د. ÙÙا بÙت عÙ٠اÙÙعÙ٠٠د. ÙÙÙÙÙÙÙÙادر ÙاظÙÙÙÙÙÙÙÙ٠د. ج٠ا٠... - جا٠عة اÙبØرÙÙ
د. ÙÙا بÙت عÙ٠اÙÙعÙ٠٠د. ÙÙÙÙÙÙÙÙادر ÙاظÙÙÙÙÙÙÙÙ٠د. ج٠ا٠... - جا٠عة اÙبØرÙÙ
د. ÙÙا بÙت عÙ٠اÙÙعÙ٠٠د. ÙÙÙÙÙÙÙÙادر ÙاظÙÙÙÙÙÙÙÙ٠د. ج٠ا٠... - جا٠عة اÙبØرÙÙ
Create successful ePaper yourself
Turn your PDF publications into a flip-book with our unique Google optimized e-Paper software.
العدد 2011م / 24<br />
رئيس التحرير<br />
د. هيا بنت علي النعيمي<br />
مدير التحرير<br />
د. نادر كاظم<br />
هيئة التحرير<br />
اأ. د. باقر النجار د. جمال عبدالعظيم<br />
اأ. د. عدنان زرزور د. فاتن مرسي<br />
د. حممد السيد خمتار<br />
الهيئة الستشارية<br />
اأ. د. باقر النجار<br />
اأ. د. جابر عصفور<br />
اأ. د. عبداهلل الغذامي<br />
اأ. د. فاطمة املرنيسي<br />
اأ. د. فريال غزول<br />
عضواً<br />
عضواً<br />
عضواً<br />
عضواً<br />
عضواً<br />
املشرف الفني<br />
اأ. حممود بحلوس<br />
سكرتري التحرير<br />
ياسر عثمان<br />
الإخراج الفني<br />
السيد جعفر حميد<br />
املدقق اللغوي<br />
د. عيسى الوداعي
ثمن العدد<br />
البحرين<br />
دول جملس التعاون<br />
جمهورية مصر العربية<br />
الدول العربية الأخرى<br />
الدول الأخرى<br />
1.5 ديناراً بحرينياً<br />
6 دولرات اأمريكية<br />
دولر اأمريكي<br />
دولران اأمريكيان<br />
8 دولرات اأمريكية<br />
قسيمة االشرتاك<br />
تصدر املجلة مرتني يف السنة، ويدفع الشرتاك بالدينار البحريني اأو ما يعادله<br />
ويرسل اإىل<br />
جملة ثقافات - كلية الآداب - جامعة البحرين - ص.ب: 32038<br />
الرجاء اعتماد اشرتاكي يف املجلة وملدة:<br />
سنة واحدة<br />
سنتان<br />
للأفراد<br />
البحرين<br />
دول جملس التعاون<br />
الدول العربية<br />
الدول الأخرى<br />
سنة واحدة 4 د. ب<br />
سنة واحدة 5 د. ب<br />
سنة واحدة 6 د. ب<br />
سنة واحدة 8 د. ب<br />
سنتان 8 د. ب<br />
سنتان 10 د. ب<br />
سنتان 12 د. ب<br />
سنتان 16 د. ب<br />
للموؤسسات<br />
البحرين<br />
دول جملس التعاون<br />
الدول العربية<br />
الدول الأخرى<br />
سنة واحدة 5 د. ب<br />
سنة واحدة 6 د. ب<br />
سنة واحدة 6 د. ب<br />
سنة واحدة 8 د. ب<br />
سنتان 10 د. ب<br />
سنتان 12 د. ب<br />
سنتان 12 د. ب<br />
سنتان 16 د. ب<br />
اسم املشرتك وعنوانه<br />
السم: املهنة:<br />
العنوان:<br />
تدفع الشرتاكات بشيك لأمر جملة ثقافات - كلية الآداب - جامعة البحرين على اأحد املصارف<br />
البحرينية اأو بتحويل مصريف اإىل حساب رقم )88500802( لدى بنك البحرين الوطني.<br />
املوزع يف البحرين والوطن العربي:<br />
موؤسسة الأيام للطباعة والنشر والتوزيع<br />
ص.ب: / 2323 املنامة / مملكة البحرين<br />
هاتف: / 17275111 فاكس: 17723763
2 0 1 1<br />
جملة علمية حمكمة تعنى بالدراسات الثقافية<br />
A Refereed Journal for Cultural Studies<br />
العدد 24<br />
لوحة الغالف للفنان البحريني<br />
جمال عبدالرحيم<br />
- جميع احلقوق حمفوظة.<br />
- املواد املنشورة تعرب عن اآراء كتابها، ل عن راأي املجلة.<br />
- ل يحق اإعادة نشر املواد املنشورة يف املجلة دون استئذان اإدارتها.<br />
- ل يحق القتباس من املواد املنشورة يف املجلة من غري ذكر املصدر.<br />
- ترسل املواد املرتجمة مصحوبة بنصها الأصلي املرتجمة عنه.<br />
- ترسل جميع املساهمات مع السرية الذاتية للكاتب باسم رئيس التحرير بطريقتني فقط،<br />
على قرص )Disk( اأوعلى الربيد الإلكرتوين للمجلة : thaqafat@arts.uob.bh<br />
- حتتفظ املجلة لنفسها باحلق يف نشر اأو عدم نشر املواد الواردة اإليها من دون ذكر الأسباب.<br />
- ل تقبل املساهمات املكتوبة بخط اليد.<br />
- صندوق بريد املجلة رقم: ، 32038 الصخري - مملكة البحرين.<br />
العنوان :<br />
ثقافات - كلية الآداب - جامعة البحرين<br />
ص.ب: - 32038 الصخري - مملكة البحرين<br />
الربيد الإلكرتوين: thaqafat@arts.uob.bh<br />
هاتف: - 17438446 فاكس: 17449770<br />
موقع املجلة : http//www.thaqafat.uob.edu.bh<br />
موقع اجلامعة : www.uob.edu.bh
قواعد النشر<br />
2 0 1 1<br />
ترحب جملة ثقافات بنشر الأبحاث والدراسات العلمية املتخصصة ذات الصلة مبجال<br />
الدراسات الثقافية، والأنرثوبولوجيا الثقافية، وسوسيولوجيا احلياة اليومية، والقتصاد<br />
السياسي، ودراصات الإعام والتصال، والدراصات السينمائية، والدرس الفلسفي<br />
والتاريخي اجلديد، والنظريات النقدية مبختلف توجهاتها، والدراسات حول املجتمعات<br />
الإصامية، ودراسات اجلنوسة والنسوية، والتعددية الثقافية وسياسات الهوية، ودراسات ما<br />
بعد الستعمار وما بعد احلداثة، ودراسات الآخر والأقليات وثقافة الهامشيني وغريها، وذلك<br />
وفقاً للقواعد الآتية:<br />
اأوالً: قواعد عامة<br />
1. تنشر املجلة الأبحاث والدراسات الأكادميية الأصيلة، وتقبل للنشر فيها الأبحاث املكتوبة<br />
باللغة العربية، اأو اللغة الإجنليزية التي مل يسبق نشرها، ويف حالة القبول يجب األ تنشر<br />
املادة يف اأي دورية اأخرى دون اإذن كتابي من رئيس التحرير.<br />
2. تنشر املجلة الرتجمات، والقراءات ومراجعات الكتب، والتقارير، واملتابعات العلمية حول<br />
املوؤمترات، والندوات، والنشاطات الأكادميية املتصلة بحقول اختصاصها، كما ترحب<br />
باملناقشات املوضوعية ملا ينشر فيها، اأو في غريها من املجات، والدوريات، ودوائر النشر<br />
العلمي.<br />
3. يلتزم الباحث باإرسال ملخصني بالعربية والإجنليزية للبحوث والدراسات شريطة األ<br />
يزيد عدد كلمات كل منهما على 200 كلمة.<br />
4. ترسل البحوث مطبوعة على IBM Text Only مصححة بصورتها النهائية على Disk<br />
خاص يتضمن البحث، واخلاصة باللغتني العربية والإجنليزية. وميكن اإرسالها بصورة<br />
Attache File اإىل الربيد الإلكرتوين للمجلة.<br />
5. توجه جميع املراصات باسم رئيس حترير ثقافات - جامعة البحرين<br />
ثانياً: االأبحاث<br />
1. يقدم الأصل مطبوعاً على احلاسوب شريطة األ تزيد عدد صفحات البحث على 40 صفحة<br />
مطبوعة ومضبوطة ومراجعة مراجعة دقيقة، على اأن ترقم الصفحات ترقيماً متسلصاً
2 0 1 1<br />
مبا في ذلك اجلداول، والأشكال.<br />
2. تطبع اجلداول، والصور، واللوحات على اأوراق مستقلة، ويشار في اأسفل الشكل اإىل<br />
مصدره، اأو مصادره، مع حتديد اأماكن ظهورها يف املنت.<br />
3. يذكر الباحث اسمه وجهة عمله على ورقة مستقلة، ويجب اإرفاق نسخة من السرية العلمية<br />
اإذا كان الباحث يتعاون مع املجلة للمرة الأوىل، وعليه اأن يشري فيما اإذا كان البحث قد<br />
قدم اإىل موؤمتر، اأو ندوة واأنه مل ينشر ضمن اأعمال املوؤمتر، كما يشار اإىل اسم اأية جهة<br />
علمية، اأو غري علمية، قامت بتمويل البحث، اأو املساعدة على اإعداده.<br />
4. مينح الباحث نسختني من العدد الذي يتضمن بحثه بالإضافة اإىل )5( مستات من<br />
املادة، كما مينح اأصحاب املناقشات، واملراجعات والتقارير، وملخصات الرسائل<br />
اجلامعية نسخة من العدد الذي يتضمن مشاركاتهم.<br />
ثالثاً: املصادر واحلواشي<br />
1. يشار اإىل جميع املصادر باأرقام احلواشي التي تنشر في اأواخر البحث، ويجب اأن تعتمد<br />
الأصول العلمية املتعارفة يف التوثيق والإشارة بحيث تتضمن: اسم املوؤلف، وعنوان الكتاب،<br />
اأو املقال، واسم الناشر، اأو املجلة، ومكان النشر اإذا كان كتاباً، وتاريخ النشر، واملجلد،<br />
والعدد، واأرقام الصفحات اإذا كان مقالً.<br />
2. يزود البحث بقائمة للمصادر منفصلة عن احلواشي، ويف حال وجود مصادر اأجنبية<br />
تضاف قائمة بها منفصلة عن قائمة املصادر العربية، ويراعى يف اإعدادها الرتتيب<br />
الألفبائي لأسماء املوؤلفني.<br />
رابعاً: اإجازة النشر<br />
يتم اإباغ اأصحاب املساهمات بتسلم املادة خال اأسبوعني من تاريخ التسلم، مع اإخطارهم<br />
بقبولها للنشر، اأو عدم القبول بعد عرضها )في حال البحوث( على حمكمني، تختارهم املجلة<br />
على نحو سري. اأو بعد عرضها على هيئة التحرير )في حال املساهمات الأخرى(. وللمجلة<br />
اأن تطلب اإجراء تعديات شكلية، اأو شاملة على البحث قبل اإجازته.
2 0 1 1 املحتويات<br />
اأبحاث<br />
13<br />
ما بعد احلداثة والدين.. موقف الأنطولوجيا التاريخية<br />
الزواوي بغوره<br />
39<br />
التاريخ والسرد وتشكات الهوية<br />
اإسماعيل نوري الربيعي<br />
55<br />
التمثيل بالعلوم للعلوم عند ابن رشد<br />
فوؤاد بن اأحمد<br />
79<br />
هموم املعيشة كما تصورها الرواية التاريخية:<br />
)العصر اململوكي منوذجاً(<br />
خريي دومه<br />
115<br />
الصحف الإلكرتونية البحرينية: دراسة يف واجهة الستخدام<br />
حامت الصريدي<br />
131<br />
يف البحث عن العاقة بني املدونات الإلكرتونية والصحافة<br />
نصر الدين لعياضي
2 0 1 1<br />
مقاربات<br />
169<br />
املرتكزات السوسيولوجية عند فيكوتسكي:<br />
هل ميكن اإرجاع الظاهرة النفسية اإىل اأورمتها الثقافية؟<br />
علي اأسعد وطفة<br />
183<br />
الأدب التفاعلي واجتاهات ما بعد البنيوية<br />
زرفاوي عمر<br />
200<br />
Mohamed Almubarak<br />
Fabulous Universalism: St Puaul According to Alan<br />
Badiou<br />
مراجعات<br />
201<br />
احلجاج يف التداولية: مدخل اإىل اخلطاب الباغي<br />
صابر احلباشة<br />
215<br />
ثقافة الستهاك، وما بعد احلداثة<br />
حممد عويس
اأبحاث<br />
2 0 1 0<br />
ما بعد احلداثة والدين..<br />
موقف االنطولوجيا التاريخية<br />
التاريخ والرسد وتشكالت الهوية<br />
التمثيل بالعلوم للعلوم عند ابن رشد<br />
هموم املعيشة كما تصورها الرواية التاريخية:<br />
)العرص اململوكي منوذجاً(<br />
الصحف االإلكرتونية البحرينية:<br />
دراسة يف واجهة االستخدام<br />
يف البحث عن العالقة بني<br />
املدونات االإلكرتونية والصحافة
االأبحاث<br />
ما بعد احلداثة و الدين<br />
موقف االأنطولوجيا التاريخية<br />
د.الزواوي بغوره<br />
باحث واأكادميي من املغرب
15<br />
2 0 1 1<br />
Abstract<br />
This paper aims to discuss the attitude of<br />
Historical Ontology towards religion through<br />
analyzing the Following elements: The relation of<br />
religion with sex , power as expressed in Pastoral<br />
power , religion as a political and spiritual power as<br />
manifested in the Iranian Revolution, and religion<br />
as a philosophical asceticism distinguished by its<br />
practices and rules especially the rule of Freedom<br />
and the aesthetic of existence, which allow of<br />
transforming the subject to an artistic trace.<br />
Through revisiting these elements Historical<br />
ontology expressed in its own way the return of<br />
The Religious as it appeared in the philosophies of<br />
postmodernism . In spite of criticizing such way<br />
from various aspects, especially in its tendency to<br />
similitude, Historical Ontology call to Freedom<br />
indicates to the possibility of philosophical<br />
alternative.<br />
Keywords: religion, modernity, postmodernism,<br />
sex, pastoral power, political spiritual, philosophical<br />
asceticism.<br />
امللخص<br />
موصوع هذا البحث دراصة موقف الأنطولوجيا<br />
التاريخية من الدين، وذلك بتحليل عاقة الدين<br />
باجلنس والسلطة ممثلة بالسلطة الرعوية، والدين<br />
بوصفه قوة سياسية و روحية ممثلة يف الثورة الإيرانية،<br />
وزهدا فلسفيا متميزا مبمارساته و قواعده، و بخاصة<br />
قاعدة احلرية، وجماليات الوجود التي تسمح بتحويل<br />
الذات اإىل اأثر فني. و يف مراجعتها هذه الوجوه عربت<br />
الأنطولوجيا التاريخية بطريقتها اخلاصة عن عودة<br />
الديني كما نتلمسه يف فلسفات ما بعد احلداثة. و رغم<br />
النقد املوجه لطريقتها من نواح عديدة، و بخاصة من<br />
حيث نزوعها نحو املماثلة، اإل اأن دعوتها اإىل احلرية<br />
تشري اإىل بديل فلسفي ممكن.<br />
- الكلمات الدالة: الدين، احلداثة، ما بعد احلداثة،<br />
اجلنس، السلطة الرعوية، الروحانية السياسية، الزهد<br />
الفلسفي.<br />
اأبحاث
2 0 1 1<br />
16<br />
ما بعد احلداثة و الدين<br />
موقف االنطولوجيا التاريخية<br />
د.الزواوي بغوره<br />
مقدمة<br />
اإن مناقشة عاقة ما بعد احلداثة بالدين يفرض علينا النظر سلفا يف عاقة احلداثة بالدين، وذلك بسبب<br />
اتصال ما بعد احلداثة باحلداثة، سواء فهمنا من )ما بعد احلداثة( حقبة تاريخية، اأوحركة نقدية جديدة.<br />
واإذا كان من الصعب منهجيا ومعرفيا وضع تعريف جامع ملصطلحي احلداثة وما بعد احلداثة، وذلك ملا يتسمان<br />
به من لبس وتعدد واختاف، فاإنه من الضروري اأن نشري على الأقل اإىل اأن احلداثة تعني انبثاق الذاتية<br />
والعقانية، واأنها تفيد تاريخيا ظهور حضارة جديدة بداأت مع نهاية القرن الثامن عشر، ومتيزت بحدثني<br />
اأساسيني هما: الثورة الصناعية والثورة الدميقراطية )1( . واأن النتقال من مرحلة العصور القدمية اإىل عصر<br />
احلداثة يتفق وانبثاق ذات اإنسانية واعية ومستقلة بذاتها، ومعتزة بانتصاراتها العلمية، وسيطرتها على الظواهر<br />
الطبيعية والإنسانية. ولذا فقد متيزت عاقتها بالدين، وبخاصة الدين املسيحي، بالصراع واملنافسة والنزاع بل<br />
وبالإقصاء والستبعاد، وذلك بحكم اأن املسيحية الكاثوليكية قد ذهبت مذهبا مناهضا للتنوير واحلداثة، ولأن<br />
احلداثة بطبيعتها تتميز مبا بيّنه عامل الجتماع الأملاين ماكس فيرب”Max ”Weber بعمليات العقلنة ملختلف<br />
فضاءات الوجود الإنساين، وهو ما وصفه بنزع الغالة السحرية عن العامل”désenchantement”.<br />
ولكن احلداثة يف ذاتها قد عرفت حتولت ثقافية<br />
وفكرية، وبخاصة بعد احلرب العاملية الثانية، وهذا<br />
ما تشري اإليه ما بعد احلداثة بوصفها حركة ثقافية<br />
تشكك وتعيد النظر يف قيم احلداثة، وبخاصة التشكيك<br />
يف العقل وقدرته، ولذا فاإن ما مييز ما بعد احلداثة<br />
مقارنة باحلداثة هو عودة الديني مصحوبا بنزعة<br />
عدمية اأو وثنية جديدة ”pain-neo“ )2( ،بحسب بعض<br />
الدراسات.<br />
هذا من جهة، اأما من جهة اأخرى فاإن املسيحية<br />
ذاتها قد عرفت حتولت يف عاقتها باحلداثة، وهو<br />
ما مت التعبري عنه ضمن تاريخ الكنيسة الكاثوليكية<br />
ب”الفاتيكان الثاين” )3( ، حيث مت الإقرار باأن<br />
العلمانية”laïcité” والعلمنة ”sécularisation” ل<br />
تعني الإحلاد، واأن فصل الكنيسة عن الدولة قد يكون<br />
وسيلة مناسبة لضمان الكلمة احلرة للكنيسة، مبعنى<br />
اأن املسيحية قد دخلت يف نوع من التعاون واحلوار مع<br />
احلداثة. ولقد عرب عن هذه احلالة الفيلسوف الفرنسي<br />
مارسال غوشيه Marcel“ ”Gauchet خري تعبري عندما<br />
قال:“اإن املسيحية هي ديانة اخلروج من الدين” )4( .<br />
اإن ما اأدت اإليه عمليات العلمنة، وما تطرحه ما بعد<br />
احلداثة من حاجة اإىل اإعادة النظر يف قيم احلداثة<br />
يفرض علينا النظر يف موقف الأنطولوجيا التاريخية<br />
من الدين بوصفها تيارا من تيارات ما بعد احلداثة )5( :<br />
فما هو موقفها من الدين؟ وهل الأفكار والتحليات<br />
التي قدمتها تسهم يف النقاش الفلسفي املعاصر حول<br />
مكانة الدين يف احلياة السياسية املعاصرة؟ على الرغم<br />
من اأن ميشيل فوكو Michel” ”Foucault 1926-<br />
1984 الذي اأطلق على فلسفته يف اأخريات حياته اسم<br />
الأنطولوجيا التاريخية، مل يخص الدين بدراسة مستقلة<br />
مثل ما فعل جاك دريدا ،”J.Derrida“ وجياين فتيمو<br />
،”G.Vattimo“ وريتشارد رورتي ”Rorty.R“ )6( ، فاإنه<br />
قد قدم جمموعة من النصوص ذات الصلة املباشرة
17<br />
2 0 1 1<br />
وغري املباشرة بالدين ، 7 كما اأن مشروعه الفلسفي<br />
مبني على فهم وحتليل معني للثقافة عموما، وللثقافة<br />
الغربية على وجه التحديد حيث يشكل فيها الدين<br />
املسيحي اأحد العناصر الأساسية )8( . والقارئ نصوص<br />
هذا الفيلسوف يلحظ بيسر حضور الدين املسيحي،<br />
والاهوت املسيحي بوصفهما خطابات ثقافية يجب<br />
دراستها وحتليلها حتليا تاريخيا يتناسب وطريقته يف<br />
تاأويل الأحداث واملمارسات واخلطابات، وذلك ضمن<br />
اأطروحاته اخلاصة بعاقة املعرفة والسلطة. من هنا<br />
يرى بعض الدارسني اأن املحاولت النقدية التي قدمها<br />
فوكو تفتح طريقا جديدا لقراءة تاريخ الأديان عموما،<br />
وتاريخ املسيحية بشكل خاص، وبخاصة فيما يتعلق<br />
بالذات، وبسياسة احلقيقة، وعاقات السلطة باملعرفة.<br />
بل هنالك من ل يرتدد يف القول اإن فوكو يعرض اإمكانية<br />
لتصور طرق جديدة لإعادة التفكري يف الاهوت بوصفه<br />
ممارسة معرفية، واأن نقده يعد مبثابة وسيلة لختبار<br />
خمتلف املمارسات املعرفية مبا فيها املمارسة املعرفية<br />
الاهوتية )9( . ولدراسة هذا املوقف وبيان قيمته، فاإننا<br />
سنحاول حتليل العناصر الآتية:<br />
- اأو ال. بني الدين واجلنس:<br />
يشكل اجلنس -كما هو معلوم- اأحد املواضيع<br />
الأساسية يف فلسفة ميشيل فوكو، ولذا فاإن غاية ما<br />
نسعى اإليه يف هذا العنصر هو دراسة صلته بالدين<br />
عموما، وبالدين املسيحي على وجه التحديد، وذلك<br />
بغرض تشكيل تصور واضح قدر الإمكان حول موقف<br />
هذا الفيلسوف من الدين. واإذا كانت هنالك اأسباب<br />
عديدة تقف وراء اهتمام فوكو بالدين، وبخاصة ما<br />
تعلق بحياته الشخصية، فاإن السبب الأساسي يعود اإىل<br />
اهتمامه مبوضوع اجلنس وعاقته بالسلطة، وهو ما<br />
بينه يف دراسات عديدة منها ما قدمه يف كتابه “اإرادة<br />
املعرفة”1976، ويف بعض دروسه بالكوليج دي فرانس<br />
College“ ،”France de كدرسه سنة 1980 الذي كان<br />
عنوانه: “حكم الأحياء”، حيث بني دور املسيحية يف عملية<br />
الإخضاع عن طريق العرتاف، وهو ما سماه ب”اأفعال<br />
احلقيقة” )10( . ولقد خص اجلزء الأكرب من هذا الدرس<br />
لإجراءات امتحان الضمري داخل املوؤسسات الرهبانية.<br />
كما ناقش هذا املوضوع يف درسه سنة 1981، وكان<br />
عنوانه “الذاتية واحلقيقة”، حيث حلل اأشكال املعرفة<br />
املتعلقة بالذات وعاقتها باملوؤسسات، وكيف تتحكم<br />
الذات يف نفسها، وذلك من خال جمموعة من النماذج<br />
ممثلة بتاأويل الأحام لأرتيمدور“Artémiodore”<br />
وهو اأحد الفاسفة الوثنيني الهلنستنيني، والنظم<br />
الطبية جللينوس“Galien” وغريه، واحلياة الزوجية،<br />
واحلب )11( ، وظهر هذا الدرس بصورة معينة يف اجلزء<br />
الثالث من تاريخ اجلنسانية بعنوان “الهتمام بالذات”،<br />
وذلك سنة 1984 قبل وفاته بوقت قليل، بالإضافة اإىل<br />
مقالت وحوارات عديدة نقروؤها يف جمموع اأعماله<br />
املنشورة بعنوان: “اأقوال وكتابات”: 1988-1954.<br />
يرى ميشيل فوكو اأنه اإذا كان التحليل النفسي كما<br />
اأسسه سيغمند فرويد “S. ”Freud قد اهتم بعاقة<br />
اجلنس بالدين، كما يظهر جليا يف كتابه “موسى<br />
والتوحيد”، فاإن علماء التحليل النفسي الذين جاءوا<br />
من بعده قد اأهملوا هذا اجلانب على اأهميته يف تاريخ<br />
املسيحية، وبخاصة يف العصور الوسطى حيث جند<br />
كتابات كثرية حول اجلنس، اأو “كل ما ميكن وصفه<br />
-كما قال- بخطاب عقلي وعلمي حيث ميكن اأن ناحظ<br />
فرقا اأساسيا بني املجتمعات الغربية وبني املجتمعات<br />
الشرقية” )12( . لقد اأنتجت املجتمعات الشرقية، يف<br />
نظره، فنا شبقيا ”érotique“ يعتمد على فن اإنتاج<br />
املتعة من خال العاقة اجلنسية، متعة مكثفة وقوية<br />
ودائمة قدر الإمكان. اأما اخلطاب اجلنسي الذي جنده<br />
يف الغرب منذ العصر الوسيط فهو خطاب يقوم على<br />
علم للجنس“Scientia ،”Sexualis اأي البحث يف<br />
حقيقة اجلنس، ومن ثم فاإن ما يبحث عنه اخلطاب<br />
الغربي يف اجلنس ليس كثافة وقوة املتعة، واإمنا حقيقة<br />
اجلنس )13( .<br />
يقوم حتليل ميشيل فوكو للجنس يف عاقته بالدين<br />
على اأطروحتني اأساسيتني تتعارضان والفهم احلداثي<br />
للجنس، تتمثل الأو ىل يف رفضه لأطروحة القمع والكبت<br />
والتحرير التي قال بها التحليل النفسي، والتحليل<br />
اأبحاث
2 0 1 1<br />
18<br />
النفسي املاركسي على السواء وهو ما بينه بالتفصيل<br />
يف كتابه “اإرادة املعرفة”. وتتمثل الأطروحة الثانية يف<br />
رفضه للتحقيب التاريخي للجنس الذي اعتمده التحليل<br />
النفسي، والذي يقوم على ثاث مراحل اأساسية هي:<br />
املرحلة اليونانية والرومانية حيث كان فيها اجلنس<br />
حرا، واملرحلة املسيحية التي متيزت بوضعها حمرمات<br />
وممنوعات على اجلنس، وفرضت صمتا على اجلنس،<br />
واأخريا املرحلة احلديثة التي قامت فيها البورجوازية<br />
بقمع اجلنس الذي مل يتحرر اإل يف نهاية القرن التاسع<br />
عشر على يد فرويد )14( .<br />
يرفض ميشيل فوكو هذا املخطط التاريخي<br />
والنظري يف الوقت نفسه، ويقرتح حتليا مغايرا لتاريخ<br />
اجلنس معتمدا يف ذلك على اأبحاث صديقه املوؤرخ بول<br />
فني ”Veyne.P“ )15( التي توؤكد على اأن اجلنس مل يكن<br />
