23.10.2014 Views

د. هيا بنت علي النعيمي د. نـــــــادر كاظــــــــم د. جمال ... - جامعة البحرين

د. هيا بنت علي النعيمي د. نـــــــادر كاظــــــــم د. جمال ... - جامعة البحرين

د. هيا بنت علي النعيمي د. نـــــــادر كاظــــــــم د. جمال ... - جامعة البحرين

SHOW MORE
SHOW LESS

Create successful ePaper yourself

Turn your PDF publications into a flip-book with our unique Google optimized e-Paper software.

العدد ‎2011‎م / 24<br />

رئيس التحرير<br />

د.‏ هيا بنت علي النعيمي<br />

مدير التحرير<br />

د.‏ نادر كاظم<br />

هيئة التحرير<br />

اأ.‏ د.‏ باقر النجار د.‏ جمال عبدالعظيم<br />

اأ.‏ د.‏ عدنان زرزور د.‏ فاتن مرسي<br />

د.‏ حممد السيد خمتار<br />

الهيئة الستشارية<br />

اأ.‏ د.‏ باقر النجار<br />

اأ.‏ د.‏ جابر عصفور<br />

اأ.‏ د.‏ عبداهلل الغذامي<br />

اأ.‏ د.‏ فاطمة املرنيسي<br />

اأ.‏ د.‏ فريال غزول<br />

عضواً‏<br />

عضواً‏<br />

عضواً‏<br />

عضواً‏<br />

عضواً‏<br />

املشرف الفني<br />

اأ.‏ حممود بحلوس<br />

‏سكرتري التحرير<br />

ياسر عثمان<br />

الإخراج الفني<br />

السيد جعفر حميد<br />

املدقق اللغوي<br />

د.‏ عيسى الوداعي


ثمن العدد<br />

البحرين<br />

دول جملس التعاون<br />

جمهورية مصر العربية<br />

الدول العربية الأخرى<br />

الدول الأخرى<br />

1.5 ديناراً‏ بحرينياً‏<br />

6 دولرات اأمريكية<br />

دولر اأمريكي<br />

دولران اأمريكيان<br />

8 دولرات اأمريكية<br />

قسيمة االشرتاك<br />

تصدر املجلة مرتني يف السنة،‏ ويدفع الشرتاك بالدينار البحريني اأو ما يعادله<br />

ويرسل اإىل<br />

جملة ثقافات - كلية الآداب - جامعة البحرين - ‏ص.ب:‏ 32038<br />

الرجاء اعتماد اشرتاكي يف املجلة وملدة:‏<br />

‏سنة واحدة<br />

‏سنتان<br />

للأفراد<br />

البحرين<br />

دول جملس التعاون<br />

الدول العربية<br />

الدول الأخرى<br />

‏سنة واحدة 4 د.‏ ب<br />

‏سنة واحدة 5 د.‏ ب<br />

‏سنة واحدة 6 د.‏ ب<br />

‏سنة واحدة 8 د.‏ ب<br />

‏سنتان 8 د.‏ ب<br />

‏سنتان 10 د.‏ ب<br />

‏سنتان 12 د.‏ ب<br />

‏سنتان 16 د.‏ ب<br />

للموؤسسات<br />

البحرين<br />

دول جملس التعاون<br />

الدول العربية<br />

الدول الأخرى<br />

‏سنة واحدة 5 د.‏ ب<br />

‏سنة واحدة 6 د.‏ ب<br />

‏سنة واحدة 6 د.‏ ب<br />

‏سنة واحدة 8 د.‏ ب<br />

‏سنتان 10 د.‏ ب<br />

‏سنتان 12 د.‏ ب<br />

‏سنتان 12 د.‏ ب<br />

‏سنتان 16 د.‏ ب<br />

اسم املشرتك وعنوانه<br />

السم:‏ املهنة:‏<br />

العنوان:‏<br />

تدفع الشرتاكات بشيك لأمر جملة ثقافات - كلية الآداب - جامعة البحرين على اأحد املصارف<br />

البحرينية اأو بتحويل مصريف اإىل حساب رقم )88500802( لدى بنك البحرين الوطني.‏<br />

املوزع يف البحرين والوطن العربي:‏<br />

موؤسسة الأيام للطباعة والنشر والتوزيع<br />

‏ص.ب:‏ / 2323 املنامة / مملكة البحرين<br />

هاتف:‏ / 17275111 فاكس:‏ 17723763


2 0 1 1<br />

جملة علمية حمكمة تعنى بالدراسات الثقافية<br />

A Refereed Journal for Cultural Studies<br />

العدد 24<br />

لوحة الغالف للفنان البحريني<br />

جمال عبدالرحيم<br />

- جميع احلقوق حمفوظة.‏<br />

- املواد املنشورة تعرب عن اآراء كتابها،‏ ل عن راأي املجلة.‏<br />

- ل يحق اإعادة نشر املواد املنشورة يف املجلة دون استئذان اإدارتها.‏<br />

- ل يحق القتباس من املواد املنشورة يف املجلة من غري ذكر املصدر.‏<br />

- ترسل املواد املرتجمة مصحوبة بنصها الأصلي املرتجمة عنه.‏<br />

- ترسل جميع املساهمات مع السرية الذاتية للكاتب باسم رئيس التحرير بطريقتني فقط،‏<br />

على قرص )Disk( اأوعلى الربيد الإلكرتوين للمجلة : thaqafat@arts.uob.bh<br />

- حتتفظ املجلة لنفسها باحلق يف نشر اأو عدم نشر املواد الواردة اإليها من دون ذكر الأسباب.‏<br />

- ل تقبل املساهمات املكتوبة بخط اليد.‏<br />

- ‏صندوق بريد املجلة رقم:‏ ، 32038 الصخري - مملكة البحرين.‏<br />

العنوان :<br />

ثقافات - كلية الآداب - جامعة البحرين<br />

‏ص.ب:‏ - 32038 الصخري - مملكة البحرين<br />

الربيد الإلكرتوين:‏ thaqafat@arts.uob.bh<br />

هاتف:‏ - 17438446 فاكس:‏ 17449770<br />

موقع املجلة : http//www.thaqafat.uob.edu.bh<br />

موقع اجلامعة : www.uob.edu.bh


قواعد النشر<br />

2 0 1 1<br />

ترحب جملة ثقافات بنشر الأبحاث والدراسات العلمية املتخصصة ذات الصلة مبجال<br />

الدراسات الثقافية،‏ والأنرثوبولوجيا الثقافية،‏ وسوسيولوجيا احلياة اليومية،‏ والقتصاد<br />

السياسي،‏ ودراصات الإعام والتصال،‏ والدراصات السينمائية،‏ والدرس الفلسفي<br />

والتاريخي اجلديد،‏ والنظريات النقدية مبختلف توجهاتها،‏ والدراسات حول املجتمعات<br />

الإصامية،‏ ودراسات اجلنوسة والنسوية،‏ والتعددية الثقافية وسياسات الهوية،‏ ودراسات ما<br />

بعد الستعمار وما بعد احلداثة،‏ ودراسات الآخر والأقليات وثقافة الهامشيني وغريها،‏ وذلك<br />

وفقاً‏ للقواعد الآتية:‏<br />

اأوالً:‏ قواعد عامة<br />

1. تنشر املجلة الأبحاث والدراسات الأكادميية الأصيلة،‏ وتقبل للنشر فيها الأبحاث املكتوبة<br />

باللغة العربية،‏ اأو اللغة الإجنليزية التي مل يسبق نشرها،‏ ويف حالة القبول يجب األ تنشر<br />

املادة يف اأي دورية اأخرى دون اإذن كتابي من رئيس التحرير.‏<br />

2. تنشر املجلة الرتجمات،‏ والقراءات ومراجعات الكتب،‏ والتقارير،‏ واملتابعات العلمية حول<br />

املوؤمترات،‏ والندوات،‏ والنشاطات الأكادميية املتصلة بحقول اختصاصها،‏ كما ترحب<br />

باملناقشات املوضوعية ملا ينشر فيها،‏ اأو في غريها من املجات،‏ والدوريات،‏ ودوائر النشر<br />

العلمي.‏<br />

3. يلتزم الباحث باإرسال ملخصني بالعربية والإجنليزية للبحوث والدراسات ‏شريطة األ<br />

يزيد عدد كلمات كل منهما على 200 كلمة.‏<br />

4. ترسل البحوث مطبوعة على IBM Text Only مصححة بصورتها النهائية على Disk<br />

خاص يتضمن البحث،‏ واخلاصة باللغتني العربية والإجنليزية.‏ وميكن اإرسالها بصورة<br />

Attache File اإىل الربيد الإلكرتوين للمجلة.‏<br />

5. توجه جميع املراصات باسم رئيس حترير ثقافات - جامعة البحرين<br />

ثانياً:‏ االأبحاث<br />

1. يقدم الأصل مطبوعاً‏ على احلاسوب ‏شريطة األ تزيد عدد ‏صفحات البحث على 40 ‏صفحة<br />

مطبوعة ومضبوطة ومراجعة مراجعة دقيقة،‏ على اأن ترقم الصفحات ترقيماً‏ متسلصاً‏


2 0 1 1<br />

مبا في ذلك اجلداول،‏ والأشكال.‏<br />

2. تطبع اجلداول،‏ والصور،‏ واللوحات على اأوراق مستقلة،‏ ويشار في اأسفل الشكل اإىل<br />

مصدره،‏ اأو مصادره،‏ مع حتديد اأماكن ظهورها يف املنت.‏<br />

3. يذكر الباحث اسمه وجهة عمله على ورقة مستقلة،‏ ويجب اإرفاق نسخة من السرية العلمية<br />

اإذا كان الباحث يتعاون مع املجلة للمرة الأوىل،‏ وعليه اأن يشري فيما اإذا كان البحث قد<br />

قدم اإىل موؤمتر،‏ اأو ندوة واأنه مل ينشر ‏ضمن اأعمال املوؤمتر،‏ كما يشار اإىل اسم اأية جهة<br />

علمية،‏ اأو غري علمية،‏ قامت بتمويل البحث،‏ اأو املساعدة على اإعداده.‏<br />

4. مينح الباحث نسختني من العدد الذي يتضمن بحثه بالإضافة اإىل )5( مستات من<br />

املادة،‏ كما مينح اأصحاب املناقشات،‏ واملراجعات والتقارير،‏ وملخصات الرسائل<br />

اجلامعية نسخة من العدد الذي يتضمن مشاركاتهم.‏<br />

ثالثاً:‏ املصادر واحلواشي<br />

1. يشار اإىل جميع املصادر باأرقام احلواشي التي تنشر في اأواخر البحث،‏ ويجب اأن تعتمد<br />

الأصول العلمية املتعارفة يف التوثيق والإشارة بحيث تتضمن:‏ اسم املوؤلف،‏ وعنوان الكتاب،‏<br />

اأو املقال،‏ واسم الناشر،‏ اأو املجلة،‏ ومكان النشر اإذا كان كتاباً،‏ وتاريخ النشر،‏ واملجلد،‏<br />

والعدد،‏ واأرقام الصفحات اإذا كان مقالً.‏<br />

2. يزود البحث بقائمة للمصادر منفصلة عن احلواشي،‏ ويف حال وجود مصادر اأجنبية<br />

تضاف قائمة بها منفصلة عن قائمة املصادر العربية،‏ ويراعى يف اإعدادها الرتتيب<br />

الألفبائي لأسماء املوؤلفني.‏<br />

رابعاً:‏ اإجازة النشر<br />

يتم اإباغ اأصحاب املساهمات بتسلم املادة خال اأسبوعني من تاريخ التسلم،‏ مع اإخطارهم<br />

بقبولها للنشر،‏ اأو عدم القبول بعد عرضها ‏)في حال البحوث(‏ على حمكمني،‏ تختارهم املجلة<br />

على نحو ‏سري.‏ اأو بعد عرضها على هيئة التحرير ‏)في حال املساهمات الأخرى(.‏ وللمجلة<br />

اأن تطلب اإجراء تعديات ‏شكلية،‏ اأو ‏شاملة على البحث قبل اإجازته.‏


2 0 1 1 املحتويات<br />

اأبحاث<br />

13<br />

ما بعد احلداثة والدين..‏ موقف الأنطولوجيا التاريخية<br />

الزواوي بغوره<br />

39<br />

التاريخ والسرد وتشكات الهوية<br />

اإسماعيل نوري الربيعي<br />

55<br />

التمثيل بالعلوم للعلوم عند ابن رشد<br />

فوؤاد بن اأحمد<br />

79<br />

هموم املعيشة كما تصورها الرواية التاريخية:‏<br />

‏)العصر اململوكي منوذجاً(‏<br />

خريي دومه<br />

115<br />

الصحف الإلكرتونية البحرينية:‏ دراسة يف واجهة الستخدام<br />

حامت الصريدي<br />

131<br />

يف البحث عن العاقة بني املدونات الإلكرتونية والصحافة<br />

نصر الدين لعياضي


2 0 1 1<br />

مقاربات<br />

169<br />

املرتكزات السوسيولوجية عند فيكوتسكي:‏<br />

هل ميكن اإرجاع الظاهرة النفسية اإىل اأورمتها الثقافية؟<br />

علي اأسعد وطفة<br />

183<br />

الأدب التفاعلي واجتاهات ما بعد البنيوية<br />

زرفاوي عمر<br />

200<br />

Mohamed Almubarak<br />

Fabulous Universalism: St Puaul According to Alan<br />

Badiou<br />

مراجعات<br />

201<br />

احلجاج يف التداولية:‏ مدخل اإىل اخلطاب الباغي<br />

‏صابر احلباشة<br />

215<br />

ثقافة الستهاك،‏ وما بعد احلداثة<br />

حممد عويس


اأبحاث<br />

2 0 1 0<br />

ما بعد احلداثة والدين..‏<br />

موقف االنطولوجيا التاريخية<br />

التاريخ والرسد وتشكالت الهوية<br />

التمثيل بالعلوم للعلوم عند ابن رشد<br />

هموم املعيشة كما تصورها الرواية التاريخية:‏<br />

‏)العرص اململوكي منوذجاً(‏<br />

الصحف االإلكرتونية البحرينية:‏<br />

دراسة يف واجهة االستخدام<br />

يف البحث عن العالقة بني<br />

املدونات االإلكرتونية والصحافة


االأبحاث<br />

ما بعد احلداثة و الدين<br />

موقف االأنطولوجيا التاريخية<br />

د.الزواوي بغوره<br />

باحث واأكادميي من املغرب


15<br />

2 0 1 1<br />

Abstract<br />

This paper aims to discuss the attitude of<br />

Historical Ontology towards religion through<br />

analyzing the Following elements: The relation of<br />

religion with sex , power as expressed in Pastoral<br />

power , religion as a political and spiritual power as<br />

manifested in the Iranian Revolution, and religion<br />

as a philosophical asceticism distinguished by its<br />

practices and rules especially the rule of Freedom<br />

and the aesthetic of existence, which allow of<br />

transforming the subject to an artistic trace.<br />

Through revisiting these elements Historical<br />

ontology expressed in its own way the return of<br />

The Religious as it appeared in the philosophies of<br />

postmodernism . In spite of criticizing such way<br />

from various aspects, especially in its tendency to<br />

similitude, Historical Ontology call to Freedom<br />

indicates to the possibility of philosophical<br />

alternative.<br />

Keywords: religion, modernity, postmodernism,<br />

sex, pastoral power, political spiritual, philosophical<br />

asceticism.<br />

امللخص<br />

موصوع هذا البحث دراصة موقف الأنطولوجيا<br />

التاريخية من الدين،‏ وذلك بتحليل عاقة الدين<br />

باجلنس والسلطة ممثلة بالسلطة الرعوية،‏ والدين<br />

بوصفه قوة ‏سياسية و روحية ممثلة يف الثورة الإيرانية،‏<br />

وزهدا فلسفيا متميزا مبمارساته و قواعده،‏ و بخاصة<br />

قاعدة احلرية،‏ وجماليات الوجود التي تسمح بتحويل<br />

الذات اإىل اأثر فني.‏ و يف مراجعتها هذه الوجوه عربت<br />

الأنطولوجيا التاريخية بطريقتها اخلاصة عن عودة<br />

الديني كما نتلمسه يف فلسفات ما بعد احلداثة.‏ و رغم<br />

النقد املوجه لطريقتها من نواح عديدة،‏ و بخاصة من<br />

حيث نزوعها نحو املماثلة،‏ اإل اأن دعوتها اإىل احلرية<br />

تشري اإىل بديل فلسفي ممكن.‏<br />

- الكلمات الدالة:‏ الدين،‏ احلداثة،‏ ما بعد احلداثة،‏<br />

اجلنس،‏ السلطة الرعوية،‏ الروحانية السياسية،‏ الزهد<br />

الفلسفي.‏<br />

اأبحاث


2 0 1 1<br />

16<br />

ما بعد احلداثة و الدين<br />

موقف االنطولوجيا التاريخية<br />

د.الزواوي بغوره<br />

مقدمة<br />

اإن مناقشة عاقة ما بعد احلداثة بالدين يفرض علينا النظر ‏سلفا يف عاقة احلداثة بالدين،‏ وذلك بسبب<br />

اتصال ما بعد احلداثة باحلداثة،‏ ‏سواء فهمنا من ‏)ما بعد احلداثة(‏ حقبة تاريخية،‏ اأوحركة نقدية جديدة.‏<br />

واإذا كان من الصعب منهجيا ومعرفيا وضع تعريف جامع ملصطلحي احلداثة وما بعد احلداثة،‏ وذلك ملا يتسمان<br />

به من لبس وتعدد واختاف،‏ فاإنه من الضروري اأن نشري على الأقل اإىل اأن احلداثة تعني انبثاق الذاتية<br />

والعقانية،‏ واأنها تفيد تاريخيا ظهور حضارة جديدة بداأت مع نهاية القرن الثامن عشر،‏ ومتيزت بحدثني<br />

اأساسيني هما:‏ الثورة الصناعية والثورة الدميقراطية )1( . واأن النتقال من مرحلة العصور القدمية اإىل عصر<br />

احلداثة يتفق وانبثاق ذات اإنسانية واعية ومستقلة بذاتها،‏ ومعتزة بانتصاراتها العلمية،‏ وسيطرتها على الظواهر<br />

الطبيعية والإنسانية.‏ ولذا فقد متيزت عاقتها بالدين،‏ وبخاصة الدين املسيحي،‏ بالصراع واملنافسة والنزاع بل<br />

وبالإقصاء والستبعاد،‏ وذلك بحكم اأن املسيحية الكاثوليكية قد ذهبت مذهبا مناهضا للتنوير واحلداثة،‏ ولأن<br />

احلداثة بطبيعتها تتميز مبا بيّنه عامل الجتماع الأملاين ماكس فيرب”‏Max ”Weber بعمليات العقلنة ملختلف<br />

فضاءات الوجود الإنساين،‏ وهو ما وصفه بنزع الغالة السحرية عن العامل”‏désenchantement‏”.‏<br />

ولكن احلداثة يف ذاتها قد عرفت حتولت ثقافية<br />

وفكرية،‏ وبخاصة بعد احلرب العاملية الثانية،‏ وهذا<br />

ما تشري اإليه ما بعد احلداثة بوصفها حركة ثقافية<br />

تشكك وتعيد النظر يف قيم احلداثة،‏ وبخاصة التشكيك<br />

يف العقل وقدرته،‏ ولذا فاإن ما مييز ما بعد احلداثة<br />

مقارنة باحلداثة هو عودة الديني مصحوبا بنزعة<br />

عدمية اأو وثنية جديدة ”pain-neo“ )2( ‏،بحسب بعض<br />

الدراسات.‏<br />

هذا من جهة،‏ اأما من جهة اأخرى فاإن املسيحية<br />

ذاتها قد عرفت حتولت يف عاقتها باحلداثة،‏ وهو<br />

ما مت التعبري عنه ‏ضمن تاريخ الكنيسة الكاثوليكية<br />

ب”الفاتيكان الثاين”‏ )3( ، حيث مت الإقرار باأن<br />

العلمانية”‏laïcité‏”‏ والعلمنة ”sécularisation” ل<br />

تعني الإحلاد،‏ واأن فصل الكنيسة عن الدولة قد يكون<br />

وسيلة مناسبة لضمان الكلمة احلرة للكنيسة،‏ مبعنى<br />

اأن املسيحية قد دخلت يف نوع من التعاون واحلوار مع<br />

احلداثة.‏ ولقد عرب عن هذه احلالة الفيلسوف الفرنسي<br />

مارسال غوشيه Marcel“ ”Gauchet خري تعبري عندما<br />

قال:“اإن املسيحية هي ديانة اخلروج من الدين”‏ )4( .<br />

اإن ما اأدت اإليه عمليات العلمنة،‏ وما تطرحه ما بعد<br />

احلداثة من حاجة اإىل اإعادة النظر يف قيم احلداثة<br />

يفرض علينا النظر يف موقف الأنطولوجيا التاريخية<br />

من الدين بوصفها تيارا من تيارات ما بعد احلداثة )5( :<br />

فما هو موقفها من الدين؟ وهل الأفكار والتحليات<br />

التي قدمتها تسهم يف النقاش الفلسفي املعاصر حول<br />

مكانة الدين يف احلياة السياسية املعاصرة؟ على الرغم<br />

من اأن ميشيل فوكو Michel” ”Foucault 1926-<br />

1984 الذي اأطلق على فلسفته يف اأخريات حياته اسم<br />

الأنطولوجيا التاريخية،‏ مل يخص الدين بدراسة مستقلة<br />

مثل ما فعل جاك دريدا ،”J.Derrida“ وجياين فتيمو<br />

،”G.Vattimo“ وريتشارد رورتي ”Rorty.R“ )6( ، فاإنه<br />

قد قدم جمموعة من النصوص ذات الصلة املباشرة


17<br />

2 0 1 1<br />

وغري املباشرة بالدين ، 7 كما اأن مشروعه الفلسفي<br />

مبني على فهم وحتليل معني للثقافة عموما،‏ وللثقافة<br />

الغربية على وجه التحديد حيث يشكل فيها الدين<br />

املسيحي اأحد العناصر الأساسية )8( . والقارئ نصوص<br />

هذا الفيلسوف يلحظ بيسر حضور الدين املسيحي،‏<br />

والاهوت املسيحي بوصفهما خطابات ثقافية يجب<br />

دراستها وحتليلها حتليا تاريخيا يتناسب وطريقته يف<br />

تاأويل الأحداث واملمارسات واخلطابات،‏ وذلك ‏ضمن<br />

اأطروحاته اخلاصة بعاقة املعرفة والسلطة.‏ من هنا<br />

يرى بعض الدارسني اأن املحاولت النقدية التي قدمها<br />

فوكو تفتح طريقا جديدا لقراءة تاريخ الأديان عموما،‏<br />

وتاريخ املسيحية بشكل خاص،‏ وبخاصة فيما يتعلق<br />

بالذات،‏ وبسياسة احلقيقة،‏ وعاقات السلطة باملعرفة.‏<br />

بل هنالك من ل يرتدد يف القول اإن فوكو يعرض اإمكانية<br />

لتصور طرق جديدة لإعادة التفكري يف الاهوت بوصفه<br />

ممارسة معرفية،‏ واأن نقده يعد مبثابة وسيلة لختبار<br />

خمتلف املمارسات املعرفية مبا فيها املمارسة املعرفية<br />

الاهوتية )9( . ولدراسة هذا املوقف وبيان قيمته،‏ فاإننا<br />

‏سنحاول حتليل العناصر الآتية:‏<br />

- اأو ال.‏ بني الدين واجلنس:‏<br />

يشكل اجلنس ‏-كما هو معلوم-‏ اأحد املواضيع<br />

الأساسية يف فلسفة ميشيل فوكو،‏ ولذا فاإن غاية ما<br />

نسعى اإليه يف هذا العنصر هو دراسة ‏صلته بالدين<br />

عموما،‏ وبالدين املسيحي على وجه التحديد،‏ وذلك<br />

بغرض تشكيل تصور واضح قدر الإمكان حول موقف<br />

هذا الفيلسوف من الدين.‏ واإذا كانت هنالك اأسباب<br />

عديدة تقف وراء اهتمام فوكو بالدين،‏ وبخاصة ما<br />

تعلق بحياته الشخصية،‏ فاإن السبب الأساسي يعود اإىل<br />

اهتمامه مبوضوع اجلنس وعاقته بالسلطة،‏ وهو ما<br />

بينه يف دراسات عديدة منها ما قدمه يف كتابه ‏“اإرادة<br />

املعرفة”‏‎1976‎‏،‏ ويف بعض دروسه بالكوليج دي فرانس<br />

College“ ،”France de كدرسه ‏سنة 1980 الذي كان<br />

عنوانه:‏ ‏“حكم الأحياء”،‏ حيث بني دور املسيحية يف عملية<br />

الإخضاع عن طريق العرتاف،‏ وهو ما ‏سماه ب”اأفعال<br />

احلقيقة”‏ )10( . ولقد خص اجلزء الأكرب من هذا الدرس<br />

لإجراءات امتحان الضمري داخل املوؤسسات الرهبانية.‏<br />

كما ناقش هذا املوضوع يف درسه ‏سنة 1981، وكان<br />

عنوانه ‏“الذاتية واحلقيقة”،‏ حيث حلل اأشكال املعرفة<br />

املتعلقة بالذات وعاقتها باملوؤسسات،‏ وكيف تتحكم<br />

الذات يف نفسها،‏ وذلك من خال جمموعة من النماذج<br />

ممثلة بتاأويل الأحام لأرتيمدور“‏Artémiodore‏”‏<br />

وهو اأحد الفاسفة الوثنيني الهلنستنيني،‏ والنظم<br />

الطبية جللينوس“‏Galien‏”‏ وغريه،‏ واحلياة الزوجية،‏<br />

واحلب )11( ، وظهر هذا الدرس بصورة معينة يف اجلزء<br />

الثالث من تاريخ اجلنسانية بعنوان ‏“الهتمام بالذات”،‏<br />

وذلك ‏سنة 1984 قبل وفاته بوقت قليل،‏ بالإضافة اإىل<br />

مقالت وحوارات عديدة نقروؤها يف جمموع اأعماله<br />

املنشورة بعنوان:‏ ‏“اأقوال وكتابات”:‏ 1988-1954.<br />

يرى ميشيل فوكو اأنه اإذا كان التحليل النفسي كما<br />

اأسسه ‏سيغمند فرويد “S. ”Freud قد اهتم بعاقة<br />

اجلنس بالدين،‏ كما يظهر جليا يف كتابه ‏“موسى<br />

والتوحيد”،‏ فاإن علماء التحليل النفسي الذين جاءوا<br />

من بعده قد اأهملوا هذا اجلانب على اأهميته يف تاريخ<br />

املسيحية،‏ وبخاصة يف العصور الوسطى حيث جند<br />

كتابات كثرية حول اجلنس،‏ اأو ‏“كل ما ميكن وصفه<br />

‏-كما قال-‏ بخطاب عقلي وعلمي حيث ميكن اأن ناحظ<br />

فرقا اأساسيا بني املجتمعات الغربية وبني املجتمعات<br />

الشرقية”‏ )12( . لقد اأنتجت املجتمعات الشرقية،‏ يف<br />

نظره،‏ فنا ‏شبقيا ”érotique“ يعتمد على فن اإنتاج<br />

املتعة من خال العاقة اجلنسية،‏ متعة مكثفة وقوية<br />

ودائمة قدر الإمكان.‏ اأما اخلطاب اجلنسي الذي جنده<br />

يف الغرب منذ العصر الوسيط فهو خطاب يقوم على<br />

علم للجنس“‏Scientia ،”Sexualis اأي البحث يف<br />

حقيقة اجلنس،‏ ومن ثم فاإن ما يبحث عنه اخلطاب<br />

الغربي يف اجلنس ليس كثافة وقوة املتعة،‏ واإمنا حقيقة<br />

اجلنس )13( .<br />

يقوم حتليل ميشيل فوكو للجنس يف عاقته بالدين<br />

على اأطروحتني اأساسيتني تتعارضان والفهم احلداثي<br />

للجنس،‏ تتمثل الأو ىل يف رفضه لأطروحة القمع والكبت<br />

والتحرير التي قال بها التحليل النفسي،‏ والتحليل<br />

اأبحاث


2 0 1 1<br />

18<br />

النفسي املاركسي على السواء وهو ما بينه بالتفصيل<br />

يف كتابه ‏“اإرادة املعرفة”.‏ وتتمثل الأطروحة الثانية يف<br />

رفضه للتحقيب التاريخي للجنس الذي اعتمده التحليل<br />

النفسي،‏ والذي يقوم على ثاث مراحل اأساسية هي:‏<br />

املرحلة اليونانية والرومانية حيث كان فيها اجلنس<br />

حرا،‏ واملرحلة املسيحية التي متيزت بوضعها حمرمات<br />

وممنوعات على اجلنس،‏ وفرضت ‏صمتا على اجلنس،‏<br />

واأخريا املرحلة احلديثة التي قامت فيها البورجوازية<br />

بقمع اجلنس الذي مل يتحرر اإل يف نهاية القرن التاسع<br />

عشر على يد فرويد )14( .<br />

يرفض ميشيل فوكو هذا املخطط التاريخي<br />

والنظري يف الوقت نفسه،‏ ويقرتح حتليا مغايرا لتاريخ<br />

اجلنس معتمدا يف ذلك على اأبحاث ‏صديقه املوؤرخ بول<br />

فني ”Veyne.P“ )15( التي توؤكد على اأن اجلنس مل يكن<br />

حرا يف املرحلة القدمية،‏ واأنه منذ املرحلة الرومانية<br />

بداأت الأحكام الأخاقية ترتبط بالأفعال اجلنسية،‏ ومن<br />

ثم فاإن ما حدث مع املسيحية هو تغري يف الوسائل فقط،‏<br />

اأو كما قال:‏ « يبدو يل اأن املسيحية قد حملت اإىل التاريخ<br />

الأخاقي-الذي هو تاريخ روماين-‏ تقنيات جديدة«‏ )16( .<br />

وبتعبري اآخر،‏ فاإن املسيحية مل متنع اجلنس،‏ واإمنا<br />

فرضت عليه تقنيات جديدة،‏ واإجراءات جديدة،‏ واآليات<br />

‏سلطوية جديدة حتى تطبق عليه اأخاقياتها التي ورثت<br />

جزءا منها من العامل الروماين القدمي.‏<br />

وعلى ‏سبيل املثال،‏ يرى ميشيل فوكو اأن الزواج<br />

الأحادي،‏ والوفاء للحياة الزوجية مل تبتكرهما<br />

املسيحية،‏ بل كانا ‏شائعني يف املرحلة الرومانية الوثنية،‏<br />

واأن املسيحية قد استعادتهما وقامت بتقويتهما،‏ ومن ثم<br />

فاإن الأخاق املسيحية ما هي اإل جزء من تلك الأخاق<br />

الوثنية الرومانية )17( . وتشهد كتابات القديس اأو غسطني<br />

Saint“ ”Augustin على اأن املسيحية التي اأقامت<br />

عاقة جديدة ما بني الذاتية وما بني اجلنس،‏ قد اأبقت<br />

الشكل الذكوري للجنس مهيمنا.‏ واحلل اأو العاج الذي<br />

تقدمه املسيحية باسم القديس اأو غسطني يختلف عن<br />

احلل الأفاطوين،‏ وذلك لأنه اإذا كان اأفاطون يدعونا<br />

اإىل حتويل النظر اإىل الأعلى وتذكر ما نسيناه،‏ فاإن<br />

القديس اأو غسطني يدعونا اإىل الأسفل،‏ واإىل الداخل<br />

حتى نتمكن من معرفة حركات الروح،‏ ومعرفة تلك<br />

احلركات التي تاأتي من الليبدو.‏ وتقتضي هذه املهمة<br />

التشخيصية للروح ليس فقط التحكم يف الذات،‏ واإمنا<br />

القدرة على املعرفة،‏ وعلى متييز احلقيقة من الوهم،‏<br />

اأو كما قال فوكو تقتضي نوعا من ‏“تاأو يل الذات”‏ )18( .<br />

ولذلك فاإن الأخاق اجلنسية املسيحية تفرتض نوعا من<br />

الواجبات الصارمة،‏ وهذا ما نقراأه يف الأدبيات الزهدية<br />

والرهبانية يف القرنني الرابع واخلامس املياديني التي<br />

ل تهدف اإىل املراقبة الفعلية للسلوك اجلنسي،‏ واإمنا<br />

تهتم بسيولة وكرثة الأفكار التي تخرتق النفس وتزعج<br />

بتعددها ‏“الوحدة الضرورية للتاأمل،‏ وتقدم للذات ‏صورا<br />

من اإغواء الشيطان”‏ )19( .<br />

من هنا،‏ فاإن مهمة الرهبنة ل تتمثل فيما يحاول<br />

اأن يقوم به الفيلسوف كما تصفه الفلسفة اليونانية،‏<br />

وبخاصة يف املرحلة الرومانية وهو التحكم الكامل يف<br />

الذات وممارسة السيادة عليها،‏ واإمنا يف املراقبة الدائمة<br />

للأفكار،‏ وتصفيتها والنظر اإليها فيما اإذا كانت اأفكارا<br />

خالصة،‏ اأو اأفكارا تشوبها ‏شائبة معينة،‏ ومن هنا جاءت<br />

‏ضرورة مراقبة الأفكار وفحصها واإخضاعها لاختبار<br />

يف املسيحية.‏ وبحسب كاسيان ”Cassien“ )20( الذي<br />

اهتم فوكو بنصوصه كثريا يجب اأن نقف من اأنفسنا<br />

موقف الصراف والبنكي الذي يفحص النقود.‏ كما اأن<br />

معنى الصفاء والطهارة يف املسيحية يتطلب اكتشاف<br />

احلقيقة يف النفس،‏ واستبعاد الأوهام التي تطفو عليها،‏<br />

والعمل الدائم على استبعاد الأفكار واخلواطر التي توحي<br />

بها النفس دائما ومن غري توقف.‏ وتشري هذه العملية<br />

اإىل اأن هنالك ‏صراعا روحيا ‏ضد الدناسة/النجاسة.‏<br />

وبناء عليه،‏ فاإن ما مييز املوقف املسيحي من اجلنس هو<br />

عملية النتقال من العاقة بني الذات والآخر يف الفعل<br />

اجلنسي،‏ اإىل اأخاق جنسية مسيحية قائمة على عاقة<br />

الذات بالذات،‏ ولذلك فاإن اإحدى املشكات الكربى التي<br />

‏ستواجهها هذه الأخاق،‏ وحتاول مراقبتها بشدة هي<br />

مشكلة الستمناء،‏ وذلك عكس الأخاق اليونانية التي<br />

ل تعري اهتماما لهذا املوضوع لأنها ترى يف هذا ‏سلوكا


19<br />

2 0 1 1<br />

مشينا يوافق العبد،‏ وليس املواطن احلر )21( .<br />

ولقد انتهى ميشيل فوكو يف حتليله لنصوص كاسيان،‏<br />

وبخاصة ما تعلق بقوائم العفة والفسق اأو الفجور،‏ اإىل<br />

الإقرار باأن موضوع هذه القوائم ليس حتديد املسموح<br />

واملمنوع فقط،‏ واإمنا طرح تقنية من اأجل حتليل وتشخيص<br />

الفكر واأصوله وخصائصه وخماطره واحلد من الغواية.‏<br />

واأنه اإذا كان الهدف هو استبعاد كل ما هو دنس،‏ فاإن<br />

ذلك ل ميكن اأن يتحقق اإل بنوع من احلذر والنتباه الذي<br />

ل يتوقف اأبدا،‏ وبنوع من الشك الدائم يف كل حلظة ‏ضد<br />

ذات النفس.‏ وتوؤدي هذه العملية وغريها من العمليات<br />

اإىل الزهد الذي يتخذ ‏شكل العفة حيث ميكن ‏-يف نظر<br />

ميشيل فوكو-‏ ماحظة وجود عمليتني اأساسيتني:‏ عملية<br />

تذويت ”subjectivation“ تتضمن اأخاقا متمركزة<br />

حول اقتصاد الأفعال،‏ ول تنفصل عن املعرفة التي جتعل<br />

من واجب البحث وقول احلقيقة حول ذات النفس ‏شرطا<br />

لزما ودائما لهذه الأخاق،‏ واأن هذه العملية التذويتية<br />

‏-ان ‏صحت العبارة-‏ تتطلب بالضرورة عملية موضعة<br />

”objectivation“ للذات من قبل الذات.‏ واأن عملية<br />

التذويت التي تاأخذ ‏شكل البحث عن حقيقة الذات تتم<br />

من خال عمليات معقدة مع الآخر،‏ وباأشكال خمتلفة،‏<br />

وذلك لأن العرتاف للآخر،‏ وطاعته،‏ واتباع نصائحه<br />

من الشروط الازمة يف هذه املعركة.‏ ويف نظر ميشيل<br />

فوكو،‏ فاإن نصوص كاسيان تتضمن خمتلف مامح هذه<br />

الأخاق اجلنسية وهي مامح منسجمة ومنسقة )22( .<br />

اإن جممل الإجراءات والقواعد والتقنيات التي<br />

اتخذتها املسيحية جتاه اجلنس يلخصها ميشيل فوكو يف<br />

مفهوم السلطة الرعوية pastoral” ”pouvoir الذي<br />

يقوم على جمموعة من الأفراد الذين يوؤدون دور الراعي<br />

يف املجتمع املسيحي بالنسبة لبقية الأفراد الذين ميثلون<br />

القطيع.‏ وتتميز هذه السلطة التي مل تعرفها اإل بعض<br />

املجتمعات الشرقية كمصر القدمية واإسرائيل بجملة<br />

من اخلصائص منها:‏ اأن الراعي ميارس ‏سلطته على<br />

الرعية ‏”القطيع”‏ وليس على الأرض.‏ ويقوم بجمع<br />

القطيع وقيادته ‏،ويكمن دوره يف ‏ضمان خاص القطيع،‏<br />

واأن ممارسة السلطة اأمر واجب )23( . وبناء على هذه<br />

اخلصائص الأساسية،‏ خلص ميشيل فوكو اإىل القول<br />

اإنه،‏ ومن خال التنظيم الرعوي للمجتمع املسيحي الذي<br />

بداأ يف القرن الرابع بعد املسيح،‏ تطورت اآلية ‏سلطوية<br />

كانت مهمة بالنسبة للتاريخ املسيحي الغربي،‏ وبشكل<br />

خاص بالنسبة للجنسانية .”sexualité“ وتكمن هذه<br />

الآلية يف ‏ضرورة واجب اخلاص،‏ واملراقبة الدائمة،‏<br />

والطاعة املطلقة للراعي اأو الراهب الذي يحمل ‏سلسلة<br />

من التقنيات،‏ والإجراءات املتعلقة باحلقيقة واإنتاج<br />

احلقيقة،‏ وذلك عن طريق العرتاف /confession“<br />

”aveu الذي تطور من خال امتحان الضمري الذي<br />

‏شكل الرابطة الدائمة بني الراعي والقطيع،‏ وعلى هذا<br />

الأساس حاولت املسيحية اأن تفرض نوعا من الزهد من<br />

خال التحكم ومراقبة اجلنس من جهة،‏ وتوجيهه من<br />

الداخل من جهة اأخرى )24( .<br />

وعليه،‏ فاإن اأساس املوقف املسيحي من اجلنس ل<br />

يتمثل يف “ املنع اأو الرفض ولكن يف وضع واإقامة اآليات<br />

‏سلطوية ومراقبة،‏ كانت يف الوقت نفسه اآليات معرفة<br />

حول الأفراد،‏ واأيضا معرفة الأفراد باأنفسهم”‏ )25( .<br />

وعندما يقول فوكو اإن هنالك اآليات ‏سلطة فا يجب<br />

اأن نفهم فقط اآليات املنع،‏ واإمنا اآليات اإنتاج وتكثيف<br />

وتنويع،‏ وذلك طبقا ملفهومه للسلطة املنتجة.‏ وبذلك<br />

يرفض اأهم فرضية يقوم عليها التحليل النفسي األ وهي<br />

فرضية القمع والكبت عموما،‏ ‏سواء تعلق الأمر باملرحلة<br />

املسيحية اأو باملرحلة احلديثة التي متيزت ‏“بانفجار<br />

خطابي حقيقي”حول اجلنس )26( . واأن ما متيزت به<br />

املسيحية مقارنة باملراحل الأخرى هو اإدخالها لرتكيبةٍ‏<br />

”dispositif“ معقدة كان هدفها تشكيل نوع من<br />

الذاتية )27( .<br />

واحلق،‏ اإننا ل نستطيع فصل مفهوم السلطة<br />

الرعوية ‏-مبا هي عاقة بني الديني والسياسي-‏ عن<br />

موضوع السلطة عامة يف فلسفة ميشيل فوكو.‏ ونظرا،‏<br />

لأن هذا املوضوع من املواضيع املركزية يف هذه الفلسفة،‏<br />

فاإننا ‏سنكتفي بالإشارة اإىل ما له عاقة مباشرة<br />

مبوضوعنا.‏ واأول ما جتب الإشارة اإليه هو اأنه اإذا<br />

كانت السلطة الرعوية هي السلطة الدينية املرتبطة<br />

اأبحاث


2 0 1 1<br />

20<br />

مبصاألة اجلنس،‏ وتشكل الذات الغربية،‏ فاإنها تعد اأحد<br />

الأشكال الأساسية لتحليل السلطة عند هذا الفيلسوف<br />

الذي قدم بداية حتليا للسلطة باسم السلطة العقابية<br />

،”biopouvoir“ احليوية ‏“‏disciplinaire‏”والسلطة<br />

ثم توسع يف هذا املفهوم من خال السلطة الرعوية،‏<br />

ومبا ‏سماه يف دروسه الأخرية بفنون احلكم/امللك la“<br />

،”gouvernementalite التي تعكس جانبا من تطور<br />

مفهومه للسلطة . 28<br />

لقد اأدى تفكك السلطة الرعوية اإىل ظهور اأشكال<br />

جديدة من احلكم،‏ منها ‏“دولة العدل”‏ كما ‏صاغها<br />

بوجه خاص القديس توما الكويني“‏Thomas d’Aquin<br />

”Saint يف العصور الوسطى عموما )29( ، و“الدولة<br />

الإدارية”‏ يف العصر احلديث )30( . كما اأدت هذه الأشكال<br />

بالطبع اإىل استبدال بعض املعايري،‏ ومنها ‏-على وجه<br />

التحديد-‏ استبدال خاص الروح بحفظ احلياة،‏ كما<br />

استبدلت الآليات اخلاصة باملعرفة،‏ واملركزة حول<br />

العرتاف،‏ وتوجيه الضمري،‏ واإنقاذ كل فرد على حدة،‏<br />

بتقنيات لها وظيفة ‏ضمان الإنتاجية والأمن والسعادة<br />

للفرد وللجماعة على حد ‏سواء.‏ ومن هذه السلطة<br />

القائمة على ‏“مصلحة الدولة”،‏ و“الشرطة”‏ ظهر ما<br />

نسميه اليوم يف نظر ميشيل فوكو ، بالدولة الليربالية<br />

التي ‏سرتفض باسم القتصاد السياسي مبداأ تدخل<br />

الدولة،‏ وتسمح بربوز املجتمع املدين،‏ وبفصل الدين عن<br />

السياسة،‏ ومن ثم فاإن املجتمع املدين هو نتيجة لأشكال<br />

احلكم اجلديدة التي ظهرت يف القرن الثامن عشر<br />

بوصفها اأشكال ‏ضرورية للحكم،‏ بحيث اأصبح من مهام<br />

الدولة ‏ضمان هذا املجتمع،‏ واأصبحت احلرية عنصرا<br />

‏ضروريا يف احلكم،‏ ومبدءا اإجرائيا من الدرجة الأو ىل.‏<br />

وبذلك اأصبحت احلرية مبدءا للحد من ‏سلطة الدولة،‏<br />

وهذا ما يعنيه يف نظر فوكو مصطلح الليربالية.‏<br />

ومن خال هذا التحليل التاريخي املختصر لأشكال<br />

احلكم،‏ اأو بتعبري دقيق لفنون امللك،‏ خلص ميشيل<br />

فوكو اإىل القول:‏ ‏“اإن العقانية السياسية قد تطورت<br />

طوال تاريخ املجتمعات الغربية.‏ ولقد جتذرت وتاأصلت<br />

بداية يف فكرة السلطة الرعوية،‏ ثم لحقا يف مصلحة<br />

الدولة،‏ وكان من اآثارها املحتومة الفردنة والشمولية.‏<br />

واأن التحرر ل ميكن اأن ياأتي من خال نقد الآثار،‏ واإمنا<br />

بنقد جذور العقانية السياسية ذاتها”‏ )31( . لذا،‏ مل<br />

يرتدد فوكو يف وصف اآليات الإخضاع التي طورتها الدولة<br />

الليربالية،‏ وعلى راأسها املشتمل“‏Panoptique‏”،‏<br />

وخمتلف السياسات احليوية،‏ باأنها ‏شكل من اأشكال<br />

الهيمنة والسيطرة،‏ ولكن ذلك مل مينعه من اإبراز بعض<br />

اخلصائص الأساسية التي ميزت الدولة الليربالية<br />

مقارنة بالأشكال املختلفة للسلطة،‏ وبخاصة السلطة<br />

الرعوية مبا هي ‏سلطة دينية،‏ وتتمثل هذه اخلصائص<br />

يف الآتي:‏<br />

1. ليست الليربالية:‏ ‏“اأيديولوجية اأو مثال،‏ واإمنا<br />

هي ‏شكل من اأشكال احلكم،‏ ومن ‏“العقانية”‏ املعقدة<br />

جدا”‏ )32( .<br />

2. اأهمية ظهور املجتمع املدين ابتداء من القرن<br />

الثامن عشر،‏ وبخاصة دوره يف احلد من ‏سلطة الدولة،‏<br />

وذلك بناء على ‏ضرورات القتصاد السياسي.‏<br />

3. ارتباط السلطة الليربالية باحلرية واملقاومة يف<br />

الوقت نفسه.‏<br />

4. تعد الدولة الليربالية مقارنة بالدولة الإدارية<br />

والسلطة الرعوية،‏ مبثابة دولة احلد الأدنى“‏le<br />

. )33( ”moindre Etat<br />

. 5 العرتاف باأهمية العامل السكاين.‏<br />

بناء على هذه املميزات،‏ يرى بعض الدارسني،‏ اأن<br />

ميشيل فوكو يف اهتمامه باحلرية يف الدولة الليربالية<br />

يف دروسه الأخرية دليل على انتصاره لليربالية<br />

اجلديدة كما متثلها مدرسة ‏شيكاغو التي اهتم بها يف<br />

كتابيه:‏ ‏“الإقليم،‏ السكان،الأمن”،‏ و“مولد السياسة<br />

احليوية”‏ )34( . كما توؤكد نزعته نحو التحرر،‏ واهتمامه<br />

باملختلف مبا هو جتاوز للحد،‏ واخرتاق للمعيار.‏ واأن<br />

تاأكيده على قيمة احلرية مبا هي ممارسة تظهر يف<br />

اأشكال تاريخية عديدة،‏ ‏سواء يف دراساته لتجارب<br />

ثقافية كتجربة اجلنون واجلرمية واجلنس،‏ اأو وقوفه<br />

عند اأحداث تاريخية بعينها مثل وقوفه عند الثورة<br />

الإيرانية بوصفها حركة دينية وسياسية وروحية،‏ وهو


21<br />

2 0 1 1<br />

ما يتطلب النظر يف مميزات هذا املوقف نظرا لصلته<br />

املباشرة بالدين.‏<br />

- ثانياً:‏ يف الروحانية السياسية:‏<br />

تعد التغطية الصحفية التي قام بها ميشيل فوكو<br />

لأحداث الثورة الإيرانية،‏ مرصاً‏ للجريدة الإيطالية<br />

serra“ ”Corriere della )35( ، من اأهم الأحداث<br />

السياسية التي قام بها يف اأخريات حياته،‏ حيث نشر<br />

جمموعة من املقالت التي تنم يف جمملها عن اإعجابه<br />

بالثورة الإيرانية وبخصوصياتها )36( . واإن قراءة وحتليل<br />

املقالت النصوص التي خصها حلدث الثورة الإيرانية<br />

تكشف عن جملة من الأفكار املتعلقة بالوضع السياسي<br />

يف اإيران عموما،‏ وبجملة من املعطيات السياسية<br />

والقتصادية والجتماعية اخلاصة باإيران وبالأسرة<br />

احلاكمة،‏ وبطبيعة حكمها،‏ وبعاقاتها اخلارجية،‏<br />

التي ميكن تلخيصها يف اقتصاد قائم على البرتول،‏<br />

وحتالف اسرتاتيجي مع الوليات املتحدة الأمريكية،‏<br />

ودور كبري للموؤسسة العسكرية،‏ ومكانة ودور ثقايف<br />

واجتماعي وسياسي للمذهب الشيعي الذي حتول اإىل<br />

حركة ‏شعبية )37( ، وذلك بسبب اأزمة التحديث التي<br />

عرفتها اإيران حيث اتخذ ‏شكل العتاقة ”archaïsme“<br />

املصاحبة بالستبداد والفساد،‏ ومن ثم قوبل بالرفض<br />

من قبل املجتمع )38( .<br />

ولهذا الرفض اأسبابه التاريخية منها ما يعود اإىل<br />

طبيعة حكم العائلة احلاكمة،‏ واإىل ‏سياستها القائمة<br />

على ثاثة مبادئ استقتها من ثورة ‏“مصطفى كمال<br />

اأتاتورك”‏ وهي:‏ الوطنية،‏ والعلمانية،‏ والتحديث.‏ واإذا<br />

كان النظام قد عمل على حتديث البنى القتصادية<br />

والجتماعية والثقافية،‏ وبخاصة منها النظام الرتبوي،‏<br />

فاإن الهدفني الأولني مل يتمكن مطلقا من حتقيقهما،‏<br />

وذلك لأن اإيران مل تستطع النفكاك من التحالفات<br />

اجليوسياسية القائمة على استغال ثروتها البرتولية،‏<br />

وموقعها اجلغرايف،‏ فقد حتالف الأب مع الإجنليز<br />

حتى يبعد اخلطر الروسي،‏ وقام البن ‏“حممد رضا<br />

بهلوي”‏ بتعويض التحالف الجنليزي باخلضوع اإىل<br />

الهيمنة الأمريكية.‏ واأما بالنسبة للعلمانية فاإن املذهب<br />

الشيعي ‏شكل بحسب ميشيل فوكو ” املبداأ احلقيقي<br />

للوعي والشعور الوطني”‏ . 39 لذا فاإن كل ما قام به رضا<br />

‏شاه هو حماولة اإحياء الصورة الإيرانية ”l’aryanité“<br />

التي تعتمد على اأسطورة نقاء العرق الإيراين،‏ ومن ثم<br />

مل يتبق للحكم اإل التحديث )40( ، وبسبب ما اعرتاه من<br />

فساد واستبداد،‏ مت رفضه من قبل املجتمع،‏ بل هنالك<br />

من ل يرتدد يف القول باأن النظام اأصبح ‏شكا من<br />

اأشكال الستعمار.‏<br />

اإن نظام احلكم الذي اعتمد على التحديث الناقص،‏<br />

اإن جازت العبارة،‏ اأصبح عتيقا،‏ اأو كما قال:‏ ‏“اإن العتاقة<br />

اليوم تتمثل يف مشروع التحديث،‏ ويف ‏صاح الستبداد،‏<br />

ويف نظام الفساد.‏ اإن العتاقة هي”النظام”‏ )41( . من هنا<br />

مل يجد علماء الدين ‏صعوبة يف الدعوة اإىل مناهضة<br />

نظام احلكم ممثا يف رمز الشاه،‏ واأمريكا،‏ والغرب<br />

وماديته،‏ والدعوة باسم القراآن والإصام اإىل النضال<br />

والصراع والكفاح ‏ضد هذا النظام.‏ وعلى الرغم من<br />

خصوصية املذهب الشيعي الذي تقوم بعض اأركانه<br />

على مبداأ ‏“املهدي املنتظر”،‏ اإل اأن علماء هذا املذهب،‏<br />

ومنهم اآية اهلل ‏“شريعت مداري”،‏ يرون اأن الشيعة على<br />

الرغم من اإميانهم بهذا املبداأ اإل اأنهم يناضلون يوميا<br />

من اأجل ‏“حكومة اإصامية”‏ )42( .<br />

ليس املذهب الشيعي،‏ يف نظر ميشيل فوكو ،<br />

اإيديولوجية ‏شعبية،‏ واإمنا هو ‏“جمرد قاموس بسيط من<br />

خاله متر وتعرب اآمال وتطلعات مل جتد كلمات مناسبة.‏<br />

اإنه اليوم كما يقول مثلما كان دائما يف املاضي،‏ الشكل<br />

الذي يتخذه الصراع السياسي ما اأن تعبئ السياسة<br />

الطبقات الشعبية.‏ ويجعل من اآلف الغاضبني والكارهني<br />

والبائسني واليائسني،‏ قوة.‏ اإنه يجعل منهم قوة،‏ لأنه قوة<br />

تعبري،‏ ومنط من العاقات الجتماعية،‏ وتنظيم اأو يل<br />

‏سلس ومقبول بشكل واسع،‏ وشكل للوجود،‏ وطريقة يف<br />

الكام والستماع،‏ يسمح باأن تكون مع الآخرين،‏ وباأن<br />

يكونوا معك”‏ )43( . ل ‏شك اأن هذا التعريف لدور املذهب<br />

الشيعي املتمثل يف مدى قدرته على التعبري،‏ وحتوله اإىل<br />

خطاب متماثل اإىل حد كبري مع مفهوم هذا الفيلسوف<br />

للخطاب املصاحب بالقوة والسلطة ينفي عنه فكرة<br />

اأبحاث


2 0 1 1<br />

22<br />

الأيديولوجيا التي ل تتفق وحتليات الفيلسوف لأنها<br />

تفرض النحياز واحلزبية واملصلحة،‏ وهو ما مل ياحظه<br />

خال تغطيته للأحداث )44( . ويعترب عدم اإدراكه للطابع<br />

الإيديولوجي للحركة السياسية العامة التي كانت وراء<br />

قيام الثورة،‏ يف نظر بعض املحللني،‏ اأحد الأسباب<br />

الأساسية لعدم فهمه لطبيعة الثورة ذاتها )45( .<br />

لقد كان من نتائج هذه الروح الدينية قيام الثورة يف<br />

يوم 11 فرباير 1979. لذا يقر ميشيل فوكو اأن ل حاجة<br />

اإىل القول اإن الدين ل يشكل فقط ‏شكا من التفاق،‏<br />

ولكنه اأكرث من ذلك انه يشكل قوة ميكن اأن جتعل ‏شعبا<br />

كاما ينتفض ليس فقط ‏ضد العاهل وشرطته،‏ ولكن<br />

‏ضد النظام بكامله،‏ ونظام احلياة،‏ والعامل،‏ اأو كما قال:‏<br />

‏“شعب اأعزل يقلب بيديه نظاما قويا جدا”‏ )46( . وتكمن<br />

اأهمية هذه الثورة يف كونها ل تشبه اأي منوذج ثوري<br />

معرتف به.‏ واأن فرادتها هي التي ‏شكلت قوتها،‏ وميكن اأن<br />

يوؤدي انتشارها اإىل قلب موازين القوى يف منطقة الشرق<br />

الأو ‏سط.‏ وباعتبارها حركة اإصامية،‏ فاإن ‏“الإصام<br />

وهو ليس جمرد دين ولكنه منط حياة،‏ وانتماء اإىل<br />

تاريخ،‏ واإىل حضارة يخاطر باأن يصبح قنبلة موقوتة<br />

كبرية،‏ على مستوى مئات الألوف من الناس.‏ ومنذ<br />

البارحة،‏ فاإن كل دولة مسلمة ميكن تثويرها من الداخل،‏<br />

وانطاقا من تقاليدها القدمية”‏ )47( . لقد تفردت<br />

الثورة الإيرانية يف نظر فوكو ، مقارنة مبا حدث يف<br />

الصني اإبان الثورة الثقافية،‏ وكوبا،‏ وفيتنام،‏ والأحداث<br />

الطابية يف اأو ربا ‏سنة 1968. ونظرا لفرادة ومتيز<br />

هذا احلدث،‏ فقد اأدخلت الكثري من الضطراب على<br />

املراقبني واملهتمني الذين استندوا على مناذج فكرية<br />

جاهزة.‏ ويف نظر ميشيل فوكو ، فاإن ما مييز هذه الثورة<br />

هو طريقتها واأسلوبها،‏ وغايتها وهدفها.‏ يقول:‏ ‏“خال<br />

وجودي يف اإيران مل اأسمع اأحدا يتحدث عن”الثورة”.‏<br />

ولكن الغالبية حدثتني عن ‏“احلكومة الإصامية”.‏ اإن<br />

هذه ليست مفاجاأة،لأن اآية اهلل اخلميني،‏ قد قدم هذه<br />

الإجابة املقتضبة للصحفيني”‏ )14( . فماذا تعني احلكومة<br />

الإصامية؟ ينفي ميشيل فوكو اأن يكون املقصود بذلك<br />

نظاما ‏سياسيا يلعب فيه الكلريوس ”clergé“ دور<br />

املوجه واملنظم واملوؤطر )49( . لقد مت استعمال عبارة<br />

‏“احلكومة الإصامية”‏ يف نظره،‏ للدللة على اأمرين،‏<br />

وهما:‏<br />

1. يوطوبيا ”utopie“ اأو منوذج مثايل“‏ideal‏”‏<br />

كما تقول الأغلبية،‏ وهو عبارة عن منوذج قدمي ‏ضارب يف<br />

القدم ويف املستقبل معا،‏ ويتمثل يف العودة اإىل الإصام<br />

الأول زمن النبي حممد“ص”،‏ وكذلك الذهاب نحو<br />

نقطة بعيدة يف املستقبل حيث ميكن اجلمع بني الطاعة<br />

والوفاء.‏ وتتمثل معامل هذه احلكومة يف:‏ تقدير العمل،‏<br />

واحرتام احلريات التي ل تسيء للآخرين،‏ وحماية<br />

الأقليات ‏شريطة األ توؤذي الأغلبية،‏ واأن ل تقوم العاقة<br />

بني الرجل واملراأة على اأساس التفاوت يف احلقوق،‏ واإمنا<br />

على اأساس اأن هناك اختافاً‏ مبا اأن هنالك اختاف<br />

يف الطبيعة،‏ وسياسيا فاإن القرارات توؤخذ بالأغلبية،‏<br />

واحلكام مصوؤولون اأمام الشعب،‏ واأي ‏شخص وفقا<br />

للقراآن ميكن اأن يطالب مبحاسبة احلاكم.‏ يعلق ميشيل<br />

فوكو على هذا التحديد بالقول اإن هنالك الكثري ممن<br />

يقولون اإن احلكومة الإصامية عبارة غري حمددة اإل اأنه<br />

وجدها على قدر كبري من الصفاء والشفافية والنقاوة<br />

”limpidité“ املاألوفة )50( ، ومع ذلك يقول:“اإنها اأقل<br />

‏ضمانا”‏ )51( !<br />

2. روحانية ‏سياسية:‏ وهنالك معنى ثان لهذه<br />

احلكومة الإصامية،‏ ويتمثل يف اإدخال بعد روحي يف<br />

احلياة السياسية اأو ما ‏سماه بالروحانية السياسية<br />

politique“ ،”spiritualité والعمل على األ تكون<br />

احلياة السياسية كما كانت دائما،‏ اأي عائقا للحياة<br />

الروحية،‏ واإمنا على السياسة اأن تصبح ‏“وعاء،‏<br />

ومناسبة،‏ وخمرية”‏ )52( لهذه الروح.‏<br />

يعرتف ميشيل فوكو باأنه يصعب عليه اأن يحكم على<br />

احلكومة الإصامية بوصفها فكرة اأو مثال،‏ ولكنها اأثارت<br />

اإعجابه بوصفها ‏“اإرادة ‏سياسية”،‏ اأو كما قال ‏“لقد<br />

اأعجبتني يف جهدها من اجل تسييس بنى اجتماعية<br />

ودينية ل انفصال بينها،‏ وذلك من اأجل الإجابة عن<br />

اأسئلة حاضرة.‏ ولقد اأعجبتني يف حماولتها لفتح بعد<br />

روحي يف السياسة”‏ )53( . تعكس هذه العبارات القاموس


23<br />

2 0 1 1<br />

الفلسفي للفيلسوف،‏ والتحول الذي اأصاب فلسفته<br />

بعد اكتشافه للذات،‏ وهو ما ‏ستبينه اأعماله الفلسفية<br />

الاحقة.‏ وعلى الرغم من طرحه اأسئلة متعلقة بطبيعة<br />

احلدث،‏ ومبستقبل احلدث اإل اأنه مل يهتم بالبديل الذي<br />

حتمله الثورة،‏ واكتفى بوصف احلدث،‏ بل جنده قد عرب<br />

يف اإحدى مقالته عن عجزه عن تصور املستقبل،‏ قائا:‏<br />

‏“ل اأستطيع كتابة تاريخ املستقبل،‏ ولست دقيقا يف تصور<br />

املاضي.‏ ولكنني اأحاول اأن اأحدد ما يجري وما يحدث،‏<br />

وذلك لأن ما يجري هذه الأيام ليس مكتما،‏ والأحداث<br />

ما تزال قائمة.‏ رمبا هذا هو العمل الصحفي،‏ ولكنه<br />

‏صحيح اأنني حديث العهد بالأحداث ”néophyte“ )54( .<br />

وهنا يطرح ‏صوؤال اأساسي وهو ما معنى الثورة اإذا مل توؤد<br />

اإىل احلرية واإىل العدالة؟<br />

لقد كان اهتمام فوكو منصبّا على ما ‏سماه ب“لغز<br />

النتفاضة”‏ )55( ، وكل ما كان يهمه من احلركة هو كونها<br />

متثل نوعا من النفي للسياسة مبا اأنها رفعت الشرعية<br />

عن السلطة.‏ لقد كانت حركة حرية وحترر وقطيعة مع<br />

اأصناف احلتميات والتاريخ.‏ وهذه نظرة تتطابق مع<br />

جممل موضوعاته التي حللها،‏ ومن ثم فاإنه كان يرى<br />

يف الشعب املنتفض مثله مثل املنحرف واملجنون:‏ انه<br />

ل يلعب اللعبة السياسية،‏ ويحيل السلطة اإىل عرائها<br />

الأو يل األ وهو القوة فقط.‏ والذي ل ‏شك فيه هو<br />

اأن هذا الوصف واملوقف يتفق وفلسفته الداعية اإىل<br />

تشخيص احلاضر،‏ ودراسة السلطة بوصفها عاقات<br />

قوى يف وضع اسرتاتيجي معني.‏ كما اأن هذا املوقف يتفق<br />

وفلسفته الرافضة لفكرة البدائل واملكتفية بالوصف<br />

والتحليل التاريخيني،‏ واإىل ما اأصابها من حتول يف نهاية<br />

السبعينات وبداية الثمانينات من القرن العشرين عندما<br />

طرحت عليها مصاألة الذات والأخاق وهو ما عرب عنه يف<br />

وصفه حلدث الثورة بالروحانية السياسية،‏ ثم توسع فيه<br />

باسم الزهد الفلسفي.‏ فماذا يقصد بالزهد الفلسفي؟<br />

- ثالثا.‏ يف الزهد الفلسفي:‏<br />

يحتل درس ‏“تاأو يل الذات”‏ الذي قدمه ميشيل فوكو<br />

‏سنة 1982 منزلة خاصة ‏ضمن دروسه يف الكوليج دي<br />

فرانس،‏ وضمن اأعماله الفلسفية التي نشرها وهو على<br />

قيد احلياة،‏ وذلك لكونه اهتم مبوضوع جديد ‏ستكون<br />

له انعكاسات خطرية على جممل فلسفته،‏ ونعني بذلك<br />

موضوع:‏ الهتمام بالنفس/الذات،‏ وباملمارسات املتعلقة<br />

بهذا الهتمام اأو مبا يسميه بثقافة النفس.‏ اإن منطلق<br />

هذا الدرس هو قراءة ملحاورة ‏“القبيادس”‏ لأفاطون،‏<br />

وحلكمتي:“اعرف نفسك”،‏ و“اهتم بنفسك”.‏ ولتحليل<br />

التحولت التي عرفتها حكمة الهتمام بالنفس قام<br />

ميشيل فوكو بقراءة ومتابعة تاريخية لنصوص املدارس<br />

الفلسفية اليونانية والرومانية املتمثلة يف الرواقية<br />

والبيقورية والكلبية.‏ وبالعتماد على طريقته اخلاصة<br />

يف وصف وحتليل اخلطاب؛ استطاع اأن يبني عاقة<br />

‏“اعرف نفسك”‏ ب“اهتم بنفسك”،‏ والأدوار الفلسفية<br />

املتبادلة بينهما عرب التاريخ.‏<br />

يرى ميشيل فوكو اأن النموذج الأفاطوين لاهتمام<br />

بالنفس يظهر من خال حماورة القبيادس.‏ واأن منطلق<br />

هذه املحاورة هو اأن القبيادس يجهل نفسه،‏ ومن ثم<br />

عليه اأن يكتشف جهله،‏ ولكي يكتشف جهله عليه اأن<br />

يهتم بنفسه،‏ ولكي يهتم بنفسه عليه اأن يعرف نفسه.‏<br />

وعليه،‏ وكما قال:‏ ‏“فاإن املجال الكلي لاهتمام بالنفس<br />

حمكوم بشرط معرفة النفس”‏ )56( ، حيث يوؤدي التذكر<br />

دورا مركزيا يف العاقة ما بني الهتمام بالنفس،‏ وما<br />

بني معرفة النفس.‏ اأما النموذج املسيحي الذي ظهر ما<br />

بني القرنني الثالث والرابع املياديني،‏ الذي يطلق عليه<br />

اسم النموذج ‏“الزهدي-الرهباين”،‏ فيتميز بعاقته<br />

املعقدة ما بني النفس واحلقيقة والوحي،‏ واأن معرفة<br />

النفس تشرتط التطهر،‏ ومن ثم فاإن العاقة اأشبه<br />

ما تكون بدائرة تتم من خال معرفة النفس،‏ ومعرفة<br />

احلقيقة،‏ والهتمام بالنفس.‏ واإذا كان اخلاص يتطلب<br />

التسليم بحقيقة الوحي،‏ فاإنه ل ميكن معرفة هذه<br />

احلقيقة اإذا مل يتم الهتمام بالنفس يف ‏شكل معرفة<br />

تطهرية للقلب.‏ وهذه املعرفة التطهرية لذات النفس<br />

غري ممكنة اإل بشرط اأن تكون هنالك عاقة اأساسية<br />

باحلقيقة،‏ حقيقة النص وحقيقة الوحي.‏ ويتم معرفة<br />

النفس يف املسيحية،‏ من خال تقنيات معينة لها وظيفة<br />

اأساسية تتمثل يف تبديد واإزالة الأوهام الداخلية،‏<br />

اأبحاث


2 0 1 1<br />

24<br />

وفحص الوسواس والإغواء الذي يداخل النفس والقلب.‏<br />

واأخريا،‏ فاإن معرفة النفس ليس لها يف املسيحية تلك<br />

الوظيفة التي تقتضي الرجوع والعودة اإىل النفس من<br />

خال فعل التذكر،‏ واإيجاد احلقيقة التي تتاأملها،‏ وذلك<br />

لأن العودة اإىل النفس تكون من اأجل التخلي واإنكار<br />

النفس لذاتها .”renonciation“ وعليه،‏ فاإن منوذج<br />

الهتمام بالنفس يف املسيحية يتكون من ثاث نقاط<br />

مرتابطة:‏ اأو ل،‏ عاقة دائرية ما بني حقيقة النص<br />

ومعرفة النفس.‏ ثانيا،‏ طريقة يف التفسري من اأجل<br />

معرفة النفس.‏ واأخريا،‏ فاإن الهدف هو اإنكار النفس.‏<br />

وما بني هذين النموذجني املعروفني،‏ اأي النموذج<br />

الأفاطوين والنموذج املسيحي،‏ هنالك يف نظر ميشيل<br />

فوكو،‏ منوذج ثالث هو النموذج الفلسفي كما ‏صاغته<br />

املدارس الفلسفية املتاأخرة،‏ وبخاصة املدرسة الرواقية<br />

وهو الذي ميثل الزهد الفلسفي )57( .<br />

واإذا كان النموذج الأفاطوين التذكري،‏ والنموذج<br />

املسيحي التفسريي قد متيزا بهيمنتهما وسيطرتهما<br />

على تاريخ الفكر طوال العصر الوسيط والعصر احلديث،‏<br />

فاإن هذا ل ينفي وجود منوذج ثالث خمتلف عنهما لأنه<br />

ل مياهي بني الهتمام بالنفس ومعرفة النفس،‏ واإمنا<br />

مييل بالعكس اإىل تقوية وتفضيل الهتمام بالنفس،‏ اأو<br />

يحافظ على الأقل على استقالها مقارنة مبعرفة النفس<br />

التي اأصبحت لها مكانة حمددة وضيقة للغاية،‏ وهو على<br />

خاف النموذج املسيحي لأنه ل مييل اإطاقا اإىل تفسري<br />

النفس،‏ ول اإىل اإنكار النفس،‏ واإمنا مييل ويتجه بالعكس<br />

اإىل تكوين النفس باعتبارها هدفا يجب بلوغه وحتقيقه.‏<br />

والشيء الذي مييزه عن النموذج املسيحي املتمركز<br />

حول التحقيق الغائي ”finalisation-auto“ للعاقة<br />

بالنفس هو كونه ميثل الوسط الذي ‏شكل الأخاق<br />

التي ‏ستستقبلها وترثها املسيحية التي ‏ستقوم بتوطينها<br />

واإعدادها يف ‏صورة ‏“اأخاق مسيحية”،‏ كما بينا ذلك<br />

يف العنصر اخلاص باجلنس.‏<br />

واإذا كان الزهد الفلسفي كما ‏صاغته الرواقية<br />

يختلف عن النموذج الأفاطوين واملسيحي،‏ فاإن الصوؤال<br />

الواجب طرحه هو ما طبيعة هذا الزهد؟ يرى ميشيل<br />

فوكو اأن الزهد يشكل نوعا من املمارسة التي تضمن<br />

حتول النفس التي ل تخضع لقانون ‏سابق،‏ واإمنا ترتبط<br />

مبمارسة احلقيقة،‏ اأو بالأحرى بعاقة الذات باحلقيقة،‏<br />

وتتمثل غايته يف:‏ ‏“الوصول اإىل نوع من العاقة مع<br />

النفس تكون فيها النفس ممتلئة ومنجزة وكاملة<br />

ومكتفية بذاتها وقابلة لأن حتقق السعادة”‏ )58( . ويعتمد<br />

هذا الزهد الفلسفي على بعض القواعد التي جندها يف<br />

الأشكال الأخرى من الزهد،‏ وبخاصة الزهد املسيحي.‏<br />

ومن هذه القواعد على ‏سبيل املثال التقشف،‏ اإل اأن<br />

طبيعة الوسائل التي تستخدم لبلوغ هذا الهدف النهائي<br />

تختلف عن وسائل الزهد املسيحي.‏ وتتمثل هذه القواعد<br />

يف الستعداد الذي يسمح بحماية النفس،‏ وميكنها من<br />

بلوغ غايتها.‏ ولذا فاإن ما مييز الزهد الفلسفي يف نظر<br />

ميشيل فوكو هو كونه ‏“يجهِّ‏ ز ويعدُّ‏ وميكِّ‏ ن النفس”‏ )59( .<br />

ولكن مباذا يعدُّ‏ هذه النفس/الذات؟ انه يعدُّها ويهيّوؤها<br />

بشيء يسمى يف اليونانية ب“‏paraskeue‏”،‏ الذي<br />

ترجمه ‏سيناك اإىل الاتينية ب:“‏instruction‏”،‏ اأي<br />

الإعداد والتجهيز.‏<br />

وعليه،‏ فاإن الزهد له وظيفة اإعداد النفس وتهييئها<br />

ملختلف اأحداث احلياة،‏ والغاية منه هو حتضري وتهيئة<br />

الفرد ملستقبل يتكون من اأحداث غري معروفة،‏ ول ميكن<br />

التنبوؤ بها،‏ اأحداث من املمكن اأن نعرف طبيعتها عموما،‏<br />

ولكننا ل نعرف متى ‏ستحدث،‏ واإن كانت ‏ستحدث اأم ل،‏<br />

ومن ثم فاإن الأمر يتعلق يف الزهد الفلسفي باإيجاد نوع من<br />

التحضري والإعداد والتهيئة بحيث يكون مائما ومناسبا<br />

ملختلف متطلبات احلياة.‏ ويظهر هذا الإعداد يف تلك<br />

اخلطابات الصحيحة والصادقة التي تتزود بها النفس<br />

بحيث تتحول تلك اإىل خطابات وخلق“‏discourse‏/‏<br />

،”ethos اأو اإىل:“جمموعة من التمارين املرتابطة<br />

الضرورية والازمة واملطلوبة،‏ ومن املمكن اأن تكون<br />

اإجبارية اإىل حد ما،‏ ومستعملة على كل حال من قبل<br />

الأفراد يف نظام اأخاقي وفلسفي وديني،‏ وذلك بغية<br />

الوصول اإىل هدف روحي حمدد.‏ واملقصود بال”الهدف<br />

الروحي”‏ نوع من التغّري والتحول يف النفس نحومعرفة<br />

احلقيقة”‏ )60( . ويتمثل هذا التحول يف ما اأصطلح عليه


25<br />

2 0 1 1<br />

بقول احلق“‏vrai-dire‏”‏ الذي خصص له فوكو درسا<br />

كاما يف ‏سنة 1984.<br />

يعترب قول احلق مبثابة طريقة وكيفية لوجود الذات،‏<br />

والزهد الفلسفي يجعل من قول احلق،‏ كما يقول،‏ منط<br />

وجود الذات.‏ وبذلك يختلف هذا الزهد عن الزهد<br />

املسيحي الذي يرتبط بالميان وبالنص املقدس،‏<br />

وبالتضحية الدائمة للنفس اإىل درجة الإنكار.‏ يقول ميشيل<br />

فوكو : ‏“اإن الزهد الفلسفي،‏ ‏سواء من حيث املعنى اأو من<br />

حيث الوظيفة يتم من خال تذويت“‏subjectivation‏”‏<br />

اخلطاب احلقيقي،‏ وهو هو اأساس ممارسة النفس يف<br />

املرحلة اليونانية والرومانية.‏ وهذا الزهد هو الذي<br />

يجعل الذات قادرة على قول اخلطاب احلقيقي،‏ ويجعلها<br />

موضوعا لنطق اخلطاب احلقيقي،‏ يف حني،‏ اأن الزهد<br />

املسيحي،‏ فيما يبدو يل،‏ كان له دور ووظيفة مغايرة<br />

متاما:‏ اإنها وظيفة اإنكار النفس”‏ )61( . كما يختلف<br />

الزهد الفلسفي عن املسيحي على مستوى املمارسات<br />

والتقنيات،‏ وذلك لأن الزهد املسيحي يتمتع بكثافة يف<br />

التمارين الزهدية مقارنة مبمارسات الزهد الفلسفي<br />

الذي يكتفي ببعض الختبارات التي يقوم بها الزاهد<br />

يف الصباح،‏ واملتعلقة باملهمات التي يجب اإجنازها،‏<br />

ومتارين يف املساء متعلقة ب“اختبار الضمري”.‏ كما<br />

تظهر ممارسات هذا الزهد يف بعض قواعد احلذر.‏<br />

ومن ثم فاإن ما يتصف به الزهد الفلسفي هو احلرية<br />

يف املمارسة مع حتديد بسيط لتمارين تتم يف ‏سياق<br />

مبداأ اأخاقي عام هو مبداأ جماليات الوجود اأو فنون<br />

العيش”‏tekhne ،”biou tou وذلك عكس الزهد<br />

املسيحي الذي يقوم على مبداأ احلياة )62( .<br />

لقد ‏صاغ ميشيل فوكو مفهوم جماليات الوجود يف<br />

اأخريات حياته،‏ وجعل منه عامة مميزة لفلسفته،‏ اأو<br />

بالأحرى لفلسفته الأخرية املهتمة مبوضوع الذات،‏ وحلله<br />

يف اأعماله الأخرية التي نشرها قبل وفاته وبخاصة يف<br />

‏“استعمال امللذات”‏ و“الهتمام بالذات”.‏ يقتضي هذا<br />

املبداأ اأن تصبح احلياة ‏/الوجود موضوعا فنيا،‏ وهو ما<br />

يتطلب احلرية.‏ فاإذا ما وجب اأن يكون لفن ما مدونة<br />

من القواعد التي يجب اأن يخضع لها،‏ فاإن هذه القواعد<br />

مشروطة بحرية الذات التي تستعمل الفن بحسب هدفها<br />

وغايتها ورغبتها واإرادتها يف اجناز اأثر جميل.‏ وتعد<br />

هذه القاعدة اأساس الختاف بني الزهدين الفلسفي<br />

واملسيحي،‏ وذلك لأن الزهد املسيحي يتميز بكونه يهدف<br />

اإىل جعل احلياة منظمة ومرتبة،‏ لذا فاإنه يعتمد على<br />

قاعدة احلياة“‏regula ،”vita ومن هنا فاإن النموذج<br />

التنظيمي لهذا الزهد يتمثل يف النموذج العسكري الذي<br />

يظهر يف اأشكال الرهبنة يف الشرق والغرب على السواء.‏<br />

اأما الزهد الفلسفي فاإنه ل يعتمد على قاعدة احلياة،‏<br />

واإمنا يعتمد على ‏شكل احلياة ،”forma“ مبعنى الشكل<br />

الذي نعطيه للحياة وللوجود،‏ واأسلوب حياة.‏ واملثال<br />

على ذلك هو اأن بناء معبد جميل وفق مقتضيات الفن<br />

املعماري يتطلب بالطبع،‏ اأن يخضع لقواعد فنية لزمة<br />

وضرورية،‏ ولكن املهندس املاهر هو الذي يستعمل حريته<br />

اأكرث ليعطي للمعبد ‏شكله اجلميل.‏ وبنفس الطريقة،‏ فاإن<br />

الذي يريد اأن يجعل من حياته اأثرا فنيا،‏ والذي يريد اأن<br />

يستعمل ‏-كما ينبغي-‏ فن العيش واحلياة،‏ فاإمنا يجب اأن<br />

يكون يف ذهنه اإضافة اإىل القواعد التي يجب اأن يخضع<br />

لها.‏ احلرية يف استعمال تلك القواعد بهدف حتويل<br />

احلياة اإىل اأثر فني،‏ والأثر الفني يف نظر ميشيل فوكو<br />

هو ذلك الأثر الذي يخضع اإىل ‏شكل ما،‏ واإىل اأسلوب<br />

ما يف احلياة )63( .<br />

- رابعا.‏ تعقيب نقدي:‏<br />

اأثار هذا التحليل للدين ‏سواء يف عاقته باجلنس<br />

والسلطة،‏ اأو يف عاقته بحدث الثورة اليرانية،‏ اأو يف<br />

‏صورة زهد فلسفي،‏ ‏ضروبا من النقد منها ما هو رافض<br />

له البتة باسم التحليل النفسي )64( ، ومنها ما هو مركز<br />

على جانب معني مثل ما هو احلال يف النقد النسوي<br />

حيث ترى ‏سوبر“‏Soper‏”‏ على ‏سبيل املثال،‏ اأن مناقشة<br />

فوكو لاهتمام بالذات”غري مدركة على نحو غريب<br />

للكيفية التي ميكن للتطور الأخاقي للمواطن الذكر اأن<br />

ينطوي فيها على تفاعل مع النساء،‏ وبالأخص الزوجات<br />

اللواتي تظل اأصواتهن مكتومة على نحو يثري الدهشة<br />

عرب هذه املجلدات”‏ )65( . كما يرى ايغلتون“‏Eagleton‏”‏<br />

من زاوية ماركسية اأن اأخاق الزهد تضفي ‏“مسحة<br />

اأبحاث


2 0 1 1<br />

26<br />

جمالية فردانية ‏-اإىل حد كبري-‏ على الذات وهي<br />

‏صفة مميزة للطبقات احلاكمة يف الثقافتني القدمية<br />

واحلديثة”‏ )66( . على اأن املشكلة التي طرحها تاريخ<br />

اجلنسانية كما مت عرضه يف اإرادة املعرفة،‏ ل تتمثل يف<br />

معارضة مفاهيم ونظريات التحليل النفسي والتحليل<br />

النفسي املاركسي،‏ وبخاصة اأطروحات القمع والكبت<br />

والتحرير،‏ ولكن يف معارضته لنظرية الذات الفاعلة<br />

واأثر السلطة فيها حيث ‏سبق لفوكو اأن طور حتليات<br />

تذهب باجتاه اإخضاع الذات والسيطرة عليها من خال<br />

ميكروفيزياء السلطة،‏ والسلطة املنتشرة،‏ ومن اأن ل<br />

اأحد ميلك السلطة،‏ وهو ما بينه يف كتابه ‏“املراقبة<br />

واملعاقبة”‏‎1975‎‏،‏ اأو يف اأطروحته املركزية التي عرضها<br />

يف كتابه اإرادة املعرفة والقائلة اأن اجلنس هو اأو ل وقبل<br />

كل ‏شيء خطاب.‏ وعليه،‏ فاإنه اإذا كانت الذات خاضعة<br />

وحتكمها اآليات املوضعة فكيف تصبح لحقا موضوعا<br />

لاهتمام وللروحانية واجلمالية؟ )67( . ويف هذا السياق<br />

يجب التذكري باأن اأطروحة فوكو القائلة اأن السلطة<br />

منتجة هي التي كانت وراء نشر جان بودريار Jean“<br />

”Baudrillard لدراسته التي اأثارت اأزمة يف مشروع<br />

تاريخ اجلنسانية،‏ وتطلبت من فوكو اأن يعيد النظر يف<br />

مشروع تاريخ اجلنسانية )68( .<br />

ولكن،‏ ما يطرحه اجلنس ليس مشكلة السلطة فقط،‏<br />

واإمنا مشكلة الذات،‏ وبخاصة اأن ميشيل فوكو ل يرتدد يف<br />

تاأو يل فلسفته وفقا للمجال الذي يشرع يف البحث فيه،‏<br />

‏سواء عندما بحث املعرفة يف ‏“الكلمات والشياء”‏‎1966‎‏،‏<br />

اأو السلطة يف ‏“املراقبة واملعاقبة”،‏ اأو الذات التي يرى<br />

اأنها تشكل موضوعه الأساسي لأنها تتصل باحلقيقة وهو<br />

ما بيّنه يف اأعماله الأخرية )69( . ولهذا التحول اأو املنعطف<br />

اأو القطيعة،‏ وذلك وفقا ملختلف الدراسات واملقاربات )70( ،<br />

اأهمية قصوى يف التجربة الدينية،‏ وبخاصة هذه الذات<br />

التي حتاول اأن جتعل من ذاتها اأثرا فنيا خاصا وفريدا.‏<br />

ومن ثم،‏ فاإن التجربة الدينية ل ميكن التعبري عنها من<br />

غري هذه الذاتية،‏ فمقوم التجربة الدينية هو با منازع<br />

الذات )71( . ول يرتدد فوكو يف الإقرار باأن موضوعه كان<br />

دائما دراسة عاقة الذات باحلقيقة،‏ واأن هذا املوضوع<br />

قد طرحه بصيغ خمتلفة )72( .<br />

واإذا كان هنالك نقاش واسع حول مفهوم الذات<br />

يف الفلسفة املعاصرة )73( ، فاإن ما طرحه ميشيل فوكو<br />

يف اأخريات حياته اأثار مشكات عديدة منها ما تعلق<br />

بعاقته مبجمل فلسفته اأو مبفهومه للذات التي اختلف<br />

يف حتديدها،‏ فهنالك من يرى اأن الذات املقصودة عند<br />

ميشيل فوكو هي تلك الذات العملية يف مقابل الذات<br />

اخلاضعة للقانون الطبيعي اأو السياسي،‏ واأن هذه الذات<br />

العملية مرتبطة بذاتها اأو حمايثة لذاتها،‏ وتعرب املرحلة<br />

الهلنستينية وبشكل خاص الفلسفة الرواقية خري تعبري<br />

عن هذه الذات،‏ وذلك باسم ‏“الهتمام بالنفس”‏ الذي<br />

يعد جزءا من ‏“انطولوجيا احلاضر”،‏ وهو ما دعا بعض<br />

الباحثني اىل ربطه مبا ذهب اليه ماركس ”Marx“ يف<br />

دراساته الأوىل عن الرواقية والبيقورية،‏ واإىل اإقرار<br />

الأطروحة القائلة اأن هذه املرحلة تشكل ‏“مرحلة وعي<br />

الذات”،‏ مبعنى الذات احلرة،‏ اأي تلك الذات التي حتيى<br />

وفقا لقانونها اخلاص )74( .<br />

كما اأثارت حتلياته الصحفية حلدث الثورة<br />

الإيرانية مواقف نقدية عديدة،‏ فهنالك من راأى اأن<br />

ميشيل فوكو قد وجد يف حدث الثورة الإيرانية ‏-مبا<br />

هي ثورة دينية-‏ تنفيذاً‏ لأطروحاته الفلسفية،‏ يف حني<br />

ذهب اآخرون اإىل القول بسذاجة موقف الفيلسوف،‏<br />

وبخاصة وصفه لشعب متاحم،‏ ومتحد وراء قيادة<br />

كارزماتية.‏ وهنالك من ندد مبقالته احلماسية التي<br />

غابت عنها املعرفة والتفكري النقدي )75( ، وهو ما اأدى<br />

ببعض الباحثني يف احلركات الإصامية املعاصرة اىل<br />

القول اأن حتليل ميشيل فوكو يفتقد اإىل عملية اإدراك<br />

‏“النزعة الإصامية ،”l’islamisme“ مبعنى قراءة<br />

الدين وفقا ليدولوجيا ‏سياسية”‏ )76( . ويعد احلوار الذي<br />

جمعه مع ‏صحفيني من ‏صحيفة ،”Liberation“ نشرا<br />

كتابا حول الثورة الإيرانية بعنوان:“اإيران:‏ الثورة باسم<br />

اهلل”،‏ ومت خال الأيام الأوىل ملحاكم الثورة التي اأعدم<br />

فيها املعارضون للنظام اجلديد،‏ وبخاصة اأن مقالت<br />

ميشيل فوكو يف هذا الوقت قد كانت موضوع نقد لذع<br />

من قبل عديد املثقفني الذين اتهموه باحلماسة الكبرية


27<br />

2 0 1 1<br />

للثورة،‏ وبالدعم غري املحدود للإمام اخلميني،‏ ومن<br />

هذه الصحف التي قادت احلملة ‏ضده ‏صحيفة”‏Le<br />

. )77( ”Matin<br />

وردا على هذه التعليقات النقدية،‏ حاول ميشيل<br />

فوكو يف حواره مع هذين الصحفيني اأن يستعيد ‏-ما<br />

ميكن اأن نقول عنه-‏ الوجه اليجابي للدين يف التاريخ،‏<br />

كما اأكد فكرة يف غاية الأهمية،‏ وذلك لأن لها امتداداتها<br />

الاحقة يف فلسفته املتاأخرة بحسب بعض الدارسني،‏<br />

األ وهي اأن التغيري ل يطال النظام اأو راأس النظام،‏<br />

واإمنا التغيري املنشود يف اإيران هو ‏-بشكل خاص-‏<br />

تغيري ‏“ذات النفس”‏ )78( . اأي يجب اأن نغري طريقتنا يف<br />

احلياة،‏ وطريقة عاقتنا بالآخرين،‏ واأنه ل وجود لثورة<br />

حقيقية اإل بشرط اأن نغري جتربتنا.‏ وبهذا املعنى يرى<br />

ميشيل فوكو:‏ ‏“اأن الإصام قد قام بدوره”‏ )79( . فلقد<br />

كان الدين بالنسبة للإيرانيني مبثابة ‏“الوعد والضمانة<br />

التي وجدوها من اأجل اأن يغريوا جذريا ذاتيتهم”...”‏<br />

اإننا نستشهد دائما بقول ماركس اإن الدين اأفيون<br />

الشعوب،‏ واجلملة التي تلي هذا القول مباشرة،‏ والتي<br />

ل نستشهد بها تقول اإن الدين هو روح عامل با روح.‏<br />

لنقل اإذن اإن الإصام،‏ يف هذه السنة 1978، مل يكن<br />

اأفيونا للشعب لأنه كان روح عامل با روح”‏ )80( . اإن هذا<br />

النص يف غاية الأهمية لأنه يف تقديرنا،‏ يبني جانبا من<br />

مضمون ما اأطلق عليه بالروحانية السياسية التي ‏سبق<br />

واأن اأكدها اأثناء تعليقه على املظاهرات التي حدثت<br />

يف تونس ‏سنة 1968، )81( ، اأو يف لقائه بنقابة التضامن<br />

يف بولونيا )82( ، وستجد هذه الروحانية اهتماما فلسفيا<br />

واضحا فيما ‏سماه بالزهد الفلسفي،‏ كما بيّنا ذلك.‏ لذا،‏<br />

فاإن هنالك من يرى اأن اهتمام ميشيل فوكو يف نهاية<br />

السبعينات بالروحانية الشيعية وباأساطري الشهداء التي<br />

مثلتها الثورة الإيرانية،‏ والتي عرب عنها باسم الروحانية<br />

السياسية،‏ كانت ‏صدى لبحوثه عن الهتمام بالنفس،‏<br />

ولنتصاره ملواقف الكنيسة كما مثلها ‏“البابا يوحنا<br />

بولس الثاين”،‏ ولنتصاره لنقابة التضامن البولونية،‏<br />

واإىل تاأثري لهوت التحرير يف اأمريكا الاتينية،‏ بل<br />

هنالك من يرى اأن تاأكيد فوكو على فرادة الثورة<br />

الإيرانية هو اإقرار بالأطروحة الستشراقية القائلة:‏<br />

‏“اأن الشرق ‏شرق والغرب غرب”،‏ ذلك ما يوؤكده<br />

حديثه على اأن للإيرانيني نظامهم اخلاص باحلقيقة،‏<br />

واأن تاأكيده على اليومي والعمل الصحفي هو اعرتاف<br />

بالضعف السرتاتيجي رغم حتليله ملوضوع السلطة من<br />

جهة الإسرتاتيجية )83( . واحلق،‏ فاإنه على الرغم من<br />

اإعجاب ميشيل فوكو بحدث الثورة،‏ وباختافها وتفردها<br />

اإل اأن ذلك مل مينعه من نقد ما اآلت اإليه الأو ‏ضاع بعد<br />

الثورة،‏ وبخاصة الإعدامات التي نفذتها حماكم الثورة،‏<br />

يوؤكد هذا الرسالة التي كتبها اإىل ‏“مهدي بزرجان”‏<br />

الذي كلفه الإمام اخلميني بتشكيل احلكومة حيث ذكره:‏<br />

‏“بضرورة احرتام حقوق الإنسان”‏ )84( . كما كتب مقال<br />

يف جريدة Monde“ ”Le بنيّ‏ فيه جانبا من اقتناعاته<br />

التي دعته اإىل تغطية الثورة الإيرانية،‏ واإىل دور الذاتية<br />

وكيف تدخل اإىل التاريخ ومتنحه نفسا وروحا،‏ ومبا اأن<br />

السلطة يف نظره،‏ ل متناهية لذا يجب معارضتها بقوانني<br />

ل ميكن جتاوزها،‏ وبحقوق ل ميكن تقييدها . 85<br />

- خالصة:‏<br />

واإجمال نستطيع القول اإن هذه العودة اإىل الديني،‏<br />

واإىل البعد الروحي ل تنطبق على فلسفة الأنطولوجيا<br />

التاريخية فقط،‏ واإمنا تنسحب على عديد التيارات<br />

الفلسفية والسياسية التي ‏شرعت يف طرح املصاألة<br />

الروحية من خال احلديث عن املقدس والإلهي والديني،‏<br />

وما يجري اليوم يف الفكر السياسي الغربي من نقاش<br />

حول طبيعة احلكم عموما يوؤكد هذه احلاجة اإىل اإعادة<br />

النظر من جديد يف خمتلف الأسس التي قام عليها<br />

املشروع احلضاري الغربي.‏ ومن بني هذه املواضيع نشري<br />

اإىل مسالة العرتاف،‏ وطبيعة الدولة،‏ وحقوق الإنسان،‏<br />

وبخاصة احلقوق الثقافية للأقليات وما تطرحه من<br />

مشكات.‏ وتعد التحليات التي قدمها مارسال غوشيه<br />

وليك فريي وريجس دوبري Regis“ ”Debray مثال<br />

على هذا النقاش الذي ميكن اختصاره يف:‏ عاقة الدين<br />

بالدولة العلمانية،‏ واإمكانية احلديث عن الروحانية<br />

العلمانية la“ ”spiritualité laïque )86( ، وعاقته<br />

بوضعية الأقليات الثقافية يف الغرب،‏ ومنها اجلاليات<br />

اأبحاث


2 0 1 1<br />

28<br />

الإصامية التي تعد ‏سببا من الأسباب التي دفعت نحو<br />

اإعادة النظر يف عاقة الدولة بالدين.‏ لذا،‏ ترى بعض<br />

الدراسات اأن حتليل ميشيل فوكو للسلطة الرعوية كما<br />

عرضها يف درسه ‏“الأمن،‏ الإقليم،‏ السكان”،‏ يثبت من<br />

جهة مكانة هذا الشكل من السلطة ‏ضمن حتليله لتاريخ<br />

اأشكال احلكم،‏ ويعكس من جهة اأخرى موقف فوكو من<br />

النقاش الاهوتي-السياسي لنموذج العلمنة وهو موقف<br />

يتسم بالرتباط باحلرية بوصفها ممارسة،‏ وبوصفها<br />

الإمكانية الأساسية للحرية الروحية،‏ اأو بتعبري اآخر<br />

الرتباط باحلرية ومنها احلرية الروحية الفردية،‏ مبا<br />

هي حرية جمالية واأخاقية وليس ‏سياسية،‏ وذلك لأن<br />

هنالك من يرى اأن الأخاق هي الديانة اجلديدة يف<br />

زمن الدميقراطية املابعد حداثية،‏ كما اأن هنالك من ل<br />

يرتدد يف القول اإن النتقال نحو الأخاق يشكل فرصة<br />

لهذه الدميقراطيات )87( . واحلق فاإن نشر درس ‏“تاأو يل<br />

الذات”‏ كان مناسبة لعديد التعليقات التي توؤكد احلياة<br />

الروحية مبا هي حتول يف فلسفة ميشيل فوكو ، ومبا هي<br />

جتربة واإمكانية وبديل يف الوقت نفسه )88( .<br />

واإذا كان الفكر السياسي الغربي يعيد النظر يف<br />

بعض مبادئه الناظمة للحياة الأخاقية والسياسية،‏<br />

فاإننا نعتقد اأن الثقافة العربية والإصامية يف اأشد<br />

احلاجة اإىل اإعادة التفكري يف هذه العاقة التي يحكمها<br />

غالبا توجهان اأساسيان متقابان:‏ توجه يرى اندماج<br />

السياسي يف الديني اندماجا كاما،‏ ويجد تعبريه يف<br />

خمتلف التيارات الإصامية السياسية املعاصرة،‏ ويف<br />

املقابل هنالك تيار علماين رفع العلمانية اإىل درجة<br />

العقيدة والأيديولوجية،‏ نافيا اأن تكون اإجراءً‏ قانونيا<br />

منظما لعاقة الدين بالسياسة.‏ ولقد قام هذان التياران<br />

باستبعاد منهجي منظم للراأي القائل اإن”‏ الإصام يف<br />

نصوصه الأصلية،‏ ويف فضاء ‏»التيار الأغلبي«‏ العمومي<br />

الذي ميثله،‏ يعرض خاصا ارضيا مباشرا قائما<br />

على ‏“العدل”‏ و“املصلحة”‏ يف ‏سياق روؤية حضارية<br />

وقيم اإنسانية رحيمة”‏ (98) . ‏ضمن هذا السياق العاملي<br />

والإصامي،‏ هل ميكن للأنطولوجيا التاريخية ‏-مبا هي<br />

فلسفة نقدية-‏ اأن تسهم يف اإعادة النظر يف عاقتنا<br />

بالدين؟ قد نكون بطرحنا هذا الصوؤال نطالب هذه<br />

الفلسفة مبا هو مناف لطبيعتها،‏ نظرا لرفضها تقدمي<br />

بدائل نظرية وسياسية،‏ اإل اأن اهتمامها بالدين يفرض<br />

علينا الوقوف عند بعض العامات املميزة لهذا املوقف،‏<br />

ومنها على وجه التحديد:‏<br />

1. يعد الدين ‏-مبا هو خطاب وممارسة-‏ عنصرا<br />

اأساسيا يف الثقافة الإنسانية عموما،‏ ويف الثقافة الغربية<br />

على وجه التحديد،‏ كما يعترب ‏سلطة ممثلة بالسلطة<br />

الرعوية والدولة العادلة.‏ وهو خطاب خاضع لآليات<br />

السلطة واملعرفة،‏ وللرهانات الإسرتاتيجية والتكتيكية،‏<br />

وللتحولت التاريخية.‏ واإذا كانت خمتلف اأشكال السلطة<br />

يف نظر فوكو متماثلة،‏ مبا اأن السلطة عاقة تقوم على<br />

القوة يف وضع اسرتاتيجي معني،‏ وتخضع للتحول يف<br />

اأشكالها واآلياتها وتقنياتها عرب مراحل تاريخية خمتلفة،‏<br />

فاإن حتليله للدولة الليربالية واآلياتها يبني مدى اأهمية<br />

قيمة احلرية التي ظهرت يف ‏شكل املجتمع املدين حتت<br />

تاأثري القتصاد السياسي الذي يعد حتقيقاً‏ للحرية وحدّ‏<br />

ا للسلطة.‏<br />

. 2 اإن الدين مبا هو جتربة ثقافية ‏سياسية<br />

وروحية،‏ ومبا هو قوة ‏سياسية )90( ، قد جتلى يف حدث<br />

الثورة الإيرانية التي ‏شكلت مناسبة للفيلسوف ميشيل<br />

فوكو ليوؤكد على بعض اجلوانب املنهجية للأنطولوجيا<br />

التاريخية،‏ وبخاصة مفهومه للفلسفة مبا هي تشخيص<br />

للحاضر،‏ ومبا هي اهتمام باملختلف،‏ ومبا هي مقاومة،‏<br />

ومبا هي حترر روحي.‏ واإذا كانت عبارة ‏“السياسة<br />

الروحية”‏ حتمل مفارقة ظاهرة،‏ فاإنها تعد يف نظر<br />

ميشيل فوكو مبثابة مطلب اأخاقي،‏ وحق ‏سياسي،‏ على<br />

السلطة اأن تضمنه ملواطنيها ‏سواء اأكانت ‏سلطة دينية اأم<br />

علمانية،‏ لأنها تاأكيد على قيمة احلرية والتحرر،‏ ولأنها<br />

اأساس حقوق الإنسان )91( . اإن هذا املوقف الفلسفي هو<br />

الذي دفع مبيشيل فوكو يف ‏سياق رده على بعض منتقدي<br />

موقفه من الثورة الإيرانية اأن يقول:‏ ‏“اإن الإصام بوصفه<br />

قوة ‏سياسية يعد مصاألة مهمة يف احلاضر،‏ ويف املستقبل،‏<br />

واإن الشرط الأساسي ملناقشتها بعناية وذكاء،‏ هو اأن ل<br />

نبداأ بالكراهية”‏ )92( .


29<br />

2 0 1 1<br />

3. اإن اهتمام فوكو بحدث الثورة الإيرانية قريب،‏<br />

يف تقديرنا،‏ من ذلك التاأويل الذي قدمه لنص كانط<br />

‏)ما الثورة؟(‏ يظهر ذلك يف تاأكيده اأن كانط مل يهتم<br />

بالثورة الفرنسية مبا هي قلب للأحداث،‏ ول مبا هي يف<br />

ذاتها عامة على التقدم،‏ واإمنا بالطريقة التي جرت<br />

بها الأحداث،‏ والكيفية التي استقبلها بها الناس غري<br />

الفاعلني،‏ والذين تاأثروا بها.‏ والسبب يف ذلك،‏ اأن كانط<br />

يرى،‏ فيما يذهب اإليه فوكو،‏ اأنه لو طلب من الفاعلني<br />

اأو قُدر لهم القيام بالثورة مرة اأخرى،‏ ملا فعلوا ذلك،‏<br />

وملا اأقدموا على ذلك،‏ من هنا وجب البحث عن عامة<br />

التقدم يف التعاطف واحلماس الذي حتدثه الثورة ‏“لأنها<br />

كما يقول كانط عامة على تاأهب واإقبال اأخاقي<br />

للإنسانية”‏ )93( .<br />

4. اإن ما دعت اإليه الأنطولوجيا التاريخية من<br />

جماليات للوجود،‏ واهتمام باحلياة الروحية يف ‏صورة<br />

زهد فلسفي يوؤكد عودة الديني يف فلسفة ما بعد احلداثة<br />

هذا من جهة،‏ ويطرح من جهة اأخرى مشكلة تاأويل هذه<br />

الفلسفة كما تساءل عن ذلك بحق الفيلسوف الكندي<br />

‏شارل تايلور”‏Charles ”Taylor )94( . واأن التمعن يف<br />

هذه املفاهيم يفيد اأن ميشيل فوكو يدعو اإىل بديل يتمثل<br />

يف حتويل احلياة اإىل اأثر فني،‏ ولكن هذه الدعوة تضع<br />

مشروعه الفلسفي يف مفارقة ظاهرة،‏ وتطرح عليه<br />

‏صوؤال اأساسيا وهو:‏ هل جماليات الوجود وما تتضمنه<br />

من روحانية تشكل بديا للهوية الغربية؟<br />

5. اإن العامات السابقة توؤدي ‏-يف جمملها-‏ اإىل<br />

اإعادة النظر يف طبيعة العاقة بني الدين والتنوير،‏<br />

ونقلها من حالة النقض والنفي والرفض كما ذهبت اإىل<br />

ذلك احلداثة،‏ اإىل حالة تتميز من جهة بدور الدين يف<br />

عملية التنوير،‏ وبخاصة يف عملية النقد التي انبثقت<br />

من فنون احلكم/امللك ، 95 ومن جهة اأخرى يف املعنى<br />

اجلديد للحداثة الذي يتاأسس على املوقف ”attitude“<br />

واخللق ‏“‏ethos‏”بحسب ميشيل فوكو )96( ، وذلك من<br />

خال تاأو يل للفلسفة الكانطية التي ‏شكلت الأساس<br />

الفلسفي لفلسفات ما بعد احلداثة عموما،‏ ولفلسفة<br />

الأنطولوجيا التاريخية على وجه التحديد،‏ ويتفق يف<br />

تقديرنا مع موقف كانط من الدين بوصفه اأخاقا )97( ،<br />

على الرغم من الختاف الكبري يف مفهوم الأخاق<br />

بني الفيلسوفني.‏<br />

اأبحاث


2 0 1 1<br />

30<br />

الهوامش<br />

(Endnotes)<br />

1 . Geffre, Claude, 2001,La modernité, un défi pour le christianisme et l’islam, in,Théologiques,<br />

vol.9, n2, ,p.138.<br />

2 . Ibid,p.140.<br />

3. املقصود بذلك هو:‏ املجمع الكنسي الكاثوليكي الثاين الذي افتتحه يوحنا الثالث والعشرين ‏سنة ، 1962 واختتم<br />

اأعماله ‏سنة 1965 من قبل بولس السادس،‏ ويعترب من الأحداث الكربى يف تاريخ الكنيسة الكاثوليكية،‏ وذلك نظرا<br />

لنفتاحه على احلداثة والتقدم العلمي،‏ وقبوله مببداأ فصل الدين عن الدولة.‏<br />

4 . Gauchet ,Marcel, 1985,Le désenchantement du monde. Une histoire politique de la religion,<br />

Paris, Gallimard, p. 27.<br />

5. بنيّ‏ ميشيل فوكو مضمون النطولوجيا التاريخية يف حوار له مع دريفوس رابينوف بقوله:‏ ‏“هنالك ثاثة ميادين<br />

ممكنة من النسابيات.‏ اأول،‏ انطولوجيا تاريخية لذواتنا يف عاقاتنا مع احلقيقة تتيح لنا اأن نكون اأنفسنا كخالقي معرفة،‏<br />

ثم انطولوجيا تاريخية لذواتنا يف عاقتنا مبيدان ‏سلطوي حيث نكون اأنفسنا كذوات نوؤثر يف الآخرين،‏ واأخريا،‏ انطولوجيا<br />

تاريخية لعاقاتنا مع الأخاق،‏ تتيح لنا اأن نكون اأنفسنا كذوات اأخاقية.‏ اإذن،‏ هنالك ثاثة حماور ممكنة للنسابية.‏<br />

وكانت جميعها حاضرة،‏ ولوبشكل غامض قليا،‏ يف ‏»تاريخ اجلنون«.‏ وفصلت حمور السلطة يف ‏»املراقبة واملعاقبة«،‏<br />

وحمور الأخاق يف ‏“تاريخ اجلنسانية«”.‏ ‏)ص.‏ 209-208. يف،‏ اوبري دريفوس وبول رابينوف،”د ت(،‏ ميشيل فوكو<br />

مسرية فلسفية،ترجمة جورج ابي ‏صالح،‏ مراجعة وشروحات مطاع ‏صفدي،‏ مركز الإمناء القومي،‏ بريوت لبنان.‏ يبني<br />

هذا النص بجاء امليادين التي تتشكل منها هذه الفلسفة،‏ وهي املعرفة والسياسة والأخاق،‏ كما تعد تعبريا عن املراحل<br />

الفكرية التي مر بها هذا الفيلسوف،‏ والتي اطلق عليها مرة اسم ‏“الركيولوجيا”‏ وهو ما حملته كتاباته الأوىل وبخاصة<br />

‏“الكلمات والشياء ، 1966 من اجل اركيولوجيا العلوم الإنسانية،‏ وكذلك كتابه املنهجي ‏“اركيولوجيا املعرفة”،‏ ثم<br />

وصف فلسفته باجلينيالوجيا وهو ما دعا اليه يف درسه بالكوليج دي فرانس ‏“نظام اخلطاب”‏ 1971، ودراسته:‏ ‏“نيتشه<br />

اجلينيالوجيا والتاريخ”،‏ وكذلك يف : ‏“اإرادة املعرفة”،‏ 1976.<br />

6. قدم كل واحد من هوؤلء الفاسفة دراسة مميزة حول موضوع الدين،‏ كما متت دراسة اآراوؤهم من قبل عدد هام من<br />

الباحثني،‏ انظر على ‏سبيل املثال:‏<br />

- Derrida, Jacques &Vattimo, Gianni,1996, La Religion, Paris, Seuil.<br />

- Vattimo, Gianni, 1998, Espérer croire, Paris, Seuil.<br />

- Rorty, Richard &Vattimo, Gianni, “sous la direction de Santiago Zabala), 2006, L’avenir<br />

de la religion, Solidarité, charité, ironie, Bayard Centurion Éditeur, Paris.<br />

- Gauchet, Marcel, 1998, La Religion dans la démocratie. Parcours de la laïcité, Paris,<br />

Gallimard.<br />

- Ferry, Luc & Gauchet, Marcel, 2004,Le religieux après la religion, Paris, Grasset.<br />

- Taylor ,Charles, 2003, La diversité de l’expérience religieuse aujourd’hui, Montréal,<br />

Bellarmin.<br />

- Milot ,Micheline, 1988,La laïcité : une façon de vivre ensemble, in, Théologiques, vol.6,<br />

n1.<br />

- Gagey , Heri-Jerome, 2001, Sur la théologie politique, in, Raisons politiques, n4.<br />

Fortin , Anne, 2000, Les conditions de l’expérience religieuse dans la modernité, in, Laval<br />

théologique et philosophiques,vol.56,n1.


31<br />

2 0 1 1<br />

7. قام الكاتب الأمريكي جريمي كرات بجمع هذه النصوص يف كتاب حمل عنوانا:‏ ‏“الدين والثقافة عند ميشيل فوكو”‏<br />

اأبحاث<br />

-<br />

1999، انظر:‏<br />

Carrette, Jeremy , 1999, Religion and culture: Michel Foucault, Rutledge edition<br />

&Manchester University Press.<br />

‏-كما قام هذا الكاتب بالتعاون مع جيمس برنوي بالإشراف على دراسة هامة يف هذا املوضوع تناولت عاقة<br />

ميشيل فوكو بالاهوت،‏ وضمت جمموعة هامة من الباحثني انظر:‏<br />

- Bernauer, James & Carrette, Jeremy, 2002, James Bernauer& Jeremy Carrette, Michel Foucault<br />

and Theology, The Politics of Religious Experience, Ashgate Publishing Company, USA.<br />

8 . Bernauer, James & Carrette, Jeremy, 2002, Michel Foucault and Theology, The Politics of<br />

Religious Experience, Ashgate Publishing Company, USA, p.1.<br />

9 . Ibid,p.4.<br />

10 . Foucault, Michel, 1994, Du gouvernement des vivants, in, Dits et écrits, tome 4, Paris,<br />

Gallimard, p. 125.<br />

11. Foucault, Michel, 1994, Subjectivité et vérité, in, Dits et écrits, tome 4, Paris, Gallimard,<br />

p.216-218.<br />

12 . Foucault, Michel, 1994, Sexualité et pouvoir, in, Dits et écrits, tome 3, Paris, Gallimard,<br />

p.556.<br />

13. فوكو،‏ ميشيل،‏‎1990‎‏،اإرادة املعرفة،‏ ترجمة ومراجعة وتقدمي مطاع ‏صفدي بالشرتاك مع جورج ابي ‏صالح،‏ مركز<br />

الإمناء القومي،‏ بريوت لبنان،ص‎81‎‏.‏<br />

14 . Foucault, Michel, Sexualité et pouvoir, op-cit,p.553-556.<br />

15. خص هذا املوؤرخ املختص يف التاريخ الروماين ميشيل فو كوبدراستني هامتني،الأوىل حول عاقته بالتاريخ والثانية<br />

حول فكره عموما،‏ ولقد كان فني من الأصدقاء املقربني لفوكو،‏ ومن زمائه يف الكوليج دي فرانس انظر:‏<br />

-<br />

Veyne, Paul, 1978, comment on écrit l’histoire, suivi de : Michel Foucault révolutionne<br />

l’histoire, Paris, Seuil.<br />

Veyne, Paul, 2008, Michel Foucault. Sa pensée, Sa personne, Paris, Albin Michel.<br />

16 . Foucault, Michel, Sexualité et pouvoir, op-cit,p.560.<br />

17 . Foucault, Michel, 1994, Sexualité et solitude, in, Dits et écrits, tome 4, Paris, Gallimard,<br />

p.173.<br />

18 .Ibid,p.176.<br />

19 .Ibid,p.177.<br />

. 20 اهتم ميشيل فوكو كثريا بهذا الكاتب والراهب،‏ وحلل بالتفصيل كتابه:‏ ‏“املوؤسسات الرهبانية”‏ انظر:‏<br />

- Foucault, Michel, 2004, Sécurité, Territoire, Population Paris, Seuil & Gallimard.<br />

21 . Foucault, Michel, Sexualité et solitude, op-cit,p.177-178.<br />

22 . Foucault, Michel, 1994, Le combat de la chasteté, in, Dits et écrits, tome 4, Paris, Gallimard,<br />

p.307-308.<br />

23 . Foucault, Michel, 1994, Sexualité et vérité, in, Dits et écrits, tome 4, Paris, Gallimard, p.136-<br />

137.<br />

24 . Foucault, Michel, Michel Foucault, Sexualité et pouvoir, op-cit, p.564-565.<br />

25. Ibid,p.566.<br />

26. فوكو،‏ ميشيل،‏ اإرادة املعرفة،‏ مصدر ‏سابق،‏ ‏ص 38.<br />

27. نشري يف هذا السياق اإىل تقدير ميشيل فوكو للديانات الشرقية،‏ وبخاصة للبوذية ولأحد فروعها األ وهو»الزان«‏ الذي<br />

زار بعض معابده واأقام فيها خال زيارته لليابان،‏ كما اطلع على كتابات هذه الديانة من خال الأبحاث التي اأجنزها


2 0 1 1<br />

32<br />

اأستاذه جورج دمييزل.‏ ويعود حبه للزان اإىل كونه يشكل نوعا من التصوف املغاير للتصوف املسيحي الذي يقوم يف نظره<br />

على مبداأ التفريد«‏individualisation‏«،‏ يف حني اأن الزان يعتمد على تقنيات تهدئة الذات.‏ انظر:‏<br />

- Foucault, Michel, 1994, Dits et écrits, tome 3, Paris, Gallimard, p. 620-621.<br />

. 28 نقرتح لفظ امللك ترجمة لكلمة gouvernementalite« »، la وذلك باملعنى الذي ذهب اإليه املاوردي وابن خلدون<br />

بدل من ترجمته باحلكمانية كما فعل حممد مياد،‏ انظر،‏<br />

- فوكو،‏ ميشيل ،1994، دروس،‏ ترجمة حممد مياد،‏ دار توبقال للنشر،الدار البيضاء ‏،املغرب.‏<br />

29 . Foucault, Michel, 1994,


33<br />

2 0 1 1<br />

بريوت-لبنان،‏ ‏ص 397.<br />

اأبحاث<br />

41 . Foucault, Michel, Téhéran : la foi contre le chah, op-cit, p.683.<br />

42 . Ibid,p.686.<br />

43 . Ibid,p.688.<br />

44. يتفق هذا املوقف مع ما ذهب اإليه يف كتابه اركيولوجيا املعرفة،‏ وذلك يف ‏سياق رده على الفيلسوف لوي التوسري،‏<br />

انظر:‏<br />

- Foucault, Michel, 1969, L’archéologie du savoir, Paris, Ed, Gallimard, p.240-243.<br />

45. روي،‏ اوليفي،‏ 2003، عوملة الإصام،‏ ترجمة لرا معلوف،‏ دار الساقي،بريوت لبنان،‏ ‏ص‎33‎‏.‏<br />

46 . Foucault, Michel, Une poudrière appelée islam, op-cit,p.761.<br />

47 . Ibid, p.761.<br />

48 . Foucault, Michel, A quoi rêvent les Iraniens ? Op-cit,p.691.<br />

49 . Ibid,p.691.<br />

50 . Ibid,p.692.<br />

51 . Ibid,p.692.<br />

52 . Ibid,p.693.<br />

53 . Ibid,p.694.<br />

54 . Foucault, Michel, Le chef mythique de la révolte de l’Iran,op-cit, p.714.<br />

55 . Foucault, Michel, Inutile de se soulever ?op-cit, p.792.<br />

56 . Foucault, Michel, L’Herméneutique du sujet, op-cit,p.7.<br />

57 . Ibid,p.317.<br />

58 . Ibid,p.243.<br />

59 . Ibid,p.306.<br />

60 . Ibid,p.307.<br />

61 . Ibid,p.307.<br />

62. حول موضوع جماليات الوجود انظر:‏<br />

- Foucault, Michel, 1994, Usage des plaisirs et techniques de soi, in, Dits et écrits, tome 4,<br />

Paris, Gallimard, p.539-561.<br />

- Foucault, Michel, A propos de la généalogie de l’éthique : un aperçu du travail en cours,opcit,p.609-631.<br />

- Foucault, Michel, Une esthétique de l’existence, op-cit, p.730-735.<br />

63 . Foucault, Michel, L’Herméneutique du sujet, op-cit,p. 406-407.<br />

64 . Rose, Nicolas, 2006, Foucault, Laing et le pouvoir psychiatrique, in, Sociologie et société, N<br />

2, p.113-131.<br />

65. بريستو،‏ جوزف،‏ 2007، اجلنسانية،‏ ترجمة عدنان حسن،‏ دار احلوار،‏ الاذقية-سورية،‏ ‏ص‎319‎‏.‏<br />

. 66 املرجع نفسه،‏ ‏ص‎324‎‏.‏<br />

67 . Foucault, Michel, L’Herméneutique du sujet, op-cit,p. p.7.<br />

68 . Baudrillard, Jean, 2004, Oublier Foucault, Paris, Galilée.<br />

- انظر كذلك:‏<br />

- Lacub, Marcella & Maniglier, 2004,Patrice, Le drame de la sexualité, in, Le magazine littéraire,<br />

n 435, octobre, p.58.<br />

69 . Leclerc, Gérard, 2001, Histoire de la vérité et généalogie de l’autorité, in Cahiers international<br />

de sociologie, n 111, p.205-231.<br />

. 70 حول موضوع املسار الفلسفي مليشيل فوكوانظر:‏


2 0 1 1<br />

34<br />

- Bouchard, Guy, 2003, Michel Foucault : unité ou dispersion de l’oeuvre ? in, Laval théologique<br />

et philosophique, Volume 59, N 3.<br />

. 71 حول موضوع التجربة الدينية والذاتية انظر على ‏سبيل املثال الدراسات الآتية:‏<br />

- Despland, Michel, 1994, L’expérience religieuse au XIX I. le for intime et l’esthétisation<br />

de l’existence, in, Laval théologique, vol 50, N 3.<br />

Fortine, Anne, 2000, les conditions de l’expérience religieuse dans la modernité, in, Laval<br />

théologique, vol 56, N 1.<br />

72 . Zarka, Yves Charles, 2002, Foucault et l’idée d’une histoire de la subjectivité : le moment<br />

moderne, in, Archive de philosophie, tome 65, N 2,p.255-267.<br />

. 73 انظر على ‏سبيل املثال اأعمال الن توران وبخاصة كتابه:‏ نقد احلداثة،‏ وهابرماس يف كتابه:‏ اخلطاب الفلسفي<br />

للحداثة،‏ وتايلور يف كتابه:‏ مصادر الذات،‏ وريكور يف كتابه:‏ الذات عينها كاآخر.‏<br />

74 . Machery, Pierre, Introduction a la présentation de l’herméneutique du sujet de Foucault, in,<br />

La philosophie au sens large,”http://stl.recherche.univ-lille3.fr.<br />

75 . Roy, Olivier, 2004, L’énigme du soulèvement : Michel Foucault et l’Iran, in revue Vacarmes,<br />

N 28, p.25.<br />

76 . Ibid, p.27.<br />

77 . Foucault, Michel, Michel Foucault et l’Iran, in Dits et écrits, tome 3, op-cit, p.762.<br />

78 . Ibid, p. 749.<br />

79 . Ibid, p. 749.<br />

80 . Ibid, p.749.<br />

81 . Chevalier, Philippe, 2004, La spiritualité politique, Michel Foucault et l’Iran,in la revue<br />

Projet, N 281.<br />

82 . Foucault, Michel, Radioscopie de Michel Foucault, in Dits et écrits, tome 2, op-ci, p. 798.<br />

83 . Bensaïd, Daniel, 2004, Politiques de Foucault, in, Vacarmes, N 28.<br />

84 . Foucault, Michel, Lettre ouverte a Mehdi Bazargan, in Dits et écrits, tome 3,op-cit,p.780.<br />

85 . Foucault, Michel, Inutile de se soulever, in Dits et écrits, tome 3,op-cit,p.794.<br />

86 . Ferry, Luc & Gauchet, Marcel, 2004, Le religieux après la religion, Paris,Ed, Grasset, p.14.<br />

-<br />

-<br />

-<br />

87. انظر حول هذا املوضوع الدراسات الآتية:‏<br />

Buttgen, Philippe, 2007, Théologie politique et pouvoir pastoral, in, Annales, histoire,<br />

sciences sociales, 62 année, N 5, p.1129-1154.<br />

Boisvert, Yves, 1999, L’éthique est –elle une nouvelle


35<br />

2 0 1 1<br />

94 . Taylor, Charles, 1989, Foucault, la liberté, la vérité, in, Couzens Hoy David”Ed), Michel<br />

Foucault : Lectures critiques, tra de l’anglais par Jacques Colson, Editions Universitaires, Paris,<br />

p.98.<br />

95 . Michel Foucault, 1990, Qu’est- ce qu la critique ? “Critique et AUFKLARUNG), in, Bulletin<br />

de la société française de philosophie, 84 année,N 2,p.36.<br />

96 . Foucault, Michel, Qu’est-ce que les Lumières ? In, Dits et écrits, tome 4, op-cit, p.568.<br />

97. حنفي،‏ حسن،‏ 1982، قضايا معاصرة:‏ 2 يف الفكر الغربي املعاصر،‏ دار التنوير،‏ بريوت-لبنان،‏ ‏ص‎135‎‏.‏<br />

خليفة،‏ فريال حسن،‏ 2001، الدين والصام عند كانط،‏ مصر العربية للنشر والتوزيع،القاهرة-مصر،ص‎81-80‎‏.‏<br />

قائمة باملصادر واملراجع<br />

- اأوال.‏ قائمة باملصادر واملراجع العربية:‏<br />

املسكيني،‏ فتحي،‏‎2001‎‏،‏ الهوية والزمان:‏ تاأويات فينومينولوجية ملصاألة ‏»النحن«،‏ دار الطليعة،‏ بريوت-‏ لبنان.‏<br />

1. بريستو،‏ جوزف،‏ 2007، اجلنسانية،‏ ترجمة عدنان حسن،‏ دار احلوار،‏ الاذقية-سورية.‏<br />

2. بودريار،‏ جان،‏ 2008، املصطنع والصطناع،‏ ترجمة جوزيف عبد اهلل،‏ املنظمة العربية للرتجمة،‏ بريوت-لبنان.‏<br />

3. جدعان،‏ فهمي،‏ 2007، يف اخلاص النهائي:‏ مقال يف وعود الإصاميني والعلمانيني والليرباليني،‏ دار الشروق<br />

4. للنشر والتوزيع،‏ عمان ‏–الأردن.‏<br />

حنفي،‏ حسن،‏ 1982، قضايا معاصرة:‏ 2 يف الفكر الغربي املعاصر،‏ دار التنوير،‏ بريوت-لبنان.‏<br />

5. خليفة،‏ فريال حسن،‏ 2001، الدين والصام عند كانط،‏ مصر العربية للنشر والتوزيع،‏ القاهرة-مصر.‏<br />

6. دريفوس،‏ اوبري ورابينوف،‏ بول،‏ د ت ‏“ميشيل فوكو مسرية فلسفية”،‏ ترجمة جورج ابي ‏صالح،‏ مراجعة وشروحات<br />

7. مطاع ‏صفدي،‏ مركز الإمناء القومي،‏ بريوت لبنان.‏<br />

روي،‏ اوليفي،‏ 2003، عوملة الإصام،‏ ترجمة لرا معلوف،‏ دار الساقي،بريوت لبنان.‏<br />

8. فوكو،‏ ميشيل،‏ ‎1994‎دروس،‏ ترجمة حممد مياد،‏ دار توبقال للنشر،الدار البيضاء ‏،املغرب.‏<br />

9. 10. فوكو،‏ ميشيل،‏ 1990، اإرادة املعرفة،‏ ترجمة ومراجعة وتقدمي مطاع ‏صفدي بالشرتاك مع جورج ابي ‏صالح،‏ مركز<br />

الإمناء القومي،‏ بريوت لبنان.‏<br />

كانط،‏ امياونويل،‏‎1987‎‏،‏ الإجابة على ‏صوؤال التنوير،‏ ترجمة عبد الغفار مكاوي يف كتاب:‏ زكي جنيب حممود:‏<br />

11. فيلسوفا واديبا ومعلما،‏ منشورات جامعة الكويت.‏<br />

متحدة،‏ روي،‏ 2007، بردة النبي:‏ الدين والسياسة يف اإيران،‏ ترجمة وتعليق رضوان السيد،‏ دار املدار الإصامي،‏<br />

12. بريوت-لبنان.‏<br />

اأبحاث


2 0 1 1<br />

36<br />

- ثانيا.‏ قائمة باملصادر واملراجع االأجنبية:‏<br />

1). Baudrillard, Jean, 2004, Oublier Foucault, Paris, Galilée.<br />

2). Bensaid, Daniel, 2004, Politiques de Foucault, in, Vacarmes, automne, N 28.<br />

3). Bernauer, James & Carrette, Jeremy, 2002, Michel Foucault and Theology, The Politics of<br />

Religious Experience, Ashgate Publishing Company, USA.<br />

4). Boisvert, Yves, 1999, L’éthique est –elle une nouvelle


37<br />

2 0 1 1<br />

اأبحاث<br />

31). Foucault, Michel, 1994, Subjectivité et vérité, in, Dits et écrits, tome 4, Paris, Gallimard.<br />

32). Foucault, Michel, 1994, Sexualité et solitude, in, Dits et écrits, tome 4, Paris, Gallimard.<br />

33). Foucault, Michel, 1994, Sexualité et solitude, in, Dits et écrits, tome 4, Paris, Gallimard.<br />

34). Foucault, Michel, 1994, Le combat de la chasteté, in, Dits et écrits, tome 4, Paris, Gallimard.<br />

35). Foucault, Michel, 1994, Sexualité et vérité, in, Dits et écrits, tome 4, Paris, Gallimard.<br />

36). Foucault, Michel, 1994,


التاريخ والرسد<br />

وتشكالت الهوية<br />

د.اإسماعيل نوري الربيعي<br />

باحث واأكادميي من العراق


41<br />

2 0 1 1<br />

Abstract<br />

How can we distinguish the relationship<br />

between history and narration? This, taking<br />

into consideration the ambiguity that arises<br />

from direction. Also, the heavy part that<br />

narration plays in directing history, since the<br />

way in which something is narrated is governed<br />

or restricted by the objective of narratives.<br />

Therefore, it is important to distinguish the<br />

relationship between the two: history being<br />

an instrument of interpretation and, narration<br />

being an instrument of expression and<br />

whatever implications that can be drawn from<br />

them. In doing so, the problem that faces a<br />

historian arises, since he/she looks at time; an<br />

element that Paul Ricoeur describes as not<br />

movement, and also requires distinguishing<br />

instance, time frames and breaks that occur<br />

within it.<br />

It is important also to specify the<br />

interaction between history and narration,<br />

when we look at time and narrative identity;<br />

history with all its universality, completion<br />

and documentation and narration with its face<br />

value, imagination, assumed fairness and<br />

sometimes its strangeness.<br />

This paper, therefore, focuses on finding<br />

the relationship between history and narration,<br />

by examining narrated texts represented<br />

by the Maqama, colonial texts and popular<br />

biographies. This will be done using various<br />

methodologies such as Greima’s Semiotic<br />

Narrative theory and Paul Ricoeurd’s theory<br />

on action, difficulty of time, identity and<br />

narration.<br />

امللخص<br />

كيف ميكن متييز العاقة القائمة بني التاريخ والسرد؟<br />

هذا بحساب حالة اللتباس القائم يف جمال التوجيه،‏ اإذ<br />

يتبدى ثقل دور السرد يف توجيه التاريخ انطاقا من طريقة<br />

الرواية التي تتصدى لها الوظيفة السردية.‏ من هنا تربز<br />

اأهمية البحث يف متييز العاقة بني التاريخ بوصفه اأداة<br />

للتفسري،‏ والسرد الذي ينطوي على مهمة التعبري،‏ وما ميكن<br />

اأن يتم احلصول عليه من تصورات ميكن الوقوف عليها.‏<br />

ومن هنا حتديدا تربز الإشكالية التي تواجه املوؤرخ بوصفه<br />

متاأما يف الزمان،‏ هذا الأخري الذي يصفه بول ريكور باأنه<br />

ليس حركة ، بقدر ما هو حاجة اإىل متييز الآنيات وحساب<br />

الفواصل فيه .<br />

بني الزمان والهوية السردية تربز مدى احلاجة<br />

لتحديد مدى التفاعل القائم بني التاريخ والسرد،‏ التاريخ<br />

بكل كونيته وحتققاته وتوثيقاته،‏ والسرد بظاهريته وخياله<br />

وعدالته املفرتضة وغرائبيته اأحيانا.‏ ومن هذا يسعى البحث<br />

اإىل رصد العاقة القائمة بني الطرفني،‏ عرب اختبار جملة<br />

من النصوص السردية،‏ التي متثلت يف فن املقامة،‏ وبعض<br />

النصوص الكولونيالية،‏ والسرية الشعبية.عرب الستعانة<br />

بتطبيقات منهجية متنوعة ، كنظرية العوامل لغرمياس،‏<br />

ونظرية الفعل واإشكالية الزمان والهوية والسرد لدى بول<br />

ريكور.‏<br />

اأبحاث


2 0 1 1<br />

42<br />

التاريخ والرسد وتشكالت الهوية<br />

د.اإسماعيل نوري الربيعي<br />

البحث عن الشرعية،‏ هذا هو القوام الذي تتجلى فيه جممل الصراعات على الصعيد الجتماعي،‏ ‏شرعية<br />

