«‏ والذي شكّل<br />

مصدراً‏ يف غاية األهمية بالنسبة لي،‏ متاماً‏<br />

كاملكتبة البريطانية التي تعتبر مصدراً‏ يحظى<br />

باألهمية.‏<br />

بدأت رحلتي باستخدام املصادر الشخصية،‏<br />

لكنني أعتقد بأن حلظة االنفتاح جاءت بفضل<br />

مشروع ‏»عانة«‏ وعلى ضوء الوقت الذي<br />

أمضيته بالتمعن يف القطع األثرية على مرّ‏<br />

السنوات،‏ إذ ال ميكنك النظر إليها وتفحصها<br />

دون التفكير باألحداث التي أحاطتها،‏ سواء<br />

ما تعلق بعمليات النهب التي حصلت يف عام<br />

2003، أو حالة التدهور التي عاشها الوطن،‏<br />

أو اخلراب الذي أحدثته جماعة ‏»داعش«‏<br />

اإلرهابية،‏ وما يخطر على البال من تساؤالت<br />

بشأن إمكانية الرجوع إلى الوطن األم.‏ يف ذروة<br />

انتشار جماعة ‏»داعش«‏ اإلرهابية يف عام 2018<br />

وما تسببت به من أحداث يف مدينة املوصل،‏<br />

انتابني الفضول ملعرفة مدى الضرر احلاصل،‏<br />

فبدأت بالبحث يف قائمة طويلة من املباني أو<br />

املواقع التاريخية املتضررة ومن ضمنها منارة<br />

مدينة عانة.‏<br />

كان اجنذابي واهتمامي بتلك املنارة شخصياً‏<br />

بحتاً،‏ إذ أن جدي ينحدر من تلك املدينة،‏<br />

وكنت أعرف احلكاية الشهيرة لهذه املدينة<br />

اجلميلة الواقعة على النهر والتي غمرتها<br />

10


املجسمات الصغيرة التي عرضناها،‏ ولقد<br />

أصبحت منذ ذلك احلني شديدة االهتمام بهذا<br />

املجال.‏ بدأت بزيارة املتاحف وتفحص تلك<br />

املجسمات وأتفاعل معها على أرض الواقع،‏<br />

تصادف ذلك مع قبولي يف برنامج منحة ساملة<br />

حساباتي األخرى الشخصية التي أصبحت<br />

جماعية ومشتركة يف عملي.‏ تعمل تلك<br />

احلسابات يف بعض األحيان جنباً‏ إلى جنب،‏<br />

مثلما هو احلال مثالً‏ يف مشاريع مدينة ‏»عانة«‏<br />

projects“ ”Anah التي تضم حساباً‏ مؤرخاً‏<br />

بنت حمدان للفنانني الناشئني،‏ وكان يراودني<br />

آنذاك شعور بأنني ال أرى نفسي كفنانة بل<br />

كمصممة – ومهندسة معمارية.‏ هذا البرنامج<br />

أسهم يف فتح أفق جديدة بالنسبة لي نبع من<br />

جتربة شخصية بحتة،‏ وذلك عندما بدأت يف<br />

البحث بأرشيف صور عائلتي ومحاولة فهم<br />

الصلة احلقيقية التي تربطني بذلك املكان.‏<br />

بدأت أفكر يف التاريخ والذاكرة بوصفهما أبرز<br />

عاملني متوازيني يف عملي،‏ فهنالك احلسابات<br />

التاريخية املوثّقة واملؤرشفة باإلضافة إلى<br />

إضافة الستقطاب أصوات املجتمع من خالل<br />

أرشفة تاريخ األسر املشاركة يف املشروع<br />

والصور التي يشاركونها ملدينتهم القدمية.‏ من<br />

هنا حدث تقدّم طبيعي يف هذا املشروع ما أتاح<br />

لي الحقاً‏ فرصة التفاعل مع مكان ذي أهمية<br />

بالنسبة لي،‏ بالرغم من أنني منفصلة عنه<br />

وشعوري بعدم امتالكي احلق بزيارته واالنتماء<br />

إليه.‏ أشعر بأن الكثير من عملي ميثل محاولة<br />

لتخصيص مساحة لي للتفاعل مع مكان يعني<br />

الكثير بالنسبة لي.‏<br />

رند عبد اجلبار 2020<br />

9


وفنها،‏ سواء كان هذا التحول مقصوداً‏ أو<br />

غير مقصود؟ وكنت قد ذكرت سابقاً‏ بأنك لم<br />