حرا يف املرحلة القدمية، واأنه منذ املرحلة الرومانية<br />
بداأت الأحكام الأخاقية ترتبط بالأفعال اجلنسية، ومن<br />
ثم فاإن ما حدث مع املسيحية هو تغري يف الوسائل فقط،<br />
اأو كما قال: « يبدو يل اأن املسيحية قد حملت اإىل التاريخ<br />
الأخاقي-الذي هو تاريخ روماين- تقنيات جديدة« )16( .<br />
وبتعبري اآخر، فاإن املسيحية مل متنع اجلنس، واإمنا<br />
فرضت عليه تقنيات جديدة، واإجراءات جديدة، واآليات<br />
سلطوية جديدة حتى تطبق عليه اأخاقياتها التي ورثت<br />
جزءا منها من العامل الروماين القدمي.<br />
وعلى سبيل املثال، يرى ميشيل فوكو اأن الزواج<br />
الأحادي، والوفاء للحياة الزوجية مل تبتكرهما<br />
املسيحية، بل كانا شائعني يف املرحلة الرومانية الوثنية،<br />
واأن املسيحية قد استعادتهما وقامت بتقويتهما، ومن ثم<br />
فاإن الأخاق املسيحية ما هي اإل جزء من تلك الأخاق<br />
الوثنية الرومانية )17( . وتشهد كتابات القديس اأو غسطني<br />
Saint“ ”Augustin على اأن املسيحية التي اأقامت<br />
عاقة جديدة ما بني الذاتية وما بني اجلنس، قد اأبقت<br />
الشكل الذكوري للجنس مهيمنا. واحلل اأو العاج الذي<br />
تقدمه املسيحية باسم القديس اأو غسطني يختلف عن<br />
احلل الأفاطوين، وذلك لأنه اإذا كان اأفاطون يدعونا<br />
اإىل حتويل النظر اإىل الأعلى وتذكر ما نسيناه، فاإن<br />
القديس اأو غسطني يدعونا اإىل الأسفل، واإىل الداخل<br />
حتى نتمكن من معرفة حركات الروح، ومعرفة تلك<br />
احلركات التي تاأتي من الليبدو. وتقتضي هذه املهمة<br />
التشخيصية للروح ليس فقط التحكم يف الذات، واإمنا<br />
القدرة على املعرفة، وعلى متييز احلقيقة من الوهم،<br />
اأو كما قال فوكو تقتضي نوعا من “تاأو يل الذات” )18( .<br />
ولذلك فاإن الأخاق اجلنسية املسيحية تفرتض نوعا من<br />
الواجبات الصارمة، وهذا ما نقراأه يف الأدبيات الزهدية<br />
والرهبانية يف القرنني الرابع واخلامس املياديني التي<br />
ل تهدف اإىل املراقبة الفعلية للسلوك اجلنسي، واإمنا<br />
تهتم بسيولة وكرثة الأفكار التي تخرتق النفس وتزعج<br />
بتعددها “الوحدة الضرورية للتاأمل، وتقدم للذات صورا<br />
من اإغواء الشيطان” )19( .<br />
من هنا، فاإن مهمة الرهبنة ل تتمثل فيما يحاول<br />
اأن يقوم به الفيلسوف كما تصفه الفلسفة اليونانية،<br />
وبخاصة يف املرحلة الرومانية وهو التحكم الكامل يف<br />
الذات وممارسة السيادة عليها، واإمنا يف املراقبة الدائمة<br />
للأفكار، وتصفيتها والنظر اإليها فيما اإذا كانت اأفكارا<br />
خالصة، اأو اأفكارا تشوبها شائبة معينة، ومن هنا جاءت<br />
ضرورة مراقبة الأفكار وفحصها واإخضاعها لاختبار<br />
يف املسيحية. وبحسب كاسيان ”Cassien“ )20( الذي<br />
اهتم فوكو بنصوصه كثريا يجب اأن نقف من اأنفسنا<br />
موقف الصراف والبنكي الذي يفحص النقود. كما اأن<br />
معنى الصفاء والطهارة يف املسيحية يتطلب اكتشاف<br />
احلقيقة يف النفس، واستبعاد الأوهام التي تطفو عليها،<br />
والعمل الدائم على استبعاد الأفكار واخلواطر التي توحي<br />
بها النفس دائما ومن غري توقف. وتشري هذه العملية<br />
اإىل اأن هنالك صراعا روحيا ضد الدناسة/النجاسة.<br />
وبناء عليه، فاإن ما مييز املوقف املسيحي من اجلنس هو<br />
عملية النتقال من العاقة بني الذات والآخر يف الفعل<br />
اجلنسي، اإىل اأخاق جنسية مسيحية قائمة على عاقة<br />
الذات بالذات، ولذلك فاإن اإحدى املشكات الكربى التي<br />
ستواجهها هذه الأخاق، وحتاول مراقبتها بشدة هي<br />
مشكلة الستمناء، وذلك عكس الأخاق اليونانية التي<br />
ل تعري اهتماما لهذا املوضوع لأنها ترى يف هذا سلوكا
19<br />
2 0 1 1<br />
مشينا يوافق العبد، وليس املواطن احلر )21( .<br />
ولقد انتهى ميشيل فوكو يف حتليله لنصوص كاسيان،<br />
وبخاصة ما تعلق بقوائم العفة والفسق اأو الفجور، اإىل<br />
الإقرار باأن موضوع هذه القوائم ليس حتديد املسموح<br />
واملمنوع فقط، واإمنا طرح تقنية من اأجل حتليل وتشخيص<br />
الفكر واأصوله وخصائصه وخماطره واحلد من الغواية.<br />
واأنه اإذا كان الهدف هو استبعاد كل ما هو دنس، فاإن<br />
ذلك ل ميكن اأن يتحقق اإل بنوع من احلذر والنتباه الذي<br />
ل يتوقف اأبدا، وبنوع من الشك الدائم يف كل حلظة ضد<br />
ذات النفس. وتوؤدي هذه العملية وغريها من العمليات<br />
اإىل الزهد الذي يتخذ شكل العفة حيث ميكن -يف نظر<br />
ميشيل فوكو- ماحظة وجود عمليتني اأساسيتني: عملية<br />
تذويت ”subjectivation“ تتضمن اأخاقا متمركزة<br />
حول اقتصاد الأفعال، ول تنفصل عن املعرفة التي جتعل<br />
من واجب البحث وقول احلقيقة حول ذات النفس شرطا<br />
لزما ودائما لهذه الأخاق، واأن هذه العملية التذويتية<br />
-ان صحت العبارة- تتطلب بالضرورة عملية موضعة<br />
”objectivation“ للذات من قبل الذات. واأن عملية<br />
التذويت التي تاأخذ شكل البحث عن حقيقة الذات تتم<br />
من خال عمليات معقدة مع الآخر، وباأشكال خمتلفة،<br />
وذلك لأن العرتاف للآخر، وطاعته، واتباع نصائحه<br />
من الشروط الازمة يف هذه املعركة. ويف نظر ميشيل<br />
فوكو، فاإن نصوص كاسيان تتضمن خمتلف مامح هذه<br />
الأخاق اجلنسية وهي مامح منسجمة ومنسقة )22( .<br />
اإن جممل الإجراءات والقواعد والتقنيات التي<br />
اتخذتها املسيحية جتاه اجلنس يلخصها ميشيل فوكو يف<br />
مفهوم السلطة الرعوية pastoral” ”pouvoir الذي<br />
يقوم على جمموعة من الأفراد الذين يوؤدون دور الراعي<br />
يف املجتمع املسيحي بالنسبة لبقية الأفراد الذين ميثلون<br />
القطيع. وتتميز هذه السلطة التي مل تعرفها اإل بعض<br />
املجتمعات الشرقية كمصر القدمية واإسرائيل بجملة<br />
من اخلصائص منها: اأن الراعي ميارس سلطته على<br />
الرعية ”القطيع” وليس على الأرض. ويقوم بجمع<br />
القطيع وقيادته ،ويكمن دوره يف ضمان خاص القطيع،<br />
واأن ممارسة السلطة اأمر واجب )23( . وبناء على هذه<br />
اخلصائص الأساسية، خلص ميشيل فوكو اإىل القول<br />
اإنه، ومن خال التنظيم الرعوي للمجتمع املسيحي الذي<br />
بداأ يف القرن الرابع بعد املسيح، تطورت اآلية سلطوية<br />
كانت مهمة بالنسبة للتاريخ املسيحي الغربي، وبشكل<br />
خاص بالنسبة للجنسانية .”sexualité“ وتكمن هذه<br />
الآلية يف ضرورة واجب اخلاص، واملراقبة الدائمة،<br />
والطاعة املطلقة للراعي اأو الراهب الذي يحمل سلسلة<br />
من التقنيات، والإجراءات املتعلقة باحلقيقة واإنتاج<br />
احلقيقة، وذلك عن طريق العرتاف /confession“<br />
”aveu الذي تطور من خال امتحان الضمري الذي<br />
شكل الرابطة الدائمة بني الراعي والقطيع، وعلى هذا<br />
الأساس حاولت املسيحية اأن تفرض نوعا من الزهد من<br />
خال التحكم ومراقبة اجلنس من جهة، وتوجيهه من<br />
الداخل من جهة اأخرى )24( .<br />
وعليه، فاإن اأساس املوقف املسيحي من اجلنس ل<br />
يتمثل يف “ املنع اأو الرفض ولكن يف وضع واإقامة اآليات<br />
سلطوية ومراقبة، كانت يف الوقت نفسه اآليات معرفة<br />
حول الأفراد، واأيضا معرفة الأفراد باأنفسهم” )25( .<br />
وعندما يقول فوكو اإن هنالك اآليات سلطة فا يجب<br />
اأن نفهم فقط اآليات املنع، واإمنا اآليات اإنتاج وتكثيف<br />
وتنويع، وذلك طبقا ملفهومه للسلطة املنتجة. وبذلك<br />
يرفض اأهم فرضية يقوم عليها التحليل النفسي األ وهي<br />
فرضية القمع والكبت عموما، سواء تعلق الأمر باملرحلة<br />
املسيحية اأو باملرحلة احلديثة التي متيزت “بانفجار<br />
خطابي حقيقي”حول اجلنس )26( . واأن ما متيزت به<br />
املسيحية مقارنة باملراحل الأخرى هو اإدخالها لرتكيبةٍ<br />
”dispositif“ معقدة كان هدفها تشكيل نوع من<br />
الذاتية )27( .<br />
واحلق، اإننا ل نستطيع فصل مفهوم السلطة<br />
الرعوية -مبا هي عاقة بني الديني والسياسي- عن<br />
موضوع السلطة عامة يف فلسفة ميشيل فوكو. ونظرا،<br />
لأن هذا املوضوع من املواضيع املركزية يف هذه الفلسفة،<br />
فاإننا سنكتفي بالإشارة اإىل ما له عاقة مباشرة<br />
مبوضوعنا. واأول ما جتب الإشارة اإليه هو اأنه اإذا<br />
كانت السلطة الرعوية هي السلطة الدينية املرتبطة<br />
اأبحاث
2 0 1 1<br />
20<br />
مبصاألة اجلنس، وتشكل الذات الغربية، فاإنها تعد اأحد<br />
الأشكال الأساسية لتحليل السلطة عند هذا الفيلسوف<br />
الذي قدم بداية حتليا للسلطة باسم السلطة العقابية<br />
،”biopouvoir“ احليوية “disciplinaire”والسلطة<br />
ثم توسع يف هذا املفهوم من خال السلطة الرعوية،<br />
ومبا سماه يف دروسه الأخرية بفنون احلكم/امللك la“<br />
،”gouvernementalite التي تعكس جانبا من تطور<br />
مفهومه للسلطة . 28<br />
لقد اأدى تفكك السلطة الرعوية اإىل ظهور اأشكال<br />
جديدة من احلكم، منها “دولة العدل” كما صاغها<br />
بوجه خاص القديس توما الكويني“Thomas d’Aquin<br />
”Saint يف العصور الوسطى عموما )29( ، و“الدولة<br />
الإدارية” يف العصر احلديث )30( . كما اأدت هذه الأشكال<br />
بالطبع اإىل استبدال بعض املعايري، ومنها -على وجه<br />
التحديد- استبدال خاص الروح بحفظ احلياة، كما<br />
استبدلت الآليات اخلاصة باملعرفة، واملركزة حول<br />
العرتاف، وتوجيه الضمري، واإنقاذ كل فرد على حدة،<br />
بتقنيات لها وظيفة ضمان الإنتاجية والأمن والسعادة<br />
للفرد وللجماعة على حد سواء. ومن هذه السلطة<br />
القائمة على “مصلحة الدولة”، و“الشرطة” ظهر ما<br />
نسميه اليوم يف نظر ميشيل فوكو ، بالدولة الليربالية<br />
التي سرتفض باسم القتصاد السياسي مبداأ تدخل<br />
الدولة، وتسمح بربوز املجتمع املدين، وبفصل الدين عن<br />
السياسة، ومن ثم فاإن املجتمع املدين هو نتيجة لأشكال<br />
احلكم اجلديدة التي ظهرت يف القرن الثامن عشر<br />
بوصفها اأشكال ضرورية للحكم، بحيث اأصبح من مهام<br />
الدولة ضمان هذا املجتمع، واأصبحت احلرية عنصرا<br />
ضروريا يف احلكم، ومبدءا اإجرائيا من الدرجة الأو ىل.<br />
وبذلك اأصبحت احلرية مبدءا للحد من سلطة الدولة،<br />
وهذا ما يعنيه يف نظر فوكو مصطلح الليربالية.<br />
ومن خال هذا التحليل التاريخي املختصر لأشكال<br />
احلكم، اأو بتعبري دقيق لفنون امللك، خلص ميشيل<br />
فوكو اإىل القول: “اإن العقانية السياسية قد تطورت<br />
طوال تاريخ املجتمعات الغربية. ولقد جتذرت وتاأصلت<br />
بداية يف فكرة السلطة الرعوية، ثم لحقا يف مصلحة<br />
الدولة، وكان من اآثارها املحتومة الفردنة والشمولية.<br />
واأن التحرر ل ميكن اأن ياأتي من خال نقد الآثار، واإمنا<br />
بنقد جذور العقانية السياسية ذاتها” )31( . لذا، مل<br />
يرتدد فوكو يف وصف اآليات الإخضاع التي طورتها الدولة<br />
الليربالية، وعلى راأسها املشتمل“Panoptique”،<br />
وخمتلف السياسات احليوية، باأنها شكل من اأشكال<br />
الهيمنة والسيطرة، ولكن ذلك مل مينعه من اإبراز بعض<br />
اخلصائص الأساسية التي ميزت الدولة الليربالية<br />
مقارنة بالأشكال املختلفة للسلطة، وبخاصة السلطة<br />
الرعوية مبا هي سلطة دينية، وتتمثل هذه اخلصائص<br />
يف الآتي:<br />
1. ليست الليربالية: “اأيديولوجية اأو مثال، واإمنا<br />
هي شكل من اأشكال احلكم، ومن “العقانية” املعقدة<br />
جدا” )32( .<br />
2. اأهمية ظهور املجتمع املدين ابتداء من القرن<br />
الثامن عشر، وبخاصة دوره يف احلد من سلطة الدولة،<br />
وذلك بناء على ضرورات القتصاد السياسي.<br />
3. ارتباط السلطة الليربالية باحلرية واملقاومة يف<br />
الوقت نفسه.<br />
4. تعد الدولة الليربالية مقارنة بالدولة الإدارية<br />
والسلطة الرعوية، مبثابة دولة احلد الأدنى“le<br />
. )33( ”moindre Etat<br />
. 5 العرتاف باأهمية العامل السكاين.<br />
بناء على هذه املميزات، يرى بعض الدارسني، اأن<br />
ميشيل فوكو يف اهتمامه باحلرية يف الدولة الليربالية<br />
يف دروسه الأخرية دليل على انتصاره لليربالية<br />
اجلديدة كما متثلها مدرسة شيكاغو التي اهتم بها يف<br />
كتابيه: “الإقليم، السكان،الأمن”، و“مولد السياسة<br />
احليوية” )34( . كما توؤكد نزعته نحو التحرر، واهتمامه<br />
باملختلف مبا هو جتاوز للحد، واخرتاق للمعيار. واأن<br />
تاأكيده على قيمة احلرية مبا هي ممارسة تظهر يف<br />
اأشكال تاريخية عديدة، سواء يف دراساته لتجارب<br />
ثقافية كتجربة اجلنون واجلرمية واجلنس، اأو وقوفه<br />
عند اأحداث تاريخية بعينها مثل وقوفه عند الثورة<br />
الإيرانية بوصفها حركة دينية وسياسية وروحية، وهو
21<br />
2 0 1 1<br />
ما يتطلب النظر يف مميزات هذا املوقف نظرا لصلته<br />
املباشرة بالدين.<br />
- ثانياً: يف الروحانية السياسية:<br />
تعد التغطية الصحفية التي قام بها ميشيل فوكو<br />
لأحداث الثورة الإيرانية، مرصاً للجريدة الإيطالية<br />
serra“ ”Corriere della )35( ، من اأهم الأحداث<br />
السياسية التي قام بها يف اأخريات حياته، حيث نشر<br />
جمموعة من املقالت التي تنم يف جمملها عن اإعجابه<br />
بالثورة الإيرانية وبخصوصياتها )36( . واإن قراءة وحتليل<br />
املقالت النصوص التي خصها حلدث الثورة الإيرانية<br />
تكشف عن جملة من الأفكار املتعلقة بالوضع السياسي<br />
يف اإيران عموما، وبجملة من املعطيات السياسية<br />
والقتصادية والجتماعية اخلاصة باإيران وبالأسرة<br />
احلاكمة، وبطبيعة حكمها، وبعاقاتها اخلارجية،<br />
التي ميكن تلخيصها يف اقتصاد قائم على البرتول،<br />
وحتالف اسرتاتيجي مع الوليات املتحدة الأمريكية،<br />
ودور كبري للموؤسسة العسكرية، ومكانة ودور ثقايف<br />
واجتماعي وسياسي للمذهب الشيعي الذي حتول اإىل<br />
حركة شعبية )37( ، وذلك بسبب اأزمة التحديث التي<br />
عرفتها اإيران حيث اتخذ شكل العتاقة ”archaïsme“<br />
املصاحبة بالستبداد والفساد، ومن ثم قوبل بالرفض<br />
من قبل املجتمع )38( .<br />
ولهذا الرفض اأسبابه التاريخية منها ما يعود اإىل<br />
طبيعة حكم العائلة احلاكمة، واإىل سياستها القائمة<br />
على ثاثة مبادئ استقتها من ثورة “مصطفى كمال<br />
اأتاتورك” وهي: الوطنية، والعلمانية، والتحديث. واإذا<br />
كان النظام قد عمل على حتديث البنى القتصادية<br />
والجتماعية والثقافية، وبخاصة منها النظام الرتبوي،<br />
فاإن الهدفني الأولني مل يتمكن مطلقا من حتقيقهما،<br />
وذلك لأن اإيران مل تستطع النفكاك من التحالفات<br />
اجليوسياسية القائمة على استغال ثروتها البرتولية،<br />
وموقعها اجلغرايف، فقد حتالف الأب مع الإجنليز<br />
حتى يبعد اخلطر الروسي، وقام البن “حممد رضا<br />
بهلوي” بتعويض التحالف الجنليزي باخلضوع اإىل<br />
الهيمنة الأمريكية. واأما بالنسبة للعلمانية فاإن املذهب<br />
الشيعي شكل بحسب ميشيل فوكو ” املبداأ احلقيقي<br />
للوعي والشعور الوطني” . 39 لذا فاإن كل ما قام به رضا<br />
شاه هو حماولة اإحياء الصورة الإيرانية ”l’aryanité“<br />
التي تعتمد على اأسطورة نقاء العرق الإيراين، ومن ثم<br />
مل يتبق للحكم اإل التحديث )40( ، وبسبب ما اعرتاه من<br />
فساد واستبداد، مت رفضه من قبل املجتمع، بل هنالك<br />
من ل يرتدد يف القول باأن النظام اأصبح شكا من<br />
اأشكال الستعمار.<br />
اإن نظام احلكم الذي اعتمد على التحديث الناقص،<br />
اإن جازت العبارة، اأصبح عتيقا، اأو كما قال: “اإن العتاقة<br />
اليوم تتمثل يف مشروع التحديث، ويف صاح الستبداد،<br />
ويف نظام الفساد. اإن العتاقة هي”النظام” )41( . من هنا<br />
مل يجد علماء الدين صعوبة يف الدعوة اإىل مناهضة<br />
نظام احلكم ممثا يف رمز الشاه، واأمريكا، والغرب<br />
وماديته، والدعوة باسم القراآن والإصام اإىل النضال<br />
والصراع والكفاح ضد هذا النظام. وعلى الرغم من<br />
خصوصية املذهب الشيعي الذي تقوم بعض اأركانه<br />
على مبداأ “املهدي املنتظر”، اإل اأن علماء هذا املذهب،<br />
ومنهم اآية اهلل “شريعت مداري”، يرون اأن الشيعة على<br />
الرغم من اإميانهم بهذا املبداأ اإل اأنهم يناضلون يوميا<br />
من اأجل “حكومة اإصامية” )42( .<br />
ليس املذهب الشيعي، يف نظر ميشيل فوكو ،<br />
اإيديولوجية شعبية، واإمنا هو “جمرد قاموس بسيط من<br />
خاله متر وتعرب اآمال وتطلعات مل جتد كلمات مناسبة.<br />
اإنه اليوم كما يقول مثلما كان دائما يف املاضي، الشكل<br />
الذي يتخذه الصراع السياسي ما اأن تعبئ السياسة<br />
الطبقات الشعبية. ويجعل من اآلف الغاضبني والكارهني<br />
والبائسني واليائسني، قوة. اإنه يجعل منهم قوة، لأنه قوة<br />
تعبري، ومنط من العاقات الجتماعية، وتنظيم اأو يل<br />
سلس ومقبول بشكل واسع، وشكل للوجود، وطريقة يف<br />
الكام والستماع، يسمح باأن تكون مع الآخرين، وباأن<br />
يكونوا معك” )43( . ل شك اأن هذا التعريف لدور املذهب<br />
الشيعي املتمثل يف مدى قدرته على التعبري، وحتوله اإىل<br />
خطاب متماثل اإىل حد كبري مع مفهوم هذا الفيلسوف<br />
للخطاب املصاحب بالقوة والسلطة ينفي عنه فكرة<br />
اأبحاث
2 0 1 1<br />
22<br />
الأيديولوجيا التي ل تتفق وحتليات الفيلسوف لأنها<br />
تفرض النحياز واحلزبية واملصلحة، وهو ما مل ياحظه<br />
خال تغطيته للأحداث )44( . ويعترب عدم اإدراكه للطابع<br />
الإيديولوجي للحركة السياسية العامة التي كانت وراء<br />
قيام الثورة، يف نظر بعض املحللني، اأحد الأسباب<br />
الأساسية لعدم فهمه لطبيعة الثورة ذاتها )45( .<br />
لقد كان من نتائج هذه الروح الدينية قيام الثورة يف<br />
يوم 11 فرباير 1979. لذا يقر ميشيل فوكو اأن ل حاجة<br />
اإىل القول اإن الدين ل يشكل فقط شكا من التفاق،<br />
ولكنه اأكرث من ذلك انه يشكل قوة ميكن اأن جتعل شعبا<br />
كاما ينتفض ليس فقط ضد العاهل وشرطته، ولكن<br />
ضد النظام بكامله، ونظام احلياة، والعامل، اأو كما قال:<br />
“شعب اأعزل يقلب بيديه نظاما قويا جدا” )46( . وتكمن<br />
اأهمية هذه الثورة يف كونها ل تشبه اأي منوذج ثوري<br />
معرتف به. واأن فرادتها هي التي شكلت قوتها، وميكن اأن<br />
يوؤدي انتشارها اإىل قلب موازين القوى يف منطقة الشرق<br />
الأو سط. وباعتبارها حركة اإصامية، فاإن “الإصام<br />
وهو ليس جمرد دين ولكنه منط حياة، وانتماء اإىل<br />
تاريخ، واإىل حضارة يخاطر باأن يصبح قنبلة موقوتة<br />
كبرية، على مستوى مئات الألوف من الناس. ومنذ<br />
البارحة، فاإن كل دولة مسلمة ميكن تثويرها من الداخل،<br />
وانطاقا من تقاليدها القدمية” )47( . لقد تفردت<br />
الثورة الإيرانية يف نظر فوكو ، مقارنة مبا حدث يف<br />
الصني اإبان الثورة الثقافية، وكوبا، وفيتنام، والأحداث<br />
الطابية يف اأو ربا سنة 1968. ونظرا لفرادة ومتيز<br />
هذا احلدث، فقد اأدخلت الكثري من الضطراب على<br />
املراقبني واملهتمني الذين استندوا على مناذج فكرية<br />
جاهزة. ويف نظر ميشيل فوكو ، فاإن ما مييز هذه الثورة<br />
هو طريقتها واأسلوبها، وغايتها وهدفها. يقول: “خال<br />
وجودي يف اإيران مل اأسمع اأحدا يتحدث عن”الثورة”.<br />
ولكن الغالبية حدثتني عن “احلكومة الإصامية”. اإن<br />
هذه ليست مفاجاأة،لأن اآية اهلل اخلميني، قد قدم هذه<br />
الإجابة املقتضبة للصحفيني” )14( . فماذا تعني احلكومة<br />
الإصامية؟ ينفي ميشيل فوكو اأن يكون املقصود بذلك<br />
نظاما سياسيا يلعب فيه الكلريوس ”clergé“ دور<br />
املوجه واملنظم واملوؤطر )49( . لقد مت استعمال عبارة<br />
“احلكومة الإصامية” يف نظره، للدللة على اأمرين،<br />
وهما:<br />
1. يوطوبيا ”utopie“ اأو منوذج مثايل“ideal”<br />
كما تقول الأغلبية، وهو عبارة عن منوذج قدمي ضارب يف<br />
القدم ويف املستقبل معا، ويتمثل يف العودة اإىل الإصام<br />
الأول زمن النبي حممد“ص”، وكذلك الذهاب نحو<br />
نقطة بعيدة يف املستقبل حيث ميكن اجلمع بني الطاعة<br />
والوفاء. وتتمثل معامل هذه احلكومة يف: تقدير العمل،<br />
واحرتام احلريات التي ل تسيء للآخرين، وحماية<br />
الأقليات شريطة األ توؤذي الأغلبية، واأن ل تقوم العاقة<br />
بني الرجل واملراأة على اأساس التفاوت يف احلقوق، واإمنا<br />
على اأساس اأن هناك اختافاً مبا اأن هنالك اختاف<br />
يف الطبيعة، وسياسيا فاإن القرارات توؤخذ بالأغلبية،<br />
واحلكام مصوؤولون اأمام الشعب، واأي شخص وفقا<br />
للقراآن ميكن اأن يطالب مبحاسبة احلاكم. يعلق ميشيل<br />
فوكو على هذا التحديد بالقول اإن هنالك الكثري ممن<br />
يقولون اإن احلكومة الإصامية عبارة غري حمددة اإل اأنه<br />
وجدها على قدر كبري من الصفاء والشفافية والنقاوة<br />
”limpidité“ املاألوفة )50( ، ومع ذلك يقول:“اإنها اأقل<br />
ضمانا” )51( !<br />
2. روحانية سياسية: وهنالك معنى ثان لهذه<br />
احلكومة الإصامية، ويتمثل يف اإدخال بعد روحي يف<br />
احلياة السياسية اأو ما سماه بالروحانية السياسية<br />
politique“ ،”spiritualité والعمل على األ تكون<br />
احلياة السياسية كما كانت دائما، اأي عائقا للحياة<br />
الروحية، واإمنا على السياسة اأن تصبح “وعاء،<br />
ومناسبة، وخمرية” )52( لهذه الروح.<br />
يعرتف ميشيل فوكو باأنه يصعب عليه اأن يحكم على<br />
احلكومة الإصامية بوصفها فكرة اأو مثال، ولكنها اأثارت<br />