تفصح عنها املمارسة املباشرة تارة،‏ والنسق السائد يف الكثري من الأحيان تارة اأخرى،‏ ومن واقع الشد واجلذب<br />

يفصح التاريخ عن اإبراز للمجمل من التداخات التي تفرضها مقومات البحث عن السلطة واملكانة داخل املنظومة<br />

الجتماعية.بني العلم مباديته ومنطق تفاعله املباشر مع الواقع،‏ والسردي باأخاقياته وقيمه بوصفه املوجه واملقنن<br />

واملحدد للفعل الجتماعي.اإنها املواجهة الساعية،‏ نحو التمكن والسيطرة على اإنتاج السمات الفارقة ملضمون<br />

املعرفة.‏ وبالقدر الذي يكون التمييز للسلطة املطلقة التي مارسها الأخاقي على العلمي على مدار حقب التاريخ<br />

الطويلة،‏ والتبعية التي تبدى بها العلمي لصالح فكرة اخللود السومرية،‏ حيث كلكامش الذي نصحته الآلهة باأن<br />

البقاء والستمرار مير عرب بوابة الإجناز العظيم،‏ والشغف الفرعوين بالعمارة والتحنيط،‏ واملثالية الصينية<br />

والصوفية الهندية والأسطورة والفلسفة الإغريقية والتنظيم القانوين الروماين،‏ واملعرفة العلمية الواسعة التي<br />

حتصلت عليها جممل احلضارات الإنسانية،‏ اإن كان على مستوى الهندسة اأو الكيمياء وعلوم الرياضيات والأرقام<br />

والفلك والطب،‏ اإل اأن املوجه الروحي والأخاقي كان ميثل احلضور الأهم والأساسي،‏ فيما بقي العلمي يحتل<br />

مكانة التابع،‏ وصول اإىل بروز مامح الثورة الصناعية يف اأوروبا،‏ التي مثلت كسرا للعاقات التي قامت بني طريف<br />

املعادلة على مدى التاريخ.‏<br />

بقيت املعرفة السردية تعيش حلظات القدرة على<br />

املبادرة،‏ باعتبار قدرتها على النتشار ومتكنها من التاأثري<br />

والتفاعل مع خمتلف الأمناط والسياقات،‏ يف الوقت<br />

الذي بقيت املعرفة العلمية تعيش على الصرامة والدقة<br />

والربهان،‏ والتكافوؤ بني طريف العاقة،‏ فالعلم يستند<br />

اإىل مقدمات ونتائج ثابتة،‏ غري قابلة للتاأويل والتفسري<br />

املفتوح،حيث قوام املكافئ والنظري والندية،‏ فيما تعتاش<br />

املعرفة السردية على كم املفارقة التاأويلية للثقافات<br />

)1 ) ، ومن هذا قُيض للسرد اأن يتكيف مع خمتلف<br />

املختلفة<br />

السياقات التاريخية والجتماعية والسياسية.‏<br />

الهوية الناقصة<br />

بني الكلي والشمويل،‏ بقيت العاقة بني السردي<br />

والعلمي تعيش حالة من املواجهة،‏ ل ‏سيما يف اأعقاب<br />

تصدر منطق الكشف العلمي الذي راحت تتميز قسماته<br />

خال عصر الثورة العلمية الذي يقوم على مراحل؛<br />

الأوىل؛ النهضة 1440-1540، واحلروب الدينية<br />

2( ) . فيما بقي<br />

،1540-1650 والإصاح 1650-1690<br />

الركون اإىل السردي ميثل الأساس الذي تقوم عليه جممل<br />

فعاليات البحث عن الشرعية.‏ ف كريستوفر كولومبس<br />

مكتشف العامل احلديث مل يتورع عن تهجني الآخر،‏ عرب<br />

‏صاح الوصف ‏)الهنود احلمر(‏ اأو عن طريق التصفية<br />

والقتل والتدمري،‏ اأو من خال التهجري القسري للمعاين<br />

والسياقات الثقافية.‏ اإنها ‏سياسة احلرق والتدمري التي<br />

درج عليها األبو كريك القائد الربتغايل،‏ حني توجه<br />

باأسطوله نحو الشرق.‏ عرب حماولة توسيع جمال التداول<br />

لسردية الستعمار،‏ تلك التي حرصت على تقدمي<br />

‏سياقاتها الثقافية اخلاصة بها على حساب السياقات<br />

واملعاين لدى الآخر.‏<br />

جاءت املعرفة العلمية لتقدم منوذجها احلداثي،‏<br />

الذي استند اإىل تقدمي دور التكنوقراط،‏ لكن حضورها


43<br />

2 0 1 1<br />

الأهم مل يكن قد استند اإىل ترسيخ وتدعيم معامل<br />

النظام الجتماعي،‏ بقدر ما كان املسعى نحو تقدمي<br />

جمال املعلومات والبحث عن اجلديد يف تقدمي الأفكار<br />

وترسيخ معامل النسق البتكاري،‏ لكن هذا املضمون<br />

مل يكن ليبتعد عن حالة الصراع الداخلي،‏ ‏ضمن هذا<br />

النسق اجلديد،‏ حيث التنافس والإقصاء والتهميش الذي<br />

تتم ممارسته داخل املنضوين يف احلقل الواحد،‏ واإذا<br />

كانت العاقات الراهنة تشري اإىل قوة املعرفة العلمية<br />

وحضورها الأكيد على الواقع،‏ فاإن املعرفة السردية<br />

تبقى توؤدي دورها الراسخ يف طريقة التوجيه وقيادة<br />

)3 ) ‏.لقد جاءت احلداثة الغربية<br />

املضامني ونظام القيم<br />

بحروب ‏سعياً‏ للسيطرة على الأرض والرثوات،فيما تقوم<br />

حروب الراهن على حماولة السيطرة على املعلومات،‏<br />

فمن ميسك بزمام التوجيه،‏ لبد له اأن ميسك بزمام<br />

املعلومات باعتبارها راأس املال اجلديد الذي يقود<br />

العامل.‏<br />

السرد من اأجل البقاء<br />

كيف قُيض لشهرزاد البقاء،‏ باإزاء نزعة النتقام<br />

التي عنّت على ‏شهريار،‏ لول مترتسها بصاح السرد،‏<br />

وكيف متكن كوبرنيكوس وبلباقة،‏ اأن يكسر الرنجسية<br />

الإنصانية،‏ حني اأثبت بالدليل العلمي باأن الأرس<br />

ليست مركزا للكون،‏ وكيف مرر رجال حماكم التفتيش<br />

ومبزاجهم،‏ تلك اجلملة التي ندت عن غاليلي،‏ حول<br />

دوران الأرض.‏ اإنه السرد الذي يحمل ‏سمة السيطرة على<br />

الوعي الزمني،‏ حيث التفاعات التي حتدثها الذات يف<br />

‏سبيل احلصول على النتيجة املرجوة،‏ من خال الإقناع<br />

والقدرة على ترجيح فكرة على حساب اأخرى،‏ واإمكانية<br />

التحبيك من اأجل السيطرة على الأفراد اأو اجلماعات،‏<br />

والسعي نحو الكشف عن اأبعاد جديدة للنص.اإنها<br />

الهوية السردية تلك التي يحددها بول ريكور باعتبار<br />

)4 ) على حتقيق منجزات الذات يف الندماج<br />

قدرة السرد<br />

والتكيف واملداهنة والسيطرة على توجيه التاريخ.‏<br />

مقامة املويلحي<br />

يكتب حممد املويلحي يف العقد الأول من القرن<br />

العشرين،‏ مستندا اإىل حماولة اإحياء فن املقامة ذي<br />

الأصول الرتاثية العريقة يف الثقافة العربية،‏ كتابا<br />

عنوانه ‏“حديث عيسى بن هشام اأو فرتة من الزمن”‏<br />

ومل يفتاأ املوؤلف يقول:‏ ‏“وبعد فهذا احلديث – حديث<br />

عيسى بن هشام_‏ واإن كان يف نفسه موضوعا على<br />

نسق التخييل والتصوير،‏ فهو حقيقة متربجة يف ثوب<br />

خيال،‏ ل اأنه خيال مسبوك يف قالب احلقيقة،‏ حاولنا<br />

اأن نشرح به اأخاق اأهل العصر واأطوارهم،‏ واأن نصف<br />

ما عليه الناس يف خمتلف طبقاتهم من النقائص التي<br />

) 5(<br />

يتعني اجتنابها،‏ والفضائل التي يجب التزامها”‏<br />

املويلحي يف مقامته يعمد اإىل املناورة على عنصر<br />

اخلطاطة السردية املتمثل بالفاعل،‏ فيسنده اإىل ‏شخصية<br />

وهمية،‏ هو ‏)عيسى بن هشام(‏ ويف هذا يكون املوؤلف<br />

وفيا لتقاليد فن املقامة العربية،‏ املهم هنا اأن املوضوع<br />

يتداخل مبقايسة معرفية مع املدلول الزماين،‏ اإذ يلتقي<br />

بطل املقامة ابن هشام بدفني يخرج من قربه،‏ ليبداأ<br />

حوار ‏)القطيعة املعرفية(‏ بني رجل من زمان منصرم،‏<br />

له مفاهيمه وتقاليده ومنظومته املعرفية والنسقية،‏<br />

ورجل حيّ‏ اآخر،‏ يعمل بصناعة الأقام ‏)الكتابة(‏ لديه<br />

اأنساقه وقيمه ووعيه اخلاص بعصره.‏<br />

الهوية الزمنية<br />

تتقاطع معلومات الدفني مع ابن هشام يف معرفة<br />

العناوين على ‏سبيل املثال.‏ اإذ يشري اإىل اأن البيوت تعرف<br />

باأسماء اأصحابها،‏ يف حني اأن الرجل ‏)الآين(‏ املعاصر<br />

يعرف البيوت من اأسماء الشوارع واأرقام الأزقة.‏ والواقع<br />

اأن الرجل املعاصر يقدم العديد من التنازلت للدفني،‏<br />

اإذ ل يتوانى عن منحه رداء كان يلبسه،‏ بعد اأن يدعي يف<br />

قرارة نفسه اأن ذلك ‏سلبا ولصوصية.‏<br />

قال يونس بن ميسرة؛ ‏“ل ياأتي علينا زمان اإل بكينا<br />

منه،‏ ول يتوىل عنا زمان اإل بكينا عليه”،‏ وكان الأبشيهي<br />

‏)ت 850( قد اأفرد بابا خاصا فيه ثاثة فصول،‏ يف<br />

‏“شكوى الزمان وانقابه باأهله،‏ والصرب على املكاره،‏<br />

)6 ) ومثله الكثري يف الرتاث<br />

والتسلي عن نوائب الدهر”‏<br />

العربي،‏ والنظرة هذه ل تعد ‏ضمن الوقوع يف ‏شراك<br />

النكوصية،‏ بقدر ما تقوم على املعرفة والعلم بالشيء.‏<br />

اأبحاث


2 0 1 1<br />

44<br />

فاملستقبل جمهول ل ميكن التكهن اأو التحكم بنتائجه.‏<br />

املختلف يف حديث عيسى بن هشام،‏ يقوم على<br />

التضاد املعريف وليس التبجيل للماضي،‏ فالأخاق<br />

والأعراف وردود الفعل ماهي اإل اأنساق معرفية لها<br />

رموزها واإشاراتها املتنوعة،‏ عرب عنصرين فاعلني،‏<br />

الأول وهو ‏)الدفني(‏ مبفاهيمه القدمية التبجيلية<br />

النخبوية،‏ املستندة اإىل الإفراط يف نبذ الآخر،‏ واحتقار<br />

اأي معرفة مل يبلغها.‏ والثاين ‏)ابن هشام(‏ بروؤياه<br />

اجلديدة وقيمة الجتماعية املستندة اإىل قوة القانون،‏<br />

وتساوي جميع الأفراد اأمامه.‏ فها هو املكاري يصيح يف<br />

وجه الباشا ‏)الدفني(،‏ ‏“ومن اأنت ومن غريك،‏ ونحن يف<br />

زمن احلرية ل فرق بني الصغري والكبري،‏ ول تفاوت بني<br />

. ) 7(<br />

املكاري وبني الأمري”‏<br />

وجهة الصراع التي يحركها املويلحي،‏ يضعها يف<br />

ثاث ركائز بنائية ‏شديدة التلميح.‏ الباشا ‏)الدفني(‏<br />

مبنظومة قيمه التي اأضحت من املاضي،‏ حتى اأن مدار<br />

التداول ‏صار يجعل منها غريبة،‏ لينجم عنها ‏سوى<br />

التندر والسخرية.‏ والفاح الذي تعوزه املعرفة الدقيقة<br />

والقدرة على احلوار اأو استيعاب الآخر،‏ على الرغم<br />

من بلوغ مسامعه،‏ اأفكارا عن احلرية واملساواة وسلطة<br />

القانون.اأما ابن هشام فيمثل همزة الوصل املعريف،‏<br />

وصارح املفاهيم نظرا للقطيعة القائمة بني النخبة<br />

املاضية والعامة قليلة املعرفة.‏ لكن هذا الشارح ل<br />

يتوانى عن اإسداء نصحه،‏ حول اأهمية عقد هدنة من<br />

اأجل الوقوف على معاجلة للوضع الذي اأفرزته احلالة<br />

املعقدة،‏ فها هو ذا يقول للباشا:‏ ‏“ل بد لك من التسليم<br />

والحتمال على كل حال حتى نخلص من هذه النازلة<br />

)8 ) اإنه الختاف يف الزوايا واملواقع من احلدث،‏<br />

بصام”‏<br />

وعلى هذا جند املفهوم الواحد وقد تقمصته املزيد<br />

من التاأويات واملعاين،‏ فالزمن هنا يكون لدى الباشا<br />

الدفني مبعنى الغربة،‏ فيما يكون لدى ابن هشام فاعا،‏<br />

اأما لدى املكاري فهو ميثل معنى السبات.‏<br />

من هوية الفرد اإىل هوية اجلماعة<br />

يف اأي زاوية ميكن البحث يف دور الثقافة،‏ هل<br />

بوصفها فاعا اأكرب،‏ اأو يف التوقف عندها بوصفها رجع<br />

‏صدى للقيم واملعتقدات والأعراف السائدة؟لكن من<br />

املوؤكد اأن الوشيجة القوية والراسخة،‏ تبقى حاضرة<br />

بني منظومة القيم ‏)املوؤسسة الجتماعية(‏ والبنية<br />

الثقافية،‏ والإشكال الراهن يف جممل الطروحات التي<br />

حتاول نظرية الثقافة تقدميها،‏ تتمثل يف حماولة جتاوز<br />

منظومة القيم واملعتقدات،‏ والرتكيز على اأحادية النظرة<br />

حول الثابت واملتحول،‏ والإبقاء على الفصل بني احلقائق<br />

الثقافية والقيم الجتماعية.‏<br />

تتبدى جمموعة من الروؤى والتصورات حول<br />

دور وفاعلية النظرية الثقافية،‏ باعتبار اأن البعض<br />

يحاول حصرها يف النتاج الفكري،‏ والآخرين يعمدون<br />

اإىل تركيزها يف التحديث وتوسيع التقانة،‏ ويسعى<br />

، ) 9(<br />

الأنرثوبولوجيون اإىل حصرها يف الإبداع الإنساين<br />

ومن خال التطلع نحو تطبيق مقولت نظرية الثقافة<br />

على الواقع العربي،‏ جند متزقا حادا يف الذات العربية<br />

وترصد املزيد من حالت الغرتاب يف الهوية واإشكالية<br />

يف وسائل التعبري.‏ ويف ظل هذا مل تعدم بعض النخب<br />

العربية من التطلع نحو استعارة منظومتها الفكرية عن<br />

الآخر،‏ لتعلن عن اأهمية النخراط يف استعارة اخلطاب<br />

الثقايف لاآخر،‏ باعتبار حماولة الوعي بالتحولت<br />

التاريخية التي ‏شهدها العامل،‏ على ‏صعيد متايز مامح<br />

القوة الباطشة،‏ بني الآخر الذي ‏سعى نحو اإنتاج ‏سرديته<br />

الكربى حول الإنسانية واحلضارة والتحديث،‏ وصول اإىل<br />

الراهن الذي يتم الرهان عليه بناء على حرب املعلومات<br />

وثورة التصالت والعوملة.‏ اإنه ‏صوؤال الهوية الذي راح يلح<br />

على الرتكيز يف ‏)من اأنا؟ من الآخر؟ ما العاقة معه؟<br />

ماذا مييزين عنه؟(‏<br />

الكشف عن املعاين<br />

من واقع احلفز والتغيري الذي يعيشه املجتمع،‏<br />

يربز جمال اإنتاج املعاين وتعددها وتنوعها،‏ حتى يصار<br />

نحو البحث عن الغايات التي تعن على تلك املعاين،‏<br />

ومن واقع التمثات التي تقوم على اإنشائها املعاين،‏<br />

تربز اأهمية العاقة بني الذات والتاريخ،‏ والطريقة<br />

التي ميكن اأن تقوم بها الذات داخل هذا احلقل،‏ الذي<br />

تتفاعل فيه املجمل من النصوص والروؤى والتحديات


45<br />

2 0 1 1<br />

والرهانات والتصورات،‏ حتى ليكون من املهم التوقف<br />

عند حدود الذاتي واجلمعي،‏ انطاقا من التطلع نحو<br />

اإبراز الفاصل املوضوعي بني الوعي الذي يشمل طريقة<br />

تفاعل اجلماعات مع الواقع،‏ والقصدية التي متيز مدار<br />

التفاعل الفردي.‏<br />

يقف العربي اليوم عند حدود الصوؤال امللح،‏ بقوام<br />

‏)من اأنا؟(‏ ليقف على اأعتاب هوية املطابقة،‏ تلك التي<br />

يتم من خالها حتديد ‏سماته الشخصية املباشرة،‏ اإنه<br />

بطاقة التعريف التي متيزه عن الآخرين،‏ اإنها العمق<br />

الذاتي والفرادة واخلصوصية،‏ حتى ليمكن التعرف<br />

عليه ومتييزه،‏ اإنها بصمة الإبهام اأو التمييزات التي<br />

اأفردتها حضارة املعلومات املعاصرة،‏ على ‏صعيد قزحية<br />

العني اأو اخلريطة اجلينية.‏ وبالقدر الذي يكون التحديد<br />

وقد توقف عند التمييز الفردي،‏ فاإن البحث عن العاقة<br />

يف الزمن اأو املجموع،‏ يبقى حاضرا على الدوام.‏ ولكن<br />

هل يكفي اأن يعرف املرء التفاصيل املتعلقة به.‏ هل ميكن<br />

الكتفاء بالتوقف التفصيلي عند املعلومات التي تزخر<br />

بها بطاقة التعريف الرسمية،‏ والتي تشري اإىل السم<br />

واجلنس والعمر والديانة وفصيلة الدم،‏ اأم اأن الأمر<br />

يستدعي البحث عن عاقة من نوع اآخر.‏ كيف ميكن<br />

للفرد اأن يتواصل اأو يتوافق مع ذاته من دون اأن يتوافق<br />

مع الآخرين،‏ كيف ميكن لهوية املطابقة اأن تقف بوجه<br />

التشظيات والغرتاب وحالت الوهن والضعف الإنساين<br />

واملصالح املباشرة التي تستدعيها الأوضاع املختلفة<br />

للعاقات واملواقف.‏<br />

كيف ميكن النظر اإىل الهوية من دون التوقف<br />

العميق،‏ عند موؤثرات الوحدة والنسجام والستمرار،‏<br />

تلك التي يتم التواصل من خالها يف مدار الزمن اأو<br />

على ‏صعيد الواقع والوجود واجلماعة.‏ هل تعني الهوية<br />

الذاتية التوقف عن تضخم الذات،‏ اأم اأن املرتكز الذي<br />

يقوم عليها ل ميكن اأن يتم حتديد تفصياته،‏ اأو حتى ل<br />

ميكن اأن يتخذ اأهميته،‏ من دون التوافق مع املجمل من<br />

الهوية اجلمعية.‏<br />

تاأويل الهوية<br />

بني الفردي و اجلمعي تربز مامح التمييز،‏ هذا<br />

بحساب املسعى نحو اإفراد مامح التاأثري للسرد<br />

والتاريخ على الذات،‏ تلك الذات الساعية نحو التاأويل<br />

من اأجل توكيد حضورها على ‏صعيد الواقع،‏ اإنه التوقف<br />

عند متييز حلظة تاريخية فارقة،‏ يتم من خالها حتديد<br />

‏سمات الهوية،‏ اإنه املوقف الذي يكشف عن مامح<br />

احلضور والتاأثري،‏ اإنه الوعي الذي مييز طبيعة العاقة<br />

)10 ) ، حيث الكشف عن روح الأمة،‏<br />

مع الوجود واجلماعة<br />

بحسب توصيف هيغل.‏<br />

بني الصوري والتجزيئي والقياسي يتم للعقل<br />

املجرد النظري بلوغ الفهم،‏ فيما يتضمن العقل العملي<br />

على الباطني والرتكيبي واملوضوعي،‏ يف ‏سبيل اإطاق<br />

الأحكام حول الظواهر.‏ ومن هذا التوزيع ل يرتدد هيغل<br />

يف القول باأن العقل يبقى يف دائرة التمام والكمال ما<br />

دام يعيش يف حيز التجريد والتنظري،‏ فيما نراه يعيش<br />

حلظات عجزه عندما يتفاعل مع الواقع،‏ هكذا تعيش<br />

ثنائية الفهم والقدرة على احلكم على مدار الواقع،اإنه<br />

املنطق الذي يقوم على الوصف والفهم،‏ من اأجل حماولة<br />

فهم روح العصر والتاريخ الذي يقوم بناء على احلكم<br />

املستمد من طبيعة املقارنة فهم روح العصر ومسار<br />

التاريخ،‏ وعلى هذا يتبدى التقاطع املفجع،‏ حني يتم<br />

اإسقاط قيم احلاضر على املاضي.‏ فالتاريخ ل يقوم<br />

على مسار املاضي احلدثي،‏ بقدر ما ميثل منطق احلدث<br />

. ) 11(<br />

وتفاعاته الداخلية<br />

الهوية املستباحة<br />

يقف مفهوم الهوية عل عتبة الصوؤال حول العاقة<br />

القائمة بني الأصالة واملعاصرة،‏ الرتاث واحلداثة،‏ اإنه<br />

الشاخص املعريف الذي يتبدى حاضرا،‏ باعتبار ما<br />

تنتجه التفاعات السياسية والجتماعية والثقافية،‏<br />

وبالقدر الذي تربز اأهمية ‏صوؤال الهوية يف املجال<br />

العربي،‏ فاإن النقص والوهن يبقى حاضرا،‏ تكشف عنه<br />

طبيعة الصوؤال الاحق والذي يقوم على الستنكار،‏ حول<br />

السر الذي جعل الآخرين يتقدمون فيما بقي العرب على<br />

اأبحاث


2 0 1 1<br />

46<br />

حالهم القدمي!‏ اإنه الصوؤال الذي يتكرر عن اأي قراءة<br />

مقرتحة للتحولت،‏ اأو التفاعات،‏ اأو البحث يف الآثار<br />

الداخلية اأو اخلارجية،‏ اأو املواقف.اإنها حلظة النفعال<br />

النائية عن التحليل،‏ والساعية اإىل استدعاء الهوية<br />

الصطناعية،‏ باعتبار احلماس واللغة احلارة السخينة،‏<br />

الساعية اإىل جذب التعاطف والناأي عن اللوم،‏ حتى<br />

ليكاد هذا اخلطاب يتماهى مع الشاعر الذي يقول<br />

‏)دع عنك لومي فاإن اللوم اإغراء(،‏ وهكذا يحضر اللوم<br />

والأذى والسعي نحو اإبراء الذمة من الأخطاء والتحصن<br />

بالكمال والتمام،‏ فيما يبقى الواقع العربي،‏ يعيش ذات<br />

اللحظة التاريخية التي حاول فيها اأن يطلق مشروع<br />

نهضته.‏<br />

الهوية امللفقة<br />

عاشت النخبة املتعلمة يف الباد العربية،‏ من<br />

حالة القطيعة مع الواقع،‏ حيث الطموحات الكبرية<br />

التي كانت تعن عليهم،‏ فيما يشري الواقع اإىل حالة من<br />

القنوط وحمدودية الدور،‏ حتى اأنهم ‏-ويف ‏سعيهم نحو<br />

تثبيت الدور-‏ اكتفوا بدور الشارح،‏ باعتبار افتقادهم<br />

، ) 12(<br />

لسلطة جتذر دورهم يف حفز احلراك الجتماعي<br />

تلك الأزمة التي مت التعبري عنها يف موقف الأفندية يف<br />

العراق والعديد من البلدان العربية،‏ ل ‏سيما يف اأعقاب<br />

بعث احلياة الدستورية عام 1908، يكتب لونكرك<br />

عن اأفندية العراق قائا:‏ ‏“يقراأون ويكتبون من دون<br />

اأن يتعلموا اأشياء اأخرى،‏ ويتصفون بالرجعية لكنهم<br />

متاأدبون بالآداب الجتماعية املقبولة،‏ ومتزيني مبجموعة<br />

مضحكة من املابس الأوروبية،‏ وكانوا حريصني دقيقني<br />

لكنهم يغرقون يف املجامات بالكتب الرسمية،‏ وبعيدين<br />

كل البعد عن روحية اخلدمة العامة )...( ل يقيسون<br />

الناس اإل مبقاييس الطبقة التي ينتمون اإليها،‏ ويحتقرون<br />

القبيلة والفاح،‏ ويصرون على التكلم بالرتكية بني<br />

العرب،‏ واأخريا فقد كان الفساد متفشيا بينهم جميعا<br />

13( ) ، ول<br />

تقريبا والرصوة مستفحلة بني ظهرانيهم”‏<br />

يكتفي لونكرك بهذا الوصف الساخر،‏ بل يضيف عليه<br />

املزيد من ترصدات الأخطاء التي يحددها يف تداول<br />

املصطلحات املتداخلة التي تقوم على الرطانة والتعمية،‏<br />

والتفسريات القانونية املجزوءة التي تصب ملصلحتهم،‏<br />

والتحكم يف الصوؤون الإدارية،‏ والبريوقراطية املوؤدية اإىل<br />

تعطيل مصالح اجلمهور.‏<br />

ل ينكر عامل الجتماع علي الوردي اأهمية الأفندية<br />

يف اإحداث البعض من التجديد،‏ بحساب الواقع<br />

الثقايف والجتماعي البسيط الذي ظهروا فيه،‏ وكان<br />

لستخدامهم املصطلحات الغريبة وسيلة لإثارة التعجب<br />

وسط اجلموع املندهشة،‏ ومن هذا جاء التعايل،‏ وكان<br />

لطروحاتهم اأثرها يف حفز لنقاشات حول العديد من<br />

القضايا اأصل الإنسان واحلياة الصحية والكشف عن<br />

الأمراض والوقاية منها،‏ حتى اأنهم مثلوا دورا حافزا<br />

يف انقسام املجتمع اإىل فريقني:‏ مشجع ومتحمس لهم،‏<br />

. ) 14(<br />

ورافض وساخر منهم<br />

كيف ميكن ترصد هوية الأفندي،‏ هذا بحساب<br />

حماولة الوقوف على ‏صروط التصاوي مع الذات،‏<br />

والقدرة على اإنتاج الدللت الجتماعية،‏ الساعية<br />

نحو حتقيق روؤية للعامل،‏ مبا يتوافق والقيم السائدة يف<br />

جمتمع ما.وبالقدر الذي تربز اأهمية فعالية الهوية يف<br />

احلفز والتغيري،‏ باعتبار السعي نحو خلق التوافق بني<br />

الذات والواقع الجتماعي،‏ فاإن الهوية ل ميكن النظر<br />

اإليها بوصفها ثباتا،‏ بقدر ما هي جمال قابا للتحول<br />

العميق.‏ ترى اأين ميكن ترصد دور الأفندي وعاقاته<br />

داخل بيئته ووسطه الجتماعي؟ لقد اأشارت املس بيل<br />

اإىل اأن ‏“القبائل تكره الأفندي اأكرث من هذا ول تثق<br />

به،‏ وتكاد كلمة الأفندي عندهم توؤدي املعنى نفسه التي<br />

توؤديها كلمة بغدادي )...( اإن اأولئك يعلو ‏صوتهم يف<br />

املقاهي وهم يتحدثون عن حريات العرب اإمنا يضعون يف<br />

فكرهم حريات من يرتاد املقاهي فقط كما اأن البغدادي<br />

ينظر اإىل جميع ‏سكان الباد من العشائر....‏ مبزيج من<br />

. ) 15(<br />

اخلوف والزدراء”‏<br />

حتاول املس بيل رصم معامل ‏صورة ملفقة<br />

لهوية الأفندي العراقي،‏ عرب حزمة من الفعاليات<br />

الإجرائية،حيث التوقف عند مدار الكراهية،‏ بني الريف<br />

العشائري،‏ واحلاضرة التي ميثلها الأفندي،‏ اإنه الرتصد<br />

النقسامي بني جمالني ثقافيني تتم حماولة تعميقه يف


47<br />

2 0 1 1<br />

البيئة الواحدة،‏ وهو التطلع نحو تكريس املضمون اخلايل<br />

من الدللة حني يتم ربط املثقفني باملقهى،‏ بحساب<br />

تعميق الامصوؤولية،‏ فاملواقف الصادرة عنهم على حد<br />

زعمها ل متثل يف القيمة ‏سوى حديث مقاهي،‏ وبهذا<br />

فاإن مطالب احلرية التي ينادون بها ل تساوي ‏شيئا.اإنه<br />

التداخل يف املواقف املنطوي على اخلوف من الطرف<br />

القوي والزدراء والتحقري للآخر،‏ حيث الزدواجية التي<br />

تفرتضها املس بيل،‏ بناء على املوقف املسبق الذي تتخذه<br />

من الأفندية،‏ باعتبار ارتباطهم بالدولة العثمانية،‏<br />

وكيف اأنهم باتوا عاطلني عن العمل،‏ وما قدمته حكومة<br />

الحتال من تشغيل لهم من دون اأن يوؤدوا عما.‏<br />

جاء الحتال الربيطاين ليتم العمل على تصفية<br />

الرتكة العثمانية،‏ حتى نال الأفندية حظهم من هذا<br />

التوجه.‏ ليتعرضوا اإىل التصفية والإقصاء والتهميش،‏<br />

حتى اأن الأوضاع املزرية التي نالت منهم،‏ جعلت الكثري<br />

منهم،‏ يعيش اأوضاعا اجتماعية ‏صعبة،‏ جعلتهم ينقمون<br />

على قوات الحتال التي اأضرت مبصاحلهم،‏ فما كان<br />

منهم ‏سوى اللجوء اإىل املقهى الذي استوعب حضورهم،‏<br />

وغدا مبثابة الفضاء التصايل ملا يفكرون فيه،‏ ومل يعدم<br />

هوؤلء من توجيه الراأي العام نحو رفض قوات الحتال،‏<br />

ل ‏سيما اأنهم ميلكون حظهم من التعليم واملتابعة لصوؤون<br />

العامل بحكم اطاعهم على الصحف.ومن واقع الدور<br />

الذي لعبوه يف ثورة العراق عام 1920 مل يرتدد الإنكليز<br />

من تغيري موقفهم،‏ فبعد اأن كانوا ينظرون اإليهم بازدراء،‏<br />

مل يرتددوا بعد نهاية الثورة من العتماد عليهم يف تسيري<br />

. ) 16(<br />

‏صوؤون الكثري من املرافق الإدارية احلكومية<br />

كيف ميكن ترصد دور الأفندية يف احلكم اجلديد<br />

الذي ‏شهده العراق اإبان العشرينات من القرن العشرين.‏<br />

لقد قيض لهم التمدد يف جمال العمل السياسي،‏ حتى<br />

راحوا يوظفون خرباتهم الإدارية القدمية يف حتديد<br />

املواقف من السلطة،‏ ليتم لهم استخدام ‏صاح املعارضة<br />

بوجه احلكومة،‏ يف ‏سبيل الضغط من اأجل الوصول اإىل<br />

احلكم.‏ فالأفندي اأمامه طريقان فقط:‏ ديوان احلكومة<br />

حيث املنزلة والقوة والسلطة والنفوذ،‏ اأو املقهى حيث<br />

النفي والإقصاء والتهميش.‏ ومن هنا جاء مدار اللعب<br />

بالشعارات.‏ فالوطنية والستقال وخدمة الشعب،‏ باتوا<br />

مبثابة راأس املال الرمزي الذي يتحصن به املعارض يف<br />

‏سبيل الوصول اإىل مطاحمه،‏ لكن عندما يتسنم منصبه<br />

احلكومي،‏ نراه يعمد اإىل التربير والتعلل بالظروف<br />

واأهمية النظر اإىل املستقبل بتفاوؤل،‏ ومن هذا الواقع مل<br />

يرتدد الأفندي يف السعي نحو تعميق عاقاته الفرعية مع<br />

جممل القوى الجتماعية والسياسية،‏ حتى برز التحالف<br />

مع العشائر تارة،‏ اأو اجليش تارة اأخرى،‏ اأو اخلوض يف<br />

. ) 17(<br />

املوؤامرات مع الأطراف املنافسة<br />

عرف العراقيون اأغنية الأفندي بصوت ‏صديقة<br />

املاية ‏)الأفندي عيوين الأفندي اهلل يخلي ‏صربي،‏<br />

‏صندوق اأمني البصرة(‏ و ‏صربي اأفندي ‏)صربي<br />

حممد اآل ما ‏سلمان(‏ املتوفى عام 1963 هو ‏صندوق<br />

اأمني البصرة،‏ اأرادت املطربة البصرية حسنية اأن ترد<br />

له اجلميل عام 1916، بعدما دفع عن ولدها البدل<br />

النقدي كي ل يساق اإىل اخلدمة العسكرية خال العهد<br />

العثماين.‏ من جانب اآخر،‏ ‏شهد القضاء العراقي يف<br />

‏سبعينات القرن العشرين،‏ رفع قضية حق ‏شخصي باإزاء<br />

جدال دار بني ‏شخصني،‏ اأطلق فيه اأحدهم لقب الأفندي<br />

بحق الآخر،‏ مما عُ‏ د حتقريا وتعرضا وانتقاصا،‏ اإنه<br />

الدال نفسه،‏ لكن املدلول تغري يف التداول الجتماعي،‏<br />

اإنه الرتاكم الجتماعي الذي جعل من املدلول التبجيلي<br />

يتحول اإىل مدلول تعريضي لينم عنه ‏سوى رد الشرف<br />

عن طريق القضاء.‏<br />

االتصال وتاأويل الهوية<br />

كيف ميكن النظر اإىل التصال،‏ هل هو اأداة اأم<br />

جمرد مفهوم عائم غري حمدد املعامل.وما مدى املصوؤولية<br />

التي ميكن اإلقاء تبعيتها عليه يف جمال استيعاب ‏سلوك<br />

الفرد داخل املوؤسسة اأو املجموعة الجتماعية،‏ وطبيعة<br />

العاقات القائمة بني الأفراد والتاأثر والتاأثري الناجم<br />

عن ذلك،‏ واستيعاب البنى الجتماعية من حيث كليتها،‏<br />

والتحويات التي تتفاعل داخلها،‏ وعميلة الضبط الذاتي<br />

القائم فيها.‏ ومن استيعاب فاعلية الأفراد ‏ضمن نطاق<br />

هذه الفعاليات،‏ تبداأ عملية التحديد يف الإصارة اإىل<br />

موضوعة املبادرات،‏ التي تستوعب يف بنيتها املفهومية؛<br />

اأبحاث


2 0 1 1<br />

48<br />

املعارف واملواهب والإبداع،‏ التي متيز النشاط الفردي<br />

عن باقي املجموعة الجتماعية.‏<br />

يقود تفاعل الفرد مع الوسط الجتماعي،‏ نحو<br />

جملة من املدركات التي تكون فيها املطابقة والختاف<br />

مع الآخرين الأبرز فيها،‏ على اعتبار اأن الإنسان كائن<br />

اجتماعي يسعى اإىل حتقيق ذاته،‏ من خال عاقته مع<br />

املجموعة التي توفر له الوسط الذي ميكن اأن يتفاعل<br />

معه.‏ اإن كان على ‏صعيد تطمني حاجات الأمن والروابط<br />

النفسية والعاطفية،‏ اأو على ‏صعيد توفري احلاجات<br />

الذاتية واستيعاب نشاطه الذهني والفكري والإبداعي.‏<br />

ول يقف الأمر عند هذا احلد،‏ بل اإن عاقة التفاعل<br />

مع الآخرين تقوده نحو بلوغ العديد من احللول،‏ التي<br />

تكاد تكون يف حكم املستحيلة اإذا ما متت مواجهتها<br />

فرديا.‏ ومن هذا يربز مفهوم التواطوؤ الجتماعي حول<br />

املعاين،‏ وبالقدر الذي يقوم فيه هذا املفهوم على العاقة<br />

اجلدلية،‏ فاإن الرتباط النهائي فيه يغيب،‏ هذا بحساب<br />

البحث عن مستوى من املرونة،‏ التي تتمثل يف حاجة<br />

الفرد اإىل حتقيق ذاته،‏ من خال تاأكيده فردانيته<br />

18( ) . ومهما<br />

وكينونته،‏ وبقدر معني من التبعية للآخرين<br />

حاول الفرد الإبقاء على اآلية العاقة مع الآخرين،‏ فاإن<br />

اجلانب الشعوري يفرض نفسه على ‏صعيد الواقع،‏ ويوؤدي<br />

اإىل اأداء فعالية التواصل التي تثمر عن التصال.‏<br />

ل ميكن لأي جمموعة بشرية اأن توؤدي وظائفها<br />

من دون الستناد اإىل فعالية التصال.‏ وتربز اأهمية<br />

هذه احلاجة يف نظام الإشارات الذي ابتكره الإنسان<br />

البدائي،‏ الذي تدرج يف تطوره اإىل النظام الصوتي.‏<br />

لكن حدة التصال وتنوع اجلماعات البشرية اأبرز نوعا<br />

من التصال،‏ مرتبط بطبيعة البيئة واملكان والنشاط<br />

الإنساين،‏ وهكذا ‏صارت الرغبة ملحة يف ابتكار النظام<br />

التصايل الذي يضمن ‏سرعة وصول الرسالة،‏ فكانت<br />

الأصوات املميزة اأو الدخان اأو الأضواء،‏ لكن هذه الفعالية<br />

كانت تخضع ملحدودية التفاعل،‏ على اعتبار بطء حركة<br />

املجتمعات البدائية،‏ لكن هذا الوضع ‏سرعان ما ينقلب<br />

حني تتم دراسته يف العصر احلديث،‏ اأو التحول الهائل<br />

الذي ‏شهده مفهوم التصال يف العصر الراهن،‏ والذي<br />

راح يعرف ب عصر التصال والثورة املعلوماتية.‏<br />

التصال بشكله التجريدي يكون من الوسائل<br />

التي توطد لعاقات الجتماعية بني الأفراد اأو حتسني<br />

‏صورة فرد داخل جمموعة بشرية،‏ لكن حني تتعقد<br />

وسائل التصال وتستند يف فعاليتها على نقل الأفكار،‏<br />

فاإن الأمر ‏سيتخذ ‏شكا اآخر يقوم على اأهمية البناء<br />

الذاتي وتنمية املهارات واملعلومات،‏ ليتمكن الفرد من<br />

التفاعل مع املجموع.‏ ومن هنا قيض للعلوم الإنسانية<br />

الولوج يف ميدان التصالت،‏ وراحت تغذ اجلهود يف<br />

19( ) عرب<br />

جمال الدراسات الألسنية والدللية والعاماتية<br />

الستناد اإىل الوظيفة الإباغية التي تسعى نحو بلوغ<br />

اأهداف حمددة.‏<br />

املرسل - املوضوع - املرسل اإليه<br />

املساعد ‏–الذات - املعارض<br />

هذه اخلطة التي وضعها غرمياس تقوم على الشمول<br />

ملختلف الفعاليات،‏ وهي ل تتوقف عند النص الأدبي،‏ بل<br />

حتاول التغلغل يف دراسة املستويات املختلفة للخطاب،‏<br />

‏سواء كان على مستوى السطح اأو العمق،‏ بعبارة اأخرى<br />

بني السرد والنص.‏ فالعاقات تتجلى من خال بنيتها<br />

الرتكيبية،‏ حيث يتم النتقال من النص اإىل السرد،‏ هذا<br />

بحساب اأن استقصاء التحول يف تركيبة العاقات،‏ يتم<br />

20( ) ‏،حيث<br />

من خال الغور يف تفصيات النسق والإجراء<br />

يقدم لنا النسق حتديدا ملكانة احلدث داخل العمل<br />

السردي.‏<br />

ترميم الهوية<br />

يف السرية الشعبية للظاهر بيربس تربز حالة<br />

من الحتاد بني الذات واملوضوع عرب رغبة الراوي يف<br />

اإلغاء التاريخ املكتوب – املعروف – املتداول،‏ والبحث<br />

عن اأنساق تولدها الذات يف املوضوع من خال تركيز<br />

الراوي الذي ميثل املصدر،‏ والسرية التي متثل الهدف.‏<br />

بحساب اأنه لميكن احلديث عن ذات من دون عاقة<br />

مع املوضوع،‏ كما ل ميكن احلديث عن ذات فاعلة من<br />

دون وجود غاية اأو هدف.فالبنية العامة لسرية الظاهر<br />

بيربس تقوم اأول على العاقة الفاعلة بني الذات التي<br />

ميثلها الراوي يف السرية،‏ واملوضوع الذي متثله السرية


49<br />

2 0 1 1<br />

كعمل اأدبي متكامل.‏ اإن التاريخ املعروف واملنطقي ميثل<br />

عامل املعيق يف عناصر السرد،‏ فالكاتب يعمد اإىل نوع<br />

من التعمية اأو زحزحة يف مواضع تاريخية بعينها،‏ حيث<br />

يقوم بانتقائها،‏ فهو يختار عناصره التاريخية احلقيقية،‏<br />

ويبداأ باجناز لعبته الزمانية على ‏شخصيات السرية<br />

الرئيسة،‏ مفتتحا تبادل الأدوار وصول لسرد اإباغي<br />

مضمونه الظاهر وغايته تقدمي النصيحة والعظة.‏<br />

يختار الراوي ‏شخصية اخلليفة املقتدي الذي حكم<br />

خال الفرتة 487-467 هجرية،‏ والذي عرف عنه<br />

عنايته باجلانب الأخاقي حيث منع هواة تربية الطيور<br />

من الصعود اإىل الأبراج فوق ‏سطوح املنازل،‏ حفاظا<br />

على حرمة بيوت اجلريان،‏ واخلليفة املقتدي ليس له<br />

اأي عاقة بسقوط بغداد،‏ اأما اختيار ‏شخصية الوزير<br />

فاإنه يتم عرب انتقاء وزير اخلليفة املستعصم 656-640<br />

هجرية،‏ حيث ‏سقطت بغداد على يد هولكو قائد اجليش<br />

املغويل.‏ الراوي هنا يعتمد على انتظام السرد الروائي<br />

واأفعال الشخصيات حول غاية واحدة،‏ تدور يف فعل يقوم<br />

على ( بداية – وسط-‏ نهاية(من اأجل بلوغ الهدف الذي<br />

تسعى اإليه،‏ حيث الرسالة الأخاقية،‏ والشرتاط يف<br />

ذلك عدم اخلضوع لنسق السرد التاريخي،‏ كما يشري يف<br />

)21 ) . كما اأن الرتباط بني الأحداث<br />

ذلك اأرسطو طاليس<br />

يجب اأن تسودها العرضية،‏ فالقصة ل تقوم مهمتها<br />

على تفسري الأحداث التاريخية فقط،‏ بل ل بد من التنبه<br />

اإىل عاملي السرد واخلطاب،‏ حيث تقوم عليهما مهمة<br />

استكناه الأفكار التي يحملها النص.‏ ومهما بلغ السرد<br />

التاريخي من قدرة على توضيح العاقات الإنسانية،‏<br />

فاإنه يعاين من الوهن حني تتم مقارنته مع السرد<br />

اخليايل،‏ والذي يتضمن ممارسة اأعمق يف جمال تقدمي<br />

التجربة الإنسانية.‏ والراوي هنا يجنح اإىل تقدمي اخليال<br />

، ) 22(<br />

كي يحمّ‏ ل النص اإضاءة اأشد عمقا للمجال الإنساين<br />

وهو يف اأشد احلاجة اإىل ذلك،‏ اإنه يحاول اأن يكثف<br />

املعنى التاريخي يف موقفني:‏ ريبي وصويف،‏ ليكون اأشد<br />

وثوقا مع املعنى الذي قدمه كارل مانهامي حول مفهوم<br />

. ) 23(<br />

التاريخانية املطلقة<br />

ميكن رصد العناصر العاملة يف ‏سرية الظاهر<br />

بيربس يف املفتتح،‏ حيث تكون الإشارة وفق العاقات<br />

القائمة على اجلهاد والتنبيه واملصلمني،‏ نصرة<br />

الإصام،‏ الظاهر بيربس،‏ الكفار.‏ ولنعمل على استدلل<br />

هذه العوامل مبحاور ثاثة:‏ الرغبة بني الذات واملوضوع،‏<br />

اأي الربط بني بيربس وتنبيه الأمة اإىل اخلطر املحدق<br />

بها.‏ والإباغ بني املرسل واملرسل اإليه عرب العاقة بني<br />

اجلهاد الفريضة الواجبة،‏ ومدى عاقتها باملسلمني،‏<br />

والصراع بني املعارض واملساعد،‏ اأي بني الكفار ونصرة<br />

الإصام.‏ وعلى اعتبار اأن السرية تقوم على توليد احلكي<br />

داخل احلكي،‏ فاإننا ‏سرعان ما جند اأنفسنا اإزاء حكاية<br />

جديدة،‏ تكون عناصرها العاملة:‏ وزير املستعصم،‏<br />

اململوك جابر،‏ اخلليفة املقتدي وراأس جابر،‏ والأعداء<br />

وموضوع الهجوم الذي يرغب فيه الوزير انتقاما من<br />

اخلليفة.‏ والرغبة هنا ‏ستقوم على راأس اململوك جابر<br />

وحتقيق الهجوم.‏<br />

الهوية املاكرة<br />

ل يرتدد السارد من انتقاء عنصر التحريك يف<br />

اخلطة السردية وتاأسيسه على اململوك جابر،‏ ‏»واأما<br />

ما كان من اأمر الوزير )...( دعا مبملوك عنده يقال<br />

له جابر )...( فقال له يا ‏سيدي وما تكون اأخربين<br />

بها واإن ‏شربت من اأجلها كاأس املنون،‏ فقال له اأريد<br />

اأن اأرسل معك رسالة اإىل امللك منكتم،‏ ولك بعد ذلك<br />

عندي خمسمائة دينار وخلعة ‏سنية واأنت فيما بعد ذلك<br />

)24 ) يحاول السارد هنا اإنتاج معنى<br />

حر لوجه اهلل تعاىل«‏<br />

لتحقيق غاية،‏ فاخلطاب يقوم على املرسل الذي يستند<br />

على الذات عرب العاقة بني الوزير وراأس جابر،‏ وهذا<br />

ل يخرج عن حلظة انتقاء ثقايف مارسها الوزير بحق<br />

مملوك مت حتديد ثمنه ‏)خمسمائة دينار وخلعة ‏سنية(.‏<br />

يبداأ الراوي من خال عنصر التحريك يف توجيه<br />

خطابه السردي،‏ اإنه ميثل النطاقة التي تبداأ بها<br />

الأحداث والتصورات الثقافية التي تغلفها.‏ وعلى هذا<br />

فاإن الختيار الذي ميارسه الراوي عرب حكاية اململوك<br />

جابر،‏ توضح الجتاه الفكري الذي يتبناه،‏ اإنه يعرض<br />

بالعقل التاآمري للوزير،بل اإنه يشري اإىل حتمية ‏سقوط<br />

الشر،‏ املوت الذي ‏سيطال اململوك والوزير لحقا،‏ وهكذا


2 0 1 1<br />

50<br />

يكون فعل الإقناع على الوزير وفعل القبول على راأس<br />

اململوك،‏ ومن هنا تدخل احلكاية يف حلظة الأهلية التي<br />

متثل قدرة الذات على الفعل،‏ وعلى اعتبار اأن جابراً‏ يف<br />

كله مملوك للوزير،‏ فاإن اأجزاءه ‏-ومنها راأسه-‏ ما هي<br />

اإل ملك للوزير.‏<br />

ناأتي هنا اإىل حمور الإجناز،‏ السرية تقول اإن جابراً‏<br />

هو الذي اأجنز املهمة،‏ لكن هذا ‏سيقودنا اإىل حتديد<br />

عاقة من نوع جديد،‏ فجابر جمرد حامل رسالة<br />

ل يعرف حمتواها،‏ هو يعرف وجهتها لكنه ل يعرف<br />

مضمونها،‏ لكن الوزير يعرف اجلهة واملضمون.‏ وعليه<br />

فاإن الوزير يتمكن من حتديد وجهة الصراع من خال<br />

اتصاله باخلارج،‏ ويعرب عن ‏سيطرته على اململوك عرب<br />

التحفيز الذي يقدمه له.‏ وهو ‏صاحب الفكرة ‏)الرسالة(‏<br />

عرب وشمها على راأس اململوك.لكن اجلزاء يفصح عن<br />

نهاية الوزير على يد امللك الأعجمي،‏ وهكذا يكون املسار<br />

السردي للمرسل ‏)الوزير(‏ الذي ميثل السلطة واأداة<br />

التحريك نحو الذات من اأجل اإجناز الفعل واملوضوع<br />

الذي يهدف اإليه.‏ فيما يبقى الصوؤال حول عدم تفكري<br />

الوزير بالعواقب،‏ هل كان حتت تاأثري الفكرة املاكرة<br />

التي عنت عليه،‏ وتناسى النتائج التي ترتتب عليها مهمة<br />

تسليم الباد اإىل الأعداء.‏ وهو يف الرسالة التي كتبها<br />

على راأس جابر يعرتف للملك منكتم قائا:‏ ‏»واأنت اأحق<br />

25( ) وبهذا<br />

بالسلطنة لأنها من قدمي الزمان جلدك امللك«‏<br />

فاإنه يكون واعيا لفعل التحفيز والتحريك،‏ اإنه يوؤلب<br />

ويحرض امللك واضعا اأمامه املربرات التاريخية،‏ فيما<br />

مل يغب عنه اأن يطلب اجلزاء،‏ حني يضع نفسه يف دور<br />

ل يقل عن دور امللك؛ ‏»ونفنيهم اأجمعني ومنلك الأرض<br />

)26 ) لكنه يعمل على اإخفاء<br />

والباد وتطيعنا كل العباد«‏<br />

الرسالة بوشمه اإياها على راأس جابر،‏ ويوصي امللك<br />

بقتل اململوك،‏ كي يكون السر بني اثنني فقط.‏<br />

ماذا اأراد الوزير من اخلفاء،‏ هل الستتار فقط اأم<br />

اأنه اأراد التخلص من مملوكه،‏ هذا الأخري الذي يقدمه<br />

الراوي طائعاً‏ مستعداً‏ لشرب كاأس املنون يف ‏سبيل ‏سيده،‏<br />

واأن يُقتل من اأجل اإخفاء السر.‏ هل كان الوزير بخيا<br />

بحيث اأراد التملص من دفع املكافاأة اإىل اململوك يف حال<br />

بقائه على قيد احلياة،‏ أو اأنه اأراد التخلص منه لرتكابه<br />

ذنبا ما،‏ ترى هل هي لعبة ‏سردية قام بها الراوي لإنهاء<br />

دور جابر والتفرغ للحكايات اجلديدة.‏<br />

دعونا نقف على الرتكيبة السردية للحكاية،‏ ولنبحث<br />

يف اأمناط اجلملة واملقطع والنص من خال وضع اليد<br />

على اأصغر وحدة ‏سردية،‏ ليمكن لنا دراسة عاقات<br />

الثبات والتحول يف اجلملة،‏ حيث ميكن وضع خاصة<br />

للحكاية يف جملة من نوع ‏)قتل امللك رسول الوزير(‏<br />

اأو جملة من نوع ‏)خان الوزير السلطان(.‏ وبدراسة<br />

العناصر املوؤلفة للجملة جند اأن العنصر الثابت يتمثل<br />

يف ‏)قتل(‏ اأما عناصر مثل:‏ امللك،‏ الرسول،‏ الوزير فتعد<br />

متحولة.‏ كذلك احلال بالنسبة لفعل اخليانة الذي ميثل<br />

العنصر الثابت،‏ اأما الوزير،‏ السلطان،‏ فهي عناصر<br />

متحولة.‏ واجلملة ميكن لها اأن تشري اإىل عاقة من<br />

نوع اآخر،‏ تتمثل يف الفاعل واملوصوع،‏ لتتم الوظيفة<br />

الرتكيبية،‏ اإذ اأن اجلملة تستند يف قوامها اإىل مكونني:‏<br />

الفاعل-‏ املسند اإليه،‏ والفاعل يتاألف من اأسماء العلم،‏<br />

والشخصيات الإنسانية ولهم القدرة على اأداء الدور<br />

وفيهم العامل الذي يدرس من حيث تاأثريه وقدرته على<br />

اأداء الدور ‏سلبا اأو اإيجابا،‏ اأو من حيث الفائدة التي ميكن<br />

27( ) . ومبا<br />

اأن يجنيها اأو اخلسارة التي ميكن اأن تلحق به<br />

اأن القصة تقوم على النتقال من وضع اإىل اآخر،‏ فاإن<br />

دور احلوافز فيها يكون وفقا للوضع،‏ فاحلوافز تشمل<br />

احلركية والسكونية،‏ وهذا ل يخرج عن العاقة القائمة<br />

بني املصدر والفعل.‏<br />

فاعلو احلكاية ‏)الوزير ‏-اململوك جابر-‏ امللك<br />

منكتم(،‏ فامللك والوزير يكونان مبثابة الصفة التي<br />

حتدد العاقة باململوك،‏ الذي يكون عبدا للوزير ‏صاحب<br />

احلق يف تقرير مصريه،‏ فيما يكون اأمام امللك جمرد<br />

رجل من العامة توؤهله ‏صاحياته لثوابه اأو عقابه باعتبار<br />

السلطة العليا التي ميتلكها.‏ لكن الضطراب يحدث<br />

حني يطلب الوزير من امللك قتل جابر،‏ فالعرف يقوم<br />

على احرتام الرجل لوعده،‏ والوزير هنا يخون الوعد،‏<br />

املضمر يف احلكاية يخربنا عن نهاية اأو موت الوزير يف<br />

اللحظة التي نقش فيها على راأس اململوك خرب موته من


51<br />

2 0 1 1<br />

اأجل حفظ السر.ويبقى الصوؤال من قتل جابر،‏ هل هو<br />

الوزير اأم امللك؟ ومن هو القتيل اململوك اأم الوزير؟ فيما<br />

يربز الصوؤال حول حمور الصراع واملتمثل بني املسلمني<br />

والكفار،‏ وكيف تكون ردة فعل الطرف الثاين،‏ اإذا ما<br />

قيض له السيطرة على مقدرات املسلمني.‏<br />

من هو البطل يف احلكاية،‏ هل هو القادر على اإجناز<br />

الأفعال املهمة واخلارقة،‏ من ميلك املقومات التي توؤهله<br />

لاإجناز والقدرة على اأداء الأفعال،‏ والسرية تشري<br />

بكل وضوح اإىل الإمكانات املرتبطة بشخوص احلكاية<br />

فاخلليفة املقتدي له ولدان وميلك اثنا عشر األف حمارب،‏<br />

وامللك منكتم له ولدان اأيضا لكنه ميلك خمسة اأضعاف<br />

ما ميلكه املقتدي من جيش،‏ اإذ ميلك ‏ستني األف حمارب.‏<br />

اأما الوزير فليس لديه ‏سوى ولد واحد،‏ وبهذا فاإنه ل<br />

يساوي اخلليفة اأو امللك يف جمال البنني،‏ واأما ما ميلكه<br />

من املال ومهما بلغت قيمته،‏ فاإنه يبقى خامل الذكر اإذا<br />

ما قورن بقوة العسكر واجليوش.‏ بالنسبة للملوك فاإنه<br />

مقطوع النسل،‏ اإنه ل اأحد،‏ وحتى السعر الذي حددت<br />

به املكافاأة ‏)خمسمائة دينار(‏ جاءت يف دللتها ناقصة<br />

غري مكتملة،‏ اإذ مل تصل اإىل حد الألف دينار،‏ التي اعتاد<br />

على نطقها العظماء والكبار يف احلكايات والقصص.‏<br />

احلدث الأهم يف بنية احلكاية يقوم على الرسالة<br />

التي وُضعت يف وجهها العراقيل،‏ وصارت تواجه الأسوار<br />

العالية والأبواب املحصنة واحلراس الأصداء.‏ وهنا<br />

ميكن الوقوف على جملة من املعطيات التي تقدمها<br />

موضوعة الرسالة يف احلكاية،‏ اإذ اأن الطريقة التي متت<br />

بها كتابتها قامت على فكرة جهنمية،‏ ل تخطر على بال<br />

اأحد،‏ ول تصدر اإل عن عقل متحفز.‏ وهناك عنصر<br />

التبليغ والذي عرب عنه يف وصل الرسالة اإىل غايتها<br />

بنجاح.‏ كما اأن الراأس يحتل مكانة مميزة على اعتبار اأنه<br />

املستودع العقلي املصوؤول عن الأفعال الإرادية والشعورية،‏<br />

واختياره يدل على الأهمية،‏ لكنه ل يخلو من معطيات<br />

دللية تقرتب اإىل حد بعيد من فكرة املوؤامرة والتحايل،‏<br />

اإذ درجت العرب على القول ‏)راأس الفتنة(.‏ وتربز لنا<br />

مصاألة املصوؤولية،‏ فاخلطة املحكمة التي استندت عليها<br />

عملية تنفيذ وصول الرسالة،‏ اأخذت باأهمية املصوؤولية<br />

عرب اختيار ‏)عبد مملوك(‏ ل دية له،‏ مقطوع النسل ل<br />

اأحد يصاأل عنه،‏ والبحث عن ‏ضمان اإخفاء السر املكتوب<br />

عن طريق الشعر يف حياة جابر،‏ والرتاب يف حالة موته.‏<br />

اأما العنصر الذي نقف عليه يف ‏شكل العاقات فاإنه يقوم<br />

على ‏)العهد(‏ فالرسالة حقل اتصايل بالطرف الآخر،‏<br />

ميكن اأن يتناول املواضيع باأسلوب تفاوضي يستوعب<br />

القبول اأو الرفض،‏ وهناك عنصر ‏)املعرفة(‏ فالرسالة<br />

حتمل الأخبار وتشرح الأوضاع والأحوال.‏<br />

بقيت مصاألة لغة الرسالة،‏ هل كانت العربية اأم<br />

الفارسية على اعتبار اأنها موجهة اإىل ملك فارسي،‏<br />

الواقع يشري اإىل عدم وجود ملك فارصي يف تلك<br />

احلقبة،‏ اأما اللغة فكانت العربية على اعتبار اأنها لغة<br />

الثقافة السائدة،‏ والراوي اأشار يف ذلك اإىل اأنها ليست<br />

لغة املسلمني فقط،‏ بل حتى غري املسلمني،‏ على اأساس<br />

الزمن الثقايف العربي السائد.‏<br />

حتوالت الهوية الثقافية<br />

كان الأدب العربي حبيس جنس اأدبي واحد،‏ متثل<br />

يف فن الشعر الذي توافق مع طبيعة الفعاليات الثقافية<br />

السائدة يف املجتمع العربي،‏ حيث الشفاهية،‏ وكان اإىل<br />

جانبه فن اخلطابة الذي استجاب للمتطلبات ذاتها،‏<br />

فراح يتوسل اأساليب السجع واحلكمة واملثل والوصية<br />

واحلكاية،‏ لكن هذه احلال ‏صرعان ما تغريت بعد<br />

انفتاح العرب على الآخر من خال حركة الفتوح،‏ اإذ<br />

بداأت موؤثرات الحتكاك تظهر يف اأكرث الأجناس الأدبية<br />

خصوصية،‏ وهو فن الشعر،‏ حيث تبدى واضحا الأثر<br />

السردي والقصصي فيه،‏ وكان للرتجمة اأثرها الواضح<br />

يف جتديد الأنواع الأدبية املعروفة،‏ ودخول اأنواع جديدة<br />

من احلكايات الشعبية واخلرافية على اللسان العربي<br />

‏شفاهية،‏ بعد حالة التصال الجتماعي مع البلدان<br />

واملفتوحة،‏ وصار املحيط الجتماعي يتداول حكايات<br />

األف ليلة وليلة،‏ واأبطال السري الشعبية،‏ حتى كانت<br />

الأرضية التي استندت اإليها احلكايات والسري الاحقة<br />

التي ظهرت يف العصر اململوكي،‏ والتي عربت عن منوذج<br />

جمعي،‏ فيه من الأرشيفية الشيء الكثري،‏ على اعتبار ما<br />

تعرضت له الأمة من تخريب ونهب وتدمري،‏ كان موجها


2 0 1 1<br />

52<br />

لصميم الثقافة العربية وحضارتها.‏<br />

الإنتاج الأدبي لأية اأمة ل ميكن ‏سلخه عن النتاج<br />

الإبداعي الإنساين،‏ اأو اإخراجه عن عاقاته التاريخية اأو<br />

تبادلته احلضارية.‏ فالنص الأدبي ومهما كانت طريقة<br />

دراسته يف السطح أو العمق،‏ يف الداخل أو اخلارج،‏ يبقى<br />

مرتبطا بخصوصية التجربة النتاج من حيث ميكن رد<br />

كل جنس اأدبي جديد اإىل اأصوله يف جنس اأدبي اآخر،‏<br />

من خال الإصارات البسيطة.‏ اأما ظاهرة املحاكاة<br />

العامة والشاملة جلنس اأدبي فلم تظهر ماحمها،‏ اإل يف<br />

العصر احلديث.‏<br />

املبدع – التواصل – الذات والآخر.‏<br />

الأصالة ‏–الأدب العربي-‏ التقليد.‏<br />

يف حمور الرغبة تلتقي الذات باملوضوع من خال<br />

املقابلة بني الأدب العربي وفعل التواصل،‏ اإن التقاء<br />

هذين العاملني ل يخرج عن طبيعة التقاء العوامل<br />

الأخرى يف املضمون الواحد.‏ وها نحن اأولًِ‏ ‏-ضمن هذا<br />

املحور-‏ جند اأهمية التبصر بالوضع الراهن لأحوال<br />

الأدب العربي،‏ من حيث البحث عن خلل اأو مشكلة<br />

كامنة فيه،‏ والسعي اإىل رفضها اأو الربهنة عليها.‏ اأو<br />

السعي اإىل اإيجاد حالة جديدة يجب اأن يكون عليها.‏ اإننا<br />

نبحث يف عملية التحول القائمة على حمور التضاد فيما<br />

بني الأصالة والتقليد،‏ لنستشف اأن الأصالة متثل حالة<br />

التحول الإيجابي للتقليد،‏ والنتقال اإىل مثل هذا التحول<br />

يقوم على اأساس قدرة املبدع العربي على تاأسيس عاقة<br />

قائمة على الوعي باملعطيات واملفاهيم واملرتكزات التي<br />

يقوم عليها الأدب الأصيل.‏<br />

واإذا كانت العاقات الوظيفية حتدد الإجناز ببلوغ<br />

التواصل على اعتبار استنادها اإىل املوضوع،‏ فاإن عنصر<br />

احلفز واحلركة والتفعيل ل يقوم اإل على الذات التي<br />

ميثلها الأدب العربي،‏ يف النموذج التكويني القائم على<br />

العاقات بني عوامل من نوع ؛ املبدع - التواصل - الذات<br />

والآخر-‏ الأصالة - الأدب العربي-‏ التقليد.‏


53<br />

2 0 1 1<br />

الهوامش واالإحاالت<br />

‎1‎انظر:‏ فرانسوا ليوتار،‏ الوضع ما بعد احلداثي،‏ ترجمة اأحمد حسان،‏ دار ‏شرقيات،‏ القاهرة 1994، ‏ص . 34<br />

. 1 ‎2‎انظر:‏ برنال،‏ العلم يف التاريخ،‏ ترجمة ‏شكري اإبراهيم ‏سعد،‏ املوؤسسة العربية،‏ بريوت 1982، املجلد 2، ‏ص 15.<br />

2. ‎3‎انظر:‏ يورغن هابرماس،‏ القول الفلسفي للحداثة،‏ ترجمة فاطمة اجليوشي،‏ وزارة الثقافة،‏ دمشق 1999، ‏ص 71.<br />

3. ‎4‎انظر:‏ بول ريكور،‏ الوجود والزمان والسرد،‏ ترجمة ‏سعيد الغامني،‏ املركز الثقايف العربي،‏ بريوت 1999، ‏ص 84.<br />

4. ‎5‎حممد املويلحي،‏ حديث عيسى بن هشام اأو فرتة من الزمن،‏ دارف املحدودة،‏ لندن 1985، ‏ص 5<br />

. ‎6‎الأبشيهي،‏ املستطرف يف كل فن مستظرف،‏ دار مكتبة احلياة،‏ بريوت 1995، ‏ص 53<br />

. ‎7‎حممد املويلحي،‏ املصدر السابق،‏ ‏ص 13<br />

. ‎8‎املصدر نفسه،‏ ‏ص 16<br />

. انظر:‏ حممد بن احمودة،‏ النرثوبولوجيا البنيوية اأو حق الختاف من خال اأبحاث ‏سرتاوس،‏ دار حممد علي<br />

9 احلامي للنشر،‏ ‏صفاقس 1987، ‏ص‎16‎‏.‏<br />

‎1‎انظر:‏ جاك دونت،‏ هيغل والفلسفة الهيغلية،‏ ترجمة حسني هنداوي،‏ دار الكنوز الأدبية،‏ بريوت 1994، ‏ص 106<br />

0 . 5<br />

. 6<br />

. 7<br />

. 8<br />

9 .<br />

- 10<br />

107<br />

. 11<br />

. 12<br />

‎1‎انظر:‏ عبداهلل العروي،‏ مفهوم الأيديولوجيا،‏ املركز الثقايف العربي،‏ بريوت 1993، ‏ص 59<br />

1 ‎1‎انظر:‏ ‏سعيد الغامني،‏ مئة عام من الفكر النقدي،‏ دار املدى،‏ دمشق‎2001‎‏،‏ ‏ص 19<br />

2 ‎1‎لونكرك،‏ اأربعة قرون من تاريخ العراق احلديث،‏ ترجمة جعفر خياط،‏ دار الرافدين،‏ بريوت 2004، ‏ص 338.<br />

313 ‎1‎انظر:‏ علي الوردي،‏ ملحات اجتماعية من تاريخ العراق احلديث،‏ دار الكتاب الإصامي،‏ ل مكان 2005، املجلد 2<br />

414 ج 3، ‏ص 10-9.<br />

. 15<br />

. 16<br />

. 17<br />

‎1‎املس بيل،‏ فصول من تاريخ العراق القريب،‏ ترجمة جعفر خياط،‏ دار الرافدين،‏ بريوت 2004، ‏ص 392<br />

5 ‎1‎انظر:‏ علي الوردي،‏ ملحات اجتماعية،‏ املجلد الثالث،‏ اجلزء اخلامس،‏ القسم الأول،‏ ‏ص 40-38<br />

6 ‎1‎انظر:‏ علي الوردي،‏ ملحات اجتماعية،‏ املجلد الرابع،‏ اجلزء السادس،‏ القسم الأول،‏ ‏ص 320- 321<br />

7 ‎1‎انظر:‏ هورغ واآخرون،‏ اجلماعة السلطة التصال،‏ ترجمة نظري جاهل،‏ املوؤسسة اجلامعية،‏ بريوت 1996، ‏ص 118.<br />

818 ‎1‎انظر:‏ ‏سامي ‏سويدان،‏ يف دللية القصص وشعرية السرد،‏ دار الآداب،‏ بريوت 1991، ‏ص 152<br />

9 ‎2‎انظر:‏ ‏سعيد بنكراد،‏ مدخل اإىل السيميائيات السردية،‏ تانسيفت،‏ مراكش ‎1994‎‏،ص 48<br />

0 انظر:‏ اأرسطو طاليس،‏ يف الشعر،‏ ترجمة اأبي بشر القنائي،‏ حتقيق ‏شكري عياد،‏ الهيئة املصرية العامة للكتاب،‏<br />

21 . 19<br />

. 20<br />

2 1<br />

القاهرة 1993، ‏ص 130.<br />

. 22<br />

. 23<br />

. 24<br />

. 25<br />

. 26<br />

‎2‎انظر:‏ بول ريكور،‏ الوجود والزمان والسرد،‏ ترجمة ‏سعيد الغامني،‏ ‏ص 91<br />

2 ‎2‎انظر:‏ خليل اأحمد خليل،‏ معجم مفاهيم علم الجتماع،‏ معهد الإمناء العربي،‏ بريوت 1996، ‏ص 97<br />

3 ‎2‎‏سرية الظاهر بيربس،‏ الهيئة املصرية العام للكتاب،‏ القاهرة 1996، املجلد الأول،‏ ‏ص 13<br />

4 ‎2‎‏سرية الظاهر،‏ ‏ص 14<br />

5 ‎2‎‏سرية الظاهر،‏ ‏ص 14<br />

6 ‎2‎انظر:‏ تودوروف،‏ الشعرية،‏ ترجمة ‏شكري املبخوت ورجاء بن ‏صامة،‏ دار توبقال،‏ الدار البيضاء 1990، ‏ص 68.<br />

727 ‎2‎ليوتار،‏ فرانسوا،‏ الوضع ما بعد احلداثي،‏ ترجمة اأحمد حسان،‏ دار ‏شرقيات،‏ القاهرة 1994<br />

8 ‎2‎برنال،‏ العلم يف التاريخ،‏ ترجمة ‏شكري اإبراهيم ‏سعد،‏ املوؤسسة العربية،‏ بريوت 1982<br />

9 . 28<br />

. 29


2 0 1 1<br />

54<br />

. 30<br />

. ، 31<br />

. 32<br />

. 33<br />

3 4<br />

‎3‎هابرماس،‏ يورغن القول الفلسفي للحداثة،‏ ترجمة فاطمة اجليوشي،‏ وزراة الثقافة،‏ دمشق 1999<br />

0 ‎3‎ريكور،‏ بول الوجود والزمان والسرد،‏ ترجمة ‏سعيد الغامني،‏ املركز الثقايف العربي،‏ بريوت 1999<br />

1 ‎3‎املويلحي،‏ حممد،‏ حديث عيسى بن هشام اأو فرتة من الزمن،‏ دارف املحدودة،‏ لندن 1985<br />

2 ‎3‎الأبشيهي،‏ املستطرف يف كل فن مستظرف،‏ دار مكتبة احلياة،‏ بريوت 1995<br />

3 بن احمودة،‏ حممد،‏ النرثوبولوجيا البنيوية اأو حق الختاف من خال اأبحاث ‏سرتاوس،‏ دار حممد علي احلامي<br />

34 للنشر،‏ ‏صفاقس 1987، ‏ص‎16‎‏.‏<br />

‎3‎جاك دونت،‏ هيغل والفلسفة الهيغلية،‏ ترجمة حسني هنداوي،‏ دار الكنوز الأدبية،‏ بريوت 1994، ‏ص 107-106<br />

535 ‎3‎العروي،‏ عبداهلل،‏ مفهوم الأيديولوجيا،املركز الثقايف العربي،‏ بريوت 1993<br />

6 ‎3‎الغامني،‏ ‏سعيد مئة عام من الفكر النقدي،‏ دار املدى،‏ دمشق‎2001‎<br />

7 ‎3‎لونكرك،‏ اأربعة قرون من تاريخ العراق احلديث،‏ ترجمة جعفر خياط،‏ دار الرافدين،‏ بريوت 2004<br />

8 ‎3‎الوردي،‏ علي،‏ ملحات اجتماعية من تاريخ العراق احلديث،‏ دار الكتاب الإصامي.،‏ ل مكان 2005<br />

9 ‎4‎بيل،‏ املس،‏ فصول من تاريخ العراق القريب،‏ ترجمة جعفر خياط،‏ دار الرافدين،‏ بريوت 2004، ‏ص 392<br />

0 ‎4‎هورغ واآخرون،‏ اجلماعة السلطة التصال،‏ ترجمة نظري جاهل،‏ املوؤسسة اجلامعية،‏ بريوت 1996<br />

1 ‎4‎‏سويدان،‏ ‏سامي يف دللية القصص وشعرية السرد،‏ دار الآداب،‏ بريوت 1991<br />

2 ‎4‎بنكراد،‏ ‏سعيد،‏ مدخل اإىل السيميائيات السردية،‏ تانسيفت،‏ مراكش 1994<br />

3 ‎4‎طاليس،‏ اأرسطو يف الشعر،‏ ترجمة اأبي بشر القنائي،‏ حتقيق ‏شكري عياد،‏ الهيئة املصرية العامة للكتاب،‏ القاهرة 1993.<br />

444 ‎4‎خليل،‏ اأحمد خليل،‏ معجم مفاهيم علم الجتماع،‏ معهد الإمناء العربي،‏ بريوت 1996<br />

5 ‎4‎‏سرية الظاهر بيربس،‏ الهيئة املصرية العام للكتاب،‏ القاهرة 1996<br />

6 ‎4‎تودوروف،‏ الشعرية،‏ ترجمة ‏شكري املبخوت ورجاء بن ‏صامة،‏ دار توبقال،‏ الدار البيضاء 1990<br />

7 . 36<br />

. 37<br />

. 38<br />

. 39<br />

. 40<br />

. 41<br />

. 42<br />

. 43<br />

. 45<br />

. 46<br />

. 47


التمثيل بالعلوم للعلوم<br />

عند ابن رشد<br />

د.‏ فوؤاد بن اأحمد<br />

باحث من املغرب


57<br />

2 0 1 1<br />

Abstract<br />

امللخص<br />

الغرض من املقال هو احلديث عن استعمالت ابن رشد<br />

للأمثلة العلمية والفقهية.‏ فمن املعروف عند املوؤرخني اأن<br />

الرجل كان فقيها وطبيبا وملما بالآداب العربية والعلوم<br />

الرياضية والفيزيائية؛ وقد كان من الطبيعي اأن يكون لهذه<br />

النشغالت تاأثريات ومداخل يف طبيعة اختياره لأمثلته يف<br />

نصوصه الفلسفية.‏ الأمر الأول الذي وقف عنده املقال هو<br />

استعماله متثيات حمسوبة على هذه الدوائر العلمية التي<br />

هي يف الأصل تخصصات علمية لها اأصحابها العارفون<br />

بها.‏ لذلك كان هدف املقال هو فحص مدى التزام ابن<br />

رشد بتلك القاعدة التي تلزم مُستعمل التمثيل باأن ميتلك<br />

علما متقدما باملعارف املمثل بها باعتبارها مقدمة يف<br />

حجته.‏ كان التمثيل بعلوم التعاليم بقصد التشريع للنظر<br />

العلمي،‏ وقد مكنت خصائص علوم التعاليم،‏ من حتصيل<br />

هذه الغاية بالنظر اإىل يقينيتها وانفصالها عن بادئ<br />

الراأي،‏ واقتضائها التعاون والتداول بخصوص ثمراتها.‏ اأما<br />

الأمر الثاين فهو ما ميكن تسميته بصراع التمثيات عند<br />

ابن رشد،‏ حيث يظهر املقال تنافس هذه الدوائر املعرفية<br />

والعلمية على احلضور يف نصوصه.‏ فقد تخلى عن التمثيل<br />

بالعلوم الهندسية لصالح التمثيل بالفقيهات من اأجل اإثبات<br />

مشروعية الفلسفة واملنطق على الرغم مما تقدمه العلوم<br />

الأوىل من اإمكانات جناح التمثيل مقارنة بالثانية.‏ حيث<br />

يظهر املقال اأن مقتضيات تداولية تتعلق بطبيعة املُخَ‏ اطَ‏ ب،‏<br />

جعلت مثال التعاليم غري ظاهر مبا يكفي له؛ يف حي كان<br />

مثال اأصول الفقه اأقرب فصا عن كونه يستويف الغرض من<br />

املثال الأول،‏ اأي ‏ضرورة التعاون والتداول.‏<br />

اأبحاث<br />

The article contends that Ibn Rushd’s<br />

extensive use of scientific analogies is<br />

purposeful. Known to Historians as a jurist<br />

and a physician who had an excellent mastery<br />

of Arab literature, Ibn Rushd had nourished<br />

interests in Mathematical and Physical<br />

sciences as well. These interests of Ibn<br />

Rushd’s had a great influence on the nature<br />

of the analogies that he used in his works as<br />

a philosopher. One of the main premises that<br />

govern the use of analogy within the realms<br />

of reasoning requires the user of analogies to<br />

have a full knowledge of the subject matter<br />

of the example. The present article attempts<br />

to examine the extent to which Ibn Rushd<br />

respects this rule as a premise to his argument,<br />

and to what ends. For Ibn Rushd, the purpose<br />

behind using mathematical examples was to<br />

legitimize scientific theorization in the Islamic<br />

world, and to set its rules of cooperation and<br />

exchange among scientists. The certainty and<br />

neutrality of mathematical sciences allow for<br />

this purpose. However, Ibn Rushd chose<br />

to substitute mathematical analogies by<br />

analogies of foundation of jurisprudence-- a<br />

science which is closer to the audience that<br />

he targeted in the first place. In fact, this is<br />

the main factor behind Ibn Rushd’s strategic<br />

choice to let go of mathematical examples.


2 0 1 1<br />

58<br />

التمثيل بالعلوم للعلوم عند ابن رشد<br />

د.‏ فوؤاد بن اأحمد<br />

عندما نفحص مليا متثيات ابن رشد ومصادرها،‏ جند دوائر معرفية كثرية كانت وراء تعدد هذه التمثيات<br />

وتشعبها وخصوبتها.‏ لكن تقليدين علميني غالبني كانا مبثابة املرجع الذي يحيل عليه يف متثياته التي ‏سعى من<br />

ورائها اإىل اإثبات مشروعية الفلسفة،‏ وضرورة الستفادة من الأمم املختلفة.‏ هذان التقليدان هما:‏ الرياضيات<br />

1<br />

والفقهيات.‏<br />

اإل اأن اأمرين اثنني استاأثرا باهتمامنا يف متثيل ابن رشد بهاتني الصناعتني:‏<br />

الأول،‏ تشديده على قاعدة تلزم مُستعمل التمثيل باأن ميتلك علما متقدما باملعارف املمثل بها )= العلوم<br />

التعاليمية والفقهية(‏ باعتبارها مقدمة يف حجته،‏ قبل اأن يَطلب دعواه التي من اأجلها يستعمل ذلك املثال.‏<br />

اأما الأمر الثاين فيحيل على واقع املمارسة النظرية لبن رشد.‏ فعلى الرغم من الختاف الكبري بني علم<br />

التعاليم وعلم الفقه على مستوى هوية كل علم،‏ وعلى مستوى مبادئهما ونتائجهما واملخاطب بهما،‏ فاإنه مل يرتدد،‏<br />

مع ذلك،‏ يف اأن يستخدمهما معا لأجل اإثبات ‏ضرورة النظر والرتاكم العلميني،‏ بل اأكرث من ذلك مل يتوان يف<br />

حلظة من حلظات التمثيل عن التخلي عن التقليد العلمي التعاليمي لصالح التمثيل بصناعة اأصول الفقه.‏<br />

اأما عملنا يف هذه الدراسة فسينصب اأول،‏ على فحص مدى التزام ابن رشد بتلك القاعدة املقننة للتمثيل<br />

املشار اإليها.‏ وثانيا،‏ على مسوغات تراجعه عن التمثيل بعلوم التعاليم لصالح التمثيل بالصناعة الفقهية مع ما<br />