تدخلي العنصر العراقي يف أعمالك الفنية قبل<br />

عام 2016، فما الذي حدث؟<br />

‏)رند(:‏ كنت يف املراحل النهائية الستكمال<br />

دراستي يف مدينة نيويورك وخطّ‏ طت للعودة<br />

إلى دولة اإلمارات العربية املتحدة فيما بعد.‏<br />

تقدمت لالشتراك يف أحد برامج التصميم بناء<br />

على نصيحة قدّمت لي،‏ وكان البرنامج مشابهاً‏<br />

ملشروعي الفني األول يف مجال تطوير تصميم<br />

األثاث.‏ ويف ضوء ذلك،‏ كان االنتقال من مجال<br />

الهندسة املعمارية إلي مجال التصميم مبثابة<br />

أولى نقاط التحول.‏ إضافة لذلك،‏ أنا أدرك أن<br />

هنالك العديد من العوائق واحلدود الفاصلة<br />

بني مختلف التخصصات،‏ لكن،‏ بناء على وجهة<br />

نظر ‏»زها حديد«،‏ وهي املهندسة املعمارية<br />

الوحيدة التي تشرفت بالعمل والتدرب حتت<br />

إشرافها مرتني طوال مرحلة دراستي يف لندن،‏<br />

فإن قناعتها التامة بفكرة املرونة وإمكانية<br />

حتقيق التحول والتطوير كانت واضحة بالنسبة<br />

لي،‏ فسواء كان هدفك تصميم حذاء عادي أو<br />

مخطط شمولي،‏ فثمة لغة معينة عابرة على<br />

مختلف املستويات.‏ كانت تلك الفكرة مميزة<br />

بالفعل،‏ وقد ظلّت يف ذهني طوال الوقت،‏<br />

لذلك،‏ ميكنني القول بأن ذلك التحول كان<br />

سهالً‏ للغاية.‏ فضالً‏ عن ذلك،‏ فإذا ما نظرنا<br />

حلقول الهندسة املعمارية،‏ والتصميم،‏ والفن،‏<br />

جند إن ما هو مشترك بني هذه احلقول<br />

املختلفة هو ‏»التصميم«.‏ أليس كذلك؟ إنه نوع<br />

من أنواع العمل الذي تقومني به سواء كان<br />

عمالً‏ فنياً،‏ أو تصميم مبنى،‏ أو قطعة أثاث.‏<br />

وبعبارة أخرى،‏ ثمة فعل يقوم على ترجمة فكرة<br />

ورؤيتها وتنفيذها وهو ما ينطبق على جميع<br />

تلك األعمال.‏<br />

إزاء ذلك لم أكن منخرطة حقاً‏ باألمور<br />

اخلاصة ببلدي العراق بخالف كتابة املقاالت<br />

وإعداد البحوث.‏ كنت أكتب يف مجال الهندسة<br />

املعمارية،‏ وعن أشكال العنصرية والتفريق التي<br />

سادت أحياء بغداد يف أعقاب الغزو ومواضيع<br />

أخرى مشابهة.‏ كتبت عن أوجه التشابه ما<br />

بني دولتي اإلمارات العربية املتحدة والعراق،‏<br />

وأعددت مقارنة ما بني العراق يف خمسينيات<br />

القرن املاضي واإلمارات العربية املتحدة يف<br />

العقد األول من القرن احلادي والعشرين يف<br />

ظل إطالق منطقة السعديات الثقافية وبعض<br />

اخلطط األخرى التي أسهم فيها فرانك لويد<br />

رايت يف عراق العهد امللكي.‏ على نحو وآخر<br />

كنت متواجدة دوماً،‏ إال أن تواجدي لم يحصل<br />

بالفعل حتى عام 2016 عندما جرى دعوتي<br />

مع الفنان الكردي العراقي ‏»هوزان زينغانا«‏<br />

املقيم يف مدينة أمستردام لتنسيق اجلناح<br />

العراقي ملعرض أبواب ضمن فعاليات أسبوع<br />

دبي للتصميم.‏ كان األمر مخيفاً‏ إلى حد ما<br />

لشعوري بالبعد الكبير عن العراق،‏ إذ أنني<br />

تركت موطني يف عام 1995، فتساءلت عما<br />

ميكن استخدامه من أساليب التصميم املناسبة<br />

يف هذا الشأن.‏ أعتقد أن هوزان كان يشاطرني<br />

الشعور ذاته،‏ إال أن العامل املشترك فيما بيننا<br />