اإعجابه بوصفها “اإرادة سياسية”، اأو كما قال “لقد<br />
اأعجبتني يف جهدها من اجل تسييس بنى اجتماعية<br />
ودينية ل انفصال بينها، وذلك من اأجل الإجابة عن<br />
اأسئلة حاضرة. ولقد اأعجبتني يف حماولتها لفتح بعد<br />
روحي يف السياسة” )53( . تعكس هذه العبارات القاموس
23<br />
2 0 1 1<br />
الفلسفي للفيلسوف، والتحول الذي اأصاب فلسفته<br />
بعد اكتشافه للذات، وهو ما ستبينه اأعماله الفلسفية<br />
الاحقة. وعلى الرغم من طرحه اأسئلة متعلقة بطبيعة<br />
احلدث، ومبستقبل احلدث اإل اأنه مل يهتم بالبديل الذي<br />
حتمله الثورة، واكتفى بوصف احلدث، بل جنده قد عرب<br />
يف اإحدى مقالته عن عجزه عن تصور املستقبل، قائا:<br />
“ل اأستطيع كتابة تاريخ املستقبل، ولست دقيقا يف تصور<br />
املاضي. ولكنني اأحاول اأن اأحدد ما يجري وما يحدث،<br />
وذلك لأن ما يجري هذه الأيام ليس مكتما، والأحداث<br />
ما تزال قائمة. رمبا هذا هو العمل الصحفي، ولكنه<br />
صحيح اأنني حديث العهد بالأحداث ”néophyte“ )54( .<br />
وهنا يطرح صوؤال اأساسي وهو ما معنى الثورة اإذا مل توؤد<br />
اإىل احلرية واإىل العدالة؟<br />
لقد كان اهتمام فوكو منصبّا على ما سماه ب“لغز<br />
النتفاضة” )55( ، وكل ما كان يهمه من احلركة هو كونها<br />
متثل نوعا من النفي للسياسة مبا اأنها رفعت الشرعية<br />
عن السلطة. لقد كانت حركة حرية وحترر وقطيعة مع<br />
اأصناف احلتميات والتاريخ. وهذه نظرة تتطابق مع<br />
جممل موضوعاته التي حللها، ومن ثم فاإنه كان يرى<br />
يف الشعب املنتفض مثله مثل املنحرف واملجنون: انه<br />
ل يلعب اللعبة السياسية، ويحيل السلطة اإىل عرائها<br />
الأو يل األ وهو القوة فقط. والذي ل شك فيه هو<br />
اأن هذا الوصف واملوقف يتفق وفلسفته الداعية اإىل<br />
تشخيص احلاضر، ودراسة السلطة بوصفها عاقات<br />
قوى يف وضع اسرتاتيجي معني. كما اأن هذا املوقف يتفق<br />
وفلسفته الرافضة لفكرة البدائل واملكتفية بالوصف<br />
والتحليل التاريخيني، واإىل ما اأصابها من حتول يف نهاية<br />
السبعينات وبداية الثمانينات من القرن العشرين عندما<br />
طرحت عليها مصاألة الذات والأخاق وهو ما عرب عنه يف<br />
وصفه حلدث الثورة بالروحانية السياسية، ثم توسع فيه<br />
باسم الزهد الفلسفي. فماذا يقصد بالزهد الفلسفي؟<br />
- ثالثا. يف الزهد الفلسفي:<br />
يحتل درس “تاأو يل الذات” الذي قدمه ميشيل فوكو<br />
سنة 1982 منزلة خاصة ضمن دروسه يف الكوليج دي<br />
فرانس، وضمن اأعماله الفلسفية التي نشرها وهو على<br />
قيد احلياة، وذلك لكونه اهتم مبوضوع جديد ستكون<br />
له انعكاسات خطرية على جممل فلسفته، ونعني بذلك<br />
موضوع: الهتمام بالنفس/الذات، وباملمارسات املتعلقة<br />
بهذا الهتمام اأو مبا يسميه بثقافة النفس. اإن منطلق<br />
هذا الدرس هو قراءة ملحاورة “القبيادس” لأفاطون،<br />
وحلكمتي:“اعرف نفسك”، و“اهتم بنفسك”. ولتحليل<br />
التحولت التي عرفتها حكمة الهتمام بالنفس قام<br />
ميشيل فوكو بقراءة ومتابعة تاريخية لنصوص املدارس<br />
الفلسفية اليونانية والرومانية املتمثلة يف الرواقية<br />
والبيقورية والكلبية. وبالعتماد على طريقته اخلاصة<br />
يف وصف وحتليل اخلطاب؛ استطاع اأن يبني عاقة<br />
“اعرف نفسك” ب“اهتم بنفسك”، والأدوار الفلسفية<br />
املتبادلة بينهما عرب التاريخ.<br />
يرى ميشيل فوكو اأن النموذج الأفاطوين لاهتمام<br />
بالنفس يظهر من خال حماورة القبيادس. واأن منطلق<br />
هذه املحاورة هو اأن القبيادس يجهل نفسه، ومن ثم<br />
عليه اأن يكتشف جهله، ولكي يكتشف جهله عليه اأن<br />
يهتم بنفسه، ولكي يهتم بنفسه عليه اأن يعرف نفسه.<br />
وعليه، وكما قال: “فاإن املجال الكلي لاهتمام بالنفس<br />
حمكوم بشرط معرفة النفس” )56( ، حيث يوؤدي التذكر<br />
دورا مركزيا يف العاقة ما بني الهتمام بالنفس، وما<br />
بني معرفة النفس. اأما النموذج املسيحي الذي ظهر ما<br />
بني القرنني الثالث والرابع املياديني، الذي يطلق عليه<br />
اسم النموذج “الزهدي-الرهباين”، فيتميز بعاقته<br />
املعقدة ما بني النفس واحلقيقة والوحي، واأن معرفة<br />
النفس تشرتط التطهر، ومن ثم فاإن العاقة اأشبه<br />
ما تكون بدائرة تتم من خال معرفة النفس، ومعرفة<br />
احلقيقة، والهتمام بالنفس. واإذا كان اخلاص يتطلب<br />
التسليم بحقيقة الوحي، فاإنه ل ميكن معرفة هذه<br />
احلقيقة اإذا مل يتم الهتمام بالنفس يف شكل معرفة<br />
تطهرية للقلب. وهذه املعرفة التطهرية لذات النفس<br />
غري ممكنة اإل بشرط اأن تكون هنالك عاقة اأساسية<br />
باحلقيقة، حقيقة النص وحقيقة الوحي. ويتم معرفة<br />
النفس يف املسيحية، من خال تقنيات معينة لها وظيفة<br />
اأساسية تتمثل يف تبديد واإزالة الأوهام الداخلية،<br />
اأبحاث
2 0 1 1<br />
24<br />
وفحص الوسواس والإغواء الذي يداخل النفس والقلب.<br />
واأخريا، فاإن معرفة النفس ليس لها يف املسيحية تلك<br />
الوظيفة التي تقتضي الرجوع والعودة اإىل النفس من<br />
خال فعل التذكر، واإيجاد احلقيقة التي تتاأملها، وذلك<br />
لأن العودة اإىل النفس تكون من اأجل التخلي واإنكار<br />
النفس لذاتها .”renonciation“ وعليه، فاإن منوذج<br />
الهتمام بالنفس يف املسيحية يتكون من ثاث نقاط<br />
مرتابطة: اأو ل، عاقة دائرية ما بني حقيقة النص<br />
ومعرفة النفس. ثانيا، طريقة يف التفسري من اأجل<br />
معرفة النفس. واأخريا، فاإن الهدف هو اإنكار النفس.<br />
وما بني هذين النموذجني املعروفني، اأي النموذج<br />
الأفاطوين والنموذج املسيحي، هنالك يف نظر ميشيل<br />
فوكو، منوذج ثالث هو النموذج الفلسفي كما صاغته<br />
املدارس الفلسفية املتاأخرة، وبخاصة املدرسة الرواقية<br />
وهو الذي ميثل الزهد الفلسفي )57( .<br />
واإذا كان النموذج الأفاطوين التذكري، والنموذج<br />
املسيحي التفسريي قد متيزا بهيمنتهما وسيطرتهما<br />
على تاريخ الفكر طوال العصر الوسيط والعصر احلديث،<br />
فاإن هذا ل ينفي وجود منوذج ثالث خمتلف عنهما لأنه<br />
ل مياهي بني الهتمام بالنفس ومعرفة النفس، واإمنا<br />
مييل بالعكس اإىل تقوية وتفضيل الهتمام بالنفس، اأو<br />
يحافظ على الأقل على استقالها مقارنة مبعرفة النفس<br />
التي اأصبحت لها مكانة حمددة وضيقة للغاية، وهو على<br />
خاف النموذج املسيحي لأنه ل مييل اإطاقا اإىل تفسري<br />
النفس، ول اإىل اإنكار النفس، واإمنا مييل ويتجه بالعكس<br />
اإىل تكوين النفس باعتبارها هدفا يجب بلوغه وحتقيقه.<br />
والشيء الذي مييزه عن النموذج املسيحي املتمركز<br />
حول التحقيق الغائي ”finalisation-auto“ للعاقة<br />
بالنفس هو كونه ميثل الوسط الذي شكل الأخاق<br />
التي ستستقبلها وترثها املسيحية التي ستقوم بتوطينها<br />
واإعدادها يف صورة “اأخاق مسيحية”، كما بينا ذلك<br />
يف العنصر اخلاص باجلنس.<br />
واإذا كان الزهد الفلسفي كما صاغته الرواقية<br />
يختلف عن النموذج الأفاطوين واملسيحي، فاإن الصوؤال<br />
الواجب طرحه هو ما طبيعة هذا الزهد؟ يرى ميشيل<br />
فوكو اأن الزهد يشكل نوعا من املمارسة التي تضمن<br />
حتول النفس التي ل تخضع لقانون سابق، واإمنا ترتبط<br />
مبمارسة احلقيقة، اأو بالأحرى بعاقة الذات باحلقيقة،<br />
وتتمثل غايته يف: “الوصول اإىل نوع من العاقة مع<br />
النفس تكون فيها النفس ممتلئة ومنجزة وكاملة<br />
ومكتفية بذاتها وقابلة لأن حتقق السعادة” )58( . ويعتمد<br />
هذا الزهد الفلسفي على بعض القواعد التي جندها يف<br />
الأشكال الأخرى من الزهد، وبخاصة الزهد املسيحي.<br />
ومن هذه القواعد على سبيل املثال التقشف، اإل اأن<br />
طبيعة الوسائل التي تستخدم لبلوغ هذا الهدف النهائي<br />
تختلف عن وسائل الزهد املسيحي. وتتمثل هذه القواعد<br />
يف الستعداد الذي يسمح بحماية النفس، وميكنها من<br />
بلوغ غايتها. ولذا فاإن ما مييز الزهد الفلسفي يف نظر<br />
ميشيل فوكو هو كونه “يجهِّ ز ويعدُّ وميكِّ ن النفس” )59( .<br />
ولكن مباذا يعدُّ هذه النفس/الذات؟ انه يعدُّها ويهيّوؤها<br />
بشيء يسمى يف اليونانية ب“paraskeue”، الذي<br />
ترجمه سيناك اإىل الاتينية ب:“instruction”، اأي<br />
الإعداد والتجهيز.<br />
وعليه، فاإن الزهد له وظيفة اإعداد النفس وتهييئها<br />
ملختلف اأحداث احلياة، والغاية منه هو حتضري وتهيئة<br />
الفرد ملستقبل يتكون من اأحداث غري معروفة، ول ميكن<br />
التنبوؤ بها، اأحداث من املمكن اأن نعرف طبيعتها عموما،<br />
ولكننا ل نعرف متى ستحدث، واإن كانت ستحدث اأم ل،<br />
ومن ثم فاإن الأمر يتعلق يف الزهد الفلسفي باإيجاد نوع من<br />
التحضري والإعداد والتهيئة بحيث يكون مائما ومناسبا<br />
ملختلف متطلبات احلياة. ويظهر هذا الإعداد يف تلك<br />
اخلطابات الصحيحة والصادقة التي تتزود بها النفس<br />
بحيث تتحول تلك اإىل خطابات وخلق“discourse/<br />
،”ethos اأو اإىل:“جمموعة من التمارين املرتابطة<br />
الضرورية والازمة واملطلوبة، ومن املمكن اأن تكون<br />
اإجبارية اإىل حد ما، ومستعملة على كل حال من قبل<br />
الأفراد يف نظام اأخاقي وفلسفي وديني، وذلك بغية<br />
الوصول اإىل هدف روحي حمدد. واملقصود بال”الهدف<br />
الروحي” نوع من التغّري والتحول يف النفس نحومعرفة<br />
احلقيقة” )60( . ويتمثل هذا التحول يف ما اأصطلح عليه
25<br />
2 0 1 1<br />
بقول احلق“vrai-dire” الذي خصص له فوكو درسا<br />
كاما يف سنة 1984.<br />
يعترب قول احلق مبثابة طريقة وكيفية لوجود الذات،<br />
والزهد الفلسفي يجعل من قول احلق، كما يقول، منط<br />
وجود الذات. وبذلك يختلف هذا الزهد عن الزهد<br />
املسيحي الذي يرتبط بالميان وبالنص املقدس،<br />
وبالتضحية الدائمة للنفس اإىل درجة الإنكار. يقول ميشيل<br />
فوكو : “اإن الزهد الفلسفي، سواء من حيث املعنى اأو من<br />
حيث الوظيفة يتم من خال تذويت“subjectivation”<br />
اخلطاب احلقيقي، وهو هو اأساس ممارسة النفس يف<br />
املرحلة اليونانية والرومانية. وهذا الزهد هو الذي<br />
يجعل الذات قادرة على قول اخلطاب احلقيقي، ويجعلها<br />
موضوعا لنطق اخلطاب احلقيقي، يف حني، اأن الزهد<br />
املسيحي، فيما يبدو يل، كان له دور ووظيفة مغايرة<br />
متاما: اإنها وظيفة اإنكار النفس” )61( . كما يختلف<br />
الزهد الفلسفي عن املسيحي على مستوى املمارسات<br />
والتقنيات، وذلك لأن الزهد املسيحي يتمتع بكثافة يف<br />
التمارين الزهدية مقارنة مبمارسات الزهد الفلسفي<br />
الذي يكتفي ببعض الختبارات التي يقوم بها الزاهد<br />
يف الصباح، واملتعلقة باملهمات التي يجب اإجنازها،<br />
ومتارين يف املساء متعلقة ب“اختبار الضمري”. كما<br />
تظهر ممارسات هذا الزهد يف بعض قواعد احلذر.<br />
ومن ثم فاإن ما يتصف به الزهد الفلسفي هو احلرية<br />
يف املمارسة مع حتديد بسيط لتمارين تتم يف سياق<br />
مبداأ اأخاقي عام هو مبداأ جماليات الوجود اأو فنون<br />
العيش”tekhne ،”biou tou وذلك عكس الزهد<br />
املسيحي الذي يقوم على مبداأ احلياة )62( .<br />
لقد صاغ ميشيل فوكو مفهوم جماليات الوجود يف<br />
اأخريات حياته، وجعل منه عامة مميزة لفلسفته، اأو<br />
بالأحرى لفلسفته الأخرية املهتمة مبوضوع الذات، وحلله<br />
يف اأعماله الأخرية التي نشرها قبل وفاته وبخاصة يف<br />
“استعمال امللذات” و“الهتمام بالذات”. يقتضي هذا<br />
املبداأ اأن تصبح احلياة /الوجود موضوعا فنيا، وهو ما<br />
يتطلب احلرية. فاإذا ما وجب اأن يكون لفن ما مدونة<br />
من القواعد التي يجب اأن يخضع لها، فاإن هذه القواعد<br />
مشروطة بحرية الذات التي تستعمل الفن بحسب هدفها<br />
وغايتها ورغبتها واإرادتها يف اجناز اأثر جميل. وتعد<br />
هذه القاعدة اأساس الختاف بني الزهدين الفلسفي<br />
واملسيحي، وذلك لأن الزهد املسيحي يتميز بكونه يهدف<br />
اإىل جعل احلياة منظمة ومرتبة، لذا فاإنه يعتمد على<br />
قاعدة احلياة“regula ،”vita ومن هنا فاإن النموذج<br />
التنظيمي لهذا الزهد يتمثل يف النموذج العسكري الذي<br />
يظهر يف اأشكال الرهبنة يف الشرق والغرب على السواء.<br />
اأما الزهد الفلسفي فاإنه ل يعتمد على قاعدة احلياة،<br />
واإمنا يعتمد على شكل احلياة ،”forma“ مبعنى الشكل<br />
الذي نعطيه للحياة وللوجود، واأسلوب حياة. واملثال<br />
على ذلك هو اأن بناء معبد جميل وفق مقتضيات الفن<br />
املعماري يتطلب بالطبع، اأن يخضع لقواعد فنية لزمة<br />
وضرورية، ولكن املهندس املاهر هو الذي يستعمل حريته<br />
اأكرث ليعطي للمعبد شكله اجلميل. وبنفس الطريقة، فاإن<br />
الذي يريد اأن يجعل من حياته اأثرا فنيا، والذي يريد اأن<br />
يستعمل -كما ينبغي- فن العيش واحلياة، فاإمنا يجب اأن<br />
يكون يف ذهنه اإضافة اإىل القواعد التي يجب اأن يخضع<br />
لها. احلرية يف استعمال تلك القواعد بهدف حتويل<br />
احلياة اإىل اأثر فني، والأثر الفني يف نظر ميشيل فوكو<br />
هو ذلك الأثر الذي يخضع اإىل شكل ما، واإىل اأسلوب<br />
ما يف احلياة )63( .<br />
- رابعا. تعقيب نقدي:<br />
اأثار هذا التحليل للدين سواء يف عاقته باجلنس<br />
والسلطة، اأو يف عاقته بحدث الثورة اليرانية، اأو يف<br />
صورة زهد فلسفي، ضروبا من النقد منها ما هو رافض<br />
له البتة باسم التحليل النفسي )64( ، ومنها ما هو مركز<br />
على جانب معني مثل ما هو احلال يف النقد النسوي<br />
حيث ترى سوبر“Soper” على سبيل املثال، اأن مناقشة<br />
فوكو لاهتمام بالذات”غري مدركة على نحو غريب<br />
للكيفية التي ميكن للتطور الأخاقي للمواطن الذكر اأن<br />
ينطوي فيها على تفاعل مع النساء، وبالأخص الزوجات<br />
اللواتي تظل اأصواتهن مكتومة على نحو يثري الدهشة<br />
عرب هذه املجلدات” )65( . كما يرى ايغلتون“Eagleton”<br />
من زاوية ماركسية اأن اأخاق الزهد تضفي “مسحة<br />
اأبحاث
2 0 1 1<br />
26<br />
جمالية فردانية -اإىل حد كبري- على الذات وهي<br />
صفة مميزة للطبقات احلاكمة يف الثقافتني القدمية<br />
واحلديثة” )66( . على اأن املشكلة التي طرحها تاريخ<br />
اجلنسانية كما مت عرضه يف اإرادة املعرفة، ل تتمثل يف<br />
معارضة مفاهيم ونظريات التحليل النفسي والتحليل<br />
النفسي املاركسي، وبخاصة اأطروحات القمع والكبت<br />
والتحرير، ولكن يف معارضته لنظرية الذات الفاعلة<br />
واأثر السلطة فيها حيث سبق لفوكو اأن طور حتليات<br />
تذهب باجتاه اإخضاع الذات والسيطرة عليها من خال<br />
ميكروفيزياء السلطة، والسلطة املنتشرة، ومن اأن ل<br />
اأحد ميلك السلطة، وهو ما بينه يف كتابه “املراقبة<br />
واملعاقبة”1975، اأو يف اأطروحته املركزية التي عرضها<br />
يف كتابه اإرادة املعرفة والقائلة اأن اجلنس هو اأو ل وقبل<br />
كل شيء خطاب. وعليه، فاإنه اإذا كانت الذات خاضعة<br />
وحتكمها اآليات املوضعة فكيف تصبح لحقا موضوعا<br />
لاهتمام وللروحانية واجلمالية؟ )67( . ويف هذا السياق<br />
يجب التذكري باأن اأطروحة فوكو القائلة اأن السلطة<br />
منتجة هي التي كانت وراء نشر جان بودريار Jean“<br />
”Baudrillard لدراسته التي اأثارت اأزمة يف مشروع<br />
تاريخ اجلنسانية، وتطلبت من فوكو اأن يعيد النظر يف<br />
مشروع تاريخ اجلنسانية )68( .<br />
ولكن، ما يطرحه اجلنس ليس مشكلة السلطة فقط،<br />
واإمنا مشكلة الذات، وبخاصة اأن ميشيل فوكو ل يرتدد يف<br />
تاأو يل فلسفته وفقا للمجال الذي يشرع يف البحث فيه،<br />
سواء عندما بحث املعرفة يف “الكلمات والشياء”1966،<br />
اأو السلطة يف “املراقبة واملعاقبة”، اأو الذات التي يرى<br />
اأنها تشكل موضوعه الأساسي لأنها تتصل باحلقيقة وهو<br />
ما بيّنه يف اأعماله الأخرية )69( . ولهذا التحول اأو املنعطف<br />
اأو القطيعة، وذلك وفقا ملختلف الدراسات واملقاربات )70( ،<br />
اأهمية قصوى يف التجربة الدينية، وبخاصة هذه الذات<br />
التي حتاول اأن جتعل من ذاتها اأثرا فنيا خاصا وفريدا.<br />
ومن ثم، فاإن التجربة الدينية ل ميكن التعبري عنها من<br />
غري هذه الذاتية، فمقوم التجربة الدينية هو با منازع<br />
الذات )71( . ول يرتدد فوكو يف الإقرار باأن موضوعه كان<br />
دائما دراسة عاقة الذات باحلقيقة، واأن هذا املوضوع<br />
قد طرحه بصيغ خمتلفة )72( .<br />
واإذا كان هنالك نقاش واسع حول مفهوم الذات<br />
يف الفلسفة املعاصرة )73( ، فاإن ما طرحه ميشيل فوكو<br />
يف اأخريات حياته اأثار مشكات عديدة منها ما تعلق<br />
بعاقته مبجمل فلسفته اأو مبفهومه للذات التي اختلف<br />
يف حتديدها، فهنالك من يرى اأن الذات املقصودة عند<br />
ميشيل فوكو هي تلك الذات العملية يف مقابل الذات<br />
اخلاضعة للقانون الطبيعي اأو السياسي، واأن هذه الذات<br />
العملية مرتبطة بذاتها اأو حمايثة لذاتها، وتعرب املرحلة<br />
الهلنستينية وبشكل خاص الفلسفة الرواقية خري تعبري<br />
عن هذه الذات، وذلك باسم “الهتمام بالنفس” الذي<br />
يعد جزءا من “انطولوجيا احلاضر”، وهو ما دعا بعض<br />
الباحثني اىل ربطه مبا ذهب اليه ماركس ”Marx“ يف<br />
دراساته الأوىل عن الرواقية والبيقورية، واإىل اإقرار<br />
الأطروحة القائلة اأن هذه املرحلة تشكل “مرحلة وعي<br />
الذات”، مبعنى الذات احلرة، اأي تلك الذات التي حتيى<br />
وفقا لقانونها اخلاص )74( .<br />
كما اأثارت حتلياته الصحفية حلدث الثورة<br />
الإيرانية مواقف نقدية عديدة، فهنالك من راأى اأن<br />
ميشيل فوكو قد وجد يف حدث الثورة الإيرانية -مبا<br />
هي ثورة دينية- تنفيذاً لأطروحاته الفلسفية، يف حني<br />
ذهب اآخرون اإىل القول بسذاجة موقف الفيلسوف،<br />
وبخاصة وصفه لشعب متاحم، ومتحد وراء قيادة<br />
كارزماتية. وهنالك من ندد مبقالته احلماسية التي<br />
غابت عنها املعرفة والتفكري النقدي )75( ، وهو ما اأدى<br />
ببعض الباحثني يف احلركات الإصامية املعاصرة اىل<br />
القول اأن حتليل ميشيل فوكو يفتقد اإىل عملية اإدراك<br />
“النزعة الإصامية ،”l’islamisme“ مبعنى قراءة<br />
الدين وفقا ليدولوجيا سياسية” )76( . ويعد احلوار الذي<br />
جمعه مع صحفيني من صحيفة ،”Liberation“ نشرا<br />
كتابا حول الثورة الإيرانية بعنوان:“اإيران: الثورة باسم<br />
اهلل”، ومت خال الأيام الأوىل ملحاكم الثورة التي اأعدم<br />
فيها املعارضون للنظام اجلديد، وبخاصة اأن مقالت<br />
ميشيل فوكو يف هذا الوقت قد كانت موضوع نقد لذع<br />
من قبل عديد املثقفني الذين اتهموه باحلماسة الكبرية
27<br />
2 0 1 1<br />
للثورة، وبالدعم غري املحدود للإمام اخلميني، ومن<br />
هذه الصحف التي قادت احلملة ضده صحيفة”Le<br />
. )77( ”Matin<br />
وردا على هذه التعليقات النقدية، حاول ميشيل<br />
فوكو يف حواره مع هذين الصحفيني اأن يستعيد -ما<br />
ميكن اأن نقول عنه- الوجه اليجابي للدين يف التاريخ،<br />
كما اأكد فكرة يف غاية الأهمية، وذلك لأن لها امتداداتها<br />
الاحقة يف فلسفته املتاأخرة بحسب بعض الدارسني،<br />
األ وهي اأن التغيري ل يطال النظام اأو راأس النظام،<br />
واإمنا التغيري املنشود يف اإيران هو -بشكل خاص-<br />
تغيري “ذات النفس” )78( . اأي يجب اأن نغري طريقتنا يف<br />
احلياة، وطريقة عاقتنا بالآخرين، واأنه ل وجود لثورة<br />
حقيقية اإل بشرط اأن نغري جتربتنا. وبهذا املعنى يرى<br />
ميشيل فوكو: “اأن الإصام قد قام بدوره” )79( . فلقد<br />
كان الدين بالنسبة للإيرانيني مبثابة “الوعد والضمانة<br />
التي وجدوها من اأجل اأن يغريوا جذريا ذاتيتهم”...”<br />
اإننا نستشهد دائما بقول ماركس اإن الدين اأفيون<br />
الشعوب، واجلملة التي تلي هذا القول مباشرة، والتي<br />
ل نستشهد بها تقول اإن الدين هو روح عامل با روح.<br />
لنقل اإذن اإن الإصام، يف هذه السنة 1978، مل يكن<br />
اأفيونا للشعب لأنه كان روح عامل با روح” )80( . اإن هذا<br />
النص يف غاية الأهمية لأنه يف تقديرنا، يبني جانبا من<br />
مضمون ما اأطلق عليه بالروحانية السياسية التي سبق<br />
واأن اأكدها اأثناء تعليقه على املظاهرات التي حدثت<br />
يف تونس سنة 1968، )81( ، اأو يف لقائه بنقابة التضامن<br />
يف بولونيا )82( ، وستجد هذه الروحانية اهتماما فلسفيا<br />
واضحا فيما سماه بالزهد الفلسفي، كما بيّنا ذلك. لذا،<br />
فاإن هنالك من يرى اأن اهتمام ميشيل فوكو يف نهاية<br />
السبعينات بالروحانية الشيعية وباأساطري الشهداء التي<br />
مثلتها الثورة الإيرانية، والتي عرب عنها باسم الروحانية<br />
السياسية، كانت صدى لبحوثه عن الهتمام بالنفس،<br />
ولنتصاره ملواقف الكنيسة كما مثلها “البابا يوحنا<br />
بولس الثاين”، ولنتصاره لنقابة التضامن البولونية،<br />
واإىل تاأثري لهوت التحرير يف اأمريكا الاتينية، بل<br />
هنالك من يرى اأن تاأكيد فوكو على فرادة الثورة<br />
الإيرانية هو اإقرار بالأطروحة الستشراقية القائلة:<br />
“اأن الشرق شرق والغرب غرب”، ذلك ما يوؤكده<br />
حديثه على اأن للإيرانيني نظامهم اخلاص باحلقيقة،<br />
واأن تاأكيده على اليومي والعمل الصحفي هو اعرتاف<br />
بالضعف السرتاتيجي رغم حتليله ملوضوع السلطة من<br />
جهة الإسرتاتيجية )83( . واحلق، فاإنه على الرغم من<br />