تقدمه العلوم الأوىل من اإمكانات جناح التمثيل مقارنة بالفقه.‏<br />

اأوال:‏ مصادر التمثيل عند ابن رشد<br />

يقول عبد اهلل العروي:‏ ‏»عندما نتكلم عادة عن النص<br />

الأرسطي املضمن يف الكتب الثمانية ‏)الأورغانون(‏ نتكلم<br />

عن نص تقريري عاطل جمرد من كل ‏سوابقه ولواحقه،‏<br />

يف حني اأن النص املفهوم لبد اأن يكون اأشمل واأعمق من<br />

ذلك.‏ توجد خلف النص ‏)املنطقي(‏ الثقافة اليونانية<br />

باأصولها املختلفة«‏ . 2 الواقع اأن هذه املاحظة املنهجية<br />

تصدق اإىل حد بعيد على جمموع نصوص ابن رشد<br />

املنطقية وغري املنطقية على حد ‏سواء.‏ فقد مت التعامل<br />

‏-لأمد طويل-‏ مع فلسفته عموما بالقتصار فقط على<br />

منطوقها ورغبات ‏صاحبها ومقاصده املعلنة،‏ وبانفصال<br />

‏شبه تام عن املادة الثقافية التي نسجت منها هذه<br />

النصوص،‏ وكاأنها اأمر لحق على النص لدواع عارضة<br />

ميكن الستغناء عنها يف ‏شروط خمتلفة.‏ واحلال اأن<br />

فحص الهواجس التي ‏شغلت بال ابن رشد وحتكمت يف<br />

تعامله مع املصنف الأرسطي ‏)سواء كان يف فن الشعر اأو<br />

اخلطابة اأو الربهان اأو ما بعد الطبيعة...(‏ تُظهر اأنه مل<br />

يكن ينظر اإىل نصوص اأرسطو على اأنها نصوص مفارقة<br />

لثقافتها املنسوجة منها كليا اأو جزئيا.‏<br />

مثل النص كمثل ‏»اجلهاز الهضمي،‏ ل تدب فيه<br />

احلياة،‏ ل يحمى يف ذهن املتقبل ويعود منتجا،‏ اإل اإذا<br />

كسي بلحم وانتعش بدم متدهما به العلوم القطاعية«‏ ، 3<br />

اأو اجلزئية،‏ نظرية كانت اأو عملية.‏ واإغفال جهات دخول<br />

املعارف التي راكمتها هذه العلوم يف اخلطاب الفلسفي<br />

هو الذي اأدى ‏-كما اأشرنا يف مقدمة البحث-‏ اإىل حصر<br />

املنطق يف الربهان والستنباط دون التمثيل والستقراء،‏


59<br />

2 0 1 1<br />

واىل جعله اآلة للتهذيب والعرض.‏ 4 وباملقابل فمن ‏صاأن<br />

النتباه اإليها اأن يوقفنا على قدرات التمثيل يف الكتشاف<br />

والبتكار من جهة؛ وعلى تفاوت مداخل واآثار هذه العلوم<br />

عند التمثيل بها يف القول الفلسفي الرشدي من جهة<br />

ثانية،‏ فالتمثيل باحلروف غري التمثيل باملواد عموما،‏<br />

والتمثيل بزيد وعمرو غري التمثيل بعمر بن اخلطاب<br />

وعثمان بن عفان:‏ ف»ل اأحد يستطيع اأن يدعي اأن تلقني<br />

املنطق الأرصطي اعتمادا على اأمثلة نحوية يساوي<br />

التلقني اعتمادا على ‏شواهد ماأخوذة من الرياضيات<br />

العالية«‏ )5( .<br />

ملا كان التمثيل والستعارة والتشبيه اآليات بها<br />

نعرب ونبلغ كما نسعى اإىل التاأثري؛ كان طبيعيا لتحقيق<br />

هذا الأمر بنجاعة،‏ العمل دائما على املاءمة بني هذه<br />

الآليات وبني الغاية التي نطلبها.‏ ومن هنا فا ينبغي<br />

لدراسة للتمثيل والستعارة والتشبيه واملثال اأن تقتصر<br />

على معاجلتها يف ‏سياق خاص ويف اأفق خمصوص،‏<br />

لأن ذلك قد يوؤدي اإىل جعل ما يعود اإىل خصوصية<br />

الستعمال اأو السياق ذا طبيعة مضيقة.‏ )6( لذا فاإن<br />

اأسئلة من قبيل:‏ ما هي عناصر هذه الآليات؟ وما هي<br />

الأسس التي تقوم عليها؟ وما هي العوامل املتدخلة يف<br />

اختيار ابن رشد لهذه العناصر دون غريها ليستعملها<br />

عند تشغيله هذه الآليات؟ وما هي طبيعة العاقة بني<br />

هذا الختيار ومن يتوجه اإليهم ابن رشد باأقواله،‏ هذا اإن<br />

كانت هناك عاقة ما؟ قلت اإن اأسئلة من هذا القبيل ل<br />

ميكن الستغناء عنها من اأجل الإحاطة بعملية التمثيل ل<br />

كصورة قياسية فقط،‏ بل كمواد وشروط لهذا التمثيل.‏<br />

التمثيات والستعارات واملثالت قوية احلضور يف<br />

اخلطاب الفلسفي لبن رشد،‏ وهو يف هذا ل يختلف<br />

عن ‏سائر اخلطابات الفلسفية.‏ وكرثة ورودها عند<br />

الرجل تعني حتديدا ورودها يف ‏سياقات بعينها،‏ وهذا<br />

ما يشجعنا على مراجعة اأحكامنا السائرة بخصوص<br />

فلسفته وبخصوص دور هذه الآليات ذاتها.‏ ذلك اأن<br />

اأكرث ما اأحلت عليه الدارسات التي اأجنزت يف الأقوال<br />

الفلسفية لبن رشد اأحلت على مضامينها املعرفية<br />

واملذهبية،‏ اأكرث مما حفلت بدور الآليات املنهجية التي<br />

بنيت بها هذه املضامني؛ بل قد نقول اإنه حتى واإن انتبهت<br />

قلة،‏ يف ‏سياق خصومة عرضية مع الفئة الأوىل اأحيانا،‏<br />

اإىل اأهمية فحص هذه الآليات،‏ فاإنها حتصر احتفاءها<br />

يف ‏صورتها اأو ‏صورها املنطقية،‏ ذاهلة عن الفحص عن<br />

مادة اأو مواد هذه الآليات التي استعان بها اأبو الوليد يف<br />

تشييده لأقاويله الفلسفية والعلمية وغريها.‏<br />

لعل مدار التمثيل عند ابن رشد كان على اأمرين<br />

اثنني:‏ اأعني على مادة هذا التمثيل من ناحية وعلى<br />

‏صورته من ناحية اأخرى.‏ فمادة التمثيل هي مقدماته<br />

التي تعتمد اأساسا ما هو مقبول عند كل الناس اأو جلهم<br />

لغاية الإقناع،‏ وهذا وما ميكن اأن نسميه بعامل اخلطاب<br />

اأو القول.‏ ونقصد بعامل القول جممل الكفايات املعرفية<br />

والثقافية التي تاأتي هذه املضامني واملواد مشكلة بها<br />

ومعتمدة عليها،‏ بحيث تكون هذه املضامني اإما غريبة<br />

عن املخاطبني فيجعلها القول األيفة،‏ واإما األيفة بدءًا<br />

فينطلق هوؤلء منها لتكوين اأحكام جديدة،‏ وتبعا لذلك<br />

)7(<br />

تكون الأقوال نافذة اإىل املخاطبني بالسهولة املطلوبة.‏<br />

اأما ‏صور التمثيل فقد تبني اأنها البناء اأو التاأليف الذي<br />

تتشكل وفقه مادة التمثيل لتوؤلف ‏صورة استدللية ل<br />

تختلف عن باقي ‏صور الستدللت الأخرى.‏<br />

واإذا تبني اأنه ل بد للتمثيل من مادة هي التي<br />

ميُ‏ ثّل بها،‏ فصا عن ‏صورته،‏ فاإنه ميكن بغري قليل<br />

من الختزال،‏ اأن نردّ‏ املواد التي كان ميُ‏ ‏َثّل بها عموما،‏<br />

اأي حمتويات التمثيل،‏ اإىل تقاليد علمية ‏سادت ليس<br />

يف القرون الوسطى فحسب،‏ بل امتدت من العصور<br />

اليونانية حتى عصر النهضة مرورا بالقرون الوسطى<br />

الإصامية.‏ ونعني بهذه التقاليد:‏ التعاليم ‏)وخاصة<br />

الهندسة(‏ والبصريات والطب،‏ هذا فصاً‏ عن التقاليد<br />

اخلاصة باحلضارة الإصامية،‏ من كاميات وفقهيات<br />

وبيانيات ‏)قراآن،‏ ‏شعر،‏ اأمثال...(.‏ وهذا يعني اأن الأفكار<br />

والأقوال الفلسفية قد منت وتبلورت منذ البدايات الأوىل<br />

من خال دخولها يف حوار مفصل ومتميز مع هذه<br />

العلوم.‏ وهذه الأمثلة املنتمية اإىل هذه العلوم القطاعية<br />

هي ما نحاول البحث عنه واإبرازه عند ابن رشد،‏ وميكن<br />

تفصيل بعض مصادرها كالآتي:‏<br />

اأبحاث


2 0 1 1<br />

60<br />

<br />

الأمثلة الشرعية:‏ حيث يظهر اأن ابن رشد مل يكن<br />

يكتب اأو يشرح نصوص اأرسطو اأو يرد على الفلسفة<br />

واملتكلمني،‏ اإل واخلطاب القراآين الشرعي حاضر يف<br />

ذهنه،‏ يستشهد به ويخضعه لقراءته ‏)ميكن العودة اإىل<br />

فصل املقال والكشف عن مناهج الأدلة واأمثلة تلخيص<br />

كتاب الشعر وطريقة استثمار ابن رشد لقصة النبي<br />

يوسف...(.‏ هذا فصا عن اإبرازه للجانب التمثيلي<br />

والستعاري يف اخلطاب القراآين،‏ باعتباره يتجاوز<br />

الطريقة الكامية يف التمثيل والستعارة.‏<br />

الأمثلة الكامية ‏)نسبة اىل علم الكام(:‏ ل ميكن<br />

ملتتبع موؤلفات ابن رشد مبختلف اأجناسها وموضوعاتها،‏<br />

األ يدرك اأن ابن رشد كان مسكونا منذ بداية انشغالته<br />

الفكرية بهاجس الرد على علماء الكام،‏ والأشاعرة<br />

بخاصة.‏ ورمبا تكون تاآليفه املنطقية الأوىل ‏)خمتصر<br />

املنطق(‏ خري ‏شاهد على ما نقول،‏ لذلك كانت الأمثلة<br />

الكامية حاضرة بقوة يف كتاباته،‏ وكان استعمالها<br />

لأمثلة عقدية مدخا لنخراطه يف ذلك النقاش النظري<br />

العقائدي،‏ واإن كان دخول غري مباشر؛ ولن يكون مباشرا<br />

‏سوى يف كتاباته الأخرى،‏ من قبيل الكشف عن مناهج<br />

الأدلة يف عقائد امللة.‏<br />

الأمثلة الشعرية:‏ فاأغراض الشعر العربي من<br />

مدح وهجاء ورثاء ونسيب،‏ كانت حاضرة يف ذهن ابن<br />

رشد وهو يشرح كتاب الشعر،‏ والكتاب الثالث من كتاب<br />

اخلطابة وغريهما،‏ وهي التي وجهت ابن رشد يف بعض<br />

اللحظات التاأويلية احلاسمة من قبيل ‏شرح العبارات<br />

املتعلقة باملسرح،‏ كما كانت هذه الأغراض حاضرة يف<br />

ذهنه وهو يشرح ‏سياسة اأفاطون،‏ وينبه اإىل خماطر<br />

القول الشعري واآثاره على الناس؛ ول ميكن اأن ننكر<br />

‏-باأي حال-‏ دورها يف تقوميه ملنزلة الشعر والآليات<br />

الشعرية ‏)استعارة،‏ وتشبيه واإبدال(.‏<br />

اأمثلة العلوم اجلزئية:‏ خطاب التعاليم،‏ الهندسة<br />

وعلم الفلك والبصريات،‏ وهنا ل ميكن لقارئ بعض<br />

نصوص ابن رشد العلمية،‏ كتلخيص الآثار العلوية،‏ اأو<br />

تلخيص احلس واملحسوس،‏ اأن يذهل عن املادة العلمية<br />

املستمدة من علم البصريات يف زمن ابن رشد؛ كما ل<br />

ميكن اأن نتغافل عن املادة املستمدة من علوم التعاليم<br />

عموما ‏)فلك،‏ هندسة...(‏ عندما نقراأ تلخيص وتفسري<br />

ما بعد الطبيعة.‏ ولعل التعاليم هي التقليد العلمي الذي<br />

عادة ما يعمل موؤرخو الفلسفة على اإبراز حضوره القوي<br />

يف كل مستويات الشتغال الفلسفي للقدماء،‏ وسواء<br />

كانوا من مناصري هذا التقليد اأو من اخلارجني عنه.‏<br />

واحلقيقة اأنه من الأهمية مبكان التنبيه على منزلة<br />

الأمثلة الرياضية والهندسية خاصة التي يستعملها ابن<br />

رشد على طول موؤلف ‏ضخم من حجم تفسري ما بعد<br />

الطبيعة،‏ على الرغم من قلة اشتغاله بعلوم التعاليم.‏<br />

كما اأن علما اآخر ‏شديد الصلة بعلوم التعاليم،‏ ومنفتحا<br />

على التجربة ‏سيحظى هو الآخر بانشغال الباحثني<br />

وموؤرخي الأفكار العلمية وهو البصريات،‏ الذي عُ‏ دّ‏<br />

النموذج العلمي paradigm الذي يحال اإليه يف باقي<br />

العلوم والصنائع،‏ ويحتذى يف انفتاحه ونهجه التاأليفي<br />

بني الستقراء التجريبي والستنباط الرياضي.‏<br />

اأما اخلطاب العلمي الآخر الذي كان يشكل<br />

مادة اشتغال ابن رشد يف متثياته واستعاراته يف كل<br />

النصوص تقريبا،‏ ‏سواء كانت نصوصا ميتافيزيقية اأو<br />

منطقية اأو كامية اأو فقهية،‏ اأو كانت نصوصا موضوعة<br />

اأو ‏شارحة،‏ فهو اخلطاب الطبي بلوازمه واآلته من اأدوية<br />

واأغذية.‏ غري اأن املثري لانتباه اأن ابن رشد مل يستعن<br />

بهذا العلم يف التشريع للنظر العقلي على اأرض الإصام،‏<br />

بينما مثل به يف قضايا التاأويل والفضائل وغريها.‏<br />

تعكس هذه القطاعات املعرفية التي استقى منها<br />

ابن رشد اأمثلته اأمرا اأوليا،‏ هو تعدد انشغالت الرجل<br />

يف حياته الفكرية،‏ فالرجل كان طبيبا وفقيها وعارفا<br />

بالآداب العربية.‏ ولكن بقدر ما يسرت هذه الهتمامات<br />

املتعددة لبن رشد اإمكانيات كربى يف ‏صياغة وبناء<br />

اأمثلته،‏ كانت تظهر ‏-يف بعض الأحيان-‏ حمدودية<br />

تكوينه بخصوص بعض املجالت العلمية التي استقى<br />

منها اأمثلته.‏<br />

ثانيا:‏ التمثيل بني الصناعة العلمية والعملية<br />

1. قيمة التمثيل بعلوم التعاليم<br />

مكّن علم التعاليم ابن رشد من مثال تتوافر فيه


61<br />

2 0 1 1<br />

‏شروط النموذج الذي يصلح اأن ميثل به لوجوب تداول<br />

الفحص عن املوجودات واحداً‏ بعد واحد،‏ واستعانة<br />

املتاأخر باملتقدم.‏ ومن بني اأهم هذه الشروط طبيعة العلم<br />

ذاته،‏ وطبيعة اشتغال العلماء به،‏ ومنطق الكتشاف<br />

العلمي فيه.‏ اأما اأهمها فهو دخول هذه الأمور ‏ضمن ما<br />

يسمى عند ابن رشد باملعلوم بذاته.‏<br />

ف»مثال ما عرض لعلم التعاليم«‏ يُفيد الوجوب يف<br />

‏»التداول«‏ و»الستعانة«،‏ لأن ما ينتهي اإليه النظر يف<br />

علم التعاليم ل يكون اإل بهما.‏ هذا الشرط هو وحده<br />

ما يجعل الرتاكم العلمي ممكنا من جهة،‏ ويجعل،‏ من<br />

جهة ثانية،‏ ما ينتهي اإليه النظر التعاليمي معقول ‏)اأي<br />

ميكن تعقله(،‏ واإل عد ‏ضربا من اجلنون اأو الهلوسات<br />

اأو الوحي.‏ اإن ‏»معقولية«‏ علم التعاليم تعني اأن هناك<br />

تراكما يف ثمرات النظر العلمي،‏ ثمرة تفضي اإىل اأخرى<br />

بشكل يجعل الأخرية غري ممكنة بدون الأوىل،‏ لأنها هي<br />

التي وطاأت لها.‏ ول ميكن النظر اإىل اآخر ثمرة انتهى<br />

اإليها النظر العلمي باستقال عن مسلسل الرتاكم<br />

الذي انخرطت فيه الأبحاث التي اأعملها اأصحابها على<br />

مر العصور.‏ ومن هذه اجلهة فاإن عمليات الكتشاف<br />

والتداول والستعانة هي ما يضفي ‏سمات العقلية على<br />

ثمرات العلم وليس عرضه الأخري،‏ ‏سيما اأنه ‏»يُشبه اأن<br />

يكون ما يظهر باآخره للعقل هو عنده من قبيل املستحيل<br />

يف اأول اأمره«‏ )8( .<br />

•1( التعاون العلمي<br />

اإذا افرتضنا مثا اأن ‏»صناعة الهندسة يف وقتنا<br />

هذا معدومة«،‏ و»رام اإنسان واحد من تلقاء نفسه اأن<br />

يدرك مقادير الأجرام السماوية واأشكالها واأبعاد بعضها<br />

عن بعض،‏ مثل اأن يعرف قدر الشمس من الأرض،‏ وغري<br />

ذلك من مقادير الكواكب،‏ ملا اأمكنه ذلك ولو كان اأذكى<br />

الناس طبعاً،‏ اإل بوحي اأو ‏شيء يشبه الوحي«‏ )9( . وهذا<br />

ينسحب على جميع العلوم،‏ عملية كانت اأو نظرية،‏ يقول:‏<br />

‏»لو قدّ‏ رنا اأن ‏صناعة من الصنائع قد دثرت ثم توهم<br />

وجودها لكان يف بادئ الراأي من املستحيل ولذلك يرى<br />

كثري من الناس اأن هذه الصنائع هي من مدارك ليست<br />

باإنسانية فبعضهم ينسبها اإىل اجلن،‏ وبعضهم ينسبها<br />

اإىل الأنبياء«‏ )10( .<br />

وعليه،‏ فالتوصل اإىل معلومات بخصوص هذه<br />

املوجودات التي يدرسها علم الهندسة،‏ ل ميكن حصوله<br />

ما مل يتم تداول النظر فيها ناظرا بعد ناظر،‏ اأعني<br />

بتضافر جهود النظار وتعاونهم.‏ وليس القول باإمكانية<br />

اأن يحيط واحد من الناس بهذه املعلومات اإل من باب<br />

الإمكان الأقلي؛ وقد اأشار اإليه ابن رشد هنا بالوحي اأو<br />

ما يشابه ذلك من الروؤى والأحام وغريها،‏ حتى يخرجه<br />

عن طور املنجز الإنساين.‏ وملا كان العلم والصناعات<br />

عموما اإمنا من باب الضروري اأو املمكن على الأكرث،‏<br />

فليس ميكن ذلك اإل باستعانة املتاأخر باملتقدم.‏ ومن<br />

اأجل ذلك يجب اأن نقول اإنه ملا كان التعاون بينا بنفسه،‏<br />

ول ‏شك فيه عند من يشتغل بالنظر العلمي،‏ فاإن ‏»هذا<br />

اأمر بني بنفسه يف الصنائع العلمية«‏ كلها.‏ واإذا فلما كان<br />

اأمر التعاون بني علماء الهندسة والهيئة يف النظر يف<br />

املوجودات اأمرا بينا بذاته،‏ ‏صار التعاون يف اإنشاء علوم<br />

الآلت،‏ اأو املنطق حتديدا اأمرا بينا ول يشك يف اأمره.‏<br />

•2( تلقي النتائج العلمية<br />

هذا عن التعاون بني النظار،‏ اأما عن النتائج العلمية<br />

فيمكن اأن نقول اإنه مثلما تقتضي الصنائع النظرية<br />

والعملية التعاون والتداول،‏ حتى حتافظا على طبعتيهما<br />

البشرية والعقلية،‏ فاإن عدم اأخذ هذه السريورة التي<br />

يخضع لها العمل العلمي بعني العتبار،‏ يجعل ما انتهت<br />

اإليه غري مقبول عند اجلمهور،‏ اأو بعبارة ابن رشد يكون<br />

‏»شنيعا وقبيحا يف بادئ الراأي وشبيها بالأحام،‏ اإذ ليس<br />

يوجد يف هذا النوع من املعارف مقدمات حممودة يتاأتى<br />

من قبلها الإقناع فيها للعقل الذي يف بادئ الراأي،‏ اأعني<br />

عقل اجلمهور«‏ )11( . واحلقيقة اأن ‏»كثريا من الأمور التي<br />

تثبت يف العلوم النظرية اإذا عرضت على بادئ الراأي<br />

واإىل ما يعقله اجلمهور من ذلك كانت بالإضافة اإليهم<br />

‏شبيها مبا يدرك النائم يف نومه كما قال ‏)اأبو حامد<br />

الغزايل(،‏ واأن كثريا من هذه تُلفَ‏ ى لها مقدمات من<br />

نوع املقدمات التي هي معقولة عند اجلمهور يقنعون بها<br />

يف اأمثال هذه املعاين بل ل ‏سبيل اإىل اأن يقع بها لأحد<br />

اإقناع«‏ )12( .<br />

اأبحاث


2 0 1 1<br />

62<br />

وملا كان ‏سبيل هذه املعاين ‏»اأن يحصل بها اليقني<br />

ملن يسلك يف معرفتها ‏سبيل اليقني«‏ )13( . فاإن ‏صاحب<br />

الصناعة هو وحده الذي بوسعه متابعة هذا السبيل اأو<br />

هذه السريورة العلمية.‏ من اأجل اإظهار كيف يحصل<br />

تلقي نتائج النظر العلمي عند ‏صاحب الصناعة وعند<br />

غريه،‏ يلجاأ ابن رصد اإىل التمثيل بعلوم الهندسة<br />

والهيئة.‏ وهكذا فلو فرضنا ‏صناعة علم الهيئة يف وقتنا<br />

هذا معدومة وخرجنا للناس بقول مفاده ‏»اإن الشمس<br />

اأعظم من الأرض بنحو مائة وخمسني ‏ضعفاً‏ اأو ‏ستني،‏<br />

لعد هذا القول جنوناً‏ من قائله«‏ )14( . لكن يجب اأن نشدد<br />

على اأنه ‏سيُعَدُّ‏ كذلك يف نظر بادئ الراأي ل يف احلقيقة،‏<br />

اأعني عند اجلمهور،‏ ل عند ممارسي النظر العلمي،‏ لأن<br />

هذا القول قد قام عليه الربهان يف علم الهيئة قياماً‏<br />

ل يشك فيه من هو من اأصحاب ذلك العلم،‏ حسب ما<br />

يقول ابن رشد.‏ ويعود اإىل املثال نفسه يف كتاب تهافت<br />

التهافت،‏ ليظهر التقابل الشديد بني جهة النظر العلمي<br />

وجهة نظر بادئ الراأي،‏ مستعينا بخصائص الدقة<br />

والضبط واليقني يف اجلهة الأوىل:‏ ‏»مثال ذلك اأنه لو قيل<br />

للجمهور وملن هو اأرفع رتبة يف الكام منهم:‏ اإن الشمس<br />

التي تظهر للعني يف قدر قدم هي نحو من مائة وسبعني<br />

‏ضعفا من الأرض،‏ لقالوا هذا من املستحيل،‏ ولكان من<br />

يتخيل ذلك عندهم كالنائم،‏ ولعسر علينا اإقناعهم يف<br />

هذا املعنى مبقدمات يقع لهم التصديق بها من قرب<br />

يف زمان يسري بل ل ‏سبيل اأن يتحصل مثل هذا العلم<br />

اإل بطريق الربهان ملن ‏سلك طريق الربهان«‏ )15( . اإذا<br />

كان هذا التقابل واضحا يف العلوم التعاليمية فهو اأوضح<br />

واأبرز يف العلوم الإلهية:‏ ‏»واإذا كان هذا موجودا يف<br />

مطالب الأمور الهندسية،‏ وباجلملة يف الأمور التعاليمية<br />

فاأحرى اأن يكون ذلك موجودا يف العلوم الإلهية.‏ اأعني ما<br />

اإذا ‏صرح به للجمهور كان ‏شنيعا وقبيحا يف بادئ الراأي،‏<br />

وشبيها بالأحام«‏ )16( . هاهنا كانت الأمور التعاليمية<br />

مثال ملا يجب اأن يكون عليه الأمر يف العلوم الإلهية من<br />

باب الأوىل والأحرى.‏<br />

لكن اإذا كان على ابن رشد اأن ميثل هنا بشاهد<br />

اأعرف من اأجل مطلوب اأخفى،‏ فاحلقيقة اأن هذا<br />

الشاهد،‏ حتى واإن كان رياضيا تعاليميا،‏ خلوا من املادة<br />

جمردا،‏ فاإنه غري معروف متاما،‏ لأن مضاعفة حجم<br />

الشمس للأرض ليست مَ‏ علومة حمدودة ومضبوطة حتى<br />

بني العلماء اأنفسهم،‏ فاأنّى لبن رشد اأن ميثل به؟ فهل<br />

نعترب هذا تساها منه يف ممارسة التمثيل،‏ ونحن نعلم<br />

ما ‏سبق اأن اأوصى به يف بداية تلخيص كتاب الربهان<br />

وشرحه،‏ عندما قال:‏ ‏»الذي يعلم الشيء بطريق التمثيل<br />

والإقناع،‏ فقد يجب اأيضاً‏ اأن يكون قد تقدم فعرف<br />

الشيء الذي متثل به،‏ قبل اأن يعرف الشيء الذي عرفه<br />

)17(<br />

من قِ‏ بل املثال«؟<br />

2. الرتاجع عن التمثيل بعلوم التعاليم<br />

ولكن اإذا كان الأمر كذلك فما الذي حمله على<br />

الرتاجع عن التمثيل بعلوم التعاليم لصالح التمثيل<br />

بصناعة الفقه؟ األ ميكن اأن يعد ركوب مركب املثال<br />

الأعرف الفقهي مدعاة للتشكيك يف ‏صدق النتيجة،‏<br />

بل يف جناعة التمثيل اأصا؟ ملاذا انتقل من هذا البيان<br />

اإىل مثال وضعي،‏ واحلال اأنه ‏»ليس الأمر يف الوضعيات<br />

‏)الفقهيات(‏ كالأمر يف العقليات«‏ )18( ؟ اأمل يشوش ابن<br />

رشد بهذا التخلي عن مثال التعاليم على منزلة علوم<br />

التعاليم نفسها؟ جند جزءا من هذا العرتاض الأخري<br />

يف تهافت التهافت،‏ وكان قد وضعه ابن رشد على متثيل<br />

الغزايل لأمور نظرية باأمور فقهية.‏ األيس ما فعله ابن<br />

رشد عني ما عابه على الغزايل؟ رمبا.‏ لكن األ يكون<br />

التمثيل اأحيانا غري مفكر فيه متام التفكري يف حني يكون<br />

العرتاض على التمثيل ذاته موضع فحص ‏شديد؟<br />

يبدو اأن قرب التمثيل البدئي من العفوية والتلقائية،‏<br />

وهو مصدر ‏صعوبات كثرية،‏ هو الذي يفسح املجال<br />

طبعا لاعرتاض على الدعوى من اأساسها،‏ ولكنه<br />

يفسح املجال اأيضا لتعديل التمثيل وتصحيحه،‏ لصالح<br />

املعرتض،‏ كما يفسح املجال لتقومي املنزلة احلجاجية<br />

للتمثيل اأحيانا اأخرى.‏<br />

احلقيقة اأن ابن رشد قد تراجع فعا عن التمثيل<br />

بعلوم التعاليم،‏ معربا عن وضعية استغنائنا اللجوء اإىل<br />

هذا العلم بالقول:‏ ‏»وما الذي اأحوج يف هذا اإىل التمثيل<br />

بصناعة التعاليم،‏ وهذه ‏صناعة اأصول الفقه والفقه


63<br />

2 0 1 1<br />

نفسه مل يكمل النظر فيهما اإل يف زمن طويل؟«‏ )19( .<br />

وهكذا يظهر اأن التمثيل بالفقه اأقرب من التمثيل بعلوم<br />

التعاليم.‏ لكنه اأقرب بالنسبة اإىل من؟<br />

اإن انتقاء ابن رشد للمثال الذي يشهد بشكل قطعي<br />

لضرورة استعانة باملتاأخر املتقدم،‏ مل يكن عفويا تلقائيا<br />

بل كان مقيدا بخلفيات معرفية وتداولية هي التي حكمت<br />

ذلك الختيار بالذات،‏ وهو ما ‏سناأتي اإليه بعد قليل.‏<br />

‏صحيح اأن ما يصدق على علم التعاليم يصدق على<br />

الفقه،‏ اإذ اأنه ‏»لو رام اإنسان اليوم من تلقاء نفسه اأن<br />

يقف على جميع احلجج التي استنبطها النظار من اأهل<br />

املذاهب يف مسائل اخلاف التي وقعت املناظرة فيها<br />

بينهم يف معظم باد الإصام - ما عدا املغرب - فكان<br />

اأهاً‏ اأن يضحك منه،‏ لكون ذلك ممتنعاً‏ يف حقه مع<br />

وجود ذلك مفروغاً‏ منه«‏ )20( . وهذا اأمر بنيّ‏ بنفسه يف<br />

الصنائع العملية.‏<br />

مل يرد اأمر التمثيل بالفقه اإل يف ‏سياق التمثيل<br />

بالصناعة العملية عموما،‏ اأعني التمثيل باحلقيقة التي<br />

مفادها اأنه ليس من الصناعات ‏»واحدة يقدر اأن ينشئها<br />

واحد بعينه«.‏ وملا كان الفقه ‏صناعة عملية،‏ ‏صار التمثيل<br />

به نافعا يف اإظهار احلكم بوجوب التعاون بني العلماء.‏<br />

ويجب اأن نضيف اأنه ليس فقط ملكان عملية ‏صناعة<br />

الفقه حصل هذا التمثيل،‏ واإمنا ملكان اأن ابن رشد<br />

نفسه قد خَ‏ رب اأمر ‏صناعة الفقه عن قرب،‏ لذلك كان<br />

التمثيل بالفقه يف احلقيقة متثيا بالنموذج الذي هو ابن<br />

رشد نفسه،‏ ابن رشد الفقيه الذي األف كتابا يف مسائل<br />

اخلاف بني املذاهب،‏ اأعني كتاب ‏»بداية املجتهد ونهاية<br />

املقتصد«،‏ الذي عُ‏ دّ‏ كتابا عمدة يف الفقه املقارن.‏<br />

لكن يبدو لنا اأن ما دعا ابن رشد اإىل استبدال مثال<br />

علوم التعاليم ليس فقط ما ذكرنا،‏ اأعني التمثيل بصناعة<br />

عملية وبصناعة مارسها وخربها،‏ بل لعله اأمر اآخر،‏<br />

يجعل مثال علم التعاليم اإذا قارناه مبثال الفقهيات اأقل<br />

جناعة يف استيفاء الغرض من التمثيل.‏ فاإذا اأخذنا بعني<br />

العتبار اإشارته اإىل اأن احلقيقة اأو املقدمة التعاليمية<br />

التالية:‏ ‏»الشمس اأعظم من الأرض بنحو مائة وخمسني<br />

‏ضعفاً‏ اأو ‏ستني«‏ )21( ، هي مما قام عليه الربهان يف علم<br />

الهيئة،‏ فاإنه يجب اأن نقول اإن هذه احلقيقة ليست بينة<br />

بذاتها اإل عند من هو من اأصحاب علم الهيئة،‏ هذا اإن<br />

كانت كذلك بالفعل.‏ وابن رشد،‏ فوق ذلك،‏ ل يتوجه بهذا<br />

املثال اإىل اأصحاب علم الهيئة،‏ واإمنا اإىل فئة من الناس<br />

ليست من اأهل العلم بالصناعات وبشروط اإنشائها<br />

وحفظها وتطويرها،‏ لأن من هو من علماء الهيئة يبدو<br />

يف غنى عن هذا القول ما دام ابن رشد يعتربه اأمرا بينّا<br />

بذاته.‏ فهو ل يتوجه بالقول اإل اإىل من يشكك يف اأمر<br />

التعاون بني الناس يف اإنشاء العلوم والصناعات،‏ اإىل<br />

من يعتقد اأن العلم قد يصدر عن قوة غري بشرية.‏ لهذا<br />

رمبا كان مضطرا اإىل التخلي عن مثال العلم التعاليمي<br />

واستبداله بعلم الفقه،‏ لأن املثال الفقهي،‏ مقارنة باملثال<br />

التعاليمي،‏ قريب املاأخذ عند املخاطب،‏ مستوف بشرط<br />

الظهور له،‏ وهو عنده مبثابة مقدمة حممودة.‏<br />

هكذا يكون ابن رشد قد خضع،‏ يف هذا التمثيل<br />

اأيضا،‏ اإىل دواع تداولية اأخذ فيها بعني العتبار ‏شروطَ‏<br />

املُخاطَ‏ ب اأكرث مما اأخذ ‏شروط اخلطاب ذاته.‏ وقد كان<br />

ذلك على حساب وثاقة املثال،‏ ذلك لأنه من الأنسب،‏ من<br />

ناحية الوثاقة،‏ التمثيل بصناعة الهيئة والهندسة لوجوب<br />

استعانة املتاأخر باملتقدم يف ‏صناعة املنطق والفلسفة،‏<br />

مادامت علوم التعاليم عموما ل تَعلّقَ‏ لها بعقيدة بعينها،‏<br />

واأنها يقينية،‏ بينما الفقه ‏صناعة ظنية.‏<br />

ويف هذا السياق ل بد من الإشارة اإىل اأن من الباحثني<br />

من استغرب جلوء ابن رشد اإىل الفقه عموما لتربير قيمة<br />

الفلسفة وموضوعها،‏ بل اعترب يف هذا اللجوء ‏ضربا من<br />

‏“املفارقة”.‏ ميكن اأن نعترب كام علي اأومليل منوذج هذا<br />

الستغراب.‏ فهو ل ميل من تكرار احلديث عن ‏»استعمال<br />

ابن رشد اخلطاب الفقهي الأصويل دفاعا عن ‏شرعية<br />

الفلسفة«‏ )22( . علما اأن الفلسفة ‏صناعة برهانية والفقه<br />

‏صناعة ظنية.‏ من هنا حق للباحث اأن يتساءل ‏»فكيف<br />

اإذن يحتاج علم اأعلى ‏)الفلسفة(‏ اإىل علم اأدنى ‏)الفقه(‏<br />

لتربير قيمته وموضوعه؟ اإنه يحتاج اإىل مثل ذلك لأن<br />

املخاطب هو جمهور املجتمع الإصامي«‏ )23( . ومع اأن<br />

منطلقات واأغراض هذا الباحث تختلف عن منطلقنا<br />

وغرضنا من فحص متثيل ابن رشد باخلطاب الفقهي<br />

اأبحاث


2 0 1 1<br />

64<br />

والأصويل،‏ فاإننا نوافق الباحث ‏صوؤال وجوابا.‏ وهو ما<br />

اأظهرناه اأعاه من طريق خمتلفة.‏<br />

فقد جلاأ ابن رشد يف فصل املقال:‏ ‏»اإىل لغة الفقيه<br />

ليدافع عن ‏شرعية الفلسفة،‏ مع اعتقاده الراسخ باأن<br />

علم الفقه هو علم اأدنى من علم الفلسفة«‏ )24( . ومع اأن<br />

علي اأومليل ل يعترب مصاألة اللجوء هذه مندرجة ‏ضمن<br />

تقنية التمثيل ويضعها على مستوى العاقة املتوترة بني<br />

السلطة العلمية والسلطة السياسية،‏ حني قال:‏ ‏»لقد<br />

اضطر ابن رشد اإذن اإىل الستعانة بالسلطة العلمية<br />

للفقيه للدفاع عن السلطة العلمية للفيلسوف«‏ فاإن<br />

املفارقة تكمن هنا بالضبط ‏»لأنه من الناحية النظرية<br />

املحض،‏ فاإن العلم الأعلى هو الذي يحتاج اإليه العلم<br />

الأدنى لتربير مبادئه وليس العكس.‏ والفقه يف نظر ابن<br />

رشد ما هو ‏سوى ‏صناعة ظنية،‏ فليس هو املوؤهل لتربير<br />

العلم الفلسفي الذي يعتمد قياس الربهان،‏ وهو اأوثق<br />

منهج علمي بحسب املنطق الأرسطي«.‏ )25( هاهنا ينبغي<br />

اأن نسجل اأن علي اأومليل يخلط بني تربير ابن رشد قيمة<br />

الفلسفة وموضوعها ‏)مشروعية النظر الفلسفي(‏ وهو ما<br />

عرب عنه بوضوح وتربير املبادئ وهو قضية اأخرى ليست<br />

داخلة ل ‏ضمن برنامج عمل ابن رشد يف فصل املقال ول<br />

‏ضمن اأغراضه.‏ فاستعانة ابن رشد باخلطاب الأصويل<br />

للدفاع عن مشروعية اخلطاب الفلسفي هو ‏ضرب من<br />

القياس التمثيلي،‏ استدل فيه ابن رشد بظهور مشروعية<br />

القياس الفقهي على مشروعية النظر الفلسفي.‏ وعامل<br />

الظنية هنا له دور حاسم يف التمثيل.‏ فالفقه من هذا<br />

الباب ل ميكن اأن يكون منوذجا اأمثل للفلسفة،‏ بالنظر<br />

اإىل ظنية الطرف الأظهر يف الستدلل ويقينية الطرف<br />

الثاين.‏ هذا هو جوهر ماحظتنا على ابن رشد.‏ لكن<br />

التمثيل غري تربير املبادئ.‏ اإن استعانة علم بعلم اآخر<br />

لتربير مبادئه وموضوعه ليس مقيدا بالعلو والدنو بدليل<br />

اأن ما بعد الطبيعة يضطر اإىل الطبيعة وهو علم اأدنى<br />

ليربر مبادئه.‏ وهذا ما ذهل عنه علي اأومليل.‏<br />

على اأية حال،‏ يتقدم ابن رشد يف ‏سريورة التمثيل<br />

خطوة اإىل الأمام من قياس املساوي اإىل قياس الأوىل.‏<br />

فاإذا كان اأمرُ‏ وجوب التعاون بني العلماء املتقدم منهم<br />

واملتاأخر يف النظر ‏»بيّنًا بنفسه،‏ ليس يف الصنائع العلمية<br />

فقط،‏ بل ويف العملية،‏ فاإنه ليس منها ‏صناعة يقدر اأن<br />

يُنشئها واحد بعينه،‏ فكيف بصناعة الصنائع،‏ وهي<br />

احلكمة؟!«‏ )26( . واإذا كانت قاعدة قياس الأوىل تقول:‏ ‏»اإن<br />

كان ‏شيئان يقالن على ‏شيئني،‏ فاإنه اإن كان ما يظن به<br />

اأنه اأحرى باأن يكون وجوده اأقل يوجد،‏ فالذي هو اأحرى<br />

بالوجود يوجد اأيضا«‏ )27( ، مبعنى اأنه اإذا كانت احلكمة،‏<br />

مبا هي ‏صناعة نظرية بل ومبا هي ‏صناعة الصنائع،‏<br />

اأوىل باسم الصناعة من ‏صناعة الفقه مبا هي ‏صناعة<br />

عملية،‏ وكانت ‏صناعة الفقه ل يقدر اأن ينشئها واحد<br />

بعينه،‏ فاإنه من باب الأوىل والأحرى،‏ األ يقدر واحد<br />

بعينه اأن ينشئ احلكمة.‏<br />

واإذا كان هذا هكذا،‏ فاحلكم النهائي هو:‏ ‏»يجب<br />

علينا اإن األفينا ملن تقدمنا من الأمم السالفة نظراً‏<br />

يف املوجودات واعتباراً‏ لها بحسب ما اقتضته ‏شرائط<br />

الربهان،‏ اأن ننظر يف الذي قالوه من ذلك وما اأثبتوه يف<br />

كتبهم«‏ )28( .<br />

ثالثا:‏ التمثيل بالفقهيات<br />

‏صحيح اأن معظم الدارسني الذين تعرضوا لكتاب<br />

‏»فصل املقال وتقرير ما بني الشريعة واحلكمة من<br />

التصال«‏ قد ‏شدُّواْ‏ اأحكامهم بخصوص هذا الكتاب<br />

بناءً‏ على فحص مضامني الكتاب دون جتاوزها اإىل<br />

فحص الآليات التي استعملها يف تشييده لهذه املضامني،‏<br />

اأو يف عرضه لها.‏ لكن هذا ل يعني اأن فحص الآليات قد<br />

يغني عن الطريق الأول،‏ بل نعتقد خاف ما يذهب اإليه<br />

د.‏ طه عبد الرحمن،‏ باأن املزاوجة بني الفحصني هي<br />

التي ميكن اأن تقدم لنا ‏صورة اأكرث تكاملية لأقوال ابن<br />

)29(<br />

رشد ومقاصدها.‏<br />

ول تهمنا كثريا مصاألة هوية كتاب فصل املقال هنا،‏<br />

لأن ما يشغلنا اأساسا هو الآلية التدليلية التي اشتغل بها<br />

ابن رشد من اأجل حتصيل مقصوده من تاأليف الكتاب،‏<br />

اأعني اإثبات مشروعية للفلسفة وللمنطق،‏ كما يصرح<br />

بنفسه؛ فلقد اأفرد الرجلُ‏ هذا الكتابَ‏ لهذا الغرض،‏ الذي<br />

مل يكن ليحصله دون الستعانة بالتمثيل،‏ ف»هو ل يكاد<br />

يتوسل يف بيان موضوعها ويف تقرير مشروعيتها،‏ على


65<br />

2 0 1 1<br />

امتداد حجم هذا الكتاب،‏ اإل بالآليات التمثيلية«‏ 03 ؛ هذا<br />

بغض النظر عن طبيعة الفحص،‏ هل هو كامي جديل،‏<br />

اأو فقهي خطابي،‏ اأو اأنه فلسفي برهاين،‏ مع اأن طبيعة<br />

الفحص هذه ‏شديدة التداخل بالآليات املستعملة.‏<br />

واحلقيقة اأن القول الذي يسهل العثور له على<br />

ما يدعمه هو اأن ابن رشد كان فقيها يف نص فصل<br />

املقال،‏ بدليل اأنه نظر يف منزلتي الفلسفة واملنطق<br />

‏»على جهة النظر الشرعي«‏ . 13 ومن ثم فالقول بتوسله<br />

بالآليات التمثيلية يتماشى متاما مع جهة النظر الفقهية<br />

القياسية،‏ على اعتبار اأن التمثيل هو احلجة الفقهية/‏<br />

اخلطابية بامتياز،‏ على اأن نفهم من اسم الفقه معناه<br />

العام الذي ‏سبق اأن نقله املرتجمون العرب عن كتاب<br />

اأنالوطيقا الأوىل لأرسطو،‏ وشرحه ابن رشد يف تلخيص<br />

)32(<br />

كتاب القياس.‏<br />

وحتى اإن اأخذنا بعني العتبار اأن اأبا الوليد نفسه<br />

يتحدث عن متثيل يقيني،‏ ونحن نعرف اأن اخلطابة<br />

‏)والفقه(‏ ل تتجاوز عتبة الإقناع،‏ وملنا اإىل القول مع<br />

من ‏سبقنا اإىل هذا الأمر،‏ باأن مقاربته كانت فلسفية من<br />

جهة املقاصد،‏ ومن جهة اجلهاز املفاهيمي املستعمل،‏<br />

فاإن الأمر لن ميس يف ‏شيء قولنا باأن الرجل قد توسل<br />

يف فصل املقال باآلية التمثيل بشتى اأنواعها،‏ هذا بغض<br />

النظر عن الطبيعة الفلسفية اأو الكامية اأو الفقهية<br />

لهذا النص.‏ مما يعني اأيضا اأنه ل ميكن اعتبار توسله<br />

بالآليات التمثيلية حجة على فقهية نص فصل املقال،‏<br />

لأن اشتغاله باآليات التمثيل كان يف كتب عدة،‏ ومن اأجل<br />

مقاصد متنوعة.‏<br />

1. يف مشروعية التمثيل<br />

ميكن اأن نقول،‏ على وجه العموم،‏ اإن ابن رشد قد<br />

استعمل يف فصل املقال جميع اأصناف املثال التي كان<br />

حددها يف خمتصر اخلطابة وتلخيص كتاب اخلطابة<br />

وتلخيص كتاب القياس وتلخيص كتاب اجلدل.‏ فقد<br />

استعمل الشبيه يف عرض ما ‏)وهو املثال(،‏ والشبيه<br />

باملناسبة ‏)وهو ما يعرف بالتمثيل(،‏ وقياس الأوىل...؛<br />

كما اأن مادة التمثيل التي استخدمها يف استدلله يف هذا<br />

الكتاب قد تنوعت واختلفت من ‏صناعة اإىل اأخرى،‏ فقد<br />

مثل بالطب كما مثل بالصناعات النظرية وغريها.‏ لكن<br />

يبدو لنا اأن التمثيل بصناعة الفقه وباملقاييس الفقهية<br />

كان هو الغالب يف فصل املقال.‏<br />

كنا قد انتهينا اأعاه اإىل اأن ابن رشد قد تراجع عن<br />

التمثيل بالصناعات النظرية لفائدة التمثيل بالفقه،‏<br />

وهذا ما يجعلنا نفرتض اأن هذه الصناعة كانت حتتل<br />

عنده منزلة الشاهد الأمثل اأو ‏»الأعرف«.‏ ونعني بتخليه<br />

عن التمثيل بالعلوم النظرية لصالح التمثيل بالفقه،‏<br />

اأنه رمبا وجد يف الفقه قول مشرتكا بينه وبني من قد<br />

يعرتضون ‏)اجلمهور والفقهاء(‏ على ‏شرعية املنطق<br />

والفلسفة،‏ فيكون اخلصم ‏)اأو السائل بلغة تلخيص<br />

كتاب اجلدل(‏ هنا هو الذي فرض عليه طبيعة التمثيل.‏<br />

لكننا ميكن اأن نضيف اإىل هذه الدواعي التي حملت<br />

على التمثيل بالفقهيات،‏ مربرات اأخرى،‏ ل تتصل<br />

باملخاطب الذي يتوجه اإليه ابن رشد فقط،‏ واإمنا تتصل<br />

اأساسا بصناعة الفقه ذاتها؛ حيث ميكن اأن نقول بكثري<br />

من اليسر اإن من دواعي التمثيل بهذه الصناعة،‏ منزلة<br />

ابن رشد العلمية نفسها،‏ فهو فقيه مشهور معروف،‏ وهذا<br />

املربر الذاتي له اأيضا دور يف اختياره التمثيل بصناعة<br />

اأصول الفقه والفقه.‏ ومن هذه اجلهة اإذا كان ‏شرط نقل<br />

حكم من ‏شبيه اإىل ‏شبيه،‏ هو استيفاء ‏شرط املعرفة<br />

بالشبيه الأول،‏ فاإنه يعترب منوذج العارف بالشبيه قبل<br />

)33(<br />

نقل ‏صفاته اأو حكمه اإىل املطلوب.‏<br />

لكننا ميكن اأن نسوق داعيا اآخر يقف وراء التمثيل<br />

بالفقهيات،‏ وهو منزلة اأصول الفقه بني العلوم واملعارف،‏<br />

املنزلة التي تشبه الفلسفة ‏شبها ما.‏ اإذ ميكن احلديث<br />

عن تشابه ما بني الآليات الفقهية واآليات الفلسفة،‏ هذا<br />

التشابه هو الذي مكن ابن رشد من اإجراء عملية التمثيل<br />

وتعدية الأحكام من الشبيه الأعرف اإىل ‏شبيهه الأخفى.‏<br />

فلكي يصح التمثيل كان لبد ‏»اأن يكون الفقه مشرتكا مع<br />

الفلسفة يف جملة من املضامني ويف جمموعة من الآليات<br />

التي تنقل هذه املضامني«‏ )34( ، وذلك عما بالقاعدة<br />

التي تفيد اأن الشاهد ل يستقيم الستدلل به اإل اإذا<br />

كان مبنزلة النموذج الأمثل للصفة اأو احلكم الذي يراد<br />

نقله اإىل املمثل له مستوفيا بذلك ‏شرط ما اأسميناه<br />

اأبحاث<br />

• بالفقه


2 0 1 1<br />

66<br />

ب»الشاهد«.‏ فاإىل اأي حد ميكن القول اإن الفقه كان فعا<br />

النموذج الأمثل يف فصل املقال حتى مثل به ابن رشد؟<br />

يوؤكد ابن رشد اأن مقصد الشرع مثله مثل الفلسفة<br />

يرتاوح بني تعليم العلم احلق والعمل احلق.‏ ويظهر اأن<br />

التعليم الأول نظري مداره ‏»معرفة اهلل تبارك وتعاىل<br />

وسائر املوجودات على ما هي عليه،‏ وبخاصة الشريفة<br />

منها،‏ ومعرفة السعادة الأخروية والشقاء الأخروي«‏ )35( .<br />

اأما التعليم الثاين،‏ فمداره ‏»امتثال الأفعال التي تفيد<br />

السعادة،‏ وجتنب الأفعال التي تفيد الشقاء«‏ )36( . والعلم<br />

الذي ينظر يف هذه الأفعال هو الذي يسمى ‏»العلم<br />

العملي«‏ )37( . ومبا اأن هذه الأفعال تنقسم اإىل نوعني:‏<br />

اأفعال ظاهرة بدنية،‏ واأفعال نفسية.‏ فاإن هذه الأخرية هي<br />

ما يشكل ‏-يف نظر ابن رشد-‏ علوم الآخرة اأو الزهديات،‏<br />

)38(<br />

اأما الأفعال الظاهرة فهي موضوع علم الفقه.‏<br />

يظهر اأنه ما كان لبن رشد اأن ميثل الفلسفة بالفقه<br />

لو مل يتقدم اأول ليقرّ‏ ب بينهما،‏ والواقع اأن تقريبه هذا<br />

ذهب اإىل حد اعتبار الفقه علما عمليا،‏ واحلال اأن هذا<br />

العلم هو القسم اأو الفرع العملي من الفلسفة اإىل جانب<br />

القسم النظري.‏ اإن مقايسته بني الفلسفة والفقه،‏ مل<br />

تكن لتحصل لو مل يعمد اأول اإىل وضع منوذج للشرع<br />

على غرار منوذج الفلسفة.‏ فكما اأن الفلسفة قسمان،‏<br />

نظرية وعملية،‏ كذلك الشرع قسمان نظري وعملي.‏ هذا<br />

مع اأنه يجب اأن نشري اإىل اأن كامه هنا يوحي بنوع من<br />

التشابه بني الفلسفة والشرع،‏ وخاصة من جهة دخولهما<br />

معا حتت مسمى العلم،‏ ومن جهة اأجزائهما،‏ ومن جهة<br />

مقاصدهما.‏<br />

ومع اأن من عادة ابن رصد عند تعريفه للعلوم<br />

واملعارف األ يعلن عن اأبعادها الثقافية اخلاصة مبلة<br />

الإصام،‏ فاإنه اإذا رجعنا اإىل كتابه الضروري يف اأصول<br />

الفقه جنده يقول:‏ ‏»اإن املعارف والعلوم ثاثة اأصناف«،‏<br />

هكذا باإطاق،‏ رغم اأن ما ياأتي به من تصنيف قد يفهم<br />

منه على التوايل:‏ علم الكام،‏ والفقه واأصوله،‏ والقياس<br />

الفقهي.‏<br />

ومن هذه اجلهة فاملعارف ثاث:‏<br />

‏•اإما ‏»معرفة غايتها العتقاد احلاصل عنها<br />

يف النفس فقط،‏ كالعلم بحدث العامل،‏ والقول باجلزء<br />

الذي ل يتجزاأ واأشباه ذلك«‏ )39( ، وهذا ما نسميه بالعلوم<br />

الإلهية عموما)=اأصول العقيدة(؛<br />

‏•واإما معرفة غايتها العمل،‏ وهذه منها كلية<br />

وبعيدة عن اأن تكون مفيدة للعمل؛ ومنها ‏»جزئية كالعلم<br />

باأحكام الصاة والزكاة وما اأشبههما من جزئيات<br />

الفرائض والسنن،‏ والكلية كالعلم بالأصول التي تبنى<br />

عليها هذه الفروع من الكتاب والسنة والإجماع،‏ والعلم<br />

بالأحكام احلاصلة عن هذه الأصول على الإطاق<br />

واأقسامها،‏ وما يلحقها من حيث هي اأحكام«‏ )40( ؛<br />

‏•واإما ‏»معرفة تعطي القوانني والأحوال التي بها<br />

يتسدد الذهن نحو الصواب يف هاتني املعرفتني،‏ كالعلم<br />

بالدلئل واأقسامها،‏ وباأي اأحوال تكون دلئل وباأيها ل.‏<br />

ويف اأي املواضع تستعمل النقلة من الشاهد اإىل الغائب<br />

ويف اأيها ل.‏ وهذه فلنسمها ‏سبارا وقانونا،‏ فاإن نسبتها<br />

اإىل الذهن كنسبة الربكار واملسطرة اإىل احلس يف ما ل<br />

يوؤمن اأن يغلط فيه«‏ )41( .<br />

وهكذا ‏صارت قسمة العلوم يف الضروري يف الفقه<br />

‏)وهي قسمة متعلقة بالعلوم الإصامية،‏ كما يظهر(‏<br />

تشبه على التوايل قسمة الفلسفة اإىل علوم نظرية،‏ وعلوم<br />

)42(<br />

علمية،‏ من ‏سياسة واأخاق،‏ وعلوم اآلية وهي املنطق.‏<br />

لكن ابن رشد ينبه اإىل اأن املقصود بالنظر اأساسا هو<br />

اأصول الفقه،‏ الذي ينقسم اإىل اأربعة اأجزاء:‏ يتضمن<br />

اجلزء الأول النظر يف الأحكام،‏ والثاين النظر يف اأصول<br />

الأحكام،‏ والثالث يف الأدلة املستعملة يف استنباط حكم<br />

حكم عن اأصل اأصل،‏ وكيف استعمالها.‏ والرابع يتضمن<br />

)43(<br />

النظر يف ‏شروط املجتهد يف الفقيه.‏<br />

من هنا يتبني اأن النظر اخلاص بصناعة اأصول<br />

الفقه اإمنا هو اجلزء الثالث،‏ لأن الأجزاء الأخرى من<br />

جنس املعرفة التي غايتها العمل،‏ ولذلك ‏»لقّبوا هذه<br />

الصناعة باسم بعض ما جعلوه جزءا منها،‏ فدعوها<br />

باأصول الفقه.‏ والنظر الصناعي يقتضي اأن يفرد القول<br />

يف هذا اجلزء الثالث اإذ هو مباين باجلنس لتلك الأجزاء<br />

الأخرى«‏ )44( .<br />

وعليه،‏ فتمثيل ابن رشد يف فصل املقال لن يكون


67<br />

2 0 1 1<br />

2<br />

بالفقه بحصر املعنى،‏ اأعني مبا هو علم عملي،‏ بل<br />

باأصول الفقه الذي هو علم نظري اأو اآيل.‏<br />

•1. وجوه التمثيل بالأمور الفقهية<br />

• . اإحداث النظر يف الفلسفة كاإحداث النظر<br />

يف الفقه:‏ بني الأوىل واملساوي<br />

كيف استنبط ابن رشد من الأمر الإلهي وجوب<br />

النظر يف املوجودات اأو اعتبارها؟<br />

الواضح اأن اإعماله اآلية الستنباط من اأجل اخلروج<br />

بحكم متعلق بالنظر يف الأشياء التي تنزل من النظر<br />

منزلة الآلت من العمل،‏ جاء نتيجة مقايسة اأقامها بني<br />

النظر العقلي والنظر الفقهي.‏ فما هي هذه الأشياء التي<br />

تتنزل من النظر منزل الآلت من العمل؟<br />

نهج ابن رشد يف استنباط احلكم بوجوب معرفة<br />

القياس العقلي طريق تقنية التدرج من التوطئة اإىل<br />

النتيجة،‏ حيث ل يكون لنا مدخل اإىل النتيجة اإل عن<br />

طريق توطئة.‏ هذه التوطئة بدورها ل نصل اإليها اإل عن<br />

طريق توطئة اأخرى.‏ وهكذا فلكي نصل اإىل درجة النظر<br />

يف املوجودات،‏ ل بد من استيفاء هذه املقدمات:‏<br />

‎1‎معرفة . 1 اأجزاء القياس التي منها تَركّ‏ ب،‏ اأعني<br />

املقدمات واأنواعها؛<br />

2 معرفة القياس املطلق،‏ واأنواعه؛<br />

2 .<br />

3 .<br />

3 العلم باأنواع الرباهني وشروطها؛<br />

استيفاء هذه الشروط يفضي بنا اإىل حتصيل:‏<br />

الأهلية ملعرفة اهلل تعاىل وصائر موجوداته<br />

بالربهان.‏<br />

‏صحيح اأن الشرع قد حث على معرفة املوجودات<br />

وعلتها القصوى بالربهان،‏ غري اأنه ل ميكن الرتقاء اإىل<br />

القيام بهذا العمل الذي فيه امتثال للشرع اإل بحصول<br />

املقدمات الثاث الأوىل.‏ لكن ابن رشد مل يَكْ‏ فِ‏ ه هذا<br />

الصتدلل الذي يجعلنا نتاأكد من ‏صرورة استيفاء<br />

تلك التوطئات قبل القيام بالنظر،‏ فلجاأ اإىل التمثيات<br />

التالية:‏ فبخصوص الأول الذي هو متثيل تناسبي،‏ يكون<br />

النظر مثل العمل ومن ثم يكون اقتضاوؤه العلمَ‏ بتلك<br />

املقدمات مثل اقتضاءِ‏ العمل املعرفة بالآلت؛ والتمثيل<br />

الثاين كان باللجوء اإىل الفقه:‏<br />

الفقيه<br />

الأمر بالتفقه يف الأحكام؛<br />

غري مذكور؛<br />

معرفة املقاييس الفقهية على اأنواعها،‏ وما منها<br />

قياس وما منها ليس بقياس؛<br />

معرفة الأصول.‏<br />

العارف<br />

الأمر مبعرفة اهلل وسائر موجوداته بالربهان؛<br />

العلم باأنواع الرباهني وشروطها؛<br />

معرفة ما هو القياس املطلق،‏ وكم اأنواعه؛ وما منه قياس وما<br />

منه ليس بقياس؛<br />

معرفة اأجزاء القياس التي منها تركب،‏ واملقصود مقدمات<br />

الأقيسة واأنواعها.‏<br />

من خال مقارنتنا للشروط التي حصل استنباطها<br />

من احلث على النظر يف الأحكام بالشروط التي استنبطت<br />

من احلث على النظر يف املوجودات،‏ تتضح منزلة النظر<br />

الفقهي عند ابن رشد،‏ وهي دون منزلة النظر العقلي<br />

طبعا.‏ اإن النظر يف الأحكام ليس من مقام النظر يف<br />

املوجودات.‏ ويظهر ذلك من املقدمتني الأوليني يف<br />

الستنباط،‏ ومن التفاوت يف الشروط ‏)اخلانة الثانية(.‏<br />

اإذا كان الفقيه يحكم على الأفعال،‏ فاإن العارف يحكم<br />

على املوجودات ف»اأي حاكم اأعظم من الذي يقول باأن<br />

الوجود كذا اأو ليس بكذا«‏ )45( . لذلك ينتهي الأمر بابن<br />

رشد اإىل جتاوز التمثيل من قياس املساوي اإىل التمثيل<br />

بالأوىل.‏ وجند ذلك عنده يف نصني اثنني:‏ اأحدهما هو<br />

الذي استخلصنا منه مكونات اجلدول اأعاه؛ والنص<br />

الثاين كان مبناسبة احلديث عن اخلطاأ يف النظر<br />

الفقهي والنظر العقلي حيث ميثل الثاين بالأول اأيضا.‏<br />

يقول ابن رشد:‏ ‏»اإنه كما اأن الفقيه يستنبط من الأمر<br />

اأبحاث<br />

جماعات املهجر


2 0 1 1<br />

68<br />

بالتفقه يف الأحكام وجوب معرفة املقاييس الفقهية على<br />

اأنواعها،‏ وما منها قياس وما منها ليس بقياس،‏ كذلك<br />

يجب على العارف اأن يستنبط من الأمر بالنظر يف<br />

املوجودات وجوب معرفة القياس العقلي واأنواعه،‏ بل هو<br />

اأحرى بذلك لأنه اإذا كان الفقيه يستنبط من قوله تعاىل<br />

‏)فاعتربوا يا اأويل الأبصار(‏ وجوب معرفة القياس<br />

الفقهي،‏ فكم باحلري والأوىل اأن يستنبط من ذلك<br />

العارف باهلل وجوب معرفة القياس العقلي«‏ )46( . وهذا<br />

الأمر يعود ليوؤكده بالقول:‏ ‏»اإذا كان يشرتط يف احلاكم<br />

يف احلال واحلرام اأن جتتمع،‏ له اأسباب الجتهاد-‏<br />

وهو معرفة الأصول ومعرفة الستنباط من تلك الأصول<br />

بالقياس-‏ فكم باحلري اأن يشرتط ذلك يف احلاكم<br />

على املوجودات،‏ اأعني اأن يعرف الأوائل العقلية ووجه<br />

الستنباط منها«‏ )47( . فاإذا كان قد تقدم اإىل معرفتنا اأن<br />

احلكم الشرعي ل ميُ‏ كن لصاحبه اإل باستيفاء ‏شروطٍ‏ ،<br />

كما تقدم اإىل علمنا اأن احلكم على الأفعال يف الشرعيات<br />

دون احلكم على املوجودات،‏ فاملطلوب،‏ من باب اأوىل،‏<br />

اأن يستويف احلكم على املوجودات جمموعة من الشروط<br />

التي ذكرناها اأعاه.‏ وبعبارة اأخرى اإن ما ‏صح للفقه،‏<br />

يصح بالأوىل للفلسفة،‏ فقد تبني اأن الفلسفة تنظر يف<br />

املوجودات،‏ بينما ينظر الفقه يف اأفعال الناس،‏ والنظر<br />

يف املوجود عموما اأشمل واأكمل من النظر يف عرض من<br />

اأعراضه وهو الفعل،‏ لذلك يقتضي ‏شروطا اأكرب.‏<br />

لكن ابن رشد يرتاجع،‏ مع ذلك،‏ عن التمثيل بالأوىل<br />

اإىل التمثيل باملساوي،‏ ولرمبا مل يكن ليحصل هذا<br />

الرتاجع اإل اضطرارا عند الرد على العرتاض الذي<br />

ميكن اأن يضعه اأحد من الناس،‏ والذي مفاده اأن ‏»هذا<br />

النوع من النظر يف القياس العقلي بدعة«‏ )48( ، وحجة<br />

املعرتض اأن هذا النظر يف القياس العقلي ‏»مل يكن يف<br />

الصدر الأول«‏ )49( . لذلك غدا النظرُ‏ يف القياس العقلي<br />

مثله مثل القياس الفقهي.‏ اإذ ملا كان النظر يف القياس<br />

الفقهي واأنواعه ‏شيئا استنبط بعد الصدر الأول،‏ ومل<br />

يعترب بدعة،‏ فكذلك يجب اأن يعتقد يف النظر يف القياس<br />

العقلي.‏ فلما كان القياس الفقهي قد استنبط من احلث<br />

على العتبار،‏ فاإن القياس العقلي مثله،‏ ل يجب اأن<br />

يعترب بدعة لأنه استنبط اأيضا من احلث على النظر يف<br />

املوجودات.‏<br />

الأصل الذي يستنبط منه الفقيه وجوب القياس<br />

الشرعي هو الأمر الإلهي:‏ ‏)فاعتربوا يا اأويل الأبصار(،‏<br />

واحلقيقة اأن هذا الأمر ذاته اأحرى واأوىل اأن يكون مصدر<br />

استنباط احلكم بوجوب القياس العقلي.‏ وهنا يكمن<br />

التمثيل اأو قياس الأوىل.‏ فما يصدق على الشبيه يصدر<br />

على ‏شبيهه بالأوىل.‏ فاإذا كان استنباط الفقيه قد اأدّى<br />

به،‏ بناء على وجود اأمر بالتفقه يف الأحكام،‏ اإىل القول<br />

بوجوب معرفة القياس الفقهي؛ فاإن استنباط الفيلسوف<br />

يوؤدّي به،‏ بناء على وجود اأمر بالنظر يف املوجودات،‏ اإىل<br />

القول بوجوب معرفة القياس العقلي.‏<br />

يرد ابن رشد متبعا القاعدة اخلطابية اجلدلية يف<br />

التمثيل،‏ والتي تلزم ‏صاحبها ب»اأَن يحكم على ‏شيء ما<br />

بحكم ما من اأَجل اأَنه قد حكم به مَ‏ نْ‏ ‏سلف يف ‏شبيه<br />

ذلك الشيء«‏ )50( . فالظاهر اأن القياس العقلي والقياس<br />

الفقهي ‏شيئان حممولن على مثال واحد،‏ لأنه ‏»اإن كان<br />

‏شيئان خاصيتني لشيئني على مثال واحد ثم مل يكن<br />

اأحدهما خاصة لأحدهما مل تكن الأخرى خاصة،‏ واإن<br />

كان اأحدهما خاصة كان الآخر خاصة«‏ )51( .<br />

يجيب ابن رشد عن هذا العرتاس،‏ بلجوئه اإىل<br />

التمثيل اأو اأحد اأنواعه الذي هو قياس املساوي،‏ الذي<br />

يقضي باأن ما يصح للشبيه يصح لشبيهه بالتساوي،‏ اإن<br />

اإثباتا اأو نفيا.‏ وهكذا فقد اأقام حجته التمثيلية،‏ جميبا<br />

السائل املعرتض ببدعية القياس العقلي،‏ على اأن السائل<br />

يلزمه اأن يقول اأيضا ومن باب املساوي ‏»اإن النظر اأيضا<br />

يف القياس الفقهي واأنواعه«‏ بدعة،‏ هو الذي ‏»استنبط<br />

بعد الصدر الأول«‏ )52( . وملا كان النظر يف القياس الفقهي<br />

‏»ليس يرى اأنه بدعة«،‏ فكذلك ‏»يجب اأن يعتقد يف النظر<br />

يف القياس العقلي«‏ )53( . اأي ‏»ليس لقائل اأن يقول اإن هذا<br />

النوع من النظر يف القياس العقلي بدعة«‏ )54( . وبعبارة<br />

اأخرى،‏ اإذا ‏صح اعتبار القياس العقلي بدعة،‏ ملكان اأنه<br />

جاء بعد الصدر الأول،‏ فاإنه ‏سيكون ‏صحيحا اعتبار<br />

القياس الفقهي بدعة اأيضا،‏ لأنه هو اأيضا جاء بعد<br />

الصدر الأول،‏ وبهذا تكون اجلهة التي عُ‏ دت علةً‏ يف


69<br />

2 0 1 1<br />

تبديع القياس العقلي،‏ هي ذاتها اجلهة التي يجب اأن تعد<br />

علة يف تبديع القياس الفقهي،‏ وهي اأنهما معا جاءا بعد<br />

الصدر الأول.‏ واإذا تبني اأن القياس الفقهي قد استحدث<br />

بعد الصدر الأول،‏ ومل يكن بدعة،‏ فاإن القياس العقلي<br />

اإذن ليس بدعة.‏ فما يسري على القياس الفقهي يسري<br />

على القياس العقلي:‏<br />

‏•القياس الفقهي استنبط من احلث على<br />

العتبار وليس يرى اأنه بدعة؛<br />

‏•القياس العقلي مثل القياس الفقهي يستنبط<br />

من العتبار؛<br />

‏•اإذن القياس العقلي ليس بدعة.‏<br />

لكن هاهنا ماحظة نرغب يف تسجيلها.‏ مبدئيا،‏<br />

اإذا كانت احلجة باملثال ل تستعمل اإل حني يكون قد تقدم<br />

اإىل علم املتكلم واملخاطب حكم املثال،‏ فاإن املفرتض يف<br />

هذه احلالة اأن يكون القياس الفقهي قد تبني اأنه ليس<br />

بدعة واأن العمل به واجب؛ لهذا فاإننا نستطيع اأن نقول<br />

اإن هذا القياس مل يكن اأعرف حقيقة كما هو مفرتض<br />

ومنتظر،‏ بل هو اأيضا موضع اعرتاض من ثاث جهات<br />

على الأقل:‏<br />

اجلهة الأوىل:‏ هي اأنه ليس اأمر القياس الفقهي اأمرا<br />

بينّا بذاته،‏ اإذ هناك من النظار من يعرتض على وجود<br />

القياس الفقهي من اأساسه،‏ وهم الذين اشتهروا مببطلي<br />

القياس.‏ ‏صحيح اأن ابن رشد يعترب هوؤلء فئة قليلة ل<br />

يُعتد بقولها مقارنة مبن يقولون به.‏ لكن األيس وجود هذه<br />

الفئة القليلة دليا على اأن التمثيل به ل يستويف ‏شرطه،‏<br />

الذي هو اأن يكون بينّا قبل اأن تتبني النتيجة؟ فما مصري<br />

دعوى ابن رشد اأمام من يعترب القياس الفقهي ذاته<br />

بدعة؟ لعل اأساس التمثيل،‏ اأعني انتفاء البدعة عن<br />

القياس الفقهي،‏ هو ذاته يف حاجة اإىل تاأسيس.‏ اإذ كان<br />

يلزم اأن نتقدم اإىل القول بالقياس قبل اأن ميثل لنا به.‏<br />

اأما اإن مل نتقدم اإىل ذلك فالتمثيل يفقد جناعته متاما.‏<br />

اجلهة الثانية التي جتعل التمثيل معرتضا عليه:‏ هو<br />

ظنية القياس الفقهي،‏ وقطعية القياس العقلي،‏ وهذا<br />

بصريح قول ابن رشد نفسه يف فصل املقال ويف تهافت<br />

التهافت ويف غريهما من الكتب.‏ فهل ما اأثبته للقياس<br />

الفقهي يصدق اأيضا على القياس العقلي؟<br />

اجلهة الثالثة:‏ ماذا لو اعرتض معرتض بالقول اإن<br />

القياس الفقهي،‏ بل ‏صناعة الفقه واأصوله كلها بدعة،‏<br />

اإذ مل تكن زمن النبي؟ احلقيقة اأن ابن رشد نفسه كان<br />

يعرف،‏ خصوصا يف الضروري يف الفقه،‏ اأن القياس<br />

الفقهي ليس اأمرا مقطوعا فيه،‏ بل هو نفسه كان موضع<br />

‏صوؤال عنده،‏ وهذا ما ‏سننظر به بشيء من التفصيل قبل<br />

النظر يف تعامله مع هذه العرتاضات:‏<br />

لقد كان النظار الذين جاءوا بعد وفاة رسول<br />

الإصام مضطرين اإىل القياس الفقهي،‏ بل اإىل ‏صناعة<br />

الفقه ككل،‏ وهو الأمر الذي مل يُضطر اإليه من كان<br />

معاصرا لزمن النبوة.‏ فكلما كانت العلوم اأكرث تشبعا<br />

كان الناظرون فيها مضطرين يف الوقوف عليها اإىل<br />

اأمور مل يُضطر اإليها من تقدمهم،‏ اأي ‏»اإىل قوانني حتوط<br />

اأذهانهم عند النظر فيها اأكرث«.‏ ف»بني اأن الصناعة<br />

املوسومة بصناعة الفقه يف هذا الزمان ويف ما ‏سلف<br />

من لدن وفاة رسول اهلل ‏صلى اهلل عليه وسلم وتفرق<br />

اأصحابه على الباد واختاف النقل عنه ‏صلى اهلل عليه<br />

وسلم بهاتني احلالتني،‏ ولذلك مل يحتج الصحابة رضي<br />

اهلل عنهم اإىل هذه الصناعة كما مل يحتج الأعراب اإىل<br />

قوانني حتوطهم يف كامهم ول يف اأوزانهم«‏ )55( .<br />

الظاهر اأن جلوء ابن رشد اإىل التمثيل بالنحو العربي<br />

وبقوانني اللسان العربي - التي مت الضطرار اإليها بعد<br />

حصول احلاجة اإىل ذلك ‏)الختاط باأمم اأخرى...(،‏<br />

وهي احلاجة التي مل تكن عند الأعراب – كان من اأجل<br />

اإثبات اأن الأمر كذلك يف ما يخص الفقه،‏ اأو اأصول الفقه<br />

على وجه اأخص.‏ وعليه ف»بهذا الذي قلناه ينفهم غرض<br />

هذه الصناعة،‏ ويسقط العرتاض عليها باأن مل يكن<br />

اأهل الصدر املتقدم ناظرين فيها«‏ . 65<br />

هذا اجلواب الذي قدمه ابن رصد يف مقدمة<br />

الضروري يف الفقه عن العرتاصات التي ميكن اأن<br />

توضع يف وجه مستعملي القياس الفقهي،‏ يقدم لنا<br />

بيانا واضحا يجعلنا نقرر اأنه اإن كان هناك ‏شيء يشبه<br />

القياس الفقهي القياس العقلي،‏ فهو مسار البحث عن<br />

املشروعية.‏<br />

اأبحاث


2 0 1 1<br />

70<br />

لكن الرجل يذهب اأبعد مما قلنا قبل قليل،‏ وهو اأن<br />

العرتاض على متثيله بظنية القياس الفقهي ومن ثم<br />

زوال منوذجيته،‏ جعله ينقل القياس من قياس املساوي<br />

اإىل قياس الأوىل.‏ اإذ جنده يستغل ظنية القياس الفقهي<br />

لصالح القياس العقلي،‏ فبدل من الرتاجع عن حجة<br />

التمثيل التي جلاأ اإليها على اعتبار اأن الفقه من الظنيات<br />

والقياس العقلي من القطعيات؛ يتجاوز هذا الأمر<br />

لصاحله،‏ وذلك عن طريق قياس الأوىل،‏ بحيث يكون<br />

ما اأثبته للقياس الفقهي،‏ وهو دون القياس العقلي،‏ يثبته<br />

للقياس العقلي،‏ وهو اأعلى من القياس الفقهي من جهة<br />

اليقني،‏ من باب الأوىل والأحرى.‏<br />

1 القياس الفقهي والقياس العقلي:‏ ‏سكوت<br />

الشرع واحد<br />

يلجاأ ابن رشد اإىل التمثيل بسكوت الشرع عن بعض<br />

الأحكام املتعلقة بالوجود،‏ وعن اإعمال التاأويل العقلي.‏<br />

فما ‏سكت عنه الشرع يف باب النظر الفلسفي مبنزلة<br />

ما ‏سكت عنه الشرع يف باب النظر الفقهي،‏ اأي ‏»هو<br />

مبنزلة ما ‏سُ‏ كت عنه من الأحكام،‏ فاستنبطها الفقيه<br />

بالقياس الشرعي.‏ واإن كانت الشريعة نطقت به،‏ فا<br />

يخلو ظاهر النطق اأن يكون موافقاً‏ ملا اأدى اإليه الربهان<br />

فيه اأو خمالفاً.‏ فان كان موافقا،‏ فا قول هنالك.‏ واأن<br />

كان خمالفاً،‏ طلب هنالك تاأويله«‏ )57( .<br />

واإذا كان الفقيه اأيضا ميارس التاأويل،‏ عندما<br />

يتعارض ظاهر نص مع ما اأدى اإليه النظر الفقهي،‏<br />

فاإنه بالأوىل اأن يفعل ذلك ‏صاحب علم الربهان،‏ اأعني<br />

اأن ميارس هو اأيضا التاأويل قياسا على تاأويل الفقيه.‏<br />

واأولوية استحقاق ‏صاحب الربهان لفعل التاأويل نابعة<br />

من كون ‏صاحب الربهان له قياس يقيني،‏ يف حني ل<br />

يتعدى قياس الفقيه عتبة ‏»الظن«.‏ فاإذا كان الفقيه يفعل<br />

التاأويل،‏ وهو ليس له ‏سوى قياس ظني،‏ فمن باب الأوىل<br />

اأن يعمل ذلك ‏صاحب الربهان.‏ ف»اإذا كان الفقيه يفعل<br />

هذا يف كثري من الأحكام الشرعية،‏ فكم باحلري اأن<br />

يفعل ذلك ‏صاحب علم الربهان؟ فاإن الفقيه اإمنا عنده<br />

قياس ظني،‏ والعارف عنده قياس يقيني«‏ )58( .<br />

) 2 ‎2‎خطاأ احلاكم كخطاأ العامل:‏ خطاأ معذور<br />

ما كان لبن رشد اأن يتحدث عن فلسفة احلُ‏ كم،‏<br />

من حيث اإن الفيلسوف حاكم على املوجودات،‏ دون اأن<br />

يتعرض ملشكلة اخلطاأ.‏ فاإننا نعلم اأن احلكم تصديق<br />

- يف مقابل الإدراك والتصور-‏ يدور عليه الصدق كما<br />

يدور عليه الكذب.‏ وقد كانت مقاربته مصاألة اخلطاأ يف<br />

احلكم على املوجودات مدعومة باآلية التمثيل باحلاكم<br />

يف الفقهيات،‏ وذلك من جهة اأنواع اخلطاأ ودرجاته.‏<br />

يحصر ابن رشد اخلطاأ يف الشرعيات يف ‏ضربني:‏<br />

‏»اإما خطاأ يعذر فيه من هو من اأهل النظر يف ذلك<br />

الشيء الذي وقع فيه اخلطاأ-‏ كما يعذر الطبيب املاهر<br />

اإذا اأخطاأ يف ‏صناعة الطب،‏ واحلاكم املاهر اإذا اأخطاأ<br />

يف احلكم.‏ ول يعذر فيه من ليس من اأهل ذلك الصاأن.‏<br />

واإما خطاأ ليس يعذر فيه اأحد من الناس،‏ بل اإن وقع يف<br />

مبادئ الشريعة فهو كفر واإن وقع فيما بعد املبادئ فهو<br />

بدعة«‏ )59( . واأما اخلطاأ الذي يقع من غري هذا الصنف<br />

من الناس فهو اإثم حمض،‏ وسواء كان اخلطاأ يف الأمور<br />

النظرية اأو العملية.‏ فكما اأن احلاكم اجلاهل بالسنة<br />

اإذا اأخطاأ يف احلكم مل يكن معذوراً،‏ كذلك احلاكم<br />

على املوجودات اإذا مل توجد فيه ‏شروط احلاكم،‏ فليس<br />

مبعذور،‏ بل هو اإما اآثم واإما كافر.‏ واإذا كان يشرتط<br />

يف احلاكم يف احلال واحلرام اأن جتتمع،‏ له اأسباب<br />

الجتهاد-‏ وهو معرفة الأصول ومعرفة الستنباط من<br />

تلك الأصول بالقياس-‏ فكم باحلري اأن يشرتط ذلك يف<br />

احلاكم على املوجودات،‏ اعني اأن يعرف الأوائل العقلية<br />

)60(<br />

ووجه الستنباط منها.‏<br />

) 3 ‎3‎‏ضالل بعض الفالسفة كقلة تورع بعض<br />

الفقهاء:‏ اإما بالعرض واإما بالذات<br />

كانت معاجلة مشكلة اخلطاأ يف نظر ابن رشد،‏<br />

مناسبة لتشغيل اآلية التمثيل بالفقه والفقهاء اأيضا:‏<br />

‏»هذا الذي عرض لهذه الصناعة هو ‏شيء عارض لسائر<br />

الصنائع.‏ فكم من فقيه كان الفقه ‏سبباً‏ لقلة تورعه<br />

وخوضه يف الدنيا،‏ بل اأكرث الفقهاء كذلك جندهم،‏<br />

وصناعتهم اإمنا تقتضي بالذات الفضيلة العملية.‏ فاإذاً‏<br />

ل يبعد اأن يعرض يف الصناعة التي تقتضي الفضيلة<br />

1 )


71<br />

2 0 1 1<br />

العلمية ما عرض يف الصناعة التي تقتضي الفضيلة<br />

العملية«‏ )61( . فاإذا كانت ‏صناعة الفقه تقتضي الفضيلة<br />

العملية،‏ فاإنه ل ميكن اأن نقول اإنها ‏سبب يف قلة تورع<br />

فقيه ما وخوضه يف الدنيا،‏ ومن ثم يجب اأن مننع تعاطي<br />

‏صناعة الفقه.‏ ‏صحيح اأننا جند فقهاء قليلي الورع<br />

وخائضني يف الدنيا،‏ لكن ذلك مل يحصل بالذات عن<br />

تعاطيهم للفقه،‏ بل كان الفقه ‏سببا عرضيا يف ذلك،‏<br />

وليس ذاتيا.‏ ويجب األ نتخذ من حصول ‏شيء بالعرض<br />

عن ‏صناعة ما مربرا ملنع تلك الصناعة.‏ واإذا كان الأمر<br />

كذلك يف الفقه فاإن الأمر نفسه ينسحب على الفلسفة،‏<br />

بل هو اأصدق على الفلسفة من باب الأوىل كما ‏سنظهر<br />

السبب يف ذلك.‏ فما عرض للناس اأو لبعضهم عن هذه<br />

الصناعة هو ‏شيء يعرض لهوؤلء اأو لغريهم مع ‏سائر<br />

الصنائع،‏ ول يجب اأن يكون ذلك مربرا ملنع احلكمة عن<br />

الناس،‏ اأو ملن هو اأهل لها.‏<br />

اأما اأولوية اإباحة الفلسفة بالقياس اإىل الفقه فلعلها<br />

ترجع اإىل اإصارة ابن رشد نفسه حينما قال اإنه اإذا<br />

قارنا كميّا بني الناس الذين يحصل لهم اختال ما عن<br />

‏صناعتي الفقه والفلسفة،‏ فاإننا ‏سنكتشف اأن الفقه كان<br />

‏سببا بالعرض لقلة تورع كثري من الفقهاء،‏ ومع ذلك فهو<br />

ل ميكن منعه عن الناس،‏ اأما الفلسفة فا جند ‏سوى قلة<br />

فقط من الناس هم الذين يدخل عليهم الضرر،‏ لذلك<br />

كان الأوىل اأن نتعاطى الفلسفة.‏ يقول ابن رشد:‏ ‏»الضرر<br />

الداخل على الناس من كتب الربهان اأخف،‏ لأنه ل يقف<br />

على كتب الربهان يف الأكرث،‏ اإل اأهل الفطر الفائقة،‏<br />

واإمنا يوؤتى هذا الصنف من عدم الفضيلة العملية<br />

والقراءة على غري ترتيب واأخذها من غري معلم«‏ )62( . اإن<br />

تعاطي الفلسفة اأسلم من تعاطي الفقه.‏<br />

4 املتاأخر واملتقدم يف حتصيل الفلسفة ويف<br />

الفقه:‏ احلاجة اإىل الرتاكم<br />

ملا ظهر اأن الشرع يوجب القياس العقلي واأنواعه<br />

قياسا على وجوب القياس الفقهي،‏ فاإنه ل بد من<br />

اأمرين اإما اأن يكون قد تقدم اأناس فنظروا يف القياس<br />

العقلي كما قد تقدم اأناس فنظروا يف القياس الفقهي،‏<br />

واإما اأن ل يكون قد تقدم يف ذلك اأحد،‏ كما قد يكون<br />

ذلك يف القياس الفقهي.‏ فاإن مل يكن قد ابتداأ اأحد<br />

ذلك فاإنه ل بد من الشروع يف ذلك،‏ واإن كان قد تقدم<br />

فنظر اأحد ما يف القياس فقهيا كان اأو عقليا فا بد من<br />

الستعانة بنظره حتى تكمل املعرفة بذلك.‏ وملا كان من<br />

العسري اأن يقف واحد فقط ابتداء ومن تلقاء نفسه على<br />

القياس الفقهي،‏ فاإن هذا يصدق بالأوىل على القياس<br />

العقلي.‏ واإذا كان املتاأخرون قد استعانوا باملتقدمني يف<br />

نظرهم يف القياس الفقهي،‏ فاإنه يجب اأيضا اأن يستعني<br />

)63(<br />

املتاأخرون باملتقدمني الناظرين يف القياس العقلي.‏<br />

وهكذا فلما ظهر اأن القياس العقلي اأو النظر يف القياس<br />

العقلي ليس بدعة بل هو واجب بالشرع مثله يف ذلك<br />

مثل وجوب النظر يف القياس الفقهي،‏ ‏سننتهي اإىل اأحد<br />

اأمرين:‏ اإما اأن نكون نحن اأول من يدشن هذا النظر يف<br />

القياس العقلي،‏ واإما اأن يكون اأحدنا قد تقدم فنظر يف<br />

ذلك.‏ ففي احلالتني معا نكون مطالبني باإعمال قاعدة<br />

‏»يجب اأن يستعني املتاأخر باملتقدم«،‏ ويف احلالتني معا<br />

يلجاأ ابن رشد اإىل التمثيل:‏<br />

1 احلالة االأوىل:‏<br />

اإذا كان مل يتقدم اأحد ممن قبلنا بفحصٍ‏ عن<br />

القياس العقلي واأنواعه،‏ فاإنه يجب علينا اأن نبتدئ<br />

بالفحص عنه.‏ ويف هذه احلالة فاإنه لو كنا نحن من<br />

تقدم اإىل النظر يف القياس العقلي،‏ فاإن غرينا ل بد له،‏<br />

من اأجل استكمال هذا النظر،‏ من الستعانة بنظرنا.‏<br />

يقول ابن رشد:‏ ‏»فاإنه عسري اأو غري ممكن اأن يقف واحد<br />

من الناس من تلقائه وابتداء على جميع ما يحتاج اإليه<br />

كل من ذلك،‏ كما اأنه عسري اأن يستنبط واحد جميع<br />

ما يحتاج اإليه من معرفة اأنواع القياس الفقهي،‏ بل<br />

معرفة القياس العقلي اأحرى بذلك«‏ )64( . هنا اأيضا يبداأ<br />

بالتمثيل باملساوي وينتهي بالتمثيل بالأوىل.‏ وكاأن ما<br />

يضفي مشروعية حقيقية على ما يدعيه،‏ اأعني ‏ضرورة<br />

وجود التعاون،‏ هو هذا الأوىل،‏ وليس املساوي.‏ واإىل ذات<br />

القياس،‏ قياس الأوىل يلجاأ ابن رشد ليثبت قاعدة عامة<br />

هي:‏ ‏ضرورة استعانة املتاأخر باملتقدم.‏ فيقيم مشابهة<br />

اأبحاث<br />

1 .<br />

4 )


2 0 1 1<br />

72<br />

بني نظام العلم ونظام العمل.‏ فاإذا كان من البني بذاته<br />

اأن يكون نظام العمل مقتضيا تضافر اجلهود لأجل<br />

اإنشاء الصنائع وتصويرها فبالأوىل اأن يكون نظام العلم<br />

)65(<br />

كذلك.‏<br />

لكن ابن رشد يعرف جيدا اأن النظر يف القياس<br />

العقلي قد تقدم اإليه غرينا،‏ اأما ما مل يتقدم اإليه غرينا<br />

فهو القياس الفقهي.‏ )66( اأو بعبارة اأخرى ملا مل تكن هذه<br />

حالنا،‏ لأننا لسنا ممن تقدم اإىل النظر القياس العقلي،‏<br />

بل غرينا،‏ جلاأ ابن رشد اإىل متثيل النظر يف القياس<br />

العقلي بالنظر الفقهي،‏ علما اأن النظر يف القياس<br />

الفقهي غري النظر يف القياس العقلي.‏<br />

رمبا يكون من تبعات هذا التمثيل القول بوحدة النوع<br />

البشري.‏ واإل فما معنى اأن ميثل املتقدم واملتاأخر يف<br />

النظر يف القياس العقلي باملتقدم واملتاأخر يف النظر يف<br />

القياس الفقهي،‏ مع اأن املتاأخر واملتقدم يف القياس الأول<br />

ل يخرجنا عن امللة،‏ يف حني تكون الستعانة يف الجتهاد<br />

الفقهي مشروطة باملشاركة يف امللة؟<br />

ومن تبعاته اأيضا،‏ اإلغاء الفروق بني الأقيسة،‏ وما<br />

كان ليتاأتى له ذلك اإل من جهة النظر اإليها من جهة<br />

الصورة.‏ لأنه يف هذه احلالة فقط ميكن استعانة املتقدم<br />

باملتاأخر دون اعتبارات ثقافية اأو ملية،‏ اإل اعتبار ‏شروط<br />

‏صحة هذه الأقيسة.‏ ومن تبعات اإلغاء الفروق بني<br />

الأقيسة حتييدها.‏ من هنا جاء ذلك التمثيل الشهري<br />

للقياس العقلي باآلة التذكية.‏<br />

2 احلالة الثانية:‏<br />

وهي احلالة التي ل نكون فيها نحن اأول من تقدم<br />

بالنظر يف القياس العقلي،‏ بل غرينا هو الذي ‏سبقنا<br />

اإىل ذلك.‏ يف هذه احلالة اأيضا،‏ يستعمل ابن رشد تلك<br />

القاعدة ليسحبها على هذه النازلة،‏ ليحكم:‏ ‏»بنيٌ‏ اأنه<br />

يجب علينا اأن نستعني على ما نحن بسبيله مبا قاله من<br />

تقدمنا يف ذلك،‏ وسواء كان ذلك الغري مشاركاً‏ لنا اأو غري<br />

مشارك يف امللة.‏ فاإن الآلة التي تصح بها التذكية ليس<br />

يعترب يف ‏صحة التذكية بها كونها اآلة ملشارك لنا يف امللة<br />

اأو غري مشارك اإذا كانت فيها،‏ ‏شروط الصحة؛ واأعني<br />

بغري املشارك من نظر يف هذه الأشياء من القدماء قبل<br />

ملة الإصام«‏ )67( . وعلينا اأن نوضح قول ابن رشد:‏<br />

فلما كانت املقاييس العقلية تشبه اآلة التذكية،‏<br />

ول اعتبار ملشاركة ‏صاحب هذه الآلة يف امللة اأو عدم<br />

مشاركته،‏ واإمنا ‏شروط ‏صحة اآلة التذكية هي فقط ما<br />

يجب اأن يوؤخذ بعني العتبار؛ وملا كان كل ما يحتاج اإليه<br />

من النظر يف اأمر املقاييس العقلية قد تقدم اإليه القدماء<br />

بالفحص،‏ فاإنه ينبغي اأن نفحص ما تركوه من نظرهم<br />

يف القياس العقلي،‏ متاما مثلما ينبغي فحص ‏شروط<br />

‏صحة اآلة التذكية.‏<br />

لكن هذا الفحص ل ينبغي اأن يتوجه اإىل من نظر<br />

يف املقاييس اأو ‏صاحبها ومنشئها الأول،‏ واإمنا اإىل هذا<br />

النظر،‏ اأعني اإىل ‏شروط ‏صحته فقط:‏ ‏»فاإن كان كله<br />

‏صواباً‏ قبلناه منهم،‏ واإن كان فيه ما ليس بصواب،‏<br />

نبهنا عليه«‏ )68( . والظاهر اأن التاأكيد حصر الفحص<br />

يف الرتاكم احلاصل بخصوص املقاييس العقلية دون<br />

احتفال مبن كان وراء ذلك الرتاكم،‏ ‏ضرب من اللتزام<br />

من ابن رشد بقواعد الفحص العقلي من غري اعتبار<br />

للسُّ‏ لُطات املعرفية التي تقف وراء ذلك.‏<br />

غري اأن اأهم العوائق يف متثيل القياس العقلي<br />

بالقياس الفقهي،‏ هو دخول معطى اأساسي يف القياس<br />

العقلي غري موجود يف القياس الفقهي:‏ فاملتقدمون<br />

واملتاأخرون الناظرون يف القياس الفقهي رغم كونهم<br />

خمتلفني يف املذهب،‏ فهم يشرتكون كلهم يف ملة واحدة،‏<br />

اإذ كان النتماء اإىل امللة اأول ‏شروط الجتهاد فيها؛ اأما<br />

املتقدمون واملتاأخرون الناظرون يف القياس العقلي فهم<br />

يختلفون يف امللة،‏ وليسوا بالضرورة من ملة واحدة،‏ اأو<br />

على الأقل ليست وحدة امللة بينهم ‏شرطا لجتهادهم<br />

واستفادة بعضهم من بعض.‏ وانتفاء ‏شرط املشاركة<br />

يف امللة يجعل من القياس العقلي اأمرا غري منتم مللة<br />

معينة،‏ واإل ‏سقطنا يف التناقض،‏ فالقياس العقلي يخص<br />

الإنسان مبا هو اإنسان.‏ هذا املعطى هو الذي ل يجعل<br />

عملية التمثيل قائمة على التشابه التام بني الطرفني،‏<br />

لأن درجة الختاف يف املذهب على كل حال ل ترقى<br />

اإىل مستوى الختاف يف امللة.‏ غري اأن ابن رشد مل يكن<br />

ليعتد بهذا العائق،‏ ف ‏»سواء كان ذلك الغري مشاركا لنا<br />

2 .


73<br />

2 0 1 1<br />

اأو غري مشارك يف امللة«‏ فاإنه من البني اأنه يجب علينا اأن<br />

نستعني مبا قاله من تقدمنا.‏<br />

من جهة،‏ اإن جتريد ابن رشد القياس العقلي من<br />

انتمائه ‏»الثقايف«‏ هو الذي ميكن من التفاعل واستعانة<br />

املتاأخر باملتقدم وتلبية حاجة املتاأخر اإىل املتقدم؛<br />

كما اأن انتفاء الهوية الثقافية للقياس العقلي هو الذي<br />

حمله على النظر اإىل القياس العقلي على اأنه اآلة،‏ وليس<br />

‏صناعة.‏ اأما من جهة ثانية،‏ فاإن اعتباره القياس العقلي<br />

اآلة قد كان الإمكانية الوحيدة التي يحصل بها ‏ضمان<br />

‏شرط التفاعل والقتباس واستعانة املتقدم باملتاأخر،‏ لأن<br />

ما يهم اآنئذ ليس هوية الآلة،‏ واإمنا ‏صحتها وصامتها.‏<br />

من هنا جاءت ‏ضرورة الستنجاد بتمثيل اآخر والتخلي<br />

للحظة عن التمثيل بالفقه،‏ يقول ابن رشد:‏ ‏»اإن الآلة<br />

التي تصح بها التذكية ليس يعترب يف ‏صحة التذكية بها<br />

كونها اآلة ملشارك لنا يف امللة اأو غري مشارك اإذا كانت<br />

فيها،‏ ‏شروط الصحة«‏ )69( .<br />

اإن معيار الستعانة باآلة كان القدماء قد ‏شرعوا<br />

يف النظر فيها،‏ ل يشرتط فيها ‏شرط املشاركة يف امللة،‏<br />

واإمنا يشرتط فيها ‏شرط اآخر هو الصحة.‏ لهذا يخلص<br />

ابن رشد:‏ ‏»اإذا كان الأمر هكذا،‏ وكان كل ما يحتاج<br />

اإليه من النظر يف اأمر املقاييس العقلية قد فحص عنه<br />

القدماء اأمت فحص،‏ فقد ينبغي اأن نضرب باأيدينا اإىل<br />

كتبهم«‏ )70( .<br />

خامتة<br />

ميكن القول اإن التمثيل بعلوم التعاليم كان بقصد<br />

التشريع للنظر العلمي،‏ وبقصد اإرساء ‏شروطه.‏ وقد<br />

مكنت خصائص علوم التعاليم،‏ وبخاصة علم الفلك،‏<br />

من حتصيل هذه الغاية بالنظر اإىل يقينيتها وانفصالها<br />

عن بادئ الراأي،‏ واقتضائها التعاون والتداول بخصوص<br />

ثمراتها،‏ هذا التعاون والتداول هما ما يوؤسس علمية<br />

هذا العلم اأساسا.‏ لذلك قلنا اإن علوم التعاليم عموما<br />

قد ‏ساعدت،‏ بخصائصها الشبيهة باملطلوب،‏ ابن رشد<br />

كبرية مساعدة كبرية على اإجناح عملية التمثيل بهذه<br />

العلوم لأجل تربير مشروعية علم املنطق وضرورة<br />

استفادة املتاأخر باملتقدم.‏<br />

لكن على الرغم من ذلك،‏ مل يكن اأمام ابن رشد<br />

‏سوى اأن يرتاجع عن التمثيل بعلوم التعاليم ليمثل بعلم<br />

قريب من خماطبه،‏ وهو علم اأصول الفقه.‏ وقد كان من<br />

غايات التمثيل بالفقهيات عنده يف هذا املوضع تاأكيد ما<br />

وظف له التمثيل بالتعاليم،‏ اأي ‏ضرورة التعاون والتداول،‏<br />

وكاأنه قد ‏شعر من طرف خفي اأن مثال التعاليم غري<br />

ظاهر مبا يكفي للمخاطب.‏<br />

غري اأن ابن رشد وظف التمثيل بالفقه اأيضا بقصد<br />

اإثبات ‏ضرورة حصول الآلت التي بها نكون قادرين<br />

على ‏»العتبار يف املوجودات ودللة الصنعة فيها«،‏<br />

اأعني الآلت التي بها نكون قادرين على فعل الفلسفة،‏<br />

من حيث اإن هذا الفعل ‏»ليس ‏شيئا اأكرث من النظر يف<br />

املوجودات واعتبارها من جهة دللتها على الصانع -<br />

اأعني من جهة ما هي مصنوعات،‏ لأن املوجودات تدل<br />

على الصانع مبعرفة ‏صنعتها،‏ واأنه كلما كانت املعرفة<br />

بصنعتها اأمت كانت املعرفة بالصانع اأمت«‏ )71( . اأو بعبارة<br />

اأخرى،‏ اإن من ل يعرف الصنعة ل يعرف املصنوع،‏ ومن<br />

ل يعرف املصنوع ل يعرف الصانع،‏ لذلك وجب الشروع<br />

يف فحص املوجودات على الرتتيب والنحو الذي اأفادتنا<br />

)72(<br />

به ‏صناعة املعرفة باملقاييس الربهانية.‏<br />

وهذه هي غاية التمثيل،‏ اأعني المتثال للأمر<br />

بوجوب معرفة ‏سائر املوجودات بالربهان.‏ من هنا يصح<br />

اأن نقول اإن ابن رشد كان مضطرا اإىل منهج التمثيل يف<br />

اأفق التشريع لفعل الربهان يف اأرض الإصام،‏ وكاأن قرار<br />

التشريع هذا ل يحصل اإل من مدخل التمثيل.‏<br />

اأبحاث


2 0 1 1<br />

74<br />

املصادر واملراجع<br />

. 1<br />

. ‎1‎اأبو الوليد،‏ ابن رشد،‏ تهافت التهافت،‏ حتقيق موريس بويج،‏ بريوت:‏ دار املشرق،‏ ط 1992 3،<br />

‎2‎اأبو . 2 الوليد،‏ ابن رشد،‏ فصل املقال وتقرير ما بني الشريعة واحلكمة من التصال ، حتقيق عبد الواحد العسري،‏<br />

بريوت:‏ مركز دراسات الوحدة العربية،‏ 1997.<br />

‎3‎اأبو . 3 الوليد،‏ ابن رشد،‏ تلخيص كتاب الربهان ، حتقيق حممود قاسم وتشارلس برتوورث واأحمد عبد احلميد هريدي،‏<br />

القاهرة:‏ الهيئة املصرية العامة للكتاب،‏ 1982.<br />

‎4‎اأبو . 4 الوليد،‏ ابن رشد،‏ تلخيص كتاب القياس ، حتقيق حممود قاسم وتشارلس برتوورث واحمد عبد احلميد هريدي،‏<br />

القاهرة:‏ الهياأة املصرية العامة للكتاب،‏ 1983.<br />

. ‎5‎اأبو الوليد،‏ ابن رشد،‏ تلخيص كتاب اخلطابة،‏ حتقيق مارون عواد،‏ باريس:‏ فران،‏ 2002<br />

. ‎6‎اأبو الوليد،‏ ابن رشد،‏ الضروري يف الفقه،‏ حتقيق جمال الدين العلوي،‏ بريوت:‏ دار الغرب الإصامي،‏ 1994<br />

‎7‎اأبو . 7 الوليد،‏ ابن رشد،‏ تلخيص كتاب اجلدل ، حتقيق حممود قاسم،‏ وتشارلس برتوورث واحمد عبد احلميد هريدي،‏<br />

القاهرة:‏ الهيئة املصرية العامة للكتاب،‏ 1982.<br />

. ‎8‎اأرسطو،‏ املواضع اجلدلية،‏ حتقيق فريد جرب،‏ بريوت:‏ دار الفكر اللبناين،‏ 1999<br />

. ‎9‎اأومليل،‏ علي،‏ السلطة الثقافية والسلطة السياسية،‏ بريوت:‏ مركز دراسات الوحدة العربية،‏ 1996<br />

10 العروي،‏ عبد اهلل،‏ مفهوم العقل:‏ مقالة يف املفارقات،‏ البيضاء/‏ بريوت:‏ املركز الثقايف العربي،‏ 1995<br />

‎1‎برملان،‏ 1 خاييم،‏ ‏»التمثيل والستعارة يف العلم والشعر والفلسفة«،‏ ترجمة حمو النقاري،‏ جملة املناظرة،‏ ع‎1‎‏،‏ 1987<br />

، 12 عبد اهلل،‏ احلجاج يف القراآن من خال خصائصه الأسلوبية،‏ ‏)جملدان(،‏ اجلزء الثاين،‏ تونس:‏ جامعة<br />

منوبة:‏ منشورات كلية الآداب،‏ 2001.<br />

‎1‎عبد 3 الرحمن،‏ طه،‏ جتديد املنهج يف تقومي الرتاث،‏ البيضاء/‏ بريوت:‏ املركز الثقايف العربي،‏ 1994<br />

‎1‎النقاري،‏ 4 حمو،‏ ‏»حول عاقة املنطق بعلم الأصول عند ابن رشد«،‏ جملة مقدمات،‏ ع‎15‎‏،‏ ‏شتاء 1998<br />

‎1‎منسية،‏ 5 مقداد عرفة،‏ ‏»موازنة ابن رشد بني القول بالظاهر والقول بالقياس«،‏ اجلمعية الفلسفية املصرية،‏ ع.‏ 8<br />

.1999<br />

‎1‎اجلرجاين،‏ 616 علي الشريف،‏ تقدم التعريفات،‏ حتقيق غوستاف فلوغل،‏ بريوت:‏ مكتبة لبنان،‏ 1908.<br />

. 5<br />

. 6<br />

. 8<br />

. 9<br />

. 10<br />

. 11<br />

‎1‎‏صولة 2<br />

. 13<br />

. 14<br />

. 15<br />

17. De Libera, Alain. Introduction au Discours décisif. Paris: GF- Flammarion, 1996.


75<br />

2 0 1 1<br />

الهوامش واالإحاالت<br />

غري اأن ابن رشد مل يحصر متثياته يف علوم التعاليم واأصول الفقه فقط،‏ اإذ اأن تشبيها اآخر كان حاضرا يف<br />

1- فصل املقال على نحو ملفت لانتباه،‏ هو تشبيه اآلت النظر باآلت العمل وتشبيه النظر بالعمل،‏ وبخاصة تشبيه<br />

املنطق باآلة التذكية،‏ الذي جلاأ اإليه لأجل اإبراز مشروعية استعارة علوم املنطق من الأوائل؛ وهذا املثال ل تخفى<br />

طبيعيته الفقهية.‏ لكننا ‏سنوؤجل فحصه اإىل فحص منفرد،‏ ولن نقف عنده هنا اإل قليا.‏<br />

عبد اهلل العروي،‏ مفهوم العقل:‏ مقالة يف املفارقات،‏ البيضاء/‏ بريوت:‏ املركز الثقايف العربي،‏ 1995، ‏ص‎119‎؛<br />

2- ويبدو اأن ذ.‏ العروي مل ينتبه اإىل اأن النص املنطقي الأرسطي هو خمسة اأجزاء وليس ثمانية،‏ ومل يعترب ثمانية اإل<br />

يف عرف التقليد الإصامي الذي ورثه اأهله عن التقليد السكندري السابق.‏<br />

عبد اهلل العروي،‏ مفهوم العقل،‏ ‏ص‎119‎‏.‏<br />

3- نفسه،‏ ‏ص‎123‎‏.‏<br />

4- نفسه.‏<br />

5- خاييم برملان،‏ ‏‘التمثيل والستعارة يف العلم والشعر والفلسفة’،‏ ترجمة حمو النقاري،‏ جملة املناظرة،‏ ع.‏ 1،<br />

6- 1987، ‏ص‎123‎‏.‏<br />

عبد اهلل ‏صولة،‏ احلجاج يف القراآن من خال خصائصه الأسلوبية،‏ ‏)جملدان(،‏ اجلزء الثاين،‏ تونس:‏ جامعة<br />

7- منوبة:‏ منشورات كلية الآداب،‏ 2001، ‏ص‎562‎‏.‏<br />

ابن رشد،‏ تهافت التهافت،‏ حتقيق موريس بويج،‏ ط 3، بريوت:‏ دار املشرق،‏ 1992، ‏ص‎207‎‏.‏<br />

8- ابن رشد،‏ فصل املقال وتقرير ما بني الشريعة واحلكمة من التصال،‏ حتقيق عبد الواحد العسري،‏ بريوت:‏ مركز<br />

9- دراسات الوحدة العربية،‏ 1997، ‏ص‎91-90‎‏،‏ ف‎13‎‏.‏<br />

ابن رشد،‏ تهافت التهافت،‏ حتقيق موريس بويج،‏ ‏ص‎208‎‏.‏<br />

10- تهافت التهافت،‏ ‏ص‎207‎‏.‏<br />

11- تهافت التهافت،‏ ‏ص‎207‎‏.‏<br />

12- تهافت التهافت،‏ ‏ص‎207‎‏.‏<br />

13- ابن رشد،‏ فصل املقال،‏ ‏ص‎91-90‎‏،‏ ف‎13‎‏.‏<br />

14- تهافت التهافت،‏ ‏ص‎207‎‏.‏<br />

15- تهافت التهافت،‏ ‏ص‎207‎‏.‏<br />

16- ابن رشد،‏ تلخيص كتاب الربهان،‏ حتقيق حممود قاسم وتشارلس برتوورث واأحمد عبد احلميد هريدي،‏<br />

17- القاهرة:‏ الهيئة املصرية العامة للكتاب،‏ 1982، ف‎1‎‏.‏<br />

تهافت التهافت،‏ ‏ص 12.<br />

18- فصل املقال،‏ ‏ص‎92-91‎‏،‏ ف‎14‎‏.‏<br />

19- فصل املقال،‏ ‏ص‎92-91‎‏،‏ ف‎14‎‏.‏<br />

20- فصل املقال،‏ ‏ص‎91-90‎‏،‏ ف‎13‎‏.‏<br />

21- علي اأومليل،‏ السلطة الثقافية والسلطة السياسية،‏ بريوت:‏ مركز دراسات الوحدة العربية،‏ 1996، ‏ص‎202‎‏.‏<br />

22- علي اأومليل،‏ السلطة الثقافية والسلطة السياسية،‏ ‏س‎203‎؛ لكن هذا ل يعني بالضرورة طلب ‏“وجاهة عند<br />

23- العامة”،‏ على غرار ما يستنتج علي اأمليل.‏<br />

نفسه.‏<br />

24- نفسه.‏<br />

25- فصل املقال،‏ ‏ص‎92-91‎‏،‏ ف‎14‎‏.‏<br />

26- اأرسطو،‏ املواضع اجلدلية،‏ حتقيق فريد جرب،‏ بريوت:‏ دار الفكر اللبناين،‏ 1999، ‏ص‎549‎‏.‏<br />

27- اأبحاث


2 0 1 1<br />

76<br />

28- فصل املقال،‏ ‏ص‎92‎‏،‏ ف‎14‎‏.‏<br />

29- انظر طه عبد الرحمن،‏ جتديد املنهج يف تقومي الرتاث،‏ البيضاء/‏ بريوت:‏ املركز الثقايف العربي،‏ 1994،<br />

‏ص‎175‎‏.‏<br />

30- طه عبد الرحمن،‏ جتديد املنهج يف تقومي الرتاث،‏ ‏ص‎175‎‏.‏<br />

31- فصل املقال،‏ ‏ص‎85‎‏،‏ ف‎1‎؛ وقد ذهب الباحث اآلن دوليربا يف تقدميه لرتجمة فصل املقال اإىل الفرنسية اإىل<br />

اأن فصل املقال عبارة عن ‏»فتوى«،‏ اأنظر:‏ Paris: Alain de Libera, Introduction au Discours décisif,<br />

..11.p GF- Flammarion, ,1996 واإىل هذا املوقف نفسه انتهى حتليل ذ ‏.علي اأومليل ‏،اأنظر ‏،السلطة الثقافية<br />

والسلطة السياسية،‏ ‏ص‎201‎‏.‏<br />

32- يقول ابن رشد:‏ ‏»وينبغي اأن يبني الآن اأن ‏سائر املقاييس التي تستعمل يف اخلطابة والفقه واملشورة راجعة اإىل<br />

املقاييس التي ‏سلفت.‏ وبذلك يصح لنا اأن نقول اإن جميع املقاييس تكون بالأشكال التي ‏سلفت،‏ ليس الربهانية<br />

فقط ول اجلدلية بل وجميع املقاييس الفكرية وباجلملة كل تصديق يقع يف كل ‏صناعة«؛ تلخيص كتاب القياس،‏<br />

حتقيق حممود قاسم وتشارلس برتوورث واحمد عبد احلميد هريدي،‏ القاهرة:‏ الهيئة املصرية العامة للكتاب،‏<br />

1983، ‏ص‎363‎‏،‏ ف‎371‎؛ ومن الباحثني املعاصرين من ذهب اإىل حد اعتبار الفقه جزءا من ‏صناعة اخلطابة،‏<br />

انظر بخصوص هذه املصاألة،‏ حمو النقاري،‏ ‏»حول عاقة املنطق بعلم الأصول عند ابن رشد«،‏ جملة مقدمات،‏<br />

ع.‏ 15، ‏شتاء ‎1998‎؛ ومقداد عرفة منسية،‏ ‏»موازنة ابن رشد بني القول بالظاهر والقول بالقياس«،‏ اجلمعية<br />

الفلسفية املصرية،‏ ع.‏ 1999، 8. ‏ص‎50-25‎‏.‏<br />

33- من قواعد الستدلل باملثال:‏ ‏»اأَن يحكم على ‏شيء ما بحكم ما من اأَجل اأَنه قد حكم به مَ‏ نْ‏ ‏سلف اإِما يف ذلك<br />

الشيء بعينه،‏ واإِما يف ‏شبيهه،‏ واإِما يف ‏ضده،‏ اأَعني اأَن احلكم على ‏شيء ما يوجب ‏ضد احلكم على ‏ضده،‏ ول ‏سيما<br />

اإِن كان الذين حكموا هم الكل واجلمهور والعلماء معهم اأَو اأَكرثهم وكان ذلك احلكم دائما،‏ اأَو ما يحكم به الأَكرث<br />

اأَو احلكماء اإِما جلهم واإِما بعضهم،‏ وكذلك اأَيضا اإِذا حكم به الذين يظن اأَنهم ل يحكمون باملتضادات،‏ اأَعني<br />

بضد احلق اأَو بضد اخلري اأَو بضد النافع اأَنهم ل يحكمون باملتضادات،‏ اأَعني بضد احلق اأَو بضد اخلري اأَو بضد<br />

النافع اأَو بضد العدل كالإِله والأَبوين واملعلم.‏ واحلكم من هوؤلءِ‏ قد يكون بالقول،‏ وقد يكون بالفعل،‏ وقد يكون<br />

بالطبع،‏ اأَعني اإِذا مل يكن يف طباعهم ذلك الشيء،‏ مثل قول القائل:‏ اإِن املوت ‏شر،‏ هكذا حكم اهلل،‏ فاإِنه ليس<br />

مبائت.‏ واأَما مثال ذلك يف الأَبوين واملعلم فظاهر،‏ وذلك اإِذا احتج على الإِنسان باأَفعالهما واأَقوالهما«؛ تلخيص<br />

كتاب اخلطابة،‏ حتقيق مارون عواد،‏ باريس:‏ فران،‏ 9. 23. 2. 2002:<br />

34- طه عبد الرحمن،‏ جتديد املنهج يف تقومي الرتاث،‏ ‏ص‎175‎‏.‏<br />

35- فصل املقال،‏ ‏ص‎115‎‏،‏ ف‎57‎‏.‏<br />

36- فصل املقال،‏ ‏ص‎115‎‏،‏ ف‎57‎‏.‏<br />

37- فصل املقال،‏ ‏ص‎115‎‏،‏ ف‎58‎‏.‏<br />

38- يقول ابن رشد:‏ ‏»واملعرفة بهذه الأفعال هي التي تسمى العلم العملي.‏ وهذه تنقسم قسمني:‏ احدهما اأفعال ظاهرة<br />

بدنية،‏ والعلم بهذه هو الذي يسمى الفقه،‏ والقسم الثاين اأفعال نفسانية،‏ مثل الشكر والصرب،‏ وغري ذلك من<br />

الأخاق التي دعا اإليها الشرع اأو نهى عنها.‏ والعلم بهذه هو الذي يسمى الزهد وعلوم الآخرة«؛ فصل املقال،‏<br />

‏ص‎115‎‏،‏ ف‎58‎‏.‏<br />

39- ابن رشد،‏ الضروري يف الفقه،‏ حتقيق العلوي جمال الدين،‏ بريوت:‏ دار الغرب الإصامي،‏ 1994، ‏ص‎34‎‏.‏<br />

40- ابن رشد،‏ الضروري يف الفقه،‏ حتقيق جمال الدين العلوي،‏ ‏س‎35-34‎؛ وعلى ‏سبيل املقارنة تقدم تعريفات<br />

اجلرجاين الفقه كما يلي:‏ ‏»الفقه يف الصطاح هو العلم بالأحكام الشرعية العملية من اأدلتهما التفصيلية وقيل<br />

هو الإصابة والوقوف على املعنى اخلفي الذي يتعلق به احلكم وهو علم مستنبط بالراأي والجتهاد ويحتاج فيه<br />

اإىل النظر والتاأمل«؛ حتقيق غوستاف فلوغل،‏ بريوت:‏ مكتبة لبنان،‏ 1908: ‏)مادة فقه(.‏<br />

41- الضروري يف الفقه،‏ ‏ص‎35‎‏.‏


77<br />

2 0 1 1<br />

جند يف هامش نص الضروري يف الفقه املاحظة التالية:‏ ‏»ميكن اعتبار التصنيف الثاثي للعلوم تصنيفا فريدا<br />

42- بالقياس اإىل ما ذهب اإليه ابن رشد يف اأعماله الاحقة على هذا املختصر،‏ وذلك على الرغم من اأنه ل يخرج عن<br />

التصنيف العام للعلوم اإىل نظرية وعملية اآلية،‏ وهو ما ذهب اإليه ابن رشد مع غريه من املتقدمني«؛ ‏ص‎34‎؛ ه‎1‎‏.‏<br />

الضروري يف الفقه،‏ ‏ص‎36‎‏.‏<br />

43- الضروري يف الفقه،‏ ‏ص‎36‎‏.‏<br />

44- فصل املقال،‏ ‏ص‎107‎‏،‏ ف‎43‎‏.‏<br />

45- فصل املقال،‏ ‏ص‎89‎‏،‏ ف‎7‎<br />

46- فصل املقال،‏ ‏ص‎108-107‎‏،‏ ف‎44‎‏.‏<br />

47- فصل املقال،‏ ‏ص‎89‎‏،‏ ف‎8‎‏.‏<br />

48- فصل املقال،‏ ‏ص‎89‎‏،‏ ف‎8‎‏.‏<br />

49- ابن رشد،‏ تلخيص كتاب اخلطابة،‏ حتقيق مارون عواد:‏ 9. 23. 2.<br />

50- ابن رشد،‏ تلخيص كتاب اجلدل،‏ حت.‏ حممود قاسم ومن معه،‏ ‏ص‎160‎‏،‏ ف‎222‎‏.‏<br />

51- فصل املقال،‏ ‏ص‎89‎‏،‏ ف‎8‎‏.‏<br />

52- فصل املقال،‏ ‏ص‎89‎‏،‏ ف‎8‎‏.‏<br />

53- فصل املقال،‏ ‏ص‎89‎‏،‏ ف‎8‎‏.‏<br />

54- الضروري يف الفقه،‏ ‏ص‎35‎‏.‏<br />

55- الضروري يف الفقه،‏ ‏ص‎36‎‏.‏<br />

56- فصل املقال،‏ ‏ص‎97‎‏،‏ ف‎20‎‏.‏<br />

57- فصل املقال،‏ ‏ص‎98‎‏،‏ ف‎22‎‏.‏<br />

58- فصل املقال،‏ ‏ص‎108‎‏،‏ ف‎44‎؛ ويضيف:‏ ‏»وهذا اخلطاأ هو اخلطاأ الذي يكون يف الأشياء التي تفضي اإليها جميع<br />

59- اأصناف طرق الدلئل اإىل معرفتها،‏ فتكون معرفة ذلك الشيء بهذه اجلهة ممكنة للجميع.‏ وهذا هو مثل الإقرار<br />

باهلل تبارك وتعاىل،‏ وبالنبوات،‏ وبالسعادة،‏ الأخروية،‏ والشقاء الأخروي.‏ وذلك اأن هذه الأصول الثاثة توؤدي<br />

اإليها اأصناف الدلئل،‏ الثاثة التي ل يعرى احد من الناس عن وقوع التصديق له من قبلها بالذي كلف معرفته،‏<br />

اعني الدلئل اخلطابية واجلدلية والربهانية«؛ فصل املقال،‏ ‏ص‎109‎‏،‏ ف‎45‎‏.‏<br />

فصل املقال،‏ ‏ص‎108-107‎‏،‏ ف‎44‎؛ وانظر اأيضا بخصوص الجتهاد،‏ ابن رشد،‏ الضروري يف الفقه،‏ ‏ص‎143-137‎‏.‏<br />

60- فصل املقال،‏ ‏ص‎95‎‏،‏ ف‎18‎‏.‏<br />

61- فصل املقال،‏ ‏ص‎114‎‏،‏ ف‎55‎‏.‏<br />

62- فصل املقال،‏ ‏ص‎89‎‏،‏ ف‎9‎‏.‏<br />

63- فصل املقال،‏ ‏ص‎90‎‏،‏ ف‎9‎‏.‏<br />

64- انظر فصل املقال،‏ ‏ص‎93‎‏،‏ ف‎14‎‏،‏ حيث يقول:‏ ‏»وهذا اأمر بني بنفسه ليس يف الصنائع العلمية فقط بل ويف<br />

65- العملية،‏ فاإنه ليس منها ‏صناعة يقدر اأن ينشئها واحد بعينه،‏ فكيف بصناعة الصنائع وهي احلكمة؟«.‏<br />

اإل اأن يكون ابن رشد يعني بالفقه معناه العام الذي اأشار اإليه اأرسطو يف كتاب التحليات الأوىل،‏ وترجمه العرب<br />