هو الرؤية للبالد بحد ذاتها،‏ وليس النظر إليها<br />

باملفهومني االجتماعي والسياسي،‏ بل النظر<br />

إلى األرض وعلم اآلثار وما اكتشفته احلفريات<br />

عن أرض العراق.‏ أعتقد بأننا كعراقيني<br />

نتشارك جميعاً‏ بالفخر واالعتزاز مباضينا<br />

القدمي واحلضارات الناشئة على أرضنا،‏<br />

على الرغم من اختالفاتنا،‏ ومذاهبنا،‏ ولغاتنا،‏<br />

ومعتقداتنا.‏ لذلك بدأ بحثنا من دارسة صور<br />

القطع األثرية واحلوار الذي ميكن أن يحدث<br />

ضمن أطر مختلفة وأشكال متكررة،‏ أشكال<br />

يتردد صداها ونحن نحاول إعادة تصور اللغة<br />

األصلية القادمة من ذلك التراث.‏<br />

لقد قمنا بتقدمي بالدنا وعرضها كبقعة من<br />

األرض جرى نقلها وتصويرها من خالل تلك<br />

8


رند عبد اجلبار،<strong>حر</strong>كة رقم 2<br />

تسلق العنب.‏ 2019<br />

حوار مع الفنانة رند عبد اجلبار<br />

الطريق السالك ما بني الهندسة املعمارية والتصميم والكتابة واخلزف<br />

أجرت هذه املقابلة معها مايسة كافل حسني باللغة االنكليزية عبر تطبيق<br />

‏»زوم«‏ يف شهر نوفمبر / تشرين الثاني <strong>2022</strong>.<br />

ولدت رند عبد اجلبار يف مدينة بغداد عام 1990، وترعرعت يف مدينة أبو ظبي،‏ وحظيت<br />

بشهرة عاملية كفنانة متعددة التخصصات.‏ حازت على درجة البكالوريوس يف التصميم البيئي<br />

من ‏»جامعة دالهوزي«‏ يف كندا يف عام 2011، ودرجة املاجستير يف الهندسة املعمارية من ‏»جامعة<br />

كولومبيا«‏ يف نيويورك يف عام 2014. كما عملت يف الفترة ما بني األعوام – 2014 2017 ضمن<br />

اجلناح اإلماراتي يف معرض ‏»بينالي البندقية«،‏ وحصلت على منحة ساملة بنت حمدان للفنانني<br />

الناشئني يف عام 2016. شاركت رند كذلك يف برنامج تشكيل تنوين للتصميم ما بني عامي 2014<br />

– 2015 إضافة ملشاركتها يف برنامج التوجيه الفني التابع ملجموعة أبو ظبي للثقافة والفنون يف<br />

عام 2016.<br />

عرضت الفنانة عبد اجلبار أعمالها الفنية على مستوى العالم من خالل مشاركتها يف معرض<br />

الرباط الفني،‏ ومعرض الهندسة املعمارية يف نيو أورليانز،‏ ومركز جميل للفنون يف دبي،‏ فضالً‏<br />

عن مشاركتها مؤخراً‏ يف إدارة سلسلة من ورش العمل الفنية بالتعاون مع مهرجان ‏»شباك«،‏<br />

ومن ثم مشاركتها مبنحوتة يف حديقة تشيلسي فيزيك يف لندن حتت عنوان ‏»أعمال اعترافية<br />

– مشاهد مما جنا«.‏ كما شاركت يف تنظيم وتصميم اجلناح العراقي يف معرض أبواب خالل<br />

فعالية أسبوع دبي للتصميم يف عام ،2016 فضالً‏ عن مشاركتها يف معارض يف كل من سنغافورة<br />

وأبو ظبي إضافة لترشيحها للمشاركة يف ورشة عمل املصممني اخلليجيني والتي جرى تنظيمها<br />

بالشراكة ما بني متحف فيكتوريا وألبرت واملجلس البريطاني يف عام 2018. عالوة على ذلك<br />

نشرت مقاالتها األكادميية عدة مرات يف منشورات مختلفة،‏ كما أنها تعمل بدوام كامل بدائرة<br />

الثقافة والسياحة يف أبو ظبي يف مجال تطوير برامج فنية تدريبية إضافة لتصميم نشاطات<br />

التوعية املختلفة.‏ ويف الوقت احلاضر،‏ يجري عرض مجموعة أعمال الفنانة رند عبد اجلبار<br />