اإعجاب ميشيل فوكو بحدث الثورة، وباختافها وتفردها<br />
اإل اأن ذلك مل مينعه من نقد ما اآلت اإليه الأو ضاع بعد<br />
الثورة، وبخاصة الإعدامات التي نفذتها حماكم الثورة،<br />
يوؤكد هذا الرسالة التي كتبها اإىل “مهدي بزرجان”<br />
الذي كلفه الإمام اخلميني بتشكيل احلكومة حيث ذكره:<br />
“بضرورة احرتام حقوق الإنسان” )84( . كما كتب مقال<br />
يف جريدة Monde“ ”Le بنيّ فيه جانبا من اقتناعاته<br />
التي دعته اإىل تغطية الثورة الإيرانية، واإىل دور الذاتية<br />
وكيف تدخل اإىل التاريخ ومتنحه نفسا وروحا، ومبا اأن<br />
السلطة يف نظره، ل متناهية لذا يجب معارضتها بقوانني<br />
ل ميكن جتاوزها، وبحقوق ل ميكن تقييدها . 85<br />
- خالصة:<br />
واإجمال نستطيع القول اإن هذه العودة اإىل الديني،<br />
واإىل البعد الروحي ل تنطبق على فلسفة الأنطولوجيا<br />
التاريخية فقط، واإمنا تنسحب على عديد التيارات<br />
الفلسفية والسياسية التي شرعت يف طرح املصاألة<br />
الروحية من خال احلديث عن املقدس والإلهي والديني،<br />
وما يجري اليوم يف الفكر السياسي الغربي من نقاش<br />
حول طبيعة احلكم عموما يوؤكد هذه احلاجة اإىل اإعادة<br />
النظر من جديد يف خمتلف الأسس التي قام عليها<br />
املشروع احلضاري الغربي. ومن بني هذه املواضيع نشري<br />
اإىل مسالة العرتاف، وطبيعة الدولة، وحقوق الإنسان،<br />
وبخاصة احلقوق الثقافية للأقليات وما تطرحه من<br />
مشكات. وتعد التحليات التي قدمها مارسال غوشيه<br />
وليك فريي وريجس دوبري Regis“ ”Debray مثال<br />
على هذا النقاش الذي ميكن اختصاره يف: عاقة الدين<br />
بالدولة العلمانية، واإمكانية احلديث عن الروحانية<br />
العلمانية la“ ”spiritualité laïque )86( ، وعاقته<br />
بوضعية الأقليات الثقافية يف الغرب، ومنها اجلاليات<br />
اأبحاث
2 0 1 1<br />
28<br />
الإصامية التي تعد سببا من الأسباب التي دفعت نحو<br />
اإعادة النظر يف عاقة الدولة بالدين. لذا، ترى بعض<br />
الدراسات اأن حتليل ميشيل فوكو للسلطة الرعوية كما<br />
عرضها يف درسه “الأمن، الإقليم، السكان”، يثبت من<br />
جهة مكانة هذا الشكل من السلطة ضمن حتليله لتاريخ<br />
اأشكال احلكم، ويعكس من جهة اأخرى موقف فوكو من<br />
النقاش الاهوتي-السياسي لنموذج العلمنة وهو موقف<br />
يتسم بالرتباط باحلرية بوصفها ممارسة، وبوصفها<br />
الإمكانية الأساسية للحرية الروحية، اأو بتعبري اآخر<br />
الرتباط باحلرية ومنها احلرية الروحية الفردية، مبا<br />
هي حرية جمالية واأخاقية وليس سياسية، وذلك لأن<br />
هنالك من يرى اأن الأخاق هي الديانة اجلديدة يف<br />
زمن الدميقراطية املابعد حداثية، كما اأن هنالك من ل<br />
يرتدد يف القول اإن النتقال نحو الأخاق يشكل فرصة<br />
لهذه الدميقراطيات )87( . واحلق فاإن نشر درس “تاأو يل<br />
الذات” كان مناسبة لعديد التعليقات التي توؤكد احلياة<br />
الروحية مبا هي حتول يف فلسفة ميشيل فوكو ، ومبا هي<br />
جتربة واإمكانية وبديل يف الوقت نفسه )88( .<br />
واإذا كان الفكر السياسي الغربي يعيد النظر يف<br />
بعض مبادئه الناظمة للحياة الأخاقية والسياسية،<br />
فاإننا نعتقد اأن الثقافة العربية والإصامية يف اأشد<br />
احلاجة اإىل اإعادة التفكري يف هذه العاقة التي يحكمها<br />
غالبا توجهان اأساسيان متقابان: توجه يرى اندماج<br />
السياسي يف الديني اندماجا كاما، ويجد تعبريه يف<br />
خمتلف التيارات الإصامية السياسية املعاصرة، ويف<br />
املقابل هنالك تيار علماين رفع العلمانية اإىل درجة<br />
العقيدة والأيديولوجية، نافيا اأن تكون اإجراءً قانونيا<br />
منظما لعاقة الدين بالسياسة. ولقد قام هذان التياران<br />
باستبعاد منهجي منظم للراأي القائل اإن” الإصام يف<br />
نصوصه الأصلية، ويف فضاء »التيار الأغلبي« العمومي<br />
الذي ميثله، يعرض خاصا ارضيا مباشرا قائما<br />
على “العدل” و“املصلحة” يف سياق روؤية حضارية<br />
وقيم اإنسانية رحيمة” (98) . ضمن هذا السياق العاملي<br />
والإصامي، هل ميكن للأنطولوجيا التاريخية -مبا هي<br />
فلسفة نقدية- اأن تسهم يف اإعادة النظر يف عاقتنا<br />
بالدين؟ قد نكون بطرحنا هذا الصوؤال نطالب هذه<br />
الفلسفة مبا هو مناف لطبيعتها، نظرا لرفضها تقدمي<br />
بدائل نظرية وسياسية، اإل اأن اهتمامها بالدين يفرض<br />
علينا الوقوف عند بعض العامات املميزة لهذا املوقف،<br />
ومنها على وجه التحديد:<br />
1. يعد الدين -مبا هو خطاب وممارسة- عنصرا<br />
اأساسيا يف الثقافة الإنسانية عموما، ويف الثقافة الغربية<br />
على وجه التحديد، كما يعترب سلطة ممثلة بالسلطة<br />
الرعوية والدولة العادلة. وهو خطاب خاضع لآليات<br />
السلطة واملعرفة، وللرهانات الإسرتاتيجية والتكتيكية،<br />
وللتحولت التاريخية. واإذا كانت خمتلف اأشكال السلطة<br />
يف نظر فوكو متماثلة، مبا اأن السلطة عاقة تقوم على<br />
القوة يف وضع اسرتاتيجي معني، وتخضع للتحول يف<br />
اأشكالها واآلياتها وتقنياتها عرب مراحل تاريخية خمتلفة،<br />
فاإن حتليله للدولة الليربالية واآلياتها يبني مدى اأهمية<br />
قيمة احلرية التي ظهرت يف شكل املجتمع املدين حتت<br />
تاأثري القتصاد السياسي الذي يعد حتقيقاً للحرية وحدّ<br />
ا للسلطة.<br />
. 2 اإن الدين مبا هو جتربة ثقافية سياسية<br />
وروحية، ومبا هو قوة سياسية )90( ، قد جتلى يف حدث<br />
الثورة الإيرانية التي شكلت مناسبة للفيلسوف ميشيل<br />
فوكو ليوؤكد على بعض اجلوانب املنهجية للأنطولوجيا<br />
التاريخية، وبخاصة مفهومه للفلسفة مبا هي تشخيص<br />
للحاضر، ومبا هي اهتمام باملختلف، ومبا هي مقاومة،<br />
ومبا هي حترر روحي. واإذا كانت عبارة “السياسة<br />
الروحية” حتمل مفارقة ظاهرة، فاإنها تعد يف نظر<br />
ميشيل فوكو مبثابة مطلب اأخاقي، وحق سياسي، على<br />
السلطة اأن تضمنه ملواطنيها سواء اأكانت سلطة دينية اأم<br />
علمانية، لأنها تاأكيد على قيمة احلرية والتحرر، ولأنها<br />
اأساس حقوق الإنسان )91( . اإن هذا املوقف الفلسفي هو<br />
الذي دفع مبيشيل فوكو يف سياق رده على بعض منتقدي<br />
موقفه من الثورة الإيرانية اأن يقول: “اإن الإصام بوصفه<br />
قوة سياسية يعد مصاألة مهمة يف احلاضر، ويف املستقبل،<br />
واإن الشرط الأساسي ملناقشتها بعناية وذكاء، هو اأن ل<br />
نبداأ بالكراهية” )92( .
29<br />
2 0 1 1<br />
3. اإن اهتمام فوكو بحدث الثورة الإيرانية قريب،<br />
يف تقديرنا، من ذلك التاأويل الذي قدمه لنص كانط<br />
)ما الثورة؟( يظهر ذلك يف تاأكيده اأن كانط مل يهتم<br />
بالثورة الفرنسية مبا هي قلب للأحداث، ول مبا هي يف<br />
ذاتها عامة على التقدم، واإمنا بالطريقة التي جرت<br />
بها الأحداث، والكيفية التي استقبلها بها الناس غري<br />
الفاعلني، والذين تاأثروا بها. والسبب يف ذلك، اأن كانط<br />
يرى، فيما يذهب اإليه فوكو، اأنه لو طلب من الفاعلني<br />
اأو قُدر لهم القيام بالثورة مرة اأخرى، ملا فعلوا ذلك،<br />
وملا اأقدموا على ذلك، من هنا وجب البحث عن عامة<br />
التقدم يف التعاطف واحلماس الذي حتدثه الثورة “لأنها<br />
كما يقول كانط عامة على تاأهب واإقبال اأخاقي<br />
للإنسانية” )93( .<br />
4. اإن ما دعت اإليه الأنطولوجيا التاريخية من<br />
جماليات للوجود، واهتمام باحلياة الروحية يف صورة<br />
زهد فلسفي يوؤكد عودة الديني يف فلسفة ما بعد احلداثة<br />
هذا من جهة، ويطرح من جهة اأخرى مشكلة تاأويل هذه<br />
الفلسفة كما تساءل عن ذلك بحق الفيلسوف الكندي<br />
شارل تايلور”Charles ”Taylor )94( . واأن التمعن يف<br />
هذه املفاهيم يفيد اأن ميشيل فوكو يدعو اإىل بديل يتمثل<br />
يف حتويل احلياة اإىل اأثر فني، ولكن هذه الدعوة تضع<br />
مشروعه الفلسفي يف مفارقة ظاهرة، وتطرح عليه<br />
صوؤال اأساسيا وهو: هل جماليات الوجود وما تتضمنه<br />
من روحانية تشكل بديا للهوية الغربية؟<br />
5. اإن العامات السابقة توؤدي -يف جمملها- اإىل<br />
اإعادة النظر يف طبيعة العاقة بني الدين والتنوير،<br />
ونقلها من حالة النقض والنفي والرفض كما ذهبت اإىل<br />
ذلك احلداثة، اإىل حالة تتميز من جهة بدور الدين يف<br />
عملية التنوير، وبخاصة يف عملية النقد التي انبثقت<br />
من فنون احلكم/امللك ، 95 ومن جهة اأخرى يف املعنى<br />
اجلديد للحداثة الذي يتاأسس على املوقف ”attitude“<br />
واخللق “ethos”بحسب ميشيل فوكو )96( ، وذلك من<br />
خال تاأو يل للفلسفة الكانطية التي شكلت الأساس<br />
الفلسفي لفلسفات ما بعد احلداثة عموما، ولفلسفة<br />
الأنطولوجيا التاريخية على وجه التحديد، ويتفق يف<br />
تقديرنا مع موقف كانط من الدين بوصفه اأخاقا )97( ،<br />
على الرغم من الختاف الكبري يف مفهوم الأخاق<br />
بني الفيلسوفني.<br />
اأبحاث
2 0 1 1<br />
30<br />
الهوامش<br />
(Endnotes)<br />
1 . Geffre, Claude, 2001,La modernité, un défi pour le christianisme et l’islam, in,Théologiques,<br />
vol.9, n2, ,p.138.<br />
2 . Ibid,p.140.<br />
3. املقصود بذلك هو: املجمع الكنسي الكاثوليكي الثاين الذي افتتحه يوحنا الثالث والعشرين سنة ، 1962 واختتم<br />
اأعماله سنة 1965 من قبل بولس السادس، ويعترب من الأحداث الكربى يف تاريخ الكنيسة الكاثوليكية، وذلك نظرا<br />
لنفتاحه على احلداثة والتقدم العلمي، وقبوله مببداأ فصل الدين عن الدولة.<br />
4 . Gauchet ,Marcel, 1985,Le désenchantement du monde. Une histoire politique de la religion,<br />
Paris, Gallimard, p. 27.<br />
5. بنيّ ميشيل فوكو مضمون النطولوجيا التاريخية يف حوار له مع دريفوس رابينوف بقوله: “هنالك ثاثة ميادين<br />
ممكنة من النسابيات. اأول، انطولوجيا تاريخية لذواتنا يف عاقاتنا مع احلقيقة تتيح لنا اأن نكون اأنفسنا كخالقي معرفة،<br />
ثم انطولوجيا تاريخية لذواتنا يف عاقتنا مبيدان سلطوي حيث نكون اأنفسنا كذوات نوؤثر يف الآخرين، واأخريا، انطولوجيا<br />
تاريخية لعاقاتنا مع الأخاق، تتيح لنا اأن نكون اأنفسنا كذوات اأخاقية. اإذن، هنالك ثاثة حماور ممكنة للنسابية.<br />
وكانت جميعها حاضرة، ولوبشكل غامض قليا، يف »تاريخ اجلنون«. وفصلت حمور السلطة يف »املراقبة واملعاقبة«،<br />
وحمور الأخاق يف “تاريخ اجلنسانية«”. )ص. 209-208. يف، اوبري دريفوس وبول رابينوف،”د ت(، ميشيل فوكو<br />
مسرية فلسفية،ترجمة جورج ابي صالح، مراجعة وشروحات مطاع صفدي، مركز الإمناء القومي، بريوت لبنان. يبني<br />
هذا النص بجاء امليادين التي تتشكل منها هذه الفلسفة، وهي املعرفة والسياسة والأخاق، كما تعد تعبريا عن املراحل<br />
الفكرية التي مر بها هذا الفيلسوف، والتي اطلق عليها مرة اسم “الركيولوجيا” وهو ما حملته كتاباته الأوىل وبخاصة<br />
“الكلمات والشياء ، 1966 من اجل اركيولوجيا العلوم الإنسانية، وكذلك كتابه املنهجي “اركيولوجيا املعرفة”، ثم<br />
وصف فلسفته باجلينيالوجيا وهو ما دعا اليه يف درسه بالكوليج دي فرانس “نظام اخلطاب” 1971، ودراسته: “نيتشه<br />
اجلينيالوجيا والتاريخ”، وكذلك يف : “اإرادة املعرفة”، 1976.<br />
6. قدم كل واحد من هوؤلء الفاسفة دراسة مميزة حول موضوع الدين، كما متت دراسة اآراوؤهم من قبل عدد هام من<br />
الباحثني، انظر على سبيل املثال:<br />
- Derrida, Jacques &Vattimo, Gianni,1996, La Religion, Paris, Seuil.<br />
- Vattimo, Gianni, 1998, Espérer croire, Paris, Seuil.<br />
- Rorty, Richard &Vattimo, Gianni, “sous la direction de Santiago Zabala), 2006, L’avenir<br />
de la religion, Solidarité, charité, ironie, Bayard Centurion Éditeur, Paris.<br />
- Gauchet, Marcel, 1998, La Religion dans la démocratie. Parcours de la laïcité, Paris,<br />
Gallimard.<br />
- Ferry, Luc & Gauchet, Marcel, 2004,Le religieux après la religion, Paris, Grasset.<br />
- Taylor ,Charles, 2003, La diversité de l’expérience religieuse aujourd’hui, Montréal,<br />
Bellarmin.<br />
- Milot ,Micheline, 1988,La laïcité : une façon de vivre ensemble, in, Théologiques, vol.6,<br />
n1.<br />
- Gagey , Heri-Jerome, 2001, Sur la théologie politique, in, Raisons politiques, n4.<br />
Fortin , Anne, 2000, Les conditions de l’expérience religieuse dans la modernité, in, Laval<br />
théologique et philosophiques,vol.56,n1.
31<br />
2 0 1 1<br />
7. قام الكاتب الأمريكي جريمي كرات بجمع هذه النصوص يف كتاب حمل عنوانا: “الدين والثقافة عند ميشيل فوكو”<br />
اأبحاث<br />
-<br />
1999، انظر:<br />
Carrette, Jeremy , 1999, Religion and culture: Michel Foucault, Rutledge edition<br />
&Manchester University Press.<br />
-كما قام هذا الكاتب بالتعاون مع جيمس برنوي بالإشراف على دراسة هامة يف هذا املوضوع تناولت عاقة<br />
ميشيل فوكو بالاهوت، وضمت جمموعة هامة من الباحثني انظر:<br />
- Bernauer, James & Carrette, Jeremy, 2002, James Bernauer& Jeremy Carrette, Michel Foucault<br />
and Theology, The Politics of Religious Experience, Ashgate Publishing Company, USA.<br />
8 . Bernauer, James & Carrette, Jeremy, 2002, Michel Foucault and Theology, The Politics of<br />
Religious Experience, Ashgate Publishing Company, USA, p.1.<br />
9 . Ibid,p.4.<br />
10 . Foucault, Michel, 1994, Du gouvernement des vivants, in, Dits et écrits, tome 4, Paris,<br />
Gallimard, p. 125.<br />
11. Foucault, Michel, 1994, Subjectivité et vérité, in, Dits et écrits, tome 4, Paris, Gallimard,<br />
p.216-218.<br />
12 . Foucault, Michel, 1994, Sexualité et pouvoir, in, Dits et écrits, tome 3, Paris, Gallimard,<br />
p.556.<br />
13. فوكو، ميشيل،1990،اإرادة املعرفة، ترجمة ومراجعة وتقدمي مطاع صفدي بالشرتاك مع جورج ابي صالح، مركز<br />
الإمناء القومي، بريوت لبنان،ص81.<br />
14 . Foucault, Michel, Sexualité et pouvoir, op-cit,p.553-556.<br />
15. خص هذا املوؤرخ املختص يف التاريخ الروماين ميشيل فو كوبدراستني هامتني،الأوىل حول عاقته بالتاريخ والثانية<br />
حول فكره عموما، ولقد كان فني من الأصدقاء املقربني لفوكو، ومن زمائه يف الكوليج دي فرانس انظر:<br />
-<br />
Veyne, Paul, 1978, comment on écrit l’histoire, suivi de : Michel Foucault révolutionne<br />
l’histoire, Paris, Seuil.<br />
Veyne, Paul, 2008, Michel Foucault. Sa pensée, Sa personne, Paris, Albin Michel.<br />
16 . Foucault, Michel, Sexualité et pouvoir, op-cit,p.560.<br />
17 . Foucault, Michel, 1994, Sexualité et solitude, in, Dits et écrits, tome 4, Paris, Gallimard,<br />
p.173.<br />
18 .Ibid,p.176.<br />
19 .Ibid,p.177.<br />
. 20 اهتم ميشيل فوكو كثريا بهذا الكاتب والراهب، وحلل بالتفصيل كتابه: “املوؤسسات الرهبانية” انظر:<br />
- Foucault, Michel, 2004, Sécurité, Territoire, Population Paris, Seuil & Gallimard.<br />
21 . Foucault, Michel, Sexualité et solitude, op-cit,p.177-178.<br />
22 . Foucault, Michel, 1994, Le combat de la chasteté, in, Dits et écrits, tome 4, Paris, Gallimard,<br />
p.307-308.<br />
23 . Foucault, Michel, 1994, Sexualité et vérité, in, Dits et écrits, tome 4, Paris, Gallimard, p.136-<br />
137.<br />
24 . Foucault, Michel, Michel Foucault, Sexualité et pouvoir, op-cit, p.564-565.<br />
25. Ibid,p.566.<br />
26. فوكو، ميشيل، اإرادة املعرفة، مصدر سابق، ص 38.<br />
27. نشري يف هذا السياق اإىل تقدير ميشيل فوكو للديانات الشرقية، وبخاصة للبوذية ولأحد فروعها األ وهو»الزان« الذي<br />
زار بعض معابده واأقام فيها خال زيارته لليابان، كما اطلع على كتابات هذه الديانة من خال الأبحاث التي اأجنزها
2 0 1 1<br />
32<br />
اأستاذه جورج دمييزل. ويعود حبه للزان اإىل كونه يشكل نوعا من التصوف املغاير للتصوف املسيحي الذي يقوم يف نظره<br />
على مبداأ التفريد«individualisation«، يف حني اأن الزان يعتمد على تقنيات تهدئة الذات. انظر:<br />
- Foucault, Michel, 1994, Dits et écrits, tome 3, Paris, Gallimard, p. 620-621.<br />
. 28 نقرتح لفظ امللك ترجمة لكلمة gouvernementalite« »، la وذلك باملعنى الذي ذهب اإليه املاوردي وابن خلدون<br />
بدل من ترجمته باحلكمانية كما فعل حممد مياد، انظر،<br />
- فوكو، ميشيل ،1994، دروس، ترجمة حممد مياد، دار توبقال للنشر،الدار البيضاء ،املغرب.<br />
29 . Foucault, Michel, 1994,
33<br />
2 0 1 1<br />
بريوت-لبنان، ص 397.<br />
اأبحاث<br />
41 . Foucault, Michel, Téhéran : la foi contre le chah, op-cit, p.683.<br />
42 . Ibid,p.686.<br />
43 . Ibid,p.688.<br />
44. يتفق هذا املوقف مع ما ذهب اإليه يف كتابه اركيولوجيا املعرفة، وذلك يف سياق رده على الفيلسوف لوي التوسري،<br />
انظر:<br />
- Foucault, Michel, 1969, L’archéologie du savoir, Paris, Ed, Gallimard, p.240-243.<br />
45. روي، اوليفي، 2003، عوملة الإصام، ترجمة لرا معلوف، دار الساقي،بريوت لبنان، ص33.<br />
46 . Foucault, Michel, Une poudrière appelée islam, op-cit,p.761.<br />
47 . Ibid, p.761.<br />
48 . Foucault, Michel, A quoi rêvent les Iraniens ? Op-cit,p.691.<br />
49 . Ibid,p.691.<br />
50 . Ibid,p.692.<br />
51 . Ibid,p.692.<br />
52 . Ibid,p.693.<br />
53 . Ibid,p.694.<br />
54 . Foucault, Michel, Le chef mythique de la révolte de l’Iran,op-cit, p.714.<br />
55 . Foucault, Michel, Inutile de se soulever ?op-cit, p.792.<br />
56 . Foucault, Michel, L’Herméneutique du sujet, op-cit,p.7.<br />
57 . Ibid,p.317.<br />
58 . Ibid,p.243.<br />
59 . Ibid,p.306.<br />
60 . Ibid,p.307.<br />
61 . Ibid,p.307.<br />
62. حول موضوع جماليات الوجود انظر:<br />
- Foucault, Michel, 1994, Usage des plaisirs et techniques de soi, in, Dits et écrits, tome 4,<br />
Paris, Gallimard, p.539-561.<br />
- Foucault, Michel, A propos de la généalogie de l’éthique : un aperçu du travail en cours,opcit,p.609-631.<br />
- Foucault, Michel, Une esthétique de l’existence, op-cit, p.730-735.<br />
63 . Foucault, Michel, L’Herméneutique du sujet, op-cit,p. 406-407.<br />
64 . Rose, Nicolas, 2006, Foucault, Laing et le pouvoir psychiatrique, in, Sociologie et société, N<br />
2, p.113-131.<br />
65. بريستو، جوزف، 2007، اجلنسانية، ترجمة عدنان حسن، دار احلوار، الاذقية-سورية، ص319.<br />
. 66 املرجع نفسه، ص324.<br />
67 . Foucault, Michel, L’Herméneutique du sujet, op-cit,p. p.7.<br />
68 . Baudrillard, Jean, 2004, Oublier Foucault, Paris, Galilée.<br />
- انظر كذلك:<br />
- Lacub, Marcella & Maniglier, 2004,Patrice, Le drame de la sexualité, in, Le magazine littéraire,<br />
n 435, octobre, p.58.<br />
69 . Leclerc, Gérard, 2001, Histoire de la vérité et généalogie de l’autorité, in Cahiers international<br />
de sociologie, n 111, p.205-231.<br />
. 70 حول موضوع املسار الفلسفي مليشيل فوكوانظر:
2 0 1 1<br />
34<br />
- Bouchard, Guy, 2003, Michel Foucault : unité ou dispersion de l’oeuvre ? in, Laval théologique<br />
et philosophique, Volume 59, N 3.<br />
. 71 حول موضوع التجربة الدينية والذاتية انظر على سبيل املثال الدراسات الآتية:<br />
- Despland, Michel, 1994, L’expérience religieuse au XIX I. le for intime et l’esthétisation<br />
de l’existence, in, Laval théologique, vol 50, N 3.<br />
Fortine, Anne, 2000, les conditions de l’expérience religieuse dans la modernité, in, Laval<br />
théologique, vol 56, N 1.<br />
72 . Zarka, Yves Charles, 2002, Foucault et l’idée d’une histoire de la subjectivité : le moment<br />
moderne, in, Archive de philosophie, tome 65, N 2,p.255-267.<br />
. 73 انظر على سبيل املثال اأعمال الن توران وبخاصة كتابه: نقد احلداثة، وهابرماس يف كتابه: اخلطاب الفلسفي<br />
للحداثة، وتايلور يف كتابه: مصادر الذات، وريكور يف كتابه: الذات عينها كاآخر.<br />
74 . Machery, Pierre, Introduction a la présentation de l’herméneutique du sujet de Foucault, in,<br />
La philosophie au sens large,”http://stl.recherche.univ-lille3.fr.<br />
75 . Roy, Olivier, 2004, L’énigme du soulèvement : Michel Foucault et l’Iran, in revue Vacarmes,<br />
N 28, p.25.<br />
76 . Ibid, p.27.<br />
77 . Foucault, Michel, Michel Foucault et l’Iran, in Dits et écrits, tome 3, op-cit, p.762.<br />
78 . Ibid, p. 749.<br />
79 . Ibid, p. 749.<br />
80 . Ibid, p.749.<br />