66- بالفقه،‏ ويعني علم القوانني والتشريع،‏ ويبدو الأمر يف حاجة اإىل نظر.‏<br />

فصل املقال،‏ ‏ص‎91‎‏،‏ ف‎10‎‏.‏<br />

- 67 فصل املقال،‏ ‏ص‎91‎‏،‏ ف‎11‎‏.‏<br />

- 68 فصل املقال،‏ ‏ص‎91‎‏،‏ ف‎10‎‏.‏<br />

69- فصل املقال،‏ ‏ص‎91‎‏،‏ ف‎11‎‏.‏<br />

70- فصل املقال،‏ ‏ص‎86-85‎‏،‏ ف‎2‎‏.‏<br />

71- فصل املقال،‏ ‏ص‎91‎‏،‏ ف‎12‎‏.‏<br />

72- اأبحاث


هموم املعيشة كما تصوِّرها<br />

الرواية التاريخية<br />

‏)العرص اململوكي منوذجً‏ ا(‏<br />

د.‏ خريي دومه<br />

باحث من مصر


81<br />

2 0 1 1<br />

Abstract<br />

This paper aims at answering some<br />

questions concerning the historical novel:<br />

What kind of relationship is there between<br />

the reality of the past as presented by the<br />

historical novel and the present reality in<br />

which the writer lives and in which the novel<br />

is written?<br />

What kind of relationship is there between<br />

the Novel as a realistic literary genre and<br />

History as a discipline based on narrating<br />

events within a temporal and philosophical<br />

frame?<br />

Is it possible to depend on the novel as a<br />

source for History?<br />

To what extent does the background, vision<br />

and style of the writer play an important role<br />

in dealing with details of the daily life of the<br />

age?<br />

The paper discusses three Egyptian<br />

historical novels:<br />

Ala Bab Zwilaa, by Mohamed Said Al-<br />

Erian (1947)<br />

Assaeroun Niaman , by Saad Makkawy<br />

(1965)<br />

Al-Zeeny Barakat, by Gamal Al-Ghitani<br />

(1974)<br />

The three novels discussed recall the<br />

last decades of the Mamluk period when the<br />

Mamluk independent state started to decline.<br />

In general, the three writers were<br />

interested in history but they belong to<br />

deferent generations. Therefore their motives<br />

and ways of recalling this period also varied.<br />

امللخص<br />

هذا البحث يحاول اختبار جمموعة من الفرضيات،‏<br />

عرب مناقشة عدد من الأسئلة،‏ اأهمها:‏<br />

ما طبيعة العاقة بني الواقع املاضي الذي تعرضه رواية<br />

تاريخية ما،‏ وبني الواقع احلاضر الذي عاش فيه كاتبها،‏<br />

وصدرت يف اإطاره؟<br />

ما طبيعة العاقة بني الرواية نوعً‏ ا اأدبيًّا واقعيًّا وزمنيًّا،‏<br />

وبني التاريخ علمً‏ ا يقوم على ‏سرد الوقائع يف اإطار زمني<br />

وفلسفي؟<br />

اأي لون من التاريخ تقدمه الرواية مبا هي نوع اأدبي<br />

له روؤيته وخصائصه املميزة؟ وهل بالإمكان العتماد على<br />

الرواية مصدرًا للتاريخ؟<br />

اإىل اأي مدى يوؤدي تكوين الكاتب وروؤيته واأسلوبه دورًا<br />

يف طريقة تناوله تفاصيل احلياة اليومية وهموم املعيشة يف<br />

الرواية التاريخية؟<br />

تتوقف الدراسة عند ثاث روايات تاريخية مصرية،‏<br />

حاولت استعادة فرتة حمددة من العصر اململوكي،‏ تلك<br />

العقود الأخرية الرهيبة التي ‏شهدت التخلخل التدريجي،‏ ثم<br />

النهيار املتسارع لسلطنة املماليك املستقلة،‏ التي ‏ساهمت<br />

لوقت طويل يف ‏صنع جوانب من حضارة املسلمني.‏<br />

الروايات الثاث موضوع الدرس التطبيقي هي:‏<br />

‏“على باب زويلة”‏ ملحمد ‏سعيد العريان )1947(<br />

‏»السائرون نيامً‏ ا«‏ لسعد مكاوي )1965(<br />

‏»الزيني بركات«‏ جلمال الغيطاين )1974(<br />

والكتاب الثاثة يجمعهم هذا الهتمام اخلاص<br />

بالتاريخ،‏ لكنهم مع ذلك ينتمون اإىل ثاثة اأجيال خمتلفة،‏<br />

كما اأن خلفياتهم الثقافية والسياسية تبدو خمتلفة؛ ومن ثم<br />

فقد اختلفت دوافعهم وروؤاهم يف استعادة تلك الفرتة من<br />

ذلك العصر،‏ كما اختلفت بطبيعة احلال اأساليبهم يف هذه<br />

الستعادة.‏<br />

اأبحاث


2 0 1 1<br />

82<br />

هموم املعيشة كما تصوِّرها الرواية التاريخية<br />

‏)العرص اململوكي منوذجً‏ ا(‏<br />

د.‏ خريي دومه<br />

)1(<br />

تَركّ‏ ز عمل الدرس العلمي يف العقود الأخرية،‏<br />

ولأسباب ودوافع متعددة،‏ على املناطق البينية الواصلة<br />

والفاصلة بني العلوم املختلفة.‏ وقد اأفضى هذا يف غالب<br />

الأحوال،‏ اإىل نوع من اإثراء العلم؛ ذلك اأن موضوع العلوم<br />

مهما تعددت،‏ ومهما توالت الأزمنة واختلفت الآراء،‏ هو<br />

الإنسان،‏ كما اأن من املعروف اأن من ينظرون اإىل حقل<br />

علمي من خارجه،‏ يكتشفون عادة زوايا جديدة للنظر،‏<br />

ويرون اأشياء ل يراها اأبناوؤه املتخصصون الغارقون يف<br />

مشكاته.‏<br />

وقد ‏شكلت املنطقة الواقعة بني الأدب والتاريخ<br />

موضوعً‏ ا للدرس من قدمي،‏ منذ اأن ميز اأرسطو متييزه<br />

الذي ‏صار ‏شهريًا بني الشعر ‏)اأو الفن اأو الأدب(‏<br />

والتاريخ،‏ باعتبار اأن املوؤرخ يحكي ما حدث فعاً،‏ يف<br />

حني يحكي الشاعر ما يحتمل حدوثه وفقً‏ ا لقانون فلسفي<br />

اأعم واأشمل هو قانون الحتمال والضرورة )1( . وقد ظلت<br />

هذه املنطقة مثار مناقشات وخافات حتى اليوم،‏ حيث<br />

يرتكز البحث من جديد وبقوة على طبيعة العاقة<br />

املربكة بني ما ‏صار يطلق عليه ‏»علم التاريخ«،‏ وما اأصبح<br />

يسمى ‏»الرواية«‏ اأو ‏»السرد«.‏<br />

هناك توجهات اأساسية يف املناقشات التي دارت<br />

حول طبيعة العاقة بني الرواية والتاريخ،‏ يحسن اأن نبداأ<br />

برصدها والتمييز بينها.‏<br />

- هناك اأولً‏ توجُّ‏ ه يرى ‏ضرورة الفصل اأو التمييز<br />

بني التاريخ بصفته علمً‏ ا،‏ والرواية بصفتها فنًّا؛ فاملوؤرخ<br />

- مهما تكن درجة ذاتيته - عاملِ‏ ٌ موضوعي،‏ يستخدم<br />

احلقائق والوثائق ليسجل ‏صورة عن تطور جماعة اأو اأمة<br />

اأو حتى تطور الإنسانية،‏ اأما الروائي - ومهما تكن درجة<br />

التزامه باحلقائق والوثائق املوضوعية - ففنانٌ‏ ذاتي،‏<br />

واحلقائق التاريخية بالنسبة له جمرد وسيلة اأو استعارة،‏<br />

يعرب من خالها عن ذاته وعن راأيه يف العامل.‏ اإن بعض<br />

دارصي التاريخ – من جهة - يدافعون عن علمهم،‏<br />

والسرد والرواية من وجهة نظرهم حمض خيال وحبكة،‏<br />

ورمبا يشكل استخدامها خطرً‏ ا داهمً‏ ا على التاريخ<br />

بصفته علمً‏ ا،‏ ومن هنا كانت دعوتهم اإىل التخلي يف كتابة<br />

التاريخ وتدوينه،‏ عن استخدام السرد اأو القص )2( . ومن<br />

جهة اأخرى،‏ فاإن بعض املبدعني يدافعون عن اإبداعهم،‏<br />

ويناأون به عن ‏صفة التاريخية اأو التسجيلية،‏ ول يرون يف<br />

املادة التاريخية – بعبارة األكسندر دوما الأب - ‏سوى<br />

‏»مسمار يشجبون عليه لوحاتهم«،‏ بل اإن بعضهم يرى يف<br />

‏»الرواية التاريخية«‏ مصطلحً‏ ا ‏»سخيفً‏ ا«،‏ اأو ‏»متناقضً‏ ا«‏<br />

على اأقل تقدير )3( .<br />

- وهناك ثانيًا توجُّ‏ ه يرى اأن التاريخ والسرد<br />

يتشابهان اإىل اأبعد حد،‏ ورمبا يتطابقان؛ فالرواية - من<br />

جهة – هي نوع من التاأريخ املستند اإىل بحث ووثائق<br />

ومعاينة ورمبا معاناة للأحداث والوقائع املحكية )4( ،<br />

والتاريخ - من جهة اأخرى ومن وجهة نظر ما - لن<br />

يكون تاريخً‏ ا حقيقيًّا،‏ اإل اإذا استند اإىل روؤية اأو فلسفة<br />

ذاتية،‏ جتمع الوقائع وتصوغها يف ‏صورة قصة لها حبكة<br />

وفيها ‏صراع ونتائج )5( . التاريخ والرواية كاهما نوع من<br />

حماكاة الوقائع وسردها،‏ وكل منهما يصوغ الوقائع<br />

والوثائق من منظور معني،‏ وكل منهما يستخدم اللغة يف<br />

‏صياغة هذه احلقائق.‏<br />

- ويف مقابل هذين التوجهني التقليديني،‏ هناك<br />

توجهان اآخران يقومان على نظريات السرد احلديثة<br />

وما بعد احلديثة )6( ، تلك النظريات التي - كما يقول<br />

هايدن وايت – ‏»نقضت التفرقة بني اخلطاب احلقيقي<br />

واخلطاب املتخيل،‏ التفرقة القائمة على تصور اختاف<br />

اأنطولوجي بني مرجعية اخلطابني،‏ اأي املرجعية احلقيقية<br />

واملرجعية اخليالية.‏ وقد جاء نقض هذه التفرقة لصالح<br />

تاأكيد اجلانب املشرتك بني اخلطابني«‏ )7( . اإن الفصل<br />

بني ما هو تاريخي وما هو اأدبي يواجه اليوم - كما تقول


83<br />

2 0 1 1<br />

ليندا هاتشيون - حتديًا كبريًا من قِ‏ بَل فن ‏)ونظرية(‏ ما<br />

بعد احلداثة،‏ ‏»وتتجه القراءات النقدية احلديثة للتاريخ<br />

والرواية اإىل الرتكيز على اأوجه التشابه ل الختاف<br />

بني هذين الشكلني من الكتابة؛ فقد لوحظ اأن كليهما<br />

يستمد قوته من التشابه مع الواقع وليس من اأي حقيقة<br />

موضوعية.‏ وكذلك فاإنهما يعدان بناءين لغويني استقرت<br />

لهما اأشكالهما السردية،‏ ول ميتلك اأيهما اليقني الكامل<br />

من ناحية اللغة اأو البناء،‏ كما اأنهما يبدوان متساويني يف<br />

مصاألة التناص،‏ اأي استخدام نصوص ‏سابقة يف النسيج<br />

النصي املعقد لكل منهما«‏ )8( .<br />

اأحد التوجهني يرى اأن الصرد والصردية هما<br />

الظاهرة الأصمل،‏ التي تضم كل ما يف حياتنا من<br />

ظواهر،‏ واأن السرد متامً‏ ا كاللغة،‏ خاصية جوهرية<br />

للإنسان،‏ واأن الإنسان ل يستطيع اأن يفهم احلياة ول<br />

اأن يصوغها بعيدً‏ ا عن هذه اخلاصية؛ فهو يوؤرخ بالسرد<br />

ويكتب العلوم بالسرد،‏ ويفكر بالسرد،‏ ويتحدث ‏سردً‏ ا.‏<br />

هناك عاقات اإشكالية بني الرواية والتاريخ،‏ حاضرة<br />

دائمً‏ ا يف كام منظري ما بعد احلداثة عن قضايا كثرية،‏<br />

مثل التناص والذاتية والأيديولوجيا،‏ وبعضهم ينظر<br />

اليوم اإىل القص بوصفه ‏»الأمر الأكرب«‏ الذي يشمل هذه<br />

القضايا كلها،‏ لأن عملية خلق القص قد اأصبحت ‏شكاً‏<br />

جوهريًّا من اأشكال الفكر الإنساين،‏ وتلعب دورها يف<br />

فرض املعنى والتساق الشكلي على فوضى الأحداث،‏<br />

والقص من وجهة نظرهم هو الذي يرتجم املعرفة اإىل<br />

حكي،‏ وهذه الرتجمة بالتحديد هي ما يشغل رواية ما<br />

بعد احلداثة ومنظريها.‏ اإنهم مييزون بني ‏»اأحداث«‏<br />

املاضي اأو التاريخ اأو حتى اأحداث احلياة الواقعية،‏<br />

وبني ‏»احلقائق«‏ التي نتوصل اإليها من هذه الأحداث اأو<br />

نعطيها اإياها؛ فاحلقائق اأحداث اأعطيناها معنى.‏ اإن<br />

مناظري تاريخية خمتلفة ‏ستصل من نفس الأحداث اإىل<br />

حقائق خمتلفة )9( .<br />

اأما التوجه الآخر،‏ فريى اأن الرواية لون من التاأريخ،‏<br />

لكنها تاريخ اآخر،‏ لأنها تقف على النقيض متامً‏ ا من<br />

التاريخ الرسمي؛ فهي من ناحية،‏ ‏»تاريخٌ‏ للمقموعني«،‏<br />

اأو ‏»تاريخ للعوام«،‏ اأو ‏»تاريخ ملن ل تاريخ لهم )10( ؛ وهي<br />

من ناحية اأخرى،‏ ل تتوقف عند رصد الوقائع اخلارجية،‏<br />

واإمنا تتجاوزها اإىل رصد مشاعر الناس اإزاء هذه<br />

الوقائع.‏ الرواية كما يقول هوؤلء،‏ هي تاريخ القلب اأو<br />

تاريخ الداخل؛ فاملصادر التاريخية ليست جيدة فيما<br />

يتعلق مبا يدور يف عقول الناس،‏ قد تكون قادرة اأن تقول<br />

لك بالضبط اأين كان ‏شخص معني يف يوم معني،‏ كما<br />

اأن باإمكانها اأن تقول لك ماذا فعل هذا الشخص،‏ ومن<br />

قابل،‏ ومن باع له وباأي ‏سعر..اإلخ.‏ اأحيانًا يكون باإمكان<br />

هذه املصادر حتى اأن تذكر لك ما قاله الناس.‏ غري اأن<br />

املصادر التاريخية – واملوؤرخني يف احلقيقة – رمبا ل<br />

يكون مبقدورهم اأبدً‏ ا اأن يتحدثوا عما ‏شعر به الناس<br />

اإزاء ما حدث،‏ برغم اأن ما نشعر به اإزاء ما يحدث هو<br />

يف الغالب اأهم ‏شيء فيه )11( . وهنا بالضبط ميكن اأن<br />

ندخل اإىل موضوعنا:‏ هموم املعيشة كما ‏صورتها الرواية<br />

التاريخية.‏<br />

)2(<br />

الرواية - باأشكالها املختلفة - نوعٌ‏ خاص جدًّ‏ ا من<br />

الأدب،‏ اأهم ما مييزه اأنه يتحرك – وبخاف اأنواع<br />

الأدب الأخرى-‏ يف اإطار من مشابهة الواقع.‏ الرواية<br />

‏شكل واقعي،‏ وواقعيتها كما يقول اأيان واط ‏»ل تكمن<br />

يف نوعية احلياة التي تعرضها،‏ واإمنا يف الطريقة التي<br />

تعرضها من خالها«‏ )12( مل يكن ممكنًا للرواية اأن تنصاأ<br />

ول اأن تصل اإىل قارئها احلديث اإل يف اإطار هذا التشابه<br />

مع الواقع؛ ومن ثم كانت عنايتها الفائقة بالتفاصيل<br />

وتفاصيل التفاصيل،‏ ومن ثم اأيضً‏ ا كانت اإمكانية اأن<br />

تتحول الرواية خصوصً‏ ا اإىل مصدر خصب للتاريخ،‏<br />

ولكن:‏ اأي نوع من الرواية؟ واأي نوع من التاريخ؟<br />

هناك ثاثة اأنواع من التاريخ،‏ اأو ثاث نوعيات<br />

من كتابة التاريخ،‏ كما يقول هيجل يف كتابه ‏»العقل يف<br />

التاريخ«،‏ ونحن ميكن اأن نضع يف موازاتها ثاثة اأنواع<br />

من الرواية -:<br />

1- التاريخ الأصلي،‏ اأي التاريخ الذي يكتبه املوؤرخ<br />

وهو يعيش الأحداث الأصلية،‏ ويف موازاة هذا النوع ميكن<br />

اأن تاأتي الرواية الواقعية؛ حيث يعيش الروائي اأحداث<br />

واقعه ويكتب واصفً‏ ا ما راآه بعينه وعايشه بنفسه.‏<br />

‎2‎‏-التاريخ النظري،‏ اأي التاريخ الذي يكتبه موؤرخ<br />

بعد مرور زمن على وقوع الأحداث الأصلية،‏ معتمدً‏ ا على<br />

ما وصله من الوثائق وما رواه الشهود يف كتبهم.‏ ويف<br />

موازاة هذا النوع من التاريخ تاأتي الرواية التاريخية؛<br />

فهي اأيضً‏ ا عودة اإىل التاريخ الأصلي،‏ ولكن اعتمادً‏ ا على<br />

اأبحاث


2 0 1 1<br />

84<br />

الكتب والوثائق ل على الروؤية اأو املعايشة.‏<br />

3- التاريخ الفلسفي،‏ وهو لون من التفكري يف<br />

التاريخ اأو فلسفة التاريخ،‏ ويف موازاته تاأتي الروايات<br />

التي تستلهم التاريخ،‏ حيث تصبح ‏شخصية معينة اأو<br />

حادث معني بواعث تدفع الكاتب نحو التفكري يف التاريخ<br />

والزمن يف عمومه.‏<br />

وهكذا ميكن القول اإن الرواية مبختلف اأشكالها نوع<br />

من التاريخ؛ فكل نوع من الرواية يوازي – بصورة ما -<br />

لونًا من الكتابة التاريخية.‏<br />

غري اأن الرواية - مع ذلك - ل ميكن اأن تكون وثيقة<br />

من وثائق املوؤرخ ميكن العتداد بها،‏ حتى يف حالة الرواية<br />

الواقعية التي توازي النوع الأول من التاريخ،‏ حيث يتحدث<br />

الروائي عن اأشياء راآها وعاشها،‏ اأو على الأقل استعادها<br />

وكتبها يف اإطار املرئي واملعيش يف واقعه.‏ رمبا ميكن<br />

لثاثية جنيب حمفوظ مثاً،‏ اأن تكون يف املستقبل ‏-اإىل<br />

مدى حمدود وباحرتازات معينة-‏ وثيقة من وثائق تاريخ<br />

القاهرة يف النصف الأول من القرن العشرين،‏ وكذلك<br />

ميكن لروايات ‏صنع اهلل اإبراهيم ويوسف القعيد وبهاء<br />

طاهر،‏ اأن تصبح يف املستقبل وثيقة من وثائق تاريخ<br />

مصر يف النص الثاين من القرن العشرين،‏ متامً‏ ا كما<br />

اأن كتب املقريزي وابن تغري بردي وابن اإياس،‏ اأولئك<br />

الذين عاشوا فرتات من العصر اململوكي وكانوا موؤرخني<br />

اأصليني،‏ قد اأصبحت اليوم روايات واقعية ووثائق لتاريخ<br />

اجلزء الأخري من ذلك العصر.‏ ومع ذلك تظل هناك<br />

‏-حتى يف هذه احلالة-‏ مسافة ل ميكن ردمها بني ما<br />

حدث يف الواقع وما نقلته اللغة والنصوص املكتوبة.‏<br />

اأما النوعان الآخران من الرواية ومن التاريخ اأيضً‏ ا<br />

‏-حيث مل يعش الراوي الأحداث ومل ير الشخصيات،‏<br />

واإمنا هو يستعيدها ويتصورها ويبنيها ويسردها،‏<br />

مستعينًا بوثائق وبروايات اأصلية جاءته من زمن هذه<br />

احلوادث-‏ فمن الصعوبة مبكان اأن تتحول مادتهما اإىل<br />

وثيقة؛ لأن الكاتب فيهما ‏)سواء كان روائيًّا اأو موؤرِّخً‏ ا(‏<br />

يكتب مدفوعً‏ ا بهموم احلاضر،‏ وموجّ‏ هً‏ ا بدرجات من<br />

الروؤية الذاتية والفلسفة اخلاصة،‏ وحمتشدً‏ ا بقدر<br />

من التاأمل الفلسفي يف التاريخ العام ودوراته واأقداره<br />

ومصائره،‏ كما اأنه يكتب وقد اكتملت الأحداث وحتددت<br />

املصائر التاريخية متامً‏ ا.‏ اإن هذين النوعني من الرواية<br />

‏)ورمبا من التاريخ اأيضً‏ ا(‏ ينطويان بالضرورة على قدر<br />

من التمرد على التاريخ الرسمي املكتوب،‏ وقدر من<br />

الرغبة يف اإعادة كتابته.‏ وهكذا تزداد املسافة اتساعً‏ ا<br />

وعمقً‏ ا،‏ بني ما حدث يف املاضي وما هو مكتوب اليوم.‏<br />

غري اأن هناك مع ذلك فارقًا اأساسيًّا بني الروايات<br />

التاريخية والروايات التي تستلهم التاريخ من ناحية،‏<br />

والتاريخ النظري والتاريخ الفلسفي من ناحية اأخرى.‏<br />

هذا الفارق هو نفسه الفارق بني فن الرواية وعلم<br />

التاريخ الرسمي.‏ الرواية بصفتها فنًّا اأدبيًّا خاصً‏ ا،‏ تقوم<br />

على مناوشة املحرمات،‏ ورفض ‏سلطة الصوت الواحد<br />

املتناغم،‏ والنتصار بدلً‏ من ذلك لاحتفال الكرنفايل<br />

الذي ينهض على الأصوات املتعددة واملتنوعة،‏ كما ينهض<br />

على خلط الوضيع بالرفيع والفصيح بالعامي..اإلخ،‏<br />

كل هذا يف مقابل التاريخ الرسمي الذي هو يف الغالب<br />

قرين السلطة التي ل حتتفي اإل باحلكام واملنتصرين<br />

والأسياد.‏ وهكذا فاإن الرواية تعتني ‏-بالإضافة اإىل<br />

السادة واحلكام طبعًا-‏ بالقاع املقموع،‏ بعامة الناس،‏<br />

باحلياة اليومية،‏ بل بحياة الناس من الداخل،‏ وما<br />

يشعرون به من اأمل وغربة يف عاملهم الغريب.‏ الرواية ل<br />

حتكي عن اأناس املاضي بقدر ما تتقمصهم من الداخل<br />

وحتضرهم اأمامنا وهم ميارسون حياتهم اليومية بكل<br />

ما فيها من تفاصيل واأفراح واأتراح ‏صغرية،‏ وكل هذه<br />

‏سمات تعطيها الفرصة الطبيعية الأوسع والأعمق،‏ لرسم<br />

مشاهد احلياة وتفاصيلها وهمومها.‏<br />

ليس من اأهداف الرواية التاريخية اأن تستعيد<br />

املاضي بشخصياته ولغته واأزيائه،‏ واإمنا هدفها الأساس<br />

‏-كما يقول لوكاش-‏ اأن تنطلق من احلاضر،‏ واأن تصور<br />

السياق الكلي للحياة الجتماعية،‏ ‏سواء كانت حاضرة<br />

اأم ماضية،‏ يف ‏شكل قصصي ‏سردي.‏ اإنها تضع احلاضر<br />

يف مقابل املاضي،‏ وتاحظ ما بينهما من عاقات.‏<br />

الرواية التاريخية ليست جمرد كتاب تدور اأحداثه<br />

وتاأتي ‏شخصياته من املاضي.‏ اإن ما مييز الروايات<br />

التي تدور اأحداثها يف املاضي عن ‏»الرواية التاريخية«‏<br />

احلقيقية،‏ هو الوعي مبوضوع التاريخ نفسه،‏ والعناية<br />

به؛ فالروايات التاريخية مكتوبة عن قناعة باأن يد<br />

التاريخ اخلفية ماثلة يف كل مكان من اأمكنة احلاضر،‏<br />

واأن التاريخ هو اأحد الطرق الأساسية التي نفهم اأنفسنا<br />

من خالها،‏ ل بصفتنا كائنات يف جمتمع فحسب،‏ بل<br />

اأيضً‏ ا بصفتنا اأفرادً‏ ا.‏ ومن هذه الزاوية تُعد الروايات


85<br />

2 0 1 1<br />

التاريخية روايات حديثة،‏ لأنها معنيّة – رمبا اأكرث من<br />

كتب التاريخ التقليدي - باكتشاف كيف وملاذا وصلنا اإىل<br />

ما نحن عليه اليوم،‏ كما اأنها تنزع اإىل تذويب التفرقة<br />

بني احلاضر واملاضي،‏ واستعادة الصلة بينهما )13( .<br />

هذه الفروق نفسها بني التاريخ الرسمي من ناحية،‏<br />

والرواية التاريخية من ناحية اأخرى،‏ هي التي تربر لنا<br />

الآن اأن ننظر يف الروايات التاريخية،‏ لرنى كيف ‏صنع<br />

اخليال الروائي من الوثائق،‏ ومن التفاصيل املنثورة يف<br />

كتب التاريخ ‏»الأصلي«،‏ ‏صورة عميقة ومركبة)وواقعية؟(‏<br />

لهموم املعيشة يف العصر اململوكي.‏<br />

)3(<br />

هذه الدراسة تتوقف عند ثاث روايات تاريخية<br />

مصرية،‏ حاولت استعادة فرتة حمددة من العصر<br />

اململوكي،‏ تلك العقود الأخرية الرهيبة التي ‏شهدت<br />

التخلخل التدريجي،‏ ثم النهيار املتسارع لسلطنة<br />

املماليك املستقلة،‏ التي ‏ساهمت لوقت طويل يف ‏صنع<br />

جوانب من حضارة املسلمني.‏<br />

الروايات الثاث موضوع الدرس التطبيقي هي:‏<br />

‏»على باب زويلة«‏ )14( ملحمد ‏سعيد العريان،‏ و«السائرون<br />

نيامً‏ ا«‏ )15( لسعد مكاوي،‏ و»الزيني بركات«‏ )16( جلمال<br />

الغيطاين.‏<br />

والكتاب الثاثة يجمعهم هذا الهتمام اخلاص<br />

بالتاريخ )17( ، لكنهم مع ذلك ينتمون اإىل ثاثة اأجيال<br />

خمتلفة،‏ كما اأن خلفياتهم الثقافية والسياسية تبدو<br />

خمتلفة؛ ومن ثم فقد اختلفت دوافعهم وروؤاهم يف<br />

استعادة تلك الفرتة من ذلك العصر،‏ كما اختلفت<br />

بطبيعة احلال اأساليبهم يف هذه الستعادة.‏<br />

حممد ‏سعيد العريان )1964-1905(، وهو اأقدم<br />

الكتاب الثاثة،‏ مل يتحدث ‏صراحة عن دوافعه يف كتابة<br />

‏»على باب زويلة«‏ عام 1947، ومع ذلك فاإن باإمكان<br />

من يعرفونه ‏-مقدِّ‏ مً‏ ا لبعض روايات ‏شوقي التاريخية،‏<br />

وتلميذً‏ ا لعلي اجلارم،‏ وحمررًا لأعمال الرافعي وكاتبًا<br />

لسريته،‏ وموظفً‏ ا يف ‏صحبة طه حسني-‏ اأن يدركوا رغبته<br />

يف استخدام ما ورثه من اأساليب هوؤلء الكتاب،‏ لتقدمي<br />

‏صور من التاريخ العربي الإصامي،‏ يف مقابل غريه من<br />

كتاب جيله الذين ذهبوا اإىل التاريخ الفرعوين كنجيب<br />

حمفوظ وعادل كامل )18( .<br />

كانت لدى العريان رغبة رومانتيكية يف الكتابة<br />

العاطفية عن ‏شخصيات مركبة كصجرة الدر،‏<br />

ومنحنيات خطرة كلحظة ‏شنق طومان باي على باب<br />

زويلة،‏ وهو خال ذلك يستعيد التاريخ،‏ متخياً‏ حياة<br />

الرجل املاأساوية من بدايتها اإىل نهايتها،‏ ويجد يف<br />

ذلك كله موضوعات ميكن اأن تتحول اإىل ميلودراما<br />

مبكية،‏ اأو اإىل دفاع ‏شعري عن احلضارة الإصامية اأو<br />

عن املصريني يف مواجهة املماليك،‏ من دون حاجة اإىل<br />

اإدراك كاف للمحيط التاريخي الجتماعي املركب،‏ الذي<br />

تظهر فيه الهموم اليومية للناس العاديني زمن املماليك،‏<br />

ومن دون حاجة كذلك اإىل الرتباط مع احلاضر،‏ اأي<br />

مع الهموم املعاصرة لكاتب مصري يف اأربعينيات القرن<br />

العشرين )19( .<br />

وسعد مكاوي )1985-1916(، الذي كتب السائرون<br />

نيامً‏ ا ونشرها اأواسط الستينات )20( وقبل هزمية العام<br />

السابع والستني الكبرية،‏ يكتب من البداية مهمومً‏ ا مباآزق<br />

احلاضر التي حركته ودفعته دفعًا اإىل ذلك العصر<br />

اململوكي،‏ واإىل تلك الفرتة املحددة منه،‏ حيث تصاعد<br />

‏صراع الأمراء على السلطة واملكاسب،‏ فيما يشبه ما<br />

حدث مع ‏ضباط يوليو.‏ يقول ‏سعد مكاوي:‏ ‏»مل اأكن<br />

اأرغب يف بعث فرتة من التاريخ اململوكي،‏ .. و«السائرون<br />

نيامً‏ ا«‏ هي موقف فاح مصري مثقف،‏ عايش عصرنا،‏<br />

ووجد يف فرتة تاريخية معينة من ماضي اأمته،‏ ما ميكن<br />

اأن يكون ‏شاهدً‏ ا على عصره«‏ )21( .<br />

اأما جمال الغيطاين)‏‎1945‎‏-‏ (، الذي كتب روايته<br />

بعد وقوع هزمية 1967، ونشرها اأواسط السبعينات )22( ،<br />

فينطلق هو الآخر من حاضره ومن جتربته الشخصية<br />

وجتربة اأبناء جيله من الشباب الذين غيبتهم ‏سجون<br />

ثورة يوليو،‏ لكنه يلتقط جانبًا اآخر من التماثل بني عصره<br />

والعصر الذي يستعيده،‏ وهو جانب اجلاسوسية اخلانقة<br />

املخيفة.‏ يقول:‏ ‏»كان ترحايل يف تاريخ مصر اململوكية<br />

عامًّ‏ ا،‏ لكني بعد عام 1967، عدت لأصغي من جديد اإىل<br />

موؤرخ مصري ‏سبق اأن استوقفني ‏صوته الفريد،‏ الغني<br />

الشجي،‏ اإنه حممد اأحمد بن اإياس،‏ ‏صاحب ‏»بدائع<br />

الزهور يف وقائع الدهور«،‏ وتوقفت اأكرث عند الفرتة التي<br />

يصف فيها ما جرى ملصر على اأيدي العثمانيني.‏ كنت<br />

اأرى ما جرى ملصر يف يونيو 1967 من زاوية اأخرى،‏<br />

من هذا العمق الزمني البعيد..‏ من موقع هذا املوؤرخ يف<br />

اأبحاث


2 0 1 1<br />

86<br />

املاضي راأيت احلاضر « )32( .<br />

ينتمي الكتاب الثاثة اإذن،‏ اإىل ثاثة اأجيال<br />

خمتلفة،‏ وميثلون مراحل ثاث خمتلفة يف تاريخ الرواية<br />

العربية يف مصر؛ فالأول كتب روايته ماأخوذً‏ ا بالرتاث<br />

العربي واأساليبه،‏ وتلميذً‏ ا للمنافحني عنه،‏ ومنتميًا<br />

بوعيه وعاطفته وجتربته اإىل فئة من جيل الرومانتيكيني<br />

التعبرييني من الكتاب والشعراء )24( ، والثاين كتب روايته<br />

بعد اأن قضى اجلانب الأكرب من حياته منافحً‏ ا عن<br />

الواقعية)الشرتاكية خصوصً‏ ا(‏ ممثاً‏ لها يف جمموعاته<br />

القصصية،‏ وممارسً‏ ا للكتابة وفقً‏ ا ملنظورها )25( . اأما<br />

الثالث فكان ينتمي اإىل جيل جديد من الكتاب،‏ ولدت<br />

جتربته مع هزمية 1967، نعم تتلمذ على الواقعيني،‏ لكنه<br />

اأدرك اخلديعة التي وقعوا فيها،‏ وبداأ يبحث عن طرق<br />

جديدة للعمل على الواقع اجلديد املرعب )36( .<br />

وكان من الطبيعي اأن توؤدي هذه الدوافع<br />

والتجارب املختلفة للكتاب الثاثة،‏ اإىل نظرة خمتلفة<br />

للتاريخ وملعناه.‏ ومع اأنهم ذهبوا ثاثتهم اإىل املرحلة<br />

نفسها ‏)نهايات العصر اململوكي(،‏ فاإن اأساليبهم يف<br />

النظر اإىل التاريخ واأهدافهم من وراء استعادته كانت<br />

خمتلفة متامً‏ ا.‏<br />

كل واحد من الكتاب الثاثة يتعامل مع التاريخ<br />

)27(<br />

بشكل خمتلف عن الأخر:‏ العريان يكتب يف ‏صيغة<br />

الرومانس،‏ مستكماً‏ – ‏صاأن اأبناء جيله – ما بداأه<br />

الرائد جورجي زيدان )28( ، مستعيدً‏ ا ومستمتعًا وباكيًا<br />

ومعلِّمً‏ ا ومسلّيًا،‏ ومصطنعًا ماأساة فارس ‏)طومان باي(‏<br />

تبداأ يف باد الكُ‏ رج)جورجيا(‏ وتنتهي على باب زويلة<br />

بالقاهرة.‏ ومكاوي يكتب وكاأنه ل يكتب رواية تاريخية<br />

بل يستكمل قصصه الواقعية عن احلاضر املصري،‏<br />

وخصوصً‏ ا يف اأوساط فاحي القرية واأجرائها وحريف<br />

املدينة ومشايخها وسادتها،‏ ‏صانعًا ‏صراعً‏ ا ل يكاد<br />

ينتهي بني السادة والعبيد،‏ وبني الأغنياء والفقراء . اأما<br />

الغيطاين فيكتب يف ‏صيغة اأقرب ما تكون اإىل املفارقة<br />

والهجاء؛ اإذ تنطوي كتابته على حماكاة ‏ساخرة للكتابة<br />

التاريخية اململوكية ‏)خصوصً‏ ا ابن اإياس(،‏ اأو على<br />

توظيفات متعددة لهذه الكتابة،‏ كما ينطوي على تغريب<br />

واضح وكسر للألفة واصطناع ملسافة ماأمونة مع الواقع<br />

املعاصر.‏ وهذا كله يعني اأن كل واحد من الكتاب الثاثة،‏<br />

اإمنا يستكمل يف روايته رحلةً‏ ومسريةً‏ يف الكتابة والأسلوب<br />

والروؤية،‏ كان قد بداأها يف اأعماله الأدبية السابقة ‏صحبة<br />

اأبناء جيله.‏<br />

للروايات الثاث ‏-ورمبا لكل رواية تاريخية-‏<br />

جانبان:‏ الأول يسري مبحاذاة الأحداث التاريخية التي<br />

وقعت يف املاضي،‏ وهذا جانب يتصل يف العادة مبا رواه<br />

التاريخ عن امللوك والأتابك والعسكر والشخصيات<br />

واملعارك الشهرية.‏ اأما اجلانب الآخر فيستلهم املاضي<br />

فقط ويقوم ‏)مستعينًا مبا ذكرته كتب التاريخ اأيضً‏ ا،‏<br />

ولكن بعد اأن يضيف ويبدل ويغري؛ لأنه يشعر اأن هذا<br />

اجلانب الداخلي من الرواية ملكه هو وحده(‏ - يقوم<br />

باإعادة خلق كاملة لتجسيد احلياة اليومية وكيف تسري،‏<br />

فيطلعنا يف خال ذلك على هموم املعيشة وما يفكر فيه<br />

الناس وما يحلمون به وما ينتشر بينهم من اإشاعات<br />

.. اإلخ.‏ وكل رواية تاريخية تنهض يف حقيقتها على<br />

طريقة التفاعل بني هذين اجلانبني:‏ الشخصي الذاتي<br />

والتاريخي الرسمي.‏<br />

يكتب الروائي ‏)وكذلك املوؤرخ(‏ لقرائه الذين<br />

يعيشون معه اليوم يف هموم احلاضر وينظرون اإىل<br />

املستقبل.‏ وحني يستدعي التاريخ باأي ‏صورة وباأي درجة،‏<br />

فاإمنا يستدعيه لأهداف:‏ فهو اإما يقدم لقرائه عاملًا<br />

مسلِّيًا وممتعًا مفارقًا لواقعهم،‏ ول مانع خال ذلك اأن<br />

يعلمهم وميتعهم ببعض احلوادث والدقائق واملفردات<br />

املنقرضة،‏ مبا يتاءم متامً‏ ا مع خلق عامل روائي متخيل؛<br />

واإما هو يفعل ذلك كله،‏ ‏صانعًا موازاة بني دورتني من<br />

دورات التاريخ حدثت الأوىل يف املاضي وانتهت،‏ وها هي<br />

دورة ثانية حتدث الآن وستنتهي حتمً‏ ا؛ واإما هو يبحث<br />

فيما حدث بالأمس القريب،‏ اأو البعيد نسبيًّا،‏ عن جذور<br />

ما يحدث اليوم؛ واإما هو ينظر اإىل احلياة الإنسانية كلها<br />

خطًّ‏ ا واحدً‏ ا متصاً‏ منذ بداأ الزمان واإىل اأن ينتهي.‏<br />

وكما اأن كل رواية كبرية تطرح بالضرورة ‏صوؤال<br />

النوع الروائي كله؛ فكذلك كل رواية تاريخية كبرية تعيد<br />

طرح الصوؤال عن ماهية الرواية التاريخية.‏ هل هناك حقًّا<br />

رواية تاريخية ورواية غري تاريخية اأم اأن كل كتابة عن<br />

عامل الإنسان هي لون خاص من كتابة التاريخ والبحث<br />

فيه؟ اأين ينتهي التاريخ واأين يبداأ الواقع املعيش؟<br />

ومع تقديرنا لكل هذه الأسئلة الوجيهة متامً‏ ا،‏<br />

ولكل الذين ‏صككوا يف جدوى مصطلح ‏»الرواية<br />

التاريخية«)هوارد فاست مثاً(؛ فاإن اختيار زمن


87<br />

2 0 1 1<br />

تاريخي بعيد عنا لتدور فيه الأحداث،‏ واختيار ‏شخصيات<br />

وموضوعات واأماكن تاريخية لتملأ فضاء الرواية،‏<br />

يفرض ‏شروطه بالضرورة على النوع،‏ ل اأعني من جهة<br />

املوضوع اأو املادة فقط،‏ واإمنا اأيضً‏ ا وقبل ذلك،‏ من جهة<br />

الفن؛ اأي الأسلوب وتقاليد البناء.‏<br />

)4(<br />

اأول ما يلفت النظر يف رواية العريان،‏ ولعله اآخر<br />

ما يبقى منها اأيضً‏ ا يف ذاكرة القارئ،‏ عنوانها:‏ ‏»على<br />

باب زويلة«،‏ وهو عنوان ل يشري اإىل جمرد مكان ‏)باب<br />

زويلة،‏ اأحد اأبواب القاهرة اململوكية(،‏ واإمنا يحكي ‏-واإن<br />

‏ضمنًا-‏ حدثًا تاريخيًّا ل ‏سبيل اإىل نسيانه،‏ وهو حدث<br />

متعلق بصيغة اجلار واملجرور التي يتاألف منها العنوان؛<br />

اإذ يقول لنا علماء النحو اإن ‏صيغة اجلار واملجرور ل<br />

يكتمل معناها ويفيد اإل مبتعلقاتها،‏ ونحن نعرف وقبل<br />

اأن تبداأ الرواية اأن ما وقع ‏»على باب زويلة«‏ وارتبط به،‏<br />

هو ‏شنق طومان باي،‏ السلطان الشاب واآخر ‏صاطني<br />

الدولة اململوكية،‏ على يد ‏سليم الأول قائد احلملة<br />

العثمانية املنتصرة على املماليك يف موقعتي مرج دابق<br />

1516 والريدانية ‎1517‎م.‏<br />

هذه اإذن،‏ وحتى قبل اأن نبداأ،‏ رواية تاريخية،‏<br />

وعنوانها يشري اأيضً‏ ا اإىل اأنها رمبا تكون رواية عن<br />

اآخرة املماليك اأو ‏)واقعة السلطان الغوري مع ‏سليم<br />

العثماين(،‏ ورمبا كما رواها ابن زنبل الرمال يف كتابه<br />

الذي يحمل هذا العنوان ذاته )29( . ولكن املوؤلف ل يكتفي<br />

بذلك،‏ واإمنا يضيف وحتت العنوان مباشرة لفتة تقول:‏<br />

‏»قصة تاريخية«.‏<br />

بل اإن املوؤلف،‏ وبعد فهرس عناوين الفصول<br />

وفهرس الصور املرافقة للقصة،‏ وقبل اأن تبداأ احلوادث<br />

الفعلية،‏ وبعبارة حاسمة حتتل ‏صفحة كاملة وتنفي اأي<br />

‏شك اأننا باإزاء قصة تاريخية بداأت وانتهت،‏ يقول موجّ‏ هً‏ ا<br />

حديثه لقراء اليوم 1947:<br />

بداأت حوادث<br />

هذه القصة منذ<br />

خمسمائة ‏سنة يف<br />

بالد الكُرج ‏»جورجيا:‏<br />

موطن ‏ستاليني«،‏<br />

وانتهت بالقاهرة يف<br />

قصور السالطني.‏<br />

‏)الرواية،‏ ‏ص 1(<br />

على باب زويلة ‏»قصة«‏ لعب اخليال دوره يف بنائها<br />

ويف استعادة تفاصيلها كما يحدث يف كل القصص،‏<br />

ولكنها اأيضً‏ ا قصة ‏»تاريخية«،‏ حتكي رحلة بطل تاريخي<br />

من بدايتها اإىل نهايتها،‏ اأي منذ ولد طومان باي يف باد<br />

الكرج ‏)جورجيا الآن كما يقول لنا املوؤلف،‏ مضيفً‏ ا اأنها<br />

موطن ‏ستالني!(،‏ وحتى مات مشنوقً‏ ا على باب زويلة<br />

بالقاهرة.‏ غري اأن املوؤلف ل يقول لنا يف هذه اجلملة<br />

التلخيصية احلاسمة اأن احلوادث انتهت باملوت على<br />

باب زويلة،‏ واإمنا انتهت ‏»يف قصور الصاطني بالقاهرة«،‏<br />

وكاأنه يقول اإن القصة التي بداأت بصبي اأعجمي فقري<br />

هناك عند مضارب خيام القبج يف اأقصى باد املسلمني<br />

‏)التي اأصبحت الآن بلد الشيوعية!(،‏ انتهت به ‏سلطانًا<br />

على العرب املسلمني يف قصور الصاطني،‏ هنا يف<br />

القاهرة،‏ اإحدى العواصم الإصامية الزاهرة.‏ وهكذا<br />

تنقل لنا العتبات الأوىل للكتاب،‏ كثريًا من املعلومات عن<br />

فحواه وروؤيته للتاريخ،‏ فماذا بقي لكي ينقله لنا املوؤلف<br />

يف منت الكتاب كله؟<br />

يتاألف كتاب ‏»على باب زويلة«‏ من ‏سبعة وثاثني<br />

فصاً،‏ يستقل كل فصل منها بعنوانه،‏ الذي قد يكون<br />

اسم مكان ‏)يف باد الكرج،‏ يف باد الروم(‏ اأو اسم<br />

‏شخصية ‏)قنصوه الغوري،‏ ‏شهد دار،‏ اأرقم الرمال(‏ اأو<br />

مرحلة من احلوادث التي تتاألف منها احلكاية ‏)عودة<br />

املاضي،‏ خطوات الزمن،‏ نذير العاصفة،‏ بوادر املعركة،‏<br />

اآخر الطريق(،‏ وعناوين الفصول كلها على اأية حال،‏<br />

فصاً‏ عن رغبتها يف تلخيص احلوادث وتتبع مراحل<br />

القصة،‏ حتمل طابعًا رومانتيكيًّا يشبه عناوين مقالت<br />

املنفلوطي الشهرية ‏)اأحام جارية،‏ ‏سلطان الشهوات،‏<br />

اأنباء من الغيب،‏ لفتات الذكرى،‏ اأدراج الرياح،‏ وراء<br />

الأكمة،‏ ‏شعاع من النور(.‏<br />

ولكن ما الذي تقوله هذه الفصول السبع<br />

والثاثون؟ اإنها يف احلقيقة تتبع اخليط الرئيسي<br />

الظاهر من قصة الطفل طومان باي،‏ الذي اختطفه<br />

جتار الرقيق من اأحضان اأمه هناك يف خيام قبائل<br />

القبج،‏ ثم رحلوا ليبيعوه يف قصور الصاطني يف حلب<br />

والقاهرة.‏ ول تكاد الرواية تغوص اإىل ما حتت ذلك<br />

اخليط اخلارجي الظاهر من الأحداث اإل قلياً،‏ فصاً‏<br />

اأبحاث


2 0 1 1<br />

88<br />

عن اأن تغوص يف نفوس ‏شخصياتها الرئيسية ‏)طومان،‏<br />

واأمه،‏ واأبوه مثاً(‏ التي حتمل همومً‏ ا واأبعادً‏ ا ل حدود<br />

لها.‏ اإن الراوي العليم يحكي قصته وعينه من البداية<br />

على نقطة النهاية التي يجسدها العنوان،‏ حيث الذروة<br />

الدرامية املتمثلة يف الهزمية والشنق )30( ؛ ومن ثم فاإنه<br />

يقفز قفزً‏ ا على املراحل،‏ حتى واإن تلبّث عند بعض<br />

الذرى الدرامية اخلصبة املضيئة،‏ مثل اللقاءات العابرة<br />

بني اأفراد من الأهل الغرباء،‏ ومثل املعارك احلربية بني<br />

طومان واأعدائه..‏ اإلخ.‏<br />

ومل يكن اأمام العريان وقد فاتته اإمكانات باغة<br />

الرواية،‏ اإل اأن يعتمد اأكرث فاأكرث على باغة اللغة.‏ كان<br />

الرجل معنيًّا اأكرب عناية بالأسلوب البليغ باغة لغوية،‏<br />

)31(<br />

حتى لو تناقض هذا الأسلوب مع جوهر الفن الروائي<br />

القائم على مشابهة الواقع كما قلت؛ ومن ثم فقد عاقه<br />

ذلك عن اكتشاف التفاصيل الغنية،‏ فلم تكن معرفته<br />

بفن الرواية تسمح باإدراك هذا اجلانب،‏ ومن ثم مل تكن<br />

روايته اأكرث من ‏صياغة ميلودرامية بليغة حلياة طومان<br />

باي وماأساته،‏ من ‏سطحها ل يف عمقها.‏<br />

يف بداية الرواية،‏ اجلزء الذي يقوم فيه الروائيون<br />

عادة بوصف تفاصيل العامل املحيط بشخوصهم،‏ يف<br />

تقدمية درامية تنقل القارئ اإىل مكان وزمان تاريخيني<br />

حمددين،‏ وتهيئه ملا هو مقبل عليه من اأحداث وشخوص<br />

وصراعات،‏ يتحدث العريان معتمدً‏ ا باغة النرث العربي<br />

التقليدية ل باغة الرواية الناهضة.‏ يقول:‏<br />

‏»ويف ليلة من ليايل<br />

الربيع رقراقة النسيم،‏<br />

معطارة االأرج،‏ هوى اأهل<br />

العشيرة اإىل مضاربهم<br />

هادئني وادعيني،‏ وانسرحت<br />

اأحالمهم ملا وراء هذه اجلبال<br />

الشُّ‏ مِّ‏ ، تطوِّف يف االآفاق وراء<br />

بعض من فارقهم من الفتيان<br />

والفتيات،‏ راضني اأو كارهني،‏<br />

اإىل حيث يلقَون اجلاه والغنى<br />

والسعادة،‏ اأو حيث يحتملون<br />

الهوان واملذلّة وضيق العيش<br />

واأنكاد احلياة!‏<br />

وكانت خيام العشرة<br />

متناثرة على غير نظام،‏<br />

يقرتب بعضها من بعض حينًا<br />

ويتباعد بعضها عن بعض<br />

اأحيانًا،‏ وقد اأسبغ الليل رداءه<br />

على الغور كله فال بصيص<br />

من نور،‏ وضرب الصمت<br />

على اآذان االأيقاظ والنائمني<br />

من اأهل احلي،‏ فال حس وال<br />

حركة،‏ اإال عواء كلب،‏ اأو ثغاء<br />

عنز،‏ اأو ‏ضُ‏ غاء طفل رضيع،‏<br />

واإال زفيف الريح تضرب يف<br />

مسالكها بني اخليام املتناثرة،‏<br />

فتضطرب االأطناب يف اأوتادها<br />

وتهز البيوت هزة خفيفة كما<br />

تهدهد االأم وليدها لينام!«‏<br />

‏)الرواية ‏ص 4(<br />

واإذا كانت مثل هذه اللغة مقبولة يف مطالع<br />

الروايات،‏ خصوصً‏ ا اإذا كانت مطالع رعوية تصف لياً‏<br />

وخيامً‏ ا وسهولً‏ خضراء،‏ فاإنها ‏ستبدو اأمرً‏ ا بالغ الغرابة<br />

حني توصف من خالها الوقائع والأحداث التاريخية<br />

العامة واليومية اخلاصة؛ فبعد ‏صفحات قليلة يتحدث<br />

الراوي عن عاقة قايتباي ببايزيد العثماين والد ‏سليم<br />

الأول،‏ فيقول:«‏ مل تكن الأمور يف ذلك الوقت بني بايزيد<br />

العثماين والأشرف قايتباي ‏سائرة على نهج الصفاء<br />

واملودة؛ فاإن كاًّ‏ منهما ليرتبص بصاحبه غرة يناله بها<br />

اأو ينال منه..«)ص 19( ولن يتورع الراوي بعد ‏صفحات<br />

قليلة عن استخدام السجع،‏ ليصف من خاله ‏صراع<br />

اأمراء املماليك على السلطة،‏ فيقول يف مونولوج غري<br />

مباشر يرد على ذهن قنصوه الغوري:«‏ نعم اإنه من اأقدم<br />

مماليك الأشرف قايتباي واأدناهم اإليه منزلة،‏ ولكن<br />

اأين هو من اأقربدي وقنصوه اخلمسمئي؟ واأين وسائله<br />

يف الكفاح.‏ اإنه ل ميلك املال الذي يصطنع به الأشياع،‏<br />

ول اجلاه الذي يتكرثّ‏ به من الأتباع،‏ وليس له كغريه<br />

من الأمراء جيش يعده للهجوم والدفاع..«‏ ‏)ص‎29‎‏(‏<br />

وهو مغرم مبفردات واأوصاف ثابتة يرددها يف كل وقت<br />

ويف وصف كل ‏شخص،‏ بحيث تتحول كل الشخصيات<br />

تقريبًا اإىل ‏سطح ل عمق له؛ فقنصوه الأصريف كان


89<br />

2 0 1 1<br />

‏»فتى يف عنفوانه،‏ واسع الذرع،‏ بعيد احليلة،‏ فسيح<br />

مطارح الآمال..«‏ ‏)ص 48( اأما اأرقم الرمال،‏ فوصفه<br />

الكاريكاتوري الثابت الذي ‏سيتكرر مرات عدة على<br />

مدار الرواية،‏ اأنه ‏»رجل مشوه اخللق،‏ اأصلم الأذن،‏<br />

معوج الساقني،‏ مستكرش البطن،‏ كاأنه ‏صرة ثياب على<br />

عصوين من قصب«‏ ‏)ص 69(<br />

كانت عناية العريان منصبة على حكي الوقائع<br />

التاريخية الرسمية،‏ ومن ثم فاإن تركيزه انصب<br />

على الشخصيات التاريخية الشهرية من احلكام<br />

وصراعاتهم.‏ اأما الأشخاص العاديون،‏ الذين هم<br />

موضوع كل رواية كبرية،‏ والذين ميكن اأن نعرف من<br />

خالهم هموم املعيشة،‏ فاأمر وقفت ‏ضده روؤية العريان<br />

للتاريخ،‏ واأسلوبه الباغي الذي ل ينتصر للغة الشارع<br />

ولغة الناس التي هي لغة الرواية،‏ واإمنا ينتصر ملفردات<br />

غريبة ك»الأميِّ‏ » و»الأيِّد«‏ و»البهر«‏ و»الأفكوهة«،‏ واأفعال<br />

ك»يستزير«‏ و»يخيس«..‏ اإلخ،‏ فصاً‏ عن اإنّاته التي تذهب<br />

معه اأينما ذهب.‏<br />

لقد توارى ‏صوت القاص الذي يتقمص ‏شخصياته،‏<br />

ويعيش همومها من الداخل،‏ ويعرضها علينا يف حالة<br />

فعل اأو تفكري اأو انفعال،‏ ليحل بدلً‏ منه ‏صوت موؤرخ ل<br />

ميلك حتى حساسية التحليل العميق؛ لأنه ل يقدم كتابًا<br />

اأو مقالً‏ يف التاريخ،‏ واإمنا يكتب فنًّا،‏ وكان من الطبيعي<br />

اأن تاأتي حتلياته لبعض الوقائع التاريخية مبتوتة الصلة<br />

باأحداث القصة وما يدور يف نفوس اأبطالها،‏ ‏سواء<br />

جاءت هذه التحليات على لسان اململوك الشاب احلكيم<br />

طومان باي،‏ يف جملس ‏شيخه اأبي السعود اجلارحي )32( ،<br />

اأو على لسان الراوي العليم الذي يقص علينا من التاريخ<br />

كما يقول حكاية ‏»شعب يلهو«‏ )32( .<br />

وعلى الرغم من كل اخللفية النظرية التي ميلكها<br />

العريان حول كتابة تاريخ العوام وحياتهم اليومية،‏<br />

وعلى الرغم من اجلهد الواضح الذي بذله ليجسد هذا<br />

الوعي النظري ويعكس ‏صورًا من حياة الناس العاديني،‏<br />

وخصوصً‏ ا املصريني الذين اجتهد يف تصوير طوائفهم<br />

املختلفة )34( – على الرغم من كل ذلك،‏ ظلت ‏»على باب<br />

زويلة«‏ كتابًا يحكي ‏سرية بطل تراجيدي على النمط<br />

الإغريقي،‏ حتيط به السقطات والأسرار،‏ واإن افتقدت<br />

حبكة احلكاية اإىل متاسك الدراما الإغريقية ومذاقها.‏<br />

وكان من الطبيعي اأن يتم تقدمي ‏صور من حياة املصريني<br />

وفئاتهم املختلفة،‏ ولكن يف اإطار حتليات باهتة معزولة،‏<br />

تعتمد على املعلومات التاريخية اجلاهزة،‏ اأكرث مما<br />

تعتمد على تصوير الأبطال وهم يفعلون ويخلقون<br />

احلياة.‏<br />

)5(<br />

حينما وصل ‏سعد مكاوي اإىل كتابة ‏»السائرون نيامً‏ ا«‏<br />

يف مطلع الستينات من القرن العشرين،‏ كان قد اأصبح<br />

كاتبًا متمرِّ‏ ‏سً‏ ا مكتمل الأدوات؛ فقد بداأ بكتابة القصة<br />

القصرية منذ اأواخر الثاثينات،‏ ومرَّ‏ ن فيها اأدواته<br />

السردية،‏ وحقق اإجنازًا ‏ضمن له مكانته امللحوظة على<br />

خريطة القصة املصرية القصرية )35( . هذا بالإضافة<br />

اإىل اأنه كان قد كتب روايته القصرية ‏»شهرية«‏ )36( ،<br />

ورواية اأخرى بعنوان ‏»الرجل والطريق«‏ )37( .<br />

ومل تكن اأدوات ‏سعد مكاوي التقنية وحدها،‏ هي<br />

التي تبلورت حينما كتب ‏»السائرون نيامً‏ ا«،‏ واإمنا كانت<br />

قد تشكلت له اأيضً‏ ا ‏-مثل كثريين من اأبناء جيله-‏<br />

معرفةٌ‏ عميقة وموسوعية بالرتاث الإنصاين،‏ وروؤيةٌ‏<br />

للواقع املصري والعربي والإنساين.‏ وقد اأدت عوامل<br />

ثاثة اأساسية دورها يف تشكيل هذه املعرفة،‏ وصياغة<br />

تلك الروؤية:‏ اأولها،‏ نصاأته الريفية التي تركت اأثرً‏ ا عميقً‏ ا<br />

يف روؤيته؛ فقد نصاأ يف قرية الدلتون باملنوفية،‏ لأب من<br />

رجال الدين له مكتبته الرتاثية العامرة،‏ وراأى يف الصغر<br />

‏صراعات هذه القرية بفاحيها وحرفييها وهامشييها،‏<br />

وهي الصراعات التي رسمها فيما بعد يف جمموعة ‏»املاء<br />

العكر«.‏ وثانيها،‏ معرفته باللغة الفرنسية وسفرته اإىل<br />

فرنسا مبعوثًا لدراسة الطب،‏ ثم حتوله - ‏صاأن توفيق<br />

احلكيم - اإىل دراسة الأدب والفن والثقافة.‏ وهي السفرة<br />

التي انقطعت بعد ثاث ‏سنوات،‏ دون اأن يكمل دراسته،‏<br />

وذلك مبجيء احلرب العاملية الثانية عام 1939. وثالث<br />

هذه العوامل،‏ وبعد رجوعه من فرنسا،‏ كان انضواءه<br />

الغامض على يسار حزب الوفد وضمن الطليعة الوفدية،‏<br />

يف جمموعة الكتاب التي اتخذت من جريدة ‏»املصري«‏<br />

الوفدية منربًا.‏<br />

وكان لهذا العامل الثالث اأثره احلاسم يف تشكيل<br />

روؤية ‏سعد مكاوي،‏ وبلورة موقفه من حركة الضباط<br />

الأحرار وتطوراتها الدرامية،‏ وهي احلركة التي عاصر<br />

خماضها الأليم يف اأواخر الأربعينات واأوائل اخلمسينات،‏<br />

اأبحاث


2 0 1 1<br />

90<br />

وكَ‏ تبَ‏ مبشِّ‏ رً‏ ا بها على ‏صفحات املصري،‏ ثم جاءت ويا<br />

للمفارقة لتغلق – ‏ضمن ما اأغلقت – جريدة املصري<br />

هذه،‏ ولتفتح الباب لأنواع جديدة من ‏صراع العسكر على<br />

السلطة،‏ وهو املاأزق الذي يئس الرجل – على مستوى<br />

الواقع - اأن جتد مصر ‏سبياً‏ للخروج منه،‏ ولكنه مل<br />

يياأس على مستوى الفن،‏ وظل يبحث عن ‏سبيل للخروج.‏<br />

كتب الرجل عددً‏ ا هائاً‏ من القصص القصرية<br />

واملقالت طوال اخلمسينات،‏ ونشرها يف جرائد الثورة<br />

التي عمل فيها،‏ من ‏»الشعب«‏ اإىل ‏»اجلمهورية«،‏ وعرب يف<br />

بعضها اأحيانًا وبشكل األيجوري،‏ عن موقفه هذا )38( . ويف<br />

الوقت نفسه،‏ كانت تقنياته السردية تتخلى ‏شيئًا فشيئًا<br />

عن الوصف الواقعي اخلارجي البهيج بانتصاراته،‏<br />

وتتحرك يف اجتاه نوع من املونولوج املتصاعد الذي<br />

يصف الداخل ومتزقاته الأليمة )39( . وكاأنه كان يحتشد<br />

طوال هذه السنوات،‏ لكي يحصل على الصيغة التي<br />

يبلور فيها روؤيته يف اأصفى ‏صورها،‏ وكاأنه وجدها اأخريًا<br />

يف روايته هذه ‏»السائرون نيامً‏ ا«.‏<br />

مل تكن ‏»السائرون نيامً‏ ا«‏ اإذن،‏ من ‏صنع كاتب<br />

مبتدئ ل يجد املادة التي يكتب عنها،‏ اأو ل ميلك الأدوات<br />

التي يكتب بها،‏ فيلجاأ اإىل التاريخ هربًا من العناء ومن<br />

املساءلة على السواء.‏ واإمنا كانت نهاية املطاف،‏ يف بحث<br />

ممتد ومضن عن ‏صيغة مائمة.‏<br />

غري اأن ‏»السائرون نيامً‏ ا«‏ ليست جمرد حكاية رمزية<br />

‏)األيجوري(‏ ‏ساذجة،‏ تستعني بالتاريخ لكي تقول كلمتها<br />

يف واقع معاصر مرتبك تخافه ول تفهمه،‏ اأو تقيم تطابقً‏ ا<br />

اآليًّ‏ ‏ًا بني اأمراء املماليك بشخوصهم وطبيعة ‏صراعاتهم<br />

املعزولة عن مصالح الشعب وحماية الوطن من ناحية،‏<br />

وعسكر يوليو الصاعدين املتصارعني يف ظروف مشابهة<br />

من ناحية اأخرى.‏ كما اأنها ليست جمرد ‏»رواية تاريخية«‏<br />

تبتعث خطوط التاريخ املسجَّ‏ ل يف الكتب،‏ فخرً‏ ا اأو حزنًا<br />

اأو اإسقاطً‏ ا كما هي العادة يف الرواية التاريخية.‏ بل هي<br />

قبل هذا وبعده،‏ روايةٌ‏ تطرح الصوؤال الأكرب حول ‏»الرواية<br />

التاريخية«:‏ ما هي وما فلسفتها.‏<br />

اأول ما يلفت النظر يف هذه الرواية عنوانُها؛ فرمبا<br />

تكون هذه هي املرة الأوىل،‏ اأو فلنقل اإنها من املرات<br />

النادرة يف الأدب العربي احلديث ‏)ورمبا يف الآداب<br />

العاملية الأخرى(‏ التي نقراأ فيها رواية تاريخية،‏ دون اأن<br />

يكون عنوانها جزءًا من التاريخ،‏ فقد اعتدنا اأن يكون<br />

عنوان الرواية التاريخية اسم ‏شخصية تاريخية،‏ اأو اسم<br />

مكان تاريحي ، اأو اسم مدينة،‏ اأو معركة اأو حادثة اأو<br />

)40(<br />

مقولة معروفة يف التاريخ ‏..اإلخ.‏<br />

عنوان الرواية،‏ والرواية التاريخية خصوصً‏ ا،‏ هو<br />

البوابة التي يدخل منها القارئ،‏ متوقعًا ومتاأهبًا اأن<br />

يفارق عامل الواقع املعاصر،‏ واأن يدلف بخياله اإىل عامل<br />

التاريخ.‏ حني نقراأ على الغاف ‏»كفاح طيبة«،‏ اأو ‏»طارق<br />

بن زياد«،‏ اأو ‏»على باب زويلة«،‏ اأو حتى ‏»وااإصاماه«،‏<br />

فاإننا ‏سننتقل على الفور اإىل فضاء التاريخ،‏ ورمبا ينقلنا<br />

العنوان اإىل مكان حمدد،‏ فرتة اأو ‏شخصية اأو حادثة<br />

حمددة ‏سلفً‏ ا.‏ اأما حني نقراأ على الغاف ‏»السائرون<br />

نيامً‏ ا«،‏ فاإن الأفق ينفتح على احتمالت متعددة،‏ قد ل<br />

يكون من بينها احتمال الرواية التاريخية.‏<br />

‏صحيح اأن املوؤلف ‏سيبادر من البداية اإىل تنبيه<br />

القارئ يف ماحظة جانبية ومقتضبة،‏ اإىل اأن ‏»الفرتة<br />

التاريخية التي تدور فيها اأحداث هذه القصة،‏ ل تكاد<br />

تتجاوز ثاثني ‏سنة )1499-1468( من عمر ‏سلطنة<br />

املماليك التي حكمت تاريخ مصر والشرق 267 ‏سنة«‏<br />

‏)الرواية ‏س‎2‎‏(،‏ وصحيح اأن الرواية ‏ستدخلنا من<br />

فصلها الأول اإىل قاهرة املماليك،‏ واأن املوؤلف ‏سيشرح<br />

لنا بعض املصطلحات اململوكية الغامضة يف هوامش<br />

هذا الفصل )41( ، ولكننا ‏سنمضي يف قراءة الرواية<br />

- باأقسامها الثاثة،‏ وفصولها الثاثة واخلمسني،‏<br />

وشخصياتها الكثرية التي تتنوع اأسماوؤها ووظائفها،‏<br />

وتتواىل اأجيالها وماآسيها،‏ وتتوزع بني القمة احلاكمة<br />

يف قلعة اجلبل والقاع املطحون يف الأزقة والدكاكني،‏<br />

بني مدينة القاهرة اململوكية وقرية ميت جهينة يف ريف<br />

اجليزة – ‏سنقراأ هذا كله ويستغرقنا،‏ ورمبا ننتهي<br />

من قراءة الرواية،‏ وتظل الأسئلة التي طرحها العنوان<br />

معلَّقة:‏ السائرون نيامً‏ ا؟!‏ من هم؟ واإلم يسريون؟<br />

اأَهُ‏ م املجاذيب الذين ‏»يجاأرون بالدعوات«؟ اأهم<br />

العميان الذين ‏»يدقون الأرس بالعكاكيز يف غضب«؟<br />

املشوهون والعرايا الذين ل ينقطعون عن البكاء؟<br />

املجذومون الكثريون الذين ‏»يضربون ‏صدورهم املتاآكلة<br />

بقطع احلجارة يف مرارة«؟ اأهم اأبناء العامل التحتي من<br />

حرفيي املدينة واأُجَ‏ رَ‏ اء القرية ومستعبَديها؟ ويف خلفية<br />

هوؤلء يقف ‏»الشجر املهذول ورمق احلياة فيه ‏شاحب،‏<br />

والدواجن القليلة منكمشة عند كل ‏سقيفة اأو حجر


91<br />

2 0 1 1<br />

خوفًا من اجلوارح املحمومة دانية من الأرض،‏ واحلمري<br />

واجلمال يف عيونها اأحزان عجيبة وهي ترفع رءوسها<br />

عن الأرس املتشققة يف ياأس ‏ضامر مثلها«‏ - اأهً‏ م<br />

هوؤلء جميعًا وقد ‏ساروا نيامً‏ ا،‏ ونراهم يف نهاية الرواية<br />

يتجمعون،‏ مدفوعني بكبت تاريخي مركَّ‏ ب مديد،‏ ليصلوا<br />

- وهم السائرون نيامً‏ ا!!‏ - اإىل ثورة هائلة مقموعة،‏ رمبا<br />

مل يتحدث عنها التاريخ املكتوب ملصر اململوكية؟<br />

اأم اإنهم اأولئك العسكر من اأمراء املماليك<br />

وحواشيهم،‏ ‏»يتطاوسون«‏ عند القمة،‏ حولهم بساتينهم<br />

وحدائقهم الغناء وموائدهم وطوواويسهم وظباوؤهم<br />

وجواريهم وماهيهم وبصاصوهم اأيضً‏ ا،‏ يتصارعون<br />

‏صراعً‏ ا دمويًا على الكرسي،‏ ويلتذون بطحن احلرافيش<br />

ودود الأزقة حتت نعالهم،‏ ذاهلني عن اخلطر املقرتب<br />

على الأبواب،‏ وسائرين نيامً‏ ا – مدفوعني هم اأيضً‏ ا<br />

بكبت تاريخي مركب - اإىل نهايتهم املحتومة؟ )42( ، وهي<br />

نهاية ‏سجلها التاريخ اململوكي املكتوب،‏ بينما مل يكن<br />

التاريخ احلاضر قد ‏سجلها بعد.‏<br />

اأم اإنهم البشر جميعًا،‏ يسريون يف الأغال نيامً‏ ا،‏<br />

وتتكرر ماأساتهم من زمان اإىل زمان،‏ ومن مكان اإىل<br />

مكان،‏ دون اأن يدركوا فلسفة التاريخ العجيبة؟ نحن<br />

نعرف كما يعرف املوؤلف،‏ اأن زمن هذه الرواية ل يزيد<br />

على ثاثني عامً‏ ا يف واقع العصر اململوكي الغابر،‏ لكننا<br />

- ومبنطق قريب اإىل الواقعية السحرية يرسمه مكاوي<br />

مبهارة وحرفة - ‏سنشعر بقوة اأن هذه رواية اأجيال،‏ واأن<br />

للزمن فيها منطقً‏ ا عجيبًا؛ ففي اأربع وعشرين ‏ساعة<br />

يتواىل على كرسي السلطنة ثاثة من الأمراء،‏ حدث<br />

هذا اأكرث من مرة على مدار الرواية،‏ ويف ميت جهينة<br />

تتواىل ثاثة اأجيال وطاعونان على الأقل يف هذه الأعوام<br />

الثاثني.‏<br />

وهذا املنطق العجيب للزمن،‏ هو ما تستشعره اأيضً‏ ا<br />

‏شخصيات القاع املعذبة باأصفادها؛ فالصبي يوسف<br />

جنار النعوش الذي تبداأ به الرواية،‏ ‏سيدهشنا مع بداية<br />

اجلزء الثالث حني يقول:‏ ‏»زمن يروح وزمن يجيء ..<br />

وسبحان من له الدوام«،‏ ويتذكر:‏ ‏»ما اأبعد ذلك الزمن!..‏<br />

ناس غري الناس ودنيا غري الدنيا .. كاأنها ثاثمائة ‏سنة<br />

ل ثاثون..«)ص 175( ، كما اأنها ‏»اأمم تزول والهمّ‏ ما<br />

يزول«)ص 192( كما تقول حمسنة ‏»مرتحِّ‏ مة على كل<br />

الأحبة الذين تخطَّ‏ فهم الزمن«.‏ اإنه الطاعون الذي<br />

نظن اأنه ‏»انتهى،‏ مات وشبع موتًا«،‏ لكننا نكتشف اأن<br />

‏»الطاعون ل ميوت،‏ اإنه يختفي حقً‏ ا،‏ ويلبد يف خبث،‏ اإىل<br />

اأن حتني له فرصته،‏ فاإذا الفئران راقصة،‏ واإذا الوباء<br />

يف الناس«.‏ هذه الإشارة اإىل الأعوام الثاثمائة،‏ والأمم<br />

التي تزول والهم الذي ل يزول،‏ والطاعون املتجدد،‏<br />

األ تقرِّ‏ ب يف ذهن القارئ،‏ املسافةَ‏ الفاصلةَ‏ بني زمننا<br />

وزمن املماليك؟ األ تضعنا اأمام زمن واحد ممتد متكرر<br />

احللقات،‏ ل فاصل فيه بني حلقة وحلقة،‏ بني ‏»حاضر«‏<br />

معيش و»تاريخ«‏ منقض؟<br />

كيف استطاع الكاتب اأن ميسك بهذا الزمن املمتد،‏<br />

كيف استطاع اأن ينقلنا اإىل قاهرة املماليك وقرى<br />

امللتزمني وفاحي السخرة،‏ دون اأن نفارق قاهرتنا<br />

املعاصرة وقرانا الكثرية املتشابهة،‏ كيف اأقنعنا اأننا نقراأ<br />

رواية ‏»واقعية«‏ من نوع خاص،‏ اأكرث منها رواية ‏»تاريخية«.‏<br />

هذا ما ‏صنعته تقنيات القاص املتمرِّ‏ ‏س املحتشد لكتابة<br />

هذه الرواية.‏<br />

هذه الرواية يحكيها راو عليم،‏ يتنقل يف خفَّة<br />

الطائر،‏ بني املشاهد/الفصول اخلمسني التي مل تنقطع<br />

ومل تهداأ،‏ منذ اأن راأينا اأيوب ‏صانع النعوش وصبيه<br />

يوسف يف مطلع الرواية،‏ اإىل اأن وصلنا اإىل ثورة اجلياع<br />

واملهمَّ‏ ‏شني يف نهايتها.‏ وبني هذين املشهدين املتباعدين،‏<br />

تتواىل املشاهد يف اإيقاع درامي وروائي متسارع،‏ هو اأهم<br />

خصيصة فنية متيز هذه الرواية،‏ وجتذب القارئ اإىل<br />

عاملها.‏<br />

ولقد استخدم الكاتب كل طاقاته الواعية والاواعية،‏<br />

من اأجل اأن يصنع هذا الإيقاع الروائي اجلاذب،‏ ومن<br />

اأجل اأن يحافظ عليه دون ‏سقطات اأو تنشيزات قدر<br />

الإمكان.‏<br />

مل يكتف الرجل باحلقوق التي تكفلها له ‏صفة<br />

الراوي العليم،‏ وهو راو ميكنه دون اإخال باملنطق،‏ اأن<br />

ينتقل يف اأية حلظة،‏ من قلعة اجلبل اإىل ميت جهينة،‏<br />

من احلمام اإىل خمابئ املجاذيب،‏ من ‏سراي امللتزم اإىل<br />

زريبة ‏ست الكل اإىل بساتني احلرمي ‏..اإلخ،‏ بل انتزع اإىل<br />

ذلك حقوقًا اأخرى،‏ كفلتها له اأصولٌ‏ درامية كاسيكية<br />

ومعروفة للجميع،‏ لكنه التزمها ببساطة وبشكل ‏صارم.‏<br />

اأول هذه الأصول،‏ اأن يستقل كل فصل من الرواية<br />

مبشهد واحد،‏ ل يجاوزه قيد اأمنلة؛ فالرواية تتكون من<br />

ثاثة وخمسني مشهدً‏ ا،‏ يدور كل مشهد منها يف مكان<br />

اأبحاث


2 0 1 1<br />

92<br />

حمدد،‏ ويظهر فيه قطاع حمدد من ‏شخصيات الرواية،‏<br />

ويعالج حادثة حمددة بادئًا بالفرشة الوصفية وصاعدً‏ ا<br />

باحلوار اإىل ذروته؛ بحيث نشعر عندما ننتهي من قراءة<br />

كل مشهد،‏ باأننا قد انتقلنا خطوة اإىل الأمام يف دراما<br />

الرواية وحركتها.‏<br />

وثاين هذه الأصول يرتبط بالعاقات التي يقيمها<br />

املوؤلف بني هذه املشاهد املستقلة،‏ وهي عاقات تتعدد<br />

وتتداخل وتتواشج لكي تشكل يف النهاية عاملًا روائيًا<br />

واحدً‏ ا،‏ عامل ‏»السائرون نيامً‏ ا«‏ بتنويعاته وطبقاته.‏<br />

وعاقة القربى احلقيقية التي تربط بني بعض<br />

الشخصيات يف املصاهد املختلفة،‏ هي اأوىل هذه<br />

العاقات الرابطة واأبسطها واأكرثها منطقية،‏ ومن<br />

خالها ميكن للراوي وروايته،‏ ودون اأن نشعر بقفزة غري<br />

منطقية،‏ اأن ينتقا بصاسة – مثاً‏ - من عامل اأيوب<br />

وصبيه يوسف وزوجته ‏ست الكل يف القاهرة،‏ اإىل عامل<br />

الفاحني يف قرية ميت جهينة؛ لأن هناك عاقة قربى<br />

وهجرة متبادلة بني العاملني،‏ هربًا من العسف،‏ اأو طلبًا<br />

للرزق،‏ اأو استعدادً‏ ا لانتقام.‏<br />

واإذا كان هذا نوعً‏ ا من العاقات البسيطة،‏ التي يبدو<br />

دور املوؤلف فيها مقصورًا على النقل،‏ من العامل الواقعي<br />

اخلارجي الكائن هناك،‏ اإىل عامل الرواية الداخلي<br />

املتخيل،‏ فاإن هناك نوعً‏ ا اآخر من العاقات التي يخلقها<br />

املوؤلف خلقً‏ ا،‏ وهي عاقات اأكرث تعقيدً‏ ا واأشد رهافة،‏<br />

وعلى نحو تبدو معه اأحيانًا عاقات خمططة وخطرة،‏<br />

لأنها قد تبدو حتكمية وخمتلقة ، وهو ما كان ميكن اأن<br />

يضر حركة الرواية واإيقاعها ومصداقيتها.‏<br />

من هذه العاقات مثاً،‏ ما ميكن اأن نسميه عاقة<br />

‏»الستباق«،‏ وهي العاقة التي يستخدمها املوؤلف يف<br />

مواضع كثرية،‏ ولكنه يستخدمها خصوصً‏ ا يف التمهيد<br />

البطيء وعلى مهل،‏ لثاث ذرى درامية كربى يف الرواية:‏<br />

1- الطاعون،‏ و‎2‎‏-‏ اكتشاف الأسرار امليلودرامية املدهشة<br />

اخلاصة بتداخل النسب يف احلرام بني امللتزمني من<br />

اآل اإدريس وفاحي ميت جهينة،‏ ثم 3- ‏ساعة الثورة<br />

والنتقام التي تاأتي بها نهاية الرواية.‏<br />

على مدار الفصول العشرين يف القسم الثاين من<br />

الرواية،‏ والذي يجعل املوؤلف عنوانه : الطاعون،‏ ‏سرنى<br />

عامة الستباق الأساسية تظهر ثم تختفي،‏ يف ‏صورة<br />

فئران تتخلل املشاهد،‏ تظهر بشكل عرضي يتخلل<br />

حوارات املشاهد يف البداية،‏ لكنها تتزايد وتتقدم<br />

املشاهد برقصها املذبوح وبدمها املقزز،‏ ثم اإنها ‏سرعان<br />

ما تنتقل من الفئران اإىل البشر،‏ وكلما تقدمنا مع<br />

املشاهد تبلور ‏شعورنا بالطاعون املقبل،‏ اإىل اأن نصل يف<br />

املشهد الأخري من هذا القسم اإىل اإعانها ‏صريحة:‏<br />

‏»اندفع خليل بعويله<br />

املكتوم مارقًا من العتبة<br />

اإىل اخلالء،‏ وهو يسد اأذنيه<br />

بيديه،‏ وقبل اأن يبتلعه البعد<br />

كان املرعوش قد حلق به<br />

يف وثبات طائرة،‏ واندفع<br />

خيالهما يف ‏ضوء القمر<br />

ذاهبيني اإىل االأفق يف عدو<br />

خاطف واأذرعهما مفتوحة<br />

للسماء بكفوفها املبسوطة،‏<br />

وصوتهما الواحد يرج ما بني<br />

االأرض والسماء:‏<br />

- الطاعون!‏ الطاعون!‏<br />

الطاعون!«‏ ‏)ص 163(<br />

وعامة الصتباق املمهدة للذروة الثانية،‏ هي<br />

النغزة املتشابهة على خدود اآل اإدريس،‏ وخدود اأبنائهم<br />

واإخوانهم يف احلرام من فاحات ميت جهينة.‏ وهي<br />

عامة تبداأ يف ‏صورة وصف اآيل وساخر اأحيانًا،‏ يقوم به<br />

الراوي يف مشاهد متعددة،‏ ثم يزداد اقرتابنا مع الوقت<br />

من هذا اخلد املنغوز املتكرر ودللته،‏ اإذ تتضح احلقائق<br />

فصاً‏ بعد فصل حني تتبادل النسوة اعرتافاتهن.‏ اإنها<br />

النغزة املاأساوية التي تتحول اإىل كابوس يراه حممد وقد<br />

انطبع على كل الكائنات:‏<br />

»- راأيت ‏سوق ميت<br />

جهينة بالناس والبهائم كاأنه<br />

يوم احلشر،‏ والناس جميعًا<br />

يف خدودهم نغزة مثل هذه<br />

.. وحتول احللم اإىل كابوس<br />

عندما اأخذت كل بهائم<br />

السوق ترفع من االأرض<br />

رءوسها،‏ فاأرى لكل بهيمة<br />

نغزة اأيضً‏ ا .. يا للكابوس!..‏<br />

حتى عندما رفعت وجهي اإىل


93<br />

2 0 1 1<br />

السماء وجدت يف خد القمر<br />

نغزة!«‏ ‏)م‎235‎‏(‏<br />

اأما عامة الستباق الثالثة ، فهي ‏»ساعة الوعد«‏<br />

التي متثل ذروة الرواية كلها ونهايتها،‏ وهي الساعة التي<br />

يرد ذكرها على األسنة املجاذيب،‏ من الشيخة زليخة<br />

حامية احلرافيش يف القاهرة،‏ اإىل الشيخ املرعوش<br />

حامي املجاذيب واملطاريد والغرباء يف ميت جهينة.‏ اإنها<br />

الساعة التي يبدو اأن اجلميع يسريون نيامً‏ ا يف اجتاهها،‏<br />

وهم يعرفون جياً‏ بعد جيل كما يقول خالد يف اأحد<br />

مونولوجاته،‏ كيف يبكون يف ‏صرب وبا دموع،‏ ويكِ‏ زُّون<br />

على اأسنانهم وهم ينتظرونها:‏<br />

‏»ساعتنا نحن؟ اآه!‏<br />

وحق ‏سيدي املرعوش الذي<br />

يسمعنا اآه!‏ ‏ساعتنا نحن!‏<br />

‏ساعة تنتفض قلوبنا مثل<br />

قلب واحد،‏ وتزعق الدماء يف<br />

عروقنا،‏ وتكونني معنا يا ‏ست<br />

زليخة اأنت وروح عزة الساري<br />

يف اأرضنا،‏ اأوله يف الصعيد<br />

واآخره يف البحر املالح،‏ وملء<br />

الرب اأنفاسه الطاهرة.«‏<br />

‏)ص 238(<br />

ومن هذه العاقات الرابطة بني املشاهد اأيضً‏ ا،‏<br />

عاقة اأخرى يبدو اأن مكاوي استعارها من ‏»اللغة<br />

السينمائية«‏ )43( ، واأعني بها عاقة ‏»التوليف«‏ بني<br />

املشاهد،‏ ‏سواء كان توليفً‏ ا ‏»روائيًّا«‏ اأو توليفً‏ ا ‏»تعبرييًّا«.‏<br />

وعاقة التوليف هذه ترتكز يف السطور التي ينتهي بها<br />

كل مشهد يف الرواية،‏ والسطور التي يبداأ بها املشهد<br />

الذي يليه،‏ ورمبا تكون هي اأكرث العاقات املسوؤولة عن<br />

‏ضبط اإيقاع الرواية بكاملها،‏ واإعطائها الطابع املتاحم<br />

الذي متيزت به.‏<br />

ولأن الرواية حتتوي على عدد هائل من الشخصيات<br />

املتنوعة املشارب والأماكن،‏ مل يكن من السهل توليف<br />

املشاهد على اأساس التتابع الزمني التقليدي؛ اإذ مل<br />

يحدث يف الرواية اأن احتلت ‏شخصية واحدة اأو مكان<br />

واحد مشهدين متتاليني اأو فصلني متتاليني،‏ اللهم اإل<br />

الفصول الثاثة الأخرية من القسم الثاين)التي تصور<br />

ذروة الطاعون(،‏ والفصول الثاثة الأخرية من القسم<br />

الثالث والأخري ‏)التي تصور ثورة اجلياع يف اجتاه<br />

‏صوامع امللتزم(.‏<br />

فيما عدا هذا،‏ كان لبد للرواية اأن تبني التوليف بني<br />

املشاهد على اأساس القطع ؛ ومن ثم كان هناك حرص<br />

كامل على اإغاق املشهد،‏ ‏سواء بجملة حوارية قصرية<br />

باترة،‏ كما يحدث يف اأغلب املشاهد،‏ اأو بجملة قصرية<br />

يضيفها الراوي متعمدً‏ ا بعد انتهاء احلوار،‏ فقط ليغلق<br />

املشهد مبا افتتحه به من وصف،‏ كاأن يقول:‏ ‏»ويف الطاقة<br />

خفق نور املسرجة خفقة متوهجة«)الطاعون،‏ الفصل<br />

اخلامس(‏ اأو ‏»وسمعت القاعة من حنجرتني حمزاويتني<br />

قويتني قهقهة عالية غطت على ثرثرة العصفور املتفائلة<br />

يف املشربية«)الطاووس،‏ الفصل السابع عشر(.‏<br />

كانت كل ‏شخصية من ‏شخصيات الرواية –<br />

وكلها يف ‏»السائرون نيامً‏ ا«‏ ‏شخصيات اأساسية وحتتل<br />

مساحات متقاربة – تختفي فصلني اأو ثاثة ورمبا اأكرث،‏<br />

ثم نعود اإليها يف قلب ما تقوم به من فعل،‏ متوقعني اأن<br />

اأشياء كثرية قد حدثت معها.‏ وكان من الطبيعي واحلالة<br />

هذه،‏ اأن تبداأ غالبية املشاهد/الفصول بجملة فعلية،‏ مع<br />

اأن كل مشهد يبدو يف الظاهر على الأقل،‏ مقطوعً‏ ا عما<br />

قبله.‏<br />

ويف فصول القسم الأخري على الأقل،‏ كثريًا ما يلعب<br />

‏سعد مكاوي لعبة ‏سينمائية واضحة وطريفة،‏ عند النتقال<br />

من مشهد اإىل مشهد؛ فالفصل الرابع مثاً‏ ينتهي بجملة<br />

‏»وقراأ الفاحتة«،‏ بعدها مباشرة يبداأ الفصل اخلامس<br />

بجملة ‏»قراأت حمسنة الفاحتة مرتحِّ‏ مة على ..«. انتهى<br />

مشهد بقراءة الفاحتة ليبداأ املشهد اجلديد بقراءة<br />

الفاحتة،‏ مع اأن الظرف خمتلف والشخوص خمتلفون،‏<br />

لكنها رابطة ‏سينمائية قائمة على التقابل الساخر بني<br />

مضمون املشهدين.‏ وكذلك ينتهي الفصل السادس<br />

مبوت اأم حسن التي يودعها خالد قائاً:‏ مع الصامة يا<br />

اأم حسن،‏ وبعدها مباشرة يبداأ الفصل السابع بتشييع<br />

جنازة،‏ ولكنها جنازة الشيخ عباس يف القاهرة:«خرج<br />

عامله كله يودعه وشيَّعته ..«. وهذا اأيضً‏ ا ما يحدث مع<br />

نهاية الفصل احلادي عشر وبداية الثاين عشر.‏<br />

كل هذه العاقات وغريها،‏ تلعب دورًا حاسمً‏ ا<br />

يف رسم العامل املحتشد بالشخصيات،‏ ويف الإمساك<br />

باأطراف الزمن املمتد - بصورة ما - من التاريخ اإىل<br />

احلاضر.‏ وهو عامل ينقسم بشكل عام اإىل معسكرين<br />

اأبحاث


2 0 1 1<br />

94<br />

اأساسيني يعيشان يف وطن واحد ولكنهما منفصان:‏<br />

معسكر املماليك من الأمراء العسكر،‏ وتابعيهم من<br />

اجلواري والغلمان وامللتزمني والشيوخ والقضاة اأيضً‏ ا،‏<br />

وهو معسكر يهتم الكاتب بوصف تفاصيله ونزوعاته<br />

وعقده واحللقات التي تصله بالشعب،‏ ولكنه ل يبداأ بهذا<br />

املعسكر ول ينتهي اإليه،‏ واإمنا يرتكه ينسحب يف ‏صمت<br />

قبل اأن تصل الرواية اإىل نهايتها بثاثة فصول على<br />

الأقل.‏ اأما املعسكر الآخر الذي يبداأ به الكاتب وينتهي<br />

اإليه،‏ ويعطيه املساحة الأكرب،‏ فهو عامل الشعب املهمَّ‏ ‏ش،‏<br />

حرفيي املدينة وجماذيبها،‏ فاحي الريف الأجراء<br />

وفاحاته..‏ اإلخ<br />

‏»السائرون نيامً‏ ا«،‏ وكما يشي عنوانها الساحر هذا،‏<br />

ليس لها بطل فرد،‏ وشخصياتها كلها اأساسية كما اأشرت<br />

منذ قليل،‏ والبطولة فيها جماعية بامتياز.‏ ومع ذلك فاإن<br />

الكاتب يركز تركيزً‏ ا خاصًّ‏ ا على ‏شخصيتني،‏ اإحداهما<br />

من معسكر املماليك،‏ وهي ‏شخصية السلطان قايتباي،‏<br />

والأخرى من معسكر الشعب،‏ وهي ‏شخصية خالد.‏ كل<br />

منهما ميتلك بعدً‏ ا بطوليًّا ملموسً‏ ا ؛ فقايتباي - كما<br />

تقول الرواية - ظل مديد،‏ ينتصر على الطاعون مرتني،‏<br />

وميقت املحيطني به من املماليك،‏ وتصوره الرواية عند<br />

موته وقد ‏سئم لعبتهم وصراعهم على السلطة.‏ اأما<br />

خالد فيحمل رمز مصر وشعارها على كتفه وفوق لسانه<br />

‏)اأخته عزة التي اختطفها اململوك من احلمام يف بداية<br />

الرواية(،‏ ول يكف عن تكرار عبارته التي حفظناها<br />

منذ قالتها الشيخة زليخة اإىل اأن انتهت الرواية:‏<br />

‏»اأينما تويل وجهك فثم وجه عزة،‏ يداها يف البحر<br />

املالح وقدماها،‏ يف اأرض الصعيد،‏ وملء الرب اأنفاسها<br />

الطاهرة«.‏ ولأن الكاتب يعطي لهاتني الشخصيتني بعض<br />

الرتكيز،‏ كان من الطبيعي اأن يرسمهما من الداخل،‏<br />

واأن يستخدم مونولوجاته غري املباشرة،‏ لكي يدخل اإىل<br />

عقليهما ونفسيهما ويصور ما فيهما من اأفكار ومشاعر<br />

وهواجس.‏<br />

ولأن الكاتب مل يكن يرغب – كما قال – ‏»يف بعث<br />

فرتة من التاريخ اململوكي،‏ ولأن ‏»السائرون نيامً‏ ا«‏ هي<br />

‏»موقف فاح مصري مثقف،‏ عايش عصرنا،‏ وجد<br />

يف فرتة تاريخية معينة من ماضي اأمته،‏ ما ميكن اأن<br />

يكون ‏شاهدً‏ ا على عصره«؛ لهذا كله كتبت الرواية<br />

بلغة معاصرة ل تختلف كثريًا عن لغة ‏سعد مكاوي يف<br />

اأعماله الأخرى،‏ ولهذا اأيضً‏ امل يحاول الكاتب استعادة<br />

لغة ‏شبيهة باللغة العربية يف عصر املماليك.‏ يخيل اإيلَّ‏<br />

اأحيانًا اأن الرجل مل يكتب روايته لتكون رواية تاريخية،‏<br />

واإمنا كان يكتب لونًا جديدً‏ ا من الرواية الواقعية.‏ والشيء<br />

الذي لبد من اللتفات اإليه يف لغة هذه الرواية،‏ هو ذلك<br />

البعد الباطني املونولوجي،‏ الذي يكشف عنه استخدامه<br />

للمجاز وللإيقاع بكثافة وخصوصية.‏<br />

)6(<br />

حظيت رواية ‏»الزيني بركات«‏ منذ ‏صدورها<br />

باهتمام نقدي تستحقه )44( ؛ ذلك اأنها مل تكن جمرد<br />

رواية تاريخية تضاف اإىل ما ‏سبقها من روايات من هذا<br />

النوع،‏ واإمنا ‏شكلت لونًا خاصًّ‏ ا جديدً‏ ا من التعامل مع<br />

التاريخ،‏ ل ينهض على حماكاة اأحداث التاريخ ونقل ما<br />

وقع يف فرتة حمددة كما يف ‏»على باب زويلة«،‏ ول على<br />

اختاق تاريخ مواز مل يذكره التاريخ الرسمي ‏صراحة<br />

كما يف ‏»السائرون نيامً‏ ا«،‏ واإمنا تنهض بدلً‏ من ذلك<br />

على ‏»معارضة«‏ مركبة ورهيفة لنص تاريخي حمدد هو<br />

كتاب ‏»بدائع الزهور يف وقائع الدهور«‏ لبن اإياس )45( ،<br />

وخصوصً‏ ا ذلك اجلزء من حولياته الذي يرصد فيه،‏<br />

بطريقته وبلغته اخلاصة،‏ حال الديار املصرية يف<br />

السنوات العشر الأخرية من عمر ‏سلطنة املماليك.‏<br />

ينتهي الزمن التاريخي لرواية ‏»السائرون نيامً‏ ا«‏<br />

عام 1499، وهو زمن ل يشار اإليه تقريبًا يف منت<br />

الرواية؛ اإذ ل يكاد يرد ذكر تاريخ حمدد اإل يف الإشارة<br />

املباشرة التي يضعها الكاتب يف البداية وقبل اأن يبداأ<br />

املنت الروائي.‏ اأما ‏»الزيني بركات«‏ التي ل تبداأ باإشارة<br />

مباشرة اإىل التاريخ،‏ فيبداأ زمنها التاريخي بعد ذلك<br />

باأعوام قليلة،‏ والإشارة اإىل الزمن فيها حاضرة يف كل<br />

منحنى،‏ ويرتدد ذكرها يف بداية كل فصل اأو يف نهايته،‏<br />

بحيث تتحول الإشارة املتكررة اإىل التاريخ وصيغته اإىل<br />

جزء اأصيل من النص.‏<br />

ويف حني يسري الزمن الروائي يف ‏»السائرون نيامً‏ ا«‏<br />

‏سريًا تعاقبيًّا متصاً،‏ من النقطة ‏»اأ«‏ اإىل النقطة ‏»ي«،‏<br />

فاإن زمن ‏»الزيني بركات«‏ ل يسري على هذا النحو<br />

التعاقبي اأبدً‏ ا؛ اإذ يبداأ من نقطة قرب نهاية الأحداث<br />

‏)رجب ‎922‎ه،‏ اأغسطس اإىل ‏سبتمرب ‎1517‎م(‏ يف ‏صورة<br />

مقتطف من مشاهدات للرحالة البندقي فياسكونتي


95<br />

2 0 1 1<br />

جانتي،‏ يسجل فيها اأحوال القاهرة،‏ ثم نعود بعدها<br />

مباشرة اإىل نقطة تسبقها بعشر ‏سنوات ‏)ما جرى لعلي<br />

بن اأبي اجلود وبداية ظهور الزيني بركات بن موسى<br />

‏شوال ‎912‎ه(،‏ لننتهي عند نقطة تالية للنقطة التي<br />

بداأنا بها ‏)مقتطف اأخري من مذكرات الرحالة البندقي<br />

فياسكونتي جانتي ‎923‎ه(.‏ وبني هاتني النقطتني يتم<br />

تقسيم الرواية اإىل ‏سبع ‏سرادقات )46( ، لكن الرواية ل<br />

تتلبث يف هذه السرادقات ‏سوى عند عام ‎912‎ه ‏)يحدث<br />

تسجيل للتاريخ عشر مرات على راأس املكاتبات والنداءات<br />

الرسمية التي ترتدد من ‏شوال اإىل ذي احلجة(‏ حيث<br />

توىل بركات بن موسى ‏صاأن احلسبة وخلع عليه السلطان<br />

لقب الزيني،‏ ودخل يف مصادمات ناعمة مع الشهاب<br />

زكريا بن راضي وبداأ يجتذب قلوب العامة ورجال الدين<br />

واملثقفني،‏ يف الوقت نفسه الذي يثري ريبتهم وسخطهم<br />

املكتوم.‏ اأما بقية الأعوام الإحدى عشرة املمتدة من 912<br />

اإىل ‎923‎ه،‏ وهي الزمن التاريخي التقريبي للرواية،‏ فا<br />

يكاد الراوي يسجل منها ‏سوى ثاث اإشارات ، الأوىل<br />

يف مطلع عام 913 وكاأنها تكملة لأحداث العام السابق،‏<br />

اأما الأخريني فاإىل عامي 914 و ‎920‎ه خال مقتطفني<br />

للرحالة البندقي نفسه.‏ وما عدا ذلك ليس ‏سوى مساحة<br />

طويلة من الصمت،‏ تركنا الراوي فيها نتخيل ما حدث<br />

طوال ‏سنوات من خداع البصاصني الناعم،‏ اإىل اأن نصل<br />

اإىل ‏صوت ‏سعيد اجلهيني،‏ وحيدً‏ ا يف السرادق السابع<br />

والأخري يتكلم،‏ فا يقول اإل جملة واحدة يائسة وباترة<br />

وبضمري املتكلم:‏ ‏»اآه،‏ اأعطبوين،‏ وهدموا حصوين«.‏ ‏)ص<br />

)279<br />

ويحكم هذا الزمنَ‏ املضطرب داخل السرادقات<br />

اإطارٌ‏ خارجي يتمثل يف خمسة مقتطفات تعليقية متفاوتة<br />

الطول واملوضوع،‏ ماأخوذة من مذكرات الرحالة البندقي<br />

فياسكو جانتي،‏ الذي مر بالباد ثاث مرات خال تلك<br />

الفرتة،‏ مقتطفان منها يقعان خارج السرادقات وميثان<br />

ما يشبه مقدمة وخامتة للرواية،‏ اأما املقتطفات الثاثة<br />

الأخرى فتمثل جزءًا من السرادقات.‏<br />

التعامل مع الزمن واحد من اأمور كثرية بالغة<br />

الرتكيب واحلرفية يف رواية الغيطاين؛ فهو اأمر يتعلق<br />

بطبيعة من يحكي)اأو يحكون(‏ يف النص من ناحية،‏<br />

وبطبيعة اللغات املتعددة املصادر التي تتداخل يف نسيج<br />

البناء الروائي مبستوياته املختلفة من ناحية ثانية،‏<br />

وبطبيعة املضمون النهائي للرواية ‏)وللرواية التاريخية<br />

عمومً‏ ا(‏ وعاقتها بحاضرها من ناحية ثالثة.‏<br />

من الذي يقوم بفعل احلكي يف هذه الرواية الغريبة؟<br />

يبدو الأمر وكاأننا قد عرثنا مصادفة على جمموعة من<br />

الوثائق واملكاتبات،‏ كما ‏صادفت مسامعنا يف السرادقات<br />

جمموعة هائلة من الأحاديث والإشاعات والنداءات،‏<br />

ومن كل هذه املادة تاألفت لدينا الصورة النهائية لعامل<br />

غامض مضطرب،‏ هو عامل القاهرة اململوكية يف تلك<br />

الفرتة احلالكة،‏ القاهرة املليئة بالشائعات واملحوطة<br />

بالبصاصني واملنتظرة للحرب،‏ حيث يزدهر القمع<br />

باأنواعه،‏ من القمع الدموي الفظ اإىل القمع الناعم.‏<br />

وعلى الرغم من تعدد من يتحدثون اإلينا يف ‏»الزيني<br />

بركات«،‏ فاإن الذي يحكي يف الرواية كلها هو راو عليم<br />

من خارجها،‏ يراقب ويرصد ما يقوله الناس،‏ وما<br />

يتداولونه من اإشاعات،‏ وما يواجهونه من هموم،‏ يسمع<br />

النداءات املتوالية التي تطلقها السلطة،‏ يعرض الرسائل<br />

املتبادلة بني اأركان احلكم املخابراتية املتصارعة،‏ يقتطع<br />

مقتطفات مما ‏سجله الرحالة يف كتبهم،‏ راصدً‏ ا - عرب<br />

كل ذلك - اأحامَ‏ الناس العاديني وما يدور يف نفوسهم<br />

ويتبدى على وجوههم.‏<br />

نحن ل نرى السلطات ول نرى الزيني نفسه بعيون<br />

راو ميثل املوؤلف،‏ واإمنا بعيون الناس واألسنتهم،‏ ومن<br />

مسافة واضحة ل تسمح بالسخط اأو التعاطف.‏ ل ‏سخط<br />

هناك ول تعاطف مع اأحد ‏)اللهم اإل ‏سعيد اجلهيني<br />

اأحيانًا(.‏ ‏سنعرف الأحداث والتطورات كما تصورها<br />

الناس بعد اأن وصلتهم الأخبار والإشاعات؛ ومن ثم<br />

فاملشاهد الأساسية يف الرواية تقوم على جماعات من<br />

الناس تتبادل الأحاديث والإشاعات والأقوال عما يدور<br />

يف اأركان السلطنة واأقبيتها السرية،‏ ل ‏شيء يقيني ول<br />

‏سبيل اإىل التعاطف الفج مع حدث اأو ‏شخص اأو ‏ضده.‏<br />

يف هذه املشاهد،‏ التي ميكن بصعوبة مللمة نثارها<br />

من كام املتحدثني الكرث يف النس،‏ ‏صرنى عمال<br />

احلمامات،‏ وعمال املستوقدات،‏ وباعة اللنب،‏ وباعة<br />

الفول،‏ وامراأة اأمام اجلامع تبيع الفجل،‏ وروؤوصً‏ ا<br />

تطل من الأبواب الصغرية،‏ واأطفالً‏ يضعون اأطراف<br />

جابيبهم بني اأسنانهم،‏ ونساء خرجن حافيات يحملن<br />

اأطفالهن،‏ والضرائب وملح الطعام الذي عز وجوده،‏<br />

ورجاً‏ جمرسً‏ ا مشهرً‏ ا فوق حمار اأزعر با ذيل،‏ وخافًا<br />

اأبحاث


2 0 1 1<br />

96<br />

فقهيًّا حول بدعة الفوانيس،‏ وشكاوى ل تنتهي للشيخ<br />

اأبي السعود اجلارحي،‏ وشكوكً‏ ا متلأ نفوس الناس من<br />

بعضهم البعض،‏ وحكايات ‏صغرية هنا وهناك،‏ والأزهر<br />

وطابه،‏ واحلرفيني وباعة احللوى..اإلخ.‏ اإن هموم املعيشة<br />

اليومية وحياة الناس العاديني،‏ هي الأرضية التي تنهض<br />

عليها حكاية الزيني بركات وصراعاته مع الآخرين،‏ هي<br />

اخللفية الأوسع والأعمق ملشهد التعذيب ولذة التجسس<br />

التي تتصدر املشهد وتداعب خيال اأصحابها املقتنعني<br />

اإىل درجة املرض.‏ ينقل لنا الراوي املجهول املختفي<br />

العليم ما ‏سُ‏ مع زكريا بن راضي يقوله ‏»دائمً‏ ا«‏ لأعوانه<br />

املقربني،‏ حول رسالة التجسس اخلالدة:‏<br />

‏»..هنا تتلخص الديار املصرية،‏<br />

دائمً‏ ا يقول زكريا الأعوانه املقربني،‏<br />

عندما اأود الذهاب اإىل اأي بلدة يف<br />

مصر ال اأبتعد عن بيتي،‏ اأجيء اإىل<br />

هنا،‏ لكل بلدة قسم،‏ لكل قرية،‏ اأي<br />

كوم اأو عزبة،‏ اأي اإقطاع يف بر مصر<br />

من اأدناها اإىل اأقصاها،‏ كل دفرت<br />

يحوي اأوصاف املكان،‏ ما اشتهر<br />

به،‏ ثم اأهم االأشخاص فيه،‏ كافة<br />

ما يتوافر عنهم،‏ القسم اخلاص<br />

بالقاهرة يحوي حاراتها وخططها<br />

وجوامعها،‏ رجالها وشيوخها ونساءها<br />

وغلمانها وجواريها وبيوت اخلطاأ<br />

فيها وشرطتها وعسسها وفقهاءها<br />

وحماماتها واأسواقها وخاناتها<br />

وطوائفها ومغنياتها ومالهيها،‏<br />

واأسماء االأروام املقيمني والقادمني<br />

والراحليني واالإفرجن العابرين،‏<br />

ومن يتصل بهم،‏ يترتدد عليهم من<br />

املصريني،‏ كل اأمر كبر اأو ‏صغر هنا،‏<br />

اأما االأمراء واأعيان الناس ومشاهر<br />

اخللق فكل ما يتعلق بهم،‏ اأمزجتهم<br />

وعاداتهم،‏ مشاربهم واأهواوؤهم،‏ ما مر<br />

بهم من اأفراح واأتراح كله هنا،‏ يقول<br />

زكريا متباهيًا،‏ هذا القسم يف الديوان<br />

مفخرة للسلطان وغرة يف جبني<br />

السلطنة املصرية،‏ مل يحدث قط اأن<br />

اأعد ‏شيء كهذا يف تاريخ اأي بصاص<br />

مصري اأو اإفرجني،‏ وباإذن اهلل العليم<br />

القريب ‏سيجيء يوم يصبح لكل<br />

اإنسان قسم خاص به،‏ يلخصه منذ<br />

رعشة امليالد حتى اآهة املوت ..«<br />

‏)ص 37-36(<br />

واللغات املتعددة املستويات تاريخيًّا واجتماعيًّا،‏<br />

لعبة اأخرى تضاف اإىل األعاب هذه الرواية وتساعدها<br />

يف الإمساك بهذا العامل املضطرب؛ فمن اللغة العربية<br />

املصرية ذات الطابع اخلاص والباغة اخلاصة،‏ واملبنية<br />

بوضوح على لغة ابن اإياس،‏ اإىل لغة النداءات التحذيرية<br />

اجلازمة احلازمة،‏ اإىل اللغة الدينية التي تداعب خيال<br />

العامة باقتباساتها من القراآن الكرمي واحلديث الشريف<br />

ومستودع احلكم العربية،‏ اإىل لغة الراوي العليم التي ل<br />

تكاد تختلف عن لغة الغيطاين يف اأعماله القصصية<br />

الأخرى،‏ بتدفقها وجملها القصرية وغنائيتها وصورها<br />

اأحيانًا،‏ اإىل لغة الرحالة البندقي التي ل تختلف كثريًا<br />

عن لغة الراوي العليم،‏ اإىل مستوى اآخر من اللغة ملتبس<br />

بني زمن العصر اململوكي)زمن العسس والبصاصني(‏<br />

وزمن الستينات من القرن العشرين ‏)زمن املخابرات<br />

الثورية(،‏ وهو مستوى قد تعكسه عبارات مقتضبة<br />

ماأخوذة يف الغالب من العامية املصرية املمتدة،‏ وذهبت<br />

مضرب الأمثال،‏ مثل ‏“عد غنماتك يا جحا”‏ اأو ‏“تسمح<br />

معانا”.‏<br />

لقد كُ‏ تبت ‏“السائرون نيامً‏ ا”‏ كما ذكرتُ‏ يف اأوائل<br />

الستينات،‏ ونُشرت فصولها قبل اأن تقع هزمية 1967<br />

بحوايل اأربع ‏سنوات،‏ بينما كتبت ‏“الزيني بركات”‏<br />

يف عامي 1970 و‎1971‎‏،‏ وفقً‏ ا ملا تشري اإليه ماحظة<br />

املوؤلف يف نهاية نص الرواية ، ونشرت الرواية لأول مرة<br />

يف دمشق عام 1974، اأي بعد وقوع الهزمية والرتاجع<br />

النسبي لدولة املخابرات ومراكز القوى.‏ وهذا اأمر<br />

يدعو من جديد اإىل تاأمل طبيعة العاقة بني اجلانب<br />

الذي تستدعيه الرواية من التاريخ وطريقة الستدعاء<br />

من ناحية،‏ والرسالة التي توجهها حلاضرها من ناحية<br />

اأخرى.‏<br />

يبدو اأن الإنسان – كما يقول باصار – ل يتذكر<br />

ماضيه مبجرد التكرار،‏ واإمنا هو يف كل الأحوال يعيد<br />

تركيبه،‏ واأن الذاكرة تكتمل يف الصمت،‏ وتتضح وتكتمل


97<br />

2 0 1 1<br />

مبرور الزمن.‏ الذكرى ليست ‏شيئًا جاهزً‏ ا،‏ وليس<br />

بالإمكان حتقيقها ول روايتها اإل انطاقً‏ ا من قصد<br />

راهن.‏ هناك ‏شروط عقانية اأو ظرفية تقود العودة<br />

اإىل املاضي؛ اإذ هناك على الدوام اأهمية راهنة للآلم<br />

املاضية )47( .<br />

على هذا الضوء ميكننا اأن نتصور كيف يعود ‏سعد<br />

مكاوي اإىل الفرتة التي عاد اإليها من التاريخ اململوكي،‏<br />

يف نوع من ‏»التنبوؤ«‏ مبستقبل الصراع بني السائرين نيامً‏ ا<br />

على اجلانبني حكامً‏ ا وحمكومني،‏ ويف دورتني متشابهتني<br />

من دورات التاريخ،‏ واحدة انتهت قبل خمسمائة عام<br />

والأخرى نحن مقبلون عليها،‏ وميكننا اأن نتصور اأيضً‏ ا<br />

كيف ولِمَ‏ عاد الغيطاين - يف اأعقاب هزمية جديدة -<br />

اإىل جانب حمدد من ذكرى هزمية قدمية.‏<br />

اإن هزمية - 1517 كما قالت رصوى عاشور يف<br />

حتليلها للرواية – ‏»ليست هي هزمية 1967، وليس<br />

املجتمع اململوكي يف مطلع القرن الصادس عشر<br />

مراآة للمجتمع املصري يف النصف الثاين من القرن<br />

العشرين،‏ كما اأن الزيني بركات وزكريا بن راضي من<br />

ناحية وسعيد اجلهيني واأبو السعود اجلارحي من ناحية<br />

اأخرى يتجاوزون كونهم جمرد اإسقاطات على الواقع<br />

املعيش،‏ فلهم كيانهم املستقل وحركتهم املوضوعية،‏<br />

ومع ذلك فلهذه الشخصيات التي متثل قوى الستبداد<br />

وقوى الوعي املضاد نظائر يف املجتمع املعاصر«‏ )48( . هنا<br />

تاأتي الذاكرة الغامضة التلقائية التي تكتمل يف الصمت<br />

لتدفع الكاتب اإىل هذه اللحظة من املاضي،‏ ل لكي ننهزم<br />

هزمية نهائية واإمنا لكي نفهم وننهض.‏ ‏»هزمت مصر<br />

اململوكية ‏سنة 1517، واحتلها العثمانيون ليفرضوا عليها<br />

مئات السنني من النحطاط،‏ ومع ذلك مل تكن تلك<br />

الهزمية نهاية املسرية التاريخية حلياة الشعب املصري,‏<br />

‏صحيح اأنه ملن عاصر تلك اللحظة بدا وكاأن الساعة<br />

قد قامت وقضي الأمر وضاعت مصر..‏ اأما القراء<br />

املزودون مبنظور تاريخي توفره اأربعة قرون ونصف قرن<br />

هي الفاصل الزمني بني وقوع احلدث وبيننا،‏ فنعرف اأن<br />

ذلك الهاك،‏ رغم فداحته،‏ مل يكن نهائيًّا،‏ ونعرف اأن<br />

مصر التي هلكت قامت ثم ‏ضُ‏ ربت ثم قامت ثم ها هي<br />

تُضرب مرة اأخرى.‏ هكذا يسمح لنا البعد الزمني بروؤية<br />

هذه اللحظة القامتة يف ‏سياق ممتد من الظلمة والضوء،‏<br />

من النكسار والإجناز..‏ ويف حني مت جتاوز الهزمية<br />

الأوىل مل يتم بعد جتاوز الهزمية الثانية.‏ والسند الذي<br />

يستمده الغيطاين من موازاة اللحظتني والذي يريد اأن<br />

ينقله اإىل قرائه،‏ هو اإمكانية جتاوز هذه الهزمية يف<br />

تاريخنا املعاصر انطاقًا من الوعي التاريخي«‏ )49( .<br />

غري اأن الرواية ل تتورط اأبدً‏ ا،‏ يف الإفصاح املباشر<br />

عن هذه الروؤية،‏ وترتك الأمور على حالها امللتبس<br />

الغامض الذي كانت عليه يف الواقع التاريخي،‏ وهو<br />

الدرس الذي تعلمه الغيطاين متامً‏ ا من حوليات ابن<br />

اإياس،‏ وهي حوليات تقول لغتها اإنها مبنية يف معظمها<br />

على ما ‏»قيل«‏ وما ‏»اأشيع«‏ )50( بني الناس،‏ اأكرث مما هي<br />

مبنية على حقائق اأو مشاهدات.‏<br />

واختيار عنوان الرواية وموضوعها الرئيس كان من<br />

اأبرز الأمور التي تعكس مفارقة اللتباس التي انبنت عليها<br />

الرواية؛ ف ‏»الزيني بركات«‏ ‏شخصية تاريخية حقيقية<br />

يرتدد اسمها يف مواضع ومشاهد كثرية من حوليات<br />

ابن اإياس،‏ والغيطاين يرسمه بناء على معطيات تنطق<br />

بها نغمة ابن اإياس يف احلديث عن الزيني،‏ اأكرث مما<br />

تنطق بها لغته الواضحة املباشرة )51( ؛ فاللغة املباشرة<br />

تقول باأنه قاض عادل حمبوب من عامة الناس،‏ ملتزم<br />

بالفروض الدينية،‏ يعمل يف خدمة السلطان والرعية<br />

ل يف خدمة اأغراضه الشخصية،‏ اأما النغمة الباطنة<br />

فتحمل ‏سخرية وتعجبًا من استمراره مع تقلب الأحوال،‏<br />

واأما جممل املواقف التي يسردها ابن اإياس فتقول باأنه<br />

مراءٍ‏ ، واأن ظاهره بخاف باطنه واأنه خائن وقادر على<br />

التواوؤم مع كل السلطات حتى ‏سلطة املحتل.‏ ورواية<br />

الغيطاين،‏ متامً‏ ا كحوليات ابن اإياس،‏ حتتفظ بوجهي<br />

الصورة حتى النهاية،‏ واإن بدت الرواية اأقرب اإىل احلكم<br />

النهائي بالسلب،‏ خصوصً‏ ا يف مشهد النهاية )52( .<br />

وهكذا يعكس العنوان ‏»الزيني بركات«‏ ‏صيغة املفارقة<br />

املركبة التي انبنت عليها الرواية؛ فهي رواية عن واقعنا<br />

املعاصر لكنها حول ‏شخصية ‏»تاريخية«‏ حقيقية وكاملة،‏<br />

والزيني بركات اسم جميل ينطوي على فرحة وبهاء،‏<br />

لكنه ل زيني ول بركات ول ينطوي اإل على الظلم والقهر<br />

واخلداع الذي قاد اإىل الهزمية والنهيار الكامل.‏<br />

ورسم ‏شخصية الزيني كان واحدً‏ ا من الأمور التي<br />

اأبدع فيها الغيطاين مستفيدً‏ ا من درس ابن اإياس؛ فقد<br />

ظل الزيني كما ‏صورته الرواية ‏شخصية غامضة،‏<br />

ملتبسة،‏ مغلقة على عاملها الداخلي،‏ مل نستمع اإليه<br />

اأبحاث


2 0 1 1<br />

98<br />

يف الرواية اأبدً‏ ا على نحو مباشر،‏ واإمنا وصلنا ‏صوته<br />

ومضمون كامه عرب ما يرتدد بني الناس يف السرادقات،‏<br />

وعرب حكي الآخرين،‏ خصوصً‏ ا ذلك الرحالة البندقي<br />

الذي يشبه الغيطاين من وجوه كثرية:‏ فكل منهما ينظر<br />

اإىل عامل القاهرة اململوكية من خارجه ‏)مكانًا وثقافة يف<br />

حالة الرحالة،‏ وزمانًا يف حالة الغيطاين(،‏ وكل منهما<br />

معنيٌّ‏ باأمر الزيني بركات عناية خاصة،‏ وكل منهما<br />

رحالة معنيٌّ‏ باأمر البشر يف اأزمنة واأمكنة خمتلفة من<br />

العامل،‏ وكل منهما ‏صديق ‏صريح لبن اإياس،‏ يتخذ منه<br />

وسيطً‏ ا اأمينًا بينه وبني عامل القاهرة اململوكية ذاك،‏<br />

وينقل عنه نصوصه وروؤيته.‏<br />

ليس للزيني كما ترسمه الرواية مامح واضحة؛<br />

فدائمً‏ ا هناك حواجز بينه وبني العيون التي تراه،‏ حتى<br />

حني يراه الرحالة يف خطبة الأزهر الشهرية،‏ ل يراه<br />

اإل وسط هالة من الإعجاب والرهبة،‏ ومن مسافة ل<br />

تسمح بالوضوح،‏ اأو من وراء لثام كما يحدث يف املشهد<br />

اخلتامي،‏ وبحيث ل يتوقف اإل عند اأصياء مراوغة<br />

ك»نربات ‏صوته«،‏ و»ملعة عينيه«،‏ وهو الأمر الذي يزيد<br />

‏صورة البطل التاريخي غموضً‏ ا على غموضها،‏ بحيث<br />

تبقى يف الوضع الذي كانت عليه بالنسبة ملعاصريها يف<br />

الواقع التاريخي:‏<br />

».. بيني الناس ‏سرت همهمة،‏<br />

دوائر تتسع تتسع بعد اإلقاء حجر<br />

يف مياه ‏ساكنة،‏ تعلقت العيون باملنرب<br />

اخلشبي،‏ وفوق السالمل اخلشبية<br />

طلع حاكم القاهرة،‏ حمتسب الديار<br />

املصرية،‏ الزيني بركات بن موسى،‏<br />

اأصغيت مرهفًا،‏ حديثه عامي اللهجة،‏<br />

وهذا يخالف االأصول على حد علمي،‏<br />

اضطررت اإىل اإحاطة اأذين حينًا بيدي<br />

حتى اأسمع ما يقول،‏ بداأ لينًا ثم<br />

عال..‏ وهنا متهّل ‏صوت الزيني..‏ هنا<br />

توقف احلديث وبداأ التاأثر يف لهجة<br />

الزيني .. عال ‏صوت ابن موسى،‏ راأيته<br />

يضرب ‏صدره بيده .. فوق املنرب وقف<br />

ابن موسى ‏صامتًا،‏ راأسه مطرق،‏ يداه<br />

تضمان طرف عباءته السوداء«‏ ‏)ص<br />

)202-200<br />

‏»..راأيت رجاالً‏ كثرين .. لكني<br />

مل اأر مثل بريق عينيه،‏ ملعانهما،‏<br />

خالل احلديث تضيقان،‏ حدقتي قط<br />

يف ‏سواد ليلي،‏ عيناه خلقتا لتنفذا يف<br />

‏ضباب البالد الشمالية،‏ يف ظالمها،‏<br />

عرب ‏صمتها املطبق،‏ ال يرى الوجه<br />

واملالمح،‏ اإمنا ينفذ اإىل قاع اجلمجمة،‏<br />

اإىل ‏ضلوع الصدر،‏ يكشف املخباأ من<br />

االآمال،‏ حقيقة املشاعر،‏ يف مالحمه<br />

ذكاء براق،‏ اإغماضة عينيه فيها رقة<br />

وطيبة تدين الروح منه،‏ يف نفس<br />

الوقت تبعث الرهبة ..« ‏)ص 10(<br />

‏»..حاذاين الركب وراأيت الزيني<br />

يضع لثامً‏ ‏ا حول وجهه،‏ ال اأذكر<br />

مالحمه فلم األتق به اإال مرة واحدة،‏<br />

البد اأن اأسعى اإليه..«‏ ‏)ص 283(<br />

مل يكن الغيطاين يصعى اإذن،‏<br />

اإىل جمرد كتابة رواية تاريخية،‏ واإمنا كان<br />

مسعاه – متامً‏ ا مثل كثريين من اأبناء جيله –<br />

اإىل افرتاع هوية اإبداعية جديدة )53( ، تائم<br />

منظوره اجلديد الذي يختلف عن منظور جيل<br />

الواقعيني السابق عليه،‏ والذي مثلته هنا رواية<br />

‏سعد مكاوي على وجه اخلصوص.‏ وهكذا لعب<br />

التجريب بالتقنيات الدور الأكرب يف جتسيد<br />

هذا املنظور وهذه الهوية الإبداعية اجلديدة،‏<br />

وخاصة فيما يتصل بطبيعة العاقة مع مواد<br />

املوروث السردي واأساليبه.‏<br />

)7(<br />

تناولت الروايات الثاث الفرتة<br />

التاريخية نفسها ‏)نهايات العصر اململوكي(،‏<br />

واستخدمت اأساليب ثاثة خمتلفة يف التعبري<br />

كما راأينا.‏ والصوؤال الذي ميكن طرحه يف<br />

اخلتام هو:‏ اإىل اأي مدى جنحت كل رواية من<br />

الروايات الثاث يف تقدمي جوانب من هموم<br />

املعيشة،‏ اأو حياة الناس اليومية يف ذلك<br />

الزمن البعيد؟<br />

ل ترتبط الإجابة عن هذا الصوؤال باحلقائق


99<br />

2 0 1 1<br />

التي تثبتها كتب التاريخ ‏)الأصلي(‏ بقدر ما<br />

ترتبط بالرواية نوعً‏ ا اأدبيًّا خاصًّ‏ ا،‏ ميلك كاتبه<br />

الوسائل املتنوعة التي تضع يده على تفاصيل<br />

الصورة ودللتها.‏ وبعبارة اأخرى،‏ فاإن املسالة<br />

ل ترتبط بالتاريخ بقدر ما ترتبط بالرواية،‏<br />

التي هي نوع خاص من الأدب،‏ ظل منذ نصاأته<br />

ويف كل مراحل تطوره،‏ يعمل يف اإطار مشابهة<br />

الواقع )54( ، ‏سواء كان واقعًا معاصرً‏ ا اأو واقعًا<br />

تاريخيًّا.‏ وبطبيعة احلال فاإن فن الرواية ميلك<br />

مئات الوسائل والصيغ والأساليب لاقرتاب<br />

من هذا الواقع،‏ والرواية التاريخية كما اأكد<br />

لوكاش )55( ، تكاد ل تختلف ‏-يف هذا الأمر كما<br />

يف غريه-‏ عن الرواية الواقعية.‏<br />

لقد اقرتبت كل رواية من الروايات الثاث<br />

من رسم ‏صورة لهموم املعيشة بقدر اقرتابها<br />

من هذه اخلاصية الأساسية يف فن الرواية؛<br />

فرواية ‏»على باب زويلة«مل تفلح يف رسم ‏صورة<br />

مقنعة حلياة الناس اليومية،‏ ل لأن ‏صاحبها ل<br />

يعرف حقائق التاريخ،‏ بل رمبا لأنه على العكس<br />

كان يعرف التاريخ معرفة مستفيضة،‏ فغرق<br />

يف معرفته واحرتمها اأكرث مما احرتم فنية<br />

الرواية وخصوبة اخليال الروائي،‏ الذي هو ‏-يف<br />

جانب من جوانبه - خيال تاريخي يتخلل هذا<br />

الفن ويتبدى يف تقنياته املختلفة،‏ خصوصً‏ ا يف<br />

‏صياغة احلبكة ورسم الشخوص واللغة التي<br />

ينطقون بها.‏<br />

وعلى العكس من ذلك كانت روايتا<br />

‏»السائرون نيامً‏ ا«‏ و»الزيني بركات«؛ فمع اأنهما<br />

انتهجتا اأسلوبني خمتلفني متامً‏ ا يف تصوير<br />

الواقع التاريخي للبشر يف العصر اململوكي،‏<br />

وعربتا عن روؤيتني خمتلفتني اإىل حد كبري،‏<br />

فاإنهما جنحتا يف تصوير الواقع اليومي للناس<br />

بقدر ما احرتمتا فنية الرواية واأدواتها.‏<br />

جنحت الأوىل ‏-ببنائها الدرامي الصارم،‏<br />

وبشخوصها املتنوعني-‏ يف خلق عامل روائي<br />

مكتمل له منطقه الداخلي الذي يحكمه،‏ والذي<br />

ل يتناقض يف النهاية مع ما حدث يف التاريخ.‏<br />

وجنحت الثانية ‏-بتقنياتها اجلديدة وبطبيعة<br />

عاقتها مع املوروث التاريخي والسردي-‏ يف بناء<br />

عاملها الروائي اخلاص الذي ل يتناقض اأيضً‏ ا<br />

مع ما حدث يف التاريخ.‏ يف الروايتني ‏سنجد<br />

تصويرً‏ ا تفصيليًّا جلوانب من حياة الناس<br />

اليومية وهمومهم التي يعربون عنها بصور<br />

خمتلفة،‏ ‏سنجد ‏-ومن دون خطاب مباشر من<br />

الراوي اأو الكاتب-‏ عاملًا متسعًا يضم ‏صورًا من<br />

الريف ومن املدينة،‏ من القاهرة ومن الصعيد،‏<br />

من القلعة ومن الشوارع والأزقة،‏ وهي ‏صور<br />

نابضة باحلياة،‏ ل لأنها تنقل الواقع التاريخي،‏<br />

واإمنا لأنها حتتكم ملنطق من داخل الرواية<br />

نفسها،‏ فتخلق واقعها اخلاص املقنع.‏<br />

اأبحاث


2 0 1 1<br />

100<br />

الهوامش واالإحاالت<br />

1- يقول اأرسطو يف بداية الفصل الثامن من كتابه فن الشعر:‏ ‏“ل يختلف الشاعر عن املوؤرخ يف الكتابة بالشعر اأو<br />

بالنرث؛ فعمل هريودوت رمبا يكتب ‏شعرً‏ ا،‏ ولكنه يظل نوعً‏ ا من التاريخ،‏ موزونًا اأو من دون وزن.‏ اإن الفارق احلقيقي<br />

يف اأن اأحدهما يحكي ما حدث،‏ يف حني يحكي الآخر ما ميكن حدوثه؛ وهكذا يكون الشعر اأكرث فلسفة من التاريخ؛<br />

لأنه مييل اإىل التعبري عما هو عام،‏ بينما مييل التاريخ اإىل التعبري عما هو خاص.‏ واأنا اأعني بكلمة ‏“عام”‏ الكيفية<br />

التي يتكلم بها اأو يتصرف بها ‏شخص ما وفقً‏ ا لقانون الحتمال والضرورة”.‏ راجع:‏<br />

THE POETICS OF ARISTOTLE, trans. S. H. Butcher, 14.<br />

2- يقول ‏»هايدن وايت«‏ عن اأصحاب هذا الجتاه:‏ اإنهم ‏»بعض املوؤرخني من ذوي التوجه الجتماعي/‏ العلمي...‏<br />

وهوؤلء نظروا اإىل التاريخ القائم على السرد بصفته اسرتاتيجية يف العرض غري علمية،‏ اأو رمبا حتى اسرتاتيجية<br />

اأيديولوجية،‏ يصبح من الضروري استئصالها لكي يتحول التاريخ اإىل علم اأصيل«.‏ راجع:‏<br />

-Hayden White , The Content of the Form: Narrative Discourse and Historical Representation, 30.<br />

3- عبارة األكسندر دوما – الكاتب الفرنسي الذي كتب عشرات القصص واملسرحيات التاريخية – مقتبسة هنا<br />

من حممد مندور:‏ الأدب وفنونه،‏ القاهرة ‏:دار نهضة مصر،‏ 1980، ‏ص 79. اأما التعبري عن ‏سخف مصطلح<br />

الرواية التاريخية وتناقضه فريد لدى واحد من كتابها اأيضً‏ ا،‏ هو الروائي الأمريكي هوارد فاست،‏ ‏صاحب الروايات<br />

التاريخية الشهرية مثل ‏“طريق احلرية”‏ و“سبارتاكوس”‏ الذي يقول:‏ ‏“مصطلح الرواية التاريخية يجب بالنسبة<br />

يل اأن يُلقى يف ‏سلة املهمات،‏ ول اأستطيع اأن اأقول اإنني اأكتب روايات تاريخية ؛ اإذ ل ‏شيء مما اأكتب يندرج حتت<br />

هذا العنوان..‏ وظيفتي كما اأتصورها هي حكي القصص،‏ وقصصي ليست دراسات تاريخية،‏ وليست دراسات<br />

‏سياسية،‏ اإمنا هي قصص عن البشر.‏ بعض هذه القصص وقع منذ زمن طويل،‏ وبعضها وقع منذ اأجيال معدودة،‏<br />

وبعضها يحدث اليوم«.‏ راجع:‏<br />

Howard Fast. “History in Fiction” (http://www.trussel.com/hf/plots/t469.htm,)<br />

‏)زيارة املوقع يوم 2 مايو 2009(<br />

4- يرى كثريون من دارسي النوع الروائي يف ذلك جانبًا اأصياً‏ من جوانب النوع،‏ واأن يف كل روائي كبري كما يقول<br />

‏شكري عياد جانبًا من املوؤرخ والباحث الجتماعي.‏ راجع ‏شكري عياد:‏ القصة القصرية يف مصر،‏ دراسة يف<br />

تاأصيل فن اأدبي،‏ القاهرة : دار املعرفة،‏ 1979، ‏ص 49.<br />

5- هذا اجتاه ميثله كثري من دارسي التاريخ وفاسفته على وجه اخلصوص،‏ ولعل اأهمهم هنا كولنجوود،‏ وجوتشلك.‏<br />

ركز كولنجوود يف كتابه ‏“فكرة التاريخ”‏ على ما ‏سماه ‏“اخليال التاريخي”،‏ وهو الذي يقوم بعمليات ذاتية مهمة،‏<br />

منها الختيار من بني الوقائع والوثائق املتاحة،‏ وصياغة الفكرة،‏ ثم النقد،‏ وكلها عامات على الستقالية التي<br />

ل غنى عنها للموؤرخ.‏ كما اأن كولنجوود يتحدث عن الثغرات التي يسدها خيال املوؤرخ عرب النقد والإنشاء.‏ يقول:‏<br />

‏»اخليال – ‏»هذه امللكة العمياء التي ل غنى عنها«‏ ، والتي ل نستطيع على حد تعبري ‏»كانت«‏ اأن ندرك العامل<br />

املحيط بنا بدونه - ‏ضروري كذلك للتاريخ.‏ وهذا اخليال الذي ينشط يف ‏صورة استدلل عقلي بحت،‏ ل ‏صورة<br />

خرافة تهذي وتتخبط،‏ هو الأصل يف كل اإنتاج للصياغة التاريخية..‏ يجب اأن تنطوي الرواية،‏ كما ينطوي التاريخ،‏<br />

على مغزى،‏ بحيث ل ينبغي اأن يقحم يف اأحدهما تفصيل ل يفرضه منطق الأحداث.‏ والذي يقرر هذه الضرورة<br />

املنطقية يف احلالتني هو اخليال.‏ ‏ستجد اأن الرواية والتاريخ على حد ‏سواء،‏ يحمان يف طياتهما من العناصر ما<br />

يكفل تفسريهما وتربيرهما،‏ بحيث يبدو كل منهما نتاج نشاط مستقل،‏ اأو نشاط يفرض نفسه،‏ كما اأن النشاط


101<br />

2 0 1 1<br />

يف احلالتني هو نشاط اخليال الإبداعي العقلي..‏ ول يوجد ثمة فارق بني اإنتاج املوؤرخ،‏ وبني اإنتاج الروائي؛ بوصف<br />

الثنني من نسج اخليال.‏ والنقطة التي يختلفان فيها،‏ هي اأن الصورة التي يرسمها املوؤرخ قصد بها اأن تكون ‏صورة<br />

‏صادقة:‏ اإن الروائي ليلتزم بشيء واحد فقط – ذلك هو رسم ‏صورة متشابكة متماسكة،‏ ‏صورة ذات مغزى.‏ اأما<br />

املوؤرخ فيلتزم بواجبني معًا – اأن ‏صورته يجب اأن تستويف هذا الوصف السابق،‏ بالإضافة اإىل رسم ‏صورة ترسم<br />

الأشياء بالوضع الذي كانت عليه،‏ وتصف الأحداث على نحو ما حدثت فعاً«‏ راجع:‏<br />

- ر.‏ ب.‏ كولنجوود:‏ فكرة التاريخ،‏ ترجمة:‏ حممد بكري خليل،‏ مراجعة حممد عبد الواحد خاف،‏ القاهرة : جلنة<br />

التاأليف والرتجمة والنشر،ط 1961، 1، ‏ص 435-409.<br />

. اأما جوتشلك فريكز على التمييز بني ما يسميه املنهج التاريخي،‏ اأي ‏»عملية الفحص والتحليل الدقيق لسجات<br />

املاضي وخملفاته«،‏ وتدوين التاريخ اأو كتابة التاريخ،‏ اأي « اإعادة البناء التصوري للماضي من واقع احلقائق<br />

املستخلصة بتلك الطريقة«.‏ اإن تدوين التاريخ كما يقول جوتشلك « اأقرب اإىل الفن اأو الفلسفة اأو اجلدل اأو الدعاية<br />

اأو الدفاع اخلاص .. ومبا اأن هناك طرقًا خمتلفة لعرض احلقائق التاريخية فاإن احلقيقة ل تظل هي الأساس<br />

الوحيد للحكم على قيمة الكتابات التاريخية،‏ اإذ املعيار الثاين من املعايري التي يزن بها املرء تلك الكتابات هو ما<br />

تنطوي عليه مبادئ الكاتب الفلسفي من بصرية،‏ فاملوؤرخ ل يستطيع ان يتجنب فلسفة ما اأو دستورًا اأخاقيًا .. اإن<br />

املوؤرخ الذي ليست لديه مبادئ فلسفية اأو اأخاقية ليست لديه اأسس يقيس بها التغري اأو الستمرار..«.‏ راجع<br />

لويس جوتشلك:‏ كيف نفهم التاريخ،‏ ترجمة:‏ عائدة ‏سليمان عارف واأحمد مصطفى اأبو حاكمة،‏ القاهرة : دار<br />

الكاتب العربي وموؤسسة فرانكلني للطباعة والنشر،ط‎1‎‏،‏ 1966، ‏ص‎23-20‎‏.‏<br />

6- هناك رافدان اأساسيان يصبان يف نظرية السرد هذه،‏ ويدليان بدلوهما يف مصاألة العاقة بني السرد والتاريخ،‏<br />

الرافد الأول متثله جماعة من منظري الأدب والفاسفة ذوي التوجه السيميولوجي،‏ اأولئك الذين درسوا السرد يف<br />

كل جتلياته،‏ وراأوا فيه جمرد ‏شفرة للخطاب بني ‏شفرات اأخرى ‏)مثل بارت،‏ وفوكو،‏ وتودوروف،‏ واإيكو(.‏ والرافد<br />

الثاين متثله جماعة من الفاسفة والدارسني ذوي التوجه الهرمنيوطيقي،‏ واأولئك راأوا يف السرد خطابًا يتجلى فيه<br />

نوع حمدد من الوعي بالزمن واأبنيته ‏)مثل جادامر وريكور(‏ راجع هنا اأيضً‏ ا ما ذكره وايت يف املرجع املشار اإليه<br />

‏سابقً‏ ا،‏ خصوصً‏ ا ‏ص 31-30.<br />

7- راجع مقدمة وايت للمرجع نفسه،‏ خصوصً‏ ا ‏ص .x-ix ويف هذا السياق نفسه يقول بول ريكور:‏ “.. اخلطاأ<br />

الأساسي لأولئك الذين يعارضون بني التاريخ واملحكي،‏ يتمثل يف جهلهم للطابع الواضح الذي تضفيه احلبكة<br />

على املحكي..‏ ويف الوقت نفسه يتم جتاهل املسافة التي يضعها املحكي بينه وبني التجربة احلية؛ ذلك اأنه بني اأن<br />

نعيش واأن نحكي ينحرف تباعد ما،‏ مهما كان ‏ضئياً،‏ فاحلياة هي معيش،‏ فيما التاريخ حمكي..ل ينبغي القول<br />

باأن التخييل ل مرجعية له،‏ ومن جهة ثانية ل يجب القول باأن التاريخ يرجع اإىل املاضي بنفس الطريقة التي ترجع<br />

بها التوصيفات التجريبية للواقع احلاضر..‏ اإن احلبكات التي نبتدعها تساعدنا على اأن نشخص جتربتنا الزمنية<br />

املضطربة،‏ الفاقدة للشكل والبكماء يف حدها الأقصى..”‏ راجع:‏<br />

- بول ريكور : من النص اإىل الفعل ، اأبحاث التاأويل،‏ ترجمة:‏ حممد برادة وحسان بورقية،‏ القاهرة : دار عني<br />

للدراسات والبحوث الإنسانية والجتماعية،‏ ط‎1‎‏،‏ 2001، ‏ص 13-12.<br />

8- ليندا هتشيون:‏ رواية الرواية التاريخية،‏ ترجمة ‏شكري جماهد،‏ جملة فصول،‏ املجلد 12، العدد 2، القاهرة :<br />

‏صيف 1993، ‏ص 97-96.<br />

9- انظر:‏ املرجع نفسه ، ‏ص 111. وانظر املرجعني التاليني للموؤلفة نفسها:‏<br />

- احلكي:‏ القصص والتاريخ،‏ ‏ضمن كتاب احلداثة وما بعد احلداثة،‏ اإعداد وتقدمي بيرت بروكر ، ترجمة عبد<br />

اأبحاث


2 0 1 1<br />

102<br />

الوهاب علوب،‏ مراجعة جابر عصفور،‏ اأبو ظبي،‏ الإمارات العربية املتحدة : منشورات املجمع الثقايف ، 1995، ‏ص<br />

.378-377<br />

- Linda Hutcheon, The Poetics of Postmodernism,57.<br />

- 10 تلك فكرة يرتدد ‏صداها يف معظم ما كتب عن الرواية التاريخية املعاصرة التي ازدهرت ازدهارًا لفتًا،‏ حيث<br />

وجد فيها الكتاب احلداثيون وما بعد احلداثيني اأداة لضرب كل القناعات الراسخة حول التمييز بني احلقيقة<br />

واخليال والعلم والفن والشعر والنرث .. اإلخ.‏ وكما يقول اأحد النقاد:‏ “ حتى النسخة ما بعد احلداثية من الرواية<br />

التاريخية،‏ التي وصفت من قبل بعض النقاد باأنها تاريخ ‏شارح؛ تضع التاريخ يف بوؤرة اهتمامها.‏ اإن كتاب ما بعد<br />

احلداثة ونقادها،‏ بتشكيكهم يف السرديات الكربى،‏ ويف موضوعية التاريخ،‏ ويف اتساق الهويات،‏ اإمنا يعيدون كتابة<br />

املاضي من منظور اأولئك الذين كانوا ‏ضحايا ‏)النساء،‏ الشعوب البدائية،‏ مثليي اجلنس(.‏ وقد اأثر املوقف ما بعد<br />

احلداثي تاأثريًا كبريًا يف كل من يكتبون الرواية التاريخية اليوم،‏ لقد ‏ساقتهم ‏سوقًا اإىل اأن يصبحوا الأوائل يف<br />

جمالت لطاملا جتاهلها املوؤرخون«‏ . راجع:‏<br />

زيارة املوقع)‏<br />

- Guy Vanderhaeghe (2006). “Writing History Vs.Writing the Historical Novel”, 136.<br />

(http://www.drumlummon.org/images/PDF-Spr-Sum06/DV_1-2_Vanderhaeghe.pdf).<br />

‏(بتاريخ 28 أبريل 2009<br />

اأما عبد الرحمن منيف،‏ ‏صاحب مدن امللح واأرض السواد،‏ فيقول يف السياق نفسه:‏ الروائي ل مييل اإىل التاريخ الرسمي،‏<br />

لأن هذا التاريخ كتبه احلكام والأقوياء،‏ يف الوقت الذي غيب وجهات النظر الأخرى اأو ‏شوهها،‏ وعليه فهو تاريخ<br />

طرف واحد.‏ الروائي يتوجه يف معظم احلالت اإىل التاريخ املغيب،‏ الآخر،‏ ليس من اأجل اإعادة كتابة التاريخ،‏ واإمنا<br />

من اأجل عرض الوقائع،‏ والتنصت اإىل اأصوات الذين مل تتح لهم الفرصة لكي يسمعوا اأصواتهم،‏ ولإبداء وجهات<br />

نظرهم مباشرة .. واإذا افرتضنا ‏صحة املقولة التي تصف الرواية باأنها ‏“فن النميمة”،‏ فيجب األ نستغرب<br />

توجهها نحو املسكوت عنه،‏ اأو نحو ذاك الذي ل يقال علنًا،‏ واأيضً‏ ا توجهها نحو الناس ‏“الصغار”،‏ لأن للكبار من<br />

ينطق باسمهم ويربر ‏سلوكهم ويربز عبقرية تصرفاتهم.‏ بصيغة اأخرى:‏ اإن الرواية متيل اإىل التسلل عرب النوافذ،‏<br />

نظرً‏ ا لأن البوابات ل تسمح اإل بدخول التاريخ الرسمي،‏ وتعترب ذلك التاريخ وحده الذي يحمل ‏سمة الدخول،‏<br />

واملسموح له باجتياز احلدود.‏<br />

التاريخ الرسمي معني بتسجيل وقائع احلكام والأقوياء،‏ ومفتون بتغييب من عداهم،‏ من اخلصوم وناس القاع.‏<br />

والرواية ل حتاول جتاهل الأقوياء واحلكام،‏ وحتاول يف نفس الوقت اأن ترد العتبار للذين مل يكن لهم ‏صوت مسموع،‏<br />

وهذا ما يجعل الرواية تهتم بالبسطاء،‏ واأن تعيد رسم املشهد بتفاصيله احلقيقية..‏ عبد الرحمن منيف:‏ التاريخ<br />

ذاكرة اإضافية للإنسان)حاوره فيصل دراج(،‏ حوار الكرمل،‏ جملة الكرمل ‏)العدد 36، ربيع 2000( ‏ص 29-19.<br />

‏)وقد نشر احلوار بعد ذلك يف كتاب عبد الرحمن منيف : رحلة ‏ضوء،‏ بريوت:‏ املوؤسسة العربية للدراسات والنشر<br />

، 2001. وراجع هنا اأيضً‏ ا جمموعة املقالت املمتازة التي نشرها فيصل دراج يف جملة الكرمل يف السنوات العشر<br />

الأخرية من عمرها،‏ خصوصً‏ ا مقالته الكتابة الروائية وتاريخ املقموعني،‏ جملة الكرمل ‏)العددان 77-76 ، ‏صيف-‏<br />

خريف 2003(. وحول غياب ‏»العامة«‏ يف الكتابات التاريخية الرسمية راجع:‏ حسن كشاحي : اإشكالية ‏»العامة«‏ يف<br />

الكتابات التاريخية:‏ املغرب والأندلس خال العصر الوسيط منوذجا،‏ جملة فكر ونقد،‏ العدد 74، ‏ص 50-41،<br />

)mth.ihahcak40_74n/ten.debairbajla.dkanawrkfi.www//:ptth( ‏)زيارة املوقع 25 ديسمرب 2008(<br />

- 11 راجع:‏<br />

Richard Lee, “History is but a fable agreed upon: the problem of truth in history and fiction”. (http://<br />

www.historicalnovelsociety.org/historyis.htm)


103<br />

2 0 1 1<br />

‏(زيارة املوقع 23 مارس 9002(<br />

12- اأيان واط:‏ نشوء الرواية،‏ ترجمة:‏ ثائر ديب،‏ القاهرة:‏ دار ‏شرقيات للنشر والتوزيع،‏ 1997، ‏ص 16.<br />

13- راجع<br />

- Guy Vanderhaeghe (2006). “Writing History Vs.Writing the Historical Novel”,136<br />

‏)زيارة املوقع (http://www.drumlummon.org/images/PDF-Spr-Sum06/DV_1-2_Vanderhaeghe.pdf).<br />

بتاريخ 28 أبريل 2009(<br />

ومن الافت يف هذا السياق اأن جند كتابًا بعنوان ‏“تراث العبيد يف حكم مصر املعاصرة:‏ دراسة يف علم الجتماع<br />

التاريخي”‏ وهو ملوؤلف يسمي نفسه الدكتور ع.‏ ع،‏ ‏)منشور يف القاهرة : املكتب املصري للمعارف،‏ 1995( يتحدث<br />

فيه عن امتدادات العصر اململوكي بسياساته واأخاقياته ومفرداته يف حياتنا السياسية املعاصرة،‏ وخصوصً‏ ا بعد<br />

ثورة يوليو 1952.<br />

14- حممد ‏سعيد العريان:‏ على باب زويلة ، القاهرة : دار الكاتب املصري،‏ ط‎1‎‏،‏ مارس 1947.<br />

15- ‏سعد مكاوي:‏ السائرون نيامً‏ ا،‏ القاهرة : الدار القومية للطباعة والنشر،‏ ط‎1‎‏،‏ 1965.<br />

16- جمال الغيطاين:‏ الزيني بركات،‏ القاهرة : دار الشروق،‏ ط‎2‎‏،‏ 1989. ( بالنسبة للروايات الثاث،‏ ‏سنعتمد هذه<br />

الطبعات،‏ وسنقتصر بعد ذلك على الإشارة اإىل الصفحات يف املنت(‏<br />

17- لقد ‏شغل التاريخ والعودة اإىل املاضي حيزً‏ ا كبريًا من جتربة كتابنا الثاثة؛ فاستغرقت جتربة العريان كلها تقريبًا،‏<br />

حيث كتب اإىل جانب على باب زويلة روايات تاريخية اأخرى مثل ‏“قطر الندى”‏ و“شجرة الدر”‏ و“بنت قسطنطني”‏<br />

وغريها من قصص الأطفال والقصص املدرسي،‏ اأما ‏سعد مكاوي فقد كتب اإىل جانب ‏“السائرون نيامً‏ ا”،‏ روايتني<br />

تاريخيتني اأخريني على الأقل،‏ هما ‏“الكرباج”‏ و“ل تسقني وحدي”،‏ والأمر نفسه ينطبق على الغيطاين الذي كتب<br />

مستلهمً‏ ا التاريخ واملاضي قبل الزيني بركات يف القصص التي ‏ضمتها جمموعته الأوىل ‏“اأوراق ‏شاب عاش منذ<br />

األف عام”‏ وبعدها يف رواية مثل ‏“كتاب التجليات”.‏ ويبدو اأن من يجربون كتابة الرواية التاريخية مرة يعودون<br />

اإليها بعد ذلك مرارًا،‏ وقد ‏صارت الرواية التاريخية املشروع الأساس لعدد كبري من الكتاب يف ثقافات خمتلفة؛<br />

فرائد الرواية التاريخية السري والرت ‏سكوت استغرقته متامً‏ ا جتربة الرواية التاريخية،‏ والأمر نفسه ميكن اأن<br />

ناحظه مع رائد اآخر لهذا النوع كجورجي زيدان،‏ وهو ما ينطبق اأيضً‏ ا على كاتب مثل اأمني معلوف.‏<br />

‎18‎‏-يف الأربعينيات ظهرت جمموعة من الكتاب اأرادت استخدام الرواية التاريخية يف الدعوة اإىل ما توؤمن به؛ فكتب<br />

بعضهم مستلهمني التاريخ الفرعوين،‏ مثل عادل كامل الذي كتب ‏“ملك من ‏شعاع”‏ عن اإخناتون،‏ وجنيب حمفوظ<br />

الذي كتب رواياته التاريخية الثاث التي بداأ بها مسريته الروائية:‏ ‏“عبث الأقدار”‏ و“رادوبيس”‏ و“كفاح طيبة”،‏<br />

بينما انصرفت جمموعة اأخرى اإىل استلهام التاريخ العربي والإصامي،‏ مثل حممد فريد اأبي حديد وعبد احلميد<br />

جودة السحار وعلي اأحمد باكثري وحممد ‏سعيد العريان.‏ ورمبا كانوا جميعًا يطمحون اإىل تقليد مشروع الرائد جورجي<br />

زيدان يف كتابة التاريخ بالروايات.‏ وهكذا اأخذ كل واحد من هوؤلء يبني مشروعه يف كتابة جمموعة من الروايات<br />

التاريخية،‏ ومنهم من مل يكتب ‏سوى الرواية التاريخية كالعريان.‏ ويصرح جنيب حمفوظ باأنه بداأ كتابة الرواية<br />

مبشروع كمشروع زيدان ولكن لكتابة تاريخ مصر،‏ لكنه عدل عن املشروع بعد الروايات الثاث الأوىل.‏ راجع:‏<br />

- حلمي حممد القاعود:‏ الرواية التاريخية يف اأدبنا احلديث،‏ القاهرة : الهيئة العامة لقصور الثقافة،‏ ‏سلسلة<br />

كتابات نقدية ، اأكتوبر 2003.<br />

- قاسم عبده قاسم واأحمد اإبراهيم الهواري:‏ الرواية التاريخية يف الأدب العربي احلديث:‏ نصوص تاريخية<br />

ومناذج تطبيقية من الرواية املصرية،‏ القاهرة : دار املعارف،‏ 1979.<br />

اأبحاث


2 0 1 1<br />

104<br />

- رجاء النقاش:‏ جنيب حمفوظ : ‏صفحات من مذكراته واأضواء جديدة على اأدبه ، القاهرة : مركز الأهرام<br />

للرتجمة والنشر،‏ 1998، ‏ص 54، وص 187.<br />

19- يقول ‏شفيع السيد متحدثًا عن روايات العريان التاريخية:‏ ‏“والنظرة النقدية اإىل هذه الروايات تشري اإىل فقدان<br />

الرتباط بني اأحداث ماضيها البعيد وحاضر املوؤلف،‏ واأن ليس ثمة انعكاس لظال الواقع الجتماعي اأو القومي<br />

الذي كان يعايشه الكاتب على وقائع ذلك التاريخ الذي تعاجله رواياته.‏ وخاصة القول فيها اأنها تقدم بعض<br />

فصول من تاريخنا تقدميًا بارعً‏ ا يخلو من جفاف التاريخ ..”) ‏شفيع السيد:‏ اجتاهات الرواية املصرية منذ<br />

احلرب العاملية الثانية اإىل ‏سنة 1967، القاهرة:‏ دار املعارف 1978، ‏ص ‎46‎‏.(واإذا كان هذا هو حال الرواية<br />

وصاحبها باملقارنة مع ما جاء بعدها من روايات تاريخية،‏ فاإن رواية ‏“على باب زويلة”‏ مثلت باملقارنة مع ما<br />

‏سبقها من روايات تاريخية تعليمية،‏ خطوة مهمة نحو الرتباط باحلاضر ونحو اإدراك اجلانب الذي مل يتحدث عنه<br />

التاريخ الرسمي،‏ اأي احلياة اليومية للناس وما يكتنفها من هموم،‏ وهذا ما يعكسه الفهم النظري الذي يعرب عنه<br />

العريان يف مقالته.‏ يقول يف اإحدى هذه املقالت:‏ ‏“التاريخ عندي .. هو الناس،‏ هو السوقي كيف يبيع ويشرتي،‏<br />

والنادل يف القهوة كيف يسمع ويجيب،‏ وبياع اليانصيب يف حماط الرتام وعلى اأبواب املساجد،‏ وهو ‏شرطي املرور،‏<br />

وبواب العمارة،‏ وخادم الدار،‏ وهو زوجي وولدي،‏ وزمائي يف الديوان،‏ وسماري يف القهوة،‏ ثم هو طعامي وشرابي<br />

.. اأشياء واأشياء هي منا واإن بعدت عنا..‏ وهي العصر والتاريخ والبيئة..‏ وتبني وتهدم يف حياتنا اأكرث مما تبني<br />

وتهدم اأحداث السياسة ووقائع التاريخ العام«‏ ‏)حممد ‏سعيد العريان:‏ العصر والبيئة يف الأدب والتاريخ،‏ جملة<br />

الثقافة 23 ديسمرب 1941) ‏ضمن كتاب قاسم عبده قاسم واأحمد اإبراهيم الهواري:‏ الرواية التاريخية يف الأدب<br />

العربي احلديث،‏ القاهرة : دار املعارف،‏ 1978(، ‏ص 175.<br />

20 ‏-نشرت ‏“السائرون نيامً‏ ا”‏ لأول مرة مسلسلة يف جريدة ‏“اجلمهورية”‏ ‏)من 1963/1/10 اإىل 1963/7/19(، ثم<br />

نشرت يف كتاب ‏صدر يف القاهرة:‏ الدار القومية للطبع والنشر،‏ 1965. ورواية على هذا القدر من التساع والتنوع لبد<br />

اأنها احتاجت زمنًا طوياً‏ لإعداد مادتها التاريخية،‏ ومن ثم فاإن املتوقع اأن تكون مكتوبة قبل عام 1963 باأعوام.‏<br />

21- من حديثه املنشور يف كتاب عبد الرحمن اأبو عوف:‏ حوار مع هوؤالء،‏ القاهرة : الهيئة العامة لقصور الثقافة،‏<br />

،1990 ‏ص .75<br />

22- يف اأحاديثه املختلفة يشري الغيطاين اإىل اأن كتابة رواية الزيني بركات كانت استجابته اخلاصة ملا وقع يف عام<br />

1967، وما ‏سبقها من قمع وسجن.‏ وقد ‏صدرت الطبعة الأوىل من الرواية يف دمشق:‏ وزارة الثقافة السورية،‏<br />

1974، ثم جاءت الطبعة الثانية يف القاهرة:‏ مكتبة مدبويل،‏ 1975، وتوالت بعد ذلك طبعات الرواية يف القاهرة<br />

ويف غريها من العواصم العربية.‏<br />

23- جمال الغيطاين:‏ جتربتي يف كتابة القصة،‏ جملة الهال،‏ القاهرة : عدد مارس 1977، ‏ص 60<br />

24- يقف الرافعي بكتاباته املختلفة على راأس هذه الفئة الرومانتيكية التي اعتدت برتاثها اللغوي والديني اأميا اعتداد،‏<br />

وعملت من داخل هذا الرتاث على التعبري عن عواطفها املشبوبة.‏<br />

25- حول جتربة ‏سعد مكاوي وجيله راجع الفصل الذي كتبه ‏سيد حامد النساج:‏ اجتاهات القصة املصرية القصرية،‏<br />

القاهرة ‏:دار املعارف،‏ 1978. الفصل بعنوان ‏“الواقعية النحيازية”،‏ وحلل فيه مواقف الكاتب وقصصه من<br />

منظور الواقعية الشرتاكية،‏ وراجع كذلك خريي دومة ‏:القصة القصرية عند ‏سعد مكاوي”،‏ القاهرة:‏ رسالة<br />

ماجستري خمطوطة،‏ كلية الآداب جامعة القاهرة 1989.<br />

26- حول جتربة جيل الستينيات الذي ينتمي اإليه جمال الغيطاين،‏ ووعيه واأساليبه اجلديدة يف روؤية الواقع،‏ راجع<br />

خصوصً‏ ا القسم الثاين من كتاب حممد بدوي:‏ الرواية احلديثة يف مصر ، القاهرة:‏ الهيئة املصرية العامة


105<br />

2 0 1 1<br />

للكتاب،‏ 1993.<br />

27- ليس الروائيون وحدهم هم من يرون مسرية التاريخ وفقً‏ ا لصيغة فنية معينة،‏ واإمنا املوؤرخون اأيضً‏ ا يقومون<br />

بذلك.‏ هذا ما تكشف عنه دراسة هايدن وايت ملا قام به موؤرخو اأوروبا الكبار الذين اأسسوا علم التاريخ يف القرن<br />

التاسع عشر؛ اإذ يراه ميشيليه يف ‏صيغة الرومانس،‏ ويراه رانكه يف ‏صيغة الكوميديا،‏ بينما يراه توكيفيلي يف ‏صيغة<br />

الرتاجيديا،‏ ويراه بوخاردت يف ‏صيغة الهجاء الساخر.‏ راجع خصوصً‏ ا القسم الثاين من كتاب وايت التايل:‏<br />

- Hayden White, Metahistory: The Historical Imagination in Nineteenth-Century Europe.<br />

28- يقول يحيى حقي باأسلوبه الساخر املعروف وهو يناقض قصة ‏“بنت قسطنطني”‏ ملحمد ‏سعيد العريان:‏ ‏“والظاهر<br />

اأن الأستاذ العريان يتهيّاأ للقيام بدور يشبه ما قام به من قبل جورجي زيدان يف رواية التاريخ العربي.‏ ونحن نتمنى<br />

له النجاح ونحثه على املواظبة،‏ فهو نعم املدافع عن تراثنا واأجمادنا.‏ واإين اأكرب من الفائدة التي يجنيها طلبة<br />

املدارس من قراءة قصصه،‏ فاإنها جديرة باأن تهذب نفوسهم وتقوّم األسنتهم”.‏ راجع:‏<br />

يحيى حقي:‏ ‏“بنت قسطنطني ملحمد ‏سعيد العريان”،‏ جريدة املصري 1948/10/22، نقاً‏ عن كتاب ‏»خطوات يف<br />

النقد«‏ ، القاهرة:‏ الهيئة املصرية العامة للكتاب،‏ 1976، ‏ص 74.<br />

‎29‎‏-يلتفت عبد املنعم عامر حمقق كتاب ‏“ابن زنبل الرمال”‏ اإىل العاقة الواضحة بني قصة ‏“على باب زويلة”‏ وكتاب<br />

‏“ابن زنبل”‏ يقول:‏ ‏»واعتمد عليه رواد القصة التاريخية،‏ فنسجوا من بعض حوادثه قصصً‏ ا له اأثره يف احلياة الأدبية<br />

املعاصرة،‏ كما فعل السيد الأستاذ ‏سعيد العريان يف قصته املشهورة ‏“على باب زويلة”‏ ‏ص 73 من مقدمة املحقق.‏<br />

راجع ابن زنبل الرمال:‏ اآخرة املماليك،‏ اأو واقعة السلطان الغوري مع ‏سليم العثماين،‏ حتقيق عبد املنعم عامر،‏<br />

القاهرة:‏ الهيئة املصرية العامة للكتاب،‏ ط 1998. ، 2 هذا وقد اأمعن العريان يف تعميق عاقة كتابه بكتاب ‏“ابن<br />

زنبل”‏ خصوصً‏ ا،‏ حني ‏ساوى بوضوح بني ‏شخصية اأرقم الرمال والد طومان باي الذي خرج طلبًا للثاأر،‏ وبني ‏شخصية<br />

اأحمد الرمال موؤلف كتاب ‏“اآخرة املماليك”،‏ وصاحب النبوءة التي مل يفهمها الغوري على وجهها الصحيح.‏<br />

30- ميكن للمرء اأن يقارن هنا بني قصة طومان باي كما يرويها العريان يف روايته،‏ والقصة نفسها كما يرويها عماد اأبو<br />

غازي معتمدً‏ ا على جمموعة الوثائق وعلى كتابي ابن اإياس وابن زنبل الرمال،‏ ليكتشف اأن العريان قد ‏صنع بخياله<br />

الروائي اجلزء الأول املجهول من حياة طومان الطفل،‏ واأنه بداأ احلكاية برتتيبها التاريخي،‏ بينما بداأ اأبو غازي<br />

من لقطة النهاية ومشهد الشنق على باب زويلة.‏ راجع عماد اأبو غازي:‏ طومان باي السلطان الشهيد،‏ القاهرة:‏ دار<br />

مرييت للنشر واملعلومات،‏ 1999.<br />

31- يف هذا السياق نفسه يقول يحيى حقي اأيضً‏ ا عن اأسلوب العريان:‏ ‏“واإذا تركنا طلبة املدارس وتكلمنا عن العريان<br />

كقصصي نقول اإنه حمروم من هذا القلق الغامض الذي ينبغي اأن جتيش به نفس الكاتب الفنان ... ولعل اأشق ما<br />

يعانيه الكاتب الفنان هو حريته يف الهتداء اإىل الطريق الوسط بني قلق الفكرة وهدوء الأسلوب.‏ فللعريان اأسلوب<br />

كاملرمر ناصع ثقيل مصقول تنزلق عليه األفاظ،‏ بعضها فرادى،‏ وبعضها جملة يف خيط واحد،‏ وكلها رغم حشمتها<br />

واأدبها وكمالها مضاعة يف ذل الأسر والسخرة..«‏ راجع يحيى حقي،‏ املرجع السابق،‏ الصفحة نفسها.‏ حتى طه<br />

حسني نفسه،‏ وبعد اأن يبدي اإعجابه بالكاتب الذي ‏»اآثر مذهب القاص على مذهب املوؤرخ«‏ والذي يتوجه بكتابه اإىل<br />

عامة املثقفني ل اإىل املوؤرخني وحدهم،‏ وحتى بعد اإعجابه بالتاريخ الصحيح والتحليل الدقيق والأسلوب الرصني،‏<br />

ل يتورع عن السخرية من اأسلوب العريان بسبب « هذه الإنات التي يسرف بها الكاتب على نفسه وعلى الناس،‏ ل<br />

يف هذا الكتاب وحده،‏ بل يف كل ما يكتب،‏ واأكاد اأملي يف كل ما يقول«.‏ راجع : طه حسني:‏ على باب زويلة،‏ قصة<br />

تاريخية للأستاذ حممد ‏سعيد العريان،‏ القاهرة:‏ جملة الكاتب املصري،‏ جملد 5- العدد ، 19 اأبريل 1947، ‏ص<br />

.595-594<br />

اأبحاث


2 0 1 1<br />

106<br />

32- يف هذا املجلس الصويف،‏ يتحدث طومان باي يف جملة حوار طويلة كاأنها خطبة،‏ عن الفئات التي يتاألف منها جمتمع<br />

القاهرة حملا موقف كل فئة ودوافعها،‏ فيقول:‏ “- على رسلكم اأيها الإخوان،‏ اإمنا نحن جميعًا هنا اأبناء مصر،‏<br />

جراكسة،‏ واأعرابًا،‏ ومصريني؛ كلنا ‏سواسية يف احلق والواجب،‏ واإمنا يغلبنا السلطان اجلائر على اأنفسنا بهذه<br />

العصبية التي تفرقنا وتشق عصا جماعتنا!‏ وماذا يجدينا اأن نفاخر باأنسابنا وهذا السيف مصلت على رءوسنا<br />

جميعًا يف يد ‏صبي عابث قد استبدت به ‏شهواته،‏ فليس يعنيه من اأمر هذا الشعب قليل ول كثري؟ ليس فينا من<br />

يرضى هذه احلال الأليمة:‏ اأما الأعراب فيعربون عن ‏سخطهم بهذه الغارات املتتابعة على اأطراف املدينة،‏ ويف<br />

البوادي،‏ وعلى حدود املدائن يف الشمال واجلنوب،‏ فا ينالون ‏شيئًا من السلطان ولكن ينالون من اإخوانهم،‏ ومن<br />

اأنفسهم؛ واأما املماليك فيتخذون ‏سلطانهم قدوة فا يزالون يعيثون يف الأرض الفساد،‏ ينهبون،‏ ويفتكون،‏ ويهتكون؛<br />

واإمنا يتعجلون اآخرتهم بهذه املظامل؛ واأما املصريون فينظرون اإىل هوؤلء واأولئك ‏ساهرين اأو ‏شامتني،‏ ثم ل يزال<br />

فتيانهم يوؤلفون العصائب للتخويف والإرهاب وانتهاز الفرص،‏ ويتندرون فكهني مبا كان ومبا ‏سيكون؛ والسلطان<br />

يلهو..‏ واإمنا ‏سبيل اخلاص واحدة:‏ هي اجتماع الكلمة على تقومي املعوج،‏ وليكن السلطان بعد ذلك من يكون،‏<br />

مصريًّا،‏ اأو عربيًّا،‏ اأو من اأبناء اجلركس!..‏ فكلنا ملصر”‏ ‏)الرواية ‏ص 73-72(<br />

33- يف نهاية جملس طرب واأنس ‏ضم طومان باي واأمراء املماليك كما ‏ضم طوائف متنوعة من املصريني،‏ ‏شعراء<br />

وعلماء وجتار..اإلخ ، يتدخل الراوي العليم املوؤرخ،‏ معلقً‏ ا على هوؤلء املماليك الذين جاءوا للقبض على علي بن<br />

رحاب املغني الشهري،‏ ويستغل الفرصة ليعطينا درسً‏ ا مطوّل قي التحليل الجتماعي والسياسي،‏ ل عاقة له<br />

باأحداث القصة ل من قريب ول من بعيد:‏ “ مل يكن علي بن رحاب املغني اأمريًا من اأمراء املماليك يُخاف ويُتقى؛<br />

نعم،‏ ول كان من اأولد الناس:‏ تلك الطبقة التي كان اآباوؤها منذ جيل اأو اأجيال مماليك من ذوي السلطان فا<br />

يزالون يعيشون مما خلف اآباوؤهم من املال واملتاع والضياع،‏ مباهني باأنهم ‏“اأولد الناس”‏ الذين يحسب الأمراء<br />

احلاكمون حسابهم ويتقونهم،‏ نعم،‏ ول كان علي بن رحاب من املماليك القراصنة الذين كان لهم يومً‏ ا دولة<br />

وسلطان ثم دالت دولتهم وذهب ‏سلطانهم بنزول اأستاذهم عن العرش ولكن اأنفسهم ل تزال تنازعهم اإىل الإمارة<br />

ول يزالون يدبرون خللع السلطان القائم عن العرش ليتوله اأمري من ‏“طبقتهم”‏ ينتسبون اإليه وياأمترون يف كنفه،‏<br />

ول كان علي بن رحاب مملوكً‏ ا من املماليك ‏“اجللبان”‏ الذين ينتسبون اإىل السلطان اجلالس على العرش فا<br />

يزالون يتنافسون يف اأسباب الزلفى اإليه بالدس واخليانة لريفعهم من طبقة املماليك اإىل طبقة الأمراء..‏<br />

مل يكن علي بن رحاب املغني واحدً‏ ا من هذه الطوائف اجلركسية،‏ ول كان ‏شيخً‏ ا من ‏شيوخ العربان الثائرين اأبدً‏ ا<br />

على املماليك ل يدخلون حتت طاعة ‏سلطان منهم اإل مطاولة ورياء حتى جتتمع جموعهم فيعودوا بعد جمام اإىل<br />

الثورة والعصيان..‏ ول كان تاجرً‏ ا من مياسري التجار املصريني الذين تفرض عليهم النظم القتصادية التي<br />

اأملتها مطامع الصاطني اأن يكونوا اأبدً‏ ا على حذر ورقبة من غدر السلطان واأن يكون السلطان واأمراوؤه على حذر<br />

منهم،‏ ول كان واحدً‏ ا من فتيان الزعر اأو زعمائهم:‏ تلك العصائب الشعبية التي تاألفت يف الظام ملقاومة طغيان<br />

الصاطني وعسف الأمراء..‏ ول كان من تلك الطبقة املصرية الضئيلة من الفقهاء واأهل الكتابة الذين اأهلتهم<br />

مواهبهم ليتولوا بعض الوظائف السلطانية مبقدار ما تبعد بهم عن اأبناء جلدتهم،‏ فا يزالون مرتددين بني<br />

العوامل املتناقضة تتنازعهم ذات اليمني وذات الشمال،‏ ول يزالون بذلك موضع الريبة عن املصريني وعند<br />

املماليك على السواء.‏<br />

مل يكن علي بن رحاب،‏ واحدً‏ ا من هذه الطوائف التي تنتظم املصريني واجلركس جميعًا...‏ فلماذا يخافه الدوادار<br />

الكبري ويرسل عسكره للقبض عليه؟...ملاذا؟..‏<br />

لأن علي بن رحاب واإن مل يكن من اأولئك اجلركس،‏ ول من هوؤلء املصريني الثائرين كان يشعر اأنه مصري،‏ واأن


107<br />

2 0 1 1<br />

مصريته تفرض عليه اأن يتتبع الأحداث اجلارية يف وطنه بني الشعب واأمرائه،‏ واأن يكون له راأي فيما يجري من<br />

تلك الأحداث،‏ واأن يتحدث براأيه اإىل من يغشى جملسه من اأصحابه اأو من غري اأصحابه،‏ وكان له لسان وبيان،‏ وله<br />

اإىل ذلك منزلة يف نفوس الناس،‏ واإنه لشاعر ‏،اإن كانت ‏شهوته باملوسيقى والغناء؛ وكان جملسه يضم من السراة<br />

والعلية طائفة من املصريني لو اجتمعت على راأي لتزلزلت قوائم عرش السلطان .. من اأجل ذلك”‏ اإلخ)ص<br />

107-105(. وهكذا ينتهز الراوي املوؤرخ فرصة هامشية يف روايته ليلقي علينا درسً‏ ا طوياً‏ يف التحليل الجتماعي<br />

والسياسي،‏ وسرعان ما يختفي علي بن رحاب وينساه املوؤرخ الراوي فيما ينسى.‏<br />

34- يقارن حممود حامد ‏شوكت بني ‏“على باب زويلة”‏ وسابقاتها من روايات العريان التاريخية ، ويرى فيها تقدمً‏ ا<br />

ملحوظً‏ ا واتساعً‏ ا يف الصورة وابتكارًا يف الشخوص.‏ يقول:‏ على اأن موضوع ‏“على باب زويلة”‏ بداية ملرحلة ثانية<br />

يف حياة الكاتب الفنية؛ فاللوحة تتسع طولً‏ وعرضً‏ ا،‏ ويبتكر الكاتب يف الشخصيات واحلوادث،‏ مستفيدً‏ ا من<br />

جتاربه يف املرحلة الأوىل،‏ فالقصة عرض حلياة مملوك منذ ولدته حتى مقتله،‏ ويستهوي الكاتب جانب اإنساين<br />

جديد طغت عليه اجلوانب السياسية العامة يف القصص السابقة ‏....يوازي هذا العرض التاريخي عرض قصة<br />

موضوعة،‏ قوامها ‏سعي اأم ‏سرق ولدها فتتبع اآثاره واأخباره عامً‏ ا بعد عام يف دولة بعد دولة حتى تصل اإىل مصر،‏<br />

وتلتقي بزوجها اأرقم،‏ ول تتمكن من روؤية ابنها اإل وهو قتيل مصلوب..«.‏ راجع حممود حامد ‏شوكت:‏ القصة<br />

العربية احلديثة يف مصر،‏ بحث تاريخي وحتليلي مقارن،‏ القاهرة : دار اجليل للطباعة،‏ 1974، ‏ص 147-145.<br />

35- نشر ‏سعد مكاوي قبل ‏“السائرون نيامً‏ ا”‏ عشر جمموعات قصصية،‏ لكن منجزه السردي يتضح على وجه<br />

اخلصوص يف جمموعات مثل:‏<br />

- يف قهوة املجاذيب،‏ القاهرة : دار روز اليوسف،‏ ‏سلسلة الكتاب الذهبي)العدد 35(، ، اأبريل 1955.<br />

- املاء العكر،‏ القاهرة : دار الفكر،‏ ، 1956.<br />

- جممع الشياطني،‏ القاهرة : دار روز اليوسف،‏ ‏سلسلة الكتاب الذهبي ‏،العدد 69، ديسمرب 1959.<br />

- الزمن الوغد،‏ القاهرة : الدار القومية للطباعة والنشر،‏ ‏سلسلة الكتاب املاسي ‏،العدد 1، ، فرباير‎1962‎‏.‏<br />

وملزيد من التعرف اإىل مكانته يف تاريخ القصة املصرية القصرية ميكن الرجوع اإىل:‏<br />

خريي دومة:‏ القصة القشرة عند ‏سعد مكاوي،‏ القاهرة:‏ رسالة ماجستري خمطوطة،‏ كلية الآداب – جامعة<br />

القاهرة،‏ 1989.<br />

36- نشرت ‏“شهرية”‏ للمرة الأوىل مسلسلة يف جريدة ‏“املصري”‏ ‏)من 1948/12/7 اإىل 1949/1/15(، ظهرت بعد<br />

ذلك يف جمموعة بالعنوان نفسه ‏،القاهرة:‏ ‏ضمن ‏سلسلة الكتاب الفضي ‏،العدد 19، ديسمرب 1956.<br />

37- نشرت ‏“الرجل والطريق”‏ لأول مرة مسلسلة يف جريدة ‏“اجلمهورية”‏ ‏)من 1961 8/12 اإىل 1961(، 11/11 ثم<br />

نشرت يف كتاب ‏صدر يف القاهرة:‏ عامل الكتب ‏)د.ت(.‏<br />

38- راجع قصة مثل ‏“عزبة الشيخ الشاذيل«‏ يف نهاية جمموعة ‏»الزمن الوغد«.‏<br />

39- تاأمل قصته ‏“يف خر وسالم«‏ ‏ضمن جمموعة ‏»جممع الشياطني«،‏ وهي مونولوج واحد ممتد،‏ ثم انظر قصته<br />

‏»الزمن الوغد«،‏ وهي مونودراما من الطراز الرفيع ترسم باملونولوج ومبناجاة النفس املستوحدة،‏ ‏صورة حلياة<br />

الشاعر عبد احلميد الديب.‏<br />

40- راجعت الببليوجرافيات وصاألت الأصدقاء بحثًا عن استثناء اآخر يشبه ‏“السائرون نيامً‏ ا”‏ يف هذه املصاألة،‏ فلم<br />

اأجد ‏سوى ‏“عبث االأقدار”‏ لنجيب حمفوظ،‏ على ما يف هذا العنوان من بعد غامض يتصل بالتاريخ ومسريته.‏<br />

- 41 راجع يف هوامش الصفحات الأوىل من الرواية ‏شرحه ملصطلحات مثل ‏“الباذدارية”‏ و“جفتاوات”‏ و“الركبدارية”‏ اإلخ.‏<br />

42- قدم اإبراهيم فتحي قراءة كهذه لرواية السائرون نيامً‏ ا،‏ نشرها يف جريدة الأهايل يف 1986/6/19 بعنوان<br />

اأبحاث


2 0 1 1<br />

108<br />

‏“السائرون نيامً‏ ا:‏ طواويس على القمة وتيارات االأعماق الشعبية تتواىل«.‏ وقد اأعاد نشرها ‏ضمن كتابه<br />

‏»اخلطاب الروائي واخلطاب النقدي يف مصر،‏ القاهرة : الهيئة املصرية العامة للكتاب،‏ 2004.<br />

43- يف اأوائل الستينيات،‏ كان ‏سعد مكاوي قد ترجم عن الفرنسية كتابًا ملارسيل مارتن عنوانه ‏“اللغة السينمائية«،‏<br />

وقد ‏صدر الكتاب يف القاهرة:‏ املوؤسسة املصرية العامة للتاأليف والأنباء والنشر،‏ 1964. وقد اأخذت عنه مصطلح<br />

التوليف بنوعيه الروائي والتعبريي.)ص 35(<br />

44- ليس هنا جمال احلصر الببليوجرايف للدراسات التي تناولت الرواية،‏ وليس املقصود الهتمام النقدي الأكادميي<br />

وحده،‏ الذي تشري اإليه اأعداد الرسائل العلمية التي اتخذت من الرواية موضوعً‏ ا لها،‏ وهي رسائل كثرية يف جامعات<br />

وتخصصات خمتلفة،‏ واإمنا املقصود القراءات النقدية التي قدمها نقاد كبار للرواية ومنجزها،‏ ويكفي اأن نشري<br />

هنا اإىل قراءات نقاد من قبيل ‏سيزا قاسم ورضوى عاشور وسامية اأسعد وسامية حمرز وفيصل دراج واإبراهيم<br />

فتحي..‏ وغريهم.‏<br />

45- ‏)ابن اإياس(‏ حممد بن اأحمد بن اإياس احلنفي املصري:‏ بدائع الزهور يف وقائع الدهور،‏ القاهرة:‏ دار الشعب<br />

‏)سلسلة كتاب الشعب(‏ 3 جملدات،‏ 1960. واأظن اأن تلك النسخة التي كانت تباع بثمن زهيد هي التي اعتمدها<br />

الغيطاين ومن قبله ‏سعد مكاوي.‏<br />

46- ل نستطيع اأن نحسم ما تعنيه كلمة ‏سرادقات بالضبط،‏ وهي الكلمة التي يستخدمها الغيطاين يف تقسيم روايته،‏<br />

غري اأن لكلمة ‏سرادق فيما اأحسب دللة واضحة على الطريقة التي حتكى بها الرواية؛ فالسرادق وهي كلمة فارسية<br />

معربة حسب اجلواليقي تعني فيما تعني ‏“خيمة السلطان الكبرية”‏ ‏)معجم دوزي،‏ بغداد : دار الرشيد،‏ ج‎6‎‏،‏ ‏ص<br />

62(، وحسب املعجم الوسيط ‏“الفسطاط يجتمع فيه الناس لعرس اأو ملاأمت وغريهما”‏ ‏)املعجم الوسيط،‏ القاهرة:‏<br />

جممع اللغة العربية،‏ ط‎3‎‏،‏ ‏ص 426(. ومهما يكن معنى الكلمة ، فاإنها بالضبط تعكس لونًا من الصمت املضطرب<br />

املكبوت احلزين،‏ اإذ ل اأحد يحكي على نحو مباشر اأبدً‏ ا يف الرواية،‏ ونحن اإمنا نعرف الأخبار والأحداث وكل ‏شيء<br />

عرب اأحاديث واإشاعات ترتدد يف السرادقات املختلفة وعلى األسنة اأناس متعددين،‏ اأو عرب املكاتبات التي تلقى يف<br />

طريقنا من قبل جمهول.‏<br />

47- انظر جاستون باصار:‏ جدلية الزمن،‏ ترجمة : خليل اأحمد خليل،‏ بريوت : املوؤسسة اجلامعية للدراسات والنشر<br />

والتوزيع،‏ 1992، ‏ص 66-64.<br />

48- رضوى عاشور:‏ الزيني بركات جلمال الغيطاين،‏ بريوت : جملة الطريق،‏ عدد 1981، 423، ‏ص 134.<br />

49- املرجع نفسه،‏ ‏ص 135-134.<br />

50- يستطيع اأي قارئ اأن ياحظ املساحة التي حتتلها كلمتا ‏“قيل”‏ و ‏“اأشيع”‏ يف كتاب ابن اإياس،‏ خصوصً‏ ا يف بداية<br />

الفقرات،‏ يف السنوات التي تدور فيها رواية الغيطاين؛ بحيث يبدو العامل كله مضطربًا وكاأنه جمرد اإشاعات.‏<br />

51- يرتدد اسم الزيني بركات مرات كثرية جدًّ‏ ا يف كتاب ‏“بدائع الزهور”،‏ منذ اأن كان القاضي يركات بن موسى،‏ اإىل<br />

اأن استقر اسمه ‏“الزيني بركات بن موسى”؛ فهو حاضر دومً‏ ا يف كل احتفالت السلطان وجولته،‏ وهو حاضر يف<br />

عمليات التفتيش والتعذيب،‏ وهو حاضر يف املنازعات التي ل تنتهي لإقامة العدل واإقرار النظام.‏ وكام ابن اإياس<br />

املباشر يقول باأنه عادل وحمبوب من الناس قاطبة،‏ لكن نغمته مبطنة بالسخرية والعجب.‏ ولن اأذكر هنا ‏سوى<br />

ثاثة مواقف عن الزيني،‏ اآخرها كان بعد اأن عينه خاير بك من جديد حمتسبًا للباد يف العهد اجلديد،‏ وفيه يورد<br />

بن اإياس بيتني قالهما هو نفسه يف مدح الزيني،‏ لكنهما ينطويان على ‏سخرية ‏صامتة ومكتومة.‏<br />

1- “.. فتزايدت عظمة الزيني بركات،‏ وصار حمتسبًا واأستادار الذخرية الشريفة،‏ وغري ذلك من الوظائف<br />

السنية،‏ وكان الزيني بركات له ‏سعد خارق،‏ وهو مسعود احلركات يف اأفعاله حمببًا للناس ..” بدائع الزهور يف


109<br />

2 0 1 1<br />

وقائع الدهور،‏ القاهرة ‏:دار الشعب،‏ ، 1960 مج:‏ 2، ‏ص:‏ 922.<br />

2- ‏“وحضر الزيني بركات بن موسى املحتسب،‏ فلما ثبت روؤية الهال وانفض املجلس ركب الزيني بركات بن<br />

موسى من هناك،‏ فتاقاه الفوانيس الأكرة واملناجنيق واملشاعل والشموع املوقودة،‏ فلم يُحص ذلك لكرثته،‏ ووقدوا<br />

له الشموع على الدكاكني،‏ وعلقوا له التنانري والأحمال املوقودة بالقناديل،‏ من الأمشاطيني اإىل ‏سوق مرج وش اإىل<br />

اخلشابني اإىل ‏سويقة اللنب اإىل عند بيته،‏ فارجتت له القاهرة يف تلك الليلة،‏ وكانت من الليايل املشهودة،‏ واطلقوا<br />

له جمامر بالبخور بطول الطريق،‏ وكان ذلك يعادل املواكب السلطانية،‏ وكان الزيني بركات بن موسى حمبّبًا<br />

للناس قاطبة،‏ فارتفعت له الأصوات بالدعاء،‏ وكان له ‏سعد خارق مل يقع لغريه من الناس اإل القليل،‏ ول ‏سيَّما<br />

اجتمع فيه من الوظائف السنية ما ل اجتمع يف اأحد من الأعيان قبله،‏ منها احلسبة الشريفة واأستدارية الذخرية<br />

وغري ذلك من الوظائف،‏ والتحدث على اجلهات من الباد السلطانية..”‏ ‏)مج:‏ 3، ‏ص 932(.<br />

3 ‏-“وخلع على الزيني بركات بن موسى،‏ وقرره مدير اململكة،‏ وناظر احلسبة الشريفة،‏ وناظر املارستان<br />

املنصوري،‏ وناظر الذخرية الشريفة،‏ وغري ذلك من الوظائف،‏ وتزايدت عظمته،‏ واجتمعت الكلمة فيه،‏ وصار<br />

عزيز مصر يف هذه الفرتة،‏ فتوجه الناس اإىل بابه لقضاء حوائجهم،‏ وصار هو حاكم البلد،‏ وقد قلت فيه:‏<br />

يا جنل موسى عدت بالربكات يف اأعلى املراتب حيث كنت واأزيدا<br />

قد كان قطعًا زال عنك ومل تزل يف السعد عمّ‏ الً‏ على رغم العدا ‏)مج:‏ ، 3 ‏ص : 1112(<br />

52- فوجئت يف املقدمة التي كتبها اإدوار ‏سعيد للطبعة الإجنليزية من رواية الزيني بركات،‏ من اأنه يرى توافقات كثرية<br />

بني ‏شخصية الزيني بركات وشخصية جمال عبد الناصر،‏ وهي روؤية لها ما يربرها يف الرواية نفسها،‏ فاسم الزيني<br />

بركات يشبه يف دللته اسم جمال عبد الناصر ‏)الزين والربكات واجلمال والنصر(،‏ وكا الرجلني كان يحاول<br />

اإقامة العدل ويخلق الأعداء،‏ وميكن اأن نضيف اإىل ذلك خطبة الأزهر الشهرية يف احلالتني،‏ غري اأن هذا التوافق<br />

بني الشخصيتني اأمر يتنافى مع الطابع الأساس للرواية الذي ل يحسم ‏شيئًا ويبقي على موقف املفارقة،‏ وهذا ما<br />

لحظه اإبراهيم فتحي يف قراءته للرواية حني وقف بشدة ‏ضد املوقف الشائع يف الكتابات الغربية حول التشابه بني<br />

الشخصيتني.‏ راجع اإبراهيم فتحي:‏ اخلطاب الروائي واخلطاب النقدي يف مصر،‏ مرجع ‏سابق،‏ ‏ص 112.<br />

53- هذا ما يشري اإليه كثري من الدراسات التي تناولت الرواية،‏ خصوصً‏ ا دراسة ‏سيزا قاسم التي اأمعنت يف حتليل<br />

التقنيات اجلديدة وعاقة التناص اجلديدة القائمة بني الرواية ونص ابن اإياس،‏ ودراسة فيصل دراج التي اأشارت<br />

بوضوح اإىل وعي الغيطاين باملادة الأدبية الذي يوازي معرفته باملادة التاريخية اإن مل يفقها يف الأهمية.اأما جابر<br />

عصفور فقد وصف مسعى الغيطاين الأساسي يف هذه الرواية باأنه كان اأقرب ما يكون اإىل ‏)البحث عن هوية<br />

اإبداعية(.‏ راجع:‏<br />

- فيصل دراج:‏ االإنتاج الروائي والطليعة االأدبية،‏ جملة الكرمل،‏ العدد الأول 1981<br />

- ‏سيزا قاسم:‏ املفارقة يف القص العربي املعاصر،‏ ‏ضمن كتاب روايات عربية:قراءة مقارنة،‏ الدار البيضاء<br />

‏:منشورات الرابطة،‏ 1997.<br />

- جابر عصفور:‏ البحث عن هوية اإبداعية،‏ جريدة احلياة اللندنية،‏ 2008/05/21.<br />

- 54 يتحدث نقاد الرواية عادة عن نصاأتها نوعً‏ ا اأدبيًّا يف ظل ‏“الواقعية”.‏ راجع هنا على وجه اخلصوص الفصل<br />

الأول املعنون ‏“الواقعية والشكل الروائي”،‏ وذلك يف كتاب اأيان واط:‏ نشوء الرواية،‏ ترجمة:‏ ثائر ديب،‏ القاهرة :<br />

دار ‏شرقيات،‏ 1997.<br />

- 55 راجع جورج لوكاش:‏ الرواية التاريخية،‏ مرجع ‏سابق،‏ ‏ص 356-354.<br />

اأبحاث


2 0 1 1<br />

110<br />

املصادر واملراجع<br />

املصادر:‏<br />

‎1‎ابن اإياس ‏)حممد بن اأحمد بن اإياس احلنفي املصري(:‏ بدائع الزهور يف وقائع الدهور،‏ ط كتاب الشعب<br />

. القاهرة : دار الشعب،‏ 1960.<br />

‎2‎ابن زنبل الرمال:‏ اآخرة املماليك،‏ اأو واقعة السلطان الغوري مع ‏سليم العثماين،‏ حتقيق:‏ عبد املنعم عامر<br />

. القاهرة:‏ الهيئة املصرية العامة للكتاب،‏ ط 1998. 2،<br />

‎3‎حممد ‏سعيد العريان:‏ على باب زويلة ، القاهرة : دار الكاتب املصري،‏ ط‎1‎‏،‏ مارس 1947<br />

. ‎4‎‏سعد مكاوي:‏ السائرون نيامً‏ ا،‏ القاهرة : الدار املصرية للتاأليف والرتجمة والنشر،‏ ط‎1‎‏،‏ 1965<br />

. ‎5‎جمال الغيطاين:‏ الزيني بركات،‏ القاهرة : دار الشروق،‏ ط‎2‎‏،‏ 1989<br />

. ‎6‎جتربتي يف كتابة القصة،‏ القاهرة : جملة الهال،‏ السنة اخلامسة والثمانون،‏ عدد مارس 1977<br />

. ‎7‎جدلية التناص ‏)حوار مع الغيطاين (، القاهرة:‏ جملة األف ‏)اجلامعة الأمريكية بالقاهرة(‏ العدد الرابع،‏ ربيع<br />

7. ، 1<br />

، 2<br />

. 3<br />

. 4<br />

. 5<br />

. 6<br />

1984<br />

.) 8<br />

.) 9<br />

‎8‎املعجم الوسيط،‏ القاهرة:‏ جممع اللغة العربية،‏ ط‎3‎‏،‏ ‏)د.ت<br />

. ‎9‎معجم دوزي،‏ ج‎6‎‏،‏ بغداد:‏ دار الرشيد،‏ ‏)د.ت<br />

. املراجع العربية:‏<br />

. ‎1‎اإبراهيم فتحي،‏ اخلطاب الروائي واخلطاب النقدي يف مصر،‏ القاهرة : الهيئة املصرية العامة للكتاب،‏ 2004<br />

. ‎2‎جابر عصفور،‏ البحث عن هوية اإبداعية،‏ جريدة احلياة اللندنية،‏ 2008/05/21<br />

. ‎3‎حسن كشاحي ، اإشكالية ‏»العامة«‏ يف الكتابات التاريخية:‏ املغرب واالأندلس خالل العصر الوسيط منوذجا<br />

جملة فكر ونقد،‏ العدد ، 47 ‏)نسخة األكرتونية من املجلة(‏ http://www.fikrwanakd.aljabriabed.net/(<br />

. 1<br />

. 2<br />

، 3<br />

)n47_04kachahi.htm ‏)زيارة املوقع 25 ديسمرب 2008(<br />

‎4‎حلمي . 4 حممد القاعود،‏ الرواية التاريخية يف اأدبنا احلديث ، القاهرة:‏ الهيئة العامة لقصور الثقافة،‏ ‏سلسلة كتابات<br />

نقدية – اأكتوبر .<br />

5 جامعة<br />

القاهرة،‏ 1989.<br />

. ‎5‎خريي دومة،‏ القصة القشرة عند ‏سعد مكاوي،‏ القاهرة:‏ رسالة ماجستري خمطوطة،‏ كلية الآداب –<br />

‎6‎رجاء . 6 النقاش،‏ جنيب حمفوظ ‏)صفحات من مذكراته واأضواء جديدة على اأدبه ، القاهرة:‏ مركز الأهرام<br />

للرتجمة والنشر،‏ 1998.<br />

. ‎7‎رضوى عاشور،‏ الرواية والتاريخ - الزيني بركات جلمال الغيطاين،‏ بريوت:‏ جملة الطريق،‏ العدد 4-3<br />

، 7 اأغسطس<br />

.1981<br />

. 8<br />

. 9<br />

‎8‎‏سامية اأسعد،‏ عندما يكتب الروائي التاريخ،‏ القاهرة:‏ جملة فصول،‏ املجلد 2، العدد 2، ‏شتاء 1982<br />

. ‎9‎‏سمية رمضان،‏ املصريون بني التاريخ والرواية،‏ القاهرة:‏ جملة فصول،‏ املجلد 15، العدد 4، ‏شتاء 1997<br />

. ‎1‎‏سيزا قاسم،‏ املفارقة يف القص العربي املعاصر ، ‏ضمن كتاب:‏ ‏»روايات عربية:قراءة مقارنة«،‏ الدار البيضاء :<br />

010 منشورات الرابطة،‏ 1997.<br />

‎1‎‏شفيع السيد،‏ اجتاهات الرواية املصرية منذ احلرب العاملية الثانية اإىل ‏سنة 1967، القاهرة:‏ دار املعارف،‏ 1978.<br />

111


111<br />

2 0 1 1<br />

‎1‎طه 212 حسني،‏ ‏»على باب زويلة،‏ قصة تاريخية لالأستاذ حممد ‏سعيد العريان«،‏ القاهرة:‏ جملة الكاتب املصري،‏<br />

اأبحاث<br />

جملد -5 العدد ، 19 اأبريل .1947<br />

. 13<br />

‎1‎عبد الرحمن اأبو عوف،‏ حوار مع هوؤالء،‏ القاهرة : الهيئة العامة لقصور الثقافة،‏ 1990<br />

3 ‎1‎عبد الرحمن منيف ، التاريخ ذاكرة اإضافية لالإنسان ‏)حاوره فيصل دراج(،‏ حوار الكرمل،‏ جملة الكرمل ‏،العدد<br />

414 ،63 ربيع .2000<br />

. 15<br />

. 16<br />

، 17 بريوت : دار احلقيقة،‏<br />

‎1‎عبد الرحمن منيف ، رحلة ‏ضوء،‏ بريوت ‏:املوؤسسة العربية للدراسات والنشر،‏ 2001<br />

5 ‎1‎عبد الفتاح احلجمري،‏ هل لدينا رواية تاريخية؟،‏ القاهرة:‏ جملة فصول،‏ املجلد 16، العدد ، ‏شتاء 1997<br />

6 ‎1‎عبد اهلل العروي،‏ العرب والفكر التاريخي<br />

7 ‎1‎عبد اللطيف حمفوظ:‏ الرواية التاريخية ومتثل الواقع ، دمشق:‏ احتاد الكتاب العرب،‏ جملة املوقف الأدبي،‏<br />

818 السنة‎37‎‏،‏ العدد 438، تشرين الأول 2007. ‏)نسخة األكرتونية(‏ http://www.awu-dam.org/mokifadaby/438/<br />

mokf438-003.htm ‏)زيارة املوقع بتاريخ ‎2‎مارس 2009(<br />

‎1‎فيصل دراج،‏ االإنتاج الروائي والطليعة االأدبية/‏ جملة الكرمل،‏ العدد الأول 1981<br />

919 ) 2 0.<br />

2 1.<br />

. ) 2 2.<br />

) 2 3.<br />

) 2 4.<br />

) 2 5.<br />

) 2 6.<br />

، نصوص تاريخية<br />

27 اأرض السواد ذاكرة التاريخ وتاريخ الذاكرة،‏ جملة الكرمل ‏)العدد 64، ‏صيف 2000<br />

الرواية وتاأويل التاريخ،‏ الكرمل ‏)العدد 73-72، ‏صيف وخريف 2002<br />

التاريخ وصعود الرواية،‏ جملة الكرمل،‏ ‏)العدد 71-70، ‏شتاء ‏–ربيع 2002<br />

الرواية العربية املعرفة املعوقة يف التاريخ املقيد،‏ الكرمل ‏)العددان 75-74، ‏شتاء-‏ ربيع 2003<br />

الكتابة الروائية وتاريخ املقموعني،‏ الكرمل)العددان 77-76 ، ‏صيف-‏ خريف 2003<br />

طه حسني واأنسنة التاريخ املقدس،‏ الكرمل ‏)العدد 81، خريف 2004<br />

فالرت بنيامني والهوت التاريخ،‏ الكرمل ‏)العدد 86، ‏شتاء 2006<br />

‎2‎قاسم 7 عبده قاسم واأحمد اإبراهيم الهواري،‏ الرواية التاريخية يف االأدب العربي احلديث<br />

ومناذج تطبيقية من الرواية املصرية،‏ القاهرة:‏ دار املعارف،‏ 1979.<br />

‎2‎حممد 828 بدوي،‏ قناع التاريخ واملعارضة النصية يف الزيني بركات ، ‏ضمن كتاب ‏:الرواية احلديثة يف مصر،‏ القاهرة:‏<br />

الهيئة املصرية العامة للكتاب،‏ 1993.<br />

‎2‎حممد 929 رياض وتار،‏ توظيف الرتاث يف الرواية العربية املعاصرة ، دمشق : منشورات احتاد الكتاب العرب ،<br />

2002<br />

، 30<br />

ربيع 1998.<br />

. 31<br />

‎3‎حممد 0 القاضي،‏ الرواية والتاريخ،‏ طريقتان يف كتابة التاريخ روائيًّا،‏ القاهرة:‏ جملة فصول،‏ املجلد 16 العدد 4<br />

‎3‎حممد مندور،‏ االأدب وفنونه،‏ القاهرة:‏ دار نهضة مصر للطباعة والنشر،‏ 1980<br />

1 ‎3‎حممود اأمني العامل،‏ الرواية بني زمنيتها وزمنها،‏ جملة فصول،‏ املجلد 12- العدد‎1‎‏،‏ ربيع 1993<br />

232 ‎3‎حممود حامد ‏شوكت،‏ القصة العربية احلديثة يف مصر ، بحث تاريخي وحتليلي مقارن،‏ دار اجليل للطباعة،‏<br />

333 القاهرة 1974<br />

‎3‎وجيه 434 يعقوب،‏ الرواية والرتاث العربي ‏)قراءة يف روايات جمال الغيطاين(‏ ، القاهرة ‏:الهيئة العامة لقصور<br />

الثقافة،‏ 1997.<br />

‎3‎يحيى 535 حقي،‏ بنت قسطنطني ملحمد ‏سعيد العريان،‏ جريدة املصري ، 1948/10/22 منشورة ‏ضمن كتاب<br />

‏»خطوات يف النقد«،‏ الهيئة املصرية العامة للكتاب،‏ 1976.