بعنوان « عجائب األرض أساطير السماء«‏ يف<br />

متحف اللوفر يف أبو ظبي ضمن إطار املعرض<br />

اجلماعي ‏»الفن اليوم <strong>2022</strong>«.<br />

‏)مايسة(:‏ لقد قرأت وشاهدت العديد من<br />

مقابالتك وقرأت الكثير عن أعمالك،‏ إال أنني<br />

ال أعلم الكثير عن طفولتك.‏ هل كنت حتبني<br />

الفن؟ وهل كنت مهتمة بالفن العراقي خالل<br />

أي من مراحل طفولتك؟<br />

‏)رند(:‏ أعتقد أن أهم ذكريات طفولتي تكمن<br />

يف النشأة يف بالد املهجر،‏ حيث ميأل والديك<br />

املنزل مبختلف األغراض املصنوعة من<br />

السيراميك،‏ واملنسوجات والفضيات وغيرها<br />

من األغراض القادمة من العراق والتي<br />

تصور موطني األصلي – وهو األمر الذي<br />

كنت أفكر به ملياً‏ وأكتب عنه كثيراً،‏ فضالً‏<br />

عن تأثيره على العديد من أعمالي،‏ مبا يف<br />

ذلك مشروعي الفني يف مهرجان ‏»شبّاك«‏ يف<br />

لندن.‏ كانت التُحف املصنوعة من السيراميك<br />

مميزة بالنسبة لي،‏ وكنت ألعب بها وأملسها<br />

وأتخيل املكان البعيد الذي جاءت منه.‏ لذلك<br />

ليس بوسعي القول إنني كنت مطلعة على<br />

الفن العراقي،‏ بل إن األمر كان أشبه باالطالع<br />

على املجال احلريف من خالل هذه األغراض.‏<br />

هل تعرفني تلك املنسوجات الشرقية حيث<br />

يكون لكل قرية نقشاً‏ خاصاً‏ بها؟ أنا من أشد<br />

املعجبني بها اآلن،‏ وقد بدأت بجمعها.‏ أعتقد<br />

أنها،‏ لرمبا،‏ مثّلت أول اطالع لي على الفن<br />

العراقي ودائماً‏ ما كنتُ‏ أربطها باخلزفيات<br />

التي رجع ارتباطي بها بعد سنوات عديدة.‏<br />

كنت طفلة مبدعة..‏ أخذت دروساً‏ يف صنع<br />

اخلزف يف املركز الثقايف،‏ وكنت أرسم،‏ لكنني<br />

نشأت يف بيئة ومكان حيث لم أعتقد بإمكانية<br />

متابعتي للفن كمهنة حقيقية.‏ ونظراً‏ ملوهبتي،‏<br />

جرى تشجيعي على دراسة الهندسة املعمارية،‏<br />

وأتذكر جيداً‏ أن ‏»زها حديد«‏ كانت أول<br />

شخصية عراقية ملهمة بالنسبة لي،‏ ليس من<br />

خالل أعمالها املعمارية،‏ بل من خالل لوحاتها<br />

التي استحوذت على مخيلتي،‏ ولم يكن لها<br />

مثيل على اإلطالق،‏ إذ كان أسلوبها يف إعادة<br />

رسم العالم مذهالً‏ للغاية،‏ ألغى أنواع من<br />

املفاهيم السابقة ملاهية الهندسة املعمارية وما<br />

ميكن أن تكون.‏<br />

‏)مايسة(:‏ متى قمت بهذا التحول من<br />

التخصص يف مجال الهندسة املعمارية<br />

البحتة إلى دراسة ثقافة بالد ما بني النهرين<br />

7


6


مايسة كافل حسني:‏ حوار مع رند عبد اجلبار،‏ الطريق السالك ما بني الهندسة<br />

املعمارية والتصميم والكتابة واخلزف<br />

عمار داود:‏ عادل عابدين ومكائد حتوّل هويّات األشياء ووظائفها!‏<br />

حوار مع الفنان املفاهيمي وفاء بالل<br />

صورة الغالف لرند عبد اجلبار:‏ تنقيبات 2016<br />

لوحة الغالف االخير:‏ منوذج من رسوم جدران نفق<br />

الت<strong>حر</strong>ير،‏ بغداد والفائزة بجائزة متيز للفن العام<br />

ملف فنون املستقبل،‏ نصوص بقلم تغريد هاشم<br />

حوار مع جنان العاني:‏ مساعي البحث عن احلقيقة املغيبة<br />