81 . Chevalier, Philippe, 2004, La spiritualité politique, Michel Foucault et l’Iran,in la revue<br />
Projet, N 281.<br />
82 . Foucault, Michel, Radioscopie de Michel Foucault, in Dits et écrits, tome 2, op-ci, p. 798.<br />
83 . Bensaïd, Daniel, 2004, Politiques de Foucault, in, Vacarmes, N 28.<br />
84 . Foucault, Michel, Lettre ouverte a Mehdi Bazargan, in Dits et écrits, tome 3,op-cit,p.780.<br />
85 . Foucault, Michel, Inutile de se soulever, in Dits et écrits, tome 3,op-cit,p.794.<br />
86 . Ferry, Luc & Gauchet, Marcel, 2004, Le religieux après la religion, Paris,Ed, Grasset, p.14.<br />
-<br />
-<br />
-<br />
87. انظر حول هذا املوضوع الدراسات الآتية:<br />
Buttgen, Philippe, 2007, Théologie politique et pouvoir pastoral, in, Annales, histoire,<br />
sciences sociales, 62 année, N 5, p.1129-1154.<br />
Boisvert, Yves, 1999, L’éthique est –elle une nouvelle
35<br />
2 0 1 1<br />
94 . Taylor, Charles, 1989, Foucault, la liberté, la vérité, in, Couzens Hoy David”Ed), Michel<br />
Foucault : Lectures critiques, tra de l’anglais par Jacques Colson, Editions Universitaires, Paris,<br />
p.98.<br />
95 . Michel Foucault, 1990, Qu’est- ce qu la critique ? “Critique et AUFKLARUNG), in, Bulletin<br />
de la société française de philosophie, 84 année,N 2,p.36.<br />
96 . Foucault, Michel, Qu’est-ce que les Lumières ? In, Dits et écrits, tome 4, op-cit, p.568.<br />
97. حنفي، حسن، 1982، قضايا معاصرة: 2 يف الفكر الغربي املعاصر، دار التنوير، بريوت-لبنان، ص135.<br />
خليفة، فريال حسن، 2001، الدين والصام عند كانط، مصر العربية للنشر والتوزيع،القاهرة-مصر،ص81-80.<br />
قائمة باملصادر واملراجع<br />
- اأوال. قائمة باملصادر واملراجع العربية:<br />
املسكيني، فتحي،2001، الهوية والزمان: تاأويات فينومينولوجية ملصاألة »النحن«، دار الطليعة، بريوت- لبنان.<br />
1. بريستو، جوزف، 2007، اجلنسانية، ترجمة عدنان حسن، دار احلوار، الاذقية-سورية.<br />
2. بودريار، جان، 2008، املصطنع والصطناع، ترجمة جوزيف عبد اهلل، املنظمة العربية للرتجمة، بريوت-لبنان.<br />
3. جدعان، فهمي، 2007، يف اخلاص النهائي: مقال يف وعود الإصاميني والعلمانيني والليرباليني، دار الشروق<br />
4. للنشر والتوزيع، عمان –الأردن.<br />
حنفي، حسن، 1982، قضايا معاصرة: 2 يف الفكر الغربي املعاصر، دار التنوير، بريوت-لبنان.<br />
5. خليفة، فريال حسن، 2001، الدين والصام عند كانط، مصر العربية للنشر والتوزيع، القاهرة-مصر.<br />
6. دريفوس، اوبري ورابينوف، بول، د ت “ميشيل فوكو مسرية فلسفية”، ترجمة جورج ابي صالح، مراجعة وشروحات<br />
7. مطاع صفدي، مركز الإمناء القومي، بريوت لبنان.<br />
روي، اوليفي، 2003، عوملة الإصام، ترجمة لرا معلوف، دار الساقي،بريوت لبنان.<br />
8. فوكو، ميشيل، 1994دروس، ترجمة حممد مياد، دار توبقال للنشر،الدار البيضاء ،املغرب.<br />
9. 10. فوكو، ميشيل، 1990، اإرادة املعرفة، ترجمة ومراجعة وتقدمي مطاع صفدي بالشرتاك مع جورج ابي صالح، مركز<br />
الإمناء القومي، بريوت لبنان.<br />
كانط، امياونويل،1987، الإجابة على صوؤال التنوير، ترجمة عبد الغفار مكاوي يف كتاب: زكي جنيب حممود:<br />
11. فيلسوفا واديبا ومعلما، منشورات جامعة الكويت.<br />
متحدة، روي، 2007، بردة النبي: الدين والسياسة يف اإيران، ترجمة وتعليق رضوان السيد، دار املدار الإصامي،<br />
12. بريوت-لبنان.<br />
اأبحاث
2 0 1 1<br />
36<br />
- ثانيا. قائمة باملصادر واملراجع االأجنبية:<br />
1). Baudrillard, Jean, 2004, Oublier Foucault, Paris, Galilée.<br />
2). Bensaid, Daniel, 2004, Politiques de Foucault, in, Vacarmes, automne, N 28.<br />
3). Bernauer, James & Carrette, Jeremy, 2002, Michel Foucault and Theology, The Politics of<br />
Religious Experience, Ashgate Publishing Company, USA.<br />
4). Boisvert, Yves, 1999, L’éthique est –elle une nouvelle
37<br />
2 0 1 1<br />
اأبحاث<br />
31). Foucault, Michel, 1994, Subjectivité et vérité, in, Dits et écrits, tome 4, Paris, Gallimard.<br />
32). Foucault, Michel, 1994, Sexualité et solitude, in, Dits et écrits, tome 4, Paris, Gallimard.<br />
33). Foucault, Michel, 1994, Sexualité et solitude, in, Dits et écrits, tome 4, Paris, Gallimard.<br />
34). Foucault, Michel, 1994, Le combat de la chasteté, in, Dits et écrits, tome 4, Paris, Gallimard.<br />
35). Foucault, Michel, 1994, Sexualité et vérité, in, Dits et écrits, tome 4, Paris, Gallimard.<br />
36). Foucault, Michel, 1994,
التاريخ والرسد<br />
وتشكالت الهوية<br />
د.اإسماعيل نوري الربيعي<br />
باحث واأكادميي من العراق
41<br />
2 0 1 1<br />
Abstract<br />
How can we distinguish the relationship<br />
between history and narration? This, taking<br />
into consideration the ambiguity that arises<br />
from direction. Also, the heavy part that<br />
narration plays in directing history, since the<br />
way in which something is narrated is governed<br />
or restricted by the objective of narratives.<br />
Therefore, it is important to distinguish the<br />
relationship between the two: history being<br />
an instrument of interpretation and, narration<br />
being an instrument of expression and<br />
whatever implications that can be drawn from<br />
them. In doing so, the problem that faces a<br />
historian arises, since he/she looks at time; an<br />
element that Paul Ricoeur describes as not<br />
movement, and also requires distinguishing<br />
instance, time frames and breaks that occur<br />
within it.<br />
It is important also to specify the<br />
interaction between history and narration,<br />
when we look at time and narrative identity;<br />
history with all its universality, completion<br />
and documentation and narration with its face<br />
value, imagination, assumed fairness and<br />
sometimes its strangeness.<br />
This paper, therefore, focuses on finding<br />
the relationship between history and narration,<br />
by examining narrated texts represented<br />
by the Maqama, colonial texts and popular<br />
biographies. This will be done using various<br />
methodologies such as Greima’s Semiotic<br />
Narrative theory and Paul Ricoeurd’s theory<br />
on action, difficulty of time, identity and<br />
narration.<br />
امللخص<br />
كيف ميكن متييز العاقة القائمة بني التاريخ والسرد؟<br />
هذا بحساب حالة اللتباس القائم يف جمال التوجيه، اإذ<br />
يتبدى ثقل دور السرد يف توجيه التاريخ انطاقا من طريقة<br />
الرواية التي تتصدى لها الوظيفة السردية. من هنا تربز<br />
اأهمية البحث يف متييز العاقة بني التاريخ بوصفه اأداة<br />
للتفسري، والسرد الذي ينطوي على مهمة التعبري، وما ميكن<br />
اأن يتم احلصول عليه من تصورات ميكن الوقوف عليها.<br />
ومن هنا حتديدا تربز الإشكالية التي تواجه املوؤرخ بوصفه<br />
متاأما يف الزمان، هذا الأخري الذي يصفه بول ريكور باأنه<br />
ليس حركة ، بقدر ما هو حاجة اإىل متييز الآنيات وحساب<br />
الفواصل فيه .<br />
بني الزمان والهوية السردية تربز مدى احلاجة<br />
لتحديد مدى التفاعل القائم بني التاريخ والسرد، التاريخ<br />
بكل كونيته وحتققاته وتوثيقاته، والسرد بظاهريته وخياله<br />
وعدالته املفرتضة وغرائبيته اأحيانا. ومن هذا يسعى البحث<br />
اإىل رصد العاقة القائمة بني الطرفني، عرب اختبار جملة<br />
من النصوص السردية، التي متثلت يف فن املقامة، وبعض<br />
النصوص الكولونيالية، والسرية الشعبية.عرب الستعانة<br />
بتطبيقات منهجية متنوعة ، كنظرية العوامل لغرمياس،<br />
ونظرية الفعل واإشكالية الزمان والهوية والسرد لدى بول<br />
ريكور.<br />
اأبحاث
2 0 1 1<br />
42<br />
التاريخ والرسد وتشكالت الهوية<br />
د.اإسماعيل نوري الربيعي<br />
البحث عن الشرعية، هذا هو القوام الذي تتجلى فيه جممل الصراعات على الصعيد الجتماعي، شرعية<br />
تفصح عنها املمارسة املباشرة تارة، والنسق السائد يف الكثري من الأحيان تارة اأخرى، ومن واقع الشد واجلذب<br />
يفصح التاريخ عن اإبراز للمجمل من التداخات التي تفرضها مقومات البحث عن السلطة واملكانة داخل املنظومة<br />
الجتماعية.بني العلم مباديته ومنطق تفاعله املباشر مع الواقع، والسردي باأخاقياته وقيمه بوصفه املوجه واملقنن<br />
واملحدد للفعل الجتماعي.اإنها املواجهة الساعية، نحو التمكن والسيطرة على اإنتاج السمات الفارقة ملضمون<br />
املعرفة. وبالقدر الذي يكون التمييز للسلطة املطلقة التي مارسها الأخاقي على العلمي على مدار حقب التاريخ<br />
الطويلة، والتبعية التي تبدى بها العلمي لصالح فكرة اخللود السومرية، حيث كلكامش الذي نصحته الآلهة باأن<br />
البقاء والستمرار مير عرب بوابة الإجناز العظيم، والشغف الفرعوين بالعمارة والتحنيط، واملثالية الصينية<br />
والصوفية الهندية والأسطورة والفلسفة الإغريقية والتنظيم القانوين الروماين، واملعرفة العلمية الواسعة التي<br />
حتصلت عليها جممل احلضارات الإنسانية، اإن كان على مستوى الهندسة اأو الكيمياء وعلوم الرياضيات والأرقام<br />
والفلك والطب، اإل اأن املوجه الروحي والأخاقي كان ميثل احلضور الأهم والأساسي، فيما بقي العلمي يحتل<br />
مكانة التابع، وصول اإىل بروز مامح الثورة الصناعية يف اأوروبا، التي مثلت كسرا للعاقات التي قامت بني طريف<br />
املعادلة على مدى التاريخ.<br />
بقيت املعرفة السردية تعيش حلظات القدرة على<br />
املبادرة، باعتبار قدرتها على النتشار ومتكنها من التاأثري<br />
والتفاعل مع خمتلف الأمناط والسياقات، يف الوقت<br />
الذي بقيت املعرفة العلمية تعيش على الصرامة والدقة<br />
والربهان، والتكافوؤ بني طريف العاقة، فالعلم يستند<br />
اإىل مقدمات ونتائج ثابتة، غري قابلة للتاأويل والتفسري<br />
املفتوح،حيث قوام املكافئ والنظري والندية، فيما تعتاش<br />
املعرفة السردية على كم املفارقة التاأويلية للثقافات<br />
)1 ) ، ومن هذا قُيض للسرد اأن يتكيف مع خمتلف<br />
املختلفة<br />
السياقات التاريخية والجتماعية والسياسية.<br />
الهوية الناقصة<br />
بني الكلي والشمويل، بقيت العاقة بني السردي<br />
والعلمي تعيش حالة من املواجهة، ل سيما يف اأعقاب<br />
تصدر منطق الكشف العلمي الذي راحت تتميز قسماته<br />
خال عصر الثورة العلمية الذي يقوم على مراحل؛<br />
الأوىل؛ النهضة 1440-1540، واحلروب الدينية<br />
2( ) . فيما بقي<br />
،1540-1650 والإصاح 1650-1690<br />
الركون اإىل السردي ميثل الأساس الذي تقوم عليه جممل<br />
فعاليات البحث عن الشرعية. ف كريستوفر كولومبس<br />
مكتشف العامل احلديث مل يتورع عن تهجني الآخر، عرب<br />
صاح الوصف )الهنود احلمر( اأو عن طريق التصفية<br />
والقتل والتدمري، اأو من خال التهجري القسري للمعاين<br />
والسياقات الثقافية. اإنها سياسة احلرق والتدمري التي<br />
درج عليها األبو كريك القائد الربتغايل، حني توجه<br />
باأسطوله نحو الشرق. عرب حماولة توسيع جمال التداول<br />
لسردية الستعمار، تلك التي حرصت على تقدمي<br />
سياقاتها الثقافية اخلاصة بها على حساب السياقات<br />
واملعاين لدى الآخر.<br />
جاءت املعرفة العلمية لتقدم منوذجها احلداثي،<br />
الذي استند اإىل تقدمي دور التكنوقراط، لكن حضورها
43<br />
2 0 1 1<br />
الأهم مل يكن قد استند اإىل ترسيخ وتدعيم معامل<br />
النظام الجتماعي، بقدر ما كان املسعى نحو تقدمي<br />
جمال املعلومات والبحث عن اجلديد يف تقدمي الأفكار<br />
وترسيخ معامل النسق البتكاري، لكن هذا املضمون<br />
مل يكن ليبتعد عن حالة الصراع الداخلي، ضمن هذا<br />
النسق اجلديد، حيث التنافس والإقصاء والتهميش الذي<br />
تتم ممارسته داخل املنضوين يف احلقل الواحد، واإذا<br />
كانت العاقات الراهنة تشري اإىل قوة املعرفة العلمية<br />
وحضورها الأكيد على الواقع، فاإن املعرفة السردية<br />
تبقى توؤدي دورها الراسخ يف طريقة التوجيه وقيادة<br />
)3 ) .لقد جاءت احلداثة الغربية<br />
املضامني ونظام القيم<br />
بحروب سعياً للسيطرة على الأرض والرثوات،فيما تقوم<br />
حروب الراهن على حماولة السيطرة على املعلومات،<br />
فمن ميسك بزمام التوجيه، لبد له اأن ميسك بزمام<br />
املعلومات باعتبارها راأس املال اجلديد الذي يقود<br />
العامل.<br />
السرد من اأجل البقاء<br />
كيف قُيض لشهرزاد البقاء، باإزاء نزعة النتقام<br />
التي عنّت على شهريار، لول مترتسها بصاح السرد،<br />
وكيف متكن كوبرنيكوس وبلباقة، اأن يكسر الرنجسية<br />
الإنصانية، حني اأثبت بالدليل العلمي باأن الأرس<br />
ليست مركزا للكون، وكيف مرر رجال حماكم التفتيش<br />
ومبزاجهم، تلك اجلملة التي ندت عن غاليلي، حول<br />
دوران الأرض. اإنه السرد الذي يحمل سمة السيطرة على<br />
الوعي الزمني، حيث التفاعات التي حتدثها الذات يف<br />
سبيل احلصول على النتيجة املرجوة، من خال الإقناع<br />
والقدرة على ترجيح فكرة على حساب اأخرى، واإمكانية<br />
التحبيك من اأجل السيطرة على الأفراد اأو اجلماعات،<br />
والسعي نحو الكشف عن اأبعاد جديدة للنص.اإنها<br />
الهوية السردية تلك التي يحددها بول ريكور باعتبار<br />
)4 ) على حتقيق منجزات الذات يف الندماج<br />
قدرة السرد<br />
والتكيف واملداهنة والسيطرة على توجيه التاريخ.<br />
مقامة املويلحي<br />
يكتب حممد املويلحي يف العقد الأول من القرن<br />
العشرين، مستندا اإىل حماولة اإحياء فن املقامة ذي<br />
الأصول الرتاثية العريقة يف الثقافة العربية، كتابا<br />
عنوانه “حديث عيسى بن هشام اأو فرتة من الزمن”<br />
ومل يفتاأ املوؤلف يقول: “وبعد فهذا احلديث – حديث<br />
عيسى بن هشام_ واإن كان يف نفسه موضوعا على<br />
نسق التخييل والتصوير، فهو حقيقة متربجة يف ثوب<br />
خيال، ل اأنه خيال مسبوك يف قالب احلقيقة، حاولنا<br />
اأن نشرح به اأخاق اأهل العصر واأطوارهم، واأن نصف<br />
ما عليه الناس يف خمتلف طبقاتهم من النقائص التي<br />
) 5(<br />
يتعني اجتنابها، والفضائل التي يجب التزامها”<br />
املويلحي يف مقامته يعمد اإىل املناورة على عنصر<br />
اخلطاطة السردية املتمثل بالفاعل، فيسنده اإىل شخصية<br />
وهمية، هو )عيسى بن هشام( ويف هذا يكون املوؤلف<br />
وفيا لتقاليد فن املقامة العربية، املهم هنا اأن املوضوع<br />
يتداخل مبقايسة معرفية مع املدلول الزماين، اإذ يلتقي<br />
بطل املقامة ابن هشام بدفني يخرج من قربه، ليبداأ<br />
حوار )القطيعة املعرفية( بني رجل من زمان منصرم،<br />
له مفاهيمه وتقاليده ومنظومته املعرفية والنسقية،<br />
ورجل حيّ اآخر، يعمل بصناعة الأقام )الكتابة( لديه<br />
اأنساقه وقيمه ووعيه اخلاص بعصره.<br />
الهوية الزمنية<br />
تتقاطع معلومات الدفني مع ابن هشام يف معرفة<br />
العناوين على سبيل املثال. اإذ يشري اإىل اأن البيوت تعرف<br />
باأسماء اأصحابها، يف حني اأن الرجل )الآين( املعاصر<br />
يعرف البيوت من اأسماء الشوارع واأرقام الأزقة. والواقع<br />
اأن الرجل املعاصر يقدم العديد من التنازلت للدفني،<br />
اإذ ل يتوانى عن منحه رداء كان يلبسه، بعد اأن يدعي يف<br />
قرارة نفسه اأن ذلك سلبا ولصوصية.<br />
قال يونس بن ميسرة؛ “ل ياأتي علينا زمان اإل بكينا<br />
منه، ول يتوىل عنا زمان اإل بكينا عليه”، وكان الأبشيهي<br />
)ت 850( قد اأفرد بابا خاصا فيه ثاثة فصول، يف<br />
“شكوى الزمان وانقابه باأهله، والصرب على املكاره،<br />
)6 ) ومثله الكثري يف الرتاث<br />
والتسلي عن نوائب الدهر”<br />
العربي، والنظرة هذه ل تعد ضمن الوقوع يف شراك<br />
النكوصية، بقدر ما تقوم على املعرفة والعلم بالشيء.<br />
اأبحاث
2 0 1 1<br />
44<br />
فاملستقبل جمهول ل ميكن التكهن اأو التحكم بنتائجه.<br />
املختلف يف حديث عيسى بن هشام، يقوم على<br />
التضاد املعريف وليس التبجيل للماضي، فالأخاق<br />
والأعراف وردود الفعل ماهي اإل اأنساق معرفية لها<br />
رموزها واإشاراتها املتنوعة، عرب عنصرين فاعلني،<br />
الأول وهو )الدفني( مبفاهيمه القدمية التبجيلية<br />
النخبوية، املستندة اإىل الإفراط يف نبذ الآخر، واحتقار<br />
اأي معرفة مل يبلغها. والثاين )ابن هشام( بروؤياه<br />
اجلديدة وقيمة الجتماعية املستندة اإىل قوة القانون،<br />
وتساوي جميع الأفراد اأمامه. فها هو املكاري يصيح يف<br />
وجه الباشا )الدفني(، “ومن اأنت ومن غريك، ونحن يف<br />
زمن احلرية ل فرق بني الصغري والكبري، ول تفاوت بني<br />
. ) 7(<br />
املكاري وبني الأمري”<br />
وجهة الصراع التي يحركها املويلحي، يضعها يف<br />
ثاث ركائز بنائية شديدة التلميح. الباشا )الدفني(<br />
مبنظومة قيمه التي اأضحت من املاضي، حتى اأن مدار<br />
التداول صار يجعل منها غريبة، لينجم عنها سوى<br />
التندر والسخرية. والفاح الذي تعوزه املعرفة الدقيقة<br />
والقدرة على احلوار اأو استيعاب الآخر، على الرغم<br />
من بلوغ مسامعه، اأفكارا عن احلرية واملساواة وسلطة<br />
القانون.اأما ابن هشام فيمثل همزة الوصل املعريف،<br />
وصارح املفاهيم نظرا للقطيعة القائمة بني النخبة<br />
املاضية والعامة قليلة املعرفة. لكن هذا الشارح ل<br />
يتوانى عن اإسداء نصحه، حول اأهمية عقد هدنة من<br />
اأجل الوقوف على معاجلة للوضع الذي اأفرزته احلالة<br />
املعقدة، فها هو ذا يقول للباشا: “ل بد لك من التسليم<br />
والحتمال على كل حال حتى نخلص من هذه النازلة<br />
)8 ) اإنه الختاف يف الزوايا واملواقع من احلدث،<br />
بصام”<br />
وعلى هذا جند املفهوم الواحد وقد تقمصته املزيد<br />
من التاأويات واملعاين، فالزمن هنا يكون لدى الباشا<br />
الدفني مبعنى الغربة، فيما يكون لدى ابن هشام فاعا،<br />
اأما لدى املكاري فهو ميثل معنى السبات.<br />
من هوية الفرد اإىل هوية اجلماعة<br />
يف اأي زاوية ميكن البحث يف دور الثقافة، هل<br />
بوصفها فاعا اأكرب، اأو يف التوقف عندها بوصفها رجع<br />
صدى للقيم واملعتقدات والأعراف السائدة؟لكن من<br />
املوؤكد اأن الوشيجة القوية والراسخة، تبقى حاضرة<br />
بني منظومة القيم )املوؤسسة الجتماعية( والبنية<br />
الثقافية، والإشكال الراهن يف جممل الطروحات التي<br />
حتاول نظرية الثقافة تقدميها، تتمثل يف حماولة جتاوز<br />
منظومة القيم واملعتقدات، والرتكيز على اأحادية النظرة<br />
حول الثابت واملتحول، والإبقاء على الفصل بني احلقائق<br />
الثقافية والقيم الجتماعية.<br />
تتبدى جمموعة من الروؤى والتصورات حول<br />
دور وفاعلية النظرية الثقافية، باعتبار اأن البعض<br />
يحاول حصرها يف النتاج الفكري، والآخرين يعمدون<br />
اإىل تركيزها يف التحديث وتوسيع التقانة، ويسعى<br />
، ) 9(<br />
الأنرثوبولوجيون اإىل حصرها يف الإبداع الإنساين<br />
ومن خال التطلع نحو تطبيق مقولت نظرية الثقافة<br />
على الواقع العربي، جند متزقا حادا يف الذات العربية<br />
وترصد املزيد من حالت الغرتاب يف الهوية واإشكالية<br />
يف وسائل التعبري. ويف ظل هذا مل تعدم بعض النخب<br />
العربية من التطلع نحو استعارة منظومتها الفكرية عن<br />
الآخر، لتعلن عن اأهمية النخراط يف استعارة اخلطاب<br />
الثقايف لاآخر، باعتبار حماولة الوعي بالتحولت<br />
التاريخية التي شهدها العامل، على صعيد متايز مامح<br />
القوة الباطشة، بني الآخر الذي سعى نحو اإنتاج سرديته<br />
الكربى حول الإنسانية واحلضارة والتحديث، وصول اإىل<br />
الراهن الذي يتم الرهان عليه بناء على حرب املعلومات<br />
وثورة التصالت والعوملة. اإنه صوؤال الهوية الذي راح يلح<br />
على الرتكيز يف )من اأنا؟ من الآخر؟ ما العاقة معه؟<br />
ماذا مييزين عنه؟(<br />
الكشف عن املعاين<br />
من واقع احلفز والتغيري الذي يعيشه املجتمع،<br />
يربز جمال اإنتاج املعاين وتعددها وتنوعها، حتى يصار<br />
نحو البحث عن الغايات التي تعن على تلك املعاين،<br />
ومن واقع التمثات التي تقوم على اإنشائها املعاين،<br />
تربز اأهمية العاقة بني الذات والتاريخ، والطريقة<br />
التي ميكن اأن تقوم بها الذات داخل هذا احلقل، الذي<br />
تتفاعل فيه املجمل من النصوص والروؤى والتحديات
45<br />
2 0 1 1<br />
والرهانات والتصورات، حتى ليكون من املهم التوقف<br />
عند حدود الذاتي واجلمعي، انطاقا من التطلع نحو<br />
اإبراز الفاصل املوضوعي بني الوعي الذي يشمل طريقة<br />
تفاعل اجلماعات مع الواقع، والقصدية التي متيز مدار<br />
التفاعل الفردي.<br />
يقف العربي اليوم عند حدود الصوؤال امللح، بقوام<br />