2 0 1 1<br />

112<br />

‎3‎املراجع االأجنبية املرتجمة اإىل العربية<br />

636 ‎3‎اإيجلتون ، تريي،‏ مفهوم التاريخ يف الفكر ما بعد احلداثي،‏ جملة الكرمل ‏)العدد 68، ‏صيف 2001<br />

7 ‎3‎باصار ، جاستون،‏ جدلية الزمن،‏ ترجمة:‏ خليل اأحمد خليل،‏ بريوت : املوؤسسة اجلامعية للدراسات والنشر<br />

838 ) 37<br />

والتوزيع،‏ 1992.<br />

‎3‎جوتشلك ، لويس،‏ كيف نفهم التاريخ ، ترجمة:‏ غائدة ‏سليمان عارف واأحمد مصطفى اأبو حاكمة،‏ القاهرة : دار<br />

939 الكاتب العربي وموؤسسة فرانكلني للطباعة والنشر،‏ 1966.<br />

‎4‎ريكور ، بول ، من النص اإىل الفعل ، اأبحاث التاأويل ، ترجمة:‏ حممد برادة وحسان بورقية،‏ القاهرة : دار عني<br />

040 للدراسات والبحوث الإنسانية والجتماعية،‏ 2001.<br />

‎4‎فيدال ، غور،‏ مقدمة رواية ‏»جوليان«‏ ، ترجمة:‏ اأسامة منزجلي ، دمشق : دار املدى،‏ 2008<br />

1 ‎4‎كولنجوود ، ر.‏ ب،‏ فكرة التاريخ ، ترجمة:‏ حممد بكري خليل،‏ مراجعة:‏ حممد عبد الواحد خاف،‏ القاهرة : جلنة<br />

242 التاأليف والرتجمة والنشر،‏ 1961.<br />

‎4‎لوكاتش،‏ جورج،‏ الرواية التاريخية،‏ ترجمة:‏ ‏صالح جواد الكاظم،‏ بريوت : دار الطليعة،‏ 1978<br />

3 ‎4‎مارتن ، مارسيل،‏ اللغة السينمائية ، ترجمة:‏ ‏سعد مكاوي،‏ القاهرة : املوؤسسة املصرية العامة للتاأليف والأنباء<br />

444 . 41<br />

. 43<br />

والنشر،‏ 1964.<br />

‎4‎هاتشيون 545 ، ليندا،‏ احلكي:‏ القصص والتاريخ ، ‏ضمن كتاب احلداثة وما بعد احلداثة،‏ اإعداد وتقدمي:‏ بيرت بروكر،‏<br />

ترجمة:‏ عبد الوهاب علوب،‏ مراجعة:‏ جابر عصفور،‏ اأبو ظبي،‏ الإمارات العربية املتحدة،:‏ منشورات املجمع<br />

الثقايف،‏ 1995<br />

. 46<br />

‎4‎رواية الرواية التاريخية،‏ ترجمة:‏ ‏شكري جماهد،‏ القاهرة:‏ جملة فصول،‏ املجلد 12، العدد 2، ‏صيف 1993<br />

6 ‎4‎هيجل،‏ حماضرات يف فلسفة التاريخ ، اجلزء الأول:‏ العقل يف التاريخ،‏ ترجمة وتعليق وتقدمي:‏ اإمام عبد الفتاح<br />

747 اإمام،‏ بريوت : دار التنوير ‏)د.ت(‏<br />

‎4‎واط ، اأيان:‏ نشوء الرواية،‏ ترجمة:‏ ثائر ديب،‏ القاهرة:‏ دارشرقيات للنشر والتوزيع،‏ 1997<br />

848


113<br />

2 0 1 1<br />

مراجع باللغة الإجنليزية<br />

ARISTOTLE , THE POETICS OF ARISTOTLE, trans. S. H. Butcher, The Pennsylvania State<br />

University, A Penn State Electronic Classics Series Publication, 2000.<br />

Feuchtwanger, Lion. (1935)”The Purpose of the Historical Novel”, Translated by John Ahouse,<br />

(http://www.historicalnovelsociety.org/lion.htm)<br />

Fast, Howard, “History in Fiction”, (http://www.trussel.com/hf/plots/t469.htm. (<br />

‏)زيارة املوقع 2 مايو 2009(<br />

Holton, Robert, Jarring Witnesses: Modern Fiction and the Representation of History, New York:<br />

Simon and Schuster, 1998.<br />

Hutcheon, Linda, The Politics of Postmodernism. London & NY: Routledge,1989.<br />

Johnson, Sarah, “What Are the Rules for Historical Fiction?”, 2002, (.http://www.<br />

historicalnovelsociety.org/historyic.htm).<br />

Lee, Richard, “History is but a fable agreed upon: the Problem of Truth in History and Fiction”,<br />

2000. (http://www.historicalnovelsociety.org/historyis.htm).<br />

Vanderhaeghe ,Guy “Writing History Vs.Writing the Historical Novel”, DRUMLUMMON<br />

VIEWS,<br />

2006, (http://www.drumlummon.org/pdf.php?path=images/PDF-Spr-Sum06/DV_1-2_<br />

Vanderhaeghe.pdf).<br />

White, Hayden, Metahistory: The Historical Imagination in Nineteenth-Century Europe, Baltimore<br />

and London: The John Hopkins UP, 1973.<br />

The Content of the Form: Narrative Discourse and Historical Representation, London: John<br />

Hopkins UP, 1987.<br />

اأبحاث


الصحف االإلكرتونية<br />

البحرينية<br />

دراسة يف تقييم واجهة<br />

االستخدام والوصول للمعلومات<br />

حامت الصريدي<br />

كاتب واأكادميي-‏ جامعة البحرين


117<br />

2 0 1 1<br />

Abstract<br />

In these last years, the internet presented<br />

a big challenge to traditional media and<br />

especially to printed newspapers which<br />

was deeply affected by the gradual shift<br />

of its readers to the internet. It was then a<br />

necessity for news companies to think about<br />

new strategies and to adopt new modern<br />

economic models in relation to the use and<br />

the accessibility of information. Its major goal<br />

is to reinforce its position and its relations<br />

with readers and users in front of the tough<br />

competition and the spread of news websites<br />

and citizen journalism.<br />

Like other Arabic and international news<br />

companies, Bahraini newspapers adopted<br />

almost the same strategy by creating their<br />

own web sites which came as a support to<br />

the printed newspaper. Even though, these<br />

web sites were created at different periods of<br />

time, they almost all have adopted the same<br />

method in term of interface design of pages<br />

and the publication of news contents and its<br />

updating.<br />

In this paper, we will try to present the<br />

most important results of a descriptive and<br />

evaluative study of five websites representing<br />

the major online Bahraini newspapers. The<br />

focus of the study will be on two major levels:<br />

Interface and Accessibility.<br />

امللخص<br />

‏سوف نحاول من خال هذا البحث تقدمي دراسة<br />

وصفية نقدية ملواقع الصحف الإلكرتونية البحرينية<br />

مركزّ‏ ين على جانبني اأساسيني هما تصميم واجهة<br />

الصتخدام Design( )Interface والوصول اإىل<br />

املعلومات .)Accessibility( وقمنا بتقييم تصميم<br />

واجهة الستخدام من خال قياس مساحات خمتارة<br />

لصور ملتقطة )Screenshots( خاصة بصفحات<br />

الويب.‏ اأمّ‏ ا بالنسبة لتقييم وحتليل عنصر الوصول<br />

للمعلومات فقد استخدمنا اأدوات قياس وجتريب اآلية.‏<br />

وحتتوي عيّنة البحث على خمسة مواقع الكرتونية لأهم<br />

الصحف البحرينية اليومية.‏ وقد تغذّ‏ ت هذه الدراسة<br />

بالأدبيات العلمية يف جمال تقييم وحتليل واستخدام<br />

مواقع الصحف الإلكرتونية.‏<br />

اأبحاث


2 0 1 1<br />

118<br />

الصحف االإلكرتونية البحرينية<br />

دراسة يف تقييم واجهة االستخدام والوصول للمعلومات<br />

حامت الصريدي<br />

الكلمات املفاتيح<br />

الصحافة الإلكرتونية،‏ الإعام اجلديد،‏ تصميم املواقع الإلكرتونية،‏ واجهة الستخدام،‏ الوصول اإىل املعلومات،‏<br />

تصفح املواقع،‏ تقييم مستخدم الويب.‏<br />

- I تقدمي<br />

مثلت ‏شبكة الإنرتنت يف السنوات الأخرية حتدّ‏ يا كبريا لوسائل الإعام التقليدية ومنها باخلصوص الصحافة<br />

املطبوعة التي تاأثرت تاأثرا بالغا من حتوّل عدد كبري من قرّ‏ ائها تدريجيا اإىل الشبكة.‏ وكان لزاما على هذه<br />

املوؤسسات الإعامية التفكري يف اسرتاتيجيات جديدة وتبني مناذج اقتصادية حديثة،‏ ترتبط بالستخدامات<br />

والوصول اإىل املعلومات،‏ من ‏صاأنها اأن تعزّ‏ ز مكانتها وتقوّي الروابط التي جتمعها مع قرائها ومستخدميها اأمام<br />

املنافسة الشديدة والنتشار الواسع للأخبار واملعلومات ‏سواء كان يف ‏شكله املوؤسساتي Websites( )News اأو<br />

الفردي يف اإطار ما اأصبح يعرف بصحافة املواطن Journalism( .)Citizen<br />

وقد كان دخول الإنرتنت بوصفه وسيلة اإعام جديدة حملّ‏ نقاشات واآراء متعددة من قبل الدارسني والباحثني<br />

يف علوم الإعام والتصال وكذلك من قبل ممثلي الصناعات الإعامية والثقافية.‏ ومن بني اأهم املسائل التي<br />

طرحت مساألة مستقبل الصحيفة املطبوعة اأمام النمو السريع ملكانة الصحيفة الإلكرتونية وانعكاساتها على<br />

املوؤسسات الإعامية.‏ كما طرحت مساألة ثانية موازية تتمثل يف كيفية وصول الأخبار واملعلومات اإىل املستخدمني<br />

عرب املوقع الإلكرتوين وطرق قراءتها وتاأثري عناصر التصميم يف استخداماتها.‏<br />

ومثلها مثل باقي الصحف العربية والدولية،‏ تبنّت الصحف البحرينية اإسرتاتيجية املرور اإىل الشبكة الدولية<br />

للإنرتنت واأنصاأت مواقع اإلكرتونية،‏ جاءت يف جمملها داعمة للموؤسسة الإعامية الأم.‏ ولئن ظهرت هذه املواقع<br />

الإلكرتونية يف فرتات زمنية خمتلفة،‏ اإلّ‏ اأنها اعتمدت تقريبا الأسلوب نفسه يف مستوى تصميم الصفحات ونشر<br />

املضامني الإعامية وحتديثها.‏<br />

وتنقسم هذه الورقة اإىل اأربعة حماور اأساسية:‏ يركّ‏ ز العنصر الأول على اإبراز الدراسات السابقة يف جمال<br />

البحث بالإضافة اإىل تقدمي للمنهجية املتبّعة يف اختيار املواقع الإلكرتونية املمثّلة لعينة البحث،‏ واأساليب التحليل<br />

والدراسة التي ‏شملتها.‏ اأما املحور الثاين فيهتم اأساسا بتقييم تصميم واجهة الستخدام،‏ يف حني يختص املحور<br />

الثالث بدراسة وحتليل مساألة الوصول اإىل املعلومات.‏ واأخريا خصّ‏ ‏ص عنصر رابع للحديث عن اأهم النتائج التي<br />

خرجت بها الدراسة.‏


119<br />

2 0 1 1<br />

- II الدراسات السابقة<br />

يشري املسح الذي قمنا به حول الدراسات السابقة<br />

اإىل قلّة املراجع املتخصّ‏ ‏صة باللغة العربية املرتبطة بهذا<br />

املوضوع.‏ وقد وجدنا بعض الدراسات التي متثّل جتارب<br />

الصحافة الإلكرتونية يف بعض البلدان العربية،‏ نذكر<br />

من بينها دراسة حتليلية للتجربة الإلكرتونية للجرائد<br />

املصرية املطبوعة )1( وكذلك دراسة حول لستخدامات<br />

الإنرتنت يف الصحف العربية )2( . ونضيف اإىل ذلك<br />

رسالة ماجستري )3( حتت عنوان ‏“اإخراج الصحف<br />

السعودية الإلكرتونية يف ‏ضوء السمات التصالية لشبكة<br />

الإنرتنت”.‏<br />

وقد متكّ‏ نا يف اجلهة املقابلة من احلصول على عدد<br />

مهم من الدراسات التي اأجريت على مناذج لصحف<br />

الكرتونية ومواقع اإخبارية غربية كان لها الأثر البالغ يف<br />

تغذية هذه الدراسة من ناحية الأدبيات العلمية واملنهجية<br />

املعتمدة،‏ ‏سوف نحاول اإيجاز ما جاء فيها.‏<br />

يعد Jacob Nielsen املرجع العاملي يف القضايا<br />

املرتبطة بتصميم واجهة الستخدام وعاقة املوقع<br />

الإلكرتوين مبستخدميه على جميع املستويات.‏ واأهم<br />

ما جاء به Nielsen يف كتابه )4( Web Designing<br />

،Usability: The Practice of Simplicity هو اأن<br />

مستخدمي الإنرتنت الذين يعلمون ما يبحثون عنه،‏<br />

يريدون احلصول على املعلومة يف اأسرع وقت.‏ اأما الذين<br />

ل يعلمون بالتحديد ما يبحثون عنه،‏ فاإنهم يتصفحون<br />

املواقع بصورة ‏سريعة ويتوقفون عند املعلومات بصورة<br />

منطقية.‏<br />

وقد وضع ،Nielsen يف الجتاه نفسه،‏ منهجية<br />

مرجعية يف حتليل تصميم الصفحة الرئيسة من خال<br />

كتابه )5( Websites Homepage Usability: 50<br />

.Deconstructed وتعتمد هذه املنهجية على جمموعة<br />

من القواعد يف دراسة املساحات املستخدمة ‏ضمن<br />

تصميم الصحف الإلكرتونية.‏ ونشري يف هذا الإطار اإىل<br />

اأن دراستنا التي طبقت على عينه الصحف الإلكرتونية<br />

البحرينية قد اعتمدت على هذه املنهجية نفسها..‏<br />

وبيّنت دراستان خمتلفتان اأجراهما كل من<br />

الباحثني السويديني<br />

جامعة Goteborg السويدية اأن هنالك حتديات كبرية<br />

يف تصميم الصحف الإلكرتونية مرتبطة بالإمكانات<br />

والوظائف التي ل تتوافر ‏ضمن ‏شكل الصحيفة<br />

املطبوعة.‏<br />

وقامت Ivory ببحوث متقدمة يف السنوات )8( 2001<br />

و‎2002‎ )9( و‎2005‎ )10( حول موضوع حتليل املواقع الإلكرتونية<br />

بطريقة التقييم الآيل وامليداين لاستخدامات.‏ وقد<br />

استخدمت منهجيات بحث متعددة من بينها التقييم<br />

الآيل والتقاط ‏صور الشاشة واملاحظة امليدانية اأو<br />

الإمربيقية.‏<br />

وكانت مساألة بنية الصحف الإلكرتونية على الإنرتنت<br />

متثّل املوضوع الرئيسي لكتاب Li Xigen الذي ‏صدر<br />

‏سنة 2006 حتت عنوان )11( Newspapers: Internet<br />

.The Making of a Mainstream Medium وقد ركّ‏ ز<br />

الكاتب على مساألة الصحيفة الإلكرتونية بوصفها وسيلة<br />

اإعام تفاعلية والطرق التي من خالها يتم التفاعل بني<br />

اجلمهور والصحيفة الإلكرتونية.‏<br />

كما اأن التجارب والدراسات والبحوث مازالت<br />

متواصلة يف هذا الصاأن للتعرّ‏ ف اأكرث على اجلوانب<br />

الدقيقة يف استخدام الصحف الإلكرتونية ومواقع<br />

الإنرتنت بصفة عامة من قبل املستخدمني.‏ اآخر هذه<br />

الدراسات املتقدمة اهتمت اأساسا بحركة عني املتصفّح<br />

لدى استخدامه ‏صفحات املوقع.‏<br />

اأبحاث<br />

يف مساألة الآخر<br />

(6) Erikson و (7) Akesson يف<br />

I- منهجية البحث<br />

1- اختيار عيّنة املواقع<br />

يعرّ‏ ف الباحثون يف علوم الإعام والتصال<br />

املوقع الإخباري باأنه املوقع الإلكرتوين اململوك لإحدى<br />

الشركات اأو املوؤسسات الإعامية والذي يحتوي على<br />

مضامني اإعامية يقع حتديثها بصورة مستمرة.‏ وعلى<br />

هذا الأساس تكونّت عيّنة البحث من خمسة مواقع<br />

الكرتونية بحرينية تستجيب لهذا التعريف،‏ موضّ‏ حة


2 0 1 1<br />

120<br />

حسب اجلدول الآتي:‏<br />

التسلسل عنوان املوقع االإلكرتوين املوؤسسة التابع لها<br />

جدول 1. عيّنة املواقع الإلكرتونية<br />

‏صورة رقم 2. تصنيف املواقع الإلكرتونية بواسطة<br />

Gopagerank.com<br />

www.alayam.com<br />

www.alwasatnews.com<br />

www.akhbar-alkhaleej.com<br />

www.alwaqt.com<br />

www.alwatannews.com<br />

1<br />

2<br />

3<br />

4<br />

5<br />

موؤسسة الأيام للنشر<br />

‏شركة دار الوسط للنشر والتوزيع<br />

دار اأخبار اخلليج للصحافة والنشر<br />

دار الوقت للإعام<br />

‏شركة الوطن للصحافة والنشر<br />

ومتثل هذه الصحف اخلمس اأهم الصحف<br />

البحرينية التي لها مواقع الكرتونية على الشبكة.‏ كما<br />

اأنها متثل تقريبا جميع الجتاهات السياسية والجتماعية<br />

والفكرية يف اململكة.‏ كما وقع اختيار املواقع الإلكرتونية<br />

املذكورة عن طريق استخدام طريقة ‏“تصنيف املوقع”‏<br />

PageRank وذلك باستعمال اأدوات اإلكرتونية متكّ‏ ن<br />

من احلصول على تصنيف املوقع حسب ‏سلّم تقييمي<br />

خاص.‏ وقد استخدمنا لتحقيق هذا الغرض ثاثة مواقع<br />

متخصّ‏ ‏صة يف هذا املجال هي ( (13) )gopagerank.com<br />

و ( (15) )seochat.com و ( (14) web.com .)top25<br />

‏صورة رقم 1. تصنيف املواقع الإلكرتونية بواسطة<br />

Google pagerank<br />

‏صورة رقم 3. تصنيف املواقع الإلكرتونية بواسطة<br />

Ceochat.com<br />

1- اختيار الصفحات<br />

بالعتماد على عيّنة املواقع الإلكرتونية التي وقع<br />

اختيارها،‏ قمنا كذلك باختيار ‏صفحتني لكل موقع،‏ متثّل<br />

الصفحة الأوىل الصفحة الرئيسة )Homepage(<br />

ومتثّل الصفحة الثانية ‏صفحة املقال الإخباري News(<br />

.)article page<br />

1- اختيار عدد ومقاسات الصفحات<br />

قمنا باستخدام طريقة التقاط ‏صور الشاشة<br />

)Screenshots( بالنسبة لصفحات الويب التي تشملها<br />

الدراسة وذلك ‏ضمن مقاسني خمتلفني )800X600<br />

)15(<br />

بكسل(‏ و )1024X768 بكسل(.‏ وتشري الإحصائيات<br />

يف هذا الإطار اإىل اأن اأكرب عدد من متصفّحي الإنرتنت يف<br />

العامل يستخدمون ‏شاشات كمبيوتر مقاس )1024X768<br />

بكسل(‏ وذلك بنسبة تقدّ‏ ر ب %48. وعلى هذا الأساس<br />

وقع التقطت ‏)شعرونرين(‏ ‏صورة متثل ‏صفحات الويب<br />

‏ضمن مقاسي الشاشة املذكورين.‏ كما قمنا يف الوقت<br />

نفسه بحذف عناصر املتصفح )Browser( لنحصل<br />

على مقاس اأقل بقليل من مقاس الشاشة الأصلي.‏ وقد<br />

استخدمنا يف عملية التقاط الصور الربنامج املجاين<br />

.)Screen Hunter )16( (


121<br />

2 0 1 1<br />

‏صورة رقم 4. ‏صورة ملتقطة للصفحة الرئيسة ملوقع<br />

alwatannews.net<br />

‏ضمن مقاس 800X600 بكسل<br />

‏صورة رقم 5. ‏صورة ملتقطة للصفحة الرئيسة ملوقع<br />

alwatannews.net<br />

‏ضمن مقاس 1024X768 بكسل<br />

1- مدة اإجناز الدراسة<br />

بهدف حتليل عيّنة املواقع الإلكرتونية التي تشملها<br />

الدراسة يف نفس السياق ويف املدة الزمنية نفسها،‏ قمنا<br />

بالتقاط ‏صور ‏شاشة ‏صفحات الويب ‏ضمن املقاسني<br />

)800X600 بكسل(‏ و )1024X768 بكسل(‏ يف اليوم<br />

نفسه،‏ اأي يوم الثاثاء 29 يوليو 2008.<br />

تقييم واجهة الستخدام )Interface(<br />

بالعتماد على الأبحاث التي قام بها )17( Nielsen<br />

‏سنة 2001 حول استخدامات الصفحة الرئيسة للموقع<br />

الإلكرتوين من قبل املتصفحني،‏ ركّ‏ زنا على نفس<br />

املنهجية املتّبعة وقمنا بالتقاط ‏صور ‏شاشة للعشرين<br />

‏صفحة ويب التي وقع اختيارها ‏ضمن الدراسة،‏ ثم قمنا<br />

بدراسة تقييمية كمّ‏ ية evaluation( )Quantitative<br />

لكل ‏صفحة ويب عن طريق حتليل عناصر الصفحة التي<br />

قمنا بتقسيمها حسب مساحات معينة وقع التعريف بها<br />

‏سابقاً.‏<br />

وتنقسم عناصر مساحات الصفحة اإىل الآتي:‏<br />

- الإبحار )Navigation( املساحة التي تستخدم لدعم<br />

اإبحار املتصفح عرب مضامني املوقع الإلكرتوين.‏<br />

- املضمون )Content( املساحة املخصصة لعرض<br />

مضامني املوقع الإلكرتوين ‏سواء كانت يف ‏شكل نصوص<br />

اأو ‏صور.‏<br />

- الإعان )Advertisement( املساحة التي تستخدم<br />

لعرض الإعانات.‏<br />

- العرض اخلاص )Auto-Promotion( املساحة<br />

التي تستخدم لرتويج العروض اخلاصة باملوقع نفسه اأو<br />

املنتجات والربامج التي يرعاها املوقع نفسه.‏<br />

- الهوية )Identity( املساحة التي تستخدم لعرض<br />

العناصر املرتبطة بهوية املوقع اأو الشركة التابع لها.‏<br />

- البحث )Search( املساحة التي تستخدم يف عرض<br />

اأدوات البحث ‏سواء كانت اأدوات بحث داخلي اأو ‏شامل.‏<br />

- الأدوات املساعدة )Features( املساحة التي<br />

تستخدم لعرض اأدوات مساعدة للمستخدم مثل اإدخال<br />

التعليقات اأو الوصول اإىل نسخة ‏سهلة الطبع<br />

للمضامني.‏<br />

- غري مستخدم )Unused( املساحة التي ل تدخل<br />

‏ضمن اأي تقسيم وقع ذكره ‏سابقا وليس بالضرورة اأن<br />

تكون بياضا.‏<br />

اعتمادا على هذه التقسيمات داخل الصفحة،‏ قمنا<br />

باستخدام برنامج معاجلة الصورة الرقمية Adobe(<br />

)Photoshop واخرتنا لوناًَ‏ مميزاً‏ لكل ‏صنف من<br />

اأصناف املساحات املذكورة ‏سابقا وقمنا بتحديد هذه<br />

العناصر يف جميع ‏صفحات الويب امللتقطة التي تشملها<br />

الدراسة.‏<br />

اأبحاث


2 0 1 1<br />

122<br />

‏صورة رقم 6. ‏صورة ملتقطة للصفحة الرئيسة ملوقع<br />

alwasatnews.net<br />

‏ضمن مقاس 800X600 بكسل<br />

باستثناء ‏صحيفة الوسط التي تعتمد على عنصر اإبحار<br />

مغاير يوجد يف ‏شكل قائمة اأفقية يف اأعلى الشاشة.‏<br />

كما نشري اإىل اأن عنصر الإبحار ل يظهر كليّا بالنسبة<br />

لصحف الأيام والوسط والوطن ‏ضمن مقاس ‏شاشة<br />

)800X600(، ممّ‏ ا ميثل عنصرا ‏سلبيا يف تصميم<br />

الصفحة الرئيسة للموقع بحيث اإنها ل تسهّ‏ ل عملية<br />

التصفح بالنسبة ملستخدمي ‏شاشة )800X600(.<br />

اأما بالنسبة لصحيفتي اأخبار اخلليج والوقت فعنصر<br />

الإبحار واضح متاما ‏ضمن املقاسني.‏<br />

‏صورة رقم 7. ‏صورة ملتقطة للصفحة الرئيسة ملوقع<br />

alwasatnews.net<br />

‏ضمن مقاس 800X600 بكسل مع األوان مميزة لأصناف<br />

تقسيم املساحات<br />

‏صورة رقم 8. غياب عنصر الإبحار بالنسبة للصفحة<br />

الرئيسة ملوقع alayam.com<br />

‏ضمن مقاس 800X600 بكسل<br />

ونشري يف السياق نفسه اإىل اأنه قيست ‏صفحة<br />

الويب الواحدة مرتني ‏ضمن قياسني خمتلفني ومن ثم<br />

اأجريت عملية حتليل دقيق لعناصر التصميم واخليارات<br />

املرتبطة به.‏ فعلى ‏سبيل املثال مكّ‏ نت هذه العملية من<br />

حتديد وفهم اأنواع املساحات داخل اأو خارج مقاس<br />

‏شاشة )800X600(.<br />

1- ‏ضعف نسبة املساحة املخصصة للإبحار<br />

ويفيد التحليل الذي قمنا به اأن عنصر الإبحار<br />

)Navigation( يوجد يف ‏شكل قائمة عمودية اإىل<br />

اأقصى ميني الشاشة بالنسبة جلميع املواقع الإلكرتونية<br />

‏صورة رقم 9. ظهور واضح لعنصر الإبحار بالنسبة<br />

للصفحة الرئيسة ملوقع alwaqt.com<br />

‏ضمن مقاس 800X600


123<br />

2 0 1 1<br />

‏صورة رقم 10. ظهور واضح لعنصر الإبحار بالنسبة<br />

للصفحة الرئيسة ملوقع alwaqt.com<br />

‏ضمن مقاس 1024X768 بكسل<br />

كما ناحظ اأيضا اأن نسبة املساحة املخصصة<br />

لعنصر الإبحار ‏ضمن قياس 800X600 بكسل تبدو<br />

مهمة مقارنة باملساحة الكلية للصفحة وذلك بالنسبة<br />

لصحيفتي الوقت واأخبار اخلليج )11 و % 12 من املساحة<br />

الكلية للصفحة(‏ وتبدو اأقل اأهمية بالنسبة لصحيفتي<br />

الوسط والوطن )6 و %5(، يف حني تطرح املساحة<br />

املخصصة لعنصر الإبحار بالنسبة لصحيفة الأيام<br />

)%1( اأكرث من ‏صوؤال بخصوص خيارات التصميم.‏<br />

وضمن مقاس ‏شاشة 1024X786 تبقى ‏صحيفتا<br />

الوقت واأخبار اخلليج حمرتمتني لنفس املساحة<br />

املخصصة لعنصر الإبحار )11 و %12(، يف حني تبدو<br />

‏صحيفة الوطن اأكرث تناغما مع هذا املقاس بفضل<br />

تخصيص %14 من املساحة اجلملية للصفحة.‏ وتبقى<br />

‏صحيفتا الأيام والوسط بنسبة مساحات مشابهة ملقاس<br />

الشاشة السابق )7 و‎%5‎‏(.‏<br />

2- غياب واضح للإعانات<br />

اإذا ما متعّنا يف املساحات املخصصة للإعانات<br />

بالنسبة جلميع الصحف وبالنسبة ملقاسي الشاشة التي<br />

‏شملتها الدراسة )800X600 و‎1024X786‎ بكسل(‏ فا<br />

ميكن اأن نغفل الغياب الواضح للإعانات،‏ اإذ افتقرت<br />

‏صحف اأخبار اخلليج والوسط والوقت لهذا العنصر،‏ يف<br />

حني مل ميثل هذا العنصر ‏سوى %7 بالنسبة لصحيفة<br />

الأيام و‎%10‎ بالنسبة لصحيفة الوطن.‏<br />

اأما بخصوص الإعانات القليلة التي حصلنا عليها<br />

فقد جاءت ‏ضمن ‏شكلني خمتلفني من حيث املوقع:‏<br />

اإعانات اأفقية يف اأقصى اأعلى الشاشة واإعانات<br />

عمودية يف اأقصى يسار الشاشة.‏<br />

3- مساحات كبرية خمصصّ‏ ة للمضامني الإخبارية<br />

يبدو اأن املساحات املخصصّ‏ ة للمضامني الإخبارية<br />

تسجل يف جمملها حيزا مهماً‏ من املساحة الكلية<br />

للصفحة بالنسبة جلميع الصحف وخاصة ‏ضمن مقاس<br />

‏شاشة 1024X786 بكسل.‏ اإذ مثّلت مساحة املضامني<br />

الإخبارية اأكرب نسبة جتاوزت يف بعض احلالت %70 من<br />

املساحة الكلية للصفحة )%27 بالنسبة لصحيفة الوقت<br />

و‎%61‎ بالنسبة لصحيفة اأخبار اخلليج(.‏<br />

اإل اأننا ناحظ يف الوقت نفسه اأن املساحة املخصصة<br />

للمضامني الإخبارية بالنسبة لصحيفتي الأيام والوسط<br />

جاءت غري مناسبة )21 و %22( ‏ضمن مقاس ‏شاشة<br />

800X600 بكسل.‏ وهذا يدعّ‏ م مرة اأخرى ما توصلنا<br />

اإليه ‏سابقا من وجود بعض الثغرات يف التصميم العام<br />

للصحيفتني من حيث فعّالية الستخدام ووضوح عناصر<br />

التصفح داخل املوقع.‏<br />

4- نسبة مناسبة من املساحات املخصصة للهوية<br />

والبحث<br />

ل ‏شك اأن عنصر الهوية )Identity( ميثل<br />

العنصر الأساسي يف اإكساب املوقع الشخصية املميّزة<br />

له وجعله مصدرا لدعم املصداقية والرفع من عدد<br />

مستخدميه على الشبكة.‏ وجاءت املساحات املخصصة<br />

لهذا العنصر متقاربة بالنسبة جلميع الصحف ‏ضمن<br />

مقاسات الشاشة املختلفة.‏ وتراوحت هذه النسبة بني 4<br />

و‎%6‎ من املساحة الكلية للصفحة،‏ وهي نسبة تعد اإىل حد<br />

ما مناسبة،‏ باعتبار اأن املساحة املخصصة للهوية عادة<br />

اأبحاث


2 0 1 1<br />

124<br />

ما تكون ‏صغرية.‏<br />

من جهة ثانية ل ميكن احلديث عن موقع اإخباري<br />

دون توافّر خدمة البحث )Search( ‏ضمن الصفحة<br />

الرئيسة للموقع وباقي الصفحات املكونة له.‏ املساحة<br />

املخصصة لهذا العنصر جاءت هي الأخرى متقاربة<br />

بني جميع الصحف وتراوحت نسبتها بني 2 و % 4 من<br />

املساحة الكلية للصفحة،‏ وهي اأيضا مساحة مناسبة<br />

باعتبار اأن املساحة املخصصة للبحث تكون يف اأغلب<br />

الأحيان ‏صغرية.‏<br />

1- نسبة كبرية من املساحات غري املستخدمة<br />

لقد اأفرزت الدراسة ماحظة مهمة تتمثل يف ارتفاع<br />

نسبة املساحات غري املستخدمة مقارنة باملساحة الكلية<br />

للصفحة وذلك ‏ضمن خمتلف مقاسات الشاشة.‏ وكما<br />

ذكرنا يف تعريف املساحات ‏سابقا،‏ فاإن املساحات غري<br />

املستخدمة ل نعني بها املساحات البيضاء فقط.‏ وعلى<br />

هذا الأساس،‏ فاإن نسبة هذه املساحات غري املستخدمة<br />

كانت مرتفعة بالنسبة لصحف الأيام )%64(، والوسط<br />

)%38( والوطن .)%35(<br />

ولئن ‏شهدت هذه النسب انخفاضا ‏ضمن مقاس<br />

‏شاشة 1024X768 بكسل،‏ فاإنها تبقى يف اعتقادنا<br />

مرتفعة مقارنة باملساحة الكلية للصفحة )%36 بالنسبة<br />

لصحيفة الأيام و‎%26‎ بالنسبة لصحيفة الوسط(.‏<br />

وميكن القول باأن هذه املساحات غري مناسبة للتصميم<br />

اإذا ما لحظنا اأن نسبة املساحات غري املستخدمة<br />

بالنسبة لصحيفة الأيام متثّل نفس نسبة املساحة<br />

املخصصة للمضامني الإخبارية )%36(. ويعني ذلك<br />

وجود خلل واضح يف مستوى توزيع عناصر التصميم<br />

املكونة للصفحة.‏<br />

ويف اجلهة املقابلة،‏ ‏سجّ‏ لت ‏صحيفتا الوقت واأخبار<br />

اخلليج وجود نسبة قليلة من املساحات غري املستخدمة،‏<br />

بل اإن هذه النسبة تعد مثالية بالنسبة لصحيفة الوقت،‏<br />

اإذ ل تتجاوز %5 من املساحة الكلية للصفحة.‏<br />

‏شكل رقم 1. توزيع مساحات ‏صفحة اأخبار اخلليج<br />

‏ضمن مقاس 800X600<br />

‏شكل رقم 2. توزيع مساحات ‏صفحة اأخبار اخلليج<br />

‏ضمن مقاس 1024X768<br />

‏شكل رقم 3. توزيع مساحات ‏صفحة الأيام<br />

‏ضمن مقاس 800X600<br />

‏شكل رقم 4. توزيع مساحات ‏صفحة الأيام


125<br />

2 0 1 1<br />

‏ضمن مقاس 1024X768<br />

‏شكل رقم 5. توزيع مساحات ‏صفحة الوقت<br />

‏ضمن مقاس 800X600<br />

‏شكل رقم 8. توزيع مساحات ‏صفحة الوسط<br />

‏ضمن مقاس 1024X768<br />

‏شكل رقم 6. توزيع مساحات ‏صفحة الوقت<br />

‏ضمن مقاس 1024X768<br />

‏شكل رقم 9. توزيع مساحات ‏صفحة الوطن<br />

‏ضمن مقاس 800X600<br />

‏شكل رقم 7. توزيع مساحات ‏صفحة الوسط<br />

‏ضمن مقاس 800X600<br />

‏شكل رقم 10. توزيع مساحات ‏صفحة الوطن<br />

‏ضمن مقاس 1024X768<br />

اأبحاث


2 0 1 1<br />

126<br />

‏صورة رقم 11. تقييم عنصر الوصول للمعلومات بواسطة<br />

Cynthia<br />

تقييم الوصول للمعلومات )Accessibility(<br />

تتمثل عملية تقييم الوصول اإىل املعلومات<br />

)Accessibility( يف اختبار مدى استجابة ‏صفحات<br />

املوقع الإلكرتوين خلطوط الإرشاد .)Guidelines(<br />

وترتبط خطوط الإرشاد بقواعد تطبيق لغات برجمة<br />

الويب الصادرة عن الهيئة الدولية للإنرتنت )18( W3C<br />

التي تتكفل بعملية نشرها وحتديثها بصورة مستمرة.‏<br />

وتتمحور خطوط الإرشاد حول جمموعة من املبادئ<br />

والقواعد العامة التي تساعد على وصول املستخدم اإىل<br />

املعلومات.‏ ويحتوي كل مبداأ من هذه املبادئ على واحد<br />

اأو جمموعة من نقاط التدقيق )Checkpoints( يقع<br />

من خالها تفسري كيف تتم عملية تطبيق خطّ‏ الإرشاد<br />

‏ضمن وضعية معيّنة.‏<br />

ولإجناز هذا العمل قمنا باستخدام اأدوات تقييم<br />

الكرتونية ميكن استعمالها بصورة جمانية على ‏شبكة<br />

الإنرتنت وهي )19( Cynthia و )20( Etre و )21( .ebXACT<br />

وقد متّ‏ استخدام هذه الأدوات بتاريخ 29 يوليو 2008.<br />

‏شكل رقم 12. تقييم عنصر الوصول للمعلومات بواسطة<br />

Etre<br />

‏شكل رقم 13. تقييم عنصر الوصول للمعلومات بواسطة<br />

WebXACT<br />

على اإثر حتليل البيانات ميكن القول باأن ‏صفحات<br />

املواقع اخلمسة تتضمن اأخطاء مرتبطة بالوصول<br />

للمعلومات errors( .)Accessibility عدد هذه<br />

الأخطاء يختلف من ‏صحيفة اإىل اأخرى ليصل العدد<br />

الأعلى من الأخطاء اإىل 572 خطاأ الذي وقع تسجيله<br />

‏ضمن الصفحة الرئيسية لصحيفة اأخبار اخلليج،‏ يف<br />

حني ‏سجّ‏ لت الصفحة الرئيسية لصحيفة الأيام العدد<br />

الأقل من الأخطاء )272 خطاأ(.‏<br />

اأمّ‏ ا اأهم نوع من الأخطاء فهو مرتبط بخط الإرشاد<br />

)1.1 1.1 )Guideline الذي يجب من خاله توفري<br />

نص تعويض اأو تفسري للعناصر املرئية.‏ كمثال على<br />

ذلك ‏ضرورة توفري نص يفسّ‏ ر حمتوى الصورة يف حالة<br />

اعتذار حتميلها مع الصفحة.‏


127<br />

2 0 1 1<br />

النتائج<br />

من خال هذه الدراسة التي وضّ‏ حنا اأبعادها فيما<br />

‏سبق،‏ ميكن اأن نخلص اإىل النتائج الآتية:‏<br />

اأول:‏ مل تاأخذ بعض الصحف الإلكرتونية البحرينية<br />

بعني العتبار ‏ضرورة اأهمية اأن يتوافق تصميم<br />

واجهة الستخدام على الأقل مع مقاسي )800X600<br />

و‎1024X768‎‏(‏ وذلك حتّى تسهل عملية استخدام املوقع<br />

من قبل اأكرب عدد من املستخدمني.‏ ما لوحظ هو جناح<br />

‏صحيفتي الوقت واأخبار اخلليج فقط يف هذا املستوى،‏<br />

يف حني ‏شهدت بقية الصحف تفاوتا تسبب يف خلل<br />

‏ضمن توزيع مساحات العناصر املكونة للصفحة،‏ جعل<br />

على ‏سبيل املثال عنصر الإبحار اأو الهوية غائبا ‏ضمن<br />

اأكرث من ‏صحيفة.‏<br />

ثانيا:‏ احتوت ‏صفحات الويب املكونة للصحف<br />

الإلكرتونية عددا عاليا من الأخطاء يف مستوى الوصول<br />

اإىل املعلومات وخاصة بالنسبة خلط الإرشاد 1.1<br />

املرتبط بتعريف العناصر املرئية.‏<br />

ثالثا:‏ من البدهي اأن نفكّ‏ ر يف اأن اأهم عنصر<br />

مكون للصفحة هو املضمون الإخباري اأو الإعامي،‏<br />

اإل اأن ما توصلنا اإليه هو حمدودية املساحة املخصصة<br />

لهذا العنصر باستثناء ‏صحيفتي الوقت واأخبار<br />

اخلليج.‏<br />

رابعا:‏ ناحظ وجود ارتفاع مهم لنسبة املساحات<br />

غري املستخدمة ‏ضمن الصفحة.‏ ولئن اختلفت نسبة<br />

هذه املساحة من ‏صحيفة اإىل اأخرى،‏ فاإنها يف تقديرنا<br />

تعربّ‏ عن غياب اإسرتاتيجية تصميم واضحة متكّ‏ ن من<br />

تغطية هذه املساحات عند تصفح املوقع ‏ضمن مقاس<br />

اأو مقاس 1024X768. 800X600<br />

خامسا:‏ باستثناء بعض احلالت القليلة،‏ فاإننا<br />

‏سجّ‏ لنا غياباً‏ واضحاً‏ للمساحات املخصصة للإعانات<br />

وعروض الرتويج بصورة عامة.‏ ويف اعتقادنا اأن هذه<br />

املصاألة مرتبطة مبشكل عام ‏ضمن مواقع الإنرتنت<br />

العربية وهو ‏ضعف ‏سوق الإعانات على الشبكة<br />

مقارنة بوجودها الضخم عرب وسائل الإعام والإعان<br />

الأخرى.‏<br />

‏سادسا:‏ تعد ‏صحيفة الوقت الصحيفة الأكرث جناحا<br />

يف مستوى تصميم واجهة الستخدام من خال التوزيع<br />

الناجح للمساحات املكونة للصفحة الرئيسة وبقية<br />

الصفحات الداخلية.‏ كما اأن عدد الأخطاء املرتبط<br />

بالوصول اإىل املعلومات جاء بنسبة متواضعة،‏ مما يعزز<br />

موقع هذه الصحيفة مقارنة بالصحف الأخرى التي<br />

اأخذناها عينة للبحث.‏<br />

هذه النتائج تدفعنا اإىل القول باأن الصحف<br />

الإلكرتونية البحرينية يف حاجة ملحّ‏ ة اإىل اإعادة نظر<br />

وبناء اإسرتاتيجية تصميم جديدة تاأخذ بعني العتبار<br />

املاحظات والنتائج التي وردت ‏ضمن الدراسة.‏ كما اأن<br />

مصاألة الوعي باأن املوقع الإخباري هو عبارة عن وسيلة<br />

اإعام جديدة تدخل ‏ضمن ما اأصبح يعرف بالإعام<br />

اجلديد وتختلف عن وسائل الإعام التقليدية يف ‏شكلها<br />

والعناصر املكونة لها وطريقة عملها وعاقاتها مع<br />

مستخدميها،‏ اأصبحت مصاألة ملحة لأن ما ناحظه على<br />

‏صعيد الواقع ويف اأغلب احلالت هو استنساخ ملضامني<br />

اإعامية ‏صادرة عن وسائل اإعام تقليدية ورفعها على<br />

املوقع الإلكرتوين دون اعتبار خلصائص هذا الأخري.‏<br />

وهذا يجعلنا مستخدمني لوعاء اإلكرتوين جديد دون<br />

الستفادة من اإمكاناته الكبرية واملتنوعة بوصفه وسيلة<br />

اإعام جديدة.‏<br />

يف نهاية املطاف ميكن القول باأن هذه الدراسة تعد<br />

اإضافة يف جمال حتليل وتقييم املواقع الإخبارية العربية.‏<br />

كما اأن املرحلة القادمة التي ميكن اأن تكمّ‏ ل هذه الدراسة<br />

هي مرحلة تقييم الستخدام evaluation( )Usability<br />

التي ميكن من خالها تقدمي حتليل مفصّ‏ ل لعاقة<br />

املوقع الإلكرتوين مبستخدميه يف مستوى احلصول<br />

على املضامني الإخبارية والتفاعل مع املساحات املكونة<br />

للصفحة.‏ وحتّى يحصل تراكم يف هذا املجال يجب اأن<br />

تتعدّ‏ د هذه الأنواع من الدراسات على املستوى العربي.‏<br />

اأبحاث


2 0 1 1<br />

128<br />

الهوامش واالإحاالت<br />

1 حممد عبد احلليم حممد،‏ التجربة الإلكرتونية للجرائد املصرية املطبوعة:‏ دراسة حتليلية للجرائد القومية اليومية<br />

اأخبار-اأهرام-جمهورية،‏ القاهرة،‏ اأوراق املوؤمتر العلمي الثاين لأكادميية اأخبار اليوم،‏ 9-8 اأبريل 2003.<br />

2 اأبو بكر عبد القادر وزيري،‏ استخدامات الإنرتنت يف الصحافة العربية،‏ القاهرة،‏ اأوراق املوؤمتر العلمي الثاين<br />

لأكادميية اأخبار اليوم،‏ 9-8 اأبريل 2003.<br />

3 ‏صالح بن زيد العنزي،‏ اإخراج الصحف السعودية الإلكرتونية يف ‏ضوء السمات التصالية لشبكة الإنرتنت،‏ رسالة<br />

ماجستري يف الإعام،‏ جامعة الإمام حممد بن ‏سعود الإصامية،‏ الرياض،‏ مارس 2006.<br />

4 Jacob Nielsen, Designing Web Usability: The Practice of Simplicity, New Riders Publishing,<br />

CA, USA, 2000, p13.<br />

5 Jacob Nielsen, Homepage Usability: 50 Websites Deconstructed, New Riders Publishing, CA,<br />

USA, 2001, p74.<br />

6 Lars Bo Eriksen, “Evolution of the web news genre- the slow move beyond the print metaphor”.<br />

In HICSS 00: Proceedings of the 33rd Hawaii International Conference ob System Sciences<br />

(HICSS 03). IEEE Computer Society, (2000): 40-102.<br />

7 Maria Akesson, Design patterns for online newspaper genre- a genre analysis of 85 Swedish<br />

daily online newspapers. Master’s thesis, Department of Informatics, Goteborg University,<br />

2000.<br />

8 Melody Yvette Ivory, “The state of the art in automating usability evaluation of user interfaces”.<br />

ACM Computing surveys (CSUR). Vol. 33. No. 4, (2001): 470-516.<br />

9 Melody Yvette Ivory, “Statistical profiles of highly-rated web sites”. In Proceedings of the<br />

SIGCHI’02 conference on Human factors in computing systems. ACM Press, (2002): 367-374.<br />

10 Melody Yvette Ivory, “Evolution of web site design patterns”. ACM Transactions on Information<br />

Systems (TOIS). Vol. 23No. 4, (2005): 463-497.<br />

11 Li Xigen,. Internet Newspapers: The Making of Mainstream Medium. Rutledge publishing,<br />

USA, 2006, p26.<br />

12 http://www.gopagerank.com/<br />

13 http://www.seochat.com/seo-tools/pagerank-lookup/<br />

14 http://www.top25web.com/pagerank<br />

15 تفيد الإحصائيات الصادرة عن موقع 3wschools.com اأن توزيع استخدام متصفحي الإنرتنت حسب قياس<br />

‏شاشة الكمبيوتر بالنسبة ليناير 2008 هي %48 ملقاس )1024X768 بكسل(‏ و‎%8‎ ملقاس )800X600 بكسل(‏ و‎%38‎<br />

ملقاسات اأعلى و‎%6‎ ملقاسات غري معروفة.‏<br />

16 ميكن احلصول على هذا الربنامج جمانا عرب املوقع الإلكرتوين .http://wisdom-soft.com<br />

17 Jacob Nielsen, 2001. Op. Cit, pp 7-12.<br />

18 ميكن احلصول على قائمة القواعد وخطوط الإرشاد عرب موقع الهيئة الدولية للإنرتنت http://www.w3.org/<br />

WAI<br />

19 http://www.cynthiasays.com<br />

20 http://www.etre.com/tools/accessibilitycheck<br />

21 http://www.w3c.hu/talks/2006/wai_de/mate/watchfire.html


129<br />

2 0 1 1<br />

املصادر واملراجع<br />

املراجع العربية<br />

‎1‎اأبو . 1 بكر عبد القادر وزيري،‏ استخدامات الإنرتنت يف الصحافة العربية،‏ القاهرة،‏ اأوراق املوؤمتر العلمي الثاين<br />

لأكادميية اأخبار اليوم،‏ 9-8 اأبريل 2003.<br />

2 ‏صالح بن زيد العنزي،‏ اإخراج الصحف السعودية الإلكرتونية يف ‏ضوء السمات التصالية لشبكة الإنرتنت،‏ رسالة<br />

ماجستري يف الإعام،‏ جامعة الإمام حممد بن ‏سعود الإصامية،‏ الرياض،‏ مارس 2006.<br />

3 حممد عبد احلليم حممد،‏ التجربة الإلكرتونية للجرائد املصرية املطبوعة:‏ دراسة حتليلية للجرائد القومية اليومية<br />

اأخبار-اأهرام-جمهورية،‏ القاهرة،‏ اأوراق املوؤمتر العلمي الثاين لأكادميية اأخبار اليوم،‏ 9-8 اأبريل 2003.<br />

2 .<br />

3 .<br />

املراجع االأجنبية<br />

اأبحاث<br />

1. Akesson Maria, Design patterns for online newspaper genre- a genre analysis of 85 Swedish<br />

daily online newspapers. Master’s thesis: Goteborg University, 2000 .<br />

2. Courage, Catherine and Baxter, Kathy. Understanding Your Users: A Practical Guide to User<br />

Requirements, Methods, Tools, and Techniques. New York: Morgan Kaufmann, 2005.<br />

3. Eriksen, Lars Bo and Ihlstrom, Carina. “Evolution of the web news genre- the slow move beyond<br />

the print metaphor”. HICSS 00: Proceedings of the 33rd Hawaii International Conference of<br />

System Sciences (HICSS 03). IEEE Computer Society (2000): 40-102 .<br />

4. Garrett, Jesse James. The Elements of the User Experience: User-Centered Design for the Web.<br />

Berkeley, CA: New Riders, 2003.<br />

5. Ivory, Melody Yvette. “The state of the art in automating usability evaluation of user interfaces”.<br />

ACM Computing surveys (CSUR). Vol. 33. No. 4 (2001): 470-516 .<br />

6. Ivory, Melody Yvette. “Statistical profiles of highly-rated web sites”. In Proceedings of the<br />

SIGCHI’02 conference on Human factors in computing systems. ACM Press, (2002): 367-<br />

374.<br />

7. Ivory, Melody Yvette and Megraw, Rodrick. “Evolution of web site design patterns”. ACM<br />

Transactions on Information Systems (TOIS). Vol. 23. No. 4, (2005): 463-497.<br />

8. Koyani, Sanjay, Bailey, Robert and Nall, Janice. “Research-based Web Design and Usability<br />

Guidelines”. Washington, DC: Department of Health and Human Services, General Services<br />

Administration, 2006.<br />

9. Krug, Steve. Don’t Make Me Think: A Common Sense Approach to Web Usability. 2nd ed.<br />

Berkeley, CA: New Riders, 2006.<br />

10. Lazar, Jonathan. Web Usability: A User-Centered Design Approach. Boston: Addison-Wesley,<br />

2006.<br />

11. Nielsen, Jacob. Designing Web Usability: The Practice of Simplicity. CA, USA: New Riders<br />

Publishing, 2000.<br />

12. Nielsen, Jacob. Homepage Usability: 50 Websites Deconstructed. CA, USA: New Riders<br />

Publishing, 2001.<br />

13. Richard Craig, Online Journalism- Reporting, Writing and Editing for New Media. Canada:<br />

Wadsworth Publishing, 2005.<br />

14. Xigen Li. Internet Newspapers: The Making of Mainstream Medium. USA: Rutledge publishing, 2006.<br />

15. W3C, 1999. Web Content Accessibility Guidelines 1.0. [Accessed 29th July 2008]. Available<br />

from World wide Web: http://www.w3c.org/TR/WCAG10.


يف البحث عن<br />

العالقة بني املدونات<br />

االإلكرتونية والصحافة<br />

د.‏ نصر الدين لعياضي<br />

كلية التصال،‏ جامعة الشارقة


133<br />

2 0 1 1<br />

Abstract<br />

The current study theoretically endeavours<br />

to sketch out the future of journalism within<br />

the emerging frames of the new of the<br />

new media. Based on this, the researcher<br />

has already developed the following core<br />

questions:<br />

How can communication researchers<br />

forecast the justifiable future of journalism<br />

apart from its abstract concept?<br />

Can scholars conceive of the present<br />

day journalism as they did before using the<br />

traditional paradigm?<br />

Is it viable to trace the power of relationship<br />

between the blogs and the present day<br />

journalism irrespective of any sort of denial<br />

or exclusion?<br />

Are the blogs inducing any sort of<br />

effect on the present day journalism even<br />

though blogging is still technologically not<br />

sophisticated, and so on the cultural and<br />

ontological levels?<br />

To answer all these questions, there<br />

seems to be a need for looking after the<br />

consequences of blogging in accordance with<br />

the journalistic paradigm.<br />

Hence, the journalistic paradigm enables<br />

communication scholars to trace back the<br />

development of the press over 400 years. In<br />

the mean time, scholars will find themselves<br />

confronted with the fact that journalism<br />

over the long history is not a static genre.<br />

However, it looks renovating itself. In<br />

addition, it becomes evident that the present<br />

day journalism is different from blogging in<br />

many different ways.<br />

Actually, constructivism has led to the<br />

emerging development of the “journalistic<br />

paradigm.” It intensifies that journalism as<br />

a genre is not a socio-cultural or political<br />

phenomenon; however it is an open system<br />

that is institutionally teeming up with<br />

functions, discourses, and ideas.<br />

Finally, the current study concludes that<br />

there seems to be a sort of difficulty in terms<br />

of the reciprocal interaction between the<br />

genre of journalism and blogging especially<br />

in the Arab arena but not in the Western one.<br />

امللخص<br />

حتاول هذه الدراصة اأن تستجلي العاقة بني<br />

الصحافة واملدونات الإلكرتونية بعيدا عن منطق<br />

النهايات الذي وجه العديد من البحوث الجتماعية،‏<br />

مبا فيها بحوث الإعام والتصال،‏ ومبناأى عن النظرة<br />

الإقصائية التي ل ترى مستقبا للصحافة يف ظل تطور<br />

املدونات وازدهارها.‏<br />

اإن الكتشاف املعريف لطبيعة هذه العاقة يشرتط<br />

استبدال املنظور Paradigm الذي نقراأ عربه التحولت<br />

التي تعيشها الصحافة يف احلاضر واملستقبل.‏ فاإذا<br />

كان من الصعب اأن نسحب ماضي الصحافة على<br />

واقعها ومستقبلها،‏ فمن الأصعب اأن نستخدم املنظور<br />

القدمي لفهم ما تعيشه الصحافة من تطورات.‏ وذلك<br />

لأن الصحافة ليست معطى جمردا،‏ ول كائنا جامدا.‏<br />

اإنها ‏شكل ملموس وديناميكي يتفاعل مع اليكولوجيا<br />

اجلديدة التي فرضها الإعام اجلديد،‏ الذي يعد<br />

اإفرازا لتطور تقني واجتماعي يتسم باستشراء<br />

التكنولوجيا الرقمية مبختلف تطبيقاتها واستتباعاتها<br />

يف عامل الإعام والتصال.‏<br />

اإن الصحافة عبارة عن بناء اجتماعي يتجلى عرب<br />

تطور املمارسة يف خمتلف مستوياتها.‏ هذه احلقيقة<br />

تفرضها املقاربة البنائية للصحافة بوصفها خطاباً،‏<br />

وموؤسسة اقتصادية وسياسية،‏ وحزمة من العاقات<br />

الجتماعية.‏<br />

اإن املقاربة البنائية لتطور الصحافة قربت الباحث<br />

من رصد اأنواع املدونات ومقاصدها،‏ واإسرتاتيجية<br />

اصتخدام وصائل الإعام املختلفة لها يف الدول<br />

الغربية.‏<br />

كما اأن هذه املقاربة قدمت بعض العناصر التاريخية<br />

والثقافية والسياسية الكفيلة بتفسري ‏ضعف التفاعل بني<br />

الصحافة واملدونات الإلكرتونية يف املنطقة العربية.‏<br />

اأبحاث


2 0 1 1<br />

134<br />

يف البحث عن العالقة بني املدونات االإلكرتونية والصحافة<br />

د.‏ نصر الدين لعياضي،‏<br />

املقدمة<br />

مل يكن اأحد يدري اأن املراهنة التي جرت بني ديف وايرن ديف ، Winer Dave اأحد خمرتعي اآليات اخلاصات<br />

) RSS Really Simple Syndication و API( ) )1( ، و نيزنهلتز مارتن ،Martin Nisenholtz مصوؤول موقع<br />

‏صحيفة نيو يورك تاميز على ‏شبكة الإنرتنت،‏ ‏ستوؤطر النقاش حول مستقبل الصحافة ملدة طويلة من الزمن.‏<br />

لقد تنباأ نيزنهلتز يف السنة 2003، باأن املدونات الإلكرتونية)‏Blogs‏(‏ ‏ستفرض نفسها خال السنوات اخلمس<br />

القادمة،‏ وتكسب ‏سمعة تفوق ‏سمعة ‏صحيفة نيو يورك تاميز.‏ واأكد اأن وسائل الإعام ‏ستتغريّ‏ ، بعمق،‏ اإىل درجة اأن<br />

)2(<br />

الأشخاص ‏سيتجهون للبحث عن املعلومات التي يحتاجونها يف مدوّنات الهواة الإلكرتونية التي يثقون بها.‏<br />

على الرغم من اأن وايرن نظر اإىل التغيري احلاصل يف الصحافة )3( ‏ضمن الإيكولوجية اجلديدة التي فرضها<br />

بروز منط التصال الأفقي يف عامل وسائل الإعام،‏ التي ل توؤدي اإىل القضاء على اجلرائد،‏ اإل اأن احلديث عن<br />

تاأثري املدونات يف العمل الصحفي ظل منحصرا يف اإمكانية القضاء على الصحافة الورقية.‏ لقد وجد الزاعمون<br />

بنهاية الصحافة حجتهم يف فيلم الفيديو القصري الذي اأعده متحف تاريخ وسائل الإعام يف الوليات املتحدة<br />

الأمريكية،‏ الذي نعى الصحافة الورقية،‏ وتوقع نهايتها بعد خمس ‏سنوات،‏ اأي يف العام 2014، بعد موت ‏صحيفة<br />