عادل عابدين:‏ املجاز والتهكم إزاء عالم زاخر باملفارقات<br />

محمود العبيدي:‏ وصفات للمرور أمام الشرطة العنصرية مرفوع الهامة<br />

محمد الشمري:‏ على رقعة الشطرجن،‏ امللوك هم اول وآخر الناجني.‏<br />

صادق كويش:‏ أهذا أنت .. الظل الطويل الذي ينحني من فرط ابتعاده،‏<br />

أم هو قرينك،‏ أم هو خيالك املرسوم؟<br />

الصريح والغامض واملبتكر يف االستعارات البصرية<br />

جائزة ضياء العزاوي للفن العام<br />

شهد الراوي : فنانو نفق الت<strong>حر</strong>ير<br />

ميسون الدملوجي تكتب عن الرسوم على اجلدران ( نصب الفنان الثائر(‏<br />

يف متابعة لالعمال اجلديدة،‏ حتاور مايسة كافل حسني املعمارية رند عبد اجلبار.‏<br />

وتقدم تغريد هاشم افتتاحية هذا العدد كما يلي:‏<br />

ثمة إمكانيات الفتة للنظر والتأمل وفّ‏ رتها تقنيات وأساليب مبتكرة منذ مطلع املنتصف<br />

الثاني من القرن العشرين جرى دمجها يف الفنون البصرية،‏ وأخذت على عاتقها تطوير<br />

طرق اإلنشاء والتعبير البصري،‏ وأمدته بآفاق مازلنا نتابع تطوراتها.‏ املقصود بهذه<br />

التقنيات واألساليب أفالم الفديو والصور املت<strong>حر</strong>كة والفن التركيبي،‏ ومجموعة اخلطابات<br />

املنبثقة منها ومن جتاربها التي تتحدث عن املشاركة والتأويل وتطوير الفهم املشترك<br />

لعاملنا املعقد.‏<br />

يقدم هذا العدد من مجلة ‏)<strong>ماكو</strong>(‏ نصوصاً‏ تتناول هذه التطورات اجلديدة للفنون الغربية،‏<br />

التي تخطت التصورات التقليدية الشائعة للفن،‏ وقدرته على التغيير،‏ باعتماد أساليب<br />

ووسائط جديدة،‏ هدفها بث روح تغييرية تتطلع إلى خطاب أكثر فعالية وجدوى.‏<br />

إزاء ذلك يتناول هذا العدد جتارب مجموعة منتخبة من الفنانني العراقيني،‏ استخدموا<br />

هذه التقنيات ومصاحباتها اخلطابية بعد أن كانت حكراً‏ على الفنان الغربي دون سواه.‏<br />

هؤالء الفنانون العراقيون يسهمون اليوم،‏ بال شك،‏ يف تشكيل خطاب عصرنا الراهن،‏ كال<br />

من رؤيته اخلاصة.‏<br />

واحلال إن كسرهم لالحتكار التقني وإنتاجيتهم املتواصلة القائمة على عرض رموزهم<br />

ورؤاهم الشخصية وخلفياتهم الثقافية وتأريخ بلدهم باتت معروفة عاملياً،‏ وهي تقدم<br />

قضايا ال تعرفها التجارب الغربية ولوناً‏ من ألوان اخلطابات امللهمة واملؤثثة بحياة وجتارب<br />

من نوع آخر.‏<br />

لقد اتخذت جتارب الفنانني العراقيني يف هذا احلقل مسارات هامة تناولت اجلانب<br />

السياسي واالجتماعي والتاريخي والوجودي للحياة العراقية بثقافتها العريقة ومشاكلها<br />

السياسية وغرائبها،‏ وعناصرها املغيّبة أو املهمشة من قبل السلطة السياسية واالمبريالية،‏<br />

فضالً‏ عن انشغاالت شخصية فردية.‏<br />

واملتابع ألعمال فنانني مثل جنان العاني وعادل عابدين وغيرهما،‏ تؤكد هذا التشخيص،‏<br />

ما استدعت من ‏»<strong>ماكو</strong>«‏ تخصيص عددها لهذه التجارب.‏


<strong>2022</strong>- 4<br />

السنة الثالثة.‏ العدد الرابع.كانون االول <strong>2022</strong>

Hooray! Your file is uploaded and ready to be published.

Saved successfully!

Ooh no, something went wrong!