)من اأنا؟( ليقف على اأعتاب هوية املطابقة، تلك التي<br />
يتم من خالها حتديد سماته الشخصية املباشرة، اإنه<br />
بطاقة التعريف التي متيزه عن الآخرين، اإنها العمق<br />
الذاتي والفرادة واخلصوصية، حتى ليمكن التعرف<br />
عليه ومتييزه، اإنها بصمة الإبهام اأو التمييزات التي<br />
اأفردتها حضارة املعلومات املعاصرة، على صعيد قزحية<br />
العني اأو اخلريطة اجلينية. وبالقدر الذي يكون التحديد<br />
وقد توقف عند التمييز الفردي، فاإن البحث عن العاقة<br />
يف الزمن اأو املجموع، يبقى حاضرا على الدوام. ولكن<br />
هل يكفي اأن يعرف املرء التفاصيل املتعلقة به. هل ميكن<br />
الكتفاء بالتوقف التفصيلي عند املعلومات التي تزخر<br />
بها بطاقة التعريف الرسمية، والتي تشري اإىل السم<br />
واجلنس والعمر والديانة وفصيلة الدم، اأم اأن الأمر<br />
يستدعي البحث عن عاقة من نوع اآخر. كيف ميكن<br />
للفرد اأن يتواصل اأو يتوافق مع ذاته من دون اأن يتوافق<br />
مع الآخرين، كيف ميكن لهوية املطابقة اأن تقف بوجه<br />
التشظيات والغرتاب وحالت الوهن والضعف الإنساين<br />
واملصالح املباشرة التي تستدعيها الأوضاع املختلفة<br />
للعاقات واملواقف.<br />
كيف ميكن النظر اإىل الهوية من دون التوقف<br />
العميق، عند موؤثرات الوحدة والنسجام والستمرار،<br />
تلك التي يتم التواصل من خالها يف مدار الزمن اأو<br />
على صعيد الواقع والوجود واجلماعة. هل تعني الهوية<br />
الذاتية التوقف عن تضخم الذات، اأم اأن املرتكز الذي<br />
يقوم عليها ل ميكن اأن يتم حتديد تفصياته، اأو حتى ل<br />
ميكن اأن يتخذ اأهميته، من دون التوافق مع املجمل من<br />
الهوية اجلمعية.<br />
تاأويل الهوية<br />
بني الفردي و اجلمعي تربز مامح التمييز، هذا<br />
بحساب املسعى نحو اإفراد مامح التاأثري للسرد<br />
والتاريخ على الذات، تلك الذات الساعية نحو التاأويل<br />
من اأجل توكيد حضورها على صعيد الواقع، اإنه التوقف<br />
عند متييز حلظة تاريخية فارقة، يتم من خالها حتديد<br />
سمات الهوية، اإنه املوقف الذي يكشف عن مامح<br />
احلضور والتاأثري، اإنه الوعي الذي مييز طبيعة العاقة<br />
)10 ) ، حيث الكشف عن روح الأمة،<br />
مع الوجود واجلماعة<br />
بحسب توصيف هيغل.<br />
بني الصوري والتجزيئي والقياسي يتم للعقل<br />
املجرد النظري بلوغ الفهم، فيما يتضمن العقل العملي<br />
على الباطني والرتكيبي واملوضوعي، يف سبيل اإطاق<br />
الأحكام حول الظواهر. ومن هذا التوزيع ل يرتدد هيغل<br />
يف القول باأن العقل يبقى يف دائرة التمام والكمال ما<br />
دام يعيش يف حيز التجريد والتنظري، فيما نراه يعيش<br />
حلظات عجزه عندما يتفاعل مع الواقع، هكذا تعيش<br />
ثنائية الفهم والقدرة على احلكم على مدار الواقع،اإنه<br />
املنطق الذي يقوم على الوصف والفهم، من اأجل حماولة<br />
فهم روح العصر والتاريخ الذي يقوم بناء على احلكم<br />
املستمد من طبيعة املقارنة فهم روح العصر ومسار<br />
التاريخ، وعلى هذا يتبدى التقاطع املفجع، حني يتم<br />
اإسقاط قيم احلاضر على املاضي. فالتاريخ ل يقوم<br />
على مسار املاضي احلدثي، بقدر ما ميثل منطق احلدث<br />
. ) 11(<br />
وتفاعاته الداخلية<br />
الهوية املستباحة<br />
يقف مفهوم الهوية عل عتبة الصوؤال حول العاقة<br />
القائمة بني الأصالة واملعاصرة، الرتاث واحلداثة، اإنه<br />
الشاخص املعريف الذي يتبدى حاضرا، باعتبار ما<br />
تنتجه التفاعات السياسية والجتماعية والثقافية،<br />
وبالقدر الذي تربز اأهمية صوؤال الهوية يف املجال<br />
العربي، فاإن النقص والوهن يبقى حاضرا، تكشف عنه<br />
طبيعة الصوؤال الاحق والذي يقوم على الستنكار، حول<br />
السر الذي جعل الآخرين يتقدمون فيما بقي العرب على<br />
اأبحاث
2 0 1 1<br />
46<br />
حالهم القدمي! اإنه الصوؤال الذي يتكرر عن اأي قراءة<br />
مقرتحة للتحولت، اأو التفاعات، اأو البحث يف الآثار<br />
الداخلية اأو اخلارجية، اأو املواقف.اإنها حلظة النفعال<br />
النائية عن التحليل، والساعية اإىل استدعاء الهوية<br />
الصطناعية، باعتبار احلماس واللغة احلارة السخينة،<br />
الساعية اإىل جذب التعاطف والناأي عن اللوم، حتى<br />
ليكاد هذا اخلطاب يتماهى مع الشاعر الذي يقول<br />
)دع عنك لومي فاإن اللوم اإغراء(، وهكذا يحضر اللوم<br />
والأذى والسعي نحو اإبراء الذمة من الأخطاء والتحصن<br />
بالكمال والتمام، فيما يبقى الواقع العربي، يعيش ذات<br />
اللحظة التاريخية التي حاول فيها اأن يطلق مشروع<br />
نهضته.<br />
الهوية امللفقة<br />
عاشت النخبة املتعلمة يف الباد العربية، من<br />
حالة القطيعة مع الواقع، حيث الطموحات الكبرية<br />
التي كانت تعن عليهم، فيما يشري الواقع اإىل حالة من<br />
القنوط وحمدودية الدور، حتى اأنهم -ويف سعيهم نحو<br />
تثبيت الدور- اكتفوا بدور الشارح، باعتبار افتقادهم<br />
، ) 12(<br />
لسلطة جتذر دورهم يف حفز احلراك الجتماعي<br />
تلك الأزمة التي مت التعبري عنها يف موقف الأفندية يف<br />
العراق والعديد من البلدان العربية، ل سيما يف اأعقاب<br />
بعث احلياة الدستورية عام 1908، يكتب لونكرك<br />
عن اأفندية العراق قائا: “يقراأون ويكتبون من دون<br />
اأن يتعلموا اأشياء اأخرى، ويتصفون بالرجعية لكنهم<br />
متاأدبون بالآداب الجتماعية املقبولة، ومتزيني مبجموعة<br />
مضحكة من املابس الأوروبية، وكانوا حريصني دقيقني<br />
لكنهم يغرقون يف املجامات بالكتب الرسمية، وبعيدين<br />
كل البعد عن روحية اخلدمة العامة )...( ل يقيسون<br />
الناس اإل مبقاييس الطبقة التي ينتمون اإليها، ويحتقرون<br />
القبيلة والفاح، ويصرون على التكلم بالرتكية بني<br />
العرب، واأخريا فقد كان الفساد متفشيا بينهم جميعا<br />
13( ) ، ول<br />
تقريبا والرصوة مستفحلة بني ظهرانيهم”<br />
يكتفي لونكرك بهذا الوصف الساخر، بل يضيف عليه<br />
املزيد من ترصدات الأخطاء التي يحددها يف تداول<br />
املصطلحات املتداخلة التي تقوم على الرطانة والتعمية،<br />
والتفسريات القانونية املجزوءة التي تصب ملصلحتهم،<br />
والتحكم يف الصوؤون الإدارية، والبريوقراطية املوؤدية اإىل<br />
تعطيل مصالح اجلمهور.<br />
ل ينكر عامل الجتماع علي الوردي اأهمية الأفندية<br />
يف اإحداث البعض من التجديد، بحساب الواقع<br />
الثقايف والجتماعي البسيط الذي ظهروا فيه، وكان<br />
لستخدامهم املصطلحات الغريبة وسيلة لإثارة التعجب<br />
وسط اجلموع املندهشة، ومن هذا جاء التعايل، وكان<br />
لطروحاتهم اأثرها يف حفز لنقاشات حول العديد من<br />
القضايا اأصل الإنسان واحلياة الصحية والكشف عن<br />
الأمراض والوقاية منها، حتى اأنهم مثلوا دورا حافزا<br />
يف انقسام املجتمع اإىل فريقني: مشجع ومتحمس لهم،<br />
. ) 14(<br />
ورافض وساخر منهم<br />
كيف ميكن ترصد هوية الأفندي، هذا بحساب<br />
حماولة الوقوف على صروط التصاوي مع الذات،<br />
والقدرة على اإنتاج الدللت الجتماعية، الساعية<br />
نحو حتقيق روؤية للعامل، مبا يتوافق والقيم السائدة يف<br />
جمتمع ما.وبالقدر الذي تربز اأهمية فعالية الهوية يف<br />
احلفز والتغيري، باعتبار السعي نحو خلق التوافق بني<br />
الذات والواقع الجتماعي، فاإن الهوية ل ميكن النظر<br />
اإليها بوصفها ثباتا، بقدر ما هي جمال قابا للتحول<br />
العميق. ترى اأين ميكن ترصد دور الأفندي وعاقاته<br />
داخل بيئته ووسطه الجتماعي؟ لقد اأشارت املس بيل<br />
اإىل اأن “القبائل تكره الأفندي اأكرث من هذا ول تثق<br />
به، وتكاد كلمة الأفندي عندهم توؤدي املعنى نفسه التي<br />
توؤديها كلمة بغدادي )...( اإن اأولئك يعلو صوتهم يف<br />
املقاهي وهم يتحدثون عن حريات العرب اإمنا يضعون يف<br />
فكرهم حريات من يرتاد املقاهي فقط كما اأن البغدادي<br />
ينظر اإىل جميع سكان الباد من العشائر.... مبزيج من<br />
. ) 15(<br />
اخلوف والزدراء”<br />
حتاول املس بيل رصم معامل صورة ملفقة<br />
لهوية الأفندي العراقي، عرب حزمة من الفعاليات<br />
الإجرائية،حيث التوقف عند مدار الكراهية، بني الريف<br />
العشائري، واحلاضرة التي ميثلها الأفندي، اإنه الرتصد<br />
النقسامي بني جمالني ثقافيني تتم حماولة تعميقه يف
47<br />
2 0 1 1<br />
البيئة الواحدة، وهو التطلع نحو تكريس املضمون اخلايل<br />
من الدللة حني يتم ربط املثقفني باملقهى، بحساب<br />
تعميق الامصوؤولية، فاملواقف الصادرة عنهم على حد<br />
زعمها ل متثل يف القيمة سوى حديث مقاهي، وبهذا<br />
فاإن مطالب احلرية التي ينادون بها ل تساوي شيئا.اإنه<br />
التداخل يف املواقف املنطوي على اخلوف من الطرف<br />
القوي والزدراء والتحقري للآخر، حيث الزدواجية التي<br />
تفرتضها املس بيل، بناء على املوقف املسبق الذي تتخذه<br />
من الأفندية، باعتبار ارتباطهم بالدولة العثمانية،<br />
وكيف اأنهم باتوا عاطلني عن العمل، وما قدمته حكومة<br />
الحتال من تشغيل لهم من دون اأن يوؤدوا عما.<br />
جاء الحتال الربيطاين ليتم العمل على تصفية<br />
الرتكة العثمانية، حتى نال الأفندية حظهم من هذا<br />
التوجه. ليتعرضوا اإىل التصفية والإقصاء والتهميش،<br />
حتى اأن الأوضاع املزرية التي نالت منهم، جعلت الكثري<br />
منهم، يعيش اأوضاعا اجتماعية صعبة، جعلتهم ينقمون<br />
على قوات الحتال التي اأضرت مبصاحلهم، فما كان<br />
منهم سوى اللجوء اإىل املقهى الذي استوعب حضورهم،<br />
وغدا مبثابة الفضاء التصايل ملا يفكرون فيه، ومل يعدم<br />
هوؤلء من توجيه الراأي العام نحو رفض قوات الحتال،<br />
ل سيما اأنهم ميلكون حظهم من التعليم واملتابعة لصوؤون<br />
العامل بحكم اطاعهم على الصحف.ومن واقع الدور<br />
الذي لعبوه يف ثورة العراق عام 1920 مل يرتدد الإنكليز<br />
من تغيري موقفهم، فبعد اأن كانوا ينظرون اإليهم بازدراء،<br />
مل يرتددوا بعد نهاية الثورة من العتماد عليهم يف تسيري<br />
. ) 16(<br />
صوؤون الكثري من املرافق الإدارية احلكومية<br />
كيف ميكن ترصد دور الأفندية يف احلكم اجلديد<br />
الذي شهده العراق اإبان العشرينات من القرن العشرين.<br />
لقد قيض لهم التمدد يف جمال العمل السياسي، حتى<br />
راحوا يوظفون خرباتهم الإدارية القدمية يف حتديد<br />
املواقف من السلطة، ليتم لهم استخدام صاح املعارضة<br />
بوجه احلكومة، يف سبيل الضغط من اأجل الوصول اإىل<br />
احلكم. فالأفندي اأمامه طريقان فقط: ديوان احلكومة<br />
حيث املنزلة والقوة والسلطة والنفوذ، اأو املقهى حيث<br />
النفي والإقصاء والتهميش. ومن هنا جاء مدار اللعب<br />
بالشعارات. فالوطنية والستقال وخدمة الشعب، باتوا<br />
مبثابة راأس املال الرمزي الذي يتحصن به املعارض يف<br />
سبيل الوصول اإىل مطاحمه، لكن عندما يتسنم منصبه<br />
احلكومي، نراه يعمد اإىل التربير والتعلل بالظروف<br />
واأهمية النظر اإىل املستقبل بتفاوؤل، ومن هذا الواقع مل<br />
يرتدد الأفندي يف السعي نحو تعميق عاقاته الفرعية مع<br />
جممل القوى الجتماعية والسياسية، حتى برز التحالف<br />
مع العشائر تارة، اأو اجليش تارة اأخرى، اأو اخلوض يف<br />
. ) 17(<br />
املوؤامرات مع الأطراف املنافسة<br />
عرف العراقيون اأغنية الأفندي بصوت صديقة<br />
املاية )الأفندي عيوين الأفندي اهلل يخلي صربي،<br />
صندوق اأمني البصرة( و صربي اأفندي )صربي<br />
حممد اآل ما سلمان( املتوفى عام 1963 هو صندوق<br />
اأمني البصرة، اأرادت املطربة البصرية حسنية اأن ترد<br />
له اجلميل عام 1916، بعدما دفع عن ولدها البدل<br />
النقدي كي ل يساق اإىل اخلدمة العسكرية خال العهد<br />
العثماين. من جانب اآخر، شهد القضاء العراقي يف<br />
سبعينات القرن العشرين، رفع قضية حق شخصي باإزاء<br />
جدال دار بني شخصني، اأطلق فيه اأحدهم لقب الأفندي<br />
بحق الآخر، مما عُ د حتقريا وتعرضا وانتقاصا، اإنه<br />
الدال نفسه، لكن املدلول تغري يف التداول الجتماعي،<br />
اإنه الرتاكم الجتماعي الذي جعل من املدلول التبجيلي<br />
يتحول اإىل مدلول تعريضي لينم عنه سوى رد الشرف<br />
عن طريق القضاء.<br />
االتصال وتاأويل الهوية<br />
كيف ميكن النظر اإىل التصال، هل هو اأداة اأم<br />
جمرد مفهوم عائم غري حمدد املعامل.وما مدى املصوؤولية<br />
التي ميكن اإلقاء تبعيتها عليه يف جمال استيعاب سلوك<br />
الفرد داخل املوؤسسة اأو املجموعة الجتماعية، وطبيعة<br />
العاقات القائمة بني الأفراد والتاأثر والتاأثري الناجم<br />
عن ذلك، واستيعاب البنى الجتماعية من حيث كليتها،<br />
والتحويات التي تتفاعل داخلها، وعميلة الضبط الذاتي<br />
القائم فيها. ومن استيعاب فاعلية الأفراد ضمن نطاق<br />
هذه الفعاليات، تبداأ عملية التحديد يف الإصارة اإىل<br />
موضوعة املبادرات، التي تستوعب يف بنيتها املفهومية؛<br />
اأبحاث
2 0 1 1<br />
48<br />
املعارف واملواهب والإبداع، التي متيز النشاط الفردي<br />
عن باقي املجموعة الجتماعية.<br />
يقود تفاعل الفرد مع الوسط الجتماعي، نحو<br />
جملة من املدركات التي تكون فيها املطابقة والختاف<br />
مع الآخرين الأبرز فيها، على اعتبار اأن الإنسان كائن<br />
اجتماعي يسعى اإىل حتقيق ذاته، من خال عاقته مع<br />
املجموعة التي توفر له الوسط الذي ميكن اأن يتفاعل<br />
معه. اإن كان على صعيد تطمني حاجات الأمن والروابط<br />
النفسية والعاطفية، اأو على صعيد توفري احلاجات<br />
الذاتية واستيعاب نشاطه الذهني والفكري والإبداعي.<br />
ول يقف الأمر عند هذا احلد، بل اإن عاقة التفاعل<br />
مع الآخرين تقوده نحو بلوغ العديد من احللول، التي<br />
تكاد تكون يف حكم املستحيلة اإذا ما متت مواجهتها<br />
فرديا. ومن هذا يربز مفهوم التواطوؤ الجتماعي حول<br />
املعاين، وبالقدر الذي يقوم فيه هذا املفهوم على العاقة<br />
اجلدلية، فاإن الرتباط النهائي فيه يغيب، هذا بحساب<br />
البحث عن مستوى من املرونة، التي تتمثل يف حاجة<br />
الفرد اإىل حتقيق ذاته، من خال تاأكيده فردانيته<br />
18( ) . ومهما<br />
وكينونته، وبقدر معني من التبعية للآخرين<br />
حاول الفرد الإبقاء على اآلية العاقة مع الآخرين، فاإن<br />
اجلانب الشعوري يفرض نفسه على صعيد الواقع، ويوؤدي<br />
اإىل اأداء فعالية التواصل التي تثمر عن التصال.<br />
ل ميكن لأي جمموعة بشرية اأن توؤدي وظائفها<br />
من دون الستناد اإىل فعالية التصال. وتربز اأهمية<br />
هذه احلاجة يف نظام الإشارات الذي ابتكره الإنسان<br />
البدائي، الذي تدرج يف تطوره اإىل النظام الصوتي.<br />
لكن حدة التصال وتنوع اجلماعات البشرية اأبرز نوعا<br />
من التصال، مرتبط بطبيعة البيئة واملكان والنشاط<br />
الإنساين، وهكذا صارت الرغبة ملحة يف ابتكار النظام<br />
التصايل الذي يضمن سرعة وصول الرسالة، فكانت<br />
الأصوات املميزة اأو الدخان اأو الأضواء، لكن هذه الفعالية<br />
كانت تخضع ملحدودية التفاعل، على اعتبار بطء حركة<br />
املجتمعات البدائية، لكن هذا الوضع سرعان ما ينقلب<br />
حني تتم دراسته يف العصر احلديث، اأو التحول الهائل<br />
الذي شهده مفهوم التصال يف العصر الراهن، والذي<br />
راح يعرف ب عصر التصال والثورة املعلوماتية.<br />
التصال بشكله التجريدي يكون من الوسائل<br />
التي توطد لعاقات الجتماعية بني الأفراد اأو حتسني<br />
صورة فرد داخل جمموعة بشرية، لكن حني تتعقد<br />
وسائل التصال وتستند يف فعاليتها على نقل الأفكار،<br />
فاإن الأمر سيتخذ شكا اآخر يقوم على اأهمية البناء<br />
الذاتي وتنمية املهارات واملعلومات، ليتمكن الفرد من<br />
التفاعل مع املجموع. ومن هنا قيض للعلوم الإنسانية<br />
الولوج يف ميدان التصالت، وراحت تغذ اجلهود يف<br />
19( ) عرب<br />
جمال الدراسات الألسنية والدللية والعاماتية<br />
الستناد اإىل الوظيفة الإباغية التي تسعى نحو بلوغ<br />
اأهداف حمددة.<br />
املرسل - املوضوع - املرسل اإليه<br />
املساعد –الذات - املعارض<br />
هذه اخلطة التي وضعها غرمياس تقوم على الشمول<br />
ملختلف الفعاليات، وهي ل تتوقف عند النص الأدبي، بل<br />
حتاول التغلغل يف دراسة املستويات املختلفة للخطاب،<br />
سواء كان على مستوى السطح اأو العمق، بعبارة اأخرى<br />
بني السرد والنص. فالعاقات تتجلى من خال بنيتها<br />
الرتكيبية، حيث يتم النتقال من النص اإىل السرد، هذا<br />
بحساب اأن استقصاء التحول يف تركيبة العاقات، يتم<br />
20( ) ،حيث<br />
من خال الغور يف تفصيات النسق والإجراء<br />
يقدم لنا النسق حتديدا ملكانة احلدث داخل العمل<br />
السردي.<br />
ترميم الهوية<br />
يف السرية الشعبية للظاهر بيربس تربز حالة<br />
من الحتاد بني الذات واملوضوع عرب رغبة الراوي يف<br />
اإلغاء التاريخ املكتوب – املعروف – املتداول، والبحث<br />
عن اأنساق تولدها الذات يف املوضوع من خال تركيز<br />
الراوي الذي ميثل املصدر، والسرية التي متثل الهدف.<br />
بحساب اأنه لميكن احلديث عن ذات من دون عاقة<br />
مع املوضوع، كما ل ميكن احلديث عن ذات فاعلة من<br />
دون وجود غاية اأو هدف.فالبنية العامة لسرية الظاهر<br />
بيربس تقوم اأول على العاقة الفاعلة بني الذات التي<br />
ميثلها الراوي يف السرية، واملوضوع الذي متثله السرية
49<br />
2 0 1 1<br />
كعمل اأدبي متكامل. اإن التاريخ املعروف واملنطقي ميثل<br />
عامل املعيق يف عناصر السرد، فالكاتب يعمد اإىل نوع<br />
من التعمية اأو زحزحة يف مواضع تاريخية بعينها، حيث<br />
يقوم بانتقائها، فهو يختار عناصره التاريخية احلقيقية،<br />
ويبداأ باجناز لعبته الزمانية على شخصيات السرية<br />
الرئيسة، مفتتحا تبادل الأدوار وصول لسرد اإباغي<br />
مضمونه الظاهر وغايته تقدمي النصيحة والعظة.<br />
يختار الراوي شخصية اخلليفة املقتدي الذي حكم<br />
خال الفرتة 487-467 هجرية، والذي عرف عنه<br />
عنايته باجلانب الأخاقي حيث منع هواة تربية الطيور<br />
من الصعود اإىل الأبراج فوق سطوح املنازل، حفاظا<br />
على حرمة بيوت اجلريان، واخلليفة املقتدي ليس له<br />
اأي عاقة بسقوط بغداد، اأما اختيار شخصية الوزير<br />
فاإنه يتم عرب انتقاء وزير اخلليفة املستعصم 656-640<br />
هجرية، حيث سقطت بغداد على يد هولكو قائد اجليش<br />
املغويل. الراوي هنا يعتمد على انتظام السرد الروائي<br />
واأفعال الشخصيات حول غاية واحدة، تدور يف فعل يقوم<br />
على ( بداية – وسط- نهاية(من اأجل بلوغ الهدف الذي<br />
تسعى اإليه، حيث الرسالة الأخاقية، والشرتاط يف<br />
ذلك عدم اخلضوع لنسق السرد التاريخي، كما يشري يف<br />
)21 ) . كما اأن الرتباط بني الأحداث<br />
ذلك اأرسطو طاليس<br />
يجب اأن تسودها العرضية، فالقصة ل تقوم مهمتها<br />
على تفسري الأحداث التاريخية فقط، بل ل بد من التنبه<br />
اإىل عاملي السرد واخلطاب، حيث تقوم عليهما مهمة<br />
استكناه الأفكار التي يحملها النص. ومهما بلغ السرد<br />
التاريخي من قدرة على توضيح العاقات الإنسانية،<br />
فاإنه يعاين من الوهن حني تتم مقارنته مع السرد<br />
اخليايل، والذي يتضمن ممارسة اأعمق يف جمال تقدمي<br />
التجربة الإنسانية. والراوي هنا يجنح اإىل تقدمي اخليال<br />
، ) 22(<br />
كي يحمّ ل النص اإضاءة اأشد عمقا للمجال الإنساين<br />
وهو يف اأشد احلاجة اإىل ذلك، اإنه يحاول اأن يكثف<br />
املعنى التاريخي يف موقفني: ريبي وصويف، ليكون اأشد<br />
وثوقا مع املعنى الذي قدمه كارل مانهامي حول مفهوم<br />
. ) 23(<br />
التاريخانية املطلقة<br />
ميكن رصد العناصر العاملة يف سرية الظاهر<br />
بيربس يف املفتتح، حيث تكون الإشارة وفق العاقات<br />
القائمة على اجلهاد والتنبيه واملصلمني، نصرة<br />
الإصام، الظاهر بيربس، الكفار. ولنعمل على استدلل<br />
هذه العوامل مبحاور ثاثة: الرغبة بني الذات واملوضوع،<br />
اأي الربط بني بيربس وتنبيه الأمة اإىل اخلطر املحدق<br />
بها. والإباغ بني املرسل واملرسل اإليه عرب العاقة بني<br />
اجلهاد الفريضة الواجبة، ومدى عاقتها باملسلمني،<br />
والصراع بني املعارض واملساعد، اأي بني الكفار ونصرة<br />
الإصام. وعلى اعتبار اأن السرية تقوم على توليد احلكي<br />
داخل احلكي، فاإننا سرعان ما جند اأنفسنا اإزاء حكاية<br />
جديدة، تكون عناصرها العاملة: وزير املستعصم،<br />
اململوك جابر، اخلليفة املقتدي وراأس جابر، والأعداء<br />
وموضوع الهجوم الذي يرغب فيه الوزير انتقاما من<br />
اخلليفة. والرغبة هنا ستقوم على راأس اململوك جابر<br />
وحتقيق الهجوم.<br />
الهوية املاكرة<br />
ل يرتدد السارد من انتقاء عنصر التحريك يف<br />
اخلطة السردية وتاأسيسه على اململوك جابر، »واأما<br />
ما كان من اأمر الوزير )...( دعا مبملوك عنده يقال<br />
له جابر )...( فقال له يا سيدي وما تكون اأخربين<br />
بها واإن شربت من اأجلها كاأس املنون، فقال له اأريد<br />
اأن اأرسل معك رسالة اإىل امللك منكتم، ولك بعد ذلك<br />
عندي خمسمائة دينار وخلعة سنية واأنت فيما بعد ذلك<br />
)24 ) يحاول السارد هنا اإنتاج معنى<br />
حر لوجه اهلل تعاىل«<br />
لتحقيق غاية، فاخلطاب يقوم على املرسل الذي يستند<br />
على الذات عرب العاقة بني الوزير وراأس جابر، وهذا<br />