)4(<br />

‏“نيو يورك تاميز”،‏ التي تُعّد العنوان الأكرث ‏شهرة يف الصحافة املكتوبة.‏<br />

هل يرسم هذا التنبوؤ اأفق تطور وسائل الإعام اأو<br />

اأنه يعرب عن حالة القلق الذي ينتاب املنشغلني بوسائل<br />

التصال اأو ممتهنيها كلما ظهرت تكنولوجيا جديدة،‏<br />

واخلوف من تبعاتها على ‏صعيد اإنتاج مواد التصال<br />

وتوزيعها؟ اأي القلق الذي يفضي،‏ من ثقل وطاأته،‏ اإىل<br />

تاأبني التكنولوجيات القدمية،‏ والحتفاء باجلديدة<br />

والتبشري بوعودها الوردية يف جمال الإعام والتصال<br />

الجتماعي.‏<br />

هل هذا التاأبني يتناغم مع خطاب النهايات الذي<br />

ميّز الفكر املعاصر،‏ بدءا من نهاية التاريخ،‏ ونهاية<br />

الإيديولوجيات،‏ ونهاية الفلسفة،‏ وصول اإىل نهاية<br />

التلفزيون )5( ، ونهاية الصحفة )6( ، ونهاية املسرح،‏<br />

ونهاية السينما،‏ ونهاية اليديولوجيا،‏ وغريها من قائمة<br />

النهايات التي ل نهاية لها؟<br />

املنظور :Paradigm اأداة لفهم املاثل،‏ وتصور لقراءة<br />

االآتي:‏<br />

اإننا منيل اإىل العتقاد باأن الكتابات التي تناولت<br />

مستقبل الصحفة يف ظل التطور التكنولوجي،‏ والتي<br />

انتهت اإىل احلكم عليها بالنقراض،‏ انطلقت من متثّل<br />

Representationللواقع الذي ينتج الصحفة املَتَّسِ‏ م<br />

بالثبات والستقرار،‏ ول يكف عن اإنتاج النموذج الواحد<br />

والقدمي من الصحفة.‏ وتعاملت مع الصحفة بوصفها<br />

ظاهرة تكنولوجية بدرجة اأساسية،‏ واحلال اأن الصحفة<br />

بناء اجتماعي،‏ كما ‏سنثبت ذلك لحقا؛ اأي اأنها عرضة<br />

للتجدّ‏ يد والتطور الذي تنتجه جملة من الأفعال املتداخلة،‏<br />

منها الفعل الجتماعي الذي يدفعها،‏ تدريجيا،‏ للتموقع<br />

يف الفضاء الدميقراطي،‏ والفعل القتصادي الذي<br />

تستند اإليه باعتبارها موؤسسة اقتصادية،‏ والفعل الثقايف<br />

املنتج للمعرفة ومتثّات الواقع الذي تقوم به كل وسيلة


135<br />

2 0 1 1<br />

اإعامية.‏<br />

اإن توظيف منطق النهايات للحديث عن مستقبل<br />

وسائل الإعام يقولب التفكري،‏ ‏صاأنه ‏صاأن احلتميات<br />

‏سواء كانت بيولوجية اأو اجتماعية اأو تقنية،‏ ويدفع اإىل<br />

رفض التغريات غري املنتظرة يف جمال معني اأو غري<br />

املتطابقة مع املنظور السائد.‏ فالنهايات واحلتميات<br />

توؤدي،‏ يف اعتقادنا،‏ اإىل ما اأسماه الفيلسوف الفرنسي<br />

غستون بصار بالعائق البستمولوجي الذي يكمن يف فعل<br />

)7(<br />

املعرفة العلمية ذاته،‏ وليس يف موضوعها.‏<br />

اإن النظرة التشاوؤمية التي تطبع احلديث عن الصحفة<br />

ووسائل الإعام يف الكثري من مناطق العامل ل تنطبق<br />

على الصحفة ووسائل الإعام العربية،‏ واإن كان البعض<br />

يعتقد اأنه تشاوؤم موؤجل،‏ طاملا اأن الصحف العربية،‏<br />

بصفة عامة،‏ ل تعاين،‏ يف العقد احلايل،‏ من تراجع<br />

كبري يف ‏سحبها اأو تناقص موؤكد يف عدد قرائها،‏ كما<br />

هو الصاأن يف بعض الدول الأوروبية،‏ والوليات املتحدة<br />

الأمريكية على وجه التحديد التي اأعلنت فيها بعض<br />

املجموعات الصحفية عن اإفاسها،‏ مثل املجموعة<br />

الصحفية ‏»تربيون«‏ ، Tribune التي تعد ثالث اأقوى<br />

جمموعة ‏صحفية اأمريكية،‏ ومتلك اثنى عشر عنوانا<br />

‏صحفيا،‏ وصحيفة كريستيان ‏ساينس مونتور Christain<br />

Rocky وروكي مونن نيوز ،Science Monitor<br />

Mountain News وغريها.‏ اإن السبب الأبرز الكامن<br />

وراء هذا الإفاس يكمن يف تناقص عائدات اإعانها،‏<br />

التي ترتاوح ما بني 75 و‎%95‎‏.‏ حقيقة اإن اإفاس هذه<br />

العناوين جنم عن الأزمة التي تعصف بالقتصاد<br />

العاملي،‏ والتي دفعت العديد من املوؤسسات الناشطة<br />

يف بعض القطاعات القتصادية:‏ السيارات،‏ والبناء،‏<br />

والبنوك اإىل الإفاس اأو النكماش.‏ لكنه يُعّد،‏ اأيضا،‏<br />

نتيجة منطقية لرتاجع عدد قراء الصحف منذ اأكرث من<br />

عقدين من الزمن،‏ لكن بوترية اأسرع لتسجل انخفاضا<br />

بلغ %7 خال الثلث الأول من السنة احلالية )8( . لذا ل<br />

جمال لاندهاش اإذا لقيت املواقع الإلكرتونية املصري<br />

املحتوم الذي لقيتهاالصحف املذكورة اإن كان دخلها<br />

يعتمد اعتمادا ‏شبه كلي على عائدات الإعان.‏ )9( مع<br />

فارق كبري هو اأن الصحف اليومية تخسر ما بني 20 و‎60‎<br />

يورو يف العام نظري فقدانها قارئاً‏ واحداً،‏ وهذا خافا<br />

للمواقع الإلكرتونية التي ل تفقد ‏سوى يورو واحداً‏ اأو<br />

اثنني )10( .<br />

اإذا كانت بعض القنوات التلفزيونية يف الدول<br />

املتقدمة تعاين من وهن نتيجة ‏صراصة املنافسة<br />

والصعوبات املالية،‏ فاإن الفضائيات العربية تعيش<br />

‏“عصرها الذهبي”،‏ رغم اأن العديد منها مل يشتد<br />

عودها بعد،‏ ومل تصل اإىل الستقرار على هوية واضحة،‏<br />

حلداثة انطاقاتها.‏<br />

اإننا نعتقد اأنه ل ميكن الجابة عن الأسئلة<br />

املطروحة اأعاه دون الأخذ مبنطق التحولت يف<br />

املنظور“‏Paradigm‏”‏ الصحفي،‏ الذي ما زال يف طور<br />

الصياغة حسب اعرتافات منظريه على الرغم من<br />

الشروع يف التفكري فيه منذ اأكرث من عقد من الزمن.‏<br />

)11(<br />

لضرورة توضيح هذا املنطق يجب اأن نربز الإطار<br />

الفلسفي والفكري لنظرية التحولت يف املنظور الصحفي<br />

journalistic Paradigm باحثني عما يعززها يف الواقع<br />

اليومي الذي عاشته وتعيشه الصحفة يف عامل اليوم،‏<br />

طارحني بعض النشغالت التي تساهم يف اإعادة التفكري<br />

يف مستقبل الصحفة العربية،‏ ووسائل الإعام بصفة<br />

عامة،‏ ‏ضمن مقاربة خمتلفة.‏<br />

من الصعوبة مبكان اأن ندرك نظرية التغيري يف منظور<br />

الصحفة دون اأن نحاول اأن نعرف ما هو املنظور<br />

.Paradigm<br />

اإن املنظورParadigm هو جملة من التوجهات واملواقف،‏<br />

واملواضيع،‏ والطرق التي تعتربها جمموعة من الباحثني،‏<br />

يف مرحلة معينة،‏ ‏صاحلة وموؤكدة )12( ؛ اأي اأنها طريقة<br />

‏شاملة لروؤية ظاهرة اأو مساألة يستعني بها الباحثون<br />

لفهمها وقراءة تطوراتها.‏<br />

توؤكد الروؤية الكوهينية ‏)نسبة اإىل طوماس كوهني(‏<br />

اأن املنظور يشتغل بصفته منوذجاً‏ لدى جمموعة من<br />

الباحثني يف وقت حمدد.‏ فيحدد لهم املشكات ويقدم<br />

لهم احللول النموذجية لتوجيه بحوثهم.‏<br />

اأبحاث


2 0 1 1<br />

136<br />

يدرك جميع املهتمني بالعلوم اأن تاريخ املعرفة العلمية<br />

هو تاريخ تعاقب املنظورات ،Paradigms الذي يوؤكد<br />

اأنها ل تتقدم،‏ دائما،‏ اإىل الأمام ‏سالكة اجتاها خطيا<br />

مستقيما،‏ بل تتم،‏ اأيضا،‏ يف ‏شكل قطيعة واستئناف<br />

متجدد.‏ هذا اإذا اتفقنا اأن العلم ليس حلُ‏ مة من املعارف،‏<br />

لكنه طريقة من املاحظة والتاأويل )13( ، وذلك لأن<br />

النقطاعات والستئنافات والقفزات يف املعرفة العلمية<br />

تاأتي يف الغالب نتيجة حتول/‏ جتاوز يف املنظور.‏<br />

لكن ملاذا يتحول املنظور؟ وكيف يتم؟<br />

اإن العلوم تعيش اأزمة تتجلى عندما تقتنع جمموعة<br />

من الباحثني باأنها يف طريق مسدود،‏ وتُقَ‏ دِّ‏ رُ‏ باأن ثقل<br />

الأحداث والظواهر والأشياء الشاذة يتجاوز املقدرة<br />

التفسريية للمنظور الذي تستخدمه )14( . ففي هذه<br />

احلالة يتم جتاوز املنظور والطعن يف اأسسه النظرية<br />

اأو الأمربيقية،‏ واستبداله مبنظور جديد يفرتض اإعادة<br />

النظر يف التصور النظري للظواهر،‏ ويف طرق املاحظة<br />

والقياس والتاأويل من اأجل اإعادة بناء منوذج تفسريي<br />

جديد لها.‏<br />

منظور الصحفة Paradigm Journalistic<br />

يقتضي تطليق النظرة الثابتة واجلاهزة للميديا.‏<br />

يلفت الباحثان جون ‏شارو،‏ وجون دوفيل انتباهنا اإىل<br />

اأن استخدام مفهوم املنظور لدراسة ‏»امليديا«‏ Media<br />

ليس حديثا،‏ بل يعود اإىل نهاية الستينات من القرن<br />

املاضي،‏ اإذ مت على يد الباحث الفرنسي Maurice<br />

Mouillaudيف مقاربته البنيوية للمواد الصحفية،‏<br />

حيث استعان باللسانيات واعتمد على عدتها التحليلية،‏<br />

مثل ثنائية الكام – اللسان،‏ والدال واملدلول وشكل<br />

منوذجا تفسرييا للمنتج الصحفي ‏.وقد طور ‏،لحقا،‏ هذا<br />

املنهج مبعية الباحثجون فرنسوا تيتي Jean-François<br />

Tétu يف كتابهما املشرتك املوسوم:‏ الصحيفة اليومية.‏<br />

)15( واستخدمت الباحثة الفرنسية مارلني كولوب غويل<br />

Marlène Coulomb-Gully مفهوم املنظور الإعامي<br />

والرتفيهي للكشف عن الطريقة التي يتم بها اإنتاج املواد<br />

الإعامية والرتفيهية.‏ وشَ‏ غّل ‏شوسي فريدريك مفهوم<br />

املنظور لستجاء التغيري يف املمارسة الصحفية من<br />

خال حتليل عناوين املواد الصحفية ومقدماتها يف<br />

)16(<br />

‏صحافة الكيبك،‏ كندا.‏<br />

يُعّرف الباحثان ‏شارو ودو بوفيل املنظور الصحفي<br />

باأنه نظام معياري اأفرزته املمارسة القائمة على النموذج<br />

واملحاكاة،‏ ويتشكل من املسلمات وخمططات التاأويل،‏<br />

والقيم والأشكال النموذجية التي تُعّد مرجعا ملجموعة<br />

من الصحفيني يُشَ‏ خَ‏ ‏صُ‏ ون بها يف ‏سياق مكاين وزماين<br />

حمدد.‏ ويُجددون من خالها اإنتماءهم ملجموعتهم<br />

املهنية،‏ فتعطي مشروعية ملمارستهم.‏ )17( ولد مفهوم<br />

)18(<br />

املنظور الصحفي من رحم البنائية الجتماعية<br />

التي ‏شكلت،‏ منذ ‏صدور كتاب بيرت ل برجر Peter<br />

Thomas Luckmann لوكمات Lوتوماس Berger<br />

املوسوم “ البناء الجتماعي للواقع”‏ يف السنة 1966،<br />

موصوع تقاطع العديد من التيارات الفكرية التي<br />

اهتمت بالجابة عن الصوؤال التايل:‏ كيف تُبنى احلقيقة<br />

الجتماعية والظواهر الجتماعية؟ اأي كيف تنصاأ<br />

وتكتسب طابع املوؤسسة وتتحول اإىل تقليد.‏ فاحلقيقة<br />

الجتماعية ليست معطى جاهزا،‏ بل تُبنى وفق مسار<br />

ديناميكي،‏ ينتج الأشخاص من خاله احلقيقة ويُعِ‏ يدون<br />

اإنتاجها وفق تاأويلهم ومعارفهم ‏سواء كانوا واعني بها اأو<br />

غري واعني.‏ لكن على الرغم من اأهمية هذا التعريف<br />

اإل اأننا نعتقد اأنه ل يقبض على ‏صلة الوصل بني نظرية<br />

تغيري املنظور الصحفي والبنائية الجتماعية،‏ لذا ميكن<br />

القول اإن البنائية هي موقف فلسفي ينطلق من اأن الواقع<br />

ل يُعرَ‏ ف اإل من خال فئات حمددة ‏سابقاً.‏ فالعامل الذي<br />

يحيط بنا يعترب،‏ دائما،‏ مبنياً‏ مسبقاً،‏ وذلك من خال<br />

‏سلم من الروؤى والقراءات لنظم متثّاتنا للواقع.‏ مبعنى<br />

اأن البنائية ل توؤمن بوجود الواقع اأول ثم اإدراكه له،‏ بل<br />

تنطلق اأول من الإدراك ثم الواقع،‏ لأن هذا الأخري يتجلى<br />

من خال عملية اإدراكنا.‏ وهذا ما يُفسر تباين الواقع<br />

الواحد من ‏شخص اإىل اآخر،‏ ومن ثقافة اإىل اأخرى.‏<br />

لقد انتشرت البنائية يف الثقافة الغربية،‏ ووسمت<br />

العديد من الدراصات الجتماعية اإىل درجة اأنها<br />

اأصبحت ترمز اإىل رفض الواقع الجتماعي الذي يقدم<br />

بوصفه جملة من املسلمات والتصورات اجلاهزة التي


137<br />

2 0 1 1<br />

‏“تسجن”‏ التفكري يف ‏سياجها.‏ وتعرب عن قطيعة مع<br />

الجتاه الوضعي،‏ وحتولت اإىل اجتاه معريف يف العلوم<br />

الجتماعية.‏<br />

وتاأسيسا على هذا الفهم للبنائية،‏ يرى منظور التطور<br />

اأن التغريات العديدة واملتشابكة التي تعيشها الصحفة<br />

ل ميكن اأن تفهم ‏ضمن روؤية ثابتة وقارة للصحافة،‏<br />

والتعامل معها كاأنها معطى منتهي البناء ومنجز،‏<br />

وليست ظاهرة اجتماعية وثقافية وسياسية يف حالة<br />

تغيري دائم.‏ وميكن اأن نفهم العوامل التي تتدخل يف ‏صنع<br />

التغيري الذي يحدث يف الصحفة،‏ بفضل هذا املنظور،‏<br />

ونستطيع اأن ندرك اأفق تطورها.‏ اإن التمسك بقراءة<br />

التطورات التي تعيشها الصحفة دون استبدال املنظور<br />

، Paradigm اأي ‏سحب ماضي الصحفة على حاضرها،‏<br />

يوؤدي اإىل احلكم عليها باأنها بلغت نهاية تطورها،‏ اأواأنها<br />

تعيش بداية نهايتها دون بذل اأي جهد نظري وفكري،‏ بل<br />

مبجرد الكتفاء ببعض املوؤشرات والوقائع،‏ التي ل يشك<br />

اأي عاقل يف قوتها ووزنها ‏،لتربير هذا احلكم اأو تسويقه،‏<br />

كانسحاب بعض املجات والصحف من عامل الورق،‏<br />

والتحاقها بالعامل الفرتاضي جمسدا يف ‏شبكة الإنرتنت،‏<br />

والتي قد تعود للأزمة القتصادية التي تعصف بالعامل<br />

اليوم اأكرث من التحولت التكنولوجية،‏ مثل ‏صحيفة<br />

‏ستايل بوست اإنتليجنسرIntelligencer Style Post<br />

)19(<br />

الأمريكية ‏،التي ‏صدرت قبل 146 ‏سنة بواشنطن،‏<br />

وجملة املجلة السعودية.‏ اأو العرتاف بكُ‏ تاب املدونات<br />

كصحفيني حمرتفني وقبولهم يف النقابات الصحفية يف<br />

هذه الدولة اأو تلك،‏ اأو تعيني املدون الأمريكي Garrett<br />

Graff ‏صحفياً‏ معتمداً‏ بالبيت الأبيض الأمريكي يف<br />

السنة )20( 2005 اأو استعانة وسائل الإعام الكاسيكية<br />

ببعض ما تنشره املدونات الإلكرتونية من اأخبار وصور<br />

واأشرطة فيديو ‏،كنشرها ملا نقله السيد هارفرد اأرون<br />

‏شانبهاغ،‏ اأستاذ كلية الطب يف جامعة هارفرد،‏ عن<br />

الهجوم املسلح على تاج حمل بالهند يوم 26 تشرين<br />

الأول،‏ ‎2008‎م،‏ الذي لعب تويرتTwiter دورا بارزا يف<br />

رواجها )21( ، وغريها من الوقائع والأحداث التي فتحت<br />

‏شهية احلديث الذي يبشر باأنه باإمكان اأي ‏شخص اأن<br />

يصبح ‏صحفيا،‏ ليس بفضل املدونات الإلكرتونية فقط،‏<br />

بل بفضل تزايد عدد املوؤسسات املختلفة التي اأصبحت<br />

تنتج الأخبار والتقارير عن الأحداث الآنية التي تطراأ يف<br />

العامل،‏ والتي يساهم يف حتريرها اأشخاص مل ميتهنوا<br />

العمل الصحفي من قبل.‏<br />

اإذن،‏ اإن احلكم على عامل الصحفة كشيء ثابت وقار<br />

ومنجز يجانب احلقيقة.‏ هذا ما يثبته الفرق الصارخ<br />

بني املنشورات املتواضعة التي ظهرت يف املنتصف الثاين<br />

من القرن اخلامس عشر يف اأوروبا،‏ والتي كانت تتسم<br />

بصدورها غري املنتظم،‏ وصحافة القرن السابع عشر<br />

التي عرفت النتظام يف الصدور ‏)شهرية(‏ وحاولت اأن<br />

تلبي حاجات القراء املعرفية والإعامية.‏ ول يستطيع اأن<br />

يغطي الفرق الواضح بني ‏صحافة القرن التاسع عشر،‏<br />

الذي يعد العصر الذهبي للصحافة،‏ وصحافة مطلع<br />

القرن احلادي والعشرين التي تعيش تغيريا ‏شاما يف<br />

‏شكلها ومضمونها ووسائل نشرها.‏<br />

اإن العمل الصحفي مل يكن،‏ اأبدا،‏ نشاطا مغلقا على<br />

ذاته وكامل التطور،‏ ول نشاطا متجانسا كما تصوره<br />

النظرة التعميمية والا تاريخية لوسائل الإعام.‏ كما<br />

اأن تطوره مل يكن خطيا.‏<br />

اإن عدم جتانس تطور الصحفة تعرب عنه اأشكال<br />

الكتابة الصحفية.‏ فغني عن القول اأن املمارسة الصحفية<br />

ارتبطت باملمارسة الأدبية ‏سواء يف الدول الغربية اأو<br />

العربية.‏ فكتابة اخلرب الصحفي يف الصحفة العربية،‏<br />

على ‏سبيل املثال،‏ مل تفلت من السجع والقول املقفى<br />

اإل يف 1909 فقط.‏ )22( ويعتقد اأن الأنواع الصحفية التي<br />

توصف باأنها تعبريية حافظت على اخلصائص الأدبية،‏<br />

فاأخذت منها املجاز والصور اجلمالية والباغية من اأجل<br />

اإبراز العاقات الإنسانية عرب الأحداث والوقائع للكشف<br />

عن ما هو ‏شخصي اأو فردي وحتويله اإىل « اأمنوذج«.‏<br />

اإن الأنواع الصحفية مل تظهر كلها دفعة واحدة<br />

يف كل الدول،‏ وتعم كل العناوين،‏ بصرف النظر عن<br />

التضاريس اجلغرافية والجتماعية التي نبتت فيها.‏ لقد<br />

مت تبنيها بشكل تدريجي،‏ وتطورت يف خضم استخدامها<br />

املتجدّ‏ د،‏ وتنوعت بفعل العديد من العوامل،‏ منها:‏<br />

اأبحاث


2 0 1 1<br />

138<br />

التقاليد الجتماعية والثقافية،‏ واملتغريات التقنية،‏<br />

وطبيعة اجلمهور الدميغرافية والنفسية واإرثه التصايل.‏<br />

فالرببورتاج الصحفي،‏ على ‏سبيل املثال،‏ ولد خال<br />

الفرتة املمتدة من 1865 اإىل 1918 يف املنطقة الأجنلو<br />

‏سكسونية،‏ و امتد استعماله،‏ تدريجيا،‏ ليشمل العديد من<br />

الدول،‏ بيد اأنه ل يزال غريب الدار يف بعض الفضاءات<br />

الأكادميية واملهنية.‏ وقد اأضطرت الصحفة املكتوبة،‏<br />

بعد انتشار الذاعة والتلفزيون،‏ اإىل التخلي عن اأحد<br />

الأنواع الصحفية التي ‏ساهمت يف ترسيخ وفاء القراء<br />

لها،‏ واملتمثل يف « الفيتون«‏ Feuilleton الذي انتقل اإىل<br />

التلفزيون اجلامع اأو العام ليشكل احلجر الأساس يف<br />

بناء ‏شبكته الرباجمية.‏<br />

والواقع اأن البنية القتصادية للصحافة مل تظل على<br />

ما كانت عليه يف القرن التاسع عشر.‏ فبعد العتماد<br />

على عائدات املبيعات فقط،‏ ظهرت الصحيفة التي<br />

تعتمد على عائدات املبيعات وخمتلف اإعانات السلطات<br />

العمومية،‏ وكذا عائدات الإعانات،‏ ثم الصحيفة التي<br />

تعتمد على عائدات الإعانات فقط،‏ ويُطلق عليها<br />

تسمية:‏ ‏»الصحفة املجانية«،‏ التي ظهرت يف ‏شمال<br />

اأوروبا يف السنة 1995 وبداأت تزحف نحو العديد من<br />

مناطق العامل مبا فيها الدول العربية:‏ املغرب،‏ ومصر،‏<br />

والإمارات العربية املتحدة،‏ والسودان.‏ اإن هذه العناصر<br />

الستطرادية توؤكد اأن الصحفة تتميز بتاريخ ثري<br />

ومتنوع،‏ ومتجدّ‏ د،‏ اأي اأنه غري معياري،‏ واخرتاع جماعي<br />

)23(<br />

دائم ومتجدّ‏ د.‏<br />

كما اأن وظيفة الصحيفة قد تغريت هي الأخرى.‏<br />

فبعد ‏صحافة الراأي التي اتسمت بطابعها النخبوي،‏<br />

وانخراطها النشيط يف تاأطري الصراع الفكري<br />

والسياسي النابع من قناعتها باإمكانية املساهمة يف<br />

تغيري العامل،‏ ظهرت الصحفة الإخبارية،‏ التي تعترب<br />

اأكرث جماهريية من ‏صحافة الراأي،‏ لرتكز على الأحداث<br />

اأكرث من الآراء والأفكار اإميانا منها باأن مهمتها تقف<br />

عند وصف العامل ونقل اأحداثه بدل تغيريه.‏ وعلى هذا<br />

الأساس تغريت اخلصوصية املهنية والثقافية للصحافة.‏<br />

فبعد ‏سيطرة الكتاب واملثقفني ورجال السياسة على<br />

‏صحافة الراأي،‏ ‏شرعت الصحف الشعبية يف اإعادة<br />

هيكلة مهنة الصحفة،‏ واأولت الهتمام للجانب احلريف<br />

واملهني الذي بداأ يتحدد اأكرث ‏سواء على مستوى تصنيف<br />

مناصب العمل داخل قاعة التحرير،‏ اأو تفضيل العمل<br />

امليداين.‏ هكذا انفتحت الصحفة على الفئات الوسطى<br />

والشعبية وبداأت تنقل تفاصيل احلياة واإن كانت تركز<br />

على ما هو ‏شاذ وغرائبي واإثاري.‏ اإن هذه التغريات<br />

مل تتم دون توترات اجتماعية ومهنية داخل املوؤسسة<br />

الإعامية وخارجها،‏ لعل اأبرزها تلك التي وصفت باأنها<br />

‏»اأزمة احلداثة املنتظمة«‏ يف القرن التاسع عشر والتي<br />

‏صادفت اجلهود املبذولة من اأجل متهني الصحفيني يف<br />

)24(<br />

وقت تطورت فيه الصحفة الشعبية الصاعدة.‏<br />

ربط اخلطاب العلمي عن وسائل الإعام تطورها،‏<br />

يف دول اأوروبا الغربية واأمريكا،‏ بالأزمة،‏ منذ السبعينات<br />

من القرن املاضي.‏ لقد حاول ‏شوسي فريدريك اأن<br />

يستجلى اأعراضها يف استعراضه ملواقف بعض الكتاب<br />

وروؤيتهم لتطور وسائل الإعام،‏ حيث بنيّ‏ اأن هذا<br />

التطور هو عبارة عن تراجع للإعام الكوين حسب ولنت<br />

،)Wolton) وهيمنة ‏سرطان الستعراض والتمشهد<br />

حسب بوشن ،)Beauchamp( والامعرفة حسب<br />

ما ذهبت اإليه كولوب غويل )Coulomb-Gully)<br />

نتيجة انصراف املوؤسسة الإعامية اإىل الرتفيه على<br />

حساب الإعام واملعرفة،‏ وابتاع الصحفة من طرف<br />

التصال بعد ربط مصريها بالإعان حسب لفوان<br />

.)Lavoinne(<br />

لعل الستنتاج باأن وسائل التصال اجلماهريي<br />

قد انزلقت بنشاطها نحو التصال يعد املفتاح الأساس<br />

لفهم تطور وسائل الإعام،‏ ليس لأن العديد من الكتاب<br />

واملختصني تناوبوا على تقدمي احلجج والرباهني<br />

التي توؤكد ‏صحته فقط،‏ بل لأنه انتج مفهوم ‏»صحافة<br />

التصال«‏ )‏‎25‎‏(‏ الذي يلخص التغري احلاصل يف دور وسائل<br />

الإعام و اأسس ممارستها،‏ ويغطى جملة من الوقائع،‏<br />

منها:‏ تفهم الصحفيني املتزايد لأهداف املوؤسسة<br />

الصحفية،‏ وتاأثر الكتابة الصحفية املتزايد بالكتابة<br />

الإعانية،‏ وتصاعد التخصص يف العمل الصحفي


139<br />

2 0 1 1<br />

ليتمكن من التموقع يف السوق الإعاين،‏ والتداخل بني<br />

مفهومي التصال والإعام،‏ و تذّ‏ ويت ‏)اأي اإعطائه طابعا<br />

ذاتيا(‏ العمل الصحفي اأكرث فاأكرث...‏<br />

وميكن القول،‏ من باب التلخيص،‏ اإن من يتابع<br />

مسرية الصحفة على مدار القرون الأربعة السالفة<br />

ياحظ باأنها خضعت للتغيري ‏»العادي«،‏ على حد تعبري<br />

‏شارو )26( ؛ هذا رغم الختاف يف توصيفه اأو تشخيصه.‏<br />

اإذن،‏ ما هو التغيري ‏»غري العادي«‏ الذي طراأ على<br />

الصحفة يف مطلع الألفية احلالية واأدى اإىل تاأبينها؟<br />

للإجابة عن هذا الصوؤال ميكن القول اإن ‏شبكة<br />

الإنرتنت،‏ طرحت وتطرح،‏ مبا اأتاحته من ممارسات على<br />

‏صعيد التصال الجتماعي ويف عامل الإعام،‏ الصوؤال<br />

حول الشرعية املهنية للصحافة.‏ الكل يعلم اأن الصحفة<br />

مل توؤسس ‏شرعيتها التاريخية على الإعام والتثقيف<br />

فقط،‏ بل على قيم ومُ‏ ثل كربى،‏ كاملوضوعية،‏ واإستجاء<br />

احلقيقة.‏ وقد استخدمت يف ذلك جملة من التدابري<br />

الإجرائية والجتماعية والسياسية،‏ مثل:‏ الفصل بني<br />

احلدث والراأي،‏ وتعددية املصادر الإعامية،‏ وترسيخ<br />

التعددية الإعامية وحمايتها ‏سياسيا وقانونيا.‏<br />

لقد كشف تطور وسائل الإعام خال العقدين<br />

الأخريين تاآكل الشرعية املهنية املذكورة.‏ فعلى الرغم<br />

من اأن القراءة الفلسفية املتجددة ملاهية املوضوعية<br />

بالعتماد على ما توصلت اإليه نظرية بناء الواقع<br />

الجتماعي،‏ التي توؤكد وجود املوضوعية من خال<br />

التمييز بني ما هو ابستمولوجي وانطولوجي،‏ )27( فاإن<br />

العديد من العوامل املتفاعلة تفصح عن ‏صعوبة وجودها<br />

يف جمال الصحفة،‏ نذكر منها العامل اليديولوجي،‏<br />

والقتصادي،‏ والتنظيمي،‏ والتقني،‏ والتحريري.‏ كما<br />

اأن احلقيقة مل تعد ‏ضالة املوؤسسات الإعامية،‏ وذلك<br />

نتيجة جملة من التغيريات البنيوية يف العمل الصحفي<br />

املوؤسساتي.‏ كما اأن تعدد وسائل الإعام مل يصبح<br />

مرادفا للتعددية بعد اأن ‏سقطت العديد من احلواجز<br />

اأمام متركز املوؤسسات الإعامية واحتكارها بفعل ‏ضغط<br />

اقتصاد السوق.‏ وتعددية مصادر الأخبار تقلصت بفعل<br />

المتثال والتماثل الذي ازدادت وطاأته يف العامل.‏ وحرية<br />

الفكر والتعبري داخل قاعات التحرير الصحفي تقلصت<br />

بفعل هشاشة وضع الصحفيني القتصادي.‏ والأنواع<br />

الصحفية الستقصائية تراجعت اأمام تزايد مواد<br />

الرتفيه والتسلية.‏<br />

لو ابتعدنا عن اجلانب الشكلي،‏ وحاولنا القرتاب<br />

من الختاف بني الصحفة واملدونات من منظورين<br />

متكاملني،‏ وهما املنظور السيميائي والسوسيولوجي،‏<br />

لوجدنا اأن هذه الختافات ميكن اأن تختصر يف العناصر<br />

التالية:‏ املُتلفِّظ ،Enonciateur- enunciator امللفوظات<br />

situation ووضعية التلفُّظ Énoncés - utterances<br />

،situation d’énonciation- of enunciation التي<br />

تشمل الوضعية التي يتم فيها التصال،‏ واملتحدث وملن<br />

يتحدث،‏ والهدف من التحدث،‏ وشكل التصال؛ اأي هل<br />

تتزامن عملية التلفظ و التلقي،‏ اأو تتعاقبان من خال<br />

تاأجيل التلقي لبعض الوقت؟<br />

اإن املدونة حتيلنا اإىل الرغبة يف اإشراك الغري يف<br />

مساحة التعبري التي منلكها،‏ والتي تعرب من خالها<br />

بكل ‏»حرية«.‏ وهذه الرغبة يف اإمكانية التعبري عن<br />

املشاعر والأفكار وبثها اأو تبادلها مع الآخر،‏ تشكل<br />

مركز قوة املُدوّنة،‏ ومبنى الأسطورة التي رُوجت ملستقبل<br />

الإنرتنت.‏<br />

اإن املُتلفِّ‏ ظ يف الصحيفة الورقية هو الصحفي اأو<br />

املوؤسسة الإعامية التي تنتج خطابا وفق عاقة تعاقدية<br />

مع القارئ.‏ فاملتلفظ ينمحي يف امللفوظات وذلك لأن<br />

منط التصال يتسم بعموديته.‏ فالعاقة التي يقيمها<br />

القارئ مع املُتلفِّ‏ ظ تتم عرب امللفوظات،‏ حتى يف العمود<br />

الصحفي،‏ الذي يتميز،‏ بهذا القدر اأو ذاك،‏ بحضور<br />

‏شخصية كاتبه.‏ بينما املُتلفِّ‏ ظ يف املُدونة يتجّ‏ لى عرب<br />

عدة مستويات،‏ اأولها املُدوّن الذي ينتج خطابا ‏شديد<br />

اللتصاق به لأنه يشكل مادته اأو يتوسله لستعراض<br />

ذاتيته.‏ فبصمات املُتلفِّ‏ ظ تبدو جَ‏ لِيَّةً‏ حتى يف املدونات<br />

ذات الطابع السياسي،‏ وهذا من خال استعمال ‏ضمري<br />

املتكلم اأو استعراض التجارب الشخصية اأو التعبري<br />

الصريح على اأنها وجهات نظره.‏ فاملهم يف املُدوّنات،‏<br />

ليس دائما امللفوظات،‏ اأي مضمون ما يُقال،‏ لكن طريقة<br />

اأبحاث


2 0 1 1<br />

140<br />

القول.‏ لذا يعتقد بعض الصحفيني اأن القراء اأصبحوا<br />

يفضلون الذاتية والنحياز املجهور به يف املدونات عن<br />

املوضوعية املزيفة والنزاهة املنافقة التي تتحلى بها<br />

بعض الصحف )28( .<br />

ثانيها اأن املُتلفِّ‏ ظ،‏ ل ياأخذ،‏ دائما،‏ ‏صيغة املفرد،‏<br />

بل ميكن اأن يشمل،‏ اأيضا،‏ كل الذين ‏ساهموا يف جعل<br />

التصال دائريا،‏ من خال مساهمتهم بالراأي اأو<br />

املعلومات اأو احلوار واملناقشة التي تتضمنها تعليقاتهم<br />

املنشورة يف املُدوّنات.‏ وهنا يكمن التجديد يف السرد،‏<br />

والبناء النصي للمدونة:‏ فالسرد ل ياأخذ،‏ دائما،‏ اجتاها<br />

تصاعديا،‏ بل يسجل وقفاته واستئنافاته التي قد<br />

يثريها احلوار،‏ مما يدفع املتلفظ اإىل اجلمع بني السرد<br />

واخلطاب وفق التعريفات التي يقدمها السيميائيون<br />

لهما،‏ هذا يف ظل تعدّ‏ دية املُتلفِ‏ ظني التي توؤدي اإىل<br />

متفصات النص وتنوع بنيته.‏<br />

تسمح املدونات ببناء الذات اأو تشكيل الهُ‏ وّية يف<br />

اإطار اإقامة ‏شبكة من العاقات )29( ، عرب امللفوظات التي<br />

تُعّد،‏ يف اآخر املطاف،‏ ثمرة نشاط تشاركي،‏ يساهم فيه<br />

اأشخاص مزدوجو الهواية،‏ اإذ اإنهم كُ‏ تاب وقُراء يف اآن<br />

واحد.‏ مبعنى اأن املتلقي هو،‏ اأيضا،‏ منتج يف املدونة.‏<br />

لقد بينت مقربة املُدونات يف العديد من الدول اأن<br />

مُ‏ ‏ستقبَل املُدونة يتوقف على مقدرة املُدوّن على متابعة<br />

ما يُنشر يف بقية املدونات،‏ وعلى ربط مُ‏ دوّنته باملصادر<br />

اجلديدة.‏ فقراء املُدوّنات هم املُدوّنون ذاتهم،‏ ومن<br />

دونهم ل وجود للمدونات.‏ فما معنى الفضاء التدويني<br />

اإذا مل يكن هذا التدفق الدائري الذي يجعل من متابعة<br />

بقية املدونات ‏شرطا اأساسيا لإنتاج اأي مدونة«؟ )30( هذا<br />

ما تعرب عنه جملة من املفاهيم التي تبدو ذات طابع<br />

تقني حمض،‏ لكن امتدادها التطبيقي يعطيها حمتوى<br />

اجتماعيا وثقافيا،‏ مثل:‏ Blogroll الذي يعني قائمة<br />

الوصات الإلكرتونية اخلارجية املدجمة يف ‏صفحات<br />

املدونة والتي تظهر،‏ غالبا،‏ يف الصفحة الرئيسة اأو<br />

‏صفحة البداية ،Home page والتي حتيل اإىل مدونات<br />

اأخرى حتدد “ اإقليم”‏ املجموعة الفرعية التي تشكلها<br />

و - Ping نص قصري-‏ يتمثل<br />

)31(<br />

املدونات الصديقة.‏<br />

يف اإرسال اإشارة نحو مواقع اإلكرتونية اأو مدونات اأخرى،‏<br />

مبجرد نشر مادة جديدة.‏ )32( و Trackback الروابط<br />

التّعقبية،‏ وهي بروتوكول يسمح ملواقع الويب بالتواصل<br />

بني بعضها البعض،‏ بشكل اآيل،‏ ويستعمل يف املدونات<br />

لإشعار املدونني باأن هناك اإدراجاً‏ جديداً‏ يف املدونة<br />

يهمهم،‏ ويستفيد منه املدونون ملتابعة اأثار ما ينشر عنهم<br />

يف مواقع اأخرى يف الويب.‏<br />

وتختلف وضعية التلفظ يف املدونات عن الصحفة<br />

الورقية،‏ ويرتتب عنها تباين يف مسالك اإعادة اإنتاج<br />

الرابط الجتماعي،‏ التي تتمحور فيها الصحفة املكتوبة<br />

لرتسخ القواعد واملعايري الجتماعية التي تسعى<br />

اإىل توحيد الأشخاص واملجموعة البشرية املختلفة<br />

واندماجها،‏ يف حني ترتكز هذه الوضعية يف املُدونة حول<br />

تعزيز الهوية الشخصية والجتماعية عرب عملية التبادل<br />

الرمزي بني املُدونني.‏<br />

اإن التعبري عن الذات،‏ والإفصاح عن الراأي<br />

اخلاص هما حق مضمون يف النظام الدميقراطي.‏ لكن<br />

هذا احلق يصبح اأكرث تعقيدا ومفخخا يف املدونات<br />

الإلكرتونية )33( ، حيث ميكن اأن يوؤدي اإىل نوع من<br />

الرتاجع عن املنجز الدميقراطي الكبري املتمثل يف<br />

تعزيز ما هو عام ومشرتك،‏ الذي رسخته الصحفة عرب<br />

مسريتها الطويلة من خال « الإعام العمومي«،‏ والذي<br />

يسمح بتداول واسع للأفكار والآراء املختلفة واملتعارضة<br />

ومناقشتها،‏ بشكل علني.‏ فالصحفي يضطلع مبهمة<br />

جتميع القراء حول الأحداث،‏ والأخبار والآراء التي<br />

يجمعها،‏ وينتقيها ويرتبها وفق متطلبات مهنية تساهم<br />

يف ‏صناعتها اعتبارات اأدبية واأخاقية.‏ يف حني يعمل<br />

الفضاء التدويني،‏ على تفتيت الفضاء العمومي،‏ ليصبح<br />

جمموعة من الفضاءات اخلاصة باملجموعات البشرية<br />

،Communities هذا اإضافة اإىل اأن بعض املدونات<br />

تتغذى على النزعة الرنجسية التي تنمو بني مفاصل ما<br />

هو ذاتي وحميمي؛ اأي فيما هو خاص.‏ هذا مع الإشارة<br />

اإىل اأن مفهوم ‏»الإعام العمومي«‏ يف املنطقة العربية<br />

بحاجة اإىل مراجعة وتفكري،‏ خاصة بعد اأن حتزبت<br />

بعض وسائل الإعام الكاسيكية،‏ وتخصخصت وسائل


141<br />

2 0 1 1<br />

الإعام الرسمية،‏ اأي اأنها اأصبحت مبثابة ملكية خاصة<br />

يف يد جمموعة متنفذة يف السلطة،‏ تتحدث عنها ولها<br />

اأكرث مما تتحدث عن املجتمع ولكل مكوناته.‏<br />

اإننا نعتقد اأن هناك عدة مستويات ملا نطلق عليه<br />

باخلصوصية،‏ Privacy يف عاقتها بالعلن.‏ فهناك<br />

مستوى اخلاص الذي ل يتعدى احلدود الضيقة التي<br />

تفرضها قصديته:‏ مثل:‏ املكاملات الهاتفية بني ‏شخصني،‏<br />

اأو ‏»الرسائل النصية القصرية«‏ املتداولة بني ‏شخصني اأو<br />

اأكرث.‏ وهناك القضايا الشخصية واحلميمية التي تخرج<br />

اإىل العلن وتنشر يف املُدوّنات،‏ وميكن لأي ‏شخص عادي<br />

اأن يطلع عليها،‏ وحتى التفاعل معها عرب اإبداء الراأي اأو<br />

الإعجاب اأو املواساة.‏<br />

ومن الصعب اأن نضع كل املُدوّنات يف ‏سلة واحدة لأنها<br />

غري متجانسة يف مواضيعها ومراميها املعلن عنها،‏ وتلك<br />

املنجزة.‏ فهناك املُدوّنات ذات الطابع السياسي التي<br />

تروم فتح النقاش وتعميم الأفكار والآراء والنطباعات،‏<br />

ودعوة الغري لتبادلها،‏ والتي تعدل وتصحح وتنضج من<br />

خال النقاش،‏ وهناك املُدوّنات ذات الطابع الرتويجي<br />

للسلع واخلدمات والتي تتاأرجح بني الإعام عنها،‏ ورفع<br />

درجة اإغرائها خللق حوافز لقتنائها اأو الستفادة منها.‏<br />

وهناك مُ‏ دوّنات«‏ وحدانية«‏ )34( ، ل حتظى برواج كبري<br />

من قبل املدونني والزوار.‏ وهدف ‏صاحبها ل يكمن يف<br />

رفع عدد املطلعني عليها بقدر ما يسعى اإىل التنفيس<br />

عن الذات بسرد املشاكل احلميمية التي توؤرقه،‏ اأو كتابة<br />

خواطر اأو حماولت اأدبية.‏ فعاقة هذه املدونات بالعلن،‏<br />

اأو الهدف من خروجها للعلن،‏ تختلف يف طبيعتها عن<br />

املفهوم الشائع عن العاقة العضوية بني العلن والفضاء<br />

العمومي،‏ وحمتواها واأهدافها.‏<br />

ليست املُدوّنات وحدها هي التي اأقحمت القضايا<br />

احلميمية يف الفضاء العمومي،‏ بل اإن وسائل الإعام<br />

الأخرى قد ‏سبقتها اإىل ذلك،‏ بدءا بالصحف اليومية<br />

واملجات التي كانت تخصص ‏صفحات كاملة لنشر<br />

القضايا اخلاصة واحلميمية،‏ التي يروم اأصحابها<br />

النصيحة من القراء اأو املختصني يف علم النفس،‏<br />

وصول اإىل برامج تلفزيون الواقع التي حولت ‏»احلياة<br />

اخلاصة واحلميمية«‏ لبعض الأشخاص اإىل مادة للفرجة<br />

والرتفيه.‏ هذا من جهة،‏ ومن جهة اأخرى،‏ فاإن التفكري<br />

يف العاقة بني الفضاء العام ووسائل الإعام احلديثة،‏<br />

يتطلب اإعادة النظر يف الروؤية الأحادية واملركزية للفضاء<br />

العام الذي يثمن البعد اجلدايل والعقاين،‏ ويُبعد ما هو<br />

)35(<br />

عاطفي وحميمي من مملكته.‏<br />

ولكي نفهم معنى احلضور املكثف للحياة اخلاصة<br />

واحلميمية يف الفضاء العمومي بفضل وسائل الإعام<br />

املختلفة،‏ وليس فقط املدونات اأو اأدوات ما يطلق عليه<br />

تسمية ‏»الإعام اجلديد«‏ ميكن الستعانة مبفهوم<br />

‏»الرقابة«‏ الذي طرحه الفيلسوف ميشال فوكو،‏ الذي<br />

اكتشف مبوجبه باأن الرقابة اأصبحت ل متارس من طرف<br />

‏سلطة مركزية وموحدة،‏ بل اكتست طابعا لمركزيا،‏<br />

فوُجدت حيث ل يُنتظر وجودها.‏ ليس هذا فحسب،‏ بل اإن<br />

املُراقَ‏ بني اأصبحوا هم ذاتهم يبتهجون بتقدمي املعلومات<br />

عنهم مبا فيها احلميمة،‏ فيضمن الستمرارية لفعل<br />

املراقبة بالنيابة الواعية اأو الاواعية وتغلغلها يف النسيج<br />

الجتماعي،‏ مما يساهم يف تنظيم احلياة الجتماعية.‏<br />

فهل ميكن للأخ الأكرب ،Big Brother الذي تنباأ به جورج<br />

اأورويل George Orwell يف روايته املوسومة 1984،<br />

اأن يسرتيح الآن،‏ ليس لأن التكنولوجيا اقتصدت نشاطه<br />

وجهده،‏ بل لأن الناس اأصبحوا يتسابقون،‏ عن طواعية،‏<br />

للبوح مبا يف ‏صدورهم،‏ ناهيك عما ظهر من ‏سلوكهم<br />

وتصرفاتهم؟<br />

املدونات ووسائل االإعالم:‏ تقارب اإىل حد االحتواء<br />

خلص اأحد الإنرتنتيني فكرته عن احلوار الدائر<br />

حول تاأثري املدونات الإلكرتونية يف وسائل الإعام يف<br />

اجلملة التالية:‏ اإن الأمر يشبه اإىل حد ما كما لو اأننا<br />

تساءلنا،‏ قبل خمسة قرون،‏ هل تخلق املطبعة ‏شكا<br />

جديدا من الأدب؟ )36( اإن هذه الفكرة تنبهنا اإىل اأن<br />

املدونة ليست ‏سوى تقنية،‏ ول ميكن اأن تعوض الكاتب<br />

اأو القارئ.‏ حقيقة اإن املطبعة مل تنتج اأدبا خاصا بها،‏<br />

بيد اأنه ل ميكن اأن ننكر باأنها اأسهمت يف اإحداث<br />

ديناميكية اجتماعية وثقافية يف اأوروبا اأدت اإىل تعزيز<br />

منط التصال املكتوب،‏ وزيادة انتشار الأدب وجددته،‏<br />

اأبحاث


2 0 1 1<br />

142<br />

وحررت التفكري،‏ وساهمت يف نشر التعليم،‏ والثقافة<br />

والفكر،‏ واملعرفة بصفة عامة.‏<br />

اإن املدونات الإلكرتونية مل تولد من العدم،‏ اأي من<br />

فراغ يف الكتابة،‏ بل اإنها ارتكزت على ما هو مكتسب<br />

وراسخ يف منط التصال املكتوب.‏ فتحليل كتابة املدونات<br />

الإلكرتونية يكشف عن قواسمها املشرتكة مع كتابة<br />

الريبورتاج،‏ و املقالت والفتتاحيات الصحفية،‏ والأعمدة<br />

الصحفية.‏ )37( واملُدوّنات بتلقائيتها يف القول طورت<br />

بعض اأشكال الكتابة لتتحول اإىل ‏»اأمنوذج«‏ ميارس،‏ بهذا<br />

القدر اأو ذاك،‏ تاأثريه يف الكتابة الصحفية،‏ وفق الصيغ<br />

التالية:‏<br />

اأ-‏ اأسلوب الكتابة:‏ اإن النزاعات املسلحة يف العديد<br />

من مناطق العامل،‏ وتوتر العاقات الجتماعية داخل<br />

العديد من الدول،‏ وتعدد مصادر املعلومات والآراء،‏<br />

كلها عوامل ‏ساهمت يف الكشف عن حمدودية اأو مكر<br />

مفهوم موضوعية الصحفة الذي وجد رواجا يف احلرب<br />

الباردة،‏ وحتول اإىل حجة دامغة يف يد الأنظمة الليربالية<br />

للهجوم على ‏»اأعداء حرية الإعام«.‏ لقد كانت الصحفة<br />

يف العديد من الدول الغربية،‏ تتباهي،‏ قبل نهاية<br />

القرن املاضي،‏ مبصوؤوليتها الجتماعية التي اأجربتها<br />

على اللتزام بقدر من املوضوعية يف ‏صياغة الأخبار<br />

ومعاجلة الأحداث و حتليل الآراء باأسلوب حمايد وغري<br />

‏شخصي يطهر الكتابة الصحفية من كل بعد ذاتي )38( .<br />

ولكننا ناحظ اليوم اأن الصحفيني يتسابقون من اأجل<br />

اإبراز ذاتيتهم فيما يكتبون،‏ ويسعون اإىل تذويت الواقع<br />

الجتماعي – حتويله اإىل ذاتي-‏ مما يوحي باأن الذّ‏ اتية<br />

مل تعد تطبع بعض الكتابات الصحفية فقط،‏ بل اأضحت<br />

وسيلة تضفي ‏شرعية على العمل الصحفي،‏ وتعزز<br />

مهنيته.‏ وهذا ما ميكن اأن ناحظه حتى يف الصحفة<br />

العربية.‏ فمن يتابع كتابات ‏صحيفة ‏»القدس العربي«،‏<br />

على ‏سبيل املثال،‏ ل يكتشف السقاطات الذاتية التي<br />

تُبنى للمجهول فقط،‏ بل يتاأكد باأن بعض الصحفيني<br />

يقحمون ذواتهم فيما يكتبون،‏ ويتحدثون للقارئ<br />

بضمري املتكلم،‏ ويستثمرون اللغة العامية والقول املاأثور<br />

املستخرج من املخزون الشفهي يف بعض الدول العربية.‏<br />

كما اأن ما يكتبونه ل يتميز بتماسكه النابع من وحدة<br />

املوضوع,‏ لأن مادتهم اأصبحت متفرعة وموزعة على<br />

اأكرث من موضوع دون رابط يربطها،‏ وكاأنها مادة للنشر<br />

)39(<br />

يف مدونة اإلكرتونية.‏<br />

وقد بلغ التفاعل بني كتابة بعض الصحف واملدونات<br />

درجة اأن البعض يعتقد اأن الصحيفة الفرنسية<br />

Libération« « اأصبحت تقرتب يف كتابتها من املدونة<br />

الإلكرتونية،‏ بعد اأن غادرها العديد من الصحفيني<br />

)40(<br />

لإنشاء ‏صحيفة اإلكرتونية ‏سميت .Rue89<br />

ب-‏ قالب الكتابة:‏ لقد اصتعارت الكثري من<br />

الصحف قالب القائمة،‏ اخلاص بالفضاء التدويني،‏<br />

الذي يستخدم من اأجل الإيجاز يف الكتابة،‏ و اإبراز ما<br />

هو اأساسي،‏ والتجاوب مع السرعة التي طبعت العصر<br />

واأثرت يف اإيقاع القراءة يف املجتمعات املعاصرة.‏<br />

فالقارئ اأصبح مييل لقراءة ما هو خمتصر،‏ ويتجه<br />

راأسا ملا هو اأساسي يف املادة الصحفية.‏ وهذا ما يوفره<br />

قالب القائمة )41( ، لأنه يتمثل يف تلخيص موضوع املادة<br />

التصالية اأو الإعامية يف ‏شكل نقاط مرقمة،‏ مثل:‏<br />

الأزمة القتصادية العاملية يف عشر اأفكار اأو عشر نقاط،‏<br />

وميكن تشبيك كل فكرة بوصلة اإلكرتونية خارجية<br />

حتقق غرض كل من يرغب يف الطاع على املزيد من<br />

املعلومات حول املوضوع.‏ وحتيل هذه الوصلة اإىل مادة<br />

متعددة الوسائط:‏ حماضرة يف ‏شريط فيديو،‏ اأو نص<br />

مكتوب،‏ اأو نص تشريعي.‏<br />

ج-‏ ترتيب االأخبار:‏ اإن العديد من املواقع<br />

الإلكرتونية للصحف اأصبحت تدمج يف موقعها ما يسمى<br />

»stream« الأخبار،‏ اأي ‏سيل الأخبار التي ل تُرتب وفق<br />

التقاليد الصحفية املتعارف عليها،‏ بل حسب منطق<br />

الفضاء التدويني،‏ اأي الرتتيب التنازيل:‏ من الأحدث<br />

اإىل الأقدم،‏ مبعنى اأن الأخبار التي تظهر يف الصفحة<br />

الأوىل هي اآخِ‏ ر الأخبار التي وصلت اإىل الصحيفة،‏<br />

وليس بالضرورة اأهم الأخبار،‏ كما عودتنا على ذلك<br />

وسائل الإعام الكاسيكية.‏<br />

د-‏ االأخبار التي تخلق منتديات:‏ بالستفادة<br />

من املدونات الإلكرتونية استطاعت الكثري من املواقع


143<br />

2 0 1 1<br />

الإلكرتونية لوسائل الإعام اأن تنطلق من خرب اأو راأي<br />

لتجمع اأكرب عدد من الآراء والكتابات،‏ وتتخطى عتبة املادة<br />

الصحفية لتتحول اإىل فضاء للنقاش.‏ والكثري من القراء<br />

يوؤكدون اأن التعليقات على املواد الصحفية،‏ تكون يف الغالب،‏<br />

ذات اأهمية اأكرب،‏ من املادة.‏ وهكذا بداأت الصحفة تنتقل<br />

من ‏صحافة اخلطاب اإىل ‏صحافة احلوار.‏<br />

والواقع اأن العاقة بني املدونات والصحف ل ميكن<br />

حصرها يف بعض اأشكال التعبري التي تبنتها الصحفة،‏<br />

بل ميكن النظر اإليها من زاوية تكاملية يفصح عنها<br />

اندماج املدونات يف املوؤسسة الإعامية.‏ و تزايد عدد<br />

املوؤسسات الإعامية التي فتحت اأبوابها للمدونات<br />

الإلكرتونية،‏ ووظفتها ‏ضمن روؤى خمتلفة؛ اأي اأن بعضها<br />

اأعتربها اأداة ميكن استغالها،‏ ظرفيا،‏ لتوسيع ‏صيت<br />

الوسيلة الإعامية،‏ وبعضها الأخر تعامل معها بصفتها<br />

اسرتاتيجية مستقبلية ترسم متوقع الوسيلة الإعامية<br />

‏»الكاسيكية«‏ يف املشهد الإعامي املستقبلي،‏ اأو ترافع<br />

للتحرر من الصفة الكاسيكية التي لزمتها.‏ وهذا ما<br />

يتجلى عرب استقراء املقاصد التي تفصح عنها استعانة<br />

املوؤسسات الإعامية باملدونات الإلكرتونية،‏ والتي<br />

نختصرها فيما يلي )42( :<br />

تقدمي خدمات مضافة للجمهور ‏(خدمات اإخبارية<br />

واإعامية،‏ وفتح اأبواب احلوار حول القضايا التي تثريها<br />

املوؤسسة الإعامية اإذا كانت هي التي تصدر مدوناتها(،‏<br />

اأو تقدمي خدمة تقنية للجمهور من خال توفري منصة<br />

تسمح له باإنشاء مدوناته الإلكرتونية.‏<br />

‏•‏اإثراء الإعام،‏ والقرتاب،‏ اأكرث،‏ من هواجس<br />

اجلمهور وانشغالته وميولته وذوقه.‏ واإحداث التزاوج يف<br />

اأشكال تلفظ الوسيلة الإعامية:‏ الإعام واحلوار الذي<br />

يُعيد ‏صياغة العاقة مع اجلمهور من خال الستمرار<br />

يف التوسع الأفقي،‏ والشروع يف بناء عاقات ‏شبكية<br />

ترفدها اجلماعات املختلفة .Communities<br />

‏•‏حماولة منح مهنة الصحفة الشفافية املفقودة،‏<br />

حيث تستعمل املدونات الإلكرتونية لسرد التفاصيل<br />

املتعلقة ب ‏“كواليس”‏ العمل الصحفي،‏ وتفسري<br />

خلفيات التحقيقات الصحفية،‏ وبث املعلومات ذات<br />

الصلة باحلقائق التي قادت اإىل اإجناز هذا التحقيق<br />

الصحفي اأو ذاك احلوار،‏ ونشر اإسقاطات الريبورتاج<br />

الصحفي التي ل تستوعبها بنية هذا النوع الصحفي،‏<br />

اأو الستفاضة يف حتليل بعض ما تنشره اأو تبثه الوسيلة<br />

الإعامية من خال وجهة نظر الكاتب وفق ما تقتضيه<br />

خصوصية املُدوّنة.‏<br />

وميكن القرتاب من هذه السرتاتيجية التي تبنتها<br />

وسائل الإعام عرب حصر اأشكال املدونات الإلكرتونية<br />

التي وجدت مكانتها يف املواقع الإلكرتونية لوسائل<br />

الإعام الكاسيكية،‏ وقد رُصدت يف ‏شكلها الفيزيائي<br />

)43(<br />

والجتماعي وفق الصيغ التالية:‏<br />

اأ-‏ الشكل املغلق:‏ تعرب عنه املدونات الإلكرتونية<br />

التي تصدرها مواقع وسائل الإعام يف ‏شبكة الإنرتنت،‏<br />

ويحررها الصحفيون واخلرباء وبعض ‏ضيوف قاعات<br />

التحرير املتميزون.‏ فوسائل الإعام التي تستخدم هذه<br />

املدونات تقدم عربها مادة اإعامية مضافة اأو مكملة<br />

للمادة التحريرية ‏“الرسمية”.‏ لكنها ل تقرتح على<br />

الإنرتنتيني اإنشاء مدونات يف موقعها الإلكرتوين.‏ وبهذا<br />

فاإنها تخضع ملنطق ‏صك ماركة للوسيلة الإعامية التي<br />

تروج لها اأكرث من تقدمي خدمة للقراء.‏ وميكن اأن نذكر<br />

يف هذا املقام،‏ على ‏سبيل املثال،‏ ‏صحيفة Le Figaro<br />

الفرنسية،‏ التي تقرتح 17 مدونة اإلكرتونية لصحافييها.‏<br />

وصحيفة Libération الفرنسية،‏ التي تقرتح 51 مدونة،‏<br />

17 منها خاصة بصحفييها،‏ والبقية،‏ اأي 34 مدونة،‏<br />

وضعت حتت تصرف ‏ضيوفها.‏ اأما موقع اإذاعة France<br />

Inter فقد اأنصاأت 22 مدونة،‏ وضعت ربعها حتت تصرف<br />

مراسليها.‏<br />

وكذلك اأنصاأت قناة اجلزيرة موقعا اأسمته اجلزيرة<br />

توك ”aljazeeratalk“ وعرفته باأنه نافذة عربية<br />

املنطلق دولية التوجه يطل منها جيل من الشباب<br />

الإعاميني العرب.‏<br />

الشكل نصف املغلق:‏ ويتمثل يف قيام وسائل<br />

الإعام باإنشاء مدونات يف مواقعها الإلكرتونية لتجمع<br />

كتابات ‏صحفييها،‏ وضيوفها ومشرتكيها من مستخدمي<br />

الإنرتنت،‏ كما هو الأمر بالنسبة لصحيفة Le Monde<br />

اأبحاث<br />


2 0 1 1<br />

144<br />

الفرنسية.‏ فهذا الشكل يندرج ‏ضمن اخلدمة املحدودة<br />

التي تقدمها الصحيفة لقرائها ومشرتكيها لتتحوّل<br />

اإىل حلُ‏ مة متنت عاقتها الذاتية مبشرتكيها،‏ لأنها<br />

متنح احلق للمشرتك لانضمام اإىل ‏»طاقم«‏ الوسيلة<br />

الإعامية.‏ وبهذا فاإنها حتاول اأن تساهم يف بناء جسر<br />

من التواصل بني كتابة املحرتفني؛ اأي الصحفيني،‏ املبنية<br />

على ما يعرفونه واطلعوا عليه،‏ ، وكتابة الهواة املستقاة<br />

من جتاربهم ويومياتهم.‏<br />

1( الشكل املنفتح:‏ ويتمثل يف اقرتاح املواقع<br />

الإلكرتونية التابعة لوسائل الإعام على زوارها الكتابة<br />

يف مدونات تابعة لها بشرط تسجيل اأسمائهم يف املوقع،‏<br />

وفتح حساب فيه.‏ فهذا الشكل،‏ الذي يندرج ‏ضمن<br />

منطق اخلدمات التي تقدمها وسائل الإعام،‏ يسعى<br />

خللق وشائج مع زوارها ل تقف عند حد الطاع على<br />

ما تنشره فقط،‏ بل ميتد اإىل الستثمار يف اإقامة عاقة<br />

دائمة.‏<br />

تدل اإحصاءات عام 2008 اأن %85 من وسائل<br />

الإعام الربيطانية تقرتح على ‏صحافييها اإنشاء مدونات<br />

لهم،‏ وتنخفض هذه النسبة اإىل %70 يف وسائل الإعام<br />

)44(<br />

الأمريكية،‏ و %44 يف وسائل الإعام الأوروبية.‏<br />

ول ميكن لهذه الإحصاءات اأن تخفي وجود نفر<br />

من الصحفيني جلاأوا اإىل اإنشاء مدونتهم اخلاصة<br />

املستقلة عن وصاية املوؤسسة الإعامية التي يشتغلون<br />

بها،‏ الأمر الذي كلف بعضهم الختيار بني العمل يف<br />

املوؤسسة الإعامية والتخلي عن املدونة،‏ اأو التمسك<br />

بهذه الأخرية والنفصال عن املوؤسسة الإعامية،‏ بعد<br />

اأن يتضح عدم خضوعه لسياسة موؤسسته الإعامية.‏<br />

وهذا ما جرى للصحايف الأمريكي كيفن ‏سايتس الذي<br />

طلبت منه موؤسسته:‏ ‏)قناة )CNN اإغاق مدونته.‏<br />

ففضل الستقالة من قناة التلفزيون،‏ ومواصلة جتربته<br />

التدوينية املستقلة مع اإعداد مراصات حرة للقناة<br />

التلفزيونية الأمريكية .NBC وكذلك الأمر بالنسبة<br />

للصحافية روبيكا ماكينون ،Rebecca MacKinnon<br />

التي كانت مراسلة القناة ذاتها يف طوكيو واستقالت من<br />

عملها،‏ واأصبحت تُعرّ‏ ف بنفسها باأنها ‏صحافية يف طور<br />

النقاهة.‏ لقد اأنصاأت موقعا اإلكرتونيا اأسمته Global<br />

، Voicesلتحقيق طموحها الكبري النابع من روؤيتها<br />

لوسائل الإعام العاملية الناطقة باللغة الإجنليزية.‏<br />

حيث كانت تعتقد اأن هذه الأخرية تتجاهل،‏ كثريا،‏<br />

القضايا واملشاكل التي تهم اأكرب عدد من الناس يف<br />

العامل ‏.وبالفعل اأصبح هذا املوقع ينشر ويرتجم اإىل<br />

18 لغة،‏ مبا فيها اللغة العربية،‏ الأعمدة التي تنشر يف<br />

مدونات العامل من اأجل تسليط الأضواء على الأماكن،‏<br />

والأحداث،‏ والأشخاص الذين مل يحظوا اإل بالقليل من<br />

)45(<br />

اهتمام وسائل الإعام الكاسيكية.‏<br />

ويوجد من الصحفيني من ‏سلك مسلكا اآخر ل<br />

يتعارض،‏ بالضرورة،‏ مع ما تطرحه موؤسسته الإعامية<br />

من مواقف واآراء.‏ مثل مدونة الصحفي الفرنسي جون<br />

ميشال اأباتي ،Jean –Michel Apathie الصحفي<br />

السياسي يف اإذاعة وتلفزيون ليكسنبورغ ،RTL الذي<br />

خصص مدونته للتعليق على املقابات التي يجريها مع<br />

‏ضيوفه،‏ لأن الوقت املخصص للحوار الإذاعي ل يسمح<br />

له بذلك،‏ وكذا طبيعة النوع الصحفي املستخدم؛ اأي اأن<br />

احلوار ل يتحمل ذلك.‏ كما يستغل مدونته،‏ من اأجل نشر<br />

اأفكاره واآرائه.‏ وميكن اأن نضيف يف هذا الإطار مدونة<br />

الصحفي اجلزائري ‏سعيد ‏شكري،‏ رئيس حترير ‏صحيفة<br />

Liberté« اجلزائرية،‏ الصادرة باللغة الفرنسية.‏<br />

ومدونة رئيس مكتب قناة اجلزيرة بالأردن ياسر اأبو<br />

هالة والذي اأطلق عليها اسم:‏ ‏»ما وراء الشاشة ...<br />

والصفحات«‏ وهذا لعتقاده اأن ‏«الإعام اجلديد«‏<br />

يصل اإىل حيز ل تصله الصحفة الورقية ول الصحفة<br />

التلفزيونية،‏ واأن املدونة متنح الصحفي هامشا،‏ من<br />

احلرية اأكرب مما توفره له وسائل الإعام الكاسيكية.‏<br />

ويعرتف اأن مدونته كانت حمدودة الستعمال،‏ اإذ كان<br />

ينشر فيها مقالته متضمنة الفقرات واجلمل التي<br />

حذفتها الصحيفة التي نشرتها )46( .<br />

ويرى بعض املدونني ‏صعوبة التوفيق بني العمل<br />

يف موؤسسة ‏صحفية رسمية والستمرار يف التدوين<br />

السياسي والفكري خارجها.‏ فمن يروم هذا التوفيق قد<br />

جتربه الأحداث اإىل التعبري عن موقفه يف مدونته مبا


145<br />

2 0 1 1<br />

يتعارض مع مواقف املوؤسسة الإعامية التي ينتسب<br />

اإليها.‏ فيُخشى اأن يعاين من اأزمة هوية؛ اإي اإزدواجية يف<br />

‏شخصيته.‏ واحلقيقة اأن هذه اخلشية ليست جديدة يف<br />

املنطقة العربية،‏ بل ميكن القول اإنها زالت من اأوساط<br />

املهنيني قبل ظهور املدونات،‏ بعد اأن اختفى الستغراب<br />

من انتقال الصحفيني من قناة تلفزيونية اإىل اأخرى<br />

تختلف عنها يف التوجهات والقناعات.‏ فمن قناة<br />

اجلزيرة القطرية اإىل قناة احلرة الأمريكية،‏ ومن القناة<br />

العربية اإىل قناة اجلزيرة.‏ فلو اقتصرنا على الوضع<br />

اجلزائري على ‏سبيل املثال،‏ فاإننا ناحظ اأن بعض<br />

الصحفيني املنتسبني اإىل موؤسسات اإعامية حكومية<br />

يكتبون باأسماء مستعارة،‏ وبشكل مواز،‏ يف ‏صحف غري<br />

موؤيدة للحكومة.‏ وبعض الصحفيني يتعاونون مع العديد<br />

من الصحف ذات التوجهات السياسية واليديولوجية<br />

املختلفة،‏ اإن مل تكن متعارضة،‏ دون اأدنى ‏شعور باهتزاز<br />

يف هويتهم املهنية.‏ ول يرتددون يف تربير ما يقومون به<br />

بالقول اإن عصر الصحفي املثقف العضوي قد وىلّ‏ ، وحل<br />

حمله ‏»الصحفي التقني«!‏<br />

وحدث اأن اأنصاأ بعض الصحفيني مدونات خاصة<br />

بهم لتكون منتداهم،‏ يطرحون فيها مشاكلهم ومطالبهم<br />

املهنية،‏ ويعرّ‏ فون اجلمهور بها.‏ اإنهم يفعلون ذلك عندما<br />

تتاأزم عاقتهم املهنية مبوؤسستهم الإعامية جمموعات<br />

)47(<br />

اأو اأفراداً‏ يف العديد من الدول.‏<br />

وبعد،‏ فاإن التجربة الرثية واملكتسبة يف الفضاء<br />

التدويني،‏ والتطور املتسارع يف اأدوات الإعام اجلديد،‏<br />

ل يسمحان باستسهال احلكم على مستقبل التدوين،‏<br />

واستقراء اأشكال تطوره،‏ واإن قدما بعض املوؤشرات<br />

التي تفصح،‏ بهذا القدر اأو ذاك،‏ عن احتواء وسائل<br />

الإعام الكاسيكية للمدونات مما يوحي بتغيري عميق<br />

يف الصحفة.‏ وهذا ما ميكن التاأكد منه على املستويات<br />

الثاثة:‏<br />

1- توظيف املدونيني يف املوؤسسات االإعلالمية<br />

الكالسيكية:‏ توؤكد الكثري من ‏شهادات اخلرباء باأن<br />

اأفضل املدونني يف الوليات املتحدة الأمريكية،‏ اأي الذين<br />

يحظوّن برتدد كبري على مدوناتهم،‏ ويستقبلون اأكرب<br />

عدد من الإدراجات التي تنم على اهتمام مبا ينشرون<br />

ينتهي بهم املطاف اإىل النضمام اإىل املوؤسسة الإعامية<br />

الكاسيكية،‏ حيث يتحولون اإىل ‏صحفيني مشهورين<br />

يتقاضون رواتب مغرية.‏ )48( ول يقتصر الأمر على<br />

الوليات املتحدة الأمريكية،‏ بل يشمل العديد من الدول<br />

املتطورة.‏<br />

فصحيفة الغارديان The Guardian الربيطانية،‏<br />

تتابع يوميا املُدوَنات،‏ ول ترتدد يف اقرتاح ‏شراء<br />

اأحسن ما جاد به املدونون لنشره يف طبعتها الورقية<br />

والإلكرتونية.‏ ومتنح ‏صحيفة لوموند Le monde<br />

الفرنسية مكافاأة مالية لأفضل املُدوّنني.‏ وتكافئ القناة<br />

الأوىل من التلفزيون الفرنسي املدونني الذين ينشرون<br />

يف مواقعها الإلكرتونية باسم حقوق املوؤلف.‏ ويف ظل هذا<br />

الواقع،‏ انتهى املطاف باملُدوّن الفرنسي الراحل رولن<br />

بكباي ،Roland Piquepaille ‏صاحب املدونة املشهورة<br />

،ZDNet ليصبح ‏صحافيا باملجلة الإلكرتونية Primidi<br />

املختصة يف الكمبوتر والإنرتنت.‏ والشيء ذاته يُقال عن<br />

املدون العراقي الذي انتحل اسم « ‏صام بيس Salam<br />

،Peace الذي كان يسرد يف مدونته تفاصيل حياته<br />

الجتماعية واحلميمة،‏ وينقل احلياة اليومية يف بغداد<br />

املحتلة،‏ وصعوباتها بدقة حتسده عليها كربيات وسائل<br />

الإعام.‏ لقد فتحت له ‏صحيفة ‏»الإندبندت«‏ The<br />

independant الربيطانية الأبواب لكتابة افتتاحيتها<br />

مرتني يف الشهر.‏<br />

لقد اأصبحت املدونات املمر الأساسي خلريجي<br />

الصحفة وطالبي العمل يف املوؤصصات الإعامية<br />

الكاسيكية الذين ل ميلكون معارف يف عامل وسائل<br />

الإعام اأو ل يتمتعون بخربة مهنية.‏ فاملدونات تعمل على<br />

‏صقل املواهب وتطويرها حتى تلتحق بصفوف املهنيني.‏<br />

2- اإن النجاح يف الفضاء التدويني اأصبح يشرتط<br />

اخلضوع ملنطق املوؤسسة:‏ التفرغ للمدونة اأو الستعانة<br />

مبن هو متفرغ،‏ اأو اللجوء اإىل اأسلوب الشراكة والتعاون<br />

اخلارجي.‏ )49( فاملدون الفرنسي املشهور لوك لومور<br />

، Lemeur Loïc ‏صاحب املدونة التي حتظى ب 25 األف<br />

مشرتك،‏ الذي اأوكل اإدارة الإعان يف مدونته لوكالة<br />

اأبحاث


ْ<br />

2 0 1 1<br />

146<br />

خمتصة متنحه 6 األف يورو ‏شهريا،‏ كان يبحث عن<br />

‏»مُ‏ تعاونَنيّ‏ دائمَ‏ ْ نيّ‏ » يتكفان مبدونته عندما قرر الهجرة<br />

اإىل الوليات املتحدة الأمريكية!‏<br />

فالتدوين مل يعد مكتفيا بالفعل التطوعي الذي كان<br />

‏شرطا يف عامل التدوين،‏ ومتميّزا عن العمل الحرتايف<br />

يف الصحفة،‏ بل بداأ يجنح نحو الحرتاف ليس بتاأثري<br />

من املدونات املوؤسساتية،‏ بل لأن كل مُ‏ دوّن يبلغ عدد زوار<br />

مُ‏ دوّنته خمسة اآلف زائر يشرع يف التفكري يف كيفية<br />

تسخريها لتحقيق عائد مايل،‏ مبختلف السبل،‏ كبيع<br />

املساحات الإعانية للشركات املختصة يف الإعان اأو<br />

تزوديها بوصات اإلكرتونية ترعاها ‏شركات الإعان.‏<br />

ول يستطيع يف غالب الأحيان اأن يقوم باأكرث من وظيفة:‏<br />

التحرير،‏ واإدارة املدونة،‏ والبحث عن معلنني اأو بيع<br />

مساحة اإعانية للشركات املختصة.‏<br />

وتسقط الكثري من املدونات يف ‏شباك الإسرتاتيجية<br />

الإعانية والتسويقية للشركات الصناعية والتجارية<br />

الكربى،‏ القائمة على تقنيات الطنني Buzz؛ اأي<br />

الإشاعات التي تروج من خال التصال الشفاهي.‏ اإذ<br />

اإن الكثري من خمتصي التسويق يعتقدون اأن للمدونات<br />

قوة ‏سحرية يف بث الطنني الذي يخدم املوؤسسات.‏ وقد<br />

استفادت منه ‏شركة « نوكيا«،‏ و»سامسونغ،‏ وشركة نايك<br />

Nike لإنتاج الألبسة الرياضية.‏ )50( وهكذا يتم اإدراج<br />

املدونات لتندمج يف النسق القتصادي الذي تتحرك<br />

فيه وسائل الإعام الكاسيكية،‏ بفاعلية اأكرث،‏ وكلفة<br />

مالية اأقل.‏<br />

)Endnotes(<br />

1- رمبا يعتقد البعض اأن مفهوم احلقيقة قد تطور،‏<br />

لأنها ليست معطى جاهزا تشكل مبعزل عن الفاعلني<br />

واجلمهور.‏ كما اأن الواقع الذي تغطيه احلقيقة يتبادل<br />

ويتغري يف اإطار ‏سياق من التفاعل الجتماعي.‏ فمشكل<br />

احلقيقة حسب الفيلسوف ميشال فوكو يرتبط،‏ اأكرث،‏<br />

بالقواعد التي على اأساسها نتفق على ما هو حقيقي<br />

ومزيف من ارتباطه بالأشياء احلقيقية التي ميكن<br />

)51(<br />

اكتشافها اأو جعلها مقبولة.‏<br />

اإن التاأكيد على اأن الإنرتنت غريت وتغري الصحفة<br />

يعد من حتصيل احلاصل.‏ والنظر اإىل اأنها تقضي<br />

على الصحفة نهائيا وبشكل قاطع يتضمن روؤية ثابتة<br />

للصحافة تفصلها عن السياق العام لتطور وسائل<br />

الإعام.‏ لقد اتضح،‏ بشكل جلي،‏ اأن هذه الأخرية تتطور،‏<br />

وتتجدّ‏ د،‏ وتتغري ‏ضمن دينامية تفكيك العمل الصحفي<br />

واإعادة تشكيله على اأسس جديدة،‏ ومعايري مستحدثة،‏<br />

ووفق هوية مغايرة تستند اإىل اأهداف غري تلك التي<br />

كانت ‏سائدة يف القرن التاسع عشر واأغلب ‏سنوات القرن<br />

العشرين.‏ ففي السابق كانت وسائل الإعام تروم تغيري<br />

وعي اجلمهور،‏ واأصبحت الآن تسعى اإىل التفاوض حول<br />

)52(<br />

‏“نظامهم”‏ اخلاص للحقيقة.‏<br />

اإذا،‏ اإن جوهر العمل الصحفي تغري عرب التاريخ،‏<br />

فبعد اأن كان راأي/‏ موقف املوؤسسة الإعامية ميثل<br />

القيمة املحورية يف نشاطها،‏ انتقل اإىل احلدث/الإعام،‏<br />

واأصبح يف ظل التطور التكنولوجي ممثا يف احلوار<br />

والتعليقات التي تثريها املواد املنشورة.‏<br />

‏ضمن هذه احلركية جُ‏ رد الصحفي من بعض<br />

الأدوار والوظائف.‏ فلم يعد منتجا وحيدا للأخبار<br />

وشاهدا فريدا على ما يجري لينقله اإىل اجلمهور.‏ لقد<br />

اأصبحت العديد من املوؤسسات غري الصحفية تنتج<br />

الأخبار وتوزعها،‏ وتشرك يف ذلك العديد من الأشخاص<br />

من خارج مهنة الصحفة.‏ كما اأن الصحفي مل يعد<br />

املحلل الوحيد للأحداث واملعلق عليها.‏ لقد اأصبح راأيه<br />

مغمورا يف املجتمعات الغربية،‏ وسط جيش من اخلرباء<br />

واملختصني الذين اأصبحت اآراوؤهم متداولة على نطاق<br />

واسع.‏ لكن هل يعني هذا موت الصحفي؟<br />

ودفعت الصحفة الإلكرتونية الصحفي ملمارسة<br />

دور مدير النقاش واحلوار ومنظّ‏ مه،‏ وذلك لأنها بداأت<br />

تقرتب من فضاء تداول املعلومات ومناقشتها.‏<br />

اإذن،‏ اإن التطبيقات املختلفة التي اأتاحتها وتتيحها<br />

‏شبكة الإنرتنت للصحافة ليست احللقة النهائية اأو<br />

القاتلة،‏ يف ‏سلسلة التغريات التي عاشتها الصحفة<br />

عرب قرون،‏ بل تذكرنا،‏ رمبا بقوة واإيقاع متسارع،‏ باأن<br />

الصحفة ليست نصوصا باملعنى السيمائي فقط،‏ بل


147<br />

2 0 1 1<br />

اإنها ممارسة اجتماعية وثقافية تشكلت تاريخيا عرب<br />

العاقات الجتماعية التي تقيمها،‏ واملعاين التي حتملها<br />

)52(<br />

و والتمثّات التي ترسخها لدى القراء عنها:‏<br />

تاأسيسا على ما ‏سبق،‏ تبدو نظرية تغيري املنظور<br />

الصحفي كاأنها تفتح املجال للنظر اإىل تطور الصحفة<br />

‏ضمن روؤية ‏شاملة باعتبارها مهنة،‏ وخطابا اأو ظيفة<br />

اجتماعية.‏ وبهذا فاإنها تتعدى الروؤية التجزيئية التي تهتم<br />

بالوسيلة فقط اأو املهنة يف حد ذاتها بعيدا عن اخلطاب<br />

اأو الوظيفة الجتماعية اأو تعتني باخلطاب الصحفي<br />

مبناأى عن تطور املهنة.‏ لكن هذه الروؤية الشاملة،‏ تبدو<br />

غري مكتملة،‏ رغم ‏صابة منطقها،‏ اإذ اإنها مل تاأخذ<br />

بعني العتبار الإيكولوجيا العامة التي تتطور فيها<br />

الصحفة املعاصرة،‏ والتي ل تصنعها التكنولوجيا فقط،‏<br />

رغم اأهميتها،‏ بل يتدخل فيها القتصادي والسياسي<br />

والجتماعي والثقايف،‏ والتي ميكن اأن نلخصها فيما<br />

ياأتي:‏<br />

اأ-‏ هدم احلدود التقليدية الفاصلة بني املصدر<br />

والوسيلة الإعامية واجلمهور 45 ميكن التاأكد من هذا<br />

الواقع من خال قيام الكثري من املوؤسسات القتصادية<br />

والجتماعية والثقافية والسياسية والعلمية باإنتاج<br />

الأخبار واملعلومات وبثها مباشرة.‏ ففي السابق ما<br />

كان لها ذلك دون املرور بوسائل الإعام الكاسيكية.‏<br />

ناهيك عن قيام العديد من املواقع باإنتاج املعلومات<br />

املكتوبة واملصموعة واملرئية و بثها مباصرة،‏ مثل<br />

‏صور فيديو الهواة التي التقطت اإعصار تسونامي يف<br />

ديسمرب 2004، و الصور املنشورة يف موقع Flickr<br />

التي نقلت تفجري مرتو لندن يف يونيو 2005، واملدونات<br />

الإلكرتونية التي نقلت اأحداث اإعصار كاترينا،‏ يف<br />

الوليات املتحدة الأمريكية،‏ يف ديصمرب 2005.<br />

وهكذا فتحت العديد من املوؤسسات الإعامية اأبوابها<br />

للمساهمات اخلارجية.‏ فمصوؤول موقع Military.com« ،<br />

الذي يُعد منصةً‏ جتمع 17 األف مدونة اإلكرتونية،‏ يوؤكد<br />

اأن القبض على الرئيس العراقي السابق ‏صدام حسني<br />

قد اطلع عليه العامل باأسره بفضل ‏شريط فيديو التقطه<br />

جندي اأمريكي ونشره يف مدونته الإلكرتونية،‏ فتناقلته<br />

)55(<br />

وسائل الإعام العاملية.‏<br />

وتعني الستعانة بغري املهنيني لتزويد املوؤسسات<br />

الإعامية الكاسيكية والعريقة،‏ بالصور والأخبار<br />

والشهادات،‏ اأن املواد الإعامية والإخبارية التي ل متر<br />

عرب قناة وسائل الإعام الكاسيكية يف تزايد مستمر،‏<br />

واأن انتشارها اأصبح يتم بسرعة مذهلة مما يخلق لها<br />

‏شعبية كربى يف ظرف زمني قياسي.‏ لكن الستغناء عن<br />

وسائل الإعام الكاسيكية لتبادل املعلومات يف املجتمع،‏<br />

وظهور فاعلني جدد يف جمال اإنتاج املعلومات،‏ يدفعان<br />

اإىل ‏ضرورة احلذر من اعتبارين اأساسيني،‏ اأولهما اأن<br />

كل املعلومات املتداولة خارج وسائل الإعام الكاسيكة<br />

ليست ذات حمتوى ‏صحفي،‏ فاملادة الإخبارية الصحفية<br />

تتميز،‏ بشكل اأساسي،‏ عن املادة السياسية والعلمية<br />

والفنية يف عاقتها بالأحداث،‏ والتصاقها بالوقت<br />

اأو الزمن بصفة عامة )56( ، ومصوؤوليتها الجتماعية.‏<br />

وثانيهما،‏ اأن العديد من الفاعلني اجلدد يف جمال<br />

اإنتاج الأخبار واملعلومات ل يستغنون عن وسائل الإعام<br />

الكاسيكة.‏ فموقع غوغل نيوز ،Google News على<br />

‏سبيل املثال،‏ يحقق اأرباحا من تعب الصحف ووكالت<br />

الأنباء،‏ حيث يقوم باإعادة نشر،‏ واأحيانا،‏ ‏صياغة الأخبار<br />

)57(<br />

واملعلومات التي تنشرها.‏<br />

- باأصبح مفهوم التفاعلية يغطي العديد من<br />

املمارسات بدءا من برتوكولت التواصل بني اأجهزة<br />

الكمبيوتر يف الشبكة التي بفضلها يتم تبادل املعلومات<br />

بينها،‏ والعاقة التي يقيمها الإنسان بالكمبيوتر الذي<br />

يستجيب لطلبه اأو اأوامره،‏ وصول اإىل التفاعل بني<br />

الأشخاص عرب املواد التي يتبادلونها بشكل مباشر<br />

‏–وجها لوجه-‏ اأو عرب واسطة،‏ والتي تصوغ الرابط<br />

الجتماعي،‏ وتعيد ‏صياغة العاقات الجتماعية وفق<br />

تصورات حمددة ومضامني جديدة.‏ ذلك اأن التفاعلية<br />

يف انتقالها من الوظيفي ‏)تبادل املعلومات بني اأجهزة<br />

الكمبيوتر اأو بينها والإنسان(‏ اإىل القصدي)التبادل بني<br />

الأطراف الجتماعية انطاقا من الرسائل املبتادلة(‏<br />

اقتحمت العديد من املجالت،‏ بدءا من قطاع التعليم<br />

الذي مازال يناقش ‏صرورة تطوير اأساليب التعليم<br />

اأبحاث


2 0 1 1<br />

148<br />

ومنطيته،‏ مرورا بقطاع الألعاب والتسويق،‏ وصول<br />

اإىل جمال الإعام.‏ لقد اأعاد منطق التفاعلية النظر<br />

يف متوقع مكونات العملية التصالية،‏ اإذ ‏سمح بتبدل<br />

اأدوار اأقطاب التصال:‏ املرسل واملتلقي.‏ وبهذا غريّ‏<br />

الروؤية للجمهور،‏ بل اأعاد النظر فيه واستبدله مبفهوم<br />

املستخدم،‏ الذي يركز على الفرد اأكرث من احلشد،‏<br />

فاهتم به وبثقافته،‏ بعد اأن كان الهتمام مركزا على<br />

احلشد والثقافة اجلماهريية.‏<br />

كما اأن التفاعلية غريت بنية املادة الإعامية،‏ ومن<br />

ثم غريت حمتواها،‏ اإذ كانت تتوقف،‏ يف السابق،‏ على<br />

ما يكتبه منتجها ‏سواء كان ‏صحافيا اأو مدونا،‏ وبفضلها<br />

اأصبحت التعليقات التي ترسل للكاتب،‏ والنقاش<br />

Talkback الذي يعقب املادة الإعامية مكونا اأساسيا<br />

من مكوناتها،‏ بل ميلك،‏ يف الكثري من احلالت،‏ اأهمية<br />

اأكرب من املادة موضوع التعليق.‏<br />

ولقد ‏ساهمت الوصات اخلارجية والإحالت التي<br />

تتضمنها مادة التصال يف تغيري بنيتها.‏ فالإضافات<br />

التي تقرتحها الوصات تزيد يف اأهميتها،‏ وترفع كفاءة<br />

اجلمهور يف فهمها بشكل اأعمق.‏ لقد ‏شكلت التفاعلية<br />

بوابة ‏“الإعام التساهمي”‏ اأو“التشاركي”.‏ فالتفاعلية<br />

مل توؤد اإىل توسيع حلقة النقاش حول مادة التصال<br />

واإثرائها فقط،‏ بل جَ‏ رّ‏ ت اجلمهور للقيام بدور مزدوج:‏<br />

مستهلك مادة التصال ومُ‏ نتجها ومُ‏ وزعها.‏ وقضت<br />

على الرتاتيبة الكاسيكية التي كانت تنظم العاقة<br />

بني اأطراف العملية الإعامية )58( ، حيث غريت موقع<br />

مُ‏ نتج هذه املادة الذي مل يعد حمتكرا لها،‏ ول العارف<br />

الوحيد مبوضوعها ورهاناته.‏ وسلحت املتلقي مبا يجعله<br />

يقف على قدم املساواة مع مُ‏ نتجها ملساهمته النشيطة<br />

يف اإنتاجها.‏<br />

اإننا جنانب الصواب اإذا اعتقدنا باأن التفاعلية تنبت<br />

من العدم،‏ لأنها ولدت يف تربة الرث الجتماعي والثقايف<br />

والسياسي الذي رسخ بفضل السعي من اأجل النقاش،‏<br />

وتبادل الآراء،‏ واحرتام الراأي الآخر وازدهر وسط<br />

تقاليد التصال والإعام القائم على املكاملات الهاتفية<br />

والتواصل املباشر مع الربامج الإذاعية والتلفزيونية،‏<br />

وعلى بريد القراء،‏ واملنابر احلرة املنفتحة على خمتلف<br />

الآراء،‏ وعلى استجابة املوؤسسات الجتماعية والثقافية<br />

والصناعية للرسائل والشكاوي التي تصلها.‏ لذا ناحظ<br />

تعرث ممارسة التفاعلية اأو انعدامها يف املجتمعات التي<br />

عانت من ‏سلطوية التصال والإعام وهيمنة اأحادية<br />

الراأي.‏ اإن ما يعتربه بعض مصوؤويل الصحف العربية<br />

املنشورة يف ‏شبكة الإنرتنت من “ جتاوزات”‏ اأخاقية<br />

وسياسية يف التعليقات على املواد الصحفية املنشورة،‏<br />

يعد يف اعتقادنا وجها اآخر لهشاشة اأو انعدام تقاليد<br />

احلوار يف املجتمعات العربية.‏<br />

ج - اإن التواوؤم Convergence الرقمي غَ‏ ريَّ‏ َ وسائل<br />

الإعام تغيريا كبريا.‏ حيث ‏سمح باندماج الوسائط،‏<br />

وترحيل املحتوى من وسيلة اإعامية جماهريية اإىل<br />

اأخرى اأو اإىل وسيلة اتصال ‏شخصية،‏ مما ‏ساهم يف<br />

اإعادة هيكلة بنية قطاع الإعام على اأساس الطلب وليس<br />

العرض،‏ كما كان الأمر يف عصر التكنولوجيا التماثلية.‏<br />

واأضاف اإمكانية تقدمي خدمات بجانب املادة الإعامية<br />

والثقافية.‏<br />

ميكن اأن ندرك ابتكار الإنرتنت من زاوية التواوؤم<br />

التكنولوجي الذي ل يُكمن فيما يوفره كل تطبيق<br />

تكنولوجي جديد من فرص يف جمال الإعام و التصال<br />

واإثرائها،‏ مثل الصحفة املنشورة على ‏شبكة الإنرتنت،‏<br />

وتلفزيون الإنرتنت اأو حمطات الإذاعة الإنرتنانية،‏<br />

واملدونات الإلكرتونية،‏ بل يف اإمكانية جمع كل هذه<br />

التطبيقات-‏ اخلدمات-‏ يف وسيلة واحدة )59( . وهذا<br />

التواوؤم الذي يُعّد ‏سابقة تاريخية يف وسائل الإعام،‏<br />

اأثر يف املحتوى املتداول،‏ فجمع فيه خصائص الإنتاج<br />

اجلماهريي والستهاك الفردي الذي يراعي منطق<br />

املحتوى الذي يكونه املستخدم User Generated<br />

Content بطريقة انتقائية.‏ لقد لحظنا اأن عام 2007<br />

قد ‏شهد ‏شكا من التعاون بني التلفزيون الكاسيكي<br />

والإنرتنت،‏ حيث قامت القنوات التلفزيونية ببث بعض<br />

براجمها على موقع ،You tube مثل هيئة الإذاعة<br />

الربيطانية،‏ وقناة اجلزيرة القطرية.‏ اأما قناة NBC<br />

الأمريكية فقد بثت مسلسلها الذي حقق جناحا كبريا


149<br />

2 0 1 1<br />

على ‏شبكة الإنرتنت،‏ وتعتزم بث اأول مسلسل تلفزيوين<br />

حصريا عل ‏شبكة الإنرتنت . . وشرعت قناة ،MBC<br />

من جهتها،‏ تبث اأبرز اأعمالها الكوميدية،‏ التي بثت<br />

يف رمضان 2007، على ‏شاشات اجلوال،‏ مثل مسلسل<br />

‏»طاش ما طاش«،‏ و«بيني وبينك«.‏ كما قامت قناة CNN<br />

الأمريكية بتنظيم مناظرة تلفزيونية بني مرشحي<br />

الرئاسة الأمريكية عرب موقع ‏»يو تيوب«،‏ بحيث يرسل<br />

زوار املوقع اأسئلتهم املصورة عرب املوقع لتظهر على<br />

الشاشة وتطرح على املرشحني،‏ مما ‏سمح للجمهور باأن<br />

يكون طرفا يف املناظرة.‏ وقد فتحت قناة العربية الأبواب<br />

للجمهور باإرسال ما يصورونه ويريدون اأن يطلع عليه<br />

الآخرون اإىل ‏“منتدى الفيديو”.‏ والشيء ذاته قامت<br />

به قناة اجلزيرة القطرية،‏ لكن املنتدى توقف يف القناة<br />

الناطقة باللغة العربية وظل مستمرا يف القناة الناطقة<br />

(60)<br />

باللغة الجنليزية!‏<br />

ح-‏ املنظومة :Device لميكن ان ندرك عمق التغيري<br />

يف اإيكولوجيا الإعام بدون تشغّيل مفهوم املنظومة<br />

الإعامية الذي يتجاوز مصطلح الناقل الإعامي اأو<br />

الوسيلة الإعامية.‏ اإن معنى مفهوم املنظومة يختلف<br />

باختاف احلقل الذي يُوظف فيه.‏ ففي احلقل التقني<br />

يدل على جملة معقدة من الألت املرتبطة بالوظيفة.‏<br />

ويف حقل العلوم الجتماعية يتحول اإىل مفهوم تاأويلي<br />

يحيل اإىل حزمة من الأفعال واملعاين:‏ نظام،‏ تنظيم،‏<br />

اأدوات،‏ مهارات تقنية،‏ اإطار من التداخل والتفاعل،‏<br />

ممارسات )61( .<br />

ويذهب الصادق احلمامي اإىل اعتبار مفهوم<br />

املنظومة اإطارا نظريا ميُ‏ كن من فهم املمارسات<br />

التصالية املختلفة املرتبطة بتقنية ما،‏ ويحيل اإىل<br />

نظام مركب تتفاعل داخله العديد من العناصر:‏<br />

تقني،‏ وخطابات،‏ وعاقات تبادل،‏ واقتصاد.‏ ويقسم<br />

املنظومات يف الإنرتنت اإىل ثاث وهي:‏ املنظومة<br />

الفردية–اجلمعية،‏ واملنظومة املوؤسساتية،‏ واملنظومة<br />

)62(<br />

الإعامية.‏<br />

اإن مفهوم املنظومة الذي يحررنا من حمدودية<br />

الوسيلة يف حالتها املجسدة والفردانية،‏ يدفعنا اإىل<br />

التفكري يف التغيري الشامل يف حقل الإعام والتصال<br />

‏ضمن روؤية جتمع بني اخلاص والعام،‏ الفردي والشامل<br />

ويف نسق من التفاعل بني القتصاد والتنظيم واخلطب<br />

التي توؤسس لديناميكية التغيري احلاصل يف وسائل<br />

الإعام.‏<br />

املدونات االإلكرتونية :Blogs وسيلة لالتصال واإقامة<br />

عالقات<br />

اإن النطاق من الشعبية التي بلغتها بعض املدونات<br />

الإلكرتونية للحكم على نهاية الصحفة يطمس الصوؤال<br />

الذي طرحه اأحد الكتاب املهتمني بالتكنولوجية احلديثة،‏<br />

حول املدونات الإلكرتونية ،Blogs قبل خمس ‏سنوات،‏<br />

والذي ما زال يحتفظ بنضارته،‏ ونلخصه فيما يلي:‏ هل<br />

(36)<br />

وجدت املدونة الإلكرتونية ‏صياغتها النهائية؟<br />

فمنذ عشر ‏سنوات من الوجود,‏ وصيغ املدونات<br />

الإلكرتونية تزداد تعقيدا من ناحية الشكل:‏ مدونات<br />

الصورة ،Photoblogs ومدونات الفيديو التي وجدت<br />

يف العديد من املنصات،‏ التي توفرها الإنرتنت،‏ وسيلة<br />

ثرية للبث،‏ ومدونات الرسائل القصرية التي ترسل<br />

على الهواتف النقالة Moblogs يف ‏شكل نص وصورة.‏<br />

وتتعقد،‏ اأكرث،‏ على ‏صعيد املضمون متجاوزة الثنائية<br />

التالية:‏ الذاتي/‏ احلميمي،‏ واملوضوعي/‏ العام.‏ فهل اأن<br />

عود املدونات الإلكرتونية قد اشتد حتى ميكن تقدميها<br />

على اأنها ‏ستكون بديا للصحافة؟<br />

لعل التعريف الأويل للمُ‏ دوّنات الإلكرتونية،‏ بعيدا<br />

عن خصائصها التكنولوجية،‏ يتمثل يف القول اإنها موقع<br />

ويب web ‏شخصي يسهر عليه مُ‏ دوّن اأو اأكرث ليعربوا<br />

بحرية،‏ وبانتظام،‏ يف ‏شكل مواد اإخبارية اأو حميمية<br />

حتاكي دفرت الذكريات اليوميات،‏ وتصدر وفق ترتيب<br />

زمني تنازيل – من الأحدث اإىل الأقدم-‏ وتُرثى،‏ يف<br />

الغالب،‏ بالوصات الإلكرتونية،‏ والصورة والصوت،‏<br />

)64(<br />

وتثري مواضيعها تعليقات الذين يرتددون عليها.‏<br />

اإننا نعتقد اأن هذا التعريف غري ‏شامل ويكتفي<br />

بالشكل دون اأن يعطي حمتوى اجتماعيا للتدوّين.‏ فتطور<br />

ممارسة التدوين قد اأعتق املدونات من الصفة التي<br />

التصقت بها،‏ واملتعلقة بكتابة اليوميات احلميمية،‏<br />

اأبحاث


2 0 1 1<br />

150<br />

ودفعها لتكون ملتقى للقول املختص،‏ والراأي،‏ واجلدل،‏<br />

والتمرن على التعبري الأدبي.‏ وحررها من حمدودية<br />

التصال ليضعها يف قلب التصال الجتماعي الساعي<br />

اإىل اإقامة عاقات،‏ وتشكيل اجلماعات ،Communities<br />

التي تسمح بصياغة الهوية الفردية واجلماعية.‏<br />

وتاريخيا،‏ تشكلت اأوىل املُدوّنات من قوائم الوصات<br />

الإلكرتونية مع التعليق عليها.‏ ثم ظهر ‏شكل يقرتب من<br />

اليوميات اأو املذكرات احلميمية التي ينشرها يف « الويب«‏<br />

الإنرتنتيون العاديون.‏ وتتكون من مداخل تعكس،‏ يف<br />

الغالب،‏ حالة كاتبها الذي يكشف عن جانب من حياته<br />

الشخصية و يفرغ جزعه،‏ ويعرب عن ردات اأفعاله جتاه<br />

املحيط،‏ ثم تطورت ممارسة املدونات لتشمل،‏ اليوم،‏ كل<br />

الأنواع املعروفة،‏ التي نستعرض قسماتها لحقا.‏<br />

اإذاً‏ مل يعد املُدوّن وحمتوى ما ينشره والوسائط التي<br />

تعتمد عليها املدوّنات لتوصيل حمتواها اإىل اجلمهور<br />

من العوامل احلاسمة يف تصنيف املدونات،‏ فممارسة<br />

التَدوّين خال عقدين تقريبا ‏ساعدت البحث الجتماعي<br />

والإعامي على تصنيف املدونات الإلكرتونية انطاقا<br />

من قصدين:‏ قصد املُدوّن،‏ وقصد املُطلع اأو املتفاعل مع<br />

املدوّنات.‏ ول ‏شك يف اأن القصد يوؤثر يف حمتوى كتابة<br />

املُدوّنة و اأسلوبها،‏ وشكلها الفني.‏ وعلى هذا الأساس<br />

‏سنقدم جمموعة من اأنواع املدونات،‏ )65( على النحو<br />

الآتي:‏<br />

1- املدونات الشخصية:‏ وقد يطلق عليها البعض<br />

مسمى املدونات احلميمية؛ اأي التي تتحدث عن اأمور<br />

حميمية خاصة باملدون.‏ والبعض يرى اأنها مدونات<br />

تخريجية ،Extimacy - Extimité وتتمحور الكلمة فيها<br />

حول الأنا،‏ ليس باملعنى الرنجسي،‏ بل مبعنى التنفيس<br />

عن الذات عرب تخريج دواخلها وعرضها على الآخرين.‏<br />

فاحلياة احلميمية تتحول اإىل مادة للسرد،‏ و اأداة اتصال<br />

بالغري الذين يُشَ‏ خَ‏ ‏صون،‏ مع مرور الزمن،‏ بهويتهم<br />

الفعلية اأو الفرتاضية،‏ ويكون اللقاء بهم يف احلياة<br />

اليومية حمتما.‏ فاحلديث عن الأنا ل يكون،‏ دائما،‏<br />

مرتبطا مبشاكل ظرفية يصعب على الفرد اأن يتحرر<br />

من ‏ضغوطها دون احلكي عنها،‏ لأنه يجسد الرغبة يف<br />

البحث عن هوية اأو السعي اإىل تاأكيدها.‏<br />

2- مدونات الصحفيني:‏ يقصد بهذه املدونات،‏<br />

بصرف النظر عن طبيعتها التنظيمية،‏ اأي دون التساوؤل<br />

عن مدى ارتباطها العضوي مبوؤسسة الصحفة اأو<br />

استقالها عنها،‏ تلك التي يستعملها الصحفيون للتعليق<br />

على الأحداث السياسية والوقائع التي كانوا ‏شهودا<br />

على حدوثها.‏ ويتحول بعضها اإىل منرب لتبادل الآراء<br />

والأفكار حول الوقائع الطارئة يف احلياة املحلية اأو<br />

الوطنية اأو الدولية واإثارة النقاش حولها.‏ وتطرح هذه<br />

املدونات مصاألة التقارب والتنافر بني ما يكتبه الصحفي<br />

يف املوؤسسة الإعامية التي ينتسب اإليها وما ينشره يف<br />

املدونة-‏ ‏)سنحاول اأن نوضح هذه النقطة لحقا(.‏<br />

يستغلها املختصون لتقدمي خربتهم املهنية،‏<br />

ونصائحهم،‏ واآرائهم.‏<br />

- 3 مدونات اخلرباء:‏<br />

4- مدونات التسويق:‏ وتروم تسويق اإنتاج معني اأو<br />

بيع خدمات،‏ وهي يف متناول جميع املوؤسسات،‏ وبخاصة<br />

التجارية التي تروم احلوار مع زبائنها،‏ والأخذ بعني<br />

العتبار اقرتاحاتهم واآراءهم.‏<br />

5- مدونات املجموعات:‏ عدد زوارها قليل،‏ اإذ<br />

يقتصر على الأصدقاء وبعض اأفراد العائلة وتُبنى على<br />

عاقات اجتماعية قائمة مسبقا،‏ وتتسم بكثافة التبادل<br />

واستمرارية التواصل الذي يتوسل الوسائط املختلفة:‏<br />

الصوت،‏ والصورة،‏ والنص،‏ و تقرتب هذه املدونات،‏ يف<br />

جوهرها،‏ من النصوص القصرية ،SMS واملضامني<br />

التي يتم تبادلها بواسطة تويرت .Twitter<br />

6- مدونات النظراء:‏ تقوم هذه املدونات بتشّ‏ كيل<br />

‏“جماعات انتقائية”،‏ وتُكوّن اجتماعيتها Sociability<br />

من خال هواية ما،‏ اأو منفعة ما،‏ اأو خصائص هوايتية.‏<br />

وتتوسع عرب الشبكة من خال املعارف والأصحاب،‏ مثل<br />

املدونات املهنية،‏ ومدونات اأنصار الفرق الرياضية،‏ اأو<br />

حمبي فنان معني،‏ اأو ممارسي هواية بعينها،‏ وغريها.‏<br />

7- املدونات التجنيدية اأو املواطنة:‏ تتجه هذه<br />

املدونات اإىل اكرب عدد من الإنرتنتيني ملحاولة جتنيدهم<br />

حول قضية اأساسية اأو هاجس مركزي ذي عاقة


151<br />

2 0 1 1<br />

بانشغالت املجتمع املدين.‏ تقدم مادة موثقة،‏ يلتقي<br />

فيها الأشخاص الذين يتقاسمون القناعات ذاتها حول<br />

القضية املطروحة.‏ وتتضمن عددا كبريا من الوصات<br />

التي حتيل روادها اإىل ما هو خارج اإدراجاتها.‏ هذه<br />

الإدراجات تشكل حلُ‏ مة النقاش واجلدل الذي من املمكن<br />

اأن يتحول اإىل منتدى حواري.‏<br />

اإن العاقة بني اأصحاب هذه املدونات وروادها تستند اإىل<br />

املحتوى املتداول،‏ والنتقال من تبادل الآراء اإىل نسج عاقات<br />

افرتاضية قد تتوج بعاقات جماعية فعلية و ملموسة.‏<br />

8- مدونة املدونات :Metablog مدونة خاصة<br />

بظاهرة التدوين والفضاء التدويني.‏ يذكرنا وجودها<br />

باأول ‏شكل من املدونات الذي كان يعرض ‏سجا للمواقع<br />

الإلكرتونية مع الإشارة اإىل اأهميتها،‏ واإضافة تعليقات<br />

خاصة بكل موقع.‏<br />

وعلى الرغم من اأن هذا التصنيف يكشف عن جوانب<br />

خمتلفة من التقاطع بني املدونات والصحفة،‏ اإل اأن التفاق<br />

على النظر اإىل املدونة بوصفها وسيلة اإعام مل يحقق<br />

الإجماع بني الباحثني واملدونني.‏ فالكثري من املدونني<br />

ينفون الصفة الإعامية على ما يقومون به،‏ باستثناء<br />

اأصحاب املدونات املرتبطة عضويا بوسائل الإعام<br />

الكاسيكية التي اأنصاأها الصحفيون املحرتفون )66( ، بل اإن<br />

البعض يعتقد اأن ‏سر جناح املدونات يكمن يف كونها غري<br />

)67(<br />

‏صحفية ويعتربها ‏ضربا من اإدارة املعارف ل غري<br />

اأمام السيل الهائل من املدونات الإلكرتونية وتداخلها،‏<br />

‏سعى البعض اإىل متييزها انطاقا من جمموعة من<br />

املتغريات الثاثية التالية:‏ نوع املحتوى،‏ وطبيعة احلامل<br />

)68(<br />

الذي تظهر فيه،‏ واملوضوع الذي تتناوله<br />

ولنرتك جانبا،‏ موؤقتا،‏ نقاط التقاطع بني املدونات<br />

الإلكرتونية والصحفة،‏ خاصة الإلكرتونية،‏ ونحاول اأن<br />

نكتشف الفروق بني املدونة والصحفة الورقية.‏<br />

الصحف الورقية<br />

مساحة حمدودة<br />

موؤسساتية وتخضع لأدبيات املهنة ومصوؤولياتها.‏<br />

)69(<br />

املدونات<br />

مساحة غري حمدودة<br />

اأكرث ‏شخصية ومتحررة من املصوؤولية الأخاقية والجتماعية<br />

املُدّ‏ ون اأكرث حرية وتلقائية<br />

الختصار والإيجاز<br />

اأسلوب ‏سهل ومباشر يقرتب من النمط الشفاهي<br />

الكتابة منفردة واأكرث ذاتية<br />

احلوار املفتوح والتعليقات ‏شرط اأنطولوجي<br />

نص املدونة متشعب ويتيح تعددية الأصوات.‏<br />

والوصات ‏ضمان بقاء واإزدهار املدونات<br />

الكتابة يف املدونة قد تكون ذات نهاية مفتوحة<br />

لأنها تتضمن حوارا،‏ وتعاليق ومساهمات خارجية<br />

Information work in progress<br />

الإدراجات Posts ترتب ترتيبا تنازليا من الأحدث<br />

اإىل الأقدم،‏ دون مراعاة مواضيعها.‏<br />

الستعانة بالطنني ،buzz اأي ما يُذاع من الفم اإىل<br />

الأذن مباشرة،‏ ليقرتب من الإشاعة<br />

الصحايف املهني يفقد استقاليته لرتباطه الوظيفي برب<br />

العمل،‏ ومعاناته من وطاأة الرقابة الذاتية.‏ ويلتزم باملصوؤولية<br />

اإزاء املوؤسسة واملجتمع.‏<br />

التفصيل والإسهاب<br />

اأسلوب تعاقدي اأو تواضعي.‏<br />

الكتابة تعيد اإنتاج قوالب الكتابة النمطية السائدة<br />

املادة الصحفية تكتفي بذاتها يف ظل بطء ‏صداها،‏ وتلك<br />

التي تفتح اأبواب اجلدل قليلة جدا اإن مل تكن نادرة.‏<br />

نص الكتابة منغلق على ذاته ويهيمن عليه ‏صوت كاتبه<br />

امللتبس بصوت املوؤسسة رغم نهله من نصوص خمتلفة.‏<br />

بعض املواد الصحفية تنشر يف ‏شكل حلقات،‏ اأما جل املواد<br />

الصحفية فتكون نهايتها مغلقة نظرا لنمط تلفظها.‏<br />

املواد الصحفية تنتقى وترتب وفق ‏شرطني:‏ الأهمية التي<br />

تراها الصحيفة،‏ واملواضيع التي توزع على الأقسام<br />

السعي اإىل السبق الصحفي.‏<br />

اأبحاث


2 0 1 1<br />

152<br />

والواقع اأن البحث عن عائد مايل ينبئ بتغيري يف<br />

الفعل التدوَيني،‏ الذي يحمل معه التساوؤل عن مستقبل<br />

التدوّين،‏ ومدى ‏صحة اعتماده كبديل جاد للعمل<br />

الصحفي.‏<br />

3- اإن العديد من اأبرز اأدوات ‏“الإعام اجلديد”،‏<br />

التي تعرّ‏ ف على اأنها فضاء لإعام املواطنني،‏ اأو ‏صحافة<br />

املواطنني،‏ Citizen Journalism اأو ‏شبكة التصال<br />

الجتماعي،‏ ‏سقطت يف يد املعلنني وشركات الكمبيوتر<br />

و الإعام العماقة.‏ فشركة غوغل اصرتت موقع<br />

Youtube مببلغ 1,65 مليار دولر اأمريكي يف نوفمرب<br />

)70( 2006 وموقع ، Myspace الذي يضع جمانا حتت<br />

تصرف املشرتكني مساحة من الويب الشخصي يسمح<br />

لهم بوضع املعلومات التي يريدون،‏ واإنشاء مدوناتهم،‏<br />

اشرتته موؤسسة روبرت مردوخ يف يوليو )71( 2005 .<br />

واصرتت ‏شركة ميكروسوفت نسبة ‎1.7‎‏٪من موقع<br />

، Facebook مببلغ‎240‎ مليون دولر يف اأكتوبر 2007،<br />

مما يعطى لها احلق يف احتكار الإعان الذي ينشر يف<br />

)72(<br />

املوقع.‏<br />

خاصة القول،‏ اإن التاأمل يف خمتلف الأساليب<br />

العلنية واملتسرتة لحتواء العديد من املدونات الإلكرتونية<br />

املوؤثرة والفاعلة يف حقل التصال الجتماعي يحفز<br />

التفكري يف الإعام اجلديد،‏ عن اإيديولوجية تكنولوجيا<br />

التصال احلديثة حتى ل تختصر كلمات السوق ‏سوق<br />

الكلمات )73( ويصبح احلديث عن الإعام اجلديد من<br />

زاوية تكنولوجية يغطى واقع ‏سيطرة املال على اأدوات<br />

التعبري.‏ فالسكوت عما تفعله السوق يف جمال تنظيم<br />

حرية الكام هو ‏صرب من التسرت على الرهانات<br />

السياسية والجتماعية والقتصادية للتكنولوجيا<br />

اجلديدة.‏<br />

الصحفة العربية واملدونات:‏ التقارب املوؤجل يف<br />

انتظار الشروط السياسية والثقافية الغائبة.‏<br />

اإن التكامل بني املدونات ووصائل الإعام<br />

الكاسيكية،‏ والتوظيف املتبادل لأشكال التعبري واأساليبه<br />

بني الصحفة واملدونات الإلكرتونية ما كان له اأن يتحقق<br />

لو مل يتحول جزء متزايد منها اإىل وسائل اإلكرتونية اأو<br />

تنشئ مواقع خاصة بها يف ‏شبكة الإنرتنت.‏<br />

نعتقد اأن الصحفة العربية مل تعش بعد ثورتها<br />

الرقمية.‏ فعلى الرغم من اأن بعض عناوينها،‏ مثل<br />

‏صحيفة الشرق الأوصط،‏ خاضت جتربة النشر عرب<br />

‏شبكة الإنرتنت يف ديسمرب 1995، اأي بشكل متزامن مع<br />

اأول التجارب العاملية يف النشر الإلكرتوين،‏ فاإن جتربة<br />

الصحفة الإلكرتونية،‏ بكل ما حتمله الكلمة من معنى،‏<br />

مازالت يف بداية الطريق.‏ فالكثري من املواقع الإلكرتونية<br />

التي تطلق على نفسها ‏صفة ‏صحافة اإلكرتونية مل تراع<br />

خصائص ومعايري هذه الصحفة:‏ غياب غرف احلوار<br />

واملنتديات،‏ وعدم نشر العنوان الإلكرتوين للصحايف<br />

اأو املراسل،‏ وغياب التعليقات )74( ، وحتى اإن وجدت فاإن<br />

الكثري منها ظل خاضعا للذهنية التي اأدارت بريد القراء<br />

لعقود من الزمن:‏ اأي يُحتمل اأن تكتب تعليقك على مادة<br />

‏صحفية ما،‏ لكنه ل ينشر رغم اأنه يتضمن كل ‏شروط<br />

النشر،‏ ول يخرج عن اخلط الفتتاحي للصحيفة.‏<br />

ناهيك عن تغيّب منطق الكتابة وفق النص املتشعب<br />

،Hypertext وصعوبة استغال الأرشيف لأن حمركات<br />

البحث ‏ضعيفة اأو غري مناسبة.‏ ما يفسر هذه احلقائق<br />

يتمثل يف عدم وضوح الروؤية والأهداف من اإصدار نسخ<br />

اإلكرتونية من الصحف ماعدا رفع ‏سمعة الصحيفة<br />

الورقية )75( اأو الوصول اإىل القراء املوجودين يف العديد<br />

من نقاط العامل )76( . وقد يتفق الكثري من الباحثني على<br />

القول اإن ما يسمى بالصحف الإلكرتونية يف املنطقة<br />

العربية ليست،‏ يف حقيقة الأمر،‏ ‏سوى نسخ مصورة من<br />

الطبعة الورقية.‏ لكن الدارس يكتشف،‏ مبجرد متابعة<br />

هذه الصحف،‏ اأنها تراجعت على هذا املستوى البسيط<br />

الذي انطلقت منه،‏ وذلك ما يفسره « نسيان«‏ حتديثها اأو<br />

ذكر تاريخها،‏ اأو تعليق نشرها الإلكرتوين ملدة قد تطول<br />

اأو تقصر حسب املزاج والإمكانات املالية.‏ هذا الواقع ل<br />

ميكن تفسريه بالعامل السياسي فقط،‏ بل يرتبط مبا هو<br />

اأعمق؛ اأي بتمثّل التصال وتصور اجلمهور.‏<br />

واحلقيقة،‏ اأن ‏شبكة الإنرتنت ‏سجلت حضورا<br />

متواضعا يف املنطقة العربية،‏ حيث اإن نسبة مستخدميها<br />

)77(<br />

ل يزيد على ٪6,2 من تعداد مستخدميها يف العامل.‏


153<br />

2 0 1 1<br />

ويتفاوت عدد مستخدميها،‏ بشكل كبري جدا،‏ من دولة<br />

عربية اإىل اأخرى،‏ اإذ يرتاوحون ما بني ٪48.9 من جممل<br />

‏سكان دولة الإمارات العربية اإىل‎%1‎ من جممل ‏سكان<br />

العراق.‏ )78( . ويُرتجم هذا التفاوت بالقول اأن حوايل %60<br />

من مستخدمي الإنرتنت يف العامل العربي موجودين يف<br />

منطقة اخلليج العربي،‏ والتي متثل حوايل % 11 فقط من<br />

تعداد ‏سكان العامل العربي.‏ )79( وهذا ينعكس اإىل حد ما<br />

على التطبيقات التي يتيحها الإعام اجلديد.‏<br />

‏»نشر با حدود لكن بخوف«،‏ هو العنوان الذي<br />

اأختارته اأول دراصة مسحية للمدونات يف الدول<br />

العربية )80( ، لتعرب عن جانب اأساسي يف ظاهرة التدوين<br />

يف املنطقة العربية،‏ واملرتبط بوجودها كشكل من اأشكال<br />

التصال والإعام،‏ وكاأداة لتمديد هامش التعبري،‏<br />

والستماتة يف الدفاع عن احلق يف الإعام والتصال.‏<br />

لكن هذا اجلانب الظاهر قد يخفي جوانب اأخرى مهمة<br />

تتعلق بتمثّل املدونات واستخدامها واستماكها والتي<br />

تكشف عنها املمارسات اليومية.‏ حيث ناحظ اأن ٪38<br />

من الإنرتنتني العرب مهتمون باملُدوّنات،‏ ونصفهم ،<br />

فقط،‏ يطلع على املدونات بشكل يومي.‏ )81( ونعتقد اأن<br />

هذا العدد يتجاوز كثريا عدد قراء الصحفة املكتوبة.‏<br />

ويعترب الكثري من الإنرتنتيني اأن املدونات هي مصدر<br />

معلوماتهم،‏ خاصة تلك املستقلة عن السلطة السياسية،‏<br />

وذلك لنغمتها الناقدة وهامش احلرية الذي يتمتع به<br />

اأصحابها،‏ خاصة اأمام استشراء النزعة المتثالية لدى<br />

وسائل الإعام الكاسيكية،‏ خاصة تلك التي تسمى<br />

رسمية.‏<br />

ويتسم التدوِين يف املنطقة العربية بطابعه السياسي<br />

والجتماعي والثقايف والأدبي.‏ ففي الدول التي يعيش<br />

‏شارعها احتقانا ‏سياسيا وجتاذبات يف جمال حرية التعبري،‏<br />

فاإن التدوين فيها اأصبح جزءا من الصراع السياسي<br />

والجتماعي،‏ الذي يدفع % 87 من اأصحاب املدونات<br />

السياسية العربية اإىل انتحال اأسماء مستعارة.‏ )82( هذا<br />

مع العلم اأن تنكر املدونني وراء اأسماء مستعارة ليس<br />

مرتبطا بالسياسة فقط،‏ بل يرتبط،‏ اأيضا،‏ بالأدب<br />

والفن،‏ ويكشف عن عادات وتقاليد فعلية اأو متمثلة لدى<br />

املدونني فيستبطنونها بشكل يدفعهم اإىل انتحال اأسماء<br />

تخفي هويتهم احلقيقية.‏<br />

وتقدر بعض الأوساط اأن حوايل % 5 من جممل مستخدمي<br />

الإنرتنت يف مصر ذوو اهتمامات ‏سياسية.‏ (83) والكثري منهم<br />

ميلك مدونات ذات توجه ‏سياسي،‏ واأكرث املدونني ‏شهرة<br />

يجمع حوايل 30 األف قارئ منتظم ملدونته.‏ وهو رقم ل<br />

يستهان به لسببني،‏ على الأقل،‏ وهما،‏ اأن اأكرث من % 15<br />

من مستخدمي الإنرتنت يف مصر يعتربون قراء مدونات<br />

منتظمني!‏ واأن قراء بعض املدونات يتجاوز عددهم قراء<br />

بعض عناوين الصحف احلكومية اأو املعارضة.‏ فاملدونات<br />

مل تكتف بالتعبري عن وجهة نظر ‏شخصية،‏ بل اهتمت<br />

بالقضايا الأساسية يف املجتمعات العربية،‏ التي جتاهلتها<br />

وسائل الإعام الكاسيكية،‏ خاصة الرسمية،‏ ومتكنت<br />

من فرضها على النقاش العام مثل:‏ ظاهرة التحرش<br />

اجلنسي ووضعية املراأة يف املجتمع )84( ، والتعذيب،‏ حيث<br />

نشرت العديد من املدونات ‏صورا لعمليات التعذيب،‏<br />

وحماربة الفساد.‏ )85( وقد قامت املدونات بدور واضح يف<br />

التعبئة ومناصرة الشعب الفلسطيني وهذا ما متثل يف<br />

اأثناء احلرب الإسرائيلية على لبنان يف ‏صيف 2006،<br />

)86( واحلرب الإسرائيلية على غزة.‏<br />

اأما يف الدول التي مت اإفراغ الفعل السياسي فيها من<br />

كل حمتوى،‏ فقد استشرت حالة من امللّل والضجر من<br />

السياسة التي اأحضرت احلرية وغيّبت الدميقراطية.‏<br />

فاأدار الكثري من املدونني ظهرهم للصاأن السياسي<br />

وجعلوا من مدوناتهم منابر اأدبية لتعويض النقص الكبري<br />

يف جمال النشر،‏ وترفع الوصاية السياسية والأدبية على<br />

الإنتاج الأدبي وتخرجه من ‏شرنقة الشللية.‏<br />

لعل اجلنوح نحو العتكاف على كتابة الأدب<br />

واخلاطرة يف املدونات اأصبح مرادفا حلرية الكلمة،‏<br />

وجتسيدا للتمرد على اأمناط الكتابة السائدة.‏ ويعرب عن<br />

البحث عن منفذ للثقافة املهمشة يف املجتمع،‏ وعن بديل<br />

لصعوبات النشر يف العديد من الدول العربية اإىل درجة<br />

اأن مصطلح ‏“اأدب املدونات”‏ اأصبح متداول بكرثة يف<br />

الأوساط الصحفية والأكادميية ليُشخص الذين وجلوا<br />

عامل الأدب من باب الإنرتنت واملدونات الإلكرتونية<br />

اأبحاث


2 0 1 1<br />

154<br />

حتديدا،‏ ومن رموزه:‏ ‏سارة مطر ‏صاحبة مدونة ‏»قبيلة<br />

تدعى ‏سارة«‏ والشابة العراقية التي تكنى باسم مدونتها<br />

الجنليزية:‏ ‏»ريفر بند«‏ ، riverbend وابراهيم رحمة<br />

‏صاحب مدونة « اأيقظوا احللم،‏ اأريد اأن اأنام«،‏ وحسنة،‏<br />

‏صاحبة املدونة التي حتمل اسمها،‏ وغريهم.‏ ويوجد عدد<br />

كبري من املدونات العربية التي ل حتُ‏ نيّ‏ باستمرار،‏ اأي<br />

ل تتضمن اإدراجات حديثة ول تعليقات.‏ ويتزايد عدد<br />

زوار املدونات العربية الذين يكتفون بالطاع على<br />

الإدراجات دون اللتفاتة اإىل التعليقات،‏ ويرتفع عدد<br />

الإنرتنتيني الذين يقومون باإرسال الكثري من التعليقات<br />

اإىل املدونات دون اأن تكون لها اأي ‏صلة باملوضوع الذي<br />

اأثاره املدوّن،‏ وكاأن لهفة الإنرتنتيني العرب للكام كانت<br />

ومازالت جارفة اإىل درجة اأنها هدمت ‏ضوابط الفعل<br />

التدويني.‏ فاملهم هو اأن ترفع ‏صوتك وتتكلم لتشعر الغري<br />

باأنك موجود،‏ ول يهم ما تقوله.‏ رغم كل هذه املظاهر<br />

التي حتتاج اإىل دارسة ‏سوسيولوجية معمقة لستشراف<br />

مستقبل التدوين يف املنطقة العربية اإل اأنها ل تنفي<br />

حركية الفضاء التدويني النشيطة يف املنطقة العربية،‏<br />

وتنوع اهتماماته،‏ وتعدد لغاته:‏ ‏(العربية،‏ والجنليزية،‏<br />

والفرنسية....(‏ وهذا ما حدا بالصحفية اليطالية باول<br />

كاريدي للقول اإن املدونني العرب يستخدمون الإنرتنت<br />

يف حماولة منهم لتغيري الواقع املعيش،‏ كما يحاولون<br />

اإظهار الوجه الإنساين للعامل العربي يف مواجهة النمطية<br />

الأوروبية عن الشرق املسلم ، وشبهت حركة التدوين يف<br />

املنطقة العربية مبا قامت به الشعوب يف اأوروبا الشرقية<br />

للإطاحة بالأنظمة الشيوعية يف نهاية الثمانينات عرب<br />

املناشري والصحف السرية.‏ )87( اإن هذا التشبيه يبدو<br />

مبالغا فيه لأنه يعتمد على تاأثري حمتمل حلركة التدوين<br />

على املجتمع واملواطنني.‏ ول ياأخذ بعني العتبار باأن<br />

التدوين الفعال هو ذاك الذي يتكئ على حركية ثقافية<br />

وسياسية،‏ ويعيش يف بيئة حرية التعبري والتفكري.‏<br />

لكن اأين هي استتباعات حركية التدوين على وسائل<br />

الإعام العربية الكاسيكية؟<br />

بعد اأن جتاهلت املوؤسسات الإعامية الكاسيكية<br />

العربية الرسمية املُدونات،‏ بداأت تهجم عليها واعتربتها<br />

راأس حَ‏ رْ‏ بَةِ‏ القوى السياسية املعارضة،‏ خاصة بعد اأن<br />

وجدت وشائج مع القوى الجتماعية الفاعلة يف املجتمع<br />

)88(<br />

املدين،‏ وبعد اأن اتسع ‏صداها يف ‏صحافة املعارضة<br />

لكن امام انتشار املدونات كوسيلة فاعلة يف التصال<br />

الجتماعي والسياسي،‏ خاصة يف اأثناء الأحداث<br />

املاأسوية والتشنجات السياسية )89( ، بداأت وسائل الإعام<br />

املختلفة تتحدث عنها بصفتها ظاهرة غري مسبوقة يف<br />

تاريخ التصال يف املنطقة العربية،‏ وكبديل للإعام<br />

الرسمي.‏ واعطت املدونني حق الكام عن جتربتهم،‏<br />

‏سواء يف الصحفة،‏ كما فعلت جريدة الحتاد الإماراتية،‏<br />

على ‏سبيل املثال،‏ التي اأنصاأت ‏صفحة خاصة بالتدوين<br />

‏ضمن ملحقها اليومي املسمى ‏»دنيا«،‏ اأو يف التلفزيون،‏<br />

مثلما فعلت قناة اجلزيرة القطرية التي خصصت بعض<br />

احللقات من براجمها للحديث عن حركة التدوين مع<br />

بعض املدونني العرب.‏ وشرع الكثري من الصحفيني<br />

يعرتفون اإنهم يبداأون يومهم املهني بالطاع على ما<br />

تنشره املدونات املشهورة اأو املوؤثرة،‏ اإذ اإنهم يعتربونها<br />

)90(<br />

مصدرا اإخباريا.‏<br />

وتوؤكد البحوث العلمية اأن الصحف الإلكرتونية<br />

العربية اأوالورقية التي تنشر نسخة على ‏شبكة الإنرتنت<br />

وتنشر مدونات ل تتعدى اأصابع اليد الواحدة،‏ نذكر<br />

منها:‏ ‏سودانايل ‏)سودانية-‏ تصدر باللغة الجنليزية(،‏<br />

ولورين لوجور ‏)لبنانية-‏ تصدر باللغة الفرنسية(،‏ حيث<br />

اأنها تنشر 16 مدونة،‏ تخلو كلها من التعليقات وحتُ‏ نيّ‏<br />

اأربعة منها فقط،‏ بشكل يكاد يكون منتظما،‏ وصحيفة<br />

العامل ‏)اإماراتية(‏ املجانية التي تصدر ملحقا بعنوان<br />

‏»كشكول«‏ تابع لحتاد املدونني،‏ واإياف ‏)السعودية(.‏<br />

ورغم اأن هذه الأخرية تقدم نفسها لقرائها على اأنها<br />

اأول الصحف الإلكرتونية العربية ‏)صدرت يوم 21 مايو<br />

2001( اإل اأنها مل تفتح املجال للمدونني لولوج عاملها اإل<br />

منذ مايو 2008، ‏ضمن روؤية يطبع عليها تصور الصحفة<br />

الكاسيكية.‏ هذا ما يعكسه ‏شعارها:‏ ‏»دوّن يف بيئة<br />

‏صحافية«،‏ وتفصح عنه طريقة اإخراجها الذي يشبه<br />

املواقع الإلكرتونية الإخبارية التي يتماهى عرضها مع<br />

الصحف الورقية يف تقسيمها وتصميمها.‏ )91( وصحيفة


155<br />

2 0 1 1<br />

‏»اإياف«‏ ل تسعى،‏ من خال املدونات،‏ اإىل تقريب<br />

الصحيفة الإلكرتونية من هواجس وانشغالت الفضاء<br />

التدويني،‏ والتماهي مع اأسلوبه وروؤيته اخلاصة للأحداث<br />

الآنية واحلياة الجتماعية،‏ بل ترمي من خالها اإىل<br />

)92(<br />

‏صقل املواهب الصحفية لتعزيز ‏شبكة مراسليها.‏<br />

اإذن،‏ مازالت املدونات تنمو على تخوم وسائل الإعام<br />

الكاسيكية يف املنطقة العربية التي مل تستطع اأن تفتح<br />

جسورا للتفاعل املثمر معها.‏ والسبب ل يعود للعامل<br />

السياسي فقط،‏ على اأهميته،‏ كما يعتقد البعض،‏ بل<br />

يعود اإىل جمموعة من العتبارات الجتماعية والثقافية.‏<br />

التي ميكن اأن نختصرها يف القول باأن املدونات ‏صاأنها<br />

‏صاأن الإعام اجلديد تقوم على حمورية الفرد،‏ واعتباره<br />

قوة مرجعية يف روؤية الأحداث واحلكم على الظواهر<br />

الجتماعية.‏ ووسائل الإعام الكاسيكية العربية مل<br />

تتاأسس على مرجعية الفرد بدليل اأن هذا الأخري مل يرتق<br />

يف وسائل الإعام ليكون مصدرا للأخبار اإل يف بعض<br />

احلالت النادرة،‏ اأي اإذا كان ‏ضحية للكوارث الطبيعية<br />

وحركة املرور،‏ اأو ‏»خبريا«‏ يف ‏صاأن ما،‏ وما اأكرثهم يف<br />

الفضائيات العربية!..‏ ول يُعتد براأيه اأو مواقفه اإل اإذا<br />

كان موؤيدا ومباركا للخطاب الرسمي اأو متماهيا مع<br />

اخلطاب املهيمن،‏ هذا اإذا استثنينا بعض احلالت التي<br />

يسمح لرموز املعارضة بحق الكام الظريف يف وسائل<br />

الإعام الكاسيكية لأسباب ظرفية واأجندات ل تدخل<br />

يف اطار جتسيد حرية التعبري.‏ كما اأن الصحفة العربية<br />

تطورت يف ظل غياب ثقافة الراأي الآخر،‏ وحتى الستماع<br />

له.‏ و الكثري من املهنيني يسردون العديد من القصص<br />

التي تروي تشابه عملية اإقصاء وتهميش الآراء التي حتمل<br />

قدرا من النقد يف بريد القراء،‏ وليس ‏صفحات الراأي يف<br />

الصحف العربية.‏ واحلقيقة اأن الصحفة العربية منت<br />

يف كنف الروح الأبوية وغياب احلوار اأوتغيّبه مما جعلها<br />

تبدو وكاأنها تخاطب ذاتها.‏ هذه احلقائق تركت ظالها<br />

الثقيلة على متثّل الصحفة،‏ والصحفة الإلكرتونية.‏<br />

واإذا مل يكن الأمر كذلك فكيف نفسر قلة املنتديات<br />

وغرف احلوار يف الصحفة الإلكرتونية؟ و قيام بعض<br />

الصحف،‏ بالرتاجع عن املنتديات التي افتتحتها يف<br />

طبعتها الإلكرتونية،‏ لعتقادها اأن القراء جتاوزوا حدود<br />

احلوار.‏<br />

اإن جتربة املنتديات يف القنوات التلفزيونية العربية،‏<br />

على قلتها،‏ مل تتبلور بعد،‏ فاإما اأنها تقتصر على طلب<br />

املشاهدين بتصوير لقطات الفيديو واإرصالها اإىل<br />

موقع القناة التلفزيونية،‏ وتكون هذه اللقطات متناغمة<br />

مع ما تبثه القناة من اأخبار اأو مكملة ملا تنقله عن<br />

وكالت الأنباء العاملية،‏ والغالب اأنها ل تخرج عن اإطار<br />

التصنيفات والصور النمطية التي تضعها القنوات<br />

التلفزيونية للأحداث والظواهر الجتماعية والسياسية<br />

والعاقات بني الدول،‏ اأو تتحول اإىل منتدى للمعجبني<br />

باملذيعني واملذيعات والصوؤال عنهم وعن اأحوالهم!‏<br />

هذه املوؤصرات ل توؤكد اأن وصائل الإعام<br />

الكاسيكية،‏ ووسائل الإعام اجلديد تتطور يف املنطقة<br />

العربية ‏ضمن دوائر مغلقة ول تلتقي،‏ بقدر ما تشهد على<br />

بطء الوصل والتكامل بني املدونات الإلكرتونية ووسائل<br />

الإعام الكاسيكية،‏ مقارنة مبا يجري يف العديد من<br />

الدول املتطورة،‏ كما ذكرنا اآنفا.‏<br />

وتزكي املوؤشرات املذكورة التفكري يف اأشكال تطور<br />

الصحفة العربية املختلفة عن نظريتها الأجنبية،‏ وتعطي<br />

‏شرعية للحديث عن حدود الفصل بني الفضاءين : فضاء<br />

الإعام اجلديد،‏ وفضاء الإعام الكاسيكي،‏ وتستسيغ<br />

اخلطاب عن نهاية الصحفة العربية املتقوقعة على ذاتها<br />

نتيجة دورانها يف فلك السلطة السياسية اأو خضوعها<br />

لسلطة راأس املال الذي يخشى املغامرة والتجديد،‏ هذا<br />

التقوقع يوؤدي بها،‏ مستقبا،‏ اإىل حالة من الفصام مع<br />

جمهورها يف ظل اإزدهار املدونات الإلكرتونية،‏ والإعام<br />

اجلديد،‏ حيث ياحظ توجه الشباب العربي،‏ بشكل<br />

لفت للنظر،‏ اإىل اإستخدام اليوتيب Youtube والفيس<br />

بوك Facebook<br />

يفرتض التمعن يف جتربة الصحيفة ،OhmyNews<br />

التي ‏صدرت يف السنة 2000 يف كوريا اجلنوبية،‏ التي<br />

متلك اأكرب عدد من الصحف الإلكرتونية،‏ ‏ضرورة<br />

تغيري منظور قراءة مستقبل الصحفة.‏ فقد بلغ عدد<br />

مراسلي هذه الصحيفة حوايل 400 األف مراسل،‏ من<br />

اأبحاث


2 0 1 1<br />

156<br />

بينهم 2000 ‏صحايف دائم،‏ والبقية جتسد اإميان<br />

اأصحاب الصحيفة املذكورة باأن كل ‏شخص ميكن اأن<br />

يكون مراسلها املحتمل،‏ وتكافئ ماليا اأحسن الكتابات.‏<br />

ويوجد 600 مراسل باخلارج يشاركون يف اإعداد طبعتها<br />

)93(<br />

بالإجنليزية.‏<br />

ولعل حالة الفصام بني الإعام الكاسيكي<br />

واملدونات الإلكرتونية يف املنطقة العربية هي التي تسد<br />

النظر اأمام كل روؤية ملستقبل الصحفة وفق ما ترسمه<br />

نظرية التحولت يف منظور الصحفة التي طرحناها<br />

اأعاه،‏ لفهم التواصل والنقطاع بني الصحف الإلكرتونية<br />

العربية احلالية ووريقات ‏“العروة الوثقى”،‏ على ‏سبيل<br />

املثال،‏ التي ظهرت يف باريس يف السنة 1884 على يد<br />

جمال الدين الأفغاين وحممد عبده.‏<br />

لعل هذا الفصام هو الذي جعل النقاش حول<br />

الصحفة العربية يف الأوصاط املهنية ولدى بعض<br />

املختصني يرتاوح يف مكانه منذ ما يقارب العقد من<br />

الزمن،‏ رغم اأن العامل يعيش حالة من التفاعل والتكامل<br />

بني الإعام اجلديد:‏ املدونات،‏ الفيس بوك،‏ و البود<br />

كاست ،Podcast واليوتيب،‏ والتوتري،‏ ووسائل الإعام<br />

الكاسيكية،‏ لقد ظل متمحورا حول النهاية احلتمية<br />

للصحف الورقية ، وزخم الصحفة الإلكرتونية.‏ فاأفرز<br />

اجتاهني متعارضني:‏ اجتاه يتباهى بصحة تنبوؤاته<br />

بانقراض هذه الصحف بنغمة التشفي من الذين راهنوا<br />

ويراهنون على بقاء الصحف الورقية.‏ واجتاه يرى،‏ بنوع<br />

من احلنني للماضي،‏ اأن للصحافة مستقباً‏ يف املنطقة<br />

العربية.‏ ومل يتبلور النقاش ليتناول الإشكاليات املعرفية<br />

التالية:‏ ماذا نخسر من انقراض الصحفة الورقية،‏<br />

وماذا نربح من وسائل الإعام اجلديد؟ وهل يُعّد ما<br />

ينشره الناشرون العرب يف الإنرتنت ‏صحافة اإلكرتونية<br />

حقا؟ هل اأن املصاألة تختصر يف الوسيط فقط:‏ ورق<br />

اأو دون ورق،‏ اأو اإن الأمر يتعلق بشكل من التنظيم<br />

والقتصاد واملحتوى وموقع اجلمهور؟ اأي بعبارة اأخرى<br />

ما هو مفهوم الصحفة العربية؟ هل يختصر يف الأداة اأو<br />

الوسيلة؟ هل يقتصر على املضمون؟ هل هي املوؤسسة اأو<br />

املهنة اأو اخلطاب؟<br />

اأخريا،‏ ل مناص من القول باأن الصحفة ل تتطور<br />

بقوة الدفع التكنولوجي مبفرده،‏ على اأهميته،‏ بل تستند<br />

اإىل الستخدام الجتماعي لهذه التكنولوجيا الذي ترفده<br />

جملة من العوامل القتصادية والسياسية والثقافية،‏<br />

التي اأسست لنظرية التحولت يف منظور الصحفة.‏ وعلى<br />

هذا الأساس ميكن اأن نتفهم وضع بعض املتفائلني الذين<br />

فقدوا الصرب من مياد الثورة الثقافية والسياسية<br />

التي يحدثها التدوين الإلكرتوين،‏ وبقية اأدوات الإعام<br />

اجلديد يف املنطقة العربية.‏<br />

حتى يكتسب تغيري املنظور كل حمتواه لقراءة علمية<br />

وشاملة لتطور الصحفي يجب اأن يتكئ على مقاربة<br />

منهجية واضحة جتسد الروؤية ملتغريات قطاع الإعام<br />

والتصال.‏ ومنيل اإىل العتقاد باأن املقاربة التواصلية<br />

كفيلة بذلك،‏ لأنها ل حتلل تطور وسائل الإعام مبنطق<br />

تعاقبي،‏ بل ‏ضمن اأفق تداويل متزامن.‏ فاملقاربة<br />

التصالية لظاهرة ما تتجلى يف حتليلها كعنصر يف نظام<br />

)94(<br />

يساهم ‏ضمن حركة دائرية يف بروز ظاهرة اأخرى.‏


157<br />

2 0 1 1<br />

الهوامش واالإحاالت<br />

ل نقصد باملنظور الرتجمة العربية للمفاهيم الأجنبية perspective اأو ، Horizon بل اإننا نقرتحه كبديل عربي<br />

للمفهوم الأجنبي:‏ ، Paradigm وParadigme ، والذي يتكرر استخدامه يف منت هذه الدراسة.‏<br />

اإن هذا القرتاح ليس اعتباطيا،‏ بل قام على دراسة متاأنية ومقارنة جلل الرتجمات العربية ل ،Paradigm الذي تعود<br />

جذوره اإىل اللغة اليونانية.‏ وهو كلمة مركبة من Para وتعني القريب،‏ و digm وتعني النموذج . لقد فضلنا هذا البديل<br />

مقتفني اأثر فخري ‏صالح فيما ذهب اإليه.‏ فراجعنا ترجمة كمال ابو ديب لكتاب اإدوارد ‏سعيد املعنون بالستشراق )1984(<br />

ولحظنا اأنه ترجم Paradigm ب ‏)املَنسَ‏ ق(‏ و)‏ منوذج كلي(‏ وعربه ‏سعيد الغامني ب ‏)التبادل(‏ يف ترجمته لكتاب<br />

روبرت ‏شولز املعنون السيمياء والتاأويل)‏‎1994‎‏(،‏ وعربه ‏سعيد بن كريد ب ‏)اجلذر(‏ يف كتابه مدخل اىل السيميائيات<br />

السردية)‏‎1991‎‏(،‏ وعربه يوسف الصديق ب ‏)اجلدول(‏ يف كتابه املفاهيم واللفاظ الفلسفية )1976(. اأما استعماله<br />

يف منت الدرس الإعامي العربي فاإنه يتاأرجح بني احلفاظ عليه كما ورد يف اللغة اليونانية،‏ اأي براديغم اأو استبداله ب<br />

‏»النموذج املرجعي«‏ .<br />

انظر:‏ فخري ‏صالح:‏ اإشكالية املصطلح يف النقد العربي املعاصر،‏ امللحق الثقايف،‏ ‏صحيفة اخلليج،‏ الإمارات العربية<br />

املتحدة،‏ 31 مايو 2004<br />

1- RSS وتعّد اختصارا ل Summary( ) Rich Site الفهرس الرثي ملوقع اإلكرتوين يف ‏شبكة الإنرتنت.‏ وهو عبارة<br />

عن ملف نصي يحتوي على عناوين املقالت الأخرية التي نشرت يف الشبكة،‏ وكذا الوصات الإلكرتونية اإليها.‏<br />

فهذا امللف يتجدد دوريا من اأجل حتديث عملية الفهرسة.‏ :MetaWeblog API هو بروتوكول التصال بني برامج<br />

املدونات الإلكرتونية.‏<br />

2 - Pisani Francis: Internet saisi par la folie des « weblogs, le monde diplomatique, aôut 2003<br />

- 3 ياحظ كل دارس لعلوم الإعام والتصال اأن مفهوم الصحافة يف اللغة العربية يقتصر على الصحافة املكتوبة،‏<br />

وبهذا فاإنه يختلف عن مفهوم Presse يف اللغة الفرنسية الذي ‏شحذته ‏صحافة الراأي ليتضمن بعدا ‏سياسيا ويعني<br />

التعبري عن راأي اأو موقف.‏ وبهذا فاإنه يختلف عن مفهوم Journalisme الذي يشمل كل من عمل ومنتح وسائل<br />

الإعام املختلفة:‏ ‏صحافة،‏ راديو،‏ تلفزيون.‏ بينما يلتقي املفهومان – Press وJournalism يف اللغة الجنليزية<br />

للتعبري عن واقع واحد وميكن اختصاره،‏ يف جمع ونشر املادة الإعامية يف خمتلف املوؤسسات الإعامية.‏ وقد<br />

استعمل الباحث جون ‏شارون Jean Charron مفهوم Journalism يف معناه العام والذي يحيل اإىل اجلريدة<br />

journal التي تتجاوز يف معناها العام النمط املكتوب،‏ لتمتد اإىل اجلريدة املصورة اأو النشرة املتلفزة.‏ وبهذا فاإنه<br />

ل يرتبط بالوسيلة بقدر ما يقرتن باملمارسة الغائرة يف التاريخ التي تقع يف نقطة التقاطع بني اللسانيات والتاريخ<br />

وعلم الجتماع،‏ اأنظر:‏<br />

Charron Jean : Les mutations paradigmatiques du journalisme, intervention lors des assises sur le<br />

journalisme par le Centre d’Etudes Littéraires et Scientifiques Appliquées et le Réseau d’études sur<br />

le journalisme, Paris, Retrieved june 12, 2009 from : http//www.surlejournalisme.com/wp-content/<br />

uploads/2007/06/expose-sur-les-mutations-paradigmatiques.pdf<br />

4- ميكن مشاهدة هذا الفيلم على ‏شبكة النرتنت على املوقع التايل<br />

http://idorosen.com/mirrors/robinsloan.com/epic/ols-master.html<br />

5 - Missika Jean-Louis: La Fin de la télévision le Seuil 2006(108 pages)<br />

6 - Fogel Jean-François, Patino Bruno: Une presse sans Gutenberg; Grasset & Fasquelle, 2005 p<br />

26<br />

اأبحاث


2 0 1 1<br />

158<br />

7 - Bachelard Gaston :La formation de l’esprit scientifique. Contribution à une psychanalyse de<br />

la connaissance objective, Paris, Librairie philosophique Vrin, 1975 P 57<br />

8 - Ternisien Xavier : Internet et conjoncture publicitaire obligent la presse américaine à se<br />

repenser, Le monde, France, 11 may 2009<br />

9- هذا ما اأكده الصحايف ‏“سكلرب اأوغست”‏ Augustin Scalbert بالصحيفة الإلكرتونية الفرنسية Rue89 يف<br />

الربنامج الإذاعي املسمى InMedia حول الصحافة،‏ والذي بثته اإذاعة طلبة معهد العلوم السياسية التي تاأسست<br />

يف دميسرب 2008، مسرتجع بتاريخ 01 مايو 2008 من:‏<br />

http://www.inmedia-lesite.fr/?p=827<br />

10 - Ternisien Xavier; Ibid<br />

11- يوؤكد استاذ الإعام يف جامعة لفال بكندا،‏ ‏شارو جون Jean Charron اأن نظرية التحولت يف النماذج النظرية<br />

للصحافة هي ثمرة حوار فكري بداأه منذ عشر ‏سنوات مع الأستاذ جون دو بونفيل de Jean Bonville ومل يكتمل<br />

بعد.‏ اأنظر : نص مداخلته التي قدمها يف اليوم الدراسي بعنوان:‏ ‏“نظرات متقاطعة حول الرهانات املعاصرة<br />

للصحافة والذي انعقد بتاريخ 1 يونيو ، 2007 مسرتجع بتاريخ 71 مارس 2009 من:‏<br />

http:<br />

//www.surlejournalisme.com/wp-content/uploads/2007/06/expose-sur-les-mutationsparadigmatiques.pdf.<br />

12 - Attalah Paul : Theories de la communication, Sens, Sujet, Savoirs, ed presse de l’universite du<br />

Quebec, tele-universite – Canada; 1991;p 19<br />

13 - CHARRON, Jean et Jean DE BONVILLE: « Le paradigme du journalisme de communication:<br />

essai de définition ». Communication, vol. 17, No 2. 1996 P. 71<br />

14 - Attalah Paul, Ibid, p 23<br />

15 - Mouillaud Maurice, Tétu Jean-François : Le Journal quotidien, lyon, Presses universitaires;<br />

1989; (204 pages)<br />

16 - Chaussée frédérik: Les changements des pratiques journalistiques au Quebec à travers l’etudes<br />

des titres et amorces: la presse ( 1945-1995), mémoires de maitre és art –M A- département d<br />

information et de communication; faculté des lettres; 2007 ( 142 pages)<br />

17 - CHARRON, Jean et Jean De Bonville, Ibid, p 73<br />

18- ميكن الإشارة،‏ من باب الدقة،‏ اإىل اأن بعض املساهمات النظرية التي تنفي الطابع العلمي للبنائية يف جمال<br />

Gauthier<br />

التصال،‏ والصحافة حتديدا،‏ وتوصف باأنها اإيديولوجية،‏ اأنظر:‏<br />

Gilles : Critique du constructivisme, Revue Communication en questions de<br />

communication : Numero 3- P 185-198 Retrieved, April 21,2009 from http://www.ques2com.<br />

fr/index.php?p=details&cat=recherche&type=article&revue=25&id=392<br />

19- بعد اأن انخفض عدد قرائها اإىل 117.600 قارئ يومي،‏ قررت الصحيفة التوقف عن الإصدار يف ‏شكل ورقي<br />

واقرتحت على ‏صحفييها الستمرار يف العمل لإصدار طبعة اإلكرتونية التي ‏صدرت يوم 17 مارس 2009 متضمنة<br />

العنوان التايل:‏ -One Era Ends, Another Begins اأنظر:‏<br />

Inparis James : Le Seattle Post-Intelligencer : fin et début, France, Retrieved, April 21,2009 from<br />

http://www.mediapart.fr/club/blog/jamesinparis/170309/le-seattle-post-intelligencer-fin-et-début<br />

20 - Seelye, Katharine.Q :White House Approves Pass for Blo-Ger, New York Times. Retrieved<br />

8 may, 2009, from http://www.nytimes.com/2005/03/07/technology/07press.html?_r=1<br />

21 يعرتف ‏»بيز ‏ستون«‏ ،Biz Stone الشريك يف تاأسيس التويرت،‏ اأن هذا الأخري ل ينافس وسائل الإعام الكاسيكية،‏<br />

بل يكملها.‏ حقيقة اأن بعض الأحداث ‏سمحت لتويرت بتجاوز وكالت الأنباء.‏ ويُعد تويرت الأفضل يف نقل الأحداث<br />

املستعجلة ،breaking news لكن ل يستطيعه اأن يبلور الأخبار ويحدد اأفقها،‏ ويحلل الأحداث مثلما تفعل وسائل<br />

الإعام الكاسيكية.‏ اأنظر:‏


159<br />

2 0 1 1<br />

اأبحاث<br />

Biz Stone :Testons les usages commerciaux de Twitter, Propos recueillis par Laurence Girard, in<br />

Le monde, 24 juin 2009<br />

ميكن اأن نذكر،‏ على ‏سبيل املثال،‏ وليس احلصر،‏ النظم الذي نشرته ‏صحيفة اأمني ناصر الشامية عن حرب<br />

22- البوير،‏ وموت ملكة بريطانيا ( 1901( ورفض جملس النواب لتويل اإبنها املجلس النيابي والذي جاء فيه:‏<br />

جرى يف جملس النواب ‏شيء يدل على التعصب يف الأمور فاإن رئيسه اأسدى مديحا اإىل فكتوريا ذات السرير<br />

فحزب الراديكال استاء منه واأصبح يف غيظ كبري فصرخوا كلهم غيظا وحنقا ليحيا مظفرا ‏شعب البوير<br />

اأنظر:‏ ‏سعيد الأفغاين ( 1983(، اخلرب الإعامي،‏ جملة الإعام العربي،‏ تونس،‏ عدد ديسمرب.‏<br />

23 - Ringoot R, Utard J.M :Le journalisme en invention, nouvelles pratiques nouveaux<br />

acteurs,Rennes, Presses Universitaires; coll. Res Publica, 2005; pp. 40-41<br />

24 - Blondeau Olivier: Become The Media ! Du Post-Media au Médiascape, intervention au<br />

colloque :Internet, Culture, and Society : French and American Perspectives, les 18-19-20<br />

novembre 2004 à l’Université d’Austin (Texas, EU). Retrieved, May 10, 2009 from http://<br />

www.freescape.eu.org/biblio/article.php3?id_article=214<br />

25 - Chaussée frédérik: Ibid,<br />

26 - Charron Jean: Les mutations paragmatiques du journqlisme; Retrieved, May 10, 2009 from<br />

http recherche.telecom-bretagne.eu/.../expose-sur-les-mutations-paradigmatiques.pdf<br />

27 - Martin Stéphanie: Vérité et objectivité journalistique, même contestation ; les cahiers du<br />

journalisme NO13 ; printemps; 2004 ( p 144-163)<br />

28 - Foucault, Michel: La fonction politique de l’intellectuel», in Dits et Ecrits II, 1976-1988,<br />

Editions Gallimard, Paris, 2001; p. 114<br />

29 - Blondeau Olivier: Ibid,<br />

30 - GenèseJean-Utard Michel :Dispersion et réinvention permanente du journalisme,intervention<br />

lors des des journées d’études intitulées: Regards croisés sur les enjeux contemporains<br />

du journalisme; Retrieved, march 24,2009, from http://www.surlejournalisme.com/<br />

regardscroises/1er-juin-2007/<br />

31 - Tredan Olivier :Le « journalisme citoyen » en ligne : un public réifié ? Hermès, CNRS<br />

Editions, france, n° 47, 2007; p. 115-122<br />

32 - Signouret Muriel: Les médias face au défi de l’info 2.0, Stratégies Magazine n°1431, 26 oct.<br />

Retrieved, April 21,2009, from http://www.strategies.fr/articles/r42521W/les-medias-faceau-defi-de-l-info-2-0.html<br />

33 - Rebillard F : L’information journalistique sur l’internet, entre diffusion massmédiatique<br />

et circulation réticulaire de l’actualité », in Broudoux E., Chartron G., (dir.),Document<br />

numérique et société – Actes du colloque DocSoc 06, Paris : ADBS Editions, pp. 213-226.<br />

Retrieved, march 28,2009 from : http://archives.univ-lyon2.fr/171/<br />

هذا ما عرب عنه ‏»فايو فريدك«‏ Frédéric Filloux مصوؤول نشر جريدة Minutes 20 الفرنسية يف الربنامج<br />

34- الإذاعي املسمى ،InMedia مرجع ‏سابق.‏<br />

الصادق احلمامي:‏ نهاية اجلمهور،‏ مسرتجع بتاريخ 10 مايو - 2007<br />

من املوقع:‏ 35- http://www.arabmediastudies.net/index.php?option=com_content&task=view&id=182&Itemid=101<br />

36 - Idem<br />

37- الصادق رابح : املصدر ذاته.‏<br />

38 - Jeanneret Yves : Dispositif; Retrieved, march 24,2009, from ensmp.net/pdf/2005/glossaire/<br />

dispositif.doc<br />

39- الصادق احلمامي:‏ الإعام اجلديد،‏ مقاربة تواصلية،‏ جملة احتاد الإذاعات العربية،‏ تونس،‏ عدد - 2006 4 ‏ص<br />

3- 14


2 0 1 1<br />

160<br />

40 - Pisani Francis, Ibid.<br />

-41 نقا عن « terminologique “ Le grand dictionnaire مُ‏ ‏سرتجع بتاريخ 10 اأبريل 2009 من http://www.<br />

granddictionnaire.com/BTML/FRA/r_Motclef/index800_1.asp<br />

42 متت الستعانة يف هذا التصنيف مبداخلة الباحثني دولوين اإيان Hélèneو Cardon Dominique كردو دومنيك<br />

،Cardon Delaunay اأنظر:‏<br />

Dominique Cardon, Delaunay Hélène : Un essai de typologie des blogs par leur public, intervention<br />

lors des journées Communication et apprentissage instrumente en réseau, 27,28,29 aout,<br />

Amiens France. Retrieved, April 21, 2009 from http//:www.dep.u-picardie.fr/jocair/resume/<br />

Production_de_soi_comme_technique_relationnelle.ppt<br />

43 الصادق رابح،‏ املصدر ذاته.‏<br />

44 - Pisani Francis :Internet saisi par la folie des « weblogs, le monde diplomatique, aôut 2003<br />

45 - Cabanis Alexandre: Médias traditionnels et acteurs du Web 2.0; vers la cohabitation ou la<br />

convergence des acteurs de l’information et du divertissement ? These professionnelle, HEC<br />

Paris, Retrieved, February 29,2009, from: http://www.mediafire.com/?7ygmwwjz0cm<br />

- 46 بعض العناصر اخلاصة باملدونة مستلهمة من املصدر التايل:‏<br />

Couve Phillipe : Comment le blog renouvelle le journalisme, école de journalisme de science<br />

politique, Retrieved, February 29,2009, from http://www.slideshare.net/phcouve/commentle-blog-renouvelle-le-journalisme-presentation.<br />

47 - Ramonet Ignacio: Medias en crise, Le monde Diplomatique, frnace, Janvier 20005<br />

48 - Dominique Cardon, Delaunay Hélène; Ibid,<br />

49 - Ibid,<br />

- 50 تتفق خمتلف القواميس اخلاصة بالنرتنت اأو التصال على هذا التعريف،‏ اأنظر:‏<br />

Agence Conseil de communication (2009): lexique de communication. Retrieved, march 24,2009,<br />

from http://www.natcom.fr/lexique/B.html.<br />

51 : -TV5 monde: Blogsphere, lexique ( 2003). Retrieved, march 24,2009, from http://www.tv5.<br />

org/TV5Site/blogosphere/glossaire_blogosphere.php<br />

ميكن الشارة اإىل اأن املوقعني ، Weblogs.com وblo.gs يسمحان مبتابعة عملية استحداث املدونات.‏ واملوقع<br />

Weblogues.com يسمح فقط مبتابعة ما يستحدث يف الفضاء التدويني الفرنكفوين فقط .<br />

75 - Bougnoux Daniel: La fonction des médias dans la démocratie, les Cahiers français, n 338, maijuin<br />

2007; Pages ) 3-7) Retrieved, march 24,2009, from http://www.ladocumentationfrancaise.<br />

fr/spip/IMG/pdf/338-bougnoux.pdf<br />

76 - Dominique Cardon, Delaunay Hélène; op cite<br />

77- نصر الدين لعياضي:‏ فضاء عمومي اأم خميال اإعامي،‏ مقاربة نظرية لتمثل التلفزيون يف املنطقة العربية،‏ حولية<br />

العلوم الجتماعية،‏ جامعة الكويت-‏ ‏سيصدر يف ‏شهر ‏سبتمرب 2011<br />

- 78 هذا ما ‏صرح به اأحد املدونني يف الربنامج Compus الذي تبثه القناة الفرنسية الثانية يوم 21 ‏سبتمرب 2007،<br />

نقا عن املقال ا ملعنون ? media Blogs: un nouveau مسرتجع بتاريخ 24 اأكتوبر 2007 من:‏<br />

http://info.france2.fr/dossiers/medias/14338334-fr.php?page=accueil<br />

79- هذا ما اأكده Paul Grabowicz اأستاذ املدونات الإلكرتونية يف جامعة بريكلي الأمريكية،‏ نقا عن Francis<br />

( Pisani مصدر ‏سابق )<br />

80 - Charron Jean, Loïc Jacob :Énonciation journalistique et subjectivité: les marques du<br />

changement Revue les Études de communication publique : no 14, Département d’information<br />

et de communication; Université Laval; Québec; 1999; P 5-75


161<br />

2 0 1 1<br />

39- ميكن الرجوع اإىل املتابعات التلفزيونية التي ينشرها كل من توفيق رباحي وسليم عزوز يف القدس العربي ليكتشف<br />

انصرافهما عن متطلبات املوضوعية واحلياد التي كانت تعد من الركان الأساسية يف مهنة الصحافة.‏<br />

40 - Benoît Raphaël : Comment les blogueurs ont révolutionné le journalisme ? Retrieved,<br />

august 20,2008, from http ://benoit-raphael.blogspot.com/2008/05/comment-les-blogueursont-rvolutionn-le.html<br />

ميكن الشارة اإىل اأن Rue89 هي ‏صحيفة اإلكرتونية اأنصاأها ‏صحافيون من ‏صحيفة Libération يوم 6 مايو 2007<br />

للإعام واحلوار حول النتخابات الرئاسية الفرنسية.‏<br />

41- Benoît Raphaël : Comment les blogueurs ont révolutionné le journalisme ? Retrieved,<br />

august 20,2008, from http ://benoit-raphael.blogspot.com/2008/05/comment-les-blogueursontrvolutionn-le.html<br />

42- François Guillot: Les médias en ligne et leurs politiques de blogs; Retrieved, august, 20,2008,<br />

from http://internetetopinion.wordpress.com/2008/11/30/les-medias-en-ligne-et-leurspolitiques-de-blogs/<br />

43- حسب الدراسة املوسومة:‏ وسائل الإعام املتواجدة يف ‏شبكة النرتنت وسياستها يف جمال املدونات الإكرتونية،‏<br />

التي اأعدها كل من ، François Guillot و Emmanuel Bruant ونشراها بتاريخ 30 نوفمرب 2008، مسرتجع<br />

بتاريخ 11 ديسمرب 2008 من :<br />

http ://internetetopinion.wordpress.com/2008/11/30/les-medias-en-ligne-et-leurs-politiques-deblogs.<br />

44 - Phillipe couve ; Ibid,<br />

45- بهذه الكلمات عرّ‏ ف املوقع املذكور هدفه،‏ اأنظر:‏<br />

اأبحاث<br />

http://fr.globalvoicesonline.org<br />

46- ياسر اأبو هالة : عامان من التدوين،‏ مسرتجع بتاريخ 11 مارس 2009، من املوقع :<br />

http://arabicos.blogspot.com/2009/04/blog-post_9036.html<br />

47- ميكن اأن نذكر،‏ على ‏سبيل املثال،‏ مدونتني الأويل خاصة بالصحفيني الفرنسيني والثانية بالصحفيني الأمريكيني،‏<br />

وهما:‏<br />

http://www.presseencolere.org<br />

http://angryjournalist.com<br />

48- Pisani Francis; Ibid,<br />

49- Ibid<br />

50- Debouté Alexandre : Peut-on vivre de son blog ? Retrieved, May 11, 2009, from http://www.<br />

strategies.fr/etudes-tendances/dossiers/r45495/peut-on-vivre-de-son-blog.html<br />

70- http://fr.wikipedia.org/wiki/You_Tube/ Retrieved March 21,2009<br />

71- http://fr.wikipedia.org/wiki/myspace/ Retrieved March 21,2009<br />

72- http://fr.wikipedia.org/wiki/ Facebook. Retrieved March 21,2009<br />

73- Mattelard Armand , Ibid,<br />

- 74 جاسم حممد جابر:‏ الصحافة اللكرتونية العربية:‏ املعايري الفنية واملهنية،‏ دراسة حتليلية لعينة من الصحف<br />

الإلكرتونية العربية،‏ اأبحاث املوؤمتر الدويل الأول،‏ العام اجلديد،‏ تكنولوجيا جديدة .. لعامل جديد،‏ جامعة<br />

البحرين،‏ 7-9 اأبريل 2009 ‏ص )412-391(<br />

75- Al Malky Rania :Blogging for reform: the case of Egypt, Retrieved, May 10, 2009 from:<br />

http://www.arabmediasociety.com/?article=12<br />

76- Zouari Khaled (2005): Publics et usages de la presse maghrébine francophone sur l’Internet,<br />

les GRESEC (Université Stendhal Grenoble 3), Retrieved, march 28,2009 from, http://www.<br />

gdrtics.uparis10.fr/pdf/doctorants/papiers_2005/KhaledZouari.pdf


2 0 1 1<br />

162<br />

- 77 حسب اإحصائيات السنة 2008، نقا عن املوقع املختص يف الحصائيات املتعلقة باستخدام النرتنت:‏<br />

‏:أنظر ، internetworldstats.com<br />

Top Ten Languages Used in the Web, (Number of Internet Users by Language) Retrieved, march<br />

21,2009 from http://www.internetworldstats.com/stats7.htm .<br />

78- حسب اإحصائيات السنة 2008، نقا عن املوقع املختص يف الحصائيات املتعلقة باستخدام النرتنت:‏<br />

‏:أنظر ، internetworldstats.com<br />

Middle East Internet Usage and Population Statistics, Retrieved, march 21,2009 http://www.<br />

internetworldstats.com/stats5.htm<br />

- 79 نقا عن : « الإنرتنت يف املغرب العربي:‏ الواقع واملعوقات«‏ مُ‏ ‏سرتجع بتاريخ 19 مارس 2009 من:‏<br />

http://knol.google.co.kr/k/-/-/nuwt25le1ayl/9#<br />

80- مصطفى ‏سامل:‏ نشر با حدود لكن بخوف،‏ دراسة مسحية للمدونات والتدوين،‏ الرابطة العربية للثقافة،‏ دبي.‏<br />

مسرتجع بتاريخ 1 مايو 2009 من:‏<br />

http://arabicos.blogspot.com/2009/02/blog-post_9043.html<br />

81 - Ibid<br />

82- Ibid<br />

83- Patrice Claude :Egypte : les rebelles de la Toile, LE MONDE, France; 11mars 2009<br />

84- فايز بن عبد اهلل الشهري:‏ واقع ومستقبل الصحف اليومية على ‏شبكة النرتنت ‏...دراسة مسحيّة ‏شاملة على<br />

روؤساء حترير الصحف السعودية ذات الطبعات اللكرتونية،‏ بحث مقدم لندوة ‏“الإعام السعودي ‏سمات الواقع<br />

و اجتاهات املستقبل ‏«املنتدى الإعامي الأول-‏ اجلمعية السعودية للإعام والتصال الرياض/‏ جامعة امللك<br />

‏سعود - مارس ‎20-25‎مارس/‏‎2003‎م ، مسرتجع بتاريخ 1 مايو 2009، من املوقع:‏ http://www.e3lami.com/<br />

innerarticles.php?articleid=919&id=39<br />

85- اأمل قرامي ، املصدر ذاته<br />

86- املصدر ذاته.-‏<br />

87- اأمين حامد:‏ باول كاريدي:‏ املدونون العرب هم اأفضل من يصفون الواقع العربي املعقد،‏ ‏صحيفة الشرق الأوسط<br />

16 يناير،‏ مسرتجع بتاريخ 11 فرباير 2009، من:‏ http://www.aawsat.com/details.asp?section=19&a<br />

rticle=454219&issueno=10641<br />

88- Al Malky Rania. Ibid,<br />

89- Lynch Mark (2007): blogging the new Arab public, Retrieved 21, may, 2009, from:<br />

http://www.arabmediasociety.com/?article=10<br />

- 90 هذا ما اأكدته الصحافية واملدونة وفاء بنت خلفان،‏ يف مقابلة مع الباحث اأجريت يف كلية البنات،‏ بجامعة الشارقة،‏<br />

يوم 3 مايو 2009 على الساعة الثالثة ظهرا.‏<br />

91- خلف علي اخللف:‏ مدونات اإياف،‏ مفهوم اآخر للصحافة التفاعلية ، اخلميس 19 يونيو.‏ مسرتجع بتاريخ 16<br />

فيفري 2009 من:‏<br />

www.elaph.com/Web/Oyoon/2009/4/429097.htm<br />

92- احتفالً‏ بالذكرى السابعة لتاأسيسها:‏ اياف تطلق خدمة املدونات،‏ مسرتجع بتاريخ 16 فيفري 2009<br />

http://www.elaph.com/Web/Oyoon/2009/4/429079.htm<br />

93- lemeur Loïc: Les blogs contre le journalisme, Retrieved 21, february ,2009,from :<br />

http://loiclemeur.com/france/2005/09/les_blogs_contr.html<br />

94- Mucchielli Alex :Les sciences de l’information et de la communication, Hachette livre,<br />

Paris. 1995; P 45


163<br />

2 0 1 1<br />

املصادر واملراجع<br />

1-<br />

2-<br />

3-<br />

4-<br />

5-<br />

6-<br />

7-<br />

8-<br />

9-<br />

الكتب االجنبية:‏<br />

Attalah, Paul. Théories de la communication, Sens, Sujet, Savoirs, Canada : Ed presse de<br />

l’université du Québec, télé-université ,1991<br />

Bachelard, Gaston. La formation de l’esprit scientifique, Contribution à une psychanalyse de<br />

la connaissance objective. France :Librairie philosophique Vrin, 1975<br />

Chaussée, frédérik. Les changements des pratiques journalistiques au Québec à travers l’etudes<br />

des titres et amorces: la presse ( 1945-1995), mémoires de maitre és art –M A- département d<br />

information et de communication. France :faculté des lettres, 2007<br />

Fogel, Jean-François, and Patino Bruno. Une presse sans Gutenberg. France :Grasset &<br />

Fasquelle, 2005<br />

Foucault, Michel. La fonction politique de l’intellectuel», in Dits et Ecrits II, 1976-1988 .<br />

France : éditions Gallimard, 2001<br />

Missika Jean-Louis. La Fin de la télévision. France :Le Seuil, 2006<br />

Mouillaud, Maurice, and Tétu, Jean-François .Le Journal quotidien. France : Presses<br />

universitaires, 1989<br />

Mucchielli, Alex .Les sciences de l’information et de la communication. France : Hachette<br />

livre, 1995<br />

Ringoot R, and Utard J.M . Le journalisme en invention, nouvelles pratiques nouveaux<br />

acteurs. France : Presses Universitaires; coll. Res Publica, 2005<br />

الدوريات:‏<br />

‏•الأفغاين،‏ ‏سعيد،‏ اخلرب الإعامي،‏ جملة الإعام العربي،‏ تونس،‏ عدد ديسمرب 2003<br />

احلمامي،‏ الصادق،‏ الإعام اجلديد،‏ مقاربة تواصلية،‏ جملة احتاد الإذاعات العربية،‏ تونس،‏ عدد (2006<br />

‏•صالح،‏ فخري،‏ اإشكالية املصطلح يف النقد العربي املعاصر،‏ امللحق الثقايف،‏ ‏صحيفة اخلليج،‏ الإمارات العربية<br />

املتحدة،‏ 31 مايو 2004<br />

‏•لعياضي،‏ نصر الدين،‏ فضاء عمومي اأم خميال اإعامي،‏ مقاربة نظرية لتمثل التلفزيون يف املنطقة العربية،‏<br />

حولية العلوم الجتماعية،‏ جامعة الكويت-‏ ‏سيصدر يف ‏شهر ‏سبتمرب 2011<br />

اأبحاث<br />

) •<br />

10-<br />

11-<br />

12-<br />

13-<br />

14-<br />

15-<br />

16-<br />

17-<br />

18-<br />

Biz Stone .Testons les usages commerciaux de Twitter, Propos recueillis par Laurence Girard.<br />

Le monde, 24 juin 2009<br />

CHARRON, Jean, and Jean, De Bonville. « Le paradigme du journalisme de communication :<br />

essai de définition ». Communication, vol. 17, No 2 ( 1996) : 51-97<br />

Charron, Jean and Loïc , Jacob. Énonciation journalistique et subjectivité: les marques du<br />

changement, Revue les Études de communication publique : no 14, (1999) : 5-75<br />

Gauthier, Gilles. Critique du constructivisme, Revue Communication en questions, No 3<br />

(2003) : 185-198<br />

Martin , Stéphanie. Vérité et objectivité journalistique, même contestation .Les cahiers du<br />

journalisme, NO13 ( 2004) : 24-39<br />

Patrice, Claude. Egypte : les rebelles de la Toile. LE MONDE,; 11mars 2009<br />

Pisani, Francis. Internet saisi par la folie des « weblogs, Le monde diplomatique, août 2003<br />

: 8-9<br />

Ramonet, Ignacio: Medias en crise. Le monde Diplomatique, Janvier ( 20005) : 26-27<br />

Ternisien, Xavier. Internet et conjoncture publicitaire obligent la presse américaine à se


2 0 1 1<br />

164<br />

19-<br />

repenser, Le monde, France, 11 mai 2009<br />

Ternisien, Xavier. Internet et conjoncture publicitaire obligent la presse américaine à se<br />

repenser, Le monde, France, 11 mai 2009<br />

املصادر الإلكرتونية:‏<br />

‎2‎احلمامي،‏ 020 الصادق،‏ نهاية اجلمهور،‏ مسرتجع بتاريخ 10 مايو 2007<br />

http://www.arabmediastudies.net/index.php?option=com_content&task=view&id=18Itemid=101<br />

‎2‎رابح،‏ 121 الصادق،‏ املدونات والوسط الإعامية:‏ بحث يف الوصل والفصل،‏ اأبحاث املوؤمتر الدويل الأول،‏ الإعام<br />

اجلديد:‏ تكنولوجيا جديدة...‏ لعامل جديد،‏ جامعة البحرين،‏ 7- 9 اأبريل ( 2009 ‏ص‎7‎ 43- 558( مسرتجع بتاريخ 2<br />

مايو 2009 من املوقع:‏ www.nmconf.uob.edu.bh/download/book/arabic.pdf//<br />

‎2‎اأبو 222 هالة،‏ ياسر،‏ عامان من التدوين،‏ مسرتجع بتاريخ 11 مارس 2009، من املوقع : http://arabicos.<br />

blogspot.com/2009/04/blog-post_9036.html<br />

‎2‎‏سامل،‏ 323 مصطفى،‏ نشر با حدود لكن بخوف،‏ دراسة مسحية للمدونات والتدوين،‏ الرابطة العربية للثقافة،‏<br />

دبي.‏ مسرتجع بتاريخ 1 مايو 2009 من:‏ http://arabicos.blogspot.com/2009/02/blog-post_9043.html<br />

‎2‎بن 424 عبد اهلل الشهري،‏ فايز،‏ واقع ومستقبل الصحف اليومية على ‏شبكة النرتنت ‏...دراسة مسحيّة ‏شاملة<br />

على روؤساء حترير الصحف السعودية ذات الطبعات اللكرتونية،‏ بحث مقدم لندوة ‏“الإعام السعودي ‏سمات الواقع<br />

و اجتاهات املستقبل ‏«املنتدى الإعامي الأول-‏ اجلمعية السعودية للإعام والتصال الرياض/‏ جامعة امللك ‏سعود -<br />

مارس ‎20-25‎مارس/‏‎2003‎م ، مسرتجع بتاريخ 1 مايو 2009، من املوقع:‏ http://www.e3lami.com/innerarticles.<br />

php?articleid=919&id=39<br />

25- Agence Conseil de communication. Lexique de communication. Retrieved, march 24,2009,<br />

from http://www.natcom.fr/lexique/B.html.<br />

26- Al Malky, Rania .Blogging for reform: the case of Egypt, Retrieved, May 10, 2009 from<br />

http://www.arabmediasociety.com/?article=12<br />

27- Benoît, Raphaël . Comment les blogueurs ont révolutionné le journalisme ? Retrieved,<br />

august 20,2008, from http ://benoit-raphael.blogspot.com/2008/05/comment-les-blogueursont-rvolutionn-le.html<br />

28- Blondeau, Olivier. Become The Media ! Du Post-Media au Médiascape . intervention au<br />

colloque :Internet, Culture, and Society : French and American Perspectives, les 18-19-20<br />

novembre 2004 à l’Université d’Austin (Texas, EU). Retrieved, May 10, 2009 from http://<br />

www.freescape.eu.org/biblio/article.php3?id_article=214<br />

29- Bougnoux. Daniel. La fonction des médias dans la démocratie, les Cahiers français, n 338,<br />

mai-juin 2007 :) 3-7) Retrieved, march 24,2009, from http://www.ladocumentationfrancaise.<br />

fr/spip/IMG/pdf/338-bougnoux.pdf<br />

30- Cabanis, Alexandre. Médias traditionnels et acteurs du Web 2.0; vers la cohabitation ou la<br />

convergence des acteurs de l’information et du divertissement ? These professionnelle, HEC<br />

Paris, Retrieved, February 29,2009, from: http://www.mediafire.com/?7ygmwwjz0cm<br />

31- Charron, Jean .Les mutations paradigmatiques du journalisme, intervention lors des assises<br />

sur le journalisme par le Centre d’Etudes Littéraires et Scientifiques Appliquées et le Réseau<br />

d’études sur le journalisme, Paris, Retrieved june 12, 2009 from : http//www.surlejournalisme.<br />

com/wp-content/uploads/2007/06/expose-sur-les-mutations-paradigmatiques.pdf<br />

32- Couve, Phillipe. Comment le blog renouvelle le journalisme ? école de journalisme de science


165<br />

2 0 1 1<br />

politique, Retrieved, February 29,2009, from http://www.slideshare.net/phcouve/commentle-blog-renouvelle-le-journalisme-presentation.<br />

33- Debouté Alexandre : Peut-on vivre de son blog ? Retrieved, May 11, 2009, from http://www.<br />

strategies.fr/etudes-tendances/dossiers/r45495/peut-on-vivre-de-son-blog.html<br />

34- Dominique, Cardon and Delaunay, Hélène . Un essai de typologie des blogs par leur public,<br />

intervention lors des journées Communication et apprentissage instrumente en réseau,<br />

27,28,29 aout, Amiens France. Retrieved, April 21, 2009 from http//:www.dep.u-picardie.fr/<br />

jocair/resume/Production_de_soi_comme_technique_relationnelle.ppt<br />

35- François, Guillot. Les médias en ligne et leurs politiques de blogs; Retrieved, august,<br />

20,2008, from http://internetetopinion.wordpress.com/2008/11/30/les-medias-en-ligne-etleurs-politiques-de-blogs/<br />

36- Genèse ,Jean and Utard Michel. Dispersion et réinvention permanente du journalisme,i<br />

ntervention lors des journées d’études intitulées: Regards croisés sur les enjeux contemporains<br />

du journalisme; Retrieved, march 24,2009, from http://www.surlejournalisme.com/<br />

regardscroises/1er-juin-2007/<br />

37- http://idorosen.com/mirrors/robinsloan.com/epic/ols-master.html<br />

38- http://fr.wikipedia.org/wiki/myspace/ Retrieved March 21,2009<br />

20-http://fr.wikipedia.org/wiki/You_Tube/ Retrieved March 21,2009<br />

21- Inparis, James : Le Seattle Post-Intelligencer : fin et début, France, Retrieved, April 21,2009<br />

from http://www.mediapart.fr/club/blog/jamesinparis/170309/le-seattle-post-intelligencerfin-et-début<br />

22- Jeanneret ,Yves. Dispositif, Retrieved, march 24,2009, from ensmp.net/pdf/2005/glossaire/<br />

dispositif.doc<br />

23- Lemeur ,Loïc .Les blogs contre le journalisme, Retrieved 21, february ,2009,from http://<br />

loiclemeur.com/france/2005/09/les_blogs_contr.html<br />

24- Lynch, Mark.Blogging the new Arab public, Retrieved 21, may, 2009, from: http://www.<br />

arabmediasociety.com/?article=10<br />

25- Rebillard, F . L’information journalistique sur l’internet, entre diffusion massmédiatique<br />

et circulation réticulaire de l’actualité », in Broudoux E., Chartron G., (dir.),Document<br />

numérique et société – Actes du colloque DocSoc 06, Paris : ADBS Editions, Retrieved,<br />

march 28,2009 from : http://archives.univ-lyon2.fr/171/<br />

اأبحاث<br />

26- Seelye, Katharine.Q :White House Approves Pass for Blo-Ger, New York Times. Retrieved 8<br />

may, 2009, from http://www.nytimes.com/2005/03/07/technology/07press.html?_r=1<br />

27- Signouret, Muriel. Les médias face au défi de l’info 2.0, Stratégies Magazine n°1431, 26 oct.<br />

Retrieved, April 21,2009, from http://www.strategies.fr/articles/r42521W/les-medias-faceau-defi-de-l-info-2-0.html<br />

28- TV5 monde. Blogsphere, lexique, Retrieved, march 24,2009, from http://www.tv5.org/<br />

TV5Site/blogosphere/glossaire_blogosphere.php<br />

29- Zouari, Khaled .Publics et usages de la presse maghrébine francophone sur l’Internet, les<br />

GRESEC (Université Stendhal Grenoble 3), Retrieved, march 28,2009 from, http://www.<br />

gdrtics.uparis10.fr/pdf/doctorants/papiers_2005/KhaledZouari.pdfr


2 0 1 1<br />

166


مقاربات<br />

2 0 1 1<br />

املرتكزات السوسيولوجية للظواهر<br />

السيكولوجية عند فيكوتسكي:‏ هل ميكن<br />

اإرجاع الظاهرة النفسية اإىل اأرومتها الثقافية؟<br />

االأدب التفاعلي واجتاهات ما بعد البنيوية<br />

Fabulous Universalism:<br />

St Paul According to Alan<br />

Badiou


املرتكزات السوسيولوجية للظواهر<br />

السيكولوجية عند فيكوتسكي:‏<br />

هل ميكن اإرجاع الظاهرة النفسية<br />

اإىل اأرومتها الثقافية؟<br />

مقاربات<br />

اأ.د.علي اأسعد وطفة<br />

جامعة الكويت


171<br />

2 0 1 1<br />

املرتكزات السوسيولوجية للظواهر السيكولوجية عند فيكوتسكي:‏<br />

هل ميكن اإرجاع الظاهرة النفسية اإىل اأرومتها الثقافية؟<br />

اأ.د.علي اأسعد وطفة<br />

تعد نظرية فيكوتسكي )1934-1896( البنائية،‏<br />

من اأكرث الطفرات العلمية خصوبة وتاألقا يف تاريخ<br />

علم النفس احلديث،‏ وهي ترتجم عبقرية فيكوتسكي<br />

البنيوية التي اأدهشت معاصريه يف نهاية القرن التاسع<br />

عشر،‏ مبا قدمته من عطاءات مذهلة بكل املقاييس<br />

العلمية يف جمال علم النفس والتطور النفسي والعقلي<br />

عند الأطفال )1( .<br />

ولد ليف ‏سومينوفيتش فيكوتسكي Lev Vygotsky<br />

عام 1896، و ترعرع اإبان الثورة الروسية باأحداثها<br />

الدموية املريعة؛ انتسب اإىل كلية احلقوق وتخرج من<br />

اجلامعة ‏سنة 1917، اأي يف العام الذي انتصرت فيه<br />

الثورة البلشفية وتولت مقاليد السلطة يف روسيا.‏ وعلى<br />

اإثر تخرجه من اجلامعة تركز اهتمامه العلمي يف جمال<br />

علم النفس بصورة عامة وعلم نفس الطفولة بصورة<br />

خاصة،‏ وقد ‏شكل موصوع منو الأطفال وتطورهم<br />

النفسي ‏شغله الشاغل وموضوعه الرئيس،‏ حيث وجد<br />

نفسه يف مهنة التعليم والطب النفسي بعيدا عن ميدان<br />

التخصص اجلامعي احلقوقي الذي انخرط فيه بداية<br />

يف اجلامعة )2( . ومن ثم بداأت عبقرية فيكوتسكي تظهر<br />

بوصوح يف جمال البحث العلمي عندما بداأ بنشر<br />

جمموعة من املقالت الرائعة يف جمال علم النفس،‏<br />

وهي الأعمال التي وجدت طريقها اإىل املوؤمتر الثاين<br />

للأمراض العصبية و النفسية يف ليننجراد عام 1924.<br />

كان فيكوتسكي موؤمنا مببادئ الثورة البلشفية،‏<br />

متحمسا لتعاليم ماركس؛ وكان يعتقد باأن النظام<br />

الشرتاكي هو النظام الأمثل ملجتمع اإنساين تسوده<br />

قيم العدالة واحلق واملساواة.‏ وحتت تاأثري هذه النزعة<br />

املاركسية كتب مقال بعنوان ‏“التغيري الجتماعي<br />

للإنسان”‏ يف عام 1930 يبني فيه اأن التحول الثوري<br />

للمجتمع كان ‏ضروريا لتغيري احلياة املادية والظروف<br />

املجتمعية.‏<br />

وحتت تاأثري هذه الروؤية الأيديولوجية املاركسية،‏<br />

بداأ فيكوتسكي يوؤسس لعلم النفس املاركسي منطلقا<br />

من مفاهيم ومبادئ املاركسية وتصوراتها،‏ مضفيا عليه<br />

مامح نزعة اجتماعية مفرطة تنطلق من اأهمية التغيري<br />

الجتماعي يف اإحداث منظومة من التحولت البنيوية يف<br />

جمال ‏سيكولوجيا اجلماهري واحلياة اليومية،‏ ويف دائرة<br />

هذا التوجه السيكولوجي بداأ يدرس الظواهر النفسية يف<br />

ظل التحولت املجتمعية الطبقية،‏ التي ‏شهدها املجتمع<br />

الروسي حتت مطارق الثورة البلشفية.‏ لقد اأحدثت الثورة<br />

البلشفية ثورة يف الأمزجة ويف التصورات والتكوينات<br />

النفسية للمجتمع يف روسيا القيصرية،‏ ويف ظل هذه<br />

الأوضاع بداأ املجتمع يشهد حتولت ‏سيكولوجية واسعة،‏<br />

وعلى هذا الأساس بداأ فيكوتسكي يفكر يف اجلوانب<br />

الجتماعية للعملية النفسية،‏ ويرى اأصولها متجذرة<br />

يف طبيعة احلياة الجتماعية،‏ وعلى اأساس هذه الروؤية<br />

تكونت عقيدته السيكولوجية يف الإميان الكبري باأن<br />

الظواهر النفسية تُفسر بالطبيعة الجتماعية وترتد اإىل<br />

اأصولها املجتمعية،‏ وينطلق هذا التصور من اإقرار ‏شامل<br />

بعقيدة علمية توؤمن باأن ‏سيكولوجيا اجلماهري ميكن اأن<br />

حتُ‏ دد وَترتسم عرب حتولت جمتمعية عميقة اجلذور.‏<br />

وقد ‏شكلت روؤيته هذه نابضا اأساسيا من نوابض تطور<br />

النظرية املاركسية يف علم النفس،‏ وهذه الروؤية كانت<br />

متشبعة بالطابع الأيديولوجي،‏ حيث كان يعتقد باأن<br />

علم النفس املاركسي ليس جمرد مدرسة بني املدارس،‏<br />

بل هو علم النفس الذي يشتمل بذاته على خصائص<br />

العلم احلقيقي دون غريه من النظريات السيكولوجية<br />

التي كانت قائمة يف عصره،‏ ولذلك فاإن فيكوتسكي يعد<br />

مقاربات


2 0 1 1<br />

172<br />

يف حقيقة الأمر واحدا من كبار موؤسسي علم النفس<br />

املاركسي ودعاته يف القرن التاسع عشر )3( .<br />

ويف ظل هذه العقيدة الأيديولوجية الواضحة لعلم<br />

النفس،‏ عمل فيكوتسكي على تطبيق املبادئ املاركسية<br />

يف الكشف عن قانونية الطبيعة النفسية للإنسان،‏ وهو<br />

يف هذا السياق يتنكر للنظريات السطحية التي اعتمدها<br />

بعض معاصريه من علماء النفس تاأسيسا على مقولت<br />

منطقية تتعلق بالقوانني العامة للماركسية ولسيما<br />

قانون التحولت الكمية اإىل كيفية،‏ وقانون وحدة وصراع<br />

الأضداد،‏ وقانون نفي النفي،‏ وغري ذلك من القوانني<br />

واملبادئ العامة التي ‏شكلت منهجا ‏سيكولوجيا اعتمده<br />

بعض مفكري علم النفس املاركسي يف تاأسيس تصوراتهم<br />

النفسية.‏ و على خاف ذلك انطلق فيكوتسكي من<br />

املنهجية املاركسية يف اأصولها العلمية التي تعتمد على<br />

مبداأ املاحظة والتجربة يف اجتاه الكشف عن معامل<br />

‏سيكولوجيا الإنسان وتطور العقل الإنساين )4( .<br />

لقد اأكدت اأعمال فيكوتسكي الأوىل،‏ يف جامعة<br />

موسكو،‏ اآراءه عن تاأثري التكوينات الجتماعية الثقافية<br />

يف تشكل الظواهر النفسية وتطورها،‏ فالصراعات<br />

والتناقضات التي جنمت عن الثورة الروسية،‏ خلفت<br />

اأمناطا متعددة من املشكات السيكولوجية،‏ ولسيما<br />

هذه التي تتمثل يف اأمراس نفسية عاناها املجتمع<br />

الروسي اإبان الضطرابات الدموية يف ذلك العصر.‏<br />

لقد عمل فيكوتسكي مع مرضى هذه املرحلة،‏ و لحظ اأن<br />

اأغلب هذه احلالت املرضية ميكن اأن تعالج عرب فعاليات<br />

اجتماعية ناجعة ترتكز اإىل مبادئ املساندة والتوجيه<br />

والإرشاد والتشجيع،‏ التي تساعد املرضى يف التعويض<br />

عن اآلمهم النفسية ومعاناتهم السيكولوجية،‏ فالتعويض<br />

الجتماعي غري املباشر ميكّ‏ ن املريض من القيام بعدد<br />

من الوظائف السيكولوجية ولسيما القراءة و التواصل<br />

والتذكر و التفكري و الستنتاج )5( .<br />

اخلصائص االجتماعية التاريخية للظاهرة النفسية:‏<br />

يربر فيكوتسكي الطبيعة الجتماعية للظاهرة<br />

السيكولوجية بتاأكيده اأن الظاهرة النفسية نتاج للتفاعل<br />

الجتماعي والتجارب الجتماعية املكونة للثقافة،‏ ومن<br />

ثم فاإن الثقافة مبا تشتمل عليه من عامات ورموز<br />

ومصطلحات لغوية وقيم ومنتوجات اإنسانية تشكل<br />

العناصر الأساسية للتفاعل الجتماعي الذي يوجد يف<br />

اأصل الظواهر النفسية.‏<br />

فاأسلوب التنشئة الجتماعية،‏ مبا تنطوي عليه من<br />

تفاعل بني الآباء والأبناء،‏ متلي على الأطفال ‏صيغا<br />

‏سيكولوجية حمددة يف طريقة استجاباتهم وتفاعلهم،‏<br />

فطريقة الآباء يف السيطرة على الأطفال حتدد للأطفال<br />

نوع وطبيعة املشاعر التي متتلكهم،‏ وتشكل منطق روؤيتهم<br />

للوجود،‏ بصورة تبدو على نحو ‏سيكولوجي راسخ املعامل.‏<br />

فطرق تربية الأطفال والهتمام بهم توؤدي اإىل خلق<br />

‏شخصيات اجتماعية منفتحة اأو منعزلة،‏ كما اأن التسلط<br />

الدائم على الطفل وعدم منحه احلرية الكافية تكون<br />

‏شخصا ‏سلبيا مسلوب الإرادة،‏ وعلى خاف ذلك،‏ فاإن<br />

اإعطاء الطفل حرية التعبري عن الراأي و الهتمام و الثقة<br />

الكافية،‏ تولد لديه قوة الإرادة وتعطيه مامح ‏شخصية<br />

فاعلة،‏ وهذا يعني بالنتيجة اأن ‏سيكولوجيا الطفل تتشكل<br />

يف اأتون التجربة الجتماعية للتنشئة الجتماعية مبا لها<br />

وما عليها،‏ وعرب هذه التجربة الرتبوية املجتمعية تتشكل<br />

طبيعة الطفل النفسية مبا تنطوي عليه من مشاعر<br />

وجدانية ومضامني تتعلق باأنظمة الوعي والإدراك<br />

والأحاسيس )6( .<br />

فالثقافة الإنسانية كما يوؤكد فيكوتسكي تشكل<br />

الظواهر السيكولوجية عرب عاقة الفرد مع العامل الذي<br />

يحيط به:‏ فاجللوس على الكراسي،‏ وتناول الطعام<br />

باستخدام اأدوات املائدة،‏ وما يتعلق باحليّز املكاين<br />

لشروط الطعام،‏ يوؤثر يف تكوين ‏سيكولوجية الفرد<br />

بطريقة خمتلفة عما اإذا كان يتناول طعامه جالسا اإىل<br />

جوار ‏شخص اآخر على الأريكة،‏ اأو تناول الطعام باليد،‏<br />

ومن ثم فاإن العيش يف ‏شكل مثلث يولد معطيات خمتلفة<br />

عن تلك التي توجد يف ‏شكل دائري.‏<br />

واإذا كان للمكان هذه الأهمية يف حتديد اخلصائص<br />

السيكولوجية للفرد،‏ فاإن اأهمية الرموز الثقافية تفوق<br />

هذه الأهمية وتتجاوزها اإىل حدّ‏ كبري،‏ فالرموز واملعاين<br />

والتصورات الثقافية القائمة تشكل وحتدد وتبلور الصيغ


173<br />

2 0 1 1<br />

املختلفة للتكوينات السيكولوجية املتعددة.‏ فالطريقة<br />

التي ندرك بها الأحداث حتدد ردود اأفعالنا النفعالية<br />

جتاهها،‏ فهناك اأحداث واأفعال تغضبنا وحتزننا اأحيانا،‏<br />

وتفرحنا اأحيانا اأخرى،‏ وهذه احلالت النفعالية مرهونة<br />

بالتفسري الذي نعتمده لتحديد طبيعة هذه الأفعال.‏<br />

وهذا يعني اأن التفسري الذي نسقطه على الأشياء هو<br />

الذي يحدد موقفنا السيكولوجي منها،‏ فعلى ‏سبيل<br />

املثال،‏ بعض الناس يغضبون جدا لنهيار مبنى حتت<br />

تاأثري زلزال طبيعي،‏ لأنهم يعتقدون اأن هذا املبنى مل<br />

يستوف الشروط املطلوبة للأمن ‏ضد الزلزل،‏ ولذلك<br />

فاإنهم يهاجمون السلطة والأنظمة السياسية القائمة<br />

لإهمالها وعدم العناية بالشروط الهندسية للبناء؛<br />

ولكن بعض الناس يحزنون فقط لأنهم يرون يف هذا<br />

الفعل الطبيعي جتليا للقضاء والقدر والمتحان الإلهي<br />

للإنسان على الأرض،‏ و لذا فاإن بعض الأحداث املوؤملة<br />

يف املجتمعات ذات الثقافة التقليدية ل تلقي لومها على<br />

السلطة السياسية ول متتلكها مشاعر الغضب.‏<br />

وهذه الوضعيات النفعالية تنسحب على القضايا<br />

التي تتعلق بطبيعة اإدراك الناس للمسافات والأحجام<br />

والأوزان واحلركة،‏ حيث تكون لكل ‏شعب اأو جماعة<br />

طريقتها يف فهم الأشياء وتفسريها والتفاعل معها<br />

وجدانيا بطرق انفعالية متنوعة؛ على ‏سبيل املثال:‏ يدرك<br />

الفاحون يف اأوزباكستان األواناً‏ معينة على اأنها خمتلفة<br />

وغري متجانسة بطريقة تختلف عن اإدراك املعلمني لها<br />

الذين يرونها متشابهة متجانسة،‏ ويفسر هذا التباين<br />

الإدراكي باخللفية الثقافية لكل جمموعة،‏ فاإدراك<br />

الفاحني لاألوان مرتبط بالأشياء،‏ يف حني اإدراك<br />

املعلمني للألوان هو اإدراك جمرد يحمل طابعا رمزيا،‏<br />

فالفاحون يرون اأن لون روث البقر يختلف عن لون روث<br />

اخلنزير لأنهم من مصدرين خمتلفني،‏ يف حني يرى<br />

املعلمون اأن اللون البني منفصل اأو جمرد و ل يربطونه<br />

بشيء اآخر،‏ فيصنفون الألوان على هذا الأساس.‏<br />

ويعيد فيكوتسكي اأصنافا اأخرى من الظواهر<br />

السيكولوجية مثل الإدراكات اخلاطئة و فقدان الذاكرة<br />

اإىل اأرومة اجتماعية،‏ ويعلن باأن فقدان الذاكرة ميكن اأن<br />

يفسر باأنه ‏صيغة من ‏صيغ التجليات الاشعورية ناجمة<br />

عن بواعث اجتماعية،‏ ويبني يف هذا السياق اأن التصورات<br />

اجلماعية برموزها واآليات اشتغالها هي التي حتدد<br />

طبيعة اإدراك الفرد كما اأنها حتفز بعض اأمناط السلوك<br />

و تثبط اأمناطاً‏ اأخرى.‏ ويعمم فيكوتسكي روؤيته هذه على<br />

اأمناط الذكريات التي تتعلق باملاضي حيث يعتقد باأن<br />

هذه الذكريات تتلون مبعاين احلياة الجتماعية وترتسم<br />

بوحي من دللتها،‏ فالأحداث الجتماعية مبضامينها<br />

واجتاهاتها ودللتها تشكل ذكريات الفرد وترسم له<br />

مامح ذاكرته الإنسانية.‏<br />

وجتد هذه الفكرة ما يساندها يف دراسة قام بها<br />

روبنز )1963( حول ‏سلوك بعض الآباء املتعلمني يف<br />

مدى مطابقة الذكريات لطريقة تغذية الأطفال،‏ وقد<br />

وجد اأن الذاكرة تاأخذ مسارا توافقيا مع بعض العادات<br />

والتقاليد والقيم السائدة.‏ وهذا ما يوؤكده روبنز حيث<br />

وجد باأن الذكريات تنحرف عن مسارها بتاأثري العادات<br />

والقيم السائدة يف املجتمع فحوايل نصف عدد الأمهات<br />

( اأفراد العينة(‏ اأخطاأن يف تذكر كيفية اإطعام اأبنائهن<br />

‏)هل مت ذلك بناء على طلب الأبناء؟ اأو بناء على وجود<br />

جدول معني؟(،‏ لقد اأعلنت اأكرث من %65 من الأمهات<br />

اأنهن كن يطعمن اأطفالهن بناء على طلبهم ل بناء على<br />

جدول زمني،‏ و ذلك لأن النمط الأول هو النمط املفضل<br />

اجتماعياً.‏ ولحظ الباحث عدم دقة الأمهات يف تذكر<br />

عادة مص الأصابع لدى اأطفالهم حيث اأنكرن ذلك لأنه<br />

‏سلوك غري حمبب اجتماعياً.‏<br />

ويف السياق السابق نفسه يثبت كل من كوردو وماكجرو<br />

و درامبان باأن ذاكرة الأطفال حول دور اجلنس املوصوف<br />

يف القصص يعتمد على اأهمية هذه الأدوار يف التقسيم<br />

املعياري اجلنسي للأعمال يف املجتمع.‏ والتقسيم املعياري<br />

لدور الفرد يف القصص قائم على اأساس اجلنس مثاً:‏<br />

الرجل هو الطبيب،‏ و املراأة هي املمرضة،‏ و هو التقسيم<br />

الأكرث دقه لقبول دور النوع من الآخر املناقض لنظرة<br />

املجتمع الطبيعية لتوزيع الأنواع على الأدوار ‏)مثاً:‏ اأن<br />

يكون الرجل ممرضاً‏ و املراأة هي الطبيبة(.‏<br />

واإذا كانت الأحداث الجتماعية،‏ ووقائعها وقيمها،‏<br />

مقاربات


2 0 1 1<br />

174<br />

توؤدي اإىل تشويه الذكريات،‏ فاإن احلياة املجتمعية ل<br />

توؤدي اإىل هذا الدور السلبي دائما،‏ لأنها يف معظم<br />

احلالت تسهم يف جعل الذاكرة اأكرث دقة،‏ لأن املفاهيم<br />

الجتماعية تنظم الذاكرة لستدعاء اخلربات الأكرث<br />

‏شيوعاً،‏ فالعتماد على تناغم احلياة الجتماعية،‏ متكن<br />

الأشخاص عادة من استدعاء احلوادث التي حدثت<br />

فعاً،‏ ولكن حالة تشويه الذكريات تكون يف املواقف التي<br />

ل تتطابق فيها الأحداث السابقة مع اخلربات الشائعة<br />

حيث ميكن حذفها اأو جتاهلها.‏<br />

فتذكر الألوان يعتمد على الطريقة التي تستخدم<br />

فيها تلك الألوان يف التواصل الجتماعي.‏ فقد اأثبتت<br />

دراسات عدة باأن الألوان ذات املدلولت اللغوية التي<br />

تستخدم يف عملية التواصل الجتماعي ميكن استدعاوؤها<br />

بسهولة اأكرث من تلك التي ليس لها مدلولت لغوية و ل<br />

تستخدم يف عملية التواصل الجتماعي.‏ هذا ويبني كل<br />

من راترن و ماك كاثي )1990( باأن تذكر الألوان يعتمد<br />

على ما اإذا كانت تلك الألوان مرتبطة و تتوافق مع<br />

اأشياء ذات عاقة بخربات الشخص الثقافية،‏ فاخللفية<br />

الثقافية للأشخاص حتسن من تذكر الألوان اأكرث من<br />

اخلصائص الشكلية للألوان مثل ‏صفائها.‏<br />

ويتجاوز الدور الجتماعي للحياة تاأثريه اإىل بعض<br />

اأشكال اخلرف النفسي،‏ ففي املجتمعات التي تسودها<br />

اخلرافات والتطري واملفاهيم غري املنطقية،‏ يبني<br />

الأفراد توقعاتهم واإدراكهم لذاتهم و مظهرهم اخلارجي<br />

واأفكارهم عن كيفية التعامل مع احلياة والضغوط<br />

بطريقة مَ‏ رَ‏ ‏ضية،‏ حيث يوؤدي استمرار هذه التصورات<br />

اإىل تشويه حقيقي يف تكويناتهم النفسية والإدراكية.‏<br />

ويف اجتاه الكشف عن العاقة بني الوظائف<br />

السيكولوجية،‏ واحلياة الجتماعية يبني فيكوتسكي )7( اأن<br />

مشكات احلياة توؤدي اإىل تطور خمتلف الوظائف العقلية<br />

والذهنية للفرد مثل:‏ الإدراك،‏ والذاكرة،‏ والنتباه،‏<br />

ويعاد تشكيلها على اأساس جديد وفقا لوضعية اجتماعية<br />

واضحة البيان.‏ فالثقافة هي التي حتدد اجلوانب<br />

السيكولوجية للفرد،‏ ولسيما فيما يتعلق باملشاعر<br />

والأحاسيس والدوافع و الحتياجات و الإدراك و الذاكرة<br />

والتخيل،‏ ومن ثم فاإن هذه العناصر السيكولوجية هي<br />

اأجزاء مكملة ملخطط الإدراك املعريف الثقايف،‏ ومرتبطة<br />

بالشخصية الواعية الجتماعية )8( .<br />

االأسس الفيزيولوجية للظاهرة النفسية:‏<br />

يوؤكد فيكوتسكي من جانب اآخر اأهمية الأصول<br />

البيولوجية للظاهرة السيكولوجية،‏ ويرى اأن العوامل<br />

الفيزيولوجية متارس دورا واضحا ومتنوعا يف تشكيل<br />

معامل الظواهر السيكولوجية،‏ حيث يتنوع دور العوامل<br />

البيولوجية يف التاأثري يف اخلربات السيكولوجية طوال<br />

مراحل احلياة.‏ وياحظ فيكوتسكي يف هذا السياق<br />

اأن تاأثري العمليات البيولوجية يبداأ فعله ونشاطه يف<br />

مراحل الطفولة املبكرة،‏ ويبداأ دوره بالرتاجع لصالح<br />

العوامل الجتماعية تدريجيا،‏ ويطلق فيكوتسكي على<br />

هذا التحول اأسم العوامل اجلينية الجتماعية للظواهر<br />

السيكولوجية.‏<br />

تبعاً‏ لهذه الدراسة فاإن ردود الأفعال البيولوجية<br />

املنعكسة عند الأطفال التي ترتبط بالغرائز والهرمونات<br />

هي التي حتدد ‏سلوك الأطفال واحلال ل يختلف كثريا<br />

عند الأطفال عنه عند احليوانات.‏ فاأمناط السلوك<br />

الطفويل مبا يشتمل عليه من ابتسام و بكاء و عناد وردود<br />

اأفعال عبارة عن اأمناط من السلوك البيولوجي البسيط<br />

املتكرر،‏ وهي العمليات التي يطلق عليها فيكوتسكي<br />

الأمناط السلوكية الدنيا.‏ فالطفل الذي يتحرك حتت<br />

تاأثري هذه العمليات الدنيا من السلوك،‏ يستجيب تلقائيا<br />

وعفويا دون تفكري اأو اإدراك للعامل من حوله،‏ فهو يندمج<br />

معه فقط ويتفاعل على نحو اآيل عفوي بيولوجي (9) .<br />

فالعمليات البيولوجية الدنيا،‏ ليست ظواهر<br />

‏سيكولوجية باملعنى الدقيق للكلمة،‏ لأنها ل تنطوي على<br />

الفهم اأو اخلربة،‏ بل هي،‏ كما يصفها فيكوتسكي،‏ عبارة<br />

عن ردود اأفعال عمياء للمنبهات اخلارجية والداخلية.‏<br />

فالظواهر النفسية ظواهر معقدة،‏ وهي تتطلب انفصال<br />

الكائن عن العامل ليكوّن ذاتا مستقلة،‏ متكنه من فهم<br />

التجارب واملثريات والوسط،‏ وجتعله قادرا على اختبار<br />

العامل الذي يعيش فيه.‏ وهذا النفصال عن الواقع<br />

باجتاه تكوين الذات،‏ يقتضي هدما للروابط الطبيعية


175<br />

2 0 1 1<br />

القائمة بني الكائن والعامل.‏ فبدلً‏ من اأن تسيطر<br />

العمليات الطبيعية على ردة فعل الكائن جتاه العامل يف<br />

احلالة البيولوجية الدنيا،‏ ياأخذ نظام معقد من العمليات<br />

العقلية دوره يف توجيه ردود فعل الإنصان يف اجتاه<br />

التفاعل مع العامل الذي يعيش فيه.‏ فالوعي الذاتي يقوم<br />

باأداء رائع لعمليات الفهم والتحليل والإقبال والمتناع<br />

واملبادرة،‏ و يقوم بالرد على املنبهات،‏ وينظم فعاليات<br />

الفرد وردود اأفعاله اإزاء املنبهات اخلارجية والداخلية<br />

منها على حدّ‏ ‏سواء.‏<br />

وتاأسيسا على هذا التصور يعلن فيكوتسكي ‏ضرورة<br />

اإعادة بناء املنظومة الجتماعية بشكل يسمح للطفل باأن<br />

ينتقل من مراحل الإدراك البدائية،‏ اإىل املراحل الأكرث<br />

رقيا التي تقوم على اأساس اإدراك العامل اخلارجي،‏<br />

وتتضمن تلك املنظومة الجتماعية عمليات متنوعة،‏<br />

منها:‏ التحفيز،‏ والإرشاد،‏ و املكافاأة،‏ و العقاب والتقليد،‏<br />

وهي عناصر تنظم ‏سلوك الطفل،‏ وترتقي به اإىل<br />

املستويات النفعالية والوجدانية املطلوبة.‏<br />

فالتغيريات البيولوجية يف الدماغ ‏ضرورية اأيضاً‏<br />

لستبدال العمليات السيكولوجية البدائية الأولية<br />

باأخرى اأكرث تعقيداً‏ و تقدماً.‏ فالقشرة اخلارجية للدماغ<br />

تتطور لتسيطر على معظم ردود الأفعال التي كانت تتم<br />

بواسطة اجلزء الأدنى يف دماغ الطفل.‏ و مع ذلك فاإن<br />

التغيري الناشئ عن عمل قشرة الدماغ حمفزة و مدعمة<br />

بالعاقات الجتماعية.‏ فاخلربة الجتماعية تقوم<br />

بالتحفيز لتطوير القشرة اخلارجية للدماغ.‏<br />

توفر اخلربات الجتماعية الوسائل الثقافية لضبط<br />

العمليات البيولوجية البدائية،‏ واإخضاعها لسيطرة<br />

الوعي الذي يحولها بدوره اإىل ظاهرة ‏سيكولوجية؛ اإن<br />

كثريا من مظاهر احلياة النفعالية للطفل مثل البكاء<br />

والهذيان والتشنج واخلوف والغضب والرثثرة والنتباه<br />

تنتظم وتضبط على نحو تربوي،‏ من خال النماذج<br />

الرتبوية التي يطرحها املربون من اآباء اأمهات ومعلمون.‏<br />

فاملربون يقومون بتوجيه تلك الأمناط من السلوكات<br />

البدائية باجتاهات جديدة،‏ عن طريق اإكسابها بعض<br />

اخلصائص الثقافية يف طبيعة التجاوب مع املنبهات<br />

اجلديدة اخلارجية والداخلية،‏ ويتضمن ذلك تعليم<br />

الأطفال اأفضل الطرق التي تتيحها املعايري الثقافية يف<br />

السيطرة على خمتلف املنبهات والظروف التي توجد<br />

يف وسط الأطفال.‏ ووفقا لهذه الفعاليات الجتماعية<br />

الثقافية يتحرر السلوك الإنساين من طابعه البدائي<br />

الأويل اأو البيولوجي،‏ لياأخذ طابعا ‏سيكولوجيا حمددا<br />

وواضح املعامل،‏ ويتحول من جمرد ‏سلوك اآيل اآين،‏ يعتمد<br />

ردود الفعل البيولوجية،‏ اإىل ‏سلوك معقد حتكمه مهارات<br />

عقلية واجتاهات نفسية معقدة وهادفة.‏ ويف هذا النمط<br />

املعقد من التجاوب املنظم النفعايل مع الوسط يوظف<br />

الكائن منظومة من القرارات والفعاليات الذهنية<br />

الواعية التي تعطي للسلوك ‏صبغته الإنسانية الواعية.‏<br />

وياحظ يف هذا اخلصوس،‏ اأن فيكوتسكي ل<br />

يقلل اأبدا من اأهمية العمليات البيولوجية الأوىل،‏ بل<br />

يراها مرحلة اأساسية ومهمة من مراحل تطور الإنسان<br />

‏سيكولوجيا،‏ لأن ردود الأفعال البيولوجية،‏ يف ‏سياق<br />

تطورها وتناميها،‏ تعمل على حتسني الأداء النفسي<br />

والسيكولوجي عند الإنصان،‏ لأنها تنمي العمليات<br />

الكيفية واملهارات الذهنية التي توؤدي يف النهاية اإىل<br />

تنمية النتباه والتفكر عند الفرد.‏<br />

عندما نتحدث عن التطور الثقايف يف التكوين<br />

السيكولوجي للفرد،‏ فاإن ذلك يرمز اإىل حتول كبري يوؤدي<br />

اإىل تنمية العمليات النفسية واإخضاعها يف الوقت نفسه<br />

لسيطرة الإنسان.‏ فالنتباه الطوعي يرجع اإىل حقيقة اأن<br />

الأشخاص الذين يحيطون بالطفل يبداأون باستخدام<br />

حوافز ووسائل متعددة لتوجيه انتباه الطفل ووضعها<br />

حتت ‏سيطرتهم،‏ ومن غري هذا التدخل الثقايف،‏ فاإن<br />

التطور العضوي الطبيعي للطفل،‏ ل ميكنه اأبدا اأن يصل<br />

اإىل النتباه النتقائي اأو الطوعي.‏ اإن كلمات الطفل الأوىل<br />

ليست ‏سوى ‏صرخات بيولوجية موؤثرة،‏ اإنها ردود فعل<br />

بيولوجية تعرب عن حاجات الطفل اإىل الطعام والعناية<br />

وجتنب الأمل،‏ ولكن هذه الصرخات واحلركات العفوية<br />

تكتسب معنى ودللة بتاأثري املحيطني بالطفل الذي<br />

يعطون لهذه الصرخات دللة ومعنى،‏ ويحولونها اإىل<br />

طاقة ‏سيكولوجية بتنظيمها وتوجيهها،‏ فالآباء مينحون<br />

مقاربات


2 0 1 1<br />

176<br />

‏صرخات الطفل وكلماته معنى ويحملونها دللة منطقية<br />

مبعزل عن اإرادة الطفل احلقيقية.‏ بعد ذلك تتحول تلك<br />

الكلمات اإىل وسيلة تخاطب يعرب فيها الطفل عن ذاته<br />

بشكل واعي و مقصود.‏<br />

وهذا الأمر ينسحب على الذاكرة اأيضاً،‏ فالذاكرة<br />

تتشكل بالنتقال اأيضا من حالة طبيعية اإىل حالة<br />

ثقافية ‏سيكولوجية.‏ يتذكر الأطفال الأشياء املوجودة<br />

واملجسدة اأمامهم مباشرة،‏ ولكن هذا الأداء التذكري<br />

يتطور لحقا وبفعل التشريط الثقايف الجتماعي اإىل نوع<br />

من التذكر املجرد الرمزي غري احلسي.‏ وبالتايل فاإن<br />

جمموعة من العمليات الثقافية متارس فعلها لتنظيم<br />

عمل الذاكرة واآليات اشتغالها يف اجتاه النتقال بها<br />

من حالتها الطبيعية احلسية العفوية،‏ اإىل حالة رمزية<br />

جمردة واعية،‏ وبالتايل فاإن هذا التحول من الشكل<br />

الطبيعي للذاكرة اإىل الشكل الثقايف منها يوؤدي اإىل<br />

تطوير الذاكرة والرتقاء بها ابتداء من مرحلة الطفولة<br />

اإىل مرحلة البلوغ.‏<br />

فالطريقة التي تستخدم فيها الذاكرة املفاهيم<br />

الثقافية لستعادة املعلومات تتشكل بواسطة خربة<br />

الفرد:‏ ل ميكن اأن اأتذكر عنوان الكتاب الذي اأحتاجه<br />

ولكني اأعرف موضوع الكتاب،‏ و بعد ذلك بداأت اأتذكر<br />

الفصل الذي ناقشت فيه هذا املوضوع،‏ ثم فكرت يف<br />

الكتب التي استعنت بها يف ذلك الفصل،‏ و اأخرياً‏ توصلت<br />

لسم الكتاب الذي كنت اأبحث عنه.‏ تلك العملية املعرفية<br />

املعقدة تنتج عنها استعادة ما مل ميكن استعادته من<br />

الذاكرة املباشرة.‏<br />

توجد اختافات ثقافية كبرية يف الذاكرة بسبب<br />

اختاف املعايري الثقافية تاريخيا بني الثقافات<br />

واجلماعات الإنسانية.‏ ويف هذا الصدد يذكر كاروثرز<br />

)1990( اأنه يف اأديرة العصور الوسطى كان يتم<br />

التدريس بطريقة استظهارية خالصة،‏ حيث يتوجب على<br />

املتعلمني اأن يختزنوا يف ذاكرتهم كمّ‏ ا هائا من املعلومات<br />

واملعارف.‏ وياحظ اأن الدارسني يف العصور الوسطى<br />

كانوا ميلكون ذاكرة حادة،‏ حيث كان ميكن للواحد منهم<br />

اأن يقوم بتاوة اأعمال كاملة غيباً،‏ و تسميع نصوص كاملة<br />

لأي عمل مهما كان حجمه.‏ وكان الدارسون يعملون على<br />

حفظ تلك الأعمال من خال تقسيمها لأجزاء،‏ و تلك<br />

الأجزاء كانت حتدد بعامات واضحة،‏ و تلك العامات<br />

دائماً‏ ما تكون موجودة ‏ضمن املادة املكتوبة لتسهيل<br />

التذكر:‏ كتابة الأحرف الأوىل من الفقرة باأحرف كبرية<br />

و واضحة،‏ اأو رسم ‏صور يف الهوامش بجانب الفقرات،‏<br />

اأو حتى تلوين الصفحات للتمييز بينها.‏ ويستخلص من<br />

ذلك اأن هذه الطرائق والآليات الثقافية يف طرق احلفظ<br />

والستظهار كانت تساعد كثريا على تطوير الذاكرة<br />

الطبيعية،‏ وحتسني القدرات املختلفة للذاكرة بني<br />

الأشخاص املختلفني.‏ وعلى هذا النحو فاإن فيكوتسكي<br />

مييّز يف عملية تطور الذاكرة بني املستويات الطبيعية<br />

الدنيا بطابعها البيولوجي،‏ وبني النشاطات السيكولوجية<br />

الجتماعية العليا بطابعها الثقايف.‏ فالوظائف الطبيعية<br />

البدائية الطفولية القائمة - بغض النظر عن عملية<br />

النضج السيكولوجي الجتماعي-‏ متحى وتستبدل<br />

بعمليات اأخرى اأكرث نضجاً،‏ و يف اأحيان اأخرى،‏ تندمج<br />

ويعاد تشكيلها بواسطة العمليات السيكولوجية العليا.‏<br />

ويوؤسس فيكوتسكي على هذا التصور اأن منظومة السلوك<br />

الإنساين تتم من خال تطوير اأنظمة جديدة للروابط<br />

التي تتخطى اأمناط السلوك الأولية يف اجتاه بناء<br />

منظومة ‏سلوكية جديدة عليا تعتمد املعايري الثقافية.‏<br />

يوؤكد فيكوتسكي اأن الأمناط التنظيمية الأولية<br />

للسلوك تتشكل من خال الأنشطة الدماغية العضوية<br />

املساندة،‏ وتتحول كلياً‏ اإىل اأمناط اأكرث رقياً‏ و تعقيداً.‏<br />

فالعمليات الطفولية ليس لها نظري عند الشخص البالغ،‏<br />

لأنها وجدت كذلك يف الطبيعة،‏ و باملقابل فاإن نشاطات<br />

البالغني ليس لها مثيل طبيعي يف الأطفال اأو احليوانات<br />

( اأو الآلت (.<br />

فعملية التكيف عند الشخص البالغ تعتمد على<br />

منظومة معقدة من السلوك املنظم الهادف،‏ وهو يختلف<br />

كليا عن السلوك املندفع املتهور الذي يتميز به الأطفال،‏<br />

اأو النشاط املنعكس الذي يتميز به احليوان.‏ ويختلف<br />

السلوك التفاعلي للبالغ عن ‏سلوك الطفل اأو احليوان،‏<br />

باأنه ‏سلوك موجه وهادف ومتحكم به،‏ لأن املنبهات


177<br />

2 0 1 1<br />

اخلارجية ل تستثري استجابة البالغ بشكل مباشر على<br />

عكس ما نشاهده يف ‏سلوك الأطفال.‏<br />

ومن اأجل الستدلل على اأهمية التاأثري الذي ميارسه<br />

الوسط الثقايف مبحدداته املتنوعة،‏ يلجاأ فيكوتسكي<br />

اإىل تاريخية الظاهرة السيكولوجية،‏ فالإنسان يف ‏شتى<br />

بقاع العامل يتمتع بالرتكيبة البيولوجية نفسها،‏ ولكن<br />

الختاف يف التكوينات السيكولوجية هو على اأشده بني<br />

الشعوب واجلماعات الإنسانية،‏ فالثابت هو الرتكيبة<br />

البيولوجية،‏ واملتغري هو الطابع السيكولوجي للمجتمعات<br />

الإنسانية،‏ وهذا يثبت باأن الثقايف هو الذي يحدد<br />

البيولوجي وينمطه ويهندس له معامل وجوده.‏<br />

وهذا يعني اأن التطور الثقايف يوؤثر يف التكوين<br />

البيولوجي للفرد،‏ ويحوله من جمرد اآلية بيولوجية ‏صرفة<br />

اإىل فعالية ثقافية معقده.‏ فالعمليات البيولوجية الدماغية<br />

يف مرحلة الطفولة تعمل على توصيل املعلومات،‏ ولكنها<br />

ل حتدد كيفية تنظيم املعلومات و استخدامها،‏ فهي تنقل<br />

العمليات احلسية والإدراكية بني الفرد والعامل اخلارجي<br />

وتلك هي الوظيفة التي توؤديها اخلايا العصبية،‏ فتعمل<br />

على نقل املعلومات من منطقة لأخرى يف دماغ الكائن<br />

احلي،‏ ثم ياأتي لحقا العامل الثقايف الذي يقوم بتنظيم<br />

تلك املعلومات باإصارات ورموز ومعاين ذات طابع<br />

ثقايف،‏ حيث ترتاجع الآليات الطبيعية وتفقد وظيفتها<br />

التحريضية و تعمل فقط كوسيط للعملية الذهنية.‏<br />

وهكذا فاإن تراجع الدوافع البيولوجية يشكل ‏شرطا<br />

‏ضروريا يف اجتاه بناء الظواهر السيكولوجية؛ فالطفل<br />

يف بداية حياته،‏ وفقا لفيكوتسكي،‏ يتكيف عرب اآليات<br />

عضوية وحسية ‏صرفة،‏ وبالتايل فاإن خمتلف مظاهر<br />

حياته التي تتمثل يف الراحة والقلق والتوتر والهدوء<br />

والأمل والإحساس بالدفء تتم بصورة عفوية طبيعة<br />

ارتكاسية،‏ وعندما تتوقف العمليات البيولوجية الصرفة<br />

عن توجيه حياة الطفل،‏ تبداأ قدرة الطفل على اإدراك<br />

العامل اخلارجي بوصفه ذاتا عارفة مستقلة.‏ وهذا يعني<br />

اأن الطفل يصبح قادرا على ممارسة الإدراك و اكتشاف<br />

احلقيقة اخلارجية التي حتيط بكيانه البيولوجي،‏<br />

وهذا الأمر يستغرق نصف عام من عمر الطفل حيث<br />

يبداأ نظامه الإدراكي بالظهور على ‏صورة ‏سيكولوجية<br />

متمايزة،‏ وهذا يعني يف نهاية املطاف اأن اإدراك احلقيقة<br />

يتطلب اإزاحة العمليات البيولوجية كاأساس للخربة،‏<br />

والسماح للعامل اخلارجي باأن يحتك بالكائن احلي ويوؤثر<br />

يف اإدراكه.‏ وهنا يجب اأن ناأخذ بعني العتبار اأن العامل<br />

اخلارجي مبثرياته وعناصره املتنوعة ل يحدد الطبيعة<br />

الإدراكية للطفل،‏ وذلك لأن اإدراك الطفل للعامل<br />

اخلارجي يستند اإىل خرباته وفعالياته السيكولوجية<br />

السابقة،‏ التي ترسم له الصورة الإدراكية لعناصر<br />

الوسط الذي يعيش فيه.‏ فالطفل ل يدرك ‏صورة العامل<br />

اخلارجي بعينيه املجردتني،‏ بل يدركه بخرباته السابقة<br />

ومدركاته ومعاناته السيكولوجية املرتسمة يف مراحل<br />

زمنية متقدمة،‏ وهذا يوؤدي اإىل اإضفاء الطابع الذاتي<br />

على الأشياء املدركة،‏ اأي ما ميكن اأن نسميه ذاتية<br />

الإدراك،‏ اأو ما ميكن اأن يطلق عليه اخلصائص الذاتية<br />

للعامل اخلارجي.‏ وعلى هذا النحو تكون البيئة املحيطة<br />

بالفرد بيئة اجتماعية ثقافية حتى عندما تاأخذ هيئة<br />

طبيعية،‏ لأن العامل الثقايف الجتماعي دائم احلضور<br />

والتاأثري يف التكوينات النفسية البيولوجية.‏ فالعمليات<br />

البيولوجية الصرفة تقوم بنقل اخلواص املادية للأشياء<br />

مثل اللون واحلجم و الشكل من الأشياء املدركة اإىل<br />

العقل املدرك،‏ ومع ذلك فاإن هذه املدركات املتعلقة بتلك<br />

الأشياء تتلون بطابع اخلربات الجتماعية و الثقافية<br />

للفرد املعني.‏<br />

لقد تاأكد هذا التصور للعاقة بني اخلربة السابقة،‏<br />

وعملية الإدراك يف اأبحاث هيلمولتز،‏ حيث يعلن باأن<br />

‏»اخلربات السابقة،‏ تعمل بالعاقة مع الإحساس احلايل<br />

لإنتاج اإدراك حسي جديد،‏ وبالتايل فاإن الإدراك احلسي<br />

الذي ينبع من اخلربة ل يقل اأهمية عن الإدراك الذي<br />

يستمد من الإحساس املباشر الآين«.‏ و باملثل فقد اأوضح<br />

زمياك )1961( باأنه يف الأجناس العليا من الكائنات<br />

احلية،‏ توجد اأدلة كثرية على اأن الأمل ليس جمرد وظيفة<br />

للدللة على مدى الضرر اجلسدي،‏ فهناك نوع من الأمل<br />

الذي حتدده الأسباب املوؤدية اإليه مثل الآلم املعنوية،‏ ومن<br />

الواضح مبكان اأن دللة الأمل وطبيعته ودواعيه تختلف<br />

مقاربات


2 0 1 1<br />

178<br />

باختاف ثقافة الفرد التي نصاأ فيها،‏ وذلك لأن الثقافة<br />

تلعب دورا مهماً‏ يف كيفية اإحساسنا واستجابتنا له.‏<br />

لقد اأوضح كل من والسنت وجوتليب )1997( باأن<br />

املعلومات اجلينية ل حتدد ما نفكر فيه اأو نتذكره،‏<br />

فاجلينات ل تصنع نهايات الرتاكيب العصبية،‏ و لكنها<br />

عبارة عن نظام مشفر للربوتينات التي تتاأثر بنظام<br />

الأيض املعقد واملذهل.‏ وجتد هذه الفكرة وضوحها يف<br />

طبيعة التباين املاحظ عادة بني طفلني متتايلّ‏ الولدة<br />

يف اأسرة واحدة،‏ فالطفل الأول غالباً‏ ما يكون واثقا<br />

بذاته ولكنه متحفظ،‏ يف حني يكون الثاين اأكرث مرونة<br />

وتكيفا،‏ وتلك الختافات يف الشخصية ل ميكن ردها<br />

اأو تفسريها على اأساس جيني،‏ يف حني ميكن تفسريها<br />

فقط على اأصاس تعامل الآباء واختاف تعاملهم<br />

وتربيتهم لكل منهما.‏<br />

فالوظائف السيكولوجية املنظمة اجتماعياً،‏ متكّ‏ ن<br />

الأفراد من فهم البيئة بشكل اأكرث واقعية،‏ مقارنة مبا<br />

ميكن للعمليات البيولوجية الصرفة اأن تفعله يف هذا<br />

املستوى.‏ وهكذا فاإن العمليات املوجهة بيولوجياً‏ يف<br />

الأطفال واحليوانات حتدد الستجابات الأوتوماتيكية<br />

املحددة،‏ فهي متنع الفهم احلقيقي و الندماج مع البيئة.‏<br />

وكما بني فيكوتسكي فاإن الذاكرة والإدراك واملشاعر<br />

والدوافع،‏ التي تتشكل اجتماعياً،‏ تقوم على الإحساس<br />

العضوي و متكن من التصال مع العامل اخلارجي،‏ وهنا<br />

يجب اأن ناأخذ بعني العتبار اأن معظم الناس يعتقدون<br />

باأن التفاعل البيولوجي يوفر اأهم املعلومات املتاحة،‏<br />

واأن التاأثري الجتماعي يشوه املعلومات.‏ وميكن توضيح<br />

اأهمية اخلربة يف اإدراك الأحجام احلقيقية للأشياء<br />

التي ندركها،‏ فاإدراك حجم الأشياء القائمة يعتمد على<br />

اخلربات الإدراكية السابقة بدرجة اأكرب من جمسات<br />

العوامل البيولوجية املستقاة من اخلربة املباشرة<br />

احلسية،‏ فحجم الصورة الفسيولوجية يتغري بتغري<br />

املسافة بني املادة و املشاهد،‏ ولذلك فاإن املشاهد يعتمد<br />

على خربته الإدراكية السابقة يف حتديد حجم الأشياء<br />

ومسافتها،‏ علما باأن ثبات احلجم احلقيقي للمادة ل<br />

يتاأثر باملسافة بينها و بني املشاهد.‏<br />

وتاأسيسا على هذا الستدلل املتقدم،‏ فاإن العوامل<br />

العقلية والنفسية كالإدراك والتفهم و العقانية والذاكرة<br />

و العواطف والحتياجات الشخصية ترتكز على واقع<br />

ثقايف يرتبط باملفاهيم اللغوية والرموز الثقافية<br />

واخلربات املكتسبة كاأنظمة عمل اأو تشغيل،‏ وهذا يعني<br />

اأن هذه القوى ل متارس فعلها بوصفها جمرد قدرات<br />

فطرية بيولوجية بل هي قدرات ثقافية يف طبيعتها<br />

وماهيتها.‏<br />

و قد اأكد دونالد اأيضاً‏ باأن الثقافة باأنظمتها الرمزية<br />

متارس وظائف ‏سيكولوجية ترثي الفرد ومتكنه من<br />

الستفادة من جهود الآخرين.‏ فقدرة الأفراد يف نظام<br />

ثقايف حمدد تتوسع لتشمل قدرة املجموعة،‏ و هذا<br />

ياحظ دائماً‏ يف اآليات اشتغال الذاكرة،‏ فالفرد الذي<br />

يشارك يف النظام الرمزي اخلارجي ل يكون حمدوداً‏<br />

بذاكرته فقط يف تذكر الأشياء،‏ فلديه مدخل لتسجيات<br />

دائمة متت كتابتها من خال التدوين اجلماعي للرموز<br />

والعامات )10( . وكصدى لوجهة نظر فيكوتسكي باأن<br />

الرموز الثقافية توؤدي اإىل تشكيل وظائف ‏سيكولوجية<br />

جديدة؛ يقول دونالد باأن النظام الرمزي اخلارجي<br />

يفرض اأساليب روؤى جديدة،‏ واأساليب تخزين متجددة،‏<br />

واأساليب تذكر متنوعة،‏ وخيارات متقدمة للتحكم<br />

بالسلوك واإيجاد اأنظمة تكيف عقلية واإدراكية جديدة،‏<br />

لأن النظام الرمزي يكون مهارات مركبة جديدة مثل،‏<br />

التحليل والربجمة واملحاكمة وهي عمليات عقلية ل<br />

مكان لها يف الذاكرة،‏ وغالباً‏ ما تكون خارجية املنصاأ<br />

واملصدر.‏<br />

واإذا كانت الوظائف السيكولوجية مكونة من<br />

نسيج رمزي ثقايف اجتماعي بالدرجة الأوىل،‏ فاإن هذه<br />

الوظائف تتكون وتتشكل من خال تفاعل الفرد مع<br />

الوسط الثقايف بدرجة اأكرب من اعتمادها على القدرات<br />

البيولوجية املحددة للوظائف السيكولوجية؛ وهذا<br />

بدوره يعيد الختافات الفردية السيكولوجية ويفسرها<br />

بالختافات يف التعرض للخربات الجتماعية املتنوعة<br />

التي متد الفرد بالرموز الثقافية والجتماعية املشكلة<br />

للظواهر السيكولوجية.‏


179<br />

2 0 1 1<br />

ويقدم فيكوتسكي مثال تاريخيا واضحا حول تاأثري<br />

العوامل الثقافية يف تشكيل البناء السيكولوجي للإنسان<br />

يتصل بالتفكري الرياضي عند الإنصان،‏ فالتفكري<br />

الرياضي ل يستند بوضوح اإىل خاصة فطرية اأولية،‏<br />

لقد عاش الإنسان لآلف السنني دون علم الرياضيات،‏<br />

ومل تظهر الرياضيات فجاأة بسبب حمفزات فطرية<br />

وبالعكس:‏ املتطلبات التاريخية وخاصة التجارية اأدت<br />

اإىل اخرتاع الرياضيات يف اأماكن واأوقات معينة.‏ عندما<br />

دعت احلاجة اخرتع الإنسان الرموز الرياضية و اأنظمة<br />

اإدارتها.‏ و لذلك ل يوجد مغزى للتسليم بوجود قدرات<br />

فطرية لعلم الرياضيات.‏ ومن ثم فاإن العتقاد باأن<br />

علم احلساب يعتمد فقط على العمليات الطبيعية هو<br />

تقدير مبتذل وغري علمي،‏ لأن العقل العادي ل ميكنه<br />

اإجراء العمليات احلسابية املعقدة واملبتكرة،‏ ومن ثم<br />

اإذا كانت العمليات الفطرية ل حتدد التفكري احلسابي<br />

فاإن الختافات الفردية يف تلك القدرة يجب اأن تعود<br />

اإىل الختافات يف اخلربات الجتماعية الضرورية<br />

لتكوينها.‏<br />

وميكن اإيضاح هذا التصور بالإشارة اإىل الخرتاع<br />

الإنصاين املتجسد بربامج احلاسب الآيل،‏ حيث ل<br />

ميكن لنا اأبدا اأن نقول باأن العمليات املعقدة للربجمة<br />

هي جمرد قدرة فطرية.‏ فا يوجد ‏شخص ميكنه اأن<br />

يرجع برجمة احلاصب الآيل للقدرة الفطرية غري<br />

املكتسبة،‏ وذلك لأن عمر احلاسب الآيل ل يعدو عدة<br />

عقود من الزمن فحسب.‏ وواصح للعيان اأن برجمة<br />

احلاسب الآيل تعني الستخدام الهائل واملنظم للرموز<br />

والصيغ واللغات الرمزية والشيفرات املعقدة التي مل<br />

تكن يوما تبلورا لصيغة فطرية اأو بيولوجية؛ فالعقل<br />

الفطري والعضوية البيولوجية ‏ضروريان لستيعاب<br />

املعلومات والرموز والفعاليات الذهنية لعمليات الربجمة<br />

احلاسوبية املعقدة،‏ ولكنهما ل يحددان نوعية املهارات<br />

الذهنية والعقلية اأو مستوى التطور الذهني املعقد كما<br />

يبني فيكوتسكي وذلك ينسحب بالضرورة على خمتلف<br />

الظواهر السيكولوجية.‏<br />

وهذا التصور للعقل املكتسب يجد مداه عند دونالد،‏<br />

اإذ يرى باأن عقل الإنسان يتشكل ويتبلور بقدرته الكلية<br />

على التعلم واكتساب الرموز،‏ ومن ثم اإعادة بنائها<br />

وصوغها يف تكوينات اإبداعية جديدة،‏ يف اجتاه يدعم<br />

تكيف البشر وسيطرتهم الهائلة على معطيات الوجود<br />

الذي يحتضنهم.‏<br />

لقد بنيّ‏ فيكوتسكي اأن التمييز بني العمليات العقلية<br />

العليا،‏ وبني الفعاليات الذهنية الدنيا،‏ يشكل منطلقا<br />

منهجيا يف فهم و عاج الأمراض النفسية والضطرابات<br />

السيكولوجية الوظيفية،‏ لأن هذه الضطرابات ميكن<br />

اأن تعود اإىل اختال يف العمليات الذهنية العليا اأو يف<br />

العمليات الذهنية البيولوجية الدنيا مع اختافات هامة<br />

يف السبب وطرق العاج اأيضا.‏ فاخللل يف الوظائف<br />

الدنيا يفسر غالبا بتلف يف اأعضاء احلس اأو املناطق<br />

اللحائية ‏)الأجزاء اخلارجية للمخ(،‏ ومن ثم فاإن هذا<br />

اخللل الوظيفي ميكن اأن يتم جتنبه جزئياً‏ من خال<br />

توفري بدائل جديدة للحواس مثل اأحرف برايل و اأجهزة<br />

السمع املختلفة.‏ اأما اخللل يف الوظائف العليا فدائماً‏ ما<br />

يحدث بسبب احلرمان الجتماعي،‏ و ميكن عاجه من<br />

خال تعديل البيئة الجتماعية للمريض.‏<br />

اإن اأي خلل يف الوظائف الدنيا للطفل ينتج ‏سلسلة<br />

من الصعوبات التي تعوق التطور الطبيعي لعاقاته<br />

الجتماعية وطبيعة تفاعله مع الآخرين،‏ وبالتاأكيد فاإن<br />

نتائج هذه الإعاقات التي تاأخذ طابعا نفسيا وتتجلى يف<br />

اضطرابات نفسية واضحة توؤدي بدورها اإىل اإعاقة تطور<br />

العمليات العقلية العليا واإىل ظهور نوع من الضطرابات<br />

النفسية اجلديدة الناجمة عن اإعاقة التطور الثقايف<br />

املتعلق بنمو نشاط الطفل الجتماعي.‏ ومع اأهمية هذا<br />

التصور فاإن فيكوتسكي يوؤكد باأن احتمالت تطور الطفل<br />

غري الطبيعي تتعلق بشكل اأكرب باإعاقة الوظائف النفسية<br />

العليا اأكرث من الوظائف الدنيا،‏ فالضطرابات ذات<br />

املنصاأ البيولوجي ميكن جتنبها من خال اندماج املريض<br />

يف بيئة اجتماعية مساندة تعمل على تطوير التكوينات<br />

النفسية العليا،‏ ويضاف اإىل ذلك اأن الوظائف العليا<br />

ميكن اأن تعوض الضعف يف العمليات الأولية،‏ فالتفكري<br />

والفهم ميكن اأن يعوضا الضعف يف السمع والروؤية<br />

مقاربات


2 0 1 1<br />

180<br />

واحلواس الأخرى،‏ لأن املريض يتعرف الأشياء مباشرة<br />

عرب احلواس،‏ ولكنه يستطيع التعرف على هذه الأشياء<br />

ذاتها بتوسط التفكري والتاأمل والتحليل.‏<br />

ومع اأن فيكوتسكي يوؤكد اأهمية العوامل البيولوجية،‏<br />

اإل اأنه يرفض اإرجاع السيكولوجي اإىل البيولوجي،‏ ويوؤكد<br />

اأهمية التفاعل بني البيولوجي والثقايف يف بناء الظاهرة<br />

السيكولوجية.‏ وبعبارة اأخرى،‏ ل ميكن التقليل من اأهمية<br />

الظاهرة السيكولوجية ووصفها باأنها ظواهر بيولوجية،‏<br />

مثل:‏ اجلينات والهرمونات و املوصات العصبية،‏ فهذه<br />

العناصر البيولوجية ل ميكنها حتديد طبيعة الظواهر<br />

السيكولوجية اإل من خال التفاعل مع الوسائل الثقافية.‏<br />

بالنسبة لفيكوتسكي،‏ فاإن الوسائل الثقافية اأهم من<br />

الآليات البيولوجية يف اإعطاء تفسري كامل وشامل<br />

للوظائف السيكولوجية.‏ وانطاقا من هذا التوجه،‏ انتقد<br />

فيكوتسكي النظريات السيكولوجية الكاسيكية،‏ لأنها<br />

كانت تركّ‏ ز على العمليات الفطرية الطبيعية البيولوجية،‏<br />

وتقلل من اأهمية العوامل الجتماعية يف تفسري علم<br />

النفس الإنساين.‏<br />

وهذا التاأكيد الذي يوليه فيكوتسكي للثقافة يف<br />

بناء ‏سيكولوجية الفرد،‏ يحيلنا اإىل نظرية مايرسون<br />

)1983-1888( Meyerson وروؤيته للعاقة بني<br />

الوظائف السيكولوجية و املنجزات،‏ حيث يعتقد اأن<br />

الإنسان ينزع اإىل التجسد يف ‏صنمية الإجناز،‏ ومن ثم<br />

فاإن البحث السيكولوجي – لديه-‏ يكون يف الكشف عن<br />

املحتويات الذهنية والنفسية للفرد يف وقائع وصنائع<br />

احلضارة املوصوفة.‏ فاأفعال الإنسان،‏ حسب مايرسون،‏<br />

تنتهي باأن تتجسد يف موؤسسات اأو منجزات،‏ والإنسان<br />

من ثم يتمكن بواسطة اجلهد الذهني من اإقامة هذه<br />

املنجزات،‏ اإنه بذهنه يوجه يديه ويصنع اأدوات وجوده<br />

ويشكل املادة ويبني العامل الذي يحيط به،‏ ومن هذا<br />

املنطلق ميكن القول باأن ذهن الإنسان وعقله موجود يف<br />

منجزاته احلضارية (11) .<br />

نقد التحليل النفسي:‏<br />

عارض فيكوتسكي نظرية التحليل النفسي،‏ واأعلن<br />

نقده لها يف كتابه الشهري ‏»املدلول التاريخي للأزمة يف<br />

علم النفس«،‏ ويف هذا الكتاب يتهم فيكوتسكي مدرسة<br />

التحليل النفسي بالتحفظ واجلمود التاريخي،‏ لأنها<br />

تنطلق يف فهم الإنصان من خال النوازع والأصول<br />

البدائية الغريزية الأولية،‏ ويف مناأى عن الشروط<br />

التاريخية والثقافية لتكون عقلية الإنسان وسيكولوجيته،‏<br />

وهو يعتقد وفقا لذلك باأن مدرسة التحليل مل يكتب لها<br />

النجاح كما يجب لأنها تتعارض مع املنهج املاركسي يف<br />

دراسة وحتليل الظاهرة النفسية.‏ فالتحليل النفسي<br />

يف ‏صيغته الفرويدية ينطلق من منهجية الأخذ بالآلية<br />

الفطرية الطبيعية كاأساس للظواهر النفسية،‏ ويتجلى<br />

هذا التصور يف تقسيم فرويد ملراحل التطور النفسي<br />

وفقا ملعايري اجلنسانية اللبيدية،‏ وتاأكيده الصارم على<br />

اأهمية عقدة اأوديب،‏ بوصفها نزعة فطرية متاأصلة يف<br />

الكيان النفسي للإنسان،‏ وهذا يعني اأن الفرويدية تقلل<br />

من ‏صاأن الضبط الثقايف وتاأثريه يف تشريط احلياة<br />

النفسية للإنسان.‏<br />

يفسر فرويد،‏ التصادم احليوي بني النزعات<br />

الفطرية املنطلقة من عقالها والصرورات الثقافية<br />

الرمزية يف املجتمع،‏ بطريقة ‏سيكولوجية ‏صرفة،‏ حيث<br />

يطلق فرويد على انتصار املحددات الثقافية واإزاحتها<br />

للعوامل الفطرية الأولية مفاهيم:‏ الكبت والنكوص<br />

والإسقاط والتخاطر،‏ وهي عمليات يفرتض اأن تكون<br />

فطرية،‏ وهذا يدل على ترجيح فرويدي للعامل الفطري<br />

يف تفسري ما هو ثقايف وتاريخي وجديل.‏ فغالبا ما<br />

يرجع فرويد الظاهرة النفسية اإىل اأبعادها البيولوجية<br />

اجلسدية،‏ حيث جند تقسيمه املشهور ملراحل التطور<br />

السيكولوجي للفرد ‏)املرحلة الفموية،‏ فالشرجية،‏<br />

والكمونية،‏ فاجلنسية(،‏ وهذا يعني اأن فرويد يرسم<br />

‏صورة النفس على ‏صورة تطور اجلسد وغرائزه اللبيدية،‏<br />

وهذا هو التصور الذي جنده راسخا يف كتابه ‏»مشروع<br />

السيكولوجية العلمية«‏ )1895(. وعلى الرغم من<br />

فشل فرويد اعتماد مفاهيم التشريح العصبي اأساساً‏<br />

لعلم النفس،‏ فاإنه مل يتخلّ‏ اأبداً‏ عن املفهوم الأساسي<br />

الفطري الذي حفزه يف البداية اإذ استمر يف العتقاد<br />

باأن الوظائف اجلسدية الناشئة كرد فعل منعكس وتلك


181<br />

2 0 1 1<br />

العمليات املنعكسة تشكل املثال لكل الوظائف النفسية<br />

‏)السيكولوجية(؛ فالفعل النفسي عند فرويد ينصاأ من<br />

غريزة ‏شبه عضوية تهدف اإىل تفريغ الطاقة للحفاظ<br />

على احلدّ‏ الأدنى من التوازن،‏ لأن القوى النفسية لديه<br />

تعمل تبعاً‏ للقواعد اجلسدية مثل الديناميكا احلرارية.‏<br />

وكاأن فرويد يستلهم نظرته للآلية النفسية من الفيزياء<br />

النفسية،‏ اأو من مبادئ داروين البيولوجية التي كان لها<br />

تاأثري كبري يف تصوراته النفسية،‏ حيث تبنّى عددا من<br />

الفرضيات البيولوجية التي جندها يف ‏صلب النظرية<br />

التطورية عند دارون يف اأصل الأنواع.‏<br />

نقد بياجيه:‏<br />

ومل يكن انتقاد فيكوتسكي للمفكر السويسري جان<br />

بياجيه اأقل حدة من انتقاده لفرويد ونظريته يف التحليل<br />

النفسي.‏ ومن الطبيعي اأن ياقي بياجيه ما لقيه فرويد من<br />

نقد،‏ وذلك لأنه ل يختلف كثريا عن فرويد يف تفسريه للتفكري<br />

وبنائية العقل على خلفية بيولوجية.‏ فبياجيه كان دائما مياثل<br />

بني عملية التفكري والعمليات الفيزيولوجية اخلالصة،‏ وكان<br />

اأيضاً‏ يعتقد باأن العمليات املعرفية مبنية على الأنا الفردية<br />

ولسيما يف املراحل املبكرة من حياة الفرد.‏<br />

يف الفصل الثاين من كتابة الشهري ‏»التفكري<br />

واخلطابة«‏ )1987( انتقد فيكوتسكي وجهة نظر<br />

بياجيه فيما يتعلق بالنمو الذهني عند الأطفال،‏ حيث<br />

ينظر بياجيه اإىل الطفل بوصفه كائنا غري اجتماعي،‏<br />

تتحكم فيه دوافع بيولوجية وميول اإىل حتقيق رغباته<br />

بطريقة اأنوية غري موضوعية.‏ و على ‏سبيل املثال اعتقد<br />

بياجيه اأن لغة الأطفال موجهة اأساساً‏ للتعبري عن<br />

الرغبات والأماين التخيلية عن النفس.‏ وعلى خاف<br />

هذا التصور يوؤسس فيكوتسكي لتصور اآخر خمتلف<br />

عن هذا الذي جنده عند بياجيه،‏ اإذ يرى باأن الآليات<br />

الفطرية تتحكم بسلوك الأطفال الرضع دون السنتني<br />

من العمر،‏ ولكن الطفل بعد هذه املرحلة يبداأ بعمليات<br />

الندماج الجتماعي،‏ وهذا يعني اأن الآلية البيولوجية<br />

تعمل لوقت قصري كعنصر اأساسي للحفاظ على البقاء،‏<br />

ومع ذلك فاإن املوؤثرات الجتماعية تعلو عليها بسرعة<br />

فائقة ومتزايدة،‏ حيث تشكل العاقات الجتماعية<br />

السياق التطوري للأطفال بتكويناتهم الذهنية والعقلية.‏<br />

فالطفل،‏ عند فيكوتسكي،‏ كائن اجتماعي متفاعل يف<br />

دائرة احلياة الثقافية للجماعة.‏ وعلى خاف ذلك يراه<br />

بياجيه فطريا اأنويا مفرغا من مضمونه الجتماعي.‏<br />

فالعاقات الجتماعية حتدد وتبلور ‏سيكولوجية الطفل<br />

لدى فيكوتسكي منذ البداية،‏ وعلى خاف ذلك،‏ فاإن<br />

هذه العاقات الجتماعية تعد ثانوية ومناقضة لطبيعة<br />

الطفل عند بياجيه.‏<br />

يوؤكد فيكوتسكي اأن اللغة الأوىل للطفل تتشكل عرب<br />

التواصل الجتماعي وفق مراحل تكوينية متتابعة،‏ ويرى<br />

اأن الوظيفة الأساسية للكام هي وظيفة اجتماعية<br />

غايتها التفاعل والتواصل الجتماعي،‏ وهذا يعني اأن<br />

الكام يف جوهره اجتماعي وليس فطريا،‏ وهذا الراأي<br />

يتضمن القول باأن الكام ل ينصاأ ول يتطور اإل مبقتضى<br />

احلاجة الجتماعية اإليه.‏<br />

لقد اآمن فيكوتسكي باأهمية الفعل الذاتي للفرد<br />

بوصفه كينونة فردية،‏ وذلك على الرغم من الأهمية<br />

التي يعطيها للمجتمع يف حتديد ‏سيكولوجيا الفرد.‏<br />

فالأفراد يفكرون ويحللون ويركبون ويجربون ويختارون<br />

ويبدعون نظما اجتماعية جديدة يف دائرة حياتهم<br />

وفعلهم ونشاطهم الجتماعي.‏<br />

لقد اأكد فيكوتسكي اأهمية الدور الجتماعي يف<br />

بناء ‏سيكولوجيا الفرد،‏ وهو يف هذا السياق يعرّ‏ ف<br />

العمليات السيكولوجية العليا باأنها نشاط عقلي وذهني،‏<br />

يتحدد يف نسق واقع ثقايف اجتماعي حمدد،‏ يفيض<br />

باملعاين والدللت والقيم والرموز.‏ ويف عمق هذا<br />

الوسط الجتماعي الثقايف ينشط الفرد بوصفه فردا،‏<br />

وهذا يعني اأنه ل ميكن لنا استقراء الدور الجتماعي<br />

للفرد من خال الشخصية بوصفها بناء ‏سيكولوجيا.‏<br />

وعلى خاف ذلك يجب استقراء الشخصية من خال<br />

فعالية الوسط الجتماعي الذي يحيط بها.‏ فالظواهر<br />

الجتماعية ترتكز على منظومة من القيم،‏ وبالتايل<br />

فاإن معظم الظواهر مبا فيها الظواهر النفسية عبارة<br />

عن اأشكال جديدة لقيم موجودة واأنشطة اجتماعية<br />

حمددة.‏ فاملنحرف يتبنى ‏سلوكا حمدثا ينتهك الأعراف<br />

مقاربات


2 0 1 1<br />

182<br />

الجتماعية،‏ ومع ذلك فاإن التحليل العلمي الدقيق لهذا<br />

السلوك يكشف اأنه جمرد مبالغة اأو اإفراط يف جتسيد<br />

القيم السائدة:‏ العنف،‏ الكتئاب،‏ والتملك،‏ والتنافس،‏<br />

والغرور،‏ ومركزية الأنا،‏ الفردية،‏ هي جتليات مبالغ<br />

فيها لقيم اجتماعية ‏ضاربة اجلذور يف الثقافة القائمة.‏<br />

فالسلوك املنحرف اخرتاع يتجاوز حدود ومعايري القيم<br />

والأنشطة السائدة،‏ ومثال ذلك الشذوذ اجلنسي بوصفه<br />

رفضا للقيم الجتماعية القائمة واإفراطا يف اإشباع<br />

اجلنس بوصفه قيمة اجتماعية مشروعة،‏ وبعبارة اأخرى،‏<br />

فاإن الشذوذ اجلنسي يعرب عن انتشار قيم و عاقات<br />

اجتماعية يف ‏شكل جديد خمتلف عن ما هو قائم وسائد<br />

يف الثقافة السائدة.‏ وبعبارة اأخرى،‏ ميكن القول،‏ وفقا<br />

لفيكوتسكي،‏ باأن الظواهر السيكولوجية تعكس اإىل حدّ‏<br />

كبري القيم الثقافية السائدة يف املجتمع وتنطلق منها.‏<br />

اإن معظم الظواهر النفسية اجلديدة هي جمرد<br />

اأشكال خمتلفة للظواهر النفسية الجتماعية املوجودة<br />

يف واقع الأمر،‏ وهذا يعني وجود اإمكانية دائمة حلدوث<br />

تغيريات جذرية يف بنية الظواهر النفسية وابتكار ‏صيغ<br />

جديدة لكيانات ‏سيكولوجية ذات خصائص اجتماعية.‏<br />

ففي عصر الفردية املتطرفة و التنافس والنزعات املادية<br />

الصرفة،‏ ميكن اأن تتشكل نزعات ‏سيكولوجية معربة عن<br />

هذا الواقع مبا يعتمل فيه من وقائع وقيم وممارسات<br />

وفعاليات.‏<br />

لقد نصاأت ظاهرة التكالية كظاهرة ‏سيكولوجية<br />

حتت تاأثري ظروف الإنتاج السائدة يف حياتنا املعاصرة،‏<br />

فطعامنا و اأفكارنا وحتى الهواء الذي نستنشقه يعتمد<br />

على اأنشطة اأفراد اآخرين يف اأماكن بعيدة عنا.‏ وهذه<br />

التكالية الواسعة قد تقود الناس لأن يهتموا مبا يفعله<br />

الآخرون و اأن ينظموا اأنشطتهم بطريقة عقلية لتحقيق<br />

فائدة اأكرب.‏ يف هذه احلالة فاإن تنمية الشخصية املتعاونة<br />

واملحبة للغري و تنمية الدوافع ميكن لنا اأن نستنبطها من<br />

عناصر احلياة الجتماعية وفعالياتها املختلفة.‏ فالكثري<br />

من الظواهر النفسية مثل احلب العذري الرومانسي<br />

والتحرر اجلنسي تنصاأ يف ظل وضعيات اجتماعية<br />

حمددة تتناسب مع مراحل حمددة من مراحل التطور<br />

الجتماعي التاريخي.‏ فالظواهر السيكولوجية منتجات<br />

عقلية خلقت بواسطة املجتمع واحلياة الجتماعية ولذلك<br />

فمن الصعب تفسريها على اأساس الوعي الفردي،‏ كما<br />

اأن الدين واللغة والعادات مل يكتشفها الأفراد باملصادفة<br />

اخلالصة،‏ لأن الوظائف النفسية العليا هي نتاج املجتمع<br />

الإنساين كما يحاول فيكوتسكي اأن يربهن واأن يجعلنا<br />

نعتقد.‏<br />

الهوامش واالإحاالت<br />

1- Schneuwly, B.; Bronckart, J. P. (eds.). 1985. Vygotsky aujourd’hui, Neuchâtel,Paris, Delachaux & Niestlé.<br />

2- فيكوتسكي،‏ ل.س )2000(. السيكولوجيا وعلم اجلمال،‏ ترجمة اأحمد حممد خنسة ، دار عاء الدين،‏ دمشق.‏<br />

3- Vygotsky, L. S. (1997a). Collected works (Vol. 3). New York: Plenum.P 341.<br />

4-1Vygotsky, L. S. (1997a). Collected works (Vol. 3). New York: Plenum.P 331.<br />

5- Vygotsky, L., & Luria, A. (1993). Studies on the history of behavior. Ape, primitive, and child. Hillsdale, NJ: Erlbaum.<br />

(Original work published 1930)pp 213-228.<br />

6- فيكوتسكي،‏ ل.س )2002( اخليال والإبداع عند الأطفال،‏ ترجمة جمال ‏سليمان،‏ بريوت،‏ موؤسسة الرسالة.‏<br />

7- Vygotsky, L. S. (1997b). Educational psychology. Boca Raton, FL: Ingram. (Originally written 1921- 1923).<br />

8- Ratner, C. (1991). Vygotsky>s sociohistorical psychology and its contemporary applications. New York: Plenum.<br />

9- Luria, A. (1978). Vygotsky and the problem of functional localization. In M. Cole (Ed.), The selected writings of A R.<br />

Luria (pp. 27 3 - 28 1). New York: Sharpe.<br />

10 - Donald, M. (1991). Origins of the modem mind. Cambridge: Harvard University Press.<br />

11- Meyerson, I. 1948. Les fonctions psychologiques et les oeuvres. Paris, Vrin. Perret-Clermont, A. N. 1979. La construction<br />

de l’intelligence dans interaction sociale, Berne, Peter Lang.


االأدب التفاعلي<br />

واجتاهات ما بعد<br />

البنيوية<br />

د.‏ زرفاوي عمر<br />

اأستاذ حماضر بقسم الآداب،‏ جامعة تبسة،‏ اجلزائر


185<br />

2 0 1 1<br />

االأدب التفاعلي<br />

واجتاهات ما بعد البنيوية<br />

د.‏ زرفاوي عمر<br />

ياأتي احلديث عن مرجعيّة الإبداع التفاعلي يف وقت تتاآكلُ‏ فيه رقعة النقد وتتسعُ‏ فيه رقعة التنظري بعد ذلك<br />

التّغريّ‏ الذي طال مكوّنات املنظومة الإبداعية بولوج احلاسوب عامل الإبداع والتنظري الأدبي والنقدي،‏ تنظري لأدب<br />

ناشئ ونقد يقوم على غراره،‏ ومع القتحام املشهود الذي مارسه احلاسوب للمعرفة عامة،‏ والإبداع خاصة،‏ باتت<br />

احلاجة ماسّ‏ ة لنظرية اأدبية جمالية جديدة تستوعب املتغريّ‏ ات التي اأملّت بالإبداع الأدبي يف عصر املعلوماتيّة.‏<br />

لقد اتّخذت املنظومة الإبداعيّة بعد تلك التحوّلت ‏شكا مربّعا بعدما ركنت لأمد طويل اإىل ذلك التكوين<br />

الثاثي مع نظريات النص السابقة على ظهور ‏»النص املرتابط«،‏ فقبل ذلك يقول ‏سعيد يقطني ‏»كنّا نحدّ‏ دُ‏<br />

اأطراف ومكوّنات النص يف ثاثة اأطراف:‏ ‎1‎‏-الكاتب 2- النص ‎3‎‏-القارئ،‏ اأمّ‏ ا مع النص املرتابط فتحدّ‏ د<br />

الأطراف على النحو الآتي:‏ ‎1‎‏-املبدع ( * ) ‎2‎‏-النص‎3‎‏-احلاسوب ‎4‎‏-املتلقي«‏ )1( .<br />

وبعدما ظل النقد اخلادم املمتهن لاأدب حلقبة<br />

طويلة اأعلن استقاله وتزايد الإصرار يف السنني<br />

القليلة املاضية على اأنّه ل يقلّ‏ اأدبيّة عن الأدب نفسه<br />

من خال جهود نقاد ما بعد البنيوية.‏ فقد حقّق ‏»رولن<br />

بارت Barthes Roland ‏»ذلك العبور بالفعل يف حتليله<br />

لقصة ‏»بلزاك«‏ ... ويف تلك الدراسة يوؤكّ‏ د بارت ‏ضرورة<br />

عبور لغة النقد وانتقالها من موقع اللغة الثانية اإىل موقع<br />

اللغة الأوىل ‏)لغة الأدب(«‏ )2( ، وتوالت تلك الجهود مع<br />

اأعمال ‏»ميشال فوكو »Michel Foucault و«‏ جاك<br />

دريدا Jacques Derrida ‏»و«‏ اأمربتو ايكو Umberto<br />

»Eco عن النص املفتوح-‏Text ،Open وعن الدور<br />

الفعّال للقارئ اأو املوؤوّل يف قراءة النصوص باعتباره<br />

منتجا للنّص ل مستهلكا له،‏ فليس من املصادفة<br />

اإذن اأن يذهب ‏»جورج لندو«‏ يف مقاله ‏»ماذا ‏سيفعل<br />

الناقد«‏ اإىل اأن ‏»النص املتعالق ‏صاأنه ‏صاأن اأعمال ما<br />

بعد البنيويني احلديثة اأمثال«‏ رولن بارث ‏»و«‏ جاك<br />

دريدا«‏ ، يعيد النظر يف الفرضيات املتعارف عليها<br />

والتي ‏سادت طويا حول املوؤلفني والقرّ‏ اء والنصوص<br />

التي يكتبونها ويقروؤونها،‏ فالربط الإلكرتوين،‏ وهو<br />

اأحد مظاهر تعريف النص املتعالق،‏ يجسد اأيضا اآراء<br />

‏»جوليا كريستيفا«‏ حول النصوصية املتداخلة،‏ واإصرار<br />

‏»باختني«‏ على التعددية الصوتية،‏ ومفهوم ميشيل فوكو<br />

لشبكات القوى،‏ واأقكار»جيل دولوز«‏ و»فليكس غتاري«‏<br />

حول ‏»الفكر املرحتل«‏ )3( .<br />

اإنّ‏ الباحثني املتحمسني لفكرة النص التشعبي<br />

يعتقدون اأنّنا الآن نشهدُ‏ ثورة يف طريقة كتابة العمل<br />

الأدبي،‏ ويبدو اأن مبداأ ‏»تعدّ‏ د الأصوات«‏ ( ** ) الذي<br />

جاء به ‏»ميخائيل باختني »Mikhail Bakhtin ينطبق<br />

على هذه الفكرة متام النطباق،‏ ويبدو كذلك اأن رغبة<br />

‏»ميشال فوكو »Michel Foucault يف حرية تداول<br />

النصوص،‏ وحرية استغالها وتركيبها وتفكيكها واإعادة<br />

تركيبها حتقق يف هذه النصوص )4( ، ويبدو اأن تصوّر«‏<br />

جان فرانسوا ليوتار Jean François Lyotard ‏»حلركة<br />

ما بعد احلداثية،‏ والتي من بني خصائصها الأساسية<br />

اإلغاء البناء الهرمي ثم تساوي اأجزاء الكلّ‏ من حيث<br />

قيمة كلّ‏ منها،‏ قد جتسّ‏ د يف اأعمال اأدبية جتريبية كتبت<br />

باأسلوب النص التشعبي مع اإلغاء القراءة واإتاحة حريّة<br />

التّجوال بني اأجزاء العمل،‏ باإتّباع خطوط التّصال<br />

مقاربات


2 0 1 1<br />

186<br />

املائمة بني خمتلف املواقع )5( .<br />

ويعدُّ‏ تصوّر الشبكة الذّ‏ ي دعا اإليه«‏ » رولن بارت<br />

»Barthes Roland يف كتابه ، S/Z فصا عن العاقة<br />

النشطة بني القارئ والنص التشعبي،‏ جتسيدا للغاية<br />

املثلى التي ينشد فيها نصوص القراءة الإيجابية يف<br />

مقابل نصوص القراءة السلبية.‏ ولكنّ‏ هذا ل يعني اأنّ‏<br />

هذه النّصوص تقتضي قارئا نشطا وفعّال،‏ بل يعني اأنّها<br />

تقتضي موؤلّفا مشاركا ‏)مع عدم وضوح احلدود الفاصلة<br />

بني القارئ والكاتب(يعلّق على النّصوص ويرثيها<br />

بروابط-اأو خطوط اتّصال-‏ جديدة يتيحها للكتّاب<br />

املشاركني يف كتابة العمل مستقبا )6( .<br />

وهو الأمر الذّ‏ ي قاد يف املحصّ‏ لة العامة اإىل استثمار<br />

تلك اجلهود من قبل روّاد املمارسات املفرّ‏ عة يف اإبداع<br />

تقنية النص املرتابط،‏ والنص املرتابط ميثل جتسيدا<br />

وتطبيقا عمليا»‏ لقضايا كانت حمض جتريد ذهن<br />

القارئ مثل النصوصيّة املتداخلة،‏ والنص املقروء،‏<br />

والإزاحة،‏ ونظرية العماء،‏ وشبكات القوى،‏ اإضافة<br />

اإىل موقع القارئ واملوؤلّف،‏ والكتاب،‏ اإن هذا النوع من<br />

النص اأعطى ملفهوم ‏»الصيميولكرم«‏ حتقّقا غري<br />

.)7(<br />

واقعي)واملفارقة)‏ *** ‏(مقصودة(«‏<br />

اإنّ‏ املهتّمني بهذا النص يرون نظريته تقومُ‏ على<br />

نظريات النص ما بعد البنيوي التي نادى بها ‏»دريدا«‏<br />

و»فوكو«‏ و»بارت«‏ على وجه اخلصوص،‏ ولعلّ‏ يف وصف«‏<br />

بارت«‏ للنصوصية املثلى يف كتابه:‏S/Z تعريفا حقيقيا<br />

للنص املتعالق حتّى اأنّ‏ ‏»جورج لندو«‏ استشهد به حني<br />

عرض لتاريخ مصطلح النص املتعالقّ‏ » يقول بارت:»‏<br />

اإنّ‏ يف هذا النص املثايل ‏شبكات كثرية ومتفاعلة<br />

معها،‏ دون اأن تستطيع اأي منها تجاوز البقيّة؛ اإنّ‏ هذا<br />

النص كوكبة من الدوّال ل بنية من املدلولت،‏ ليس له<br />

بداية،‏ قابل للرتاجع،‏ ونستطيع الولوج اإليه من مداخل<br />

متعدّ‏ دة،‏ ول ميكن لأيّ‏ منها اأن يوصف باأنه املدخل<br />

الرئيس،‏ والشيفرات التي يهيّوؤها متتّد على مسافة<br />

ما تستطيع ‏)روؤيته(‏ العني،‏ ول ميكن حتديدها ‏)اأي<br />

الشيفرات(...اإنّ‏ اأنظمة املعنى تستطيع السيطرة على<br />

هذا النص املتعدّ‏ د ‏)تعددية(‏ مطلقة،‏ لكن عددها غري<br />

قابل لانغاق اأبدا،‏ لأنه كما هي احلال معتمد على ل<br />

نهائية اللغة«‏ )8( .<br />

ويوؤكّ‏ د ‏صاحبا دليل الناقد الأدبي يف اإضاءتهما<br />

ملصطلح ‏»النص املتعالق »Hypertext اأن وصف ‏»رولن<br />

بارت »Roland Barthes للنّصوصية ل يختلف عن<br />

‏»ميشال فوكو »Michel Foucault للكتاب خاصة يف<br />

حفريات املعرفة،‏ ويوردانه كاما بعدا اأورده ‏»جورج<br />

لندو »George Landow بصورة مقتضبة،‏ يقول ‏»فوكو«‏<br />

: ‏»اإنّ‏ اأطراف الكتاب القصوى ليست واضحة املعامل اأبدا<br />

بغض النظر عن عنوانه واأسطره الأوىل ونهايته،‏ وبغض<br />

النظر عن عنوانه واأسطره ونهايته،‏ وبغض النظر عن<br />

ترتيبه الداخلي ووحدته الشكليّة فاإنّ‏ الكتاب مشتبك<br />

بنظام من الإحالت اإىل غريه من الكتب،‏ اإىل غريه من<br />

النصوص،‏ اإىل غريه من اجلمل:‏ اإنّه حلقة ‏ضمن ‏شبكة«‏<br />

. )9(<br />

لقد اأصبحت تقنية النّس املرتابط خمتربا<br />

يستخدمه املنظّ‏ رون لتفحّ‏ ‏ص اأفكارهم،‏ كما اأنّ‏ جتربة<br />

قراءة النص املرتابط توضحُ‏ اأصدّ‏ الوضوح عددا<br />

من اأهمّ‏ اأفكار النظرية الأدبية،‏ ويوؤكّ‏ دُ‏ ‏»ج،‏ دايفيد<br />

بولرت-‏ »J.David Bolter مدى جتسيد النصية املفرّ‏ عة<br />

ملفهومات ما بعد البنيوية عن النص املفتوح – Open<br />

،Text وهو ما ذهب اإليه اأبرز اأقطاب املمارسات املفرّ‏ عة<br />

‏»جورج لندو«،‏ موؤكّ‏ دا ‏»اأنّ‏ النص الإلكرتوين املتفرّ‏ ع ‏سهّ‏ ل<br />

مهمّ‏ ة فهم مقولت ‏»ما بعد احلداثة«‏ التي تبدو للنّصوص<br />

الورقية املطبوعة مبهمة،‏ وشاذة وطموحة جدّ‏ ا«‏ )10( ، لقد<br />

بلغ ذلك التّقارب الفكري بني توجّ‏ هات اأعام النظرية<br />

الأدبية وبعض توجّ‏ هات تكنولوجيا املعلومات اإىل حدّ‏<br />

اإعطاء السم نفسه–‏ النص التشعبي مثلما استخدمه<br />

‏»جينيت«‏ للإشارة اإىل اأشكال التّناص.‏<br />

ويف ‏سياق حديثه عن العاقة بني اأفق العوملة وما بعد<br />

احلداثة يرجّ‏ ح الدكتور ‏»عز الدين اإسماعيل«‏ مستوى<br />

التطابق على مستوى التداخل والتفاعل بين توجّ‏ هات ما<br />

بعد احلداثة يف جتلياتها النقدية وبني جهود روّاد النّص<br />

املرتابط فيقول:‏ ‏»ويكفي اأن نذكر يف هذا الصّ‏ دد اأن<br />

اأصحاب الجتّ‏ اه الأخري الذّ‏ ي بداأ مع بداية تسعينات<br />

القرن املاضي بزعامة ‏»لنداو »Landow يف اأمريكا<br />

لدراسة ما يسمّ‏ ى بالنص الشامل اأو النص الإلكرتوين<br />

،hypertext هوؤلء كانوا قد تاأثّروا بجملة من اأفكار<br />

ما بعد احلداثة التي كان«‏ رولن بارت«‏ و«‏ جاك دريدا«‏<br />

وغريهما قد طرحوها،‏ خصوصا فيما يتعلّق بفكرة<br />

النص املفتوح،‏ وانتشار املعنى با حدود،‏ ودور القارئ


187<br />

2 0 1 1<br />

يف اإنتاج النّص«‏ )11( .<br />

واإذا كانت اجتاهات ما بعد البنيوية ممثلة يف<br />

اإسرتاتيجية التفكيك قد نقلت السلطة من النص اإىل<br />

القارئ فاإنّ‏ جهود نقاد ‏»مدرسة كونستانس Konstans<br />

»School كان لها الفضل يف اإرصاء تلك العاقة<br />

الديالكتيكيّة بني النص والقارئ،‏ موجّ‏ هة الأنظار اإىل فعل<br />

التلقي الأدبي ودور القارئ الفعّال واحليوي يف العملية<br />

الإبداعيّة،‏ فهانز روبرت ياوس وهو يوؤسّ‏ ‏س لنظرية<br />

التلقي وينظّ‏ ر لأفق التوقعّات حتدّ‏ ث عن تاريخ التلقي<br />

وحوار الآفاق،‏ وهو الأمر الذّ‏ ي اأفادت منه املمارسات<br />

املفرّ‏ عة حيث بات القارئ السرباين ل جمرّ‏ د متلقٍ‏ ‏سلبي<br />

بل متلق مبدع،‏ والباحث يف جماليات التّلقي ميكن اأنّ‏<br />

يجد يف النص املرتابط»اأداة بحثيّة نافعة،‏ فالباحث،‏<br />

على ‏سبيل املثال،‏ قد يرفقُ‏ استبانة بنص اإلكرتوين<br />

ميكنُ‏ الوصول اإليها على الإنرتنت،‏ وهو ما قد ميكّ‏ نه من<br />

معرفة كيف تلّقى القرّ‏ اء هذا العمل«‏ )12( .<br />

ولأنّ‏ اإسرتاتيجية التفكيك تهدف اإىل نقض املركز<br />

الثابت وفتح فضاء الدللة على اللّعب احلرّ‏ للدّ‏ وال التي<br />

ل تكفّ‏ عن توليد املعاين اخلافية فاإن النص املرتابط<br />

نص ل مركزي،‏ نص ل بوؤرة له،‏ تنطلق منها وجهة<br />

نظر القارئ يف روؤيته له،‏ ولذلك ميكن كما يقول«‏ ‏سعيد<br />

الوكيل«‏ ‏:»ربط النص التشعبي بنظرية التفكيك حيث<br />

تتعدّ‏ دُ‏ املراكز داخل النّص،‏ ومن ثمّ‏ ة تتعدّ‏ د الروؤى ول<br />

ميكنُ‏ اخلضوع لروؤية واحدة،‏ اإذ يلفتنا التفكيك اإىل<br />

مراوغة النص حيث ل تتاآزرُ‏ كل عناصره يف اإطار روؤية<br />

واحدة كليّة اإىل حدّ‏ اأنّه يقوّضُ‏ نفسه«‏ )13( .<br />

وباإعان موت املوؤلّف ‏صار العمل الأدبي جمرّ‏ د<br />

‏»كولج«‏ ثقايف اأو جمرّ‏ د نصوص متّ‏ امتصاصها وحتويلها<br />

وصيغت بشكل جديد،‏ فكلّ‏ نص هو حتما رابط بني<br />

نصوص عدّ‏ ة،‏ ‏»وبظهور النص الإلكرتوين وظهور النص<br />

التشعبي تبعا لذلك،‏ هذا الأخري الذّ‏ ي يوؤدّي اإىل زيادة<br />

‏»الطاقة التّناصيّة«‏ للنص زيادة ل حدود لها،‏ كما اأن<br />

املراجع املستشهد بها ل تظل مربوطة فهرسيا مبسارات<br />

املخطط الربجمي،‏ بل تصريُ‏ هي املسارات بحيث يكون<br />

مبقدور القارئ ارتيادها كيفما ‏شاء«‏ )14( .<br />

اإذن،‏ فالنظرية الأدبيّة املنشودة تستّمدّ‏ اإطارها<br />

املرجعي من خال ما استقرت عليه النظرية النقدية<br />

خاصة جهود التفكيكيني؛ ‏»رولن بارت-‏ Roland<br />

»Barthes ، و»ميشال فوكو-‏Michel »Foucault ، وهو<br />

ما يقرّ‏ ه ‏»جورج لندو »Landow George قائا:»اإنّ‏<br />

التوازيات بني النص املفرّ‏ ع احلاسوبي والنظرية النقدية<br />

تثري النتباه من عدّ‏ ة نواح،‏ رمبّ‏ ا كان اأهمّ‏ ها اأنّ‏ النظرية<br />

النقدية حتملُ‏ عائم التنظري للنّص املفرّ‏ ع،‏ وباملقابل<br />

يحمل النّصُ‏ املفرّ‏ ع عائم جتسيد النظرية الأدبية ورَوْزِ‏<br />

جوانبها،‏ ولسيّما ما يتصلُ‏ منها بالنّصية،‏ والسردية،‏<br />

واأدوار القارئ والكاتب ووظائفهما«‏ )15( .<br />

اإنّ‏ توازي التنظري البارتي والفوكوي للنّص املفتوح -<br />

Text Open مع جتسيد وتفعيل ‏»تيد نيلسون«‏ و ‏»جورج<br />

لندو«‏ ملفهوم النص املرتابط،‏ يقول«‏ حسام اخلطيب«‏<br />

: ‏»ليس نهاية املطاف،‏ واإنّ‏ وراء الأكمة ما وراءها،‏ فمن<br />

الطبيعي اأن تنبثق عن املمارسات املفرّ‏ عة جماليات<br />

جديدة ونظرات اأدبية متنوّعة من ‏صاأنها اأن توؤدّي اإىل<br />

تاأزّم وتفاقم اإشكاليّة مرجعيّة النّص-‏ وهذا ما يُنتظر اأن<br />

يحدث يف املنظور القريب-‏ واإمّ‏ ا اإىل ‏شيء من النفراج<br />

والإضاءة للمرجعيّة من خال الفيض احلرّ‏ للمعلومات<br />

وديناميّة املرونة احلاسوبيّة وعامليّتها«‏ )16( .<br />

وبعقليّة حواريّة،‏ تداولية يرتاجع فيها العقل النخبوي<br />

للمثقفني والنّقاد واملفكّ‏ رين اأمام العقل امليديائي لعمّ‏ ال<br />

املعرفة يدعو ‏»حسام اخلطيب«‏ اإىل توسيع دائرة مشاركة<br />

اجلمهور يف تصوّر جماعي ملرجعيّة الإبداع الأدبي يف<br />

عصر املعلوماتيّة عرب ما متنحه ديناميكية احلاسوب<br />

ومرونته وما يقدّ‏ مه النص املرتابط من اإمكانات هائلة<br />

يف قراءة وتشكيل النص الأدبي،‏ املرجعيّة تعقّدت وبات<br />

من الصعب حتديدها يف ظلّ‏ التفلّت الفكري والأدبي،‏<br />

ولعلّ‏ ما نقوم به من خال هذه السّ‏ طور يعدّ‏ لبنة تضاف<br />

اإىل تلك اللبنات التي ‏سبق وضعها من جهود نقّاد<br />

واأكادمييني كحسام اخلطيب وسعيد يقطني وفاطمة<br />

الربيكي.‏<br />

وحسام اخلطيب بتوسيعه دائرة مشاركة اجلمهور<br />

يف تصوّر جماعي ملرجعيّة الإبداع يكون قد اأبدع نصاً‏<br />

مفتوحاً‏ يفسح املجال اأمام القرّ‏ اء والموؤوّلني لنصه<br />

املطبوع كتابة نص على نصه،‏ وميهّ‏ د الطريق لتصوّر<br />

جديد ملرجعيّة الإبداع يعتمد تقنية النص املرتابط،‏ اأين<br />

يصبح نص تصوّر املرجعية نصا مرتابطا ميكن للقارئ<br />

السرباين الدخول اإليه ليسهم يف اإبداعه ويجري عليه<br />

اأي ‏شكل من اأشكال التعديل التي يراها.‏<br />

مقاربات


2 0 1 1<br />

188<br />

الهوامش واالإحاالت<br />

( * ) يذهب ‏سعيد يقطني يف كتابه ‏»من النص اإىل النص املرتابط،‏ مدخل اإىل جماليات الإبداع التفاعلي«‏ اإىل استعمال<br />

مصطلح ‏»املبدع«‏ حمل الكاتب لأنّ‏ دوره يتعدّ‏ ى الكتابة اإىل الإبداع ‏)بواسطة استخدام احلاسوب(‏ الذي يتسع<br />

ملمارسات اأخرى غري الكتابة،‏ والشيء نفسه يقال عن القارئ،‏ وليس ذلك باجلديد بل اإنّ‏ املصطلح املذكور<br />

تداولته الكتابات النقدية مع اجتاهات ما البنيوية.‏<br />

( ** ) يقول باختني:‏ ‏»اإنّ‏ العمل الأدبي،‏ والروائي بوجه خاص،اإطار تتفاعل فيه جمموعة من الأصوات اأو اخلطابات<br />

املتعدّ‏ دة اإذ تتحاور متاأثّرة مبختلف القوى الجتماعيةّ‏ من طبقات ومصالح فئوية وغريها«.‏<br />

( *** ) قول الناقدين:‏ ‏»اإنّ‏ املفارقة مقصودة«‏ يعني كيف تعدّ‏ نظريات ما بعد البنيوية نظرية يتجسّ‏ د من خالها النص<br />

املرتابط من ناحية والنص املرتابط«‏ كما عرفنا من قبل هو النص املكتوب على ‏سطح الشاشة؛ النص التخيّلي<br />

لنص رقمي موجود يف الذاكرة الصلبة للكمبيوتر من ناحية اأخرى.‏<br />

)1( ‏سعيد يقطني:‏ من النص اإىل النص املرتابط،‏ مدخل اإىل جماليات الإبداع التفاعلي،‏ ‏ص‎10‎ .<br />

)2( عبد العزيز حمّ‏ ودة:‏ املرايا املحدبة،‏ من البنيوية اإىل التفكيك،‏ عامل املعرفة،‏ ع‎232‎‏،‏ املجلس الوطني للثقافة<br />

والفنون والآداب،الكويت ، اأبريل/نيسان 1998، ‏ص‎357‎‏.‏<br />

)3( ‏سعد البازعي وميجان الرويلي:‏ دليل الناقد الأدبي،اإضاءة لأكرث من ‏سبعني مصطلحا وتيارا نقديا معاصرا،املركز<br />

الثقايف العربي ، الدار البيضاء،‏ املغرب،‏ ط‎3،2002‎‏،‏ ‏ص‎271‎‏.‏<br />

)4( بابيس ديرميتزاكيس:‏ ‏»النص التشعبي:‏ ما وراء حدود النّص«،‏ ‏ضمن النقد على مشارف القرن الواحد<br />

والعشرين:‏ العوملة والنظرية الأدبية،اأعمال املوؤمتر الدويل الثاين للنقد الأدبي،القاهرة،‏‎2000‎‏،ص‎382‎‏.‏<br />

)5( املرجع نفسه،‏ الصفحة نفسها.‏<br />

)6( املرجع نفسه،‏ الصفحة نفسها.‏<br />

)7( ‏سعد البازعي وميجان الرويلي:‏ دليل الناقد الأدبي،اإصاءة لأكرث من ‏سبعني مصطلحا وتيارا نقديا<br />

معاصرا،ص‎271‎‏.‏<br />

)8( املرجع نفسه،‏ الصفحة نفسها.‏<br />

)9( املرجع نفسه،‏ الصفحة نفسها.‏<br />

)10( George p.Landow,Hyper/text/Theory,The John Hopkins University press,1994,p.39.<br />

نقا عن فاطمة الربيكي:‏ مدخل اإىل الأدب التفاعلي،ص‎147-146‎‏.‏<br />

)11( عز الدين اإسماعيل:‏ ‏»العوملة واأزمة املصطلح«،‏ جملة العربي،ص‎165‎‏.‏<br />

)12( بابيس ديرميتزاكيس:‏ ‏»النص التشعبي:‏ ما وراء حدود النص«،‏ ‏ص‎373‎‏-‏ . 374<br />

)13( ‏سعيد الوكيل:‏ ‏»الأدب التفاعلي العربي«،‏ ‏ضمن الثقافة السائدة والختاف،‏ موؤمتر اأدباء مصر،بور ‏سعيد،الهيئة<br />

العامة لقصور الثقافة،القاهرة،‏ ط‎1‎ ،2005 ‏ص‎327‎‏.‏<br />

)14( بابيس ديرميتزاكيس:‏ ‏»النص التشعبي:‏ ما وراء حدود النص«،‏ ‏ص‎386‎‏.‏<br />

)15( حسام اخلطيب ورمضان بسطاويسي:حوارات لقرن جديد:اآفاق الإبداع ومرجعيّته يف عصر املعلوماتية،ص‎54‎‏.‏<br />

(16) - George p.Landow:Hypertext2.0, Baltimore-London, 1997:2.<br />

نقا عن حسام اخلطيب ورمضان بسطاويسي:‏ اآفاق الإبداع ومرجعيّته يف عصر املعلوماتيّة،حوارات لقرن<br />

جديد،دار الفكر العربي ‏،دمشق،سوريا،ط‎1‎‏،‏ ‎2001‎‏،ص‎54‎‏.‏


2 0 1 1<br />

190<br />

differences enabling a universal truth, but as a<br />

result it entraps the subject in its truth/ideology.<br />

Badiou went even further in theorising for this<br />

enclosure when he said that Universalism<br />

“requires the initiation of a subject divided in<br />

itself,” (58) in the way we have summarised<br />

earlier about the subjective division, admitting<br />

here that the subject is left with nothing but the<br />

event to face up to. It would either be granted<br />

life through its continued fidelity to the event,<br />

or it would be faced with death otherwise.<br />

This is the ‘universal’ revolutionary ideology<br />

that Badiou was weaving out of Paul!<br />

Bibliography<br />

1. Badiou, Alain. Infinite Thought: Truth And The Return To Philosophy, trans. Oliver Feltham,<br />

and Justin Clemens, London/ New York: Continuum, 2005.<br />

2. Badiou, Alain. Being and Event, trans. Oliver Feltham, London/ New York: Continuum,<br />

2005.<br />

3. Badiou, Alain. Ethics, trans. Peter Hallward, London/New York: Verso, 2001.<br />

4. Badiou, Alain. The Foundation of Universalism, trans. Ray Brassier, Stanford: Stanford<br />

University Press, 2003.<br />

5. Zizek, Slovaj. The Ticklish Subject: The Absent Centre of Political Ontology, London/New<br />

York: Verso, 1999.<br />

6. Wilson, A. N. Paul: The Mind of The Apostle, London: Sinclair-Stevenson, 1997.<br />

7. Vilenkin, N. Ya. Stories About Sets, trans. SCRIPTA TECHNICA, London/ New York:<br />

Academic Press, 1968.<br />

8. Taubes, J. The Political Theology of Paul, trans. Dana Hollander, Stanford: Stanford University<br />

Press, 2003.<br />

9. Gignac, A. “Taubes, Badiou, Agamben: Reception of Paul by Non-Christian Philosophers”<br />

in Reading Romans with Contemporary Philosophers and Theologians, Ed. David W. Odell-<br />

Scott, T & T Clark International, 2007.<br />

- 11 -


191<br />

2 0 1 1<br />

مقاربات<br />

But for Paul, Badiou argued, Christ was a<br />

pure event. He was “a coming; he is what<br />

interrupts the previous regime of discourse.”<br />

(48) Similarly, ‘traditional’ communists look<br />

up for the revolution to arrive so that there can<br />

be something else, while Badiou would like<br />

to think of a revolution as a “self-sufficient<br />

sequence of political truth.” (48)<br />

Here, Paul’s political orientation is made to<br />

fit into Badiou’s political activism. At the<br />

time when he wrote the book in 1997, he has<br />

already become disillusioned by the role of<br />

the party in revolutionary politics, and as a<br />

result has adopted a new approach of political<br />

activism without a party. To be able to practice<br />

that kind of political activism, he formed<br />

l’organisation Politique with some of his close<br />

friends in 1985. (Badiou Ethics interview 95)<br />

It would be fair to say that, in approaching<br />

Paul, Badiou was searching for a non-party<br />

militant that fitted very well with the type of<br />

engagement he had with the l’organisation<br />

Politique. This mode of “subjective” activism<br />

that Badiou has resorted to, a mode that<br />

enabled him to be politically engaged without<br />

a party, allowing him to escape participation<br />

in the parliamentarian democracy, which he<br />

deplored, and at the same time sparing him<br />

from any need to adopt a revisionist stance to<br />

his Leninist-Maoist ideology.<br />

Zizek saw Badiou’s notion of truth event as<br />

very close to Althusser’s notion of ideological<br />

interpellation (i.e. ideology subjectivating the<br />

pre-ideological individual transforming him<br />

or her to a subject proper). When an individual<br />

is, in Badiou terms, subjectively engaged, in a<br />

case that is a truth event, then that engagement<br />

is strikingly similar to Althusser’s notion of the<br />

individual being ideologically interpellated.<br />

Badiou also provided an exposition of Paolo<br />

Pasolini’s Project for a Film of St. Paul, the<br />

film that Pasolini never made but left its script.<br />

Pasolini was clear about his political motives<br />

behind the project, as Mariniello noted: “By<br />

replacing the conformity of Jews and Gentiles<br />

with that of today’s bourgeois (religious or<br />

not), the text historicizes the past, and biblical<br />

history, introducing elements of a materialist<br />

analysis: of institutional religion’s and<br />

liberalism’s relation to power.” (St. Paul: The<br />

Unmade Movie 72).<br />

Badiou found in Pasolini’s work an<br />

endorsement of his attempt to designate<br />

Paul as a militant of truth. In intersecting<br />

the question of Christianity with that of<br />

communism, Pasolini had as result intersected<br />

the question of ‘saintliness’ with that of the<br />

militant. Badiou concluded that Pasolini’s<br />

Paul, was, in a revolutionary fashion, “our<br />

fictional contemporary because the universal<br />

content of his preaching, obstacles and failures<br />

included, [remained] absolutely real.” (37)<br />

Given the closeness in the ideological stands<br />

of Badiou and Pasolini, it would be possible<br />

to accept Badiou’s interpretation of Pasolini’s<br />

motives for the film of St. Paul.<br />

Conclusion<br />

I have argued that there are problems with<br />

Badiou’s concept of the universal truth,<br />

especially when considering Badiou’s<br />

subjectivating truth procedure embedded in<br />

that universality, which inevitably requires<br />

“changed” subjects, and thus would form a<br />

particular set in addition to the existing sets<br />

in the situation.<br />

Moreover, Badiou’s event sounded like an<br />

ideology that completely defines, and thus<br />

confines its subject. It nullifies the existing<br />

- 10 -


2 0 1 1<br />

192<br />

a world or society yet<br />

concretely destined to<br />

become inscribed within a<br />

world and within a society”<br />

(p. 107).<br />

Without having more explanation from Badiou<br />

about what he meant by consciousness-oftruth,<br />

it was possible to see, however, how it<br />

alluded to the Christian terms ‘consciousness<br />

of Christ’ or ‘consciousness of church’. A<br />

consciousness-of-truth could then be thought<br />

of as a state of a direct knowledge of truth,<br />

without having to apply reason, as in Greek<br />

philosophical discourse, or use of signs or<br />

miracles, as in the Jewish prophetic discourse.<br />

Badiou used consciousness-of-truth to<br />

describe the state of the subject that has been<br />

transformed and made ready to enter the realm<br />

of Universalism.<br />

Using the terms Being and Event as Badiou<br />

established them in his Being and Event book;<br />

we can describe how this transformation<br />

occurs. The key to universalism, according to<br />

Badiou, is the opening up of a generic set of<br />

a being of truth, and thus making it possible<br />

for a subject that belongs to a particular set<br />

to have, through its faith in an event that was<br />

declared as true by another subject, a sort<br />

of a consciousness-of-truth that enables it<br />

to transgress its established set, and thus to<br />

enter a universal set to which anybody can<br />

subscribe. The consciousness-of-truth is the<br />

state in which the transformed subject finds<br />

itself, after it submits to faith in the declared<br />

event. The founding of a universal set, where<br />

the discourse of truth is removed from the<br />

distinctive communitarian sets of the Greeks<br />

and the Jews (the historical aggregates) was,<br />

according to Badiou, the contribution of Paul.<br />

So, what are, according to Badiou, the generic<br />

conditions of a universal truth? A truth that<br />

meets the generic conditions is one that despite<br />

being situated in the world “does not retain<br />

anything expressible from that situation”<br />

(Being and Event xiii). The work of truth in<br />

this context is that of a ‘generic procedure’<br />

and the subject is constituted by becoming an<br />

active dimension of such procedure.<br />

Paul as a Revolutionary Militant<br />

As Badiou was seeking to rethink the structure<br />

of the Political through Paul, he has not lost<br />

faith in the power of revolutionary politics. In<br />

seeking exactly to strengthen such politics by<br />

retrieving through Paul a model for thinking<br />

the event and living militantly, he was<br />

motivated by the potency of Paul as a militant<br />

figure.<br />

The ‘militant of truth’ subject, according to<br />

Badiou, is that who is actively proclaiming<br />

an event of truth. The militant of truth is<br />

the ‘artist-creator’, who “opens up a new<br />

theoretical field”, while “working for the<br />

emancipation of humanity in its entirety.”<br />

(Being and Event p.xiii) It is useful to<br />

remember here that Badiou’s reading of Paul<br />

in this book was already initiated in his earlier<br />

book Being and Event in his 21 st mediation<br />

about Pascal. In contrasting between Paul and<br />

Pascal in relation to the truth event, Badiou in<br />

consequence contrasted between ‘traditional’<br />

communist revolutionaries and his own post-<br />

Marxist conception of militancy. The event for<br />

Paul and Pascal was Christ, while it was, and<br />

probably still is, for Badiou and his ‘comrades’,<br />

the revolution. Pascal saw the Christ event<br />

as mediation, or in Badiou’s mathematical<br />

language, a ‘function’, through which we<br />

get the knowledge of God and Christianity.<br />

- 9 -


193<br />

2 0 1 1<br />

مقاربات<br />

51), Jacob Taubes, in his book The Political<br />

Theology of Paul, has recognised Paul as a<br />

founder of a new people. However, Paul did<br />

that, according to Taubes who clearly came to<br />

this conclusion from a Jewish point of view, by<br />

enlarging the election of Israel. That reading<br />

might comfortably set Paul as a Universalist,<br />

but the admission to his universal group/set<br />

is only possible via what Taubes calls “the<br />

needle of the crucified one.” (Taubes 52)<br />

We have seen that Badiou does not have a<br />

problem with the requirement of fidelity, or<br />

in other words faith, to the new truth event<br />

on the part of the subject; in fact Badiou<br />

has prescribed that fidelity as a necessary<br />

condition for the becoming of the universal<br />

truth. However, that requirement presents a<br />

problem when considering the universality of<br />

what Badiou calls the ‘new truth’. As Taubes<br />

has highlighted in his own way, Badiou’s<br />

universal set constitutes its own subjects, and<br />

thus is not automatically universal as such to<br />

the situation. The changed subject required<br />

by Badiou’s universal set would make his so<br />

called universal truth applicable only to the<br />

particular set of the new believing subjects.<br />

The Subjective Division<br />

In a way that denied any relevance to the<br />

Platonic concepts of ‘body’ and ‘soul’, Badiou<br />

defined the relationship between the Pauline<br />

concepts of ‘flesh’ and ‘spirit” through what<br />

he called the ‘subjective division’. What Paul<br />

named as the ‘flesh’ and ‘spirit’ were in fact<br />

two subjective paths into which the Christian<br />

subject, as constituted by the Pauline/Christian<br />

discourse, is weaved into. This made the<br />

Christian subject a divided one.<br />

Badiou moved on to say that this subjective<br />

division of the Christian subject disqualified<br />

what other discourses identified as their<br />

objects: the ‘finite cosmic totality’ in Greek<br />

discourse, and the ‘elective belonging/sign’<br />

in Jewish discourse. Instead, Badiou defined<br />

the subject of the Christian discourse in terms<br />

of the ‘figure of the real’ where the ‘real’ was<br />

“that which is thought in a subjectivating<br />

thought” (55). It is worth noting here that<br />

Badiou made use of Lacan’s distinction<br />

between real and reality. According to Lacan,<br />

the real as being, in a situation, is a “point of<br />

impossibility which allows us to think of the<br />

situation as a whole, according to its real.”<br />

(Badiou Ethics 119) The real, as the thought<br />

being grasped by the two subjective paths that<br />

constitute the divided subject deploys itself in<br />

a relation to this division as ‘death’ and ‘life’.<br />

In light of this theorisation, Badiou translated<br />

Romans 8:6 in which Paul’s defines ‘flesh’<br />

and ‘spirit’ as: “The thought of the flesh is<br />

death; the thought of the spirit is life.” (55)<br />

In comparison, this same verse was translated<br />

in the New International Version of the New<br />

Testament as: “The mind of the sinful man is<br />

death, but the mind controlled by the spirit is<br />

life and peace.” (Rom 8:6)<br />

The consciousness of Truth<br />

In the conclusion of the book, Badiou used the<br />

term consciousness-of-truth as follows:<br />

“In reality, the Pauline<br />

break has a bearing upon<br />

the formal conditions and<br />

the inevitable consequences<br />

of a consciousness-of-truth<br />

rooted in a pure event,<br />

detached from every<br />

objectivist assignation<br />

to the particular laws of<br />

- 8 -


2 0 1 1<br />

194<br />

entities in society), Badiou asked the question:<br />

“What are the conditions for a universal<br />

singularity?” (13) For a start, the truth as<br />

a universal singularity has to be entirely<br />

subjective. A person has to embrace it on a<br />

purely subjective basis without intermediary<br />

or mediation. Consequently, this truth, and<br />

it’s believing subject, have to pay the price<br />

of breaking up with established rites and<br />

markings specific to the subject’s locality<br />

before being reconstituted by that universal<br />

truth. Without qualification, the new truth has<br />

to stand suspended on its own, supported only<br />

by the uncompromising fidelity of its followers.<br />

Badiou still saw his truth procedures at risk<br />

of being dissolved into cultural ‘historicity’<br />

by the moral opinion, and he expressed his<br />

intent in this book to use Paul as a guide to<br />

subtract that cultural historicity from those<br />

truth procedures.<br />

Badiou touched on the Jewish and Greek<br />

identity in mathematical terms, in relation<br />

to their objects of the respective discourses,<br />

positing the claim that Paul’s profound idea,<br />

which lead to his universality, was that “Jewish<br />

discourse and Greek discourse are two aspects<br />

of the same figure of mastery.” (42) Note that<br />

this ‘figure of mastery’ was referred to at a<br />

different location in the book as the ‘figure of<br />

the real’ which in short could be thought of<br />

as the objects of the respective discourses; i.e.<br />

the ‘elective belonging/miraculous sign’ for<br />

the Jewish discourse and the ‘cosmic totality’<br />

for the Greek discourse. Badiou continued<br />

to argue that “the miraculous exception of<br />

the sign was only the ‘minus-one,’ the point<br />

of incoherence, which the cosmic totality<br />

requires in order to sustain itself.” (42) This<br />

mathematical representation forced Badiou to<br />

place both the Greek and Jewish discourses as<br />

opposites that suppose the persistence of each<br />

other. If it was possible to accept that the Jewish<br />

‘monotheist’ subject defined itself against the<br />

Greek/Roman ‘pagan’ subject, there was no<br />

reason to assume that this held true for how<br />

the Greek/Roman subject defined itself. After<br />

all, the Jewish minority in the Roman Empire,<br />

although a sizable one as A. N. Wilson argued<br />

(Wilson 6), was just one of other minorities<br />

in the Empire. In addition, the Roman subject<br />

was probably constituted by the discourse of<br />

wisdom inherited from the Greeks but also by<br />

the Roman legal discourse of what constituted<br />

a ‘free’ citizen. Such was the significance of<br />

Roman citizenship that Paul himself tapped<br />

into it when he needed to be granted a wider<br />

legal immunity during his trial in Rome than<br />

what a normal ‘minority’ Jew would get in the<br />

Roman Empire.<br />

Badiou asserted that the truth procedure didn’t<br />

comprise degrees, and Paul has fulfilled that<br />

assertion when he stood against some Judeo-<br />

Christians who felt strongly for the Jewish<br />

law to be applied to the Gentile followers,<br />

especially circumcision, and did not consent to<br />

making any distinction between the Jewish and<br />

non-Jew Christians (21). Paul’s determination<br />

in transgressing both the Jewish law and the<br />

Greek wisdom was the manifestation of total<br />

fidelity to the truth event that nonetheless may<br />

or may not triumph in making possible a new<br />

truth. This fidelity to the event on the part of<br />

the militant was always “a diagonal trajectory<br />

that rarely meets with success.” (28)<br />

In reading Paul’s saying in his letter to the<br />

Romans: “A hardening has come upon part of<br />

Israel, until the full number of the Gentiles has<br />

come in.” (Rom 11:25 – wording from Taubes<br />

- 7 -


195<br />

2 0 1 1<br />

مقاربات<br />

of the Jewish subject.<br />

Here, Badiou used the concepts he developed<br />

in his book Being and Event; the event is<br />

established (i.e. comes to Being) in a particular<br />

site, it nonetheless has to transgress it in order<br />

to succeed as a truth procedure. That is how<br />

Badiou concluded that for Paul, although the<br />

resurrection of Christ’s event was dependent in<br />

its Being on its site (i.e. the Jewish tradition),<br />

its truth should be independent of that<br />

particular site. Paul’s assertion in his letter to<br />

the Corinthians: “Circumcision is nothing, and<br />

uncircumcision is nothing” (I Cor. 7:19), was<br />

a testament that “the new universality bears no<br />

privileged relation to the Jewish community.”<br />

(23)<br />

In Badiou’s terms, Jews and Greeks were<br />

subjective dispositions, and regimes of<br />

discourse (to copy Foucault), in opposition of<br />

which Paul presented a third discourse which<br />

was his own. In this case, Paul has “instituted<br />

‘Christian discourse’ only by distinguishing its<br />

operations from those of Jewish discourse and<br />

Greek discourse”. (41) A by-product of Paul’s<br />

discourse was a fourth one, which Badiou<br />

called ‘mystical’ discourse. More specifically,<br />

Badiou claimed, it was a product of the ternary<br />

dialectic between the three discourses: Jewish,<br />

Greek and Pauls. This dialectic should require,<br />

as Hegel would demand as part of his routine<br />

of the ‘Absolute Knowledge’ of a ternary<br />

dialectic, a fourth discourse, which was in this<br />

case the mystic discourse of miracles.<br />

Universalism: A Universal Singularity<br />

Fighting the “abstract universality of our<br />

epoch” (Being and Event p.xii) that was made<br />

possible by the alliance between the ‘free’<br />

market forces and liberal parliamentarianism,<br />

Badiou tried to provide an alternative model of<br />

universality, which he called ‘universalism’.<br />

By characterizing the capitalist universality<br />

as abstract, Badiou pointed it out as a ‘false<br />

universality’, whose monetary abstraction of<br />

value was not hindered by accommodating<br />

the “kaleidoscope of communitarianisms.” (7)<br />

This has produced a ‘false’ sense of liberty in<br />

society.<br />

The four truth procedures identified by Badiou<br />

in the “Art, Love, Politics, and Science”<br />

typology face the risk of obliteration at the<br />

hand of capital’s false universality, as each truth<br />

procedure was merchandised and packaged in<br />

a category of ‘commercial presentation’ via<br />

a process of ‘nominal occlusion’: “the word<br />

‘culture’ comes to obliterate that of ‘art’.<br />

The word ‘technology’ obliterates the word<br />

‘science’. The word ‘management’ obliterates<br />

the word ‘politics’. The word ‘sexuality’<br />

obliterates the word ‘love’.” (12)<br />

Theoretical Support for capital’s false<br />

universality came from the liberal conception<br />

of the relativity of truth. Against this<br />

relativism that celebrated and effectively<br />

emboldened the cultural differences in society,<br />

Badiou advocated that if truths existed in a<br />

situation, they would have to be “indifferent<br />

to differences” (Being and Event xii) because<br />

differences couldn’t play a ‘normative role’;<br />

a role in finding the truths in the situation.<br />

This fundamentally anti-relativist doctrine<br />

was what drove Badiou to formulate his<br />

universalism.<br />

After a polemic attack on what he called the<br />

‘articulated whole’ of the abstract homogeneity<br />

of the capital (which abstracted everything to<br />

monetary value) and the identitarian protest<br />

(which manifested as cultural/ethnic groups<br />

sought to be recognised as separate cultural<br />

- 6 -


2 0 1 1<br />

196<br />

in political philosophy as well as political<br />

activism, and the latter would supposedly derive<br />

its principles from the former. To elaborate this<br />

point, a good place to start would be to look at<br />

Paul’s contemporariness in terms of Badiou’s<br />

thought by looking at the problematic that<br />

Badiou has tried to tackle through this book.<br />

Rightly so, Badiou has detailed this in the first<br />

chapter of the book in the context of discussing<br />

Paul’s contemporariness. He admitted that he<br />

embarked on a philosophical investment of<br />

Paul, who at first sight would seem distant from<br />

the possibility of such an investment. Badiou,<br />

however, saw a profitable engagement here,<br />

precisely because the centrality of a fabulous<br />

event (Christ’s resurrection) in Paul’s thought<br />

provided a proper mediation for “restoring the<br />

universal to its pure secularity, here and now”<br />

(p. 5).<br />

To explain what Badiou meant by restoring the<br />

universal to its pure secularity, it is important<br />

to remember his open contempt for relativism.<br />

Badiou wrote this book in 1997, at a time when<br />

the Marxist ‘universal’ project has declined.<br />

He was also at odds with the postmodern<br />

thought that yielded to the complexity of the<br />

human condition and has given up on the<br />

great narratives. Badiou, as Zizek puts it, is<br />

still “aiming for, against the postmodern doxa,<br />

(...) precisely the resuscitation of the politics<br />

of (universal) Truth in today’s conditions of<br />

global contingency.” (Zizek Ticklish 132)<br />

Being a staunch post-Marxist he had a great<br />

interest in finding new possibilities of political<br />

resistance to the project of capitalism.<br />

It is possible to see how Paul fitted into the<br />

development of Badiou’s project of trying to<br />

recover the ‘question of truth’ from cultural<br />

and historical relativism, and ‘resisting’ the<br />

current of “moral philosophy disguised as<br />

political philosophy” (Being and Event xi), as<br />

he lamented in his introduction to the English<br />

translation of Being and Event.<br />

The relevance of Paul to our time, in Badiou’s<br />

view, couldn’t be greater, for he (i.e. St<br />

Paul) has taken the risk of “assigning to the<br />

universal a specific connection of the law<br />

and the subject,” (7) and not without a price<br />

paid by the law (the Jewish and Philosophic<br />

laws being suspended) and the subject (the<br />

traditional Jewish subject abandoning the<br />

status of being one of the chosen, and the<br />

pagan subject submitting to an event that<br />

cannot be proved).<br />

The Christ Event and the Pauline<br />

Subject<br />

According to Badiou, the subject is constituted<br />

only by its active fidelity to the event of truth.<br />

Paul’s uncompromising fidelity to the event of<br />

Christ’s resurrection, and his insistence, that<br />

faith in it alone was enough to constitute the<br />

subject/follower of the ‘new way’, has both<br />

defined his discourse and caused him much<br />

trouble in defending it.<br />

Paul’s conflict with the more observant<br />

Judeo-Christians, who wanted all believers<br />

to be circumcised, was seen by Badiou as a<br />

tension between the potential universality of<br />

the ‘postevental’ truth (the truth inferred by<br />

the belief in Christ’s resurrection) and the<br />

eventual site itself, which was located in a<br />

singular situation (the Jewish tradition). Paul<br />

has succeeded, after his famous meeting with<br />

the historical apostles in Jerusalem (probably<br />

head by Peter), to bind the singularity of the<br />

new faith, with the universality of its message.<br />

He refused to accept circumcision as a mark<br />

of the Christian subject, like it was the mark<br />

- 5 -


197<br />

2 0 1 1<br />

مقاربات<br />

it makes visible what the ‘official’ state of the<br />

situation, that is its Being, represses.<br />

The subject then emerges after the Event and<br />

is completely defined by its fidelity to the<br />

event. The subject retroactively gives birth<br />

to the event by interpreting it as event. The<br />

interpretation becomes part of the event.<br />

The new truth starts from fixing the current<br />

situation, but is only achieved when it succeeds<br />

to evade it.<br />

To Badiou, philosophy takes place under<br />

four conditions: Art, Love, Politics, and<br />

Science. Badiou called these condition ‘truth<br />

procedures’, in the sense that they can, under<br />

the right conditions, produce truths.<br />

An important proposition in Badiou’s thought<br />

was the contingent nature of the truth event,<br />

and thus the contingency of truth produced<br />

by a truth-procedure based on that event. The<br />

event is contingent because of the multiplicity<br />

of the situation in which ‘random’ events may<br />

or may not succeed in forming a rupture in<br />

the situation to enable the truth-procedure to<br />

work.<br />

Insufficient Profanity<br />

In Saint Paul: The Foundation of Universalism<br />

Badiou started by claiming, in the prologue to<br />

the book, his undisputed right to draw on Paul’s<br />

letters freely, without devotion or repulsion.<br />

He stressed his secular inclinations to his<br />

subject-matter and spoke of the resurrection of<br />

Christ as a fable. However, that apparently did<br />

not deter Christian scholars from positively<br />

receiving his work, which was probably a<br />

sign that he did not fundamentally contradict<br />

religious convictions in his reading of St Paul.<br />

A possible indication that Badiou’s work<br />

could be accommodated, at some level, within<br />

the religious circles was what Alain Gignac,<br />

the professor in the Faculty of Theology<br />

at the University of Montreal, reported as<br />

‘favourable’ reception of Badiou’s book in<br />

the part of exegetes. (Gignac 16) Gignac even<br />

attempted to lighten the impact of the word<br />

fable used by Badiou as a belittling of the<br />

verity of the Christian faith: “the word fable<br />

is more ambiguous than it may appear. On the<br />

one hand, it can be used to describe the effect<br />

of language where the ineffable attempts to<br />

express itself (...). On the other hand, the word<br />

can refer to the very meaning of the event<br />

(...): Is it not characteristic of the event to be<br />

‘fabulous’?” (Gignac 16)<br />

Badiou, however, assured us that what<br />

interested him in Paul was a ‘gesture’ that was<br />

“formally possible to disjoin from the fable”<br />

(5). The ‘fable’ was stripped out of its fabulous<br />

element by Badiou’s meticulous use of formal<br />

mathematical language in the course of his<br />

analysis. Paul’s gesture was the bridging of<br />

the ‘communitarian’ divide between Jews and<br />

Pagans by offering a proposition of a subject<br />

that transgressed the communitarian identities<br />

via the belief in an event “whose only ‘proof’<br />

lies precisely in its having been declared by a<br />

subject” (5). The ‘declaring subject’ was Paul<br />

himself, and the faith in the event has become<br />

a law without a supporting evidence; a truth.<br />

Paul has succeeded in subtracting the truth<br />

from what Badiou called “the communitarian<br />

grasp.” (5)<br />

Why Paul Now?<br />

Being convinced that Badiou’s exploitation of<br />

Paul was far from religious, the question that<br />

still remained, however, was: Why was the<br />

rethinking of Paul’s gesture a “contemporary<br />

necessity”? (6) Badiou tried to answer the<br />

question by making Paul work for his projects<br />

- 4 -


2 0 1 1<br />

198<br />

Introduction<br />

Fabulous Universalism:<br />

St Paul According to Alan Badio<br />

By: Mohamed Almubarak<br />

This essay aims to provide an exposition of the analysis that Alan Badiou offers in his book<br />

Saint Paul: The Foundation of Universalism of what he calls Paul’s break, which to Badiou<br />

was caused by a sort of a consciousness-of-truth that was rooted in the event of Christ’s<br />

resurrection, and thus was detached from every objective assignation to the particular laws<br />

of a world or society.<br />

The essay focuses on examining Badiou’s concept of universalism, how he has applied it to<br />

St Paul, whether the ‘universality’ of Paul’s message stands out to scrutiny, or whether it<br />

was at best temporary in its universality when the new ‘set’ of truth was opened by Paul’s<br />

declaration of faith in Christ’s resurrection.<br />

The essay tries to tackle further questions like: Was Paul used by Badiou to create a new<br />

possibility of Politics, or to revive faith in the politics of the Marxist revolution? How<br />

relevant was Badiou’s ‘profane’ interpretation to the religious ‘exegetical’ readings of Paul’s<br />

letters as scripture? And how much, on the other hand, that interpretation was geared towards<br />

a ‘revolutionary’ discourse alien to religious interpretations?<br />

Badiou’s Being and Event<br />

An important starting point to understand<br />

Badiou would be to refer to his major book<br />

L’Être et l’Événement which was published in<br />

1988 and translated as Being and Event in<br />

2005.<br />

In Being and Event, Badiou used mathematical<br />

terns (in particular Georg Cantor’s axiomatic<br />

set theory) to create an ontology that<br />

describes the notion of the subject away<br />

from contemporary philosophy’s fixation<br />

upon language (Infinite Thought Translator’s<br />

Introduction). Using this mathematical<br />

tool, Badiou treated material situations as<br />

mathematical sets.<br />

Badiou started with the investigation of what<br />

determined the particularity of a material<br />

situation and showed, through mathematical<br />

ontology, that what he called the Being of a<br />

situation was particularly what necessarily<br />

existed in the situation as its ‘predicative<br />

universe’; i.e. the rules/ontology that determine<br />

what does or does not belong to the situation.<br />

The situation could be referred to as ‘One’, as<br />

it was now a ‘named’ set, but it is actually a<br />

multiplicity of ‘elements’ determined by the<br />

ontology of its Being.<br />

The event takes place from outside the known<br />

dimension of the situation, outside its Being.<br />

It emerges in the situation ex nihilo. Therefore<br />

the Event, according to Badiou, is a rupture in<br />

the situation, but also the Truth of it, because<br />

- 3 -


Fabulous<br />

Universalism:<br />

St Paul According to<br />

Alan Badio<br />

Mohamed Almubarak *<br />

* Researcher from Bahrain.<br />

- 1 -


احلجاج يف التداولية:‏<br />

مدخل اإىل<br />

اخلطاب البالغي<br />

املراجعات<br />

‏صابر احلباشة<br />

كاتب وباحث من تونس


203<br />

2 0 1 1<br />

احلجاج يف التداولية:‏<br />

مدخل اإىل اخلطاب البالغي<br />

‏صابر احلباشة<br />

تعرَّ‏ ف التداولية املدجمة،‏ حسب املعجم املوسوعي للتداولية،‏ بكونها « نظريّة دلليّة تُدمِ‏ جُ‏ مظاهر التلفّظ يف<br />