ل يخرج عن حلظة انتقاء ثقايف مارسها الوزير بحق<br />
مملوك مت حتديد ثمنه )خمسمائة دينار وخلعة سنية(.<br />
يبداأ الراوي من خال عنصر التحريك يف توجيه<br />
خطابه السردي، اإنه ميثل النطاقة التي تبداأ بها<br />
الأحداث والتصورات الثقافية التي تغلفها. وعلى هذا<br />
فاإن الختيار الذي ميارسه الراوي عرب حكاية اململوك<br />
جابر، توضح الجتاه الفكري الذي يتبناه، اإنه يعرض<br />
بالعقل التاآمري للوزير،بل اإنه يشري اإىل حتمية سقوط<br />
الشر، املوت الذي سيطال اململوك والوزير لحقا، وهكذا
2 0 1 1<br />
50<br />
يكون فعل الإقناع على الوزير وفعل القبول على راأس<br />
اململوك، ومن هنا تدخل احلكاية يف حلظة الأهلية التي<br />
متثل قدرة الذات على الفعل، وعلى اعتبار اأن جابراً يف<br />
كله مملوك للوزير، فاإن اأجزاءه -ومنها راأسه- ما هي<br />
اإل ملك للوزير.<br />
ناأتي هنا اإىل حمور الإجناز، السرية تقول اإن جابراً<br />
هو الذي اأجنز املهمة، لكن هذا سيقودنا اإىل حتديد<br />
عاقة من نوع جديد، فجابر جمرد حامل رسالة<br />
ل يعرف حمتواها، هو يعرف وجهتها لكنه ل يعرف<br />
مضمونها، لكن الوزير يعرف اجلهة واملضمون. وعليه<br />
فاإن الوزير يتمكن من حتديد وجهة الصراع من خال<br />
اتصاله باخلارج، ويعرب عن سيطرته على اململوك عرب<br />
التحفيز الذي يقدمه له. وهو صاحب الفكرة )الرسالة(<br />
عرب وشمها على راأس اململوك.لكن اجلزاء يفصح عن<br />
نهاية الوزير على يد امللك الأعجمي، وهكذا يكون املسار<br />
السردي للمرسل )الوزير( الذي ميثل السلطة واأداة<br />
التحريك نحو الذات من اأجل اإجناز الفعل واملوضوع<br />
الذي يهدف اإليه. فيما يبقى الصوؤال حول عدم تفكري<br />
الوزير بالعواقب، هل كان حتت تاأثري الفكرة املاكرة<br />
التي عنت عليه، وتناسى النتائج التي ترتتب عليها مهمة<br />
تسليم الباد اإىل الأعداء. وهو يف الرسالة التي كتبها<br />
على راأس جابر يعرتف للملك منكتم قائا: »واأنت اأحق<br />
25( ) وبهذا<br />
بالسلطنة لأنها من قدمي الزمان جلدك امللك«<br />
فاإنه يكون واعيا لفعل التحفيز والتحريك، اإنه يوؤلب<br />
ويحرض امللك واضعا اأمامه املربرات التاريخية، فيما<br />
مل يغب عنه اأن يطلب اجلزاء، حني يضع نفسه يف دور<br />
ل يقل عن دور امللك؛ »ونفنيهم اأجمعني ومنلك الأرض<br />
)26 ) لكنه يعمل على اإخفاء<br />
والباد وتطيعنا كل العباد«<br />
الرسالة بوشمه اإياها على راأس جابر، ويوصي امللك<br />
بقتل اململوك، كي يكون السر بني اثنني فقط.<br />
ماذا اأراد الوزير من اخلفاء، هل الستتار فقط اأم<br />
اأنه اأراد التخلص من مملوكه، هذا الأخري الذي يقدمه<br />
الراوي طائعاً مستعداً لشرب كاأس املنون يف سبيل سيده،<br />
واأن يُقتل من اأجل اإخفاء السر. هل كان الوزير بخيا<br />
بحيث اأراد التملص من دفع املكافاأة اإىل اململوك يف حال<br />
بقائه على قيد احلياة، أو اأنه اأراد التخلص منه لرتكابه<br />
ذنبا ما، ترى هل هي لعبة سردية قام بها الراوي لإنهاء<br />
دور جابر والتفرغ للحكايات اجلديدة.<br />
دعونا نقف على الرتكيبة السردية للحكاية، ولنبحث<br />
يف اأمناط اجلملة واملقطع والنص من خال وضع اليد<br />
على اأصغر وحدة سردية، ليمكن لنا دراسة عاقات<br />
الثبات والتحول يف اجلملة، حيث ميكن وضع خاصة<br />
للحكاية يف جملة من نوع )قتل امللك رسول الوزير(<br />
اأو جملة من نوع )خان الوزير السلطان(. وبدراسة<br />
العناصر املوؤلفة للجملة جند اأن العنصر الثابت يتمثل<br />
يف )قتل( اأما عناصر مثل: امللك، الرسول، الوزير فتعد<br />
متحولة. كذلك احلال بالنسبة لفعل اخليانة الذي ميثل<br />
العنصر الثابت، اأما الوزير، السلطان، فهي عناصر<br />
متحولة. واجلملة ميكن لها اأن تشري اإىل عاقة من<br />
نوع اآخر، تتمثل يف الفاعل واملوصوع، لتتم الوظيفة<br />
الرتكيبية، اإذ اأن اجلملة تستند يف قوامها اإىل مكونني:<br />
الفاعل- املسند اإليه، والفاعل يتاألف من اأسماء العلم،<br />
والشخصيات الإنسانية ولهم القدرة على اأداء الدور<br />
وفيهم العامل الذي يدرس من حيث تاأثريه وقدرته على<br />
اأداء الدور سلبا اأو اإيجابا، اأو من حيث الفائدة التي ميكن<br />
27( ) . ومبا<br />
اأن يجنيها اأو اخلسارة التي ميكن اأن تلحق به<br />
اأن القصة تقوم على النتقال من وضع اإىل اآخر، فاإن<br />
دور احلوافز فيها يكون وفقا للوضع، فاحلوافز تشمل<br />
احلركية والسكونية، وهذا ل يخرج عن العاقة القائمة<br />
بني املصدر والفعل.<br />
فاعلو احلكاية )الوزير -اململوك جابر- امللك<br />
منكتم(، فامللك والوزير يكونان مبثابة الصفة التي<br />
حتدد العاقة باململوك، الذي يكون عبدا للوزير صاحب<br />
احلق يف تقرير مصريه، فيما يكون اأمام امللك جمرد<br />
رجل من العامة توؤهله صاحياته لثوابه اأو عقابه باعتبار<br />
السلطة العليا التي ميتلكها. لكن الضطراب يحدث<br />
حني يطلب الوزير من امللك قتل جابر، فالعرف يقوم<br />
على احرتام الرجل لوعده، والوزير هنا يخون الوعد،<br />
املضمر يف احلكاية يخربنا عن نهاية اأو موت الوزير يف<br />
اللحظة التي نقش فيها على راأس اململوك خرب موته من
51<br />
2 0 1 1<br />
اأجل حفظ السر.ويبقى الصوؤال من قتل جابر، هل هو<br />
الوزير اأم امللك؟ ومن هو القتيل اململوك اأم الوزير؟ فيما<br />
يربز الصوؤال حول حمور الصراع واملتمثل بني املسلمني<br />
والكفار، وكيف تكون ردة فعل الطرف الثاين، اإذا ما<br />
قيض له السيطرة على مقدرات املسلمني.<br />
من هو البطل يف احلكاية، هل هو القادر على اإجناز<br />
الأفعال املهمة واخلارقة، من ميلك املقومات التي توؤهله<br />
لاإجناز والقدرة على اأداء الأفعال، والسرية تشري<br />
بكل وضوح اإىل الإمكانات املرتبطة بشخوص احلكاية<br />
فاخلليفة املقتدي له ولدان وميلك اثنا عشر األف حمارب،<br />
وامللك منكتم له ولدان اأيضا لكنه ميلك خمسة اأضعاف<br />
ما ميلكه املقتدي من جيش، اإذ ميلك ستني األف حمارب.<br />
اأما الوزير فليس لديه سوى ولد واحد، وبهذا فاإنه ل<br />
يساوي اخلليفة اأو امللك يف جمال البنني، واأما ما ميلكه<br />
من املال ومهما بلغت قيمته، فاإنه يبقى خامل الذكر اإذا<br />
ما قورن بقوة العسكر واجليوش. بالنسبة للملوك فاإنه<br />
مقطوع النسل، اإنه ل اأحد، وحتى السعر الذي حددت<br />
به املكافاأة )خمسمائة دينار( جاءت يف دللتها ناقصة<br />
غري مكتملة، اإذ مل تصل اإىل حد الألف دينار، التي اعتاد<br />
على نطقها العظماء والكبار يف احلكايات والقصص.<br />
احلدث الأهم يف بنية احلكاية يقوم على الرسالة<br />
التي وُضعت يف وجهها العراقيل، وصارت تواجه الأسوار<br />
العالية والأبواب املحصنة واحلراس الأصداء. وهنا<br />
ميكن الوقوف على جملة من املعطيات التي تقدمها<br />
موضوعة الرسالة يف احلكاية، اإذ اأن الطريقة التي متت<br />
بها كتابتها قامت على فكرة جهنمية، ل تخطر على بال<br />
اأحد، ول تصدر اإل عن عقل متحفز. وهناك عنصر<br />
التبليغ والذي عرب عنه يف وصل الرسالة اإىل غايتها<br />
بنجاح. كما اأن الراأس يحتل مكانة مميزة على اعتبار اأنه<br />
املستودع العقلي املصوؤول عن الأفعال الإرادية والشعورية،<br />
واختياره يدل على الأهمية، لكنه ل يخلو من معطيات<br />
دللية تقرتب اإىل حد بعيد من فكرة املوؤامرة والتحايل،<br />
اإذ درجت العرب على القول )راأس الفتنة(. وتربز لنا<br />
مصاألة املصوؤولية، فاخلطة املحكمة التي استندت عليها<br />
عملية تنفيذ وصول الرسالة، اأخذت باأهمية املصوؤولية<br />
عرب اختيار )عبد مملوك( ل دية له، مقطوع النسل ل<br />
اأحد يصاأل عنه، والبحث عن ضمان اإخفاء السر املكتوب<br />
عن طريق الشعر يف حياة جابر، والرتاب يف حالة موته.<br />
اأما العنصر الذي نقف عليه يف شكل العاقات فاإنه يقوم<br />
على )العهد( فالرسالة حقل اتصايل بالطرف الآخر،<br />
ميكن اأن يتناول املواضيع باأسلوب تفاوضي يستوعب<br />
القبول اأو الرفض، وهناك عنصر )املعرفة( فالرسالة<br />
حتمل الأخبار وتشرح الأوضاع والأحوال.<br />
بقيت مصاألة لغة الرسالة، هل كانت العربية اأم<br />
الفارسية على اعتبار اأنها موجهة اإىل ملك فارسي،<br />
الواقع يشري اإىل عدم وجود ملك فارصي يف تلك<br />
احلقبة، اأما اللغة فكانت العربية على اعتبار اأنها لغة<br />
الثقافة السائدة، والراوي اأشار يف ذلك اإىل اأنها ليست<br />
لغة املسلمني فقط، بل حتى غري املسلمني، على اأساس<br />
الزمن الثقايف العربي السائد.<br />
حتوالت الهوية الثقافية<br />
كان الأدب العربي حبيس جنس اأدبي واحد، متثل<br />
يف فن الشعر الذي توافق مع طبيعة الفعاليات الثقافية<br />
السائدة يف املجتمع العربي، حيث الشفاهية، وكان اإىل<br />
جانبه فن اخلطابة الذي استجاب للمتطلبات ذاتها،<br />
فراح يتوسل اأساليب السجع واحلكمة واملثل والوصية<br />
واحلكاية، لكن هذه احلال صرعان ما تغريت بعد<br />
انفتاح العرب على الآخر من خال حركة الفتوح، اإذ<br />
بداأت موؤثرات الحتكاك تظهر يف اأكرث الأجناس الأدبية<br />
خصوصية، وهو فن الشعر، حيث تبدى واضحا الأثر<br />
السردي والقصصي فيه، وكان للرتجمة اأثرها الواضح<br />
يف جتديد الأنواع الأدبية املعروفة، ودخول اأنواع جديدة<br />
من احلكايات الشعبية واخلرافية على اللسان العربي<br />
شفاهية، بعد حالة التصال الجتماعي مع البلدان<br />
واملفتوحة، وصار املحيط الجتماعي يتداول حكايات<br />
األف ليلة وليلة، واأبطال السري الشعبية، حتى كانت<br />
الأرضية التي استندت اإليها احلكايات والسري الاحقة<br />
التي ظهرت يف العصر اململوكي، والتي عربت عن منوذج<br />
جمعي، فيه من الأرشيفية الشيء الكثري، على اعتبار ما<br />
تعرضت له الأمة من تخريب ونهب وتدمري، كان موجها
2 0 1 1<br />
52<br />
لصميم الثقافة العربية وحضارتها.<br />
الإنتاج الأدبي لأية اأمة ل ميكن سلخه عن النتاج<br />
الإبداعي الإنساين، اأو اإخراجه عن عاقاته التاريخية اأو<br />
تبادلته احلضارية. فالنص الأدبي ومهما كانت طريقة<br />
دراسته يف السطح أو العمق، يف الداخل أو اخلارج، يبقى<br />
مرتبطا بخصوصية التجربة النتاج من حيث ميكن رد<br />
كل جنس اأدبي جديد اإىل اأصوله يف جنس اأدبي اآخر،<br />
من خال الإصارات البسيطة. اأما ظاهرة املحاكاة<br />
العامة والشاملة جلنس اأدبي فلم تظهر ماحمها، اإل يف<br />
العصر احلديث.<br />
املبدع – التواصل – الذات والآخر.<br />
الأصالة –الأدب العربي- التقليد.<br />
يف حمور الرغبة تلتقي الذات باملوضوع من خال<br />
املقابلة بني الأدب العربي وفعل التواصل، اإن التقاء<br />
هذين العاملني ل يخرج عن طبيعة التقاء العوامل<br />
الأخرى يف املضمون الواحد. وها نحن اأولًِ -ضمن هذا<br />
املحور- جند اأهمية التبصر بالوضع الراهن لأحوال<br />
الأدب العربي، من حيث البحث عن خلل اأو مشكلة<br />
كامنة فيه، والسعي اإىل رفضها اأو الربهنة عليها. اأو<br />
السعي اإىل اإيجاد حالة جديدة يجب اأن يكون عليها. اإننا<br />
نبحث يف عملية التحول القائمة على حمور التضاد فيما<br />
بني الأصالة والتقليد، لنستشف اأن الأصالة متثل حالة<br />
التحول الإيجابي للتقليد، والنتقال اإىل مثل هذا التحول<br />
يقوم على اأساس قدرة املبدع العربي على تاأسيس عاقة<br />
قائمة على الوعي باملعطيات واملفاهيم واملرتكزات التي<br />
يقوم عليها الأدب الأصيل.<br />
واإذا كانت العاقات الوظيفية حتدد الإجناز ببلوغ<br />
التواصل على اعتبار استنادها اإىل املوضوع، فاإن عنصر<br />
احلفز واحلركة والتفعيل ل يقوم اإل على الذات التي<br />
ميثلها الأدب العربي، يف النموذج التكويني القائم على<br />
العاقات بني عوامل من نوع ؛ املبدع - التواصل - الذات<br />
والآخر- الأصالة - الأدب العربي- التقليد.
53<br />
2 0 1 1<br />
الهوامش واالإحاالت<br />
1انظر: فرانسوا ليوتار، الوضع ما بعد احلداثي، ترجمة اأحمد حسان، دار شرقيات، القاهرة 1994، ص . 34<br />
. 1 2انظر: برنال، العلم يف التاريخ، ترجمة شكري اإبراهيم سعد، املوؤسسة العربية، بريوت 1982، املجلد 2، ص 15.<br />
2. 3انظر: يورغن هابرماس، القول الفلسفي للحداثة، ترجمة فاطمة اجليوشي، وزارة الثقافة، دمشق 1999، ص 71.<br />
3. 4انظر: بول ريكور، الوجود والزمان والسرد، ترجمة سعيد الغامني، املركز الثقايف العربي، بريوت 1999، ص 84.<br />
4. 5حممد املويلحي، حديث عيسى بن هشام اأو فرتة من الزمن، دارف املحدودة، لندن 1985، ص 5<br />
. 6الأبشيهي، املستطرف يف كل فن مستظرف، دار مكتبة احلياة، بريوت 1995، ص 53<br />
. 7حممد املويلحي، املصدر السابق، ص 13<br />
. 8املصدر نفسه، ص 16<br />
. انظر: حممد بن احمودة، النرثوبولوجيا البنيوية اأو حق الختاف من خال اأبحاث سرتاوس، دار حممد علي<br />
9 احلامي للنشر، صفاقس 1987، ص16.<br />
1انظر: جاك دونت، هيغل والفلسفة الهيغلية، ترجمة حسني هنداوي، دار الكنوز الأدبية، بريوت 1994، ص 106<br />
0 . 5<br />
. 6<br />
. 7<br />
. 8<br />
9 .<br />
- 10<br />
107<br />
. 11<br />
. 12<br />
1انظر: عبداهلل العروي، مفهوم الأيديولوجيا، املركز الثقايف العربي، بريوت 1993، ص 59<br />
1 1انظر: سعيد الغامني، مئة عام من الفكر النقدي، دار املدى، دمشق2001، ص 19<br />
2 1لونكرك، اأربعة قرون من تاريخ العراق احلديث، ترجمة جعفر خياط، دار الرافدين، بريوت 2004، ص 338.<br />
313 1انظر: علي الوردي، ملحات اجتماعية من تاريخ العراق احلديث، دار الكتاب الإصامي، ل مكان 2005، املجلد 2<br />
414 ج 3، ص 10-9.<br />
. 15<br />
. 16<br />
. 17<br />
1املس بيل، فصول من تاريخ العراق القريب، ترجمة جعفر خياط، دار الرافدين، بريوت 2004، ص 392<br />
5 1انظر: علي الوردي، ملحات اجتماعية، املجلد الثالث، اجلزء اخلامس، القسم الأول، ص 40-38<br />
6 1انظر: علي الوردي، ملحات اجتماعية، املجلد الرابع، اجلزء السادس، القسم الأول، ص 320- 321<br />
7 1انظر: هورغ واآخرون، اجلماعة السلطة التصال، ترجمة نظري جاهل، املوؤسسة اجلامعية، بريوت 1996، ص 118.<br />
818 1انظر: سامي سويدان، يف دللية القصص وشعرية السرد، دار الآداب، بريوت 1991، ص 152<br />
9 2انظر: سعيد بنكراد، مدخل اإىل السيميائيات السردية، تانسيفت، مراكش 1994،ص 48<br />
0 انظر: اأرسطو طاليس، يف الشعر، ترجمة اأبي بشر القنائي، حتقيق شكري عياد، الهيئة املصرية العامة للكتاب،<br />
21 . 19<br />
. 20<br />
2 1<br />
القاهرة 1993، ص 130.<br />
. 22<br />
. 23<br />
. 24<br />
. 25<br />
. 26<br />
2انظر: بول ريكور، الوجود والزمان والسرد، ترجمة سعيد الغامني، ص 91<br />
2 2انظر: خليل اأحمد خليل، معجم مفاهيم علم الجتماع، معهد الإمناء العربي، بريوت 1996، ص 97<br />
3 2سرية الظاهر بيربس، الهيئة املصرية العام للكتاب، القاهرة 1996، املجلد الأول، ص 13<br />
4 2سرية الظاهر، ص 14<br />
5 2سرية الظاهر، ص 14<br />
6 2انظر: تودوروف، الشعرية، ترجمة شكري املبخوت ورجاء بن صامة، دار توبقال، الدار البيضاء 1990، ص 68.<br />
727 2ليوتار، فرانسوا، الوضع ما بعد احلداثي، ترجمة اأحمد حسان، دار شرقيات، القاهرة 1994<br />
8 2برنال، العلم يف التاريخ، ترجمة شكري اإبراهيم سعد، املوؤسسة العربية، بريوت 1982<br />
9 . 28<br />
. 29
2 0 1 1<br />
54<br />
. 30<br />
. ، 31<br />
. 32<br />
. 33<br />
3 4<br />
3هابرماس، يورغن القول الفلسفي للحداثة، ترجمة فاطمة اجليوشي، وزراة الثقافة، دمشق 1999<br />
0 3ريكور، بول الوجود والزمان والسرد، ترجمة سعيد الغامني، املركز الثقايف العربي، بريوت 1999<br />
1 3املويلحي، حممد، حديث عيسى بن هشام اأو فرتة من الزمن، دارف املحدودة، لندن 1985<br />
2 3الأبشيهي، املستطرف يف كل فن مستظرف، دار مكتبة احلياة، بريوت 1995<br />
3 بن احمودة، حممد، النرثوبولوجيا البنيوية اأو حق الختاف من خال اأبحاث سرتاوس، دار حممد علي احلامي<br />
34 للنشر، صفاقس 1987، ص16.<br />
3جاك دونت، هيغل والفلسفة الهيغلية، ترجمة حسني هنداوي، دار الكنوز الأدبية، بريوت 1994، ص 107-106<br />
535 3العروي، عبداهلل، مفهوم الأيديولوجيا،املركز الثقايف العربي، بريوت 1993<br />
6 3الغامني، سعيد مئة عام من الفكر النقدي، دار املدى، دمشق2001<br />
7 3لونكرك، اأربعة قرون من تاريخ العراق احلديث، ترجمة جعفر خياط، دار الرافدين، بريوت 2004<br />
8 3الوردي، علي، ملحات اجتماعية من تاريخ العراق احلديث، دار الكتاب الإصامي.، ل مكان 2005<br />
9 4بيل، املس، فصول من تاريخ العراق القريب، ترجمة جعفر خياط، دار الرافدين، بريوت 2004، ص 392<br />
0 4هورغ واآخرون، اجلماعة السلطة التصال، ترجمة نظري جاهل، املوؤسسة اجلامعية، بريوت 1996<br />
1 4سويدان، سامي يف دللية القصص وشعرية السرد، دار الآداب، بريوت 1991<br />
2 4بنكراد، سعيد، مدخل اإىل السيميائيات السردية، تانسيفت، مراكش 1994<br />
3 4طاليس، اأرسطو يف الشعر، ترجمة اأبي بشر القنائي، حتقيق شكري عياد، الهيئة املصرية العامة للكتاب، القاهرة 1993.<br />
444 4خليل، اأحمد خليل، معجم مفاهيم علم الجتماع، معهد الإمناء العربي، بريوت 1996<br />
5 4سرية الظاهر بيربس، الهيئة املصرية العام للكتاب، القاهرة 1996<br />
6 4تودوروف، الشعرية، ترجمة شكري املبخوت ورجاء بن صامة، دار توبقال، الدار البيضاء 1990<br />
7 . 36<br />
. 37<br />
. 38<br />
. 39<br />
. 40<br />
. 41<br />
. 42<br />
. 43<br />
. 45<br />
. 46<br />
. 47
التمثيل بالعلوم للعلوم<br />
عند ابن رشد<br />
د. فوؤاد بن اأحمد<br />
باحث من املغرب
57<br />
2 0 1 1<br />
Abstract<br />
امللخص<br />
الغرض من املقال هو احلديث عن استعمالت ابن رشد<br />
للأمثلة العلمية والفقهية. فمن املعروف عند املوؤرخني اأن<br />
الرجل كان فقيها وطبيبا وملما بالآداب العربية والعلوم<br />
الرياضية والفيزيائية؛ وقد كان من الطبيعي اأن يكون لهذه<br />
النشغالت تاأثريات ومداخل يف طبيعة اختياره لأمثلته يف<br />
نصوصه الفلسفية. الأمر الأول الذي وقف عنده املقال هو<br />
استعماله متثيات حمسوبة على هذه الدوائر العلمية التي<br />
هي يف الأصل تخصصات علمية لها اأصحابها العارفون<br />
بها. لذلك كان هدف املقال هو فحص مدى التزام ابن<br />
رشد بتلك القاعدة التي تلزم مُستعمل التمثيل باأن ميتلك<br />
علما متقدما باملعارف املمثل بها باعتبارها مقدمة يف<br />
حجته. كان التمثيل بعلوم التعاليم بقصد التشريع للنظر<br />
العلمي، وقد مكنت خصائص علوم التعاليم، من حتصيل<br />
هذه الغاية بالنظر اإىل يقينيتها وانفصالها عن بادئ<br />
الراأي، واقتضائها التعاون والتداول بخصوص ثمراتها. اأما<br />
الأمر الثاين فهو ما ميكن تسميته بصراع التمثيات عند<br />
ابن رشد، حيث يظهر املقال تنافس هذه الدوائر املعرفية<br />
والعلمية على احلضور يف نصوصه. فقد تخلى عن التمثيل<br />
بالعلوم الهندسية لصالح التمثيل بالفقيهات من اأجل اإثبات<br />
مشروعية الفلسفة واملنطق على الرغم مما تقدمه العلوم<br />
الأوىل من اإمكانات جناح التمثيل مقارنة بالثانية. حيث<br />
يظهر املقال اأن مقتضيات تداولية تتعلق بطبيعة املُخَ اطَ ب،<br />
جعلت مثال التعاليم غري ظاهر مبا يكفي له؛ يف حي كان<br />
مثال اأصول الفقه اأقرب فصا عن كونه يستويف الغرض من<br />
املثال الأول، اأي ضرورة التعاون والتداول.<br />
اأبحاث<br />
The article contends that Ibn Rushd’s<br />
extensive use of scientific analogies is<br />
purposeful. Known to Historians as a jurist<br />
and a physician who had an excellent mastery<br />
of Arab literature, Ibn Rushd had nourished<br />
interests in Mathematical and Physical<br />
sciences as well. These interests of Ibn<br />
Rushd’s had a great influence on the nature<br />
of the analogies that he used in his works as<br />
a philosopher. One of the main premises that<br />
govern the use of analogy within the realms<br />
of reasoning requires the user of analogies to<br />
have a full knowledge of the subject matter<br />
of the example. The present article attempts<br />
to examine the extent to which Ibn Rushd<br />
respects this rule as a premise to his argument,<br />
and to what ends. For Ibn Rushd, the purpose<br />
behind using mathematical examples was to<br />
legitimize scientific theorization in the Islamic<br />
world, and to set its rules of cooperation and<br />
exchange among scientists. The certainty and<br />
neutrality of mathematical sciences allow for<br />
this purpose. However, Ibn Rushd chose<br />
to substitute mathematical analogies by<br />
analogies of foundation of jurisprudence-- a<br />
science which is closer to the audience that<br />
he targeted in the first place. In fact, this is<br />
the main factor behind Ibn Rushd’s strategic<br />
choice to let go of mathematical examples.