السّ‏ نّة اللّسانية ‏)مبعنى اللّسان Langue عند دي ‏سوسّ‏ ري 1968(« )1( وليست مظاهر التلفّظ،‏ يف بعض وجوهها،‏<br />

‏سوى عوامل حجاجية تندرج يف الأقوال فتكيّف تاأويلها وفق غاية املتكلّم.‏ وقد درس ديكرو األفاظا وكلمات<br />

خمصوصة لها قيمة حجاجية،‏ ولكن قبل النتقال اإىل التحليل احلجاجيّ‏ , ما معنى احلجاج عند ديكرو؟<br />

اإنّ‏ ديكرو يفرّ‏ ق بني معنيني لِلَفظ احلِ‏ جَ‏ اج<br />

:Argumentation املعنى العادي واملعنى الفنّي اأو<br />

الصطاحيّ‏ ، واحلجاجُ‏ موضوعُ‏ النّظر يف التداوليّة<br />

املدجمة هو باملعنى الثاين.‏<br />

احلجاج باملعنى الفنّي<br />

يعني احلجاج مبعناه الفنّيّ‏ ‏صنفا خمصوصا من<br />

العاقات املُودَ‏ عَ‏ ة يف اخلطاب واملُدرجَ‏ ة يف اللّسان،‏<br />

‏ضمن املحتويات الدّ‏ للية.‏ واخلاصّ‏ يّة الأساسية للعاقة<br />

احلجاجية اأن تكون دَ‏ رَجيّة )Scalaire( اأو قابلة للقياس<br />

بالدّ‏ رجات،‏ اأي اأن تكون واصلةً‏ بني ‏سَ‏ اَملِ‏ َ)2( .<br />

اإنّ‏ مفاهيم السُّ‏ لّم احلجاجيّ‏ والتوجيه احلجاجيّ‏<br />

يختصّ‏ ان اإذن بالعاقة احلجاجيّة،سواء اأحُ‏ دِّ‏ دت هذه<br />

العاقة لسانيّا اأم اندرجت تداوليّا . اإنّه ‏ضمن احلجاج<br />

مبعناه الفنّي ، نفهم اإمكانيّة الدفاع عن اأطروحة اأولويّة<br />

احلجاج على الإخبار.‏ اإنّه من زاوية نظر اإخباريّة<br />

،)Vériconditionnel<br />

)3(<br />

‏)املستوفية ‏شروط احلقيقة<br />

تقريبا ‏»تستلزم ل«‏ )4( ، واحلال اأنّ‏ جملةً‏ لها ‏شكل:‏ تقريبا<br />

‏»ل تستدعي موضعًا topos ميُ‏ كن اأن تستعمله جملةٌ‏<br />

لها ‏شكل ال«،‏ بل هي تستدعي موضعًا ميكن اعتماده<br />

مع جملةٍ‏ لها ‏شكل ق.‏ اإنّ‏ القيمة احلجاجية ‏)حتديد<br />

السّ‏ لّم احلجاجيّ‏ الذي ينبغي اأن يوُضَ‏ ع عليه الفعلُ‏ الذي<br />

يُحدِّ‏ ده امللفوظُ‏ ) هي الأوىل اإذن بالنّظر اإىل القيمة<br />

الإخبارية )5( .<br />

تصوّر موريس Charles W. Morris<br />

للدالئلية وللتداولية:‏<br />

التداولية هي العلم الذي يدرس عاقة العامات<br />

مبوؤوّليتها ، هذا هو التعريف الأوّيل للتداولية . ويفرّ‏ ق<br />

موريس بني التداولية اخلالصة والتداولية الوصفية<br />

ونعت ‏«اخلالصة»‏ يعود على تطوير لغة حيث يكون<br />

احلديث فيها عن البُعد التداويل للسيميوزيس ‏)توليد<br />

الدللة(‏ Semiosis واملفاهيم الأساسية للتداولية هي:‏<br />

املوؤوِّل ‏)بكسر الواو(‏ واملوؤوَّل ‏)بفتح الواو(‏ والصطاح<br />

‏)املطَ‏ بّق على العامة(‏ والأخذ بعني العتبار ‏)بوصفه<br />

وظيفة للعامات(‏ والتحقّق والفهم كما توجد مفاهيم<br />

اأخرى هامّ‏ ة للدلئلية مثل الدليل ‏)العامة(‏ واللغة<br />

واحلقيقة واملعرفة وهي ذات مكوِّن تداويلّ‏ . اإنّ‏ التداولية<br />

تفرتض الرتكيب والدللة.‏ فاملعلوم اأنّها العاقة بني<br />

العامات فيما بينها والعامات يف عاقتها بالأشياء،‏<br />

حتّى نصل اإىل عاقة العامات باملوؤوِّلني )6( .<br />

املراجعات


2 0 1 1<br />

204<br />

1 .<br />

2 .<br />

مفهوم القاعدة التّداولية:‏<br />

اإنّ‏ القواعد الرتكيبية حتدّ‏ د العاقات بني العامات<br />

احلوامل؛ اأمّ‏ ا القواعد الدللية فرتبط الصلة بني<br />

العامات واأشياء اأخرى؛ يف حني تنطق القواعد<br />

التداولية بالظّ‏ روف اخلاصّ‏ ة باملوؤوّلني،‏ وهي ظروف<br />

تكون العامة احلامل ‏ضمنها عامةً.‏ ومن ثمّ‏ ة،‏ فاإنّ‏ كلّ‏<br />

قاعدة جتري بطريقة ‏سلوك منطي،‏ وبهذا املعنى يوجد<br />

مكوّن تداويل يف كلّ‏ القواعد.‏ ولكن ثمّ‏ ة قواعد تداولية<br />

خمصوصة.‏ اإنّ‏ هذه القواعد تعربّ‏ مثا عن الشّ‏ روط<br />

التي ينبغي اأن يستجيب لها املوؤوّلون ليوؤديّ‏ اسم الفاعل<br />

مثل ‏«اأوّاهُ‏ !« وظيفته اأو ‏صيغة اأمر مثل ‏«تعَالَ‏ !» اأو عبارة<br />

تقييمية مثل ‏«حلسن احلظّ‏ « اأو عبارات مثل ‏«صباح<br />

اخلري !» اأو خمتلف الوسائل الباغية اأو الإنشائية . ومبا<br />

اأنّ‏ ‏صياغة مثل هذه الشّ‏ روط ل تستوعبها حدود الرتكيب<br />

ول الدللة،‏ فهي من جمال اشتغال التداولية )7( .<br />

لقد توقّع مُ‏ وريس منذ ‏سنة 1938 املنعطف الذي<br />

‏ستتخذه البحوث الاّحقة:‏ املنزع العامّ‏ يتمثّل يف البحث<br />

املتخصّ‏ ‏ص ‏سواء يف الرتكيب اأو الدللة اأو يف ميدان<br />

التداولية الأرحب.‏ لذلك مل يعد ثمّ‏ ة تركيز زائد على<br />

العاقات فيما بني هذه الختصاصات ‏ضمن الدلئلية.‏<br />

وغالبا ما يقدّ‏ م املعلّقون تقدُّم البحث على اأنّه بناءٌ‏<br />

انطاقا من الرتكيب،‏ تنضاف اإليه وجهة النظر<br />

الدلليّة ثمّ‏ التداوليّة ‏)التي تُعهد اإليها مسائل تستعصي<br />

معاجلتها خارجها !(. واحلال اأنّ‏ البُعد التداويلّ‏ حاضرٌ‏<br />

منذ اإدخالنا مفهوم القاعدة : القاعدة تكون دائما من<br />

اأجل استعمال )8( .<br />

نحو تداوليّة ‏صوريّة:‏ برنامج ‏ستالنكر<br />

Stalnaker يف 1972<br />

علم الدللة هو دراسة القضايا(‏propositions‏)‏<br />

اأي دراسة مواضيع متثّل ‏شروط حقيقية.‏ تنطلق يف<br />

العادة من العامل الواقعيّ‏ ولكن من املائم اإمكان تقييم<br />

ل فقط احلالة الراهنة للعامل ولكن حالت ممكنة له،‏<br />

وهو ما ‏سمّ‏ يناه ‏»عوامل املمكنة « اإنّ‏ القضيّة هي طريقة<br />

لتقسيم العامل على قسمني؛ لتقسيم جمموع احلالت<br />

املمكنة للعامل قسمنيْ‏ : احلالت املُقصاةُ‏ من قبل حقيقة<br />

القضيّة واحلالت غري املُقصاةِ‏ . كيف نحدّ‏ د عاملَ‏ ‏ًا<br />

ممكنًا؟ يكون ذلك بتخصيص جمال ذواتٍ‏ يُقال اإنّها<br />

تُوجد يف هذا املجال )9( .<br />

فللتداولية اإذن مهمّ‏ تان :<br />

1 حتديد الأعمال اللّغويّة املهمة ، وذلك هو حتليل<br />

الأعمال املتضمّ‏ نة يف الأقوال )10( .<br />

2 تعيني خصائص ‏سياق التلفّظ الذي يحدّ‏ د اأيّ‏<br />

القضايا يُعربَّ‏ عنها بجملة مُ‏ عطاة .<br />

اإنّ‏ مشكلة حتليل الأعمال اللغوية هي اإيجاد الشروط<br />

الضروريّة والكافية للنجاح اأو حتّى للإجناز العادي<br />

لعمل لغويّ‏ . وتشتمل هذه الشّ‏ روط على وجود بعض<br />

اخلصائص ‏)السّ‏ مات(‏ اأو انتفائها يف السّ‏ ياق الذي<br />

يُنجز فيه العمل اللغوي.‏ مثال ذلك:‏ مقاصد املتكلّم<br />

واملعرفة والعتقادات واملحاولت واملصالح املشرتكة<br />

بني املتكلّم واملخاطب،‏ والأعمال اللغوية الأخرى املنجزة<br />

يف السّ‏ ياق ذاته،‏ والظرف الذي جرت فيه املخاطبات<br />

وتاأثرياتها وقيمة احلقيقة للقضيّة املعربَّ‏ عنها ‏...اإلخ .<br />

ل يختصّ‏ ‏سياق التلفّظ بالقوّة التي عُ‏ ربّ‏ بها عن<br />

القضيّة،‏ فحسب،‏ ولكنّه يشمل القضيّة نفسها )11( .<br />

هذا العرض لبعض املقاربات اللسانية والفلسفية<br />

للتداولية يُركّ‏ ز على الطابع املنهجيّ‏ و الإجرائيّ‏ ، وقد<br />

اعتمدنا بشكل غالب كتاب فرانسواز اأرمنغو املحال<br />

عليه يف الهوامش السّ‏ ابقة،‏ وذلك اقتصارًا منّا على<br />

اخلطوط الكربى،‏ ففضّ‏ لنا الطّ‏ اع على عدد من<br />

املقاربات،‏ ومل نتنبّ‏ واحدةً‏ منها فقط خشية الوقوع<br />

يف الإسقاط عند مزاولة املنت التلخيصيّ‏ اأو رهبة من<br />

التمحّ‏ ل يف استخراج النتائج . غري اأنّنا ل نزعم مع ذلك<br />

اأنّ‏ جميع ما ذكرناه ميثّل الأطروحات التداوليّة،‏ ولكنّه<br />

عرض خمتصر يتوقّف عند بعض املحطّ‏ ات الهامّ‏ ة يف<br />

النظريّات التداولية املعاصرة ‏سنحاول الستفادة من<br />

اأخرى اأحدث منها يف الإبّان .<br />

ثمّ‏ اإنّنا نزعم حماولة توظيف بعض تلك املقاربات<br />

يف اإنارة قراءة ‏شروح التلخيص قراءة معاصرة تركّ‏ ز<br />

على البُعد التداويلّ‏ يف هذا املنت الباغيّ‏ وما مسايرتنا<br />

ملصنّف فرانسواز اأرمنغو اإلّ‏ حماولة لقتناص اأكرث


205<br />

2 0 1 1<br />

فُرَ‏ ‏ص املسك بخيوط املشهد التداويلّ‏ املهمة،‏ فاإن مل<br />

نفهم بعض املقاربات يف هذا املضمار اأو مررنا على<br />

بعضها الآخر مرور الكرام،‏ فليس ذلك ‏سوى قصور<br />

منّا عن اإدراك الشّ‏ مول يف جمال تشعّبت فيه الرّ‏ وؤى<br />

وتزاحمت الفلسفات واملناهج ورمبّ‏ ا تضاربت املقاربات.‏<br />

اإنّ‏ ‏سمة الرثاء الشديد يف املباحث التداولية،‏ قد توؤدّي<br />

بنا اإىل حماولة جتنّب التشتيت،‏ وذلك بالوقوف على ما<br />

نراه مائما للمدوّنة الرتاثية ‏سواء بالتوافق اأو املخالفة<br />

اأو غري ذلك من اأمناط التاقح .<br />

ولقد اأقامت فرانسواز اأرمنغو كتابها )12( على عرض<br />

اأهمّ‏ املقاربات التداولية عرضا تاريخيا ما اأمكنها ذلك<br />

احلالُ‏ ، ثمّ‏ اأسّ‏ ‏ست الفصول الثاين والثالث والرابع على<br />

برنامج هنسن )Hansson( الذي اأسّ‏ ‏س تداولية ذات<br />

درجات ثاث.‏ وكان الفصل اخلامس بيانا لتفاعل<br />

التداولية يف التيّارات الفلسفية املعاصرة.‏<br />

تكوين تداوليّة ذات درجات ثالث:‏ برنامج<br />

هنسن يف 1974<br />

اإنّ‏ هنسن )Hansson( هو الأوّل الذي حاول<br />

التوحيد بني خمتلف اأجزاء التداولية توحيدا نسقيّا<br />

مراعيا التمفصل بني خمتلف تلك الأجزاء.‏ وقد اأقام<br />

حماولته هذه بطريقة تقدّ‏ ميّة مستقلّة نسبيّا.‏<br />

اإنّ‏ هنسن مييّز بني ثاث درجات يف التداولية.‏<br />

وكلمة ‏»درجات«‏ املختارة عوضا عن اأجزاء حتدّ‏ د فكرة<br />

املرور التدريجي من مستوى اإىل اآخر.‏ وسرنى اأنّه يتمّ‏<br />

وضع بعض مظاهر السّ‏ ياق يف العتبار بالنسبة اإىل كلّ‏<br />

درجة.‏ وميكن القول اإنّ‏ السّ‏ ياق يغتني ويتعقّد من درجة<br />

اإىل اأخرى.‏<br />

1 تداولية الدرجة الأوىل هي دراسة الرموز<br />

الإشاريّة،‏ اأي العبارات الغامضة نسقيّا.‏ عبارات معناها<br />

غامض ومرجعها يتنوّع نسقيّا حسب ظروف استعمالها،‏<br />

اأي حسب ‏سياق التلفّظ .<br />

ما هو السياق بالنسبة اإىل الدرجة الأوىل؟ اإنّه<br />

موجودات اأو حمدِّ‏ دات موجودات.‏ ‏سياق وجوديّ‏<br />

ومرجعيّ‏ : املخاطَ‏ بون واإحداثيات املكان والزمان .<br />

‎2‎‏(تداولية الدرجة الثانية هي ‏»دراسة الطريقة التي<br />

تتّصل فيها القضيّة املُعربَّ‏ عنها باجلملة املنطوقة«،‏ اإذ<br />

يف احلالت املهمّ‏ ة،‏ ينبغي اأن تتميّز القضيّة املعربّ‏ عنها<br />

عن الدّ‏ للة احلَ‏ رْ‏ فية للجملة ما هو السّ‏ ياق بالنسبة<br />

اإىل الدرجة الثانية؟ اإنّه السياق يف معناه املوسّ‏ ع عند<br />

‏ستالنكري ،)Stalnaker( اأي هو موسّ‏ ع حتّى ما يفرتضه<br />

املتخاطبون .<br />

اإنّه ‏سياق معلومات ومعتقدات مشرتكة.‏ ومع ذلك فاإنّه<br />

ليس ‏سياقا ‏»ذهنيّا«‏ ولكنّه ‏سياق يُعربّ‏ عنه باألفاظ<br />

العوامل املمكنة .<br />

3( تداوليّة الدرجة الثالثة هي نظرية الأعمال<br />

اللغويّة.‏ ويتعلّق الأمر مبعرفة ما يتمّ‏ اإجنازه عرب استعمال<br />

بعض اأشكال اللّسانية.‏ اإنّ‏ الأعمال اللّغويّة موسومةٌ‏<br />

لسانيا،‏ ولكن ذلك ل يكفي لرفع اللتباسات وحتديد<br />

ما متّ‏ اإجنازه حقّا يف وضعيّة تواصليّة معيّنة.‏ واإنّ‏ وجود<br />

الأعمال اللّغويّة غري املباشرة يجعل املشكل اأعقد.‏<br />

وكما كتب ‏شنال )Schnelle( منذ 1973: ‏»اإنّ‏<br />

السّ‏ ياق هو الذي يحدّ‏ د ما اإذا كان ملفوظ جادّ‏ قد متّ‏<br />

اإجنازه وليس مَ‏ زْ‏ حً‏ ا،‏ اأو اإذا ما عَ‏ رَ‏ ‏ضنا مثال،‏ هل اإنّه يشكّ‏ ل<br />

اإنذارًا اأو اإنّه يُعطِ‏ ي اأمرً‏ ا«.‏ فاإنّنا نرى اأنّ‏ مفهوُم السّ‏ ياق<br />

هنا اأشدّ‏ ثراءً‏ و اأكرث اإطاقا منه يف احلالت السابقة.‏<br />

اإنّ‏ رفع اللتباسات يف احلالت التي طرحها ‏شنال،‏ قريبٌ‏<br />

اإىل النتساب اإىل كفاءة موسوعية اأو كفاءات ثقافية اأو<br />

بني الثقافات وحتّى احلسّ‏ الفرديّ‏ )13( .<br />

اإنّ‏ هذا التخطيط الذي نقلته فرانسواز اأرمنغو عن<br />

هنسن ميثّل،‏ يف ما نرى،‏ مقاربة ‏صاحلة للملفوظات<br />

باأنواعها يف اللّغات الطبيعية.‏ غري اأنّنا نحدس مُ‏ ‏سبّقا،‏<br />

بِرِ‏ هان مهم يتمثّل يف خصوصيّة املقاربة التداولية<br />

للنصوص املنتمية اإىل جنس الشرح الباغي،‏ والرهان<br />

يكمن،‏ يف ما نرى،‏ يف حيّز اشتغال املشروع التداويل<br />

املقرتح : هل هو املنت الشّ‏ رحي باعتباره وحدة منسجمة،‏<br />

فيتمّ‏ تشريحه بطريقة كليّة وفق املنوال التداويلّ‏ ؟ اأم اإنّ‏<br />

املقاربة التداولية ‏ستغوص خال ثنايا الشّ‏ رح،‏ فتتسلّط<br />

على التناول الباغي ملدوّنة الشّ‏ واهد ‏)باعتبار انتماء<br />

هذه الأخرية اإىل الإجناز الفرديّ‏ للّغة وهو اإجناز خاضع<br />

املراجعات<br />

1 )


2 0 1 1<br />

206<br />

من حيث املنطلق اإىل السّ‏ ياق والعاقات التواصلية(‏<br />

لتُشكّ‏ ل مقاربة ثانية ذات مستويني يف التعامل:‏<br />

1- مستوى فهم الطرح الباغي:‏ التفسري الباغي<br />

للوجوه اجلمالية والتاأثريية يف الأقوال.‏<br />

2- مستوى طرح بديل تداويلّ‏ / اأو اإقرار تشاكل مع<br />

التناول الباغيّ‏ القائم )14( .<br />

ولعلّنا ‏سنعمد اإىل املراوحة بني املستويني بشكل<br />

منظّ‏ م عسانا نُوَفَّق اإىل اإحاطة اأشمل مبوضوع العمل،‏<br />

وهو دراسة البُعد التداويلّ‏ يف ‏شروح التلخيص.‏<br />

واإن كان نصّ‏ العنوان يحتمل قراءتني على الأقلّ‏ :<br />

1- القراءة الأوىل تسلّم بوجود بُعد تداويلّ‏ يف<br />

املدوّنة،‏ ومن ثمّ‏ ة يكون البحث عبارة عن كشف ذلك<br />

البُعد واإماطة اللّثام عنه.‏<br />

2- القراءة الثانية ل تسلّم بوجود بُعد تداويلّ‏ يف<br />

املدوّنة،‏ ولكنّها تطرح اإضافة ‏صبغة تداولية على التناول<br />

املتوافر يف الشّ‏ روح الباغيّة املدروسة.‏<br />

فيكون البحث اإضافة وتلوينا خمصوصا للمدوّنة<br />

التي نشتغل عليها.‏<br />

التداخل بني النحو والبالغة:‏<br />

يُشري بعض الباحثني املستعربني اإىل ‏»تطابق يف<br />

العمق«‏ بني التحليل الباغي يف علم املعاين ‏)مبحث<br />

الإسناد ) والتحليل النحوي للمبحث ذاته )15( ويف ذلك<br />

اإقرارٌ‏ بثقل وطاأة املنهج النّحويّ‏ الذي تكرّ‏ ‏س فجعل علم<br />

املعاين اختصاصا ‏ضيّقا ل يبلُغه الباحث اإلّ‏ بعد اأن<br />

ترسخ قدمه يف اآليات التحليل النحوي.‏<br />

غري اأنّ‏ باحثا عربيّا معاصرا،‏ قد ارتاأى اأنّ‏ اختاط<br />

مسائل النحو مبسائل علم املعاين،‏ قد اضرّ‏ بالباغة<br />

من جهة كونه يقيم تعارضً‏ ا ‏صميما بني الباغة مبا<br />

هي دراسة الكام اجلميل والنحو مبا هو دراسة الكام<br />

السليم ، مع حتكيم منهج هذا يف تلك.‏ فاملنطق يقول<br />

اإنّ‏ املنهج الذي يُدرس به ‏»الأسلوب العادي«‏ ليس املنهج<br />

نفسه الذي يُحتكم اإليه عند دراسة ‏»الأسلوب العايل«‏<br />

اأو الكام السامي بعبارة جون كوهني.لذلك يخلص<br />

الباحث اإىل الدعوة التالية:‏ ‏»ولعلّي اأكون اأكرث ‏صراحة<br />

حني اأدعو اإىل تنحية علم املعاين عن كيان الباغة<br />

لتحتفظ الباغةُ‏ بتجانُسها وصفائها ووظيفتها اجلمالية<br />

التي تختلف عن وظيفة النحو القائمة على الصامة<br />

اللّغويّة«‏ )16( .<br />

غري اأنّ‏ بوهاس وجماعته يروْن اأنّ‏ الباغيني يف<br />

مبحث الإسناد رغم اشرتاكهم مع النّحاة،‏ فقد توصّ‏ لوا<br />

اإىل بعض النتائج التي مل يقف عندها النّحاة.‏ وقد علّلوا<br />

ذلك باملنهج املعتمد لدى اأولئك الباغيني،‏ وهو منهج<br />

يتاأسّ‏ ‏س على اهتمام قارّ‏ لديهم ‏»بربط الأعمال املتّصلة<br />

بنظام الكلمات،‏ باسرتاتيجيات املتكلّم و باآثار املعنى<br />

)17(<br />

املرتبطة بتلك السرتاتيجيات بانتظام«‏<br />

فاملستعربون يعتربون الباغيني على تقارب كبري<br />

وتوافق ‏شديد مع النّحاة،‏ غري اأنّ‏ ذلك مل يطمس<br />

بعض التميُّز لديهم.‏ يف حني يرى د.‏ ‏صاح عيد اأنّ‏<br />

ارتباط الباغة بالنحو منذ عبد القاهر اجلرجاين<br />

‏)ت ‎471‎ه(‏ يف ‏»دلئل الإعجاز«‏ مرورا بفخر الدين<br />

الرازي ‏)ت ‎606‎ه(‏ وصول اإىل السكاكي ‏)ت 626 ه(‏<br />

واخلطيب القزويني ‏)ت 739 ه(‏ قد ‏شلّ‏ النظر الأصيل<br />

يف جماليات الأسلوب،‏ وذلك بتسليط منهج النحاة على<br />

مباحث الباغة،‏ ومل تكف حماولة حازم القرطاجنّي يف<br />

‏»منهاج البلغاء«‏ يف الفصل بني جمايل النحو والباغة<br />

ول جهد ابن خلدون يف ‏»املقدّ‏ مة«‏ يف ربط النحو مبجاله<br />

الأصلي وهو الإعراب )18( . فكاأنّ‏ التداخل بني مباحث<br />

العلمني يُعدّ‏ ‏»خلطا«‏ عند د.‏ ‏صاح عيد،‏ ل ‏سيما اإذا تعلّق<br />

الأمر باستبداد النحو بالباغة .<br />

غري اأنّ‏ بوهاس وجماعته يرون اأنّ‏ اأسبابا تاريخية<br />

تكمن خلف هذه الظاهرة،‏ فقد حاولت الباغة<br />

التخلّص من ‏سيطرة النّحو ، بل اأكرث من ذلك،‏ اإذ<br />

يقرّ‏ ر املستعربون « اأنّ‏ لعلم املعاين نزعة احللول حملّ‏<br />

النحو بالقوّة ‏)ل بالفعل(‏ ‏)وبعض الصفحات(‏ يف دلئل<br />

الإعجاز ‏)للجرجاين تلمّ‏ ح اإىل ذلك تلميحا(«‏ )19( غري<br />

اأنّ‏ هذه النزعة قد ولدت يف نظر بوهاس وجماعته <br />

متاأخّ‏ رة جدّ‏ ا ‏)القرن اخلامس للهجرة(‏ فهي عاجزة<br />

عن اأن تزحزح النحو من مكانته التي ابتناها منذ اأواخر<br />

القرن الثاين للهجرة.‏<br />

فكان للنحو ذلك املحلّ‏ الأسنى يف ‏»الصرح الثقايف


207<br />

2 0 1 1<br />

‏)العربيّ‏ (« )20( وارتضى الباغيون بالرتاتب بني الفنون<br />

‏،بحيث ل يُصار اإىل مباشرة الباغة اإلّ‏ بعد التفقّه يف<br />

النحو )21( .<br />

لنا على كام د.‏ ‏صاح عيد نقطة نقديّة،‏ واأخرى<br />

على كام بوهاس وجماعته.‏<br />

اإنّ‏ تفريق د.‏ ‏صاح عيد بني هدف الباغة وهدف<br />

النحو هو اأساس دعوته اإىل ‏»تنحية«‏ علم املعاين من<br />

الباغة،‏ واإن كان مل يبنيّ‏ هل يقصد ب ‏»التنحية«‏ اإحلاق<br />

هذا العلم بالنحو،‏ اأم اطّ‏ راحه وطمسه،‏ اأم اإعطاءه منزلة<br />

اأخرى بني املنزلتني؟<br />

اإذا ‏سلّمنا باأنّ‏ اللّغة من حيث هي جهاز ‏)نظام<br />

‏سيميولوجي(‏ عمياء عن اجلمال:‏ فهي اآلة لإنتاج الكام<br />

وتركيبه.‏ اأمّ‏ ا النحو،‏ فهو الضابط للصامة واملقبوليّة<br />

‏)يوجد فارق لطيف بني املقبولية acceptabilité<br />

والنّحوية ، grammaticalité يف النظرية التوليدية،‏ على<br />

‏سبيل التدقيق(.‏ واأمّ‏ ا الباغة فهي الضابط للجماليّة.‏<br />

فاإذا نظرنا اإىل مباحث علم املعاين وهو جمال الطعن<br />

عند د.‏ ‏صاح عيد األفينا اأنّ‏ الفصل والوصل والتقدمي<br />

والتاأخري والإيجاز والإطناب واملساواة،‏ اأبوابٌ‏ ل مندوحة<br />

عنها،‏ عند النظر يف نحو النصّ‏ اأو باغة اخلطاب.‏ فاإذا<br />

اأفرغنا الباغة من هذه الأبواب كان التحليل اجلمايلّ‏<br />

ناقصا.‏ ولعلّ‏ القول بالتكامل بني النحو والباغة اأوىل<br />

عندنا.‏ اإذ الباغة تبداأ عملها عندما يستويف النحو<br />

مهمّ‏ ته.‏ اإذ من غري املنطقيّ‏ النظرُ‏ يف باغة جُ‏ ملة<br />

لحِ‏ نة ‏)ل نحويّة(،‏ طبعا ينبغي الأخذ بالنحو يف مفهومه<br />

الواسع مبا هو ‏سَ‏ مْ‏ تُ‏ العرب ونَهْ‏ جُ‏ هم يف تصريف الأقوال<br />

واإنشائها.‏<br />

ورمبّ‏ ا ‏شُ‏ بّه علم املعاين بعلم الدللة ،La sémantique<br />

وهو عند الغربيني مبعزل عن الباغة ‏)اأو اخلطابة(‏<br />

،La rhétorique وهذه املقارنة تقودنا اإىل النقطة<br />

النقدية الثانية التي تتّصل بالقول بانحسار الباغة<br />

واتّخاذها مرتبة اأدنى من تلك التي للنحو ‏-كما يشري<br />

اإىل ذلك بوهاس وجماعته-‏ فهذا التمشّ‏ ي يف التحليل<br />

يذكّ‏ رنا بتاريخ الأسلوبية ‏-عند الغرب-‏ حيث اآلت اإىل<br />

الذّ‏ بول عندما اتُّخذت مساعدة للنقد الأدبيّ‏ وقد اأجرى<br />

جورج مولينيي حُ‏ كما عامّ‏ ا ينطبق على الأسلوبية الغربية<br />

وكذلك على الباغة العربية،‏ يقول : ‏»عندما يُعدّ‏ علمٌ‏ ما<br />

)22(<br />

ثانويا بطريقة مُ‏ ‏سبقة،‏ فاإنّه يضعُف بسرعة«‏<br />

مقارنة منهج البالغيني مبنهج النّحاة:‏<br />

يشري جورج بوهاس وجون بول غيّوم وجمال الدين<br />

الكُ‏ لُغْلِي اإىل التقاليد العربيّة يف علم الباغة معرّ‏ جني<br />

على القزويني ‏صاحب ‏»تلخيص املفتاح«‏ للسّ‏ كاكي<br />

‏)الباب الثالث(‏ وهو املصنّف الذي ‏»فتح عهد الشّ‏ روح<br />

واحلواشي الغزيرة يف اختصاص الباغة«‏ )23( ويشري<br />

املستعربون اإىل استقرار الباغة علما يتفرّ‏ ع اإىل ثاثة<br />

علوم:‏<br />

1 علم املعاين ‏)النحويّة(‏<br />

2 علم البيان ‏)باغة الصُّ‏ وَر(‏<br />

1 .<br />

2 .<br />

3 .<br />

3 علم البديع ‏)علم تزيني اخلطاب(‏<br />

وناحظ اأنّ‏ التسمية الأجنبية التي اقرتحوها<br />

للعلمني الثاين والثالث تذكّ‏ رنا ببعض اأقسام الرّ‏ يطوريقا<br />

يف التقاليد الغرْ‏ بيّة،‏ اإذ يتحدّ‏ ث تودوروف )24( عن<br />

اأقسام الباغة مشريا اإىل اأنّ‏ املصنّفات ‏)الباغية /<br />

اخلطابية(‏ تقسّ‏ م اإعداد كلّ‏ خطاب اإىل خمس فرتات<br />

اأو خمسة اأقسام هي على الرتتيب:‏ البتكار الرتتيب <br />

الإلقاء التذكّ‏ ر النّطق ‏)اأو التلفّظ (.<br />

فقسم الإلقاء يتمثّل يف ‏»البحث عن اأحسن ‏شكل<br />

ممكن للخطاب،‏ وجوهر هذا البحث هو اجلنس الأدبيّ‏<br />

بشكل خاصّ‏ ‏)غنائي،‏ ملحميّ‏ ، دراميّ‏ تراجيدي<br />

اأوكوميدي،‏ تعليميّ‏ ، تاريخي،‏ اإلخ ....( ويكمن اأساسا<br />

يف علم حتسّ‏ ‏س الصّ‏ ور«‏ )25( . ويشري تودوروف يف موضع<br />

لحق من املرجع نفسه اإىل اأنّ‏ ‏»الباغات ‏)اأو اخلَ‏ طابات<br />

بفتح اخلاء(‏ نزعت يف القرن السابع عشر وبدرجة اأشدّ‏<br />

يف القرن الثامن عشر اإىل تركيز اهتمامها على الإلقاء،‏<br />

اأي الأسلوب،‏ حمقّقة بذلك عمليّا الربط بني الباغات<br />

والباغات الثواين اأي الشعريّات«‏ )26( .<br />

وبتبسيط خملّ‏ ‏)وكلّ‏ مقارنة هي مغالِطة من بعض<br />

النواحي ) نقول اإنّ‏ علم املعاين يوافق تقريبا،‏ قسمي<br />

البتكار والرتتيب )27( ، يف حني يوافق علمَ‏ ا البيان والبديع<br />

قسم الإلقاء .<br />

املراجعات


2 0 1 1<br />

208<br />

وبعيدا عن هذا الهاجس املقارينّ‏ غري املائم،‏ نرى من<br />

الأصلح تركيز النظر على عاقة علم املعاين باإشكاليات<br />

امللفوظ )énoncé( والتلفّظ énonciation( )28( ويشري<br />

بوهاس وجماعته اإىل اأنّ‏ ‏»قسما ل يستهان به من<br />

اهتمام املختصّ‏ ني يف هذا املجال،‏ قد انصبّ‏ على حتليل<br />

املعايري املوضوعيّة والذاتيّة الاّزمة ليكون امللفوظ<br />

مناسبا للمقام.‏ هذا الأخذ يف العتبار للعاقات بني<br />

امللفوظ والتلفّظ قاد اإىل اأشكلة الأدوار املتوالية للمتكلّم<br />

واملخاطب وحلال اخلطاب ‏)سياق التلفّظ(،‏ كما اأدّى<br />

اإىل التعرّ‏ ف على ‏سمات هذه املكوّنات املختلفة حلدث<br />

التّواصل،‏ ‏ضمن البنية الشّ‏ كليّة للملفوظ«‏ )29( ‏.وهذا<br />

التحليل مستقيم يف نظرنا غري اأنّ‏ ما بُني عليه من نتائج<br />

يستحقّ‏ التاأمّ‏ ل.‏ يقول املستعربون:‏ ‏»وهكذا،‏ فاإنّ‏ احلُ‏ كم<br />

نفسه ‏)املحتوى القضوي نفسه(،‏ ل ينبغي ‏-حسب<br />

املختصّ‏ ني يف علم املعاين-‏ اأن يُقدَّ‏ م بالطريقة ذاتها اإىل<br />

املخاطب اخلايل الذهن اأو الطالِب اأو املنكر.‏<br />

وباملِثل،‏ ميكن حذف عناصر تكوينية اأساسيّة من<br />

امللفوظ ‏)املسند اإليه ‏-املفاعيل-‏ اأدوات التعريف(‏<br />

دون خسارة،‏ ورمبّ‏ ا حقّق ذلك احلذف فضْ‏ ل جناعة<br />

واقتصاد،‏ اأحيانا،‏ اإذا كان السياق املقاميّ‏ املوضوعي<br />

‏ّاأو العامل الذهنيَ‏ الذاتيّ‏ للمخاطب يسمح بتعويض<br />

العناصر املحذوفة.‏ يف حني اأنّ‏ عمليّات احلذف التي<br />

ل تتوفّر على ‏ضمانات موضوعية وذاتية بالسرتجاع،‏<br />

تَصِ‏ مُ‏ امللفوظ بعدم املناسبة»‏ )30( ميكننا اأن نقول عن<br />

هذه الستنتاجات الصائبة يف جمملها عن ظاهرتي<br />

مراعاة حال املخاطب واحلذف اأنّها ‏-رغم ‏صوابيّتها-‏<br />

تبدو انتقائية.‏ فالظاهرة الأوىل تتعلّق باملخاطب:‏ فاإذا<br />

كان خايل الذهن يتوجّ‏ ه له القول خاليا من املوؤكّ‏ دات<br />

كقولك -:<br />

( اأ ) عبدُ‏ اهلل قادمٌ‏<br />

اأمّ‏ ا اإذا كان مرتدّدا بني القدوم وعدمه،‏ فنستعمل<br />

موؤكّ‏ دً‏ ا واحدا لرنجّ‏ ح كفّة القدوم فنقول:‏<br />

( ب ) اإنّ‏ عبدَ‏ اهلل قادِ‏ مٌ‏<br />

واإمّ‏ ا اإذا كان املخاطب مُ‏ نكرً‏ ا متاما ملصاألة القدوم،‏<br />

فعند ذاك يُحتاج اإىل موؤكّ‏ ديْن فاأكرث لإزالة الوهم العالق<br />

بذهنه فنقول:‏<br />

‏)ج(‏ اإنّ‏ عبدَ‏ اهلل لَقَ‏ ادِ‏ مٌ‏<br />

وقد استعملنا يف هذا القول موؤكّ‏ دين هما ‏)اإنّ‏ )<br />

والاّم يف ‏صدر اخلرب.‏<br />

وقد نزيد على ذلك اإخراج القول من الإخبار اإىل<br />

الإنشاء باستعمال تاأكيد مغلّظ كالقسم:‏<br />

‏)د(‏ واهلل اإنّ‏ عبد اهلل قادِ‏ م ‏)اأو لَقادِ‏ مٌ‏ )<br />

وخروج القول من ‏صيغة الإخبار اإىل ‏صيغة الإنشاء،‏<br />

فيه تقوية اأشدّ‏ لدرجة التاأكيد.‏ اإذن ثمّ‏ ة ‏سلّمية حتكم<br />

قيس حالة املخاطب الذّ‏ هنية،‏ فريد القول مستجيبا لها<br />

على املقتضى املطلوب .<br />

اأمّ‏ ا الظّ‏ اهرة الثانية املتعلّقة باحلذف ، فقد اأدرجها<br />

الشرّ‏ اح حتت باب ‏»القول يف اأحوال املسند اإليه«،‏ وقد<br />

قدّ‏ م الشرّ‏ اح احلذف على ‏سائر الأحوال ‏)كالذّ‏ كر<br />

باأنواعه(‏ استنادً‏ ا اإىل قاعدة منطقية اأوردها التفتازاين<br />

‏)على ‏سبيل املثال(‏ يف قوله:‏ ‏»قدّ‏ مه ‏)اأي احلذف(‏ على<br />

‏سائر الأحوال لكونه عبارة عن عَ‏ دَ‏ م الإتيان به،‏ وعدمُ‏<br />

احلادثِ‏ ‏سابقٌ‏ على وجوده«‏ )31( . فاحلذف ‏»من حيث<br />

مفهومه اللّغوي يعني الإسقاط«‏ )32( ، وهذا يُشعِ‏ ر باأنّه<br />

العدمُ‏ بعد الإتيان،‏ لذلك فاملقصود باحلذف هو املفهوم<br />

الصطاحيّ‏ : وهو عدمُ‏ الإتيان باملسند اإليه.‏<br />

وقد انتبه الشرّ‏ اح اإىل اأنّ‏ ظاهرة احلذف بوصفها<br />

حال من اأحوال املسند اإليه،‏ اإمنّ‏ ا تتعلّق اأساسا باملبتداأ<br />

ل بالفاعل ‏)لأنّ‏ الفاعل ‏»مُ‏ ‏سْ‏ تَكِ‏ نٌ‏ يف الفعل«‏ كما يقول<br />

)33(<br />

النّحاة )<br />

املنوال النحوي و املنوال البالغيّ‏<br />

يشري بوهاس وجماعته اإىل التناقض القائم بني<br />

املنوالني النحويّ‏ والباغيّ‏ يف حتليل امللفوظات.‏ يقولون:‏<br />

»)...( اإنّ‏ املختصّ‏ ني يف علم املعاين،‏ قد طوّروا منوال<br />

للتحليل الشكلي للملفوظات،‏ تُناقِ‏ ‏ضُ‏ بساطتُه ورشاقتُه<br />

)34(<br />

تعقيد التحليل التقليدي للنّحاة واعتباطيّته اأحيانا«‏<br />

ل ‏شكّ‏ اأنّ‏ هذا الوصف لتحليل النحاة يتناقض وموقفَ‏<br />

الأستاذ حممد ‏صاح الدين الشريف،‏ فما ‏سمّ‏ اه بوهاس<br />

وجماعته ‏»اعتباطيّة التحليل اأحيانا«‏ قد يُقصد منه<br />

ما يسمّ‏ ى ‏»متحُّ‏ ل النّحاة«‏ وقد بنيّ‏ الأستاذ الشريف اأنّ‏


209<br />

2 0 1 1<br />

اعتماد النّحاة اأشكال نحويّة نادرة ومعقّدة اأحيانا اإمنّ‏ ا<br />

هو ‏»اختيار ذو قيمة منهجيّة،‏ اإذا كان القصدُ‏ منه<br />

مثا اختيار قدرة النظريّة على التكهّ‏ ن بالظواهر قبل<br />

ماحظتها ووضعها»،‏ ويستنتج الأستاذ الشريف قائا:‏<br />

‏»فليست اجلملة )...( تاأديةً‏ عفويّةً‏ ملعنى )...(، بل<br />

تاأديةٌ‏ مبحوث عنها ومقنّنة بتمشٍّ‏ منهجيّ‏ واضح مُ‏ ‏صريَّ‏<br />

بنظريّة نحويّة ذات اأبعاد تطبيقيّة يف معاجلة النّصوص<br />

الأدبيّة بحثا عن معناها،‏ و النّصوص الشّ‏ رعيّة احرتازا<br />

)35(<br />

من اخلطاإ يف فهم اأحكامها«.‏<br />

وكيا يكون النقد املتّجه اإىل موقف بوهاس وجماعته<br />

اتّهاما للنّوايا اأو رجمً‏ ا بالغيب،‏ نعرض تصوّرهم لتميّز<br />

التحليل البياينّ‏ للمشتغلني بعلم املعاين عن التحليل<br />

النحوي،‏ يقولون:‏ ‏»هذا املنوال الذي نكتشف عناصره<br />

الأساسية عند اجلرجاين،‏ يقوم على بعض املفاصل<br />

الوظيفية الأساسية التي ميكن تلخيصها كما ياأتي:‏<br />

)1( كلّ‏ ملفوظ بسيط يتكوّن من عاقة اإسنادية<br />

بني مسند اإليه ومُ‏ ‏سند.‏<br />

)2( يف كلّ‏ ملفوظ،‏ ما خرج عن املسند اإليه واملسند،‏<br />

فهو قيد يتسلّط على املسند عليه اأو على املسند اأو على<br />

العاقة الإسنادية.‏ ويحمل هذا القيد حصْ‏ رً‏ ا للّفظ الذي<br />

يتعلّق به .<br />

)3( عمليّة التقييد ميكن تكرارها،‏ اأي اإنّ‏ قيدً‏ ا ميُكن<br />

اأن يُسلّط على قيد اآخر؛<br />

)4( كلّ‏ ملفوظ معقّد يُحلّل اإىل اإسناد بسيط واحد<br />

تتعلّق به عمليّة تقييد واحدة اأو اأكرث،‏ وتكون للعملية تلك<br />

بنية اإسناديّة هي الأخرى.‏ وكذلك عمليّات التخصيص<br />

للمركّ‏ ب السميّ‏ ‏)التعريف،‏ النعوت،‏ الإضافة،‏ البدل،‏<br />

اإلخ...(،‏ هي قيود تتسلّط على املسند اإليه اأو على اسم<br />

اآخر.‏ وباملثل فاإنّ‏ املفاعيل باأنواعها،‏ هي عمليّة قيد على<br />

املسند.‏ اأخريًا فاإنّ‏ ملفوظا معقّدً‏ ا كالشرط مثا،‏ يُحلَّل<br />

اإىل جواب الشرط ‏)اإسناد بسيط(‏ يتعلّق به الشرط<br />

‏)قيدٌ‏ اإسناديّ‏ (.<br />

هذا املنوال لتحليل امللفوظات القائم على الثنائية:‏<br />

الإسناد والقيود،‏ ليس التمييز الرّ‏ واقيّ‏ بني املحتوى<br />

القضوي والأحوال ‏)الأمناط / الكيفيّات(‏ ‏-كما ل<br />

يخفى-‏ وهو التمييز الذي استعادته اليومَ‏ بعضُ‏ املدارس<br />

اللّسانية . ومع ذلك،‏ فا ‏شيء يسمح،‏ يف احلالة الرّ‏ اهنة<br />

للمعارف،‏ باعتبار هذا التوازي،‏ ‏ضربًا من القرتاض<br />

‏)القتباس(.‏<br />

ومهما يكن من اأمر،‏ فاإنّ‏ هذه املقاربة الوظيفية<br />

لبنية امللفوظات تسمح يف الواقع بتحاليل ابسط واأكرث<br />

اإقناعا ‏شكا ومضمونا من ثقل الآلة املنطقيّة النحويّة<br />

التي اآل اإىل استعمالها النّحاة العرب املتاأخرون»‏ )36( .<br />

قد يكون املوقف الذي ننقله عن بوهاس ( وغريه )<br />

مغريا بعض الشيء مبا اأنّه يُنصف البيانيني املشتغلني<br />

بعلم املعاين ويربز مواطن الإضافة احلقّة يف املنوال<br />

الذي اتّخذوه لهم.‏ غري اأنّ‏ هذا املوقف ‏سرعان ما يفقد<br />

بريقه اإن نحن واجهناه بنقد يتساءل ‏صوؤال اإنكاريّا عن<br />

قيام موقف بوهاس على التفريق التقابليّ‏ بني املنوالني<br />

النحوي والباغي،‏ واحلال اأنّ‏ الباغيني اأنفسهم<br />

يتحدّ‏ ثون عن التداخل بني العِ‏ لْمني،‏ بل اأكرث من ذلك:‏<br />

األيس اجلرجاين نحويّا قبل اأن يكون بيانيّا؟ ثمّ‏ اإنّ‏<br />

ما وُصف به منهج النّحاة من ‏سيطرة الآلة املنطقية<br />

النحوية الثقيلة عليه،‏ ينسحب ‏-كما هو ‏شائع-‏ على<br />

منهج السّ‏ كاكي يف تقنينه الباغي وقد ‏سار على هدْ‏ يه<br />

الباغيون املتاأخّ‏ رون.‏<br />

ولعلّ‏ هشاشة هذا الطرح قد جعلت اأصحابه يقلّلون<br />

من ‏صاأن ما ادّعوه قارئني ما توهّ‏ موه من انزياح املنهج<br />

الباغيّ‏ قراءة تاريخية تُنسِّ‏ ب الأمر وتعيد الدرّ‏ اإىل<br />

مكمنه،‏ اإذ يستدرك بوهاس ومَ‏ ن معه قائلني:‏ ‏»ومع<br />

ذلك ينبغي اأن نُشري اإىل اأنّ‏ هذين املنوالنيْ‏ مل يدخا<br />

يف ‏صراع يف الثقافة العربية:‏ رغم اأنّ‏ لعِ‏ لم املعاين<br />

نزعة احللول حملّ‏ النحو،‏ بالقوّة ‏)ل بالفعل(‏ ‏)وبعض<br />

الصفحات ‏)يف دلئل الإعجاز(‏ للجرجاين تُلمَ‏ ح اإىل<br />

ذلك تلميحً‏ ا(،‏ فلَكَ‏ وْنها وُلدت متاأخّ‏ رة جدّ‏ ا،‏ فاإنّها مل تكن<br />

لتتمكّ‏ ن اجتماعيا من تهديد مكانة هذا الفنّ‏ ‏)النحو(‏<br />

)37(<br />

يف الصرح الثقايف ‏)العربي(«‏<br />

الثالوث:‏ النحو والبالغة والتداولية<br />

اإنّ‏ قول فان دايك )38( يف كتابه ‏»النصّ‏ والسّ‏ ياق«‏<br />

يف الصفحة الثامنة عشرة:‏ ‏»وكان ينبغي اأن نخصّ‏ ‏ص<br />

املراجعات


2 0 1 1<br />

210<br />

اأيضا كيف اأنّ‏ الرتاكيب الشكلية الصرفية ترتبط<br />

بالبنيات الدللية السيمانطقية«‏ اإمنّ‏ ا يذكّ‏ رنا بقول اأورده<br />

جار اهلل الزّ‏ خمشري ‏صاحب الكشّ‏ اف ‏»اإنّ‏ الزيادة يف<br />

البناء لزيادة املعنى«‏ )39( . والفرق بني القولني اأنّ‏ الإشارة<br />

التي جاء بها دايك حتيل على العاقة اجلدلية عموما<br />

بني املستوى الشكلي واملستوى الدليل،‏ يف حني حتيل<br />

ماحظة الزخمشري على ظاهرة تختصّ‏ بها العربية<br />

( ورمبّ‏ ا اللّغات الشتقاقية الأخرى كذلك(‏ وتتعلّق بحمل<br />

اجلذر معنى اأصليّا يظلّ‏ حمفوظا يف كلّ‏ الصيغ التي<br />

يوضع فيها،‏ وتنضاف اإىل املعنى الأصلي معان ‏صيغية<br />

تختلف باختاف الصيغة.‏ فماحظة الزخمشري مبنية<br />

على استقراء للّغة العربية.‏ اأمّ‏ ا اإشارة فان دايك فعامّ‏ ة<br />

تتّصل باإثبات قرابة/عاقة بني البنية الصرفية الشكلية<br />

والبنية الدللية املعنوية.‏<br />

يشري فان دايك اإىل اأنّ‏ املستويني الشكلي<br />

‏)الصوري(‏ والدليل ل يكفيان لتحديد بنية العبارة،‏ بل<br />

من الضروري اإمتام ذلك مبستوى ثالث هو مستوى فعل<br />

الكام . ومن ثمّ‏ ة تتميّز ثاثة مستويات :<br />

)1( املستوى الصريف الرتكيبي ‏)يعتني بصورة<br />

العبارة (.<br />

)2( املستوى الدليل ‏)يهتمّ‏ مبعنى العبارة(.‏<br />

)3( املستوى التداويل ‏)يتعلّق بوظيفة العبارة(.‏<br />

غري اأنّ‏ فان دايك ميتنع عن اإعطاء حلّ‏ لإشكالية<br />

العاقة بني النحو والتداولية،‏ ‏سواء اأقامت تلك الصلة<br />

على الستقالية املحفوظة لكلّ‏ مستوى اأم نصاأت عن<br />

اندراج اأحدهما يف الآخر.‏ وغري بعيد يلوح موقف هرمان<br />

بارّيه واإن كان تناوله للمصاألة يفحص اأكرث من دايك<br />

الصلة بني املستوبني،‏ ولكنّه يقول بوجود حدود غامضة<br />

/ غري مستقرّ‏ ة بينهما )40( .<br />

ويشري دايك يف اأحد هوامش الفصل الأوّل اإىل<br />

مصاألة تبدو لنا مهمة،‏ تتعلّق بالصلة القائمة بني النحو<br />

والباغة ، ذلك اأنّه يقول:‏ ‏»اإنّ‏ ‏صياغة القواعد التداولية<br />

من علم النحو تعني اأنّ‏ مثل هذا النحو ينبغي اأن يفسّ‏ ر<br />

ليس فقط القدرة على تركيب العبارات ‏»الصحيحة«‏<br />

بل القدرة على استخدام مثل هذه العبارات يف بعض<br />

املواقف التواصليّة استخداما مطابقا وتُسمّ‏ ى القدرة<br />

الأخرية ‏»الكفاءة التواصليّة«‏ )41( يبدو اأن دايك يف هذه<br />

الإشارة مل يخرج عن اإعطاء دور باغي للنحو ، فانتفاء<br />

العبارات املناسبة للمقام يدخل يف اإطار اهتمام الباغي<br />

ل النّحوي فيما نقدّ‏ ر اإذ مراعاة مقتضى احلال ومناسبة<br />

املقال للمقام ممّ‏ ا يدخل يف اأدبيات علم املعاين.‏<br />

وهذا الجتّ‏ اه نرى بارّيه يسمّ‏ يه اإكساب النحو ‏صبغة<br />

باغية grammaire) (Rhétorisation de la على<br />

اأنّه جتدر الإشارة اإىل اأنّ‏ الأمر ل يتعلّق بتوسّ‏ ع اإمربياىل<br />

لأحد املستويني على حساب الآخر،‏ ولكن نفهم املصاألة<br />

على النحو الذي ذهب اإليه فرنسوا راستيي (François<br />

)42(<br />

Rastier) اإذ عدّ‏ التداولية بديا للباغة الكاسيكية<br />

حيث تشتغل باأدواتها وعلى ميدانها ومن ذلك فكسّ‏ ر<br />

احلواجز بني النحو والباغة يعني من جهة اأخرى<br />

اإكساب النحو مسحة تداولية (Pragmatisation) على<br />

راأي التداولية املدجمة.‏<br />

ويبدو اأنّ‏ فان دايك يرتاوح يف موقفه من النحو بني<br />

النحو ‏»الضيّق«‏ املنحصر فقط يف علم الرتاكيب،‏ وبني<br />

النحو مبعناه الواسع الذي يندرج فيه املكوّن التداويل<br />

واملرجع الدليل وشروط التاأويل الناجتة عن معرفة<br />

العامل الدللية وكذلك علم السيمانطيقا الكليّ‏ )43( ثمّ‏<br />

يقرّ‏ ر اأن يختار النّحو مبعناه الواسع،‏ معلّا اختياره هذا<br />

باأنّه ميكّ‏ نه من ‏»تعليل عدد كبري من ‏ضروب التَعميم<br />

‏)يف كلّ‏ من اجلمل و اخلطاب(‏ يف حدود الإطار النّحوي<br />

نفسه«‏ )44( .


211<br />

2 0 1 1<br />

(Endnotes)<br />

1- Jacques Moeschler&Anne Reboul :Dictionnaire encyclopédique de pragmatique ,Ed :du<br />

seuil,1994 p.79<br />

2- op. cit. p. 88<br />

عن املنطق غري الصّ‏ وري انظر برملان ،Perelman 1977 وعن املنطق الطبيعي انظر غرايز ‎1982‎و 1990<br />

وغرايز ( ط.(‏ 1984 ؛ بورالBorel وغرايز Grize ومييفيل ، 1983 Miéville فينيو . 1976 Vignaux<br />

3- وجهة النّظر >> املستوفية ‏شروط احلقيقة > 11 الأعمال املتضمّ‏ نة يف الأقوال الأعمال الاّقوليّة >والسابقة )in( كما تذكر فرانسواز اأرمنقو،‏ من<br />

الاتينية تعني ‏)يف(‏ واجلذع ( )locutio يعني اخلطاب؛ فالعمل املضمّ‏ ن يف القول هو ما نفعله ونحن نتكلّم


2 0 1 1<br />

212<br />

الطليعة،‏ .42 ،2005<br />

وقد وجدنا اقرتاحات اأخرى لرتجمة املصطلح نفسه منها ‏»الفعل التكلّميّ‏ » اأو ‏»فعل الإجناز«،‏ طه عبد الرحمن:‏<br />

اللّسان وامليزان اأو التكوثر العقلي،‏ ط‎1‎‏،‏ الدار البيضاء بريوت،‏ املركز الثقايف العربي،‏ 1998، ‏ص 260،<br />

الهامش)‏‎10‎‏(.‏<br />

ومعلوم اأنّ‏ illocutionnaires( )Actes و)‏illocutoire )Actes هما مبعنى .<br />

12- F. Armengaud : La pragmatique, PUF , 1993 , p.127<br />

13- Op : cit. p.p. 47 - 48<br />

14- هذا التفريع يف الفرتاض يجعلنا نتفق مع ما قاله مسعود ‏صحراوي »)...( ولكن استقالية الرتاث العربي ل تربر<br />

املمارسات الإقصائية احلزبية التي جتعل منه غري قابل للتحاور العلمي املنصف مع معطيات العلوم املعاصرة،‏ ول<br />

‏سيما اإذا توافرت لبعض مفاهيمها الكفاية العلمية الوصفية والتفسريية املناسبة لدراسة البعد التواصلي الإباغي<br />

للظواهر اخلطابية phénomènes discursifs للغة العربية.«،‏ التداولية عند العلماء العرب،‏ ‏ص‎8‎‏.‏<br />

15- Sylvain Aurous: Histoire des idées linguistiques, tome1, chap. IV, section 2: l’analyse<br />

grammaticale dans la tradition arabe classique ( G. Bohas, J – P. Guillaume, D. Kouloughli ) ,<br />

Pierre Mardaga éditeur , Liège , Bruxelles , 1989, p.271.<br />

16- ‏صاح عيد : الأسلوب الأدبي بني الجتّ‏ اهني النّحوي و الباغيّ‏ ، القاهرة ، مكتبة الآداب ، 1993 ، ‏ص.‏ 6<br />

) عنوان ‏سابق ) الرتجمة من عندنا p. 271 17- Sylvain Aurous: Histoire des idées linguistiques<br />

18- د.‏ ‏صاح عيد : الأسلوب الأدبي ، ‏ص.‏ 6<br />

19- Sylvain Aurous: Histoire des idées linguistiques, p. 270<br />

20- Sylvain Aurous: Histoire des idées linguistiques,p.270<br />

21- وتتجلّى هذه الظاهرة يف التعليم املدرسي اإىل الآن،‏ حيث يُدرس الإعراب والتصريف منذ التعليم الأساسي يف<br />

مرحلته الأوىل،‏ ول تدخل الباغة اإلّ‏ بعد الفراغ من اكتساب املعارف النحوية الضرورية،‏ اأي يف بداية التعليم<br />

الثانوي،‏ ول يدوم تعليمها اإلّ‏ ‏سنة واحدة .<br />

22- G Molinié , Art. Stylistique , in Encyclopædia Universalis , Vol. 21, Paris, 1996, p. 706<br />

23- G. Bohas, J-P. Guillaume, D. Kouloughli: L’analyse grammaticale dans la tradition arabe<br />

classique, in Sylvain Aurous: Histoire des idées linguistiques, Tome 1, Pierre Mardage éditeur,<br />

Liège, Bruxelles, 1989 ,p.-p. 260 – 282<br />

24- T. Todorov: Poétique, in. Encyclopædia Universalis , Paris, 1990<br />

25- Ibid.<br />

26- Ibid.<br />

27- نشري جمدّ‏ دا اإىل ‏سذاجة املقارنة،‏ ولكن لباأس من التذكري باأنّ‏ البتكار ‏-كما يرى تودوروف-‏ قسمٌ‏ من اخلطابة<br />

يشمل ‏»البحث عن الأفكار واأساسً‏ ا احلجج والرباهني التي ‏ستكوّن مادّة اخلطاب واأساسه«‏ براهني طبيعية اأو<br />

واقعية؛ براهني اصطناعية،‏ اأي تعود،‏ اإىل الفنّ‏ و التي تُسمّ‏ يها املصنّفات اأيضا مواضع )topoï( اإنّها كلّ‏ التاأثريات<br />

والوسائل املمكنة ‏-عددها خمس عشرة-‏ تستطيع تاأثيث اخلطاب:‏ العودة اإىل الشتقاق،‏ اإىل التعريفات،‏ اإىل<br />

الرتقيم،‏ اإىل اعتبارات عن الصّ‏ لة بني اجلنس والنّوع،‏ بني السّ‏ بب والتاأثري،‏ املقارنة،‏ املتضادّات،‏ الظروف.‏<br />

ولكن البتكار يشمل اأيضا،‏ وهذا غريب بالنسبة اإىل التفكري املعاصر،‏ بناء املتكلّم ‏شخصيّته ‏)اأخاقه(‏ بنفسه،‏


213<br />

2 0 1 1<br />

لأنّها تتحكّ‏ م كثريا يف مصداقيّته خطيبا؛ ثمّ‏ عِ‏ لم استعمال العواطف وهو ‏شديد احلَ‏ دْ‏ ‏سيّة،‏ فهي اأضمن ‏»سرّ‏<br />

للذّ‏ هاب اإىل القلب«‏ كما يقول مصنّف جيبار )1730( .Gibert<br />

اأمّ‏ ا الرتتيب،‏ فيُعلّمنا تنظيم املوادّ‏ املجمّ‏ عة عرب البتكار حسب النظام الأنسب.‏ ولكن مهما يكن املكان املختار<br />

لستعمال هذه املوادّ‏ يف خطاب مُ‏ عطً‏ ى ، تتّفق كلّ‏ املصنّفات اإجمال على نظام عامّ‏ . فعن بوردالو Bourdaloue<br />

اأنّ‏ الستهال يجلب النتباه ثمّ‏ يقرتح ‏صوؤال مع اإعان عدّ‏ ة نقاط حتتويها ‏)القسمةُ(؛ ويعرض السردُ‏ الأحداثَ‏<br />

واحلجج ‏)للتاأكيد(‏ وضدّ‏ ‏)التفنيد(،‏ واملوجز يلخّ‏ ‏ص التقاط املحصّ‏ لة،‏ ثمّ‏ متنح خامتة اخلطبة لها الطاقة<br />

املنطقية،‏ النفعالية،‏ اجلمالية للضربة الأخرية املتقنة«‏<br />

T. Todorov : Poétique, in Encyclopaedia Universalis, paris, 1990.<br />

28- يقول حممد الشاوش : ‏»وجتدر الإشارة اإىل اأنّ‏ من يرتجم العبارتني الفرنسيتني énonciation و énoncé بالتلفّظ<br />

وامللفوظ على الرتتيب،‏ ل يحصل من هذه الرتجمة اإلّ‏ على حتريك الشّ‏ فتني واإصدار الصوت،‏ وهو معنى بعيد<br />

عن معنى العبارتني الفرنسيتني،‏ والأنسب اأن يجعل مقابلهما ‏»القول«.‏ مبعنى املصدر الدّ‏ ال على احلدث للأوىل،‏<br />

ومبعنى السم اأي املقول للثانية«.‏ اأصول حتليل اخلطاب ‏)مرجع مذكور ، ج‎2‎‏،‏ ‏ص‎618‎ (.<br />

اإن كانت وجهة نظر الشاوش وجيهة من جهة النقد،‏ فاإنّها تثري اإشكال عندما يتعلّق الأمر بالقرتاح البديل.‏ اإذ<br />

هو قد اتخذ كلمة)قول(‏ ترجمة للكلمتني الفرنسيتني،‏ وهذا الضرب من الشرتاك،‏ واإن اأوحى برثاء معاين كلمة<br />

‏)قول(‏ يف العربية،‏ فاإنّه يوقع يف اللتباس عند الستعمال.‏<br />

29- G. Bohas et al. Ibid.<br />

30- G. Bohas et al. Ibid.<br />

‏شروح التلخيص ، ج.‏ I، ‏شرح التفتازاين ، ‏ص.‏ 273.<br />

31- ‏شروح التلخيص ، ج.‏ I، حاشية الدّ‏ ‏سوقي ، ‏ص.‏ 273.<br />

32- انظر حتليا موسّ‏ عا لظاهرة احلذف يف باب ‏»اأحوال املسند اإليه«،‏ من هذا العمل.‏<br />

33- 34- G. Bohas et al.: L’analyse grammaticale dans la tradition arabe classique , in. Sylvain Aurous:<br />

Histoire des idées linguistiques, Tome 1, Pierre Mardage éditeur, Liège, Bruxelles, 1989,<br />

p.268<br />

35- حممّ‏ د ‏صاح الدين الشريف:‏ تطابق اللّفظ واملعنى بتوجيه النّص اإىل ما يدلّ‏ على املتكلّم،‏ حوليات اجلامعة<br />

التونسيّة،‏ عدد 1999، 43، ‏ص.‏ 40.<br />

36- G. Bohas et al. Op. cit. p.- p. 268 – 269<br />

( الرتجمة العربية لنا وما ورد بني معقّفني هو اقرتاح اآخر اأو توضيح وشرح(‏<br />

37- Op. cit. p. 270<br />

فان دايك:‏ النصّ‏ و السّ‏ ياق،‏ ترجمة عبد القادر قنيني،‏ الدار البيضاء اإفريقيا الشّ‏ رق 2000.<br />

38- جار اهلل الزخمشري:‏ الكشّ‏ اف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل يف وجوه التاأويل،ط.‏‎1‎‏،‏ دار الفكر،‏ ‎1977‎‏،ج<br />

39- ‏ص.‏‎41‎‏.‏<br />

يقول هرمان بارّيه:‏ ‏»اإنّ‏ احلدود بني النحو والباغة ليست مستقرّ‏ ة،‏ ل ‏سيّما واأنّ‏ معيار التمييز بني املنظورين<br />

40- ليست الصطاحية conventionnalité( (، باملعنى الكاسيكي للعبارة.‏ فكلّما كانت اإجراءات اكتشاف التداوليّة


2 0 1 1<br />

214<br />

معقّدة وناقدةً،‏ اسرتجعنا النحو يف دائرة الباغة وابتعدنا عن ظواهر ليست اصطاحية اإلّ‏ لسانيّا«.‏<br />

Herman Parret : Prolégomènes à la théorie de l’énonciation : de Husserl à la pragmatique, Peterlang,<br />

Berne ,1987,p .217<br />

41- فان دايك،‏ النص والسياق،‏ ‏ص‎32‎‏،‏ الهامش‎4‎‏.‏<br />

42- يقول فرانسوا راستيي : ») ... ) كما حاولت التداولية وهي فرع اآخر من فلسفة الدللة اأن تضع يف العتبار<br />

البنى النّصيّة عرب بحوثها يف احلجاج وعرب حتليل املُحادثات وتبقى روابطها باللسانيات غري واضحة ويف الواقع<br />

‏-وكما بيّنّا ذلك يف غري هذا املوضع-‏ فاإنّ‏ التداوليّة قد عوّضت الباغة يف جانب ‏)من اجلوانب (، بعد انفجار<br />

الثالوث ( trivium النحو / الباغة / اجلدل ) لذلك فهي تتخذ من التخاطب موضوعا لها بدل من النصّ‏ يف<br />

حدّ‏ ذاته«‏<br />

François Rastier : Sens et textualité, Hachette sup. paris, 1989, p 6<br />

( الرتجمة لنا،‏ التسطر من عندنا،‏ ما ورد بني معقّفني من اإضافتنا(‏<br />

فان دايك،‏ النص والسياق،‏ ‏ص‎29‎‏.‏<br />

43- نفسه،‏ ‏ص‎29‎‏.‏<br />

44-


فيزر ‏ستون يف كتابه:‏<br />

( ثقافة<br />

االستهالك,‏ وما<br />

بعد احلداثة )<br />

حممدعويس<br />

كاتب من القاهرة


217<br />

2 0 1 1<br />

فيزر ‏ستون يف كتابه:‏<br />

( ثقافة االستهالك,‏ وما بعد احلداثة )<br />

حممدعويس<br />

هناك معضالت كثرية تتشابك يف فهم ما بعد احلداثة كعملية طويلة املدى.‏<br />

فكرة الثقافة املشرتكة اأكرث اإمكاناً‏ اإذا كان يوجد عرف مشرتك توؤسس عليه.‏<br />

ليس هذا الكتاب جمرد بحث يف العاقة بني ثقافة الستهاك وما بعد احلداثة،‏ ولكن تتشابك يف حتلياته<br />

النقدية كثري من القضايا البينية،‏ ويقصد بالبينية هنا فاعلية التاأثري والتاأثر بكثري من القضايا الأخرى ذات<br />

الصلة بثقافة الستهاك وما بعد احلداثة؛ مثل قضية الثقافة الشعبية والتحول اإىل ما بعد احلداثة،‏ والثقافة<br />

الرفيعة والتحديات التي تواجهها يف عصر ما بعد احلداثة،‏ والثقافة املشرتكة والصوؤال عن اإمكانية بنائها على<br />

اأساس وحدة التنوع الثقايف وشرعية الختاف،‏ والثقافة الكوكبية،‏ والعاقة بني الثقافة والقتصاد والتكنولوجيا<br />

والسياسة،‏ والعاقة بني راأس املال الثقايف وراأس املال القتصادي والتطور احلضري للمدن.‏ كما يتناول الكتاب<br />

اأيضاً‏ ظهور ما يسمى بطبقة الربجوازية الصغرية اجلديدة وفئاتها املتنوعة من ‏)املفكرين اجلدد والوسطاء<br />

الثقافيني والفنانني واملديرين(‏ ويكشف اأيضاً‏ تناقضاتها الأساسية مع الطبقة الربجوازية الصغرية القدمية اأو<br />

التقليدية.‏ ووجه التباين بني ما يسمى باملفكرين العامليني واملفكرين اجلدد.‏ فصاً‏ عن تقدم علم اجتماع الثقافة<br />

وكيف اأصبح موضع الهتمام البحثي يف قلب احلقل الجتماعي،‏ ومن القضايا املهمة اأيضاً‏ التي يثريها الكتاب<br />

العاقة بني ثقافة الستهاك واملقدس التي قد تكون ‏سلباً‏ للأديان التقليدية تنتج مقدساتها اجلديدة.‏<br />

يبداأ مايك فيزر ‏ستون كتابه ‏)ثقافة الستهاك,‏<br />

وما بعد احلداثة – ترجمة د فريال حسن خليفة-‏<br />

‎283‎‏ص-مكتبة مدبوىل-‏ القاهرة ‎2010‎م(‏ بتحديد<br />

مفهوم احلداثة وما بعد احلداثة،‏ ويشري اإىل اآراء النقاد<br />

حول مفهوم ما بعد احلداثة واعتبارها عند بعضهم نوعاً‏<br />

من البدع اأو الهوس الفكري،‏ اأو اأنها موؤشر على التوعك<br />

يف قلب الثقافة املعاصرة،‏ اأو اأنها انعكاس لرد الفعل<br />

السياسي يف العامل الغربي،‏ اأو اأنها ثقافة منشقة،‏ اأو<br />

ثقافة روث،‏ حلت حمل احلداثة عن طريق وفرة الصور<br />

والرموز والتصنع واملعاين غري املرتابطة والهلوسة<br />

الستاطيقية،‏ اأو اأنها رد فعل وتفكري اآيل يف التغريات<br />

الجتماعية.‏<br />

وعلى الرغم مما يراه النقاد حول مفهوم ما بعد<br />

احلداثة واعتبارهم لها،‏ فاإن الآثار التي اأحدثتها ما بعد<br />

احلداثة داخل املجالت الأكادميية وخارجها عظيمة<br />

الأهمية جديرة بالنظر والعتبار؛ يف الفن،‏ واملوسيقى،‏<br />

والأدب،‏ والسينما والدراما واملسرح والتصوير،‏ والأعام،‏<br />

واملعمار،‏ والنقد،‏ والفلسفة والجتماع،‏ واجلغرافيا،‏<br />

والأنرثوبولوجيا...‏ الخ،‏ ولقد اأصبحت ما بعد احلداثة<br />

واسعة املدى يف املجالت الأكادميية والفكرية والفنية.‏<br />

ولذلك يرى فيزر ‏ستون ‏ضرورة حتديد معنى اإجرائي<br />

ملا بعد احلداثة وهو يحدد جمموعة املصطلحات املشتقة<br />

من مصطلح ‏)ما بعد احلديث(‏ ويقابلها باملصطلحات<br />

املشتقة من احلديث،‏ ومن ثم تنصاأ لديه ثمانية<br />

مصطلحات اأساسية:‏<br />

احلديث/ما بعد احلديث,‏ والتحديث/ما بعد<br />

التحديث,‏ واحلدثنة/ما بعد احلدثنة,‏ واحلداثة/ما بعد<br />

احلداثة.‏<br />

املراجعات


2 0 1 1<br />

218<br />

ويشري فيزر ‏ستون اإىل اأنه ل يوجد اتفاق على معنى<br />

مصطلح ما بعد احلديث ومشتقاته؛ ما بعد التحديث<br />

وما بعد احلدثنة وما بعد احلداثة،‏ وغالباً‏ تستخدم<br />

هذه املصطلحات بشكل فيه خلط وبطريقة قابلة<br />

لتبديل مصطلح باآخر.ويحلل العاقة بني احلديث وما<br />

بعد احلديث اأو بني احلداثة وما بعد احلداثة،‏ ويثري<br />

التساوؤلت حول طبيعة هذه العاقة وهل هي عاقة<br />

تواصل اأو عاقة انقطاع؟<br />

ويعترب فيزر ‏ستون اأن البادئة ‏)ما بعد )post<br />

تشري اإىل القطيعة والتناقض مع احلديث،‏ لكن احلركة<br />

املتصلة يف البتعاد عن احلديث جتعل ما بعد احلداثة<br />

مصطلحاً‏ نسبياً‏ غري حمدد لكنه يشري اإىل كل اجتماعي<br />

جديد يغاير متاماً‏ فرتة احلديث،‏ ويناقضها كما عربت<br />

عن ذلك كتابات بورديارد وليوتار وجيمسون.‏<br />

يرى بورديارد اأن تكنولوجيا املعلومات هي حمور<br />

التغري من النظام الجتماعي الإنتاجي اإىل النظام<br />

الجتماعي الذي يشكل فيه فيضان الصور والرموز عامل<br />

التصنع،‏ عامل ما بعد احلداثة،‏ هلوسة اأستاطيقية با<br />

عمق.‏<br />

وكذلك يهتم ليوتار بتاأثري التكنولوجيا يف املعرفة،‏<br />

ويرى اأن افتقاد املعنى يف ثقافة ما بعد احلديث ل يجب<br />

اأن يكون مفجعاً‏ لأنه يشري اإىل استبدال معرفة الرواية<br />

بتعدد الألعاب اللغوية،‏ واستبدال العاملية باملحلية.‏<br />

بينما يعترب جيمسون اأن ما بعد احلداثة هي املنطق<br />

الثقايف للراأسمالية املتاأخرة؛ الراأسمالية الستهاكية<br />

املتاأخرة التي تبداأ بفرتة ما بعد احلرب العاملية الثانية،‏<br />

وهو يعترب الثقافة اأساس املجتمع الستهاكي باعتباره<br />

جمتمعاً‏ مشبعاً‏ بالصور والرموز،‏ وكل ‏شيء فيه اأصبح<br />

ثقافياً.‏<br />

ويحدد جيسمون ‏صفتني اأساسيتني ملا بعد احلداثة؛<br />

الأوىل:‏ حتول الواقع اإىل ‏صور.‏ الثانية:‏ جتزوؤ الوقت يف<br />

‏سلسلة حلظات حاضر مستمر اأو عرض دائم،‏ واملثال<br />

الذي يجسد كل من الصفتني هو الإعام،‏ ويرى جيمسون<br />

مثل بودريارد ثقافة الصورة خليطاً‏ من التصنع والتنوع<br />

النمطي وعدم التجانس الذي يوؤدي اإىل فقد الدللة<br />

وموت املوضوع ونهاية الفردية.‏ اأما عن الصفة الثانية<br />

اأو الإدراك املجزاأ للعامل عند املشاهد فاإنه يعترب ‏سبب<br />

للشيزوفرنيا التي هي عامل من عوامل ما بعد احلداثة<br />

وتعترب الشيزوفرنيا حتطيم للعاقة بني املعاين،‏ حتطيم<br />

الوقت والذاكرة ومعنى التاريخ.‏ فاخلربة الشيزوفرونية<br />

هي خربة النفصال والتفكك وعدم التواصل وهي<br />

املصوؤولة عن حتول الواقع اإىل ‏صور.‏<br />

ويبحث فيزر ‏ستون ثاثة منظورات اأساسية عن<br />

ثقافة الستهاك يعنونها بنظريات ثقافة الستهاك،‏<br />

ولكن يف حمتوى التحليل يستخدم كلمة املنظور.‏<br />

ويرى يف املنظور الأول:‏ اأن ثقافة الستهاك وجدت<br />

مبقتضى اتساع الإنتاج السلعي الراأسمايل خاصة بعد<br />

تلقي الدعم من الإدارة العلمية الفوردية حول حتول<br />

القرن،‏ وضرورة التمسك ببناء الأسواق اجلديدة وتربية<br />

العامة عن طريق وسائل الإعام والإعانات ليصبحوا<br />

مستهلكني.‏<br />

وقد اأدى هذا املنظور اإثر تراكم السلع اإىل انتصار<br />

القيمة التبادلية للسلع والعقانية الأداتية يف كل جوانب<br />

احلياة،‏ واأفضى ذلك اإىل حتول كل التقاليد الثقافية،‏<br />

وتدمري كل الرواسب الثقافية التقليدية والثقافة<br />

الرفيعة،‏ واأصبحت ثقافة القيمة التبادلية والعقانية<br />

الأداتية يشار اإليها بوصفها ‏)ل-ثقافة(،‏ اأو ‏)ما بعد-‏<br />

الثقافة(.‏<br />

ويف تقدير اأدو رنو اأن ‏سيطرة القيمة التبادلية اأدت<br />

اإىل حمو ذاكرة القيمة الستعمالية احلقيقية للسلعة،‏<br />

واأصبحت السلعة حرة يف اتخاذ قيمة استعماليه ثانوية<br />

بديلة،‏ وتقبل املدى الواسع من الروابط الثقافية والصور<br />

اخلادعة والإعان قادر على عمل هذا.‏<br />

كما تستلزم نظرية السلعنة عند بودريارد التناول<br />

النشط للرموز،‏ حيث يجتمع الرمز والسلعة معاً‏ من اأجل<br />

اإيجاد العامة املميزة للسلعة،‏ وتصبح الرموز كعامات<br />

مميزة للسلعة قادرة على عمل الدعاية املتحررة من<br />

املوضوع.‏ ومن ثم فاإن منطق السلعة عند بودريارد يبتعد<br />

عن نظرية ماركس املادية وينتقل من التاأكيد على املادة<br />

اإىل التاأكيد على الثقافة.‏


219<br />

2 0 1 1<br />

وهو يرى اأن فيضان الصور والرموز والتصنعات<br />

خال وسائل الإعام ميحو التمييز بني الواقع واخليال<br />

اأو بني الصورة والواقع،‏ ويصبح املجتمع الستهاكي<br />

جمتمعاً‏ ثقافياً،‏ وتصبح احلياة الجتماعية غري منظمة،‏<br />

وتصبح العاقات الجتماعية اأكرث حتولً،‏ ول تبنى على<br />

مبادئ اأو قواعد ثابتة.‏<br />

اأما املنظور الثاين:‏ فاإنه يبحث يف طرق استخدام<br />

السلع ودللته على الختافات الجتماعية،‏ وللسلعة<br />

قدرة على هدم احلدود الجتماعية،‏ وتفكيك الروابط<br />

املستقرة طوياً‏ بني الأشخاص والأشياء؛ لذلك<br />

فالستهاك واأفضليات منط احلياة تتضمن اأحكام<br />

تفرقة واأحكاماً‏ تتميز وحتدد ذوقنا اخلاص وتصنفه<br />

بالنسبة للآخرين.‏<br />

وتعترب السلع التي حتدد احلالة الجتماعية يف<br />

الوصول اإىل اأعلى املجتمع ‏سلعاً‏ نسبية،‏ ويستثمر الذين<br />

يف اأعلى املجتمع السلع املعلوماتية من اأجل اإعادة<br />

تاأسيس مسافة اجتماعية.‏ ومن هنا تكون اأهمية معرفة<br />

السلع اجلديدة وقيمتها الثقافية والجتماعية،‏ وكيفية<br />

استخدامها بشكل مناسب ‏صحيح.‏<br />

واملنظور الثالث:‏ يثري الصوؤال عن اأحام الستهاك<br />

وبهجته النفعالية والعاطفية،‏ حيث يتطلب الستهاك<br />

بوصفه اإفراطاً‏ واإسرافاً‏ وتبذيراً؛ تراكماً‏ يف الإنتاج كي<br />

يتم التغلب على الندرة،‏ وعندما جتتمع حاجات املستهلك<br />

وسعادته تصبح الأحام والرغبات متحققة بالصور<br />

الثقافية الستهاكية،‏ كاإفراط وتبذير وفوضى،‏ وهي<br />

‏صور ترتبط بالربجوازية الصغرية اجلديدة املناقضة<br />

متاماً‏ للربجوازية الصغرية التقليدية وقيمها الثقافية<br />

التي يكون فيها الستهاك مساعداً‏ للعمل يحافظ على<br />

الإزاحة من الإنتاج.‏<br />

وهنا يرى فيزر ‏ستون اأهمية علم اجتماع ثقافة ما<br />

بعد احلديث،‏ ويعرض اآراء اأنتوين جيدنز الذي يرى<br />

اأن الثقافة هي البعد الرابع للتحديث اإىل جانب القوى<br />

الإدارية والعسكرية واحلرب.‏ وهو يفهم ثقافة التحديث<br />

كانعكاس للراأسمالية ونظام التصنيع.‏ ولكنه يرى فيما<br />

بعد احلداثة منوذجاً‏ جيداً‏ خلريطة الثقافة املعاصرة.‏<br />

ومع الهتمام بالقضايا الثقافية اأصبح الهتمام<br />

بعلم اجتماع الثقافة كمجال ‏شرعي للبحث،‏ وكان ذلك<br />

‏شاذاً‏ يف السبعينات،‏ وخروجاً‏ على املاألوف،‏ ولكنه تاأكد<br />

باعرتاف جيدنز بالثقافة كبعد رابع للتحديث،‏ واهتمامه<br />

مبستقبل علم الجتماع.‏<br />

ومن منظور ثقافة ما بعد احلديث،‏ اأي حماولة لبناء<br />

نظرية ملا بعد احلداثة باستخدام مناهج البحث القدمية<br />

تفشل بالضرورة،‏ باعتبارها تنتمي ملرحلة النسق<br />

والنظام السابق الذي حلت ما بعد احلداثة حمله.‏<br />

وتعترب ما بعد احلداثة منهج البحث العامل على<br />

اكتشاف الهدم والتحطيم يف العملية التاريخية التي<br />

تضعنا اأمام ثقافة ما بعد احلديث؛ لذلك كان هجوم<br />

ما بعد احلداثة على الفن املوؤسساتي واملتاحف والأروقة<br />

وتراتبية الذوق الأكادميي والنقدي،‏ وهدم احلدود بني<br />

الفن واحلياة اليومية،‏ وانهيار التمييز الرتاتبي بني<br />

الثقافة الشعبية والثقافة الرفيعة،‏ وخلط الأسلوب ،<br />

وتفضيل النتقائية،‏ وخلط الشفرات والقواعد واجلد<br />

والهزل،‏ ومزج املختارات الأدبية والسخرية والسطحية<br />

وانحدار اأو تدهور اأصالة يف الفن والفكر عموماً،‏ وظهور<br />

فلسفة ‏ضد الفلسفة وضد الأصولية يف الفلسفة والنظرية<br />

الثقافية الجتماعية.‏ حتمل راية ما بعد احلداثة.‏<br />

ويهتم فيزر ‏ستون بالوسطاء الثقافيني اجلدد<br />

كاأحد فئات الطبقة الوسطى اجلديدة،‏ وقد اأشار اإليهم<br />

بورديو ‏)باملفكرين اجلدد(‏ الذين هم مفتونون بالهوية<br />

واملظهر ومنط احلياة والعرض والطلب ل نهاية له<br />

بالنسبة للخربات اجلديدة ويرفضون التصنيف يف<br />

اأي ‏شيء،‏ ويقاومون القواعد الثابتة ويعتربون احلياة<br />

مفتوحة النهايات،‏ ويفضلون التمييز والختاف ومنط<br />

احلياة،‏ ويشجعون بفاعلية منط حياة املفكرين وينقلونه<br />

اإىل املستمعني واملشاهدين،‏ ويعطون ‏شرعية للرياضة<br />

واملوضة واملوسيقى الشعبية والثقافة الشعبية باعتبارها<br />

جمالت ‏صحيحة لتحليل الفكري،‏ فالوسطاء الثقافيون<br />

يعملون بني الإعام واحلياة الفكرية الأكادميية،‏ ويعملون<br />

على نقل الثقافة الشعبية اإىل الإعام ومن ثم يعملون<br />

على حمو التميز بني الثقافة الرفيعة والثقافة الشعبية.‏<br />

املراجعات


2 0 1 1<br />

220<br />

وعند الطبقة الوسطى اجلديدة احلياة اجلمالية<br />

حياة طيبة اأخاقية،‏ واأنه ل توجد طبيعة اإنسانية اأو<br />

ذات حقة،‏ وكل الذوات متشابهة واحلياة متاحة بشكل<br />

جمايل،‏ ورغبة التعلم واإثراء الذات واإتباع القيم اجلديدة<br />

واملفردات اجلديدة.‏<br />

هكذا يوؤكد فيزر ‏ستون اأن هناك معصات كثرية<br />

تتشابك يف فهم ما بعد احلداثة كعملية طويلة املدى<br />

تزيد من القوة املمكنة للمتخصصني يف الإنتاج الرمزي<br />

والنشر،‏ ومن ثم تكون احلاجة مُ‏ لحة اإىل العمل نحو علم<br />

اجتماع ما بعد احلداثة.‏<br />

ويناقش فيزر ‏ستون قضية التغري الثقايف واملمارسة<br />

الجتماعية،‏ ويرى اأن القاعدة الثقافية العميقة للتحديث<br />

اأوجدت العلم واملعرفة واملذهب الإنساين واملاركسية<br />

والنسائية...‏ الخ،‏ وهي مذاهب تطمح اإىل تقدمي طرق<br />

مرشدة جازمة للبشرية من اأجل كل من معرفة العامل<br />

وفعل املمارسة فيه،‏ وعلى النقيض اأثارت ما بعد احلداثة<br />

اأسئلة بعيدة املدى حول طبيعة التغري الثقايف والعاقات<br />

‏)امليتانظرية اأو ما بعد النظرية(‏ التي تبحث ما بعد<br />

احلداثة عن حتليل لها.‏<br />

ويكتب ليوتار عن نهاية الروايات اأو نهاية السرد لتفسري<br />

ظهور ما بعد احلديث،‏ ويفهم جيمسون ما بعد احلداثة<br />

بوصفها املنطق الثقايف للراأسمالية الستهاكية املتاأخرة اأو<br />

الفرتة الثالثة،‏ فرتة ما بعد احلرب العاملية الثانية.‏<br />

وكان من اأهم التغريات باسم الدميقراطية اإزالة<br />

التمييز بني الثقافة الشعبية والثقافة الرفيعة،‏ ومل يكرتث<br />

املفكرون املوؤيدون لذلك باأن تدمري الثقافة الرفيعة فيه<br />

تهديد للنظام املستقر.‏ بل اإنهم اإىل جانب ذلك يعلنون<br />

فضائل الثقافة الشعبية واجلماهريية وثقافة ما بعد<br />

احلديث.‏<br />

ولكي نفهم ما بعد احلداثة يجب اأن نفهم التغريات<br />

يف املجالت الأكادميية والفكرية والفنية،‏ وذلك ظاهر<br />

يف الصراعات التنافسية،‏ والتغريات يف املجال الثقايف<br />

الأوسع واأساليب الإنتاج والتداول والنشر للسلع الرمزية،‏<br />

والتغريات يف توازنات القوى والعتمادات املتبادلة بني<br />

اجلماعات والفئات الطبقية،‏ والتغري يف املمارسات<br />

اليومية وخربات اجلماعات املختلفة،‏ واستخدام نظم<br />

املعنى والوسائل اجلديدة يف التوجيه والتنظيم وبناء<br />

الهوية.‏ وبالتايل تقوم ما بعد احلداثة رمز للتغري الثقايف<br />

املعاصر.‏<br />

وعلى الرغم من ‏صعوبة تعريف ما بعد احلداثة<br />

باعتبار اأنها تعني ‏شيئاً‏ خمتلفاً‏ يف كل جمال معني،‏ فاإنه<br />

ميكن حتديد بعض الصفات ملا بعد احلداثة،‏ التي تعترب<br />

اجتاهات داخل املجالت الأكادميية والفكرية.‏<br />

اأولً‏ : تهاجم ما بعد احلداثة الفن املستقل بذاته<br />

وتنكر اأسس الفن املوؤسساتي،‏ وهدفه،‏ ول ترى الفن<br />

‏شكاً‏ رفيعاً‏ للخربة مستمداً‏ من عبقرية مبدعة ول<br />

ميكن اأن ينجز الفنان منفرداً‏ ولكن يدان اإن كان عمله<br />

تكراراً...‏ ومل يعد ممكناً‏ بقاء التمييز بني الفن الرفيع<br />

والفن الشعبي.‏<br />

ثانياً:‏ تطور ما بعد احلداثة استاطيقا الإحساس،‏<br />

توؤكد استاطيقا اجلسد على البداهة اأو املباشرة.‏<br />

ثالثاً:‏ يف املجالت الأدبية ما بعد احلداثة ناقدة<br />

للأصولية مناهضة لها يف كل ما وراء الروايات اأو ما<br />

وراء السرد يف العلم والدين والفلسفة واملذهب الإنساين<br />

واملاركسية اأو اأي كيان نسقي للمعرفة.‏<br />

رابعاً:‏ على مستوى اخلربات الثقافية اليومية تدل ما<br />

بعد احلداثة على حتول الواقع اإىل ‏صور وجتزوؤ الوقت يف<br />

عرض دائم؛ لذلك فاإن ثقافة ما بعد التحديث هي ثقافة<br />

التنوع والتعدد والتغاير والتصنعات،‏ وفقدان الدللة اأو<br />

فقدان املعنى.‏<br />

خامساً:‏ تفضل ما بعد احلداثة استاطيقا الشكل<br />

وجمالية احلياة اليومية وتصبح اخلربة اجلمالية منوذج<br />

املعرفة ومعنى احلياة.‏<br />

ويحدد فيزر ‏ستون ثاثة معاين يف الكام عن<br />

جمالية احلياة اليومية.‏<br />

املعنى الأول:‏ عن اإزالة احلد بني الفن واحلياة<br />

اليومية،‏ وهذا ما اأكدت عليه اأدبيات الثقافات الفرعية<br />

اأو الشعبية التي اأوجدت الدادا،‏ واملجموعة النشطة يف<br />

البتكار والتطبيق،‏ واحلركات السريالية،‏ وكان الهجوم<br />

على موؤسساتية احلداثة يف املتحف والأكادميية مبني


221<br />

2 0 1 1<br />

على هذه السرتاتيجية بالعمل على حمو احلد بني الفن<br />

واحلياة اليومية.‏<br />

اأما املعنى الثاين:‏ فهو افرتاض اأن الفن ميكن اأن<br />

يوجد يف اأي مكان ويف اأي ‏شيء،‏ حتى السلع الستهاكية<br />

احلقرية ميكن اأن تكون فناً.‏<br />

املعنى الثالث:‏ تشري جمالية احلياة اليومية اإىل<br />

مشروع حتول احلياة اإىل عمل الفن،‏ وهذا املشروع<br />

له تاريخ طويل ولكن ما بعد احلداثة وضعت الأسئلة<br />

الستاطيقية يف الصدارة.‏<br />

وكان تصور فوكو وبورديارد الشكل الرئيسي<br />

للحداثة باأنه ‏)الغندور(‏ املتاأنق مبابسه وجسده<br />

وسلوكه ومشاعره وعواطفه،‏ هو كل وجود وعمل الفن<br />

ومن ثم فاإن الإنسان احلديث هو الذي يحول نفسه اإىل<br />

‏)الغندورية(.‏ ومنذ املدة املبكرة من القرن التاسع عشر<br />

كان الطلب الشديد على السمو والتميز،‏ وبناء منط حياة<br />

مثايل مُ‏ ‏شرف ل يقارن تظهر فيه الروح الرستقراطية،‏<br />

وروح الستخفاف باجلماهري،‏ والهتمام بتحقيق السمو<br />

يف كل منط احلياة.‏ ولكن اأصبح الرتكيز املعاصر على<br />

احلياة الستاطيقية وتتبع الأذواق اجلديدة مرتبطاً‏<br />

بالستهاك اجلماهريي،‏ فبناء اأمناط حياة متميزة<br />

اأصبح حموراً‏ لثقافة الستهاك؛ لذلك مل يعد الفن<br />

واقعاً‏ منفصاً‏ بل دخل يف الإنتاج واإعادة الإنتاج،‏<br />

واأصبح كل ‏شيء يف الواقع اليومي يخضع للفن ويصبح<br />

جمالياً.‏ ويوؤسس الواقع اليومي يف جملته بُعد التصنع<br />

للواقعية املفرطة،‏ ونعيش يف كل مكان هلوسة جمالية<br />

متحي التناقض بني الواقع واخليال.‏<br />

ويكون يف ثقافة الستهاك املعاصرة فردية الذوق<br />

والإحساس بالذات النمطية للمستهلك حيث جسد املرء<br />

ومابسه وحديثه وقضاء وقت الفراغ وما يفضله من<br />

املاأكل واملشرب واملنزل والسيارة واختيار اأيام الراحة<br />

اإمنا هي تعترب موؤشرات لفردية الذوق والإحساس بنمط<br />

حياة املستهلك؛ ولكن ل ميكن القول بوجود منط واإمنا<br />

بوجود اأمناط،‏ وبا قواعد توجد اختيارات كل فرد ميكن<br />

اأن يكون اأي فرد،‏ فالتمسك بقواعد النمط اأصبح معتدى<br />

عليها،‏ فهناك حرب ‏ضد التوحد والنظامية؛ ذلك اأننا<br />

نتحرك نحو جمتمع غري مستقر تتبنى فيه جماعات<br />

اأمناط حياة جماعات اأخرى جتاوزتها احلركة نحو<br />

ثقافة ما بعد احلديث؛ ثقافة الستهاك املوؤسسة على<br />

وفرة الصور واملعلومات،‏ التي ل ميكن اأن تكون ثابتة اأو<br />

مرتبة ترتيباً‏ هرمياً‏ يف نسق اجتماعي ثابت؛ لذلك تكون<br />

نهاية الجتماعي كلية موضوع دال خطري يف راأي فيزر<br />

‏ستون.‏<br />

ويبحث فيزر ‏ستون عن التحول يف اأمناط احلياة<br />

وثقافات املدن وتغريها اإىل ما بعد احلديث،‏ كما<br />

يبحث التغريات يف البنية الجتماعية والعاقات بني<br />

املتخصصني الثقافيني واملفكرين اجلدد اأو الوسطاء<br />

الثقافيني،‏ واستغال الأصواق اجلديدة وتطويرها،‏<br />

واإعطاء دور للموؤولني والناقلني للسلع الثقافية.‏<br />

وقد تكون املدن مراكز ثقافية حتمي الرتاث الثقايف<br />

املاضي يف املتاحف والأروقة ونسيج البناء ويف تخطيطها<br />

وتصميمها وكل ذلك يشكل راأسمالها الثقايف،‏ وقد تكون<br />

املدن مراكز ثقافية حتمي ‏صناعات وقت الفراغ والتسلية<br />

واللهو،‏ وقد تكون املدن مراكز للإنتاج الثقايف حتمي<br />

الفنون وصناعة الثقافة اجلماهريية والنمط والتلفاز<br />

والسينما والنشر واملوسيقى الشعبية والسياحة.‏<br />

والتساع يف املجال الثقايف ل يشري اإىل السوق املتسع<br />

للسلع الثقافية واملعلومات فحسب بل اإىل الطرق التي<br />

يكون فيها فيضان الصور الثقافية مصدراً‏ يستمد منه<br />

الإشباع،‏ مثلما يحدث يف املتنزهات والسياحة واملراكز<br />

املجددة،‏ واملتاحف والأروقة التي تقدم الطعام للزائرين،‏<br />

وتتاجر قانونياً‏ يف الفنون السمعية،‏ والتاأكيد على املشهد<br />

الشعبي املبهج،‏ وتطوير الأسواق واملراكز التجارية.‏<br />

اإىل جانب اتساع مدى الصناعات واملهن الثقافية<br />

املوؤثرة يف اجتاهات الشباب واملتعلمني من الطبقة<br />

الوسطى،‏ وتظهر فعاليات اأكرث جتاه اأمناط احلياة<br />

الشعبية والثقافة الشعبية.‏ مثل الغجر والدادا<br />

والسريالية واملصورين والرسامني،‏ كل يعمل نحو فن<br />

ما بعد احلديث وحمو احلد بني الفن واحلياة اليومية،‏<br />

وجعل احلياة اليومية حياة جمالية.‏ ويظهر الهتمام<br />

يف ثقافة الستهاك اجلماهريية الهتمام بالنمط<br />

املراجعات


2 0 1 1<br />

222<br />

واملابس واملوضة.‏<br />

وتناقض ما بعد احلداثة الأصولية يف الفلسفة<br />

والنظرية الثقافية والجتماعية،‏ ويرتجم هذا يف هدم<br />

‏شعبي دميوقراطي للرتاتبية الرمزية داخل الدوائر<br />

الأكادميية والفنية والفكرية التي تتنازع فيها الثقافة<br />

الرفيعة والثقافة الشعبية،‏ فالروح الشعبية ‏ضد الرتاتبية<br />

يف اأي جمال.‏ وتصبح الثقافة كما يقول بودريارد تدفق<br />

حر،‏ وهي يف كل مكان وسط نشط وصناعة اجتماعية<br />

جمالية استاطيقية،‏ وتدفق للصور يوؤكد بشدة على<br />

الإحساسات السمعية والبصرية والسعادة الوقتية.‏<br />

ويبدو املعنى القدمي لثقافات املدينة مرتسباً‏ يف<br />

التقاليد والتاريخ والفنون واملباين السكنية املشهورة<br />

وعامات احلدود التي تعطي الإحساس القوي باملكان<br />

والهوية،‏ يف حني تشري مدينة ما بعد احلديث اإىل العودة<br />

للثقافة والنمط والزخرفة داخل حدود فضاء ل مكاين،‏<br />

وتكون فيه املعاين التقليدية للثقافة منزوعة من السياق،‏<br />

مصطنعة مكررة يعاد جتديدها وتنميطها؛ لذلك تكون<br />

مدينة ما بعد احلديث اأكرث ‏صوراً‏ ووعياً‏ ذاتياً‏ ثقافياً،‏<br />

ومراكز لاستهاك الثقايف والستهاك العام.‏<br />

فالعرتاف بقيمة ‏صناعة الثقافة اآخذ يف التزايد<br />

بالنسبة اإىل اقتصاد املدن.‏<br />

ويتولد الوعي بصناعة الثقافة مثل النشر والتدوين<br />

واملوسيقى،‏ والإذاعة،‏ والسياحة،‏ والفنون،‏ واملوؤسسات،‏<br />

والبيوت الثقافية التي يعاد جتديدها وتطويرها وتوؤدي<br />

دوراً‏ متنامياً‏ يف القتصاد املحلي بجانب النمو العام يف<br />

اإنتاج السلع الرمزية واستهاكها.‏ ومن ثم يحدث تواز<br />

بني راأس املال الثقايف وراأس املال القتصادي.‏<br />

ويوجد راأس املال الثقايف كما يقول بورديو يف ثاثة اأشكال:‏<br />

- 1 متعني ‏)منط العرض واأسلوب احلديث واجلمال(.‏<br />

- 2 متموضع ‏)السلع الثقافية مثل الكتب والصور<br />

والآلت واملباين(.‏<br />

- 3 موؤسساتي ‏)مثل املوؤهات الرتبوية(.‏<br />

وراأس املال الثقايف يف حالة التموضع مهم بالنسبة<br />

للمدن،‏ فالصيانة النموذجية للمباين والأشياء والسلع<br />

واملصنوعات اليدوية اأصبحت تعرف بوصفها كنوزاً‏<br />

فنية،‏ ولكن ‏شرعية الرتاتبية الرمزية فيها ل يجب اأن<br />

تكون اأبدية؛ لأنه يوجد مدى واسع من املعايري ميكن اأن<br />

تصنف عليها املدن بشروط راأس املال الثقايف.‏ وميكن<br />

اأن تصبح ‏صور معينة لراأس املال الثقايف مثل الثقافة<br />

الشعبية ‏)اجلاز وموسيقى الروك والسينما واملتنزهات<br />

العامة(‏ اأكرث ‏شرعية من اأبعاد اأخرى،‏ وتكون مصدراً‏<br />

للمكانة العالية.‏ وكذلك يكون احلكم على الذوق الثقايف<br />

من موقف التعددية والنسبية،‏ ويصبح ما هو مستبعد يف<br />

السابق معرتفاً‏ به.‏<br />

ويف راأي فيزر ‏ستون تطورت الأخاق الستهاكية<br />

اجلديدة منذ الثاثينات بواسطة الفنانني الغجر<br />

واملفكرين كهجوم علني على الأخاق املسيحية.‏ وكانت<br />

الأخاق الستهاكية مضطلعة بصناعة الإعان<br />

والتعبري عن الذات واللحظة واجلمال اجلسدي والوثنية<br />

والتحرر من اللتزامات الجتماعية.‏<br />

وكان التنازل املتزايد عن نفوذ الدين يف احلياة<br />

الجتماعية مرتبطاً‏ باحلداثة،‏ ومع انحدار القيم<br />

الدينية)املسيحية(‏ وتصدع املوؤسسات الدينية،‏ انغمس<br />

الدين يف قضايا وجودية قطعية عن املقدس واملياد<br />

واملوت،‏ واجلنس وهلم جرا،‏ وذلك جعل الدين غري<br />

مرئي،‏ وكانت استعارة فيرب الشهرية يف كتابه ‏)الأخاق<br />

الربوتستانتية وروح الراأسمالية(‏ عن خُ‏ طى الدين يف<br />

جمال السوق،‏ قد اأقفل باب الدير خلفه بشدة فاأصبح<br />

املجتمع احلديث اأكرث حتولً‏ عن الدين.‏<br />

وتعترب ثقافة الستهاك عموماً‏ ‏شيئاً‏ مدمراً‏ للدين<br />

بشروط تاأكيده على مذهب السعادة واللذة،‏ ويكون<br />

الدعاء غالباً‏ اأن الستهاكية توؤدي غالباً‏ اإىل الفقر<br />

الروحي.‏ فاأنانية اللذة بفلسفتها ‏ضد نظم النسك<br />

والزهد وحسن التدبري والقتصاد الذي هو من تعليم<br />

الدين.‏<br />

ولكن عند دوركامي التحديث بعملياته – من العقلنة،‏<br />

والعلمنة،‏ والسلعنة واإزالة الأوهام – ل يوؤدي اإىل حجب<br />

املشاعر الجتماعية الدينية ولكن قد تنهار الأديان<br />

الرسمية وتبقى املمارسات التي جتسد اختافات احلياة<br />

املقدسة والدنيوية،‏ فاأي ‏شيء قد يصبح مقدساً،‏ وكذلك


223<br />

2 0 1 1<br />

ميكن اأن يصبح ‏سلعة دنيوية للراأسمالية،‏ مثل البطولت<br />

الرياضية وحفات الروك،‏ وحفات الزواج،‏ وتزيد<br />

الصراعات الجتماعية واملنافسة الإحساس باملقدس،‏<br />

وتولد الوفاق الأخاقي وتوؤكده.‏ فمثل هذه املناسبات<br />

تولد مشاعر قوية بالإثارة ‏)انفعالت ‏سيالة(‏ معززة<br />

بقوة يف النشاط الشعبي والأغاين والرقص والإشارات<br />

الطقوسية،‏ فالإحساس العام والإثارة واجليشان هذه<br />

اللحظات املبهجة يصبح فيها روتني العامل اليومي<br />

متحولً‏ اإىل عامل مقدس يجعل الناس اأقدر على العيش<br />

يف وفاق اأو احتاد اأقرب اإىل املثالية.‏<br />

ويبني دوركامي فكرته عن دين الإنسانية على اأساس<br />

فكرته ‏)عن العوامل غري التفاقية لاتفاق(‏ حيث يرى<br />

اأن تعقد املجتمع وتزايد التميز الجتماعي والثقايف<br />

اإىل حد اأن الشيء الوحيد الذي ميكن للناس استبقاوؤه<br />

واحلفاظ عليه بشكل مشرتك هو اإنسانيتهم واأدى هذا<br />

كله لأن يصبح الشخص الإنساين رمزاً‏ قوياً‏ للمقدس.‏<br />

ويوؤكد فيزر ‏ستون اأن ثقافة الستهاك ليست<br />

ناجتة عن حجب املقدس بواسطة املادية،‏ وبالتايل فاإن<br />

تعريف الثقافة يجب اأن يكون اأوسع فا يركز على نظم<br />

وموؤسسات الدين الرسمي فحسب،‏ ولكن يركز اأيضاً‏<br />

على العمليات واملمارسات الجتماعية التي يتولد فيها<br />

املقدس.‏<br />

وكانت بداية التغري بقوة نحو ثقافة ما بعد احلديث<br />

‏)ثقافة الستهاك(‏ يف الستينات 1960، حيث التحولت<br />

الواسعة يف النظام الكوكبي وتوازن القوى على مستوى<br />

التفاعل املجتمعي.‏<br />

اأما عن كيفية ارتباط ثقافة الستهاك وما بعد<br />

احلداثة بالنظام الكوكبي فاإن ثقافة الستهاك توازي<br />

يف السلم الكوكبي اتساع قوي الوليات املتحدة فوق<br />

النظام القتصادي العاملي.‏<br />

وهنا ترى ثقافة الستهاك وقد قدر عليها اأن<br />

تصبح الثقافة العاملية التي تدمر الثقافات القومية<br />

اخلاصة يف الباد.‏ ومع ذلك فالدراسات عن تاأثري<br />

الستقبال التلفزيوين توؤكد اأهمية الختافات القومية<br />

يف قراءة الرسائل الجتماعية املشفرة املتجسدة<br />

يف الربامج التلفزيونية،‏ لذلك فالقوميات املختلفة<br />

والطبقات الجتماعية ‏سوف تشاهد خال الربامج<br />

التلفزيونية املشهورة عاملياً‏ ‏شفرات غري مناسبة.‏ وميكن<br />

التاأكيد اأيضاً‏ على اأن الجتاه الذي اأشرنا اإليه يف ثقافة<br />

الستهاك الذي اأوجد النقل املفرط من املعلومات<br />

والرموز يعمل اأيضاً‏ ‏ضد اأي اعتقاد كوكبي عاملي ‏صلب<br />

على مستوى املضمون ذلك لأن انتشار ‏صور ‏)الآخر(‏<br />

الأمم املختلفة غري املعروفة ‏سابقاً‏ رمبا تساعد بشكل<br />

فعال على الإحساس بوضع الآخر والإحساس بالظرف<br />

الكوكبي.‏<br />

لذلك يف ما بعد احلداثة فقدنا الإحساس ‏)بالآخر(‏<br />

بوصفه غريباً‏ اأو اأجنبياً،‏ فالنفتاح على الآخر والبحث<br />

عن معرفته،‏ والبحث عن وميض خلف ‏صحف العرض<br />

املحملة باإشارات التحول كل هذا ‏ضد التصنيف الثقايف<br />

والرتاتبية الرمزية بالنسبة للعامل الذي تتشابك فيه<br />

العتمادات املتبادلة بني الأمم والثقافات.‏<br />

وهذه التغريات حتدث على مستوى داخل املجتمع<br />

وتدفع بالأكادمييني واملفكرين نحو منظور التعددية<br />

الثقافية،‏ بعضها يقلل من ‏سلطة املفكرين العامليني<br />

بسبب ظهور املفكرين اجلدد،‏ والطلب الكبري على السلع<br />

الرمزية واختزال دور املفكر يف دور املفسر واملرتجم<br />

واملوؤول غري القادر على اأن يقدم معرفة عاملية.‏<br />

ميكن فهم ما بعد احلداثة بوصفها ‏صورة ثقافية<br />

تضم ‏صور الفوضى والتفكك والتجزوؤ والنسبية وانفتاح<br />

الفضاء اإىل ما يجاوز فرضيات ترسانة احلداثة<br />

العاملية،‏ فاستخدام مصطلح ما بعد احلديث يوجهنا<br />

اإىل الظروف املتغرية التي يُرى فيها العامل كمكان تاأتي<br />

فيه الصور املتنافسة للكوكب يف الصدارة اأو املقدمة.‏<br />

ويثري فيزر ‏ستون الصوؤال عن اإمكانية وجود ثقافة<br />

مشرتكة اأو عامة يف مواجهة من يرحبون بالفوضى<br />

الثقافية ونهاية اللتزام باملعنى املكون للقيمة،‏ ويبتهجون<br />

بوفاة القانون العام،‏ ويرى فيزر ‏ستون اأننا ل نستطيع<br />

فهم فكرة الثقافة املشرتكة بدون اأن نصاأل من املتحدث<br />

عنها؟ هل هم السسيولوجيون والنرثوبولوجيون؟ الذين<br />

يحاولون اإقناعنا اأنه توجد ثقافة مشرتكة يف العامل<br />

املراجعات


2 0 1 1<br />

224<br />

الجتماعي،‏ وهل هم اأصحاب النظريات الأدبية والنقاد<br />

الذين يعملون على اإنتاج ثقافة مشرتكة متكاملة.‏ وهو<br />

ويرى اأننا اإذا فهمنا مصطلح الثقافة املشرتكة وفقاً‏<br />

للراأي الأنرثوبولوجي يف اعتبار الثقافة ‏)طريقاً‏ كاماً‏<br />

حلياة اجلماعة والناس واملجتمع فاإن ذلك(‏ يستلزم<br />

تربية العامة مبجموعة من القيم السامية واملرتابطة<br />

والذوق،‏ توؤدي دوراً‏ يف تعضيد النظام الجتماعي<br />

وتكامله.‏ وبهذا املعنى تكون الثقافة املشرتكة موجودة<br />

من قبل،‏ ولكن يجري الآن تدمريها بواسطة الثقافة<br />

الستهاكية،‏ ثقافة ما بعد احلداثة،‏ فهي النقيض<br />

للثقافة املشرتكة.‏<br />

ومتجد الثقافة الشعبية التحولت والنحرافات<br />

عن الثقافة الرسمية،‏ وحتول املناسبات الكرنفالية<br />

العامل راأساً‏ على عقب حلظات من ‏)الفوضى املنظمة(‏<br />

التي تناقض الروتني البطيء للحياة اليومية.‏ ودخلت<br />

العناصر الكرنفالية الأدب يف الحتجاج الرومانسي<br />

‏ضد الكاسيكية،‏ ووجد الهتمام باخلصوصية والتنوع<br />

والثقافة الشعبية يف كتابات ودورث,‏ وروسو,‏ وهردر.‏<br />

واشتد التقليد الكرنفايل قوة يف الفن والأدب الغجري<br />

عند املجموعة النشطة يف البتكار والتطبيق،‏ التي<br />

بداأت يف باريس يف ثاثينات القرن التاسع عشر،‏ وذلك<br />

التقليد ناقد بشكل مباشر للعاملية،‏ ويوؤدي دوراً‏ رئيساً‏ يف<br />

ظهور الهتمام بالثقافة الشعبية منذ السبعينات،‏ وذلك<br />

بعدة طرق منها روح املساواة والنسبية وتدمري الرتاتبية<br />

الرمزية املستقرة طوياً‏ يف الرتبية الرفيعة املوؤسسة<br />

على الأعمال الكاسيكية.‏<br />

وكان الهتمام بالثقافة الشعبية والبحث عن<br />

مصداقيتها يشكل حتدياً‏ خطرياً‏ لهوية اجلامعة<br />

احلديثة،‏ لذلك عملت اجلامعة على استبعاد دراسة<br />

الثقافة الشعبية واأعطت لها مساحة ‏صغرية داخل<br />

مساقات التاريخ،‏ ونظرت اإىل الفولكلور على اأنه ‏شيء ل<br />

يطور العقل اأو الفكر،‏ ومضمونه يثري الأسئلة حول مبادئ<br />

الرتبية الرفيعة يف الإنسانيات والعلوم الجتماعية<br />

باعتبارها تصنع تراتبية ثابتة وتصاأل عن التقليد املعقول<br />

والقواعد والقانون.‏<br />

ومتثل اأيضاً‏ دراسة الثقافة الشعبية الهجوم على<br />

الوحدة النسقية والنظامية من منظور التنوع والفوضى<br />

والدميوقراطية واملساواة والتنوع الإقليمي الواسع<br />

للثقافات املحلية.‏<br />

ومن هذا املنظور باجتاهه اإىل التنوع الكوكبي تصبح<br />

الثقافة املشرتكة مشروعاً‏ مستحياً.‏<br />

ومع غياب الرتاتبية الثقافية تصبح دراسة الثقافة<br />

الشعبية متاأثرة مبا هو موجب الهتمام بالدارج املبهج،‏<br />

مثل خربة مشاهدة التلفاز،‏ ويصبح الأكادميي جمرد<br />

مرتجم ملا هو غريب اأو اأجنبي،‏ وتصبح النسبية الكلمة<br />

املشاهدة يف اأي اجتاه.‏ وتعرض كل الأمناط والتقاليد<br />

والصور الصور الثقافية للماضي،‏ ويصبح املونتاج<br />

والنتقائية قاعدة التنظيم.‏<br />

وتشري مضامني هذا التغري اإىل حتديد دور املفكرين<br />

املعاصرين اأي البتعاد عن دور الواثق اجلريء كمشرع<br />

من اأجل املجتمع والبشرية اإىل دور املفسر واملوؤول،‏<br />

والباحث عن نظم التقاليد الثقافية من اأجل اإنتاج<br />

مفيد مادي غريب من اأجل املشاهد واملستمع.‏ وتغري<br />

دور املثقف من دور الواثق يف حكمه اإىل دور املعلق الذي<br />

يقدم الشفرات ويحلها،‏ ويتوقف دور املفكر عن اأن يكون<br />

موجهاً‏ مرشداً،‏ ويصبح اأكرث انغماساً‏ يف بحث اخلربة<br />

الثقافية الوطنية.‏<br />

وهنا تبدو الصلة بني ما بعد احلداثة والثقافة<br />

الشعبية،‏ تشتهر ما بعد احلداثة بالطبيعة املتعددة<br />

الوجوه املحرية واملربكة وفوضى الثقافة الشعبية وغياب<br />

الرتاتبية.‏ والشكل الشائع ‏ضد التصنيف الثقايف<br />

املوجود بني املشتغلني بالإنتاج الثقايف هو اجتاه مستمر<br />

من الرومانسية والفن الغجري،‏ واملجموعة النشطة<br />

واحلداثة وما بعد احلداثة،‏ وجند فيه التعدي واملخالفة<br />

والشعبي والبحث عن التجديد والبتكار وكل هذا اأكسب<br />

هذا التقليد الثقايف املضاد ‏شهرة عظيمة يف الإنتاج<br />

الثقايف الستهاكي.‏<br />

وبفعل الدمقرطة الوظيفية انحصر توازن القوى<br />

بني اجلماعات املسيطرة واجلماعات الأقل قوة،‏<br />

واتسعت الرتبية العالية للجماعات الغريبة واخلارجة


225<br />

2 0 1 1<br />

يف فرتة ما بعد احلرب،‏ واتسع عدد الوسطاء الثقافيني<br />

يف وسائل الإعام اجلماهريية مما جعل من الصعب<br />

على اجلماعات املستقرة اأن حتافظ على وضعها<br />

املسيطر ثقافياً،‏ وذلك مهد الطريق اإىل عدم املركزية<br />

والعرتاف بالختافات الثقافية املحلية والإقليمية يف<br />

العامل الغربي.‏<br />

ويف العاقات بني احلكومات الغربية والتكتات<br />

السياسية على مستوى الكوكب وعودة خطاب الآخر،‏<br />

يرفض مفكرو العامل الثالث اللتزام بالتحديث الغربي،‏<br />

مفضلني اسرتجاع ثقافتهم الشعبية وتقاليدهم<br />

اخلاصة؛ ولذلك حتدث املقاومة للعناوين الثقافية<br />

املفرطة التي تربطها بهم الأمم الغربية،‏ مثل همجي<br />

وبربري ومتاأخر ومتوحش وملون..‏ وهلم جرا،‏ وبهذه<br />

املقاومة يجربون الغرب على احرتام خياراتهم وهويتهم<br />

الثقافية اخلاصة.‏<br />

وعلى الرغم من اأن الثقافة املشرتكة عملية غري<br />

خمططة،‏ فهي مع ذلك تعتمد على املشاركة والرتبية فهي<br />

التي ترثي الثقافة املشرتكة وتعد الأساس لزدهارها.‏ ولكن<br />

يبدو اأن قضية الثقافة املشرتكة يف اأزمة واأن الجتاه الآن<br />

هو الهتمام املتنامي بالثقافة الشعبية وما بعد احلداثة.‏<br />

وتوؤكد ما بعد احلداثة مكانتها داخل العمليات<br />

التي تشكل املجال الثقايف،‏ وتساعد على نهضة<br />

الثقافات الشعبية والكرنفالت،‏ وتقوي الدوافع الشعبية<br />

للدميقراطية واملساواة والفتتان بالآخر والتسامح مع<br />

السعادة والبهجة املرتبطة مبا بعد احلداثة،‏ والدللت<br />

املرتبطة بنهاية الجتماعي ونهاية املعيارية ونهاية<br />

املفكرين العامليني،‏ وجتاوز كل الأطر القدمية يستلزم<br />

عادات اأكرث مرونة واإعطاء ‏شرعية لاختاف والتسامح<br />

دون استبعاده اأو قهره.‏<br />

والرتكيز على تطور عادات اأكرث مرونة من جانب<br />

املتخصصني الثقافيني والوسطاء واملشاهدين ميكن<br />

الرتكان اإليه يف مشكلة الثقافة املشرتكة،‏ ويجد فيزر<br />

‏ستون يف فكرة دوركامي عن العوامل غري التفاقية<br />

لاتفاق اإمكانية التفكري يف الثقافة املشرتكة ليس على<br />

مستوى املضمون اأي العقائد والقيم ولكن على مستوى<br />

الختافات الظاهرة مثل العوامل غري التفاقية<br />

الداعمة لاتفاق الثقايف الذي حتدث فيه الضطرابات<br />

والنزاعات الصناعية حيث يشتبك كل من احلزبني<br />

يف ‏صراع حاد وفقاً‏ ملجموعة من القواعد الأساسية<br />

املعرتف بها ‏ضمناً‏ والتي هي مشرتكة يف حني ل يوجد<br />

اتفاق عليها اإطاقاً.‏ وهي ‏صورة الفكرة املفرتضة عن<br />

البناء املنتج املرن الذي يسمح لاختافات اأن توجد،‏<br />

ويشكل متفصاً‏ اأساسياً‏ منتجاً‏ ملعنى الثقافة املشرتكة<br />

اأو ميكن اعتباره منوذجاً‏ للثقافة املشرتكة،‏ التي يستلزم<br />

فيها مشاركة الناس اجلماعية القدرة على العرتاف<br />

بالختافات باعتبارها ‏شرعية وصحيحة.‏<br />

ويعترب فيزر ‏ستون اأن هذا التصور للوحدة خال<br />

التنوع يسمح بالختاف،‏ ويرى اأن هذه الفكرة اأكرث<br />

قبولً‏ اليوم،‏ وهي التي اأنهضت ما بعد احلداثة،‏ وقوضت<br />

مشروع التكامل الثقايف للدولة القومية.‏ وهي فكرة لها<br />

فاعليتها يف احتاد الدول الأوسع ‏)مثل الحتاد الأوروبي(‏<br />

و يف ‏)القتصاد الكوكبي(‏ وكاهما يشري اإىل الوحدة<br />

يف اإطار التنوع،‏ وقد جند الحتاد الأوروبي يعمل على<br />

اإنتاج جمتمع مثايل،‏ ورموز موحدة متيز الأوروبيني عن<br />

الآخرين،‏ ويحاول خلق هوية اأوروبية.‏ وتصبح هذه مهمة<br />

املتخصصني الثقافيني.‏<br />

وقد تكون فكرة الثقافة املشرتكة اأكرث اإمكاناً‏ اإذا<br />

كان يوجد عرف مشرتك توؤسس عليه,‏ ومعنى العرف<br />

جمموعة الرموز والأساطري والذكريات والأبطال<br />

والأحداث والتقاليد،‏ وجميعها منسوجة يف الوعي<br />

الشعبي،‏ وهو الأساس للثقافة املشرتكة.‏<br />

وميتلك العرف مرونة وقدرة عالية على مقاومة<br />

الضغط اأكرث مما يتخيل كثري من السياسيني واملعلقني،‏<br />

فهل قوة املقاومة من العرف والتقاليد الشعبية.‏<br />

وتاأسيساً‏ على السابق يرى فيزر ‏ستون اأن ما بعد<br />

احلداثة تقدم ‏صورة واأماً‏ للوحدة خال التنوع،‏ وحتقيق<br />

حلم العامل العلماين املوؤسس على فكرة الإنسانية عند<br />

دوركامي،‏ حيث نستطيع تخيل التجانس الثقايف الكوكبي<br />

ووجود فكرة الهوية واإنتاجها وذلك اإمنا يكون على اأساس<br />

ما يُهدد الكوكب.‏<br />

املراجعات


جملة علمية حمكمة تعنى بالدراسات الثقافية<br />

A Refereed Journal for Cultural Studies<br />

2 0 1 1<br />

Issue No 24<br />

Painting by Bahraini Artist<br />

Jamal A. Raheem


Price<br />

Bahrain BD 1.500<br />

Gulf States US $ 6<br />

Eygept US $ 1<br />

Other Arabic Countries US $ 2<br />

Other Parts of the world US $ 8<br />

Subscription<br />

Thaqafat<br />

The College of Arts<br />

University of Bahrain<br />

P.O.Box 32038, Kingdom of Bahrain<br />

One Year<br />

Two Years<br />

For Individuals<br />

Bahrain One Year 4 BD Two Years 8 BD<br />

Gulf States One Year 5 BD Two Years 10 BD<br />

Other Arabic Countries One Year 6 BD Two Years 12 BD<br />

Other Parts of the world One Year 8 BD Two Years 16 BD<br />

For Organizations<br />

Bahrain One Year 5 BD Two Years 10 BD<br />

Gulf States One Year 6 BD Two Years 12 BD<br />

Other Arabic Countries One Year 6 BD Two Years 12 BD<br />

Other Parts of the world One Year 8 BD Two Years 16 BD<br />

Subscribers Name & Addess<br />

Name:<br />

Job:<br />

Address:<br />

Cheques are payable to the order of the Thaqafat - College of Arts - University of Bahrain at the<br />

Bahraini Bank or a Bank Draft - Account No. (88500802) National Bank of Bahain<br />

Material published in Thaqafat does not necessarily<br />

represent the view of the Editors or Advisers<br />

Permission must be obtained from Thaqafat with<br />

regard to translating or republishing any material.


2. Tables, pictures and illustrious must be provided on separate sheets. Each<br />

item must have its sources and position in the body of the article clearly<br />

indicated at the bottom.<br />

3. Authors of research papers should provide on a separate sheet of paper their<br />

names, affiliation and, if applying for the fist time, CV's outlining their academic<br />

careers. They must also indicate whether the manuscript was submitted to<br />

a conference or seminar and whether it was published by the conference<br />

organizers. Sources of financial assistance, sponsorship by academic or nonacademic<br />

institutions must also be clearly acknowledged.<br />

4. Authors of research papers shall receive two copies of the issue containing<br />

their papers as well as 5 off prints of their articles. Authors of reviews,<br />

commentaries, reports and abstracts of these and dissertations shall receive<br />

one copy of the number which prints their contributions.<br />

III. Sources and References<br />

1. All sources must be acknowledged in note sprinted at the end of the article.<br />

Such notes must conform to the accepted connections for citations and notes.<br />

A note should provide the name of the author, title of the book or article, the<br />

name if the periodical or publisher, the year and place of publication in the<br />

case of books and the volume, issue and page number in the care of articles<br />

published in periodical: Arthur Mizener, the Saddest Story: A Biography of<br />

Ford madox (New York: World, 1971) 265.<br />

2. Research papers should have, in addition to the above-mentioned notes, a<br />

bibliographical list of sources. This should be alphabetically arranged by the<br />

name of the authors. Non-Arabic sources should be indicated in a separate<br />

list.<br />

IV. Approval for Publication<br />

A manuscript submitted for publication shall be acknowledged within two weeks<br />

of its receipt. Authors of such manuscripts shall also be notified of the decision<br />

concerning publication, which shall be based upon the recommendation of<br />

two confidentially - appointed referees in the case of research articles and the<br />

evaluation of the editorial board for other types of material. The Journal reserves<br />

the right to require minor or comprehensive alterations before a manuscript is<br />

approved for publication.<br />

Opinions expressed in this journal are solely those of their authors<br />

Distributor in Bahrain and the Arab World<br />

Al Ayam<br />

P.O. Box: 3232 Manama - Bahrain, Tel: 17 725111, Fax: 17 723763


2 0 1 1<br />

Guidelines for Authors<br />

In accordance with the following guidelines, the journal of Thaqafat welcomes for<br />

publication research papers and specialized academic studies in areas of cultural<br />

studies, cultural anthropology, everyday life sociology, political economy, media theory,<br />

film studies, new historical and philosophical studies, critical theory, studies of Islamic<br />

societies, gender and feminism, multiculturalism, politics of identity, post colonialism,<br />

postmodernism, and studies of the other, marginal-minority groups.<br />

I. General Guidelines<br />

1.The Journal invites for publication previously unpublished original research papers<br />

and academic studies in Arabic and English. A paper, once accepted for publication,<br />

may not be published in another journal without obtaining in advance the written<br />

consent of Journal's editor-in-chief.<br />

2.The Journal also welcomes reviews, book reviews, commentaries, and followup<br />

reports on conferences, seminars and other academic activities falling within<br />

its areas of interest. It also invites objective critiques of studies and opinions<br />

published on its own pages or in other journals and periodicals and similar scientific<br />

publications.<br />

3.The Journal furthermore invites abstracts of academic theses and dissertations for<br />

which degrees have been awarded provided subject of such works is in the field<br />

of Cultural studies and the abstracts are prepared and submitted by the author<br />

themselves.<br />

4. All manuscripts submitted for publication must be accompanied by two abstracts in<br />

Arabic and English, not exceeding 200 words each.<br />

5. All correspondence should be addressed to:<br />

Editor-in-Chief, Journal of Thaqafat,University of Bahrain<br />

P.O. Box: 32038, Bahrain, Fax: 17 449770<br />

e-mail: thaqafat@arts.uob.bh<br />

II. Manuscripts<br />

1. A research paper submitted for publication should not exceed 40 pages written in<br />

disk copy IBM compatibles. It must be thoroughly revised and fir for publication. All<br />

pages of the manuscript should be consecutively numbered. Charts, diagrams and<br />

illustrations should be similarly numbered.


Issue No 24, 2011<br />

A Refereed Journal for Cultural Studies<br />

Published by the College of Arts University of Bahrain<br />

Editor- in- Chief<br />

Dr. Haya Bent Ali Al Noaimi<br />

Managing Editor<br />

Dr. Nader Kadhem<br />

Editorial Board<br />

Prof. Adnan Zarzoor Prof. Baqir Al Najjar<br />

Dr. Faten Morsy<br />

Dr. Jamal A. Adheem<br />

Dr. Moh'd Al Sayed<br />

Advisory Board<br />

Prof. Baqir Al-Najjar<br />

Prof. Gaber Asfour<br />

Prof. Abdulla Al Ghadami<br />

Prof. Fatima Mernissi<br />

Prof. Ferial Ghazoul<br />

Art Supervision<br />

Mahmood Bahloos<br />

Executive Editor<br />

Yasser Othman<br />

Design & Production<br />

Sayed Jaffer Hameed<br />

Proofread by<br />

Dr. Isa Al Wedaee

Hooray! Your file is uploaded and ready to be published.

Saved successfully!

Ooh no, something went wrong!