2 0 1 1<br />
58<br />
التمثيل بالعلوم للعلوم عند ابن رشد<br />
د. فوؤاد بن اأحمد<br />
عندما نفحص مليا متثيات ابن رشد ومصادرها، جند دوائر معرفية كثرية كانت وراء تعدد هذه التمثيات<br />
وتشعبها وخصوبتها. لكن تقليدين علميني غالبني كانا مبثابة املرجع الذي يحيل عليه يف متثياته التي سعى من<br />
ورائها اإىل اإثبات مشروعية الفلسفة، وضرورة الستفادة من الأمم املختلفة. هذان التقليدان هما: الرياضيات<br />
1<br />
والفقهيات.<br />
اإل اأن اأمرين اثنني استاأثرا باهتمامنا يف متثيل ابن رشد بهاتني الصناعتني:<br />
الأول، تشديده على قاعدة تلزم مُستعمل التمثيل باأن ميتلك علما متقدما باملعارف املمثل بها )= العلوم<br />
التعاليمية والفقهية( باعتبارها مقدمة يف حجته، قبل اأن يَطلب دعواه التي من اأجلها يستعمل ذلك املثال.<br />
اأما الأمر الثاين فيحيل على واقع املمارسة النظرية لبن رشد. فعلى الرغم من الختاف الكبري بني علم<br />
التعاليم وعلم الفقه على مستوى هوية كل علم، وعلى مستوى مبادئهما ونتائجهما واملخاطب بهما، فاإنه مل يرتدد،<br />
مع ذلك، يف اأن يستخدمهما معا لأجل اإثبات ضرورة النظر والرتاكم العلميني، بل اأكرث من ذلك مل يتوان يف<br />
حلظة من حلظات التمثيل عن التخلي عن التقليد العلمي التعاليمي لصالح التمثيل بصناعة اأصول الفقه.<br />
اأما عملنا يف هذه الدراسة فسينصب اأول، على فحص مدى التزام ابن رشد بتلك القاعدة املقننة للتمثيل<br />
املشار اإليها. وثانيا، على مسوغات تراجعه عن التمثيل بعلوم التعاليم لصالح التمثيل بالصناعة الفقهية مع ما<br />
تقدمه العلوم الأوىل من اإمكانات جناح التمثيل مقارنة بالفقه.<br />
اأوال: مصادر التمثيل عند ابن رشد<br />
يقول عبد اهلل العروي: »عندما نتكلم عادة عن النص<br />
الأرسطي املضمن يف الكتب الثمانية )الأورغانون( نتكلم<br />
عن نص تقريري عاطل جمرد من كل سوابقه ولواحقه،<br />
يف حني اأن النص املفهوم لبد اأن يكون اأشمل واأعمق من<br />
ذلك. توجد خلف النص )املنطقي( الثقافة اليونانية<br />
باأصولها املختلفة« . 2 الواقع اأن هذه املاحظة املنهجية<br />
تصدق اإىل حد بعيد على جمموع نصوص ابن رشد<br />
املنطقية وغري املنطقية على حد سواء. فقد مت التعامل<br />
-لأمد طويل- مع فلسفته عموما بالقتصار فقط على<br />
منطوقها ورغبات صاحبها ومقاصده املعلنة، وبانفصال<br />
شبه تام عن املادة الثقافية التي نسجت منها هذه<br />
النصوص، وكاأنها اأمر لحق على النص لدواع عارضة<br />
ميكن الستغناء عنها يف شروط خمتلفة. واحلال اأن<br />
فحص الهواجس التي شغلت بال ابن رشد وحتكمت يف<br />
تعامله مع املصنف الأرسطي )سواء كان يف فن الشعر اأو<br />
اخلطابة اأو الربهان اأو ما بعد الطبيعة...( تُظهر اأنه مل<br />
يكن ينظر اإىل نصوص اأرسطو على اأنها نصوص مفارقة<br />
لثقافتها املنسوجة منها كليا اأو جزئيا.<br />
مثل النص كمثل »اجلهاز الهضمي، ل تدب فيه<br />
احلياة، ل يحمى يف ذهن املتقبل ويعود منتجا، اإل اإذا<br />
كسي بلحم وانتعش بدم متدهما به العلوم القطاعية« ، 3<br />
اأو اجلزئية، نظرية كانت اأو عملية. واإغفال جهات دخول<br />
املعارف التي راكمتها هذه العلوم يف اخلطاب الفلسفي<br />
هو الذي اأدى -كما اأشرنا يف مقدمة البحث- اإىل حصر<br />
املنطق يف الربهان والستنباط دون التمثيل والستقراء،
59<br />
2 0 1 1<br />
واىل جعله اآلة للتهذيب والعرض. 4 وباملقابل فمن صاأن<br />
النتباه اإليها اأن يوقفنا على قدرات التمثيل يف الكتشاف<br />
والبتكار من جهة؛ وعلى تفاوت مداخل واآثار هذه العلوم<br />
عند التمثيل بها يف القول الفلسفي الرشدي من جهة<br />
ثانية، فالتمثيل باحلروف غري التمثيل باملواد عموما،<br />
والتمثيل بزيد وعمرو غري التمثيل بعمر بن اخلطاب<br />
وعثمان بن عفان: ف»ل اأحد يستطيع اأن يدعي اأن تلقني<br />
املنطق الأرصطي اعتمادا على اأمثلة نحوية يساوي<br />
التلقني اعتمادا على شواهد ماأخوذة من الرياضيات<br />
العالية« )5( .<br />
ملا كان التمثيل والستعارة والتشبيه اآليات بها<br />
نعرب ونبلغ كما نسعى اإىل التاأثري؛ كان طبيعيا لتحقيق<br />
هذا الأمر بنجاعة، العمل دائما على املاءمة بني هذه<br />
الآليات وبني الغاية التي نطلبها. ومن هنا فا ينبغي<br />
لدراسة للتمثيل والستعارة والتشبيه واملثال اأن تقتصر<br />
على معاجلتها يف سياق خاص ويف اأفق خمصوص،<br />
لأن ذلك قد يوؤدي اإىل جعل ما يعود اإىل خصوصية<br />
الستعمال اأو السياق ذا طبيعة مضيقة. )6( لذا فاإن<br />
اأسئلة من قبيل: ما هي عناصر هذه الآليات؟ وما هي<br />
الأسس التي تقوم عليها؟ وما هي العوامل املتدخلة يف<br />
اختيار ابن رشد لهذه العناصر دون غريها ليستعملها<br />
عند تشغيله هذه الآليات؟ وما هي طبيعة العاقة بني<br />
هذا الختيار ومن يتوجه اإليهم ابن رشد باأقواله، هذا اإن<br />
كانت هناك عاقة ما؟ قلت اإن اأسئلة من هذا القبيل ل<br />
ميكن الستغناء عنها من اأجل الإحاطة بعملية التمثيل ل<br />
كصورة قياسية فقط، بل كمواد وشروط لهذا التمثيل.<br />
التمثيات والستعارات واملثالت قوية احلضور يف<br />
اخلطاب الفلسفي لبن رشد، وهو يف هذا ل يختلف<br />
عن سائر اخلطابات الفلسفية. وكرثة ورودها عند<br />
الرجل تعني حتديدا ورودها يف سياقات بعينها، وهذا<br />
ما يشجعنا على مراجعة اأحكامنا السائرة بخصوص<br />
فلسفته وبخصوص دور هذه الآليات ذاتها. ذلك اأن<br />
اأكرث ما اأحلت عليه الدارسات التي اأجنزت يف الأقوال<br />
الفلسفية لبن رشد اأحلت على مضامينها املعرفية<br />
واملذهبية، اأكرث مما حفلت بدور الآليات املنهجية التي<br />
بنيت بها هذه املضامني؛ بل قد نقول اإنه حتى واإن انتبهت<br />
قلة، يف سياق خصومة عرضية مع الفئة الأوىل اأحيانا،<br />
اإىل اأهمية فحص هذه الآليات، فاإنها حتصر احتفاءها<br />
يف صورتها اأو صورها املنطقية، ذاهلة عن الفحص عن<br />
مادة اأو مواد هذه الآليات التي استعان بها اأبو الوليد يف<br />
تشييده لأقاويله الفلسفية والعلمية وغريها.<br />
لعل مدار التمثيل عند ابن رشد كان على اأمرين<br />
اثنني: اأعني على مادة هذا التمثيل من ناحية وعلى<br />
صورته من ناحية اأخرى. فمادة التمثيل هي مقدماته<br />
التي تعتمد اأساسا ما هو مقبول عند كل الناس اأو جلهم<br />
لغاية الإقناع، وهذا وما ميكن اأن نسميه بعامل اخلطاب<br />
اأو القول. ونقصد بعامل القول جممل الكفايات املعرفية<br />
والثقافية التي تاأتي هذه املضامني واملواد مشكلة بها<br />
ومعتمدة عليها، بحيث تكون هذه املضامني اإما غريبة<br />
عن املخاطبني فيجعلها القول األيفة، واإما األيفة بدءًا<br />
فينطلق هوؤلء منها لتكوين اأحكام جديدة، وتبعا لذلك<br />
)7(<br />
تكون الأقوال نافذة اإىل املخاطبني بالسهولة املطلوبة.<br />
اأما صور التمثيل فقد تبني اأنها البناء اأو التاأليف الذي<br />
تتشكل وفقه مادة التمثيل لتوؤلف صورة استدللية ل<br />
تختلف عن باقي صور الستدللت الأخرى.<br />
واإذا تبني اأنه ل بد للتمثيل من مادة هي التي<br />
ميُ ثّل بها، فصا عن صورته، فاإنه ميكن بغري قليل<br />
من الختزال، اأن نردّ املواد التي كان ميُ َثّل بها عموما،<br />
اأي حمتويات التمثيل، اإىل تقاليد علمية سادت ليس<br />
يف القرون الوسطى فحسب، بل امتدت من العصور<br />
اليونانية حتى عصر النهضة مرورا بالقرون الوسطى<br />
الإصامية. ونعني بهذه التقاليد: التعاليم )وخاصة<br />
الهندسة( والبصريات والطب، هذا فصاً عن التقاليد<br />
اخلاصة باحلضارة الإصامية، من كاميات وفقهيات<br />
وبيانيات )قراآن، شعر، اأمثال...(. وهذا يعني اأن الأفكار<br />
والأقوال الفلسفية قد منت وتبلورت منذ البدايات الأوىل<br />
من خال دخولها يف حوار مفصل ومتميز مع هذه<br />
العلوم. وهذه الأمثلة املنتمية اإىل هذه العلوم القطاعية<br />
هي ما نحاول البحث عنه واإبرازه عند ابن رشد، وميكن<br />
تفصيل بعض مصادرها كالآتي:<br />
اأبحاث
2 0 1 1<br />
60<br />
<br />
الأمثلة الشرعية: حيث يظهر اأن ابن رشد مل يكن<br />
يكتب اأو يشرح نصوص اأرسطو اأو يرد على الفلسفة<br />
واملتكلمني، اإل واخلطاب القراآين الشرعي حاضر يف<br />
ذهنه، يستشهد به ويخضعه لقراءته )ميكن العودة اإىل<br />
فصل املقال والكشف عن مناهج الأدلة واأمثلة تلخيص<br />
كتاب الشعر وطريقة استثمار ابن رشد لقصة النبي<br />
يوسف...(. هذا فصا عن اإبرازه للجانب التمثيلي<br />
والستعاري يف اخلطاب القراآين، باعتباره يتجاوز<br />
الطريقة الكامية يف التمثيل والستعارة.<br />
الأمثلة الكامية )نسبة اىل علم الكام(: ل ميكن<br />
ملتتبع موؤلفات ابن رشد مبختلف اأجناسها وموضوعاتها،<br />
األ يدرك اأن ابن رشد كان مسكونا منذ بداية انشغالته<br />
الفكرية بهاجس الرد على علماء الكام، والأشاعرة<br />
بخاصة. ورمبا تكون تاآليفه املنطقية الأوىل )خمتصر<br />
املنطق( خري شاهد على ما نقول، لذلك كانت الأمثلة<br />
الكامية حاضرة بقوة يف كتاباته، وكان استعمالها<br />
لأمثلة عقدية مدخا لنخراطه يف ذلك النقاش النظري<br />
العقائدي، واإن كان دخول غري مباشر؛ ولن يكون مباشرا<br />
سوى يف كتاباته الأخرى، من قبيل الكشف عن مناهج<br />
الأدلة يف عقائد امللة.<br />
الأمثلة الشعرية: فاأغراض الشعر العربي من<br />
مدح وهجاء ورثاء ونسيب، كانت حاضرة يف ذهن ابن<br />
رشد وهو يشرح كتاب الشعر، والكتاب الثالث من كتاب<br />
اخلطابة وغريهما، وهي التي وجهت ابن رشد يف بعض<br />
اللحظات التاأويلية احلاسمة من قبيل شرح العبارات<br />
املتعلقة باملسرح، كما كانت هذه الأغراض حاضرة يف<br />
ذهنه وهو يشرح سياسة اأفاطون، وينبه اإىل خماطر<br />
القول الشعري واآثاره على الناس؛ ول ميكن اأن ننكر<br />
-باأي حال- دورها يف تقوميه ملنزلة الشعر والآليات<br />
الشعرية )استعارة، وتشبيه واإبدال(.<br />
اأمثلة العلوم اجلزئية: خطاب التعاليم، الهندسة<br />
وعلم الفلك والبصريات، وهنا ل ميكن لقارئ بعض<br />
نصوص ابن رشد العلمية، كتلخيص الآثار العلوية، اأو<br />
تلخيص احلس واملحسوس، اأن يذهل عن املادة العلمية<br />
املستمدة من علم البصريات يف زمن ابن رشد؛ كما ل<br />
ميكن اأن نتغافل عن املادة املستمدة من علوم التعاليم<br />
عموما )فلك، هندسة...( عندما نقراأ تلخيص وتفسري<br />
ما بعد الطبيعة. ولعل التعاليم هي التقليد العلمي الذي<br />
عادة ما يعمل موؤرخو الفلسفة على اإبراز حضوره القوي<br />
يف كل مستويات الشتغال الفلسفي للقدماء، وسواء<br />
كانوا من مناصري هذا التقليد اأو من اخلارجني عنه.<br />
واحلقيقة اأنه من الأهمية مبكان التنبيه على منزلة<br />
الأمثلة الرياضية والهندسية خاصة التي يستعملها ابن<br />
رشد على طول موؤلف ضخم من حجم تفسري ما بعد<br />
الطبيعة، على الرغم من قلة اشتغاله بعلوم التعاليم.<br />
كما اأن علما اآخر شديد الصلة بعلوم التعاليم، ومنفتحا<br />
على التجربة سيحظى هو الآخر بانشغال الباحثني<br />
وموؤرخي الأفكار العلمية وهو البصريات، الذي عُ دّ<br />
النموذج العلمي paradigm الذي يحال اإليه يف باقي<br />
العلوم والصنائع، ويحتذى يف انفتاحه ونهجه التاأليفي<br />
بني الستقراء التجريبي والستنباط الرياضي.<br />
اأما اخلطاب العلمي الآخر الذي كان يشكل<br />
مادة اشتغال ابن رشد يف متثياته واستعاراته يف كل<br />
النصوص تقريبا، سواء كانت نصوصا ميتافيزيقية اأو<br />
منطقية اأو كامية اأو فقهية، اأو كانت نصوصا موضوعة<br />
اأو شارحة، فهو اخلطاب الطبي بلوازمه واآلته من اأدوية<br />
واأغذية. غري اأن املثري لانتباه اأن ابن رشد مل يستعن<br />
بهذا العلم يف التشريع للنظر العقلي على اأرض الإصام،<br />
بينما مثل به يف قضايا التاأويل والفضائل وغريها.<br />
تعكس هذه القطاعات املعرفية التي استقى منها<br />
ابن رشد اأمثلته اأمرا اأوليا، هو تعدد انشغالت الرجل<br />
يف حياته الفكرية، فالرجل كان طبيبا وفقيها وعارفا<br />
بالآداب العربية. ولكن بقدر ما يسرت هذه الهتمامات<br />
املتعددة لبن رشد اإمكانيات كربى يف صياغة وبناء<br />
اأمثلته، كانت تظهر -يف بعض الأحيان- حمدودية<br />
تكوينه بخصوص بعض املجالت العلمية التي استقى<br />
منها اأمثلته.<br />
ثانيا: التمثيل بني الصناعة العلمية والعملية<br />
1. قيمة التمثيل بعلوم التعاليم<br />
مكّن علم التعاليم ابن رشد من مثال تتوافر فيه
61<br />
2 0 1 1<br />
شروط النموذج الذي يصلح اأن ميثل به لوجوب تداول<br />
الفحص عن املوجودات واحداً بعد واحد، واستعانة<br />
املتاأخر باملتقدم. ومن بني اأهم هذه الشروط طبيعة العلم<br />
ذاته، وطبيعة اشتغال العلماء به، ومنطق الكتشاف<br />
العلمي فيه. اأما اأهمها فهو دخول هذه الأمور ضمن ما<br />
يسمى عند ابن رشد باملعلوم بذاته.<br />
ف»مثال ما عرض لعلم التعاليم« يُفيد الوجوب يف<br />
»التداول« و»الستعانة«، لأن ما ينتهي اإليه النظر يف<br />
علم التعاليم ل يكون اإل بهما. هذا الشرط هو وحده<br />
ما يجعل الرتاكم العلمي ممكنا من جهة، ويجعل، من<br />
جهة ثانية، ما ينتهي اإليه النظر التعاليمي معقول )اأي<br />
ميكن تعقله(، واإل عد ضربا من اجلنون اأو الهلوسات<br />
اأو الوحي. اإن »معقولية« علم التعاليم تعني اأن هناك<br />
تراكما يف ثمرات النظر العلمي، ثمرة تفضي اإىل اأخرى<br />
بشكل يجعل الأخرية غري ممكنة بدون الأوىل، لأنها هي<br />
التي وطاأت لها. ول ميكن النظر اإىل اآخر ثمرة انتهى<br />
اإليها النظر العلمي باستقال عن مسلسل الرتاكم<br />
الذي انخرطت فيه الأبحاث التي اأعملها اأصحابها على<br />
مر العصور. ومن هذه اجلهة فاإن عمليات الكتشاف<br />
والتداول والستعانة هي ما يضفي سمات العقلية على<br />
ثمرات العلم وليس عرضه الأخري، سيما اأنه »يُشبه اأن<br />
يكون ما يظهر باآخره للعقل هو عنده من قبيل املستحيل<br />
يف اأول اأمره« )8( .<br />
•1( التعاون العلمي<br />
اإذا افرتضنا مثا اأن »صناعة الهندسة يف وقتنا<br />
هذا معدومة«، و»رام اإنسان واحد من تلقاء نفسه اأن<br />
يدرك مقادير الأجرام السماوية واأشكالها واأبعاد بعضها<br />
عن بعض، مثل اأن يعرف قدر الشمس من الأرض، وغري<br />
ذلك من مقادير الكواكب، ملا اأمكنه ذلك ولو كان اأذكى<br />
الناس طبعاً، اإل بوحي اأو شيء يشبه الوحي« )9( . وهذا<br />
ينسحب على جميع العلوم، عملية كانت اأو نظرية، يقول:<br />
»لو قدّ رنا اأن صناعة من الصنائع قد دثرت ثم توهم<br />
وجودها لكان يف بادئ الراأي من املستحيل ولذلك يرى<br />
كثري من الناس اأن هذه الصنائع هي من مدارك ليست<br />
باإنسانية فبعضهم ينسبها اإىل اجلن، وبعضهم ينسبها<br />
اإىل الأنبياء« )10( .<br />
وعليه، فالتوصل اإىل معلومات بخصوص هذه<br />
املوجودات التي يدرسها علم الهندسة، ل ميكن حصوله<br />
ما مل يتم تداول النظر فيها ناظرا بعد ناظر، اأعني<br />
بتضافر جهود النظار وتعاونهم. وليس القول باإمكانية<br />
اأن يحيط واحد من الناس بهذه املعلومات اإل من باب<br />
الإمكان الأقلي؛ وقد اأشار اإليه ابن رشد هنا بالوحي اأو<br />
ما يشابه ذلك من الروؤى والأحام وغريها، حتى يخرجه<br />
عن طور املنجز الإنساين. وملا كان العلم والصناعات<br />
عموما اإمنا من باب الضروري اأو املمكن على الأكرث،<br />
فليس ميكن ذلك اإل باستعانة املتاأخر باملتقدم. ومن<br />
اأجل ذلك يجب اأن نقول اإنه ملا كان التعاون بينا بنفسه،<br />
ول شك فيه عند من يشتغل بالنظر العلمي، فاإن »هذا<br />
اأمر بني بنفسه يف الصنائع العلمية« كلها. واإذا فلما كان<br />
اأمر التعاون بني علماء الهندسة والهيئة يف النظر يف<br />
املوجودات اأمرا بينا بذاته، صار التعاون يف اإنشاء علوم<br />
الآلت، اأو املنطق حتديدا اأمرا بينا ول يشك يف اأمره.<br />
•2( تلقي النتائج العلمية<br />
هذا عن التعاون بني النظار، اأما عن النتائج العلمية<br />
فيمكن اأن نقول اإنه مثلما تقتضي الصنائع النظرية<br />
والعملية التعاون والتداول، حتى حتافظا على طبعتيهما<br />
البشرية والعقلية، فاإن عدم اأخذ هذه السريورة التي<br />
يخضع لها العمل العلمي بعني العتبار، يجعل ما انتهت<br />
اإليه غري مقبول عند اجلمهور، اأو بعبارة ابن رشد يكون<br />
»شنيعا وقبيحا يف بادئ الراأي وشبيها بالأحام، اإذ ليس<br />
يوجد يف هذا النوع من املعارف مقدمات حممودة يتاأتى<br />
من قبلها الإقناع فيها للعقل الذي يف بادئ الراأي، اأعني<br />
عقل اجلمهور« )11( . واحلقيقة اأن »كثريا من الأمور التي<br />
تثبت يف العلوم النظرية اإذا عرضت على بادئ الراأي<br />
واإىل ما يعقله اجلمهور من ذلك كانت بالإضافة اإليهم<br />
شبيها مبا يدرك النائم يف نومه كما قال )اأبو حامد<br />
الغزايل(، واأن كثريا من هذه تُلفَ ى لها مقدمات من<br />
نوع املقدمات التي هي معقولة عند اجلمهور يقنعون بها<br />
يف اأمثال هذه املعاين بل ل سبيل اإىل اأن يقع بها لأحد<br />
اإقناع« )12( .<br />
اأبحاث
2 0 1 1<br />
62<br />
وملا كان سبيل هذه املعاين »اأن يحصل بها اليقني<br />
ملن يسلك يف معرفتها سبيل اليقني« )13( . فاإن صاحب<br />
الصناعة هو وحده الذي بوسعه متابعة هذا السبيل اأو<br />
هذه السريورة العلمية. من اأجل اإظهار كيف يحصل<br />
تلقي نتائج النظر العلمي عند صاحب الصناعة وعند<br />
غريه، يلجاأ ابن رصد اإىل التمثيل بعلوم الهندسة<br />
والهيئة. وهكذا فلو فرضنا صناعة علم الهيئة يف وقتنا<br />
هذا معدومة وخرجنا للناس بقول مفاده »اإن الشمس<br />
اأعظم من الأرض بنحو مائة وخمسني ضعفاً اأو ستني،<br />
لعد هذا القول جنوناً من قائله« )14( . لكن يجب اأن نشدد<br />
على اأنه سيُعَدُّ كذلك يف نظر بادئ الراأي ل يف احلقيقة،<br />
اأعني عند اجلمهور، ل عند ممارسي النظر العلمي، لأن<br />
هذا القول قد قام عليه الربهان يف علم الهيئة قياماً<br />
ل يشك فيه من هو من اأصحاب ذلك العلم، حسب ما<br />
يقول ابن رشد. ويعود اإىل املثال نفسه يف كتاب تهافت<br />
التهافت، ليظهر التقابل الشديد بني جهة النظر العلمي<br />
وجهة نظر بادئ الراأي، مستعينا بخصائص الدقة<br />
والضبط واليقني يف اجلهة الأوىل: »مثال ذلك اأنه لو قيل<br />
للجمهور وملن هو اأرفع رتبة يف الكام منهم: اإن الشمس<br />
التي تظهر للعني يف قدر قدم هي نحو من مائة وسبعني<br />
ضعفا من الأرض، لقالوا هذا من املستحيل، ولكان من<br />
يتخيل ذلك عندهم كالنائم، ولعسر علينا اإقناعهم يف<br />
هذا املعنى مبقدمات يقع لهم التصديق بها من قرب<br />
يف زمان يسري بل ل سبيل اأن يتحصل مثل هذا العلم<br />
اإل بطريق الربهان ملن سلك طريق الربهان« )15( . اإذا<br />
كان هذا التقابل واضحا يف العلوم التعاليمية فهو اأوضح<br />
واأبرز يف العلوم الإلهية: »واإذا كان هذا موجودا يف<br />
مطالب الأمور الهندسية، وباجلملة يف الأمور التعاليمية<br />
فاأحرى اأن يكون ذلك موجودا يف العلوم الإلهية. اأعني ما<br />
اإذا صرح به للجمهور كان شنيعا وقبيحا يف بادئ الراأي،<br />
وشبيها بالأحام« )16( . هاهنا كانت الأمور التعاليمية<br />
مثال ملا يجب اأن يكون عليه الأمر يف العلوم الإلهية من<br />
باب الأوىل والأحرى.<br />
لكن اإذا كان على ابن رشد اأن ميثل هنا بشاهد<br />
اأعرف من اأجل مطلوب اأخفى، فاحلقيقة اأن هذا<br />
الشاهد، حتى واإن كان رياضيا تعاليميا، خلوا من املادة<br />
جمردا، فاإنه غري معروف متاما، لأن مضاعفة حجم<br />
الشمس للأرض ليست مَ علومة حمدودة ومضبوطة حتى<br />
بني العلماء اأنفسهم، فاأنّى لبن رشد اأن ميثل به؟ فهل<br />
نعترب هذا تساها منه يف ممارسة التمثيل، ونحن نعلم<br />
ما سبق اأن اأوصى به يف بداية تلخيص كتاب الربهان<br />
وشرحه، عندما قال: »الذي يعلم الشيء بطريق التمثيل<br />
والإقناع، فقد يجب اأيضاً اأن يكون قد تقدم فعرف<br />
الشيء الذي متثل به، قبل اأن يعرف الشيء الذي عرفه<br />
)17(<br />
من قِ بل املثال«؟<br />
2. الرتاجع عن التمثيل بعلوم التعاليم<br />
ولكن اإذا كان الأمر كذلك فما الذي حمله على<br />
الرتاجع عن التمثيل بعلوم التعاليم لصالح التمثيل<br />
بصناعة الفقه؟ األ ميكن اأن يعد ركوب مركب املثال<br />
الأعرف الفقهي مدعاة للتشكيك يف صدق النتيجة،<br />
بل يف جناعة التمثيل اأصا؟ ملاذا انتقل من هذا البيان<br />
اإىل مثال وضعي، واحلال اأنه »ليس الأمر يف الوضعيات<br />
)الفقهيات( كالأمر يف العقليات« )18( ؟ اأمل يشوش ابن<br />
رشد بهذا التخلي عن مثال التعاليم على منزلة علوم<br />
التعاليم نفسها؟ جند جزءا من هذا العرتاض الأخري<br />
يف تهافت التهافت، وكان قد وضعه ابن رشد على متثيل<br />
الغزايل لأمور نظرية باأمور فقهية. األيس ما فعله ابن<br />
رشد عني ما عابه على الغزايل؟ رمبا. لكن األ يكون<br />
التمثيل اأحيانا غري مفكر فيه متام التفكري يف حني يكون<br />
العرتاض على التمثيل ذاته موضع فحص شديد؟<br />
يبدو اأن قرب التمثيل البدئي من العفوية والتلقائية،<br />
وهو مصدر صعوبات كثرية، هو الذي يفسح املجال<br />
طبعا لاعرتاض على الدعوى من اأساسها، ولكنه<br />
يفسح املجال اأيضا لتعديل التمثيل وتصحيحه، لصالح<br />
املعرتض، كما يفسح املجال لتقومي املنزلة احلجاجية<br />
للتمثيل اأحيانا اأخرى.<br />
احلقيقة اأن ابن رشد قد تراجع فعا عن التمثيل<br />
بعلوم التعاليم، معربا عن وضعية استغنائنا اللجوء اإىل<br />
هذا العلم بالقول: »وما الذي اأحوج يف هذا اإىل التمثيل<br />
بصناعة التعاليم، وهذه صناعة اأصول الفقه والفقه
63<br />
2 0 1 1<br />
نفسه مل يكمل النظر فيهما اإل يف زمن طويل؟« )19( .<br />
وهكذا يظهر اأن التمثيل بالفقه اأقرب من التمثيل بعلوم<br />
التعاليم. لكنه اأقرب بالنسبة اإىل من؟<br />
اإن انتقاء ابن رشد للمثال الذي يشهد بشكل قطعي<br />
لضرورة استعانة باملتاأخر املتقدم، مل يكن عفويا تلقائيا<br />
بل كان مقيدا بخلفيات معرفية وتداولية هي التي حكمت<br />
ذلك الختيار بالذات، وهو ما سناأتي اإليه بعد قليل.<br />
صحيح اأن ما يصدق على علم التعاليم يصدق على<br />
الفقه، اإذ اأنه »لو رام اإنسان اليوم من تلقاء نفسه اأن<br />
يقف على جميع احلجج التي استنبطها النظار من اأهل<br />
املذاهب يف مسائل اخلاف التي وقعت املناظرة فيها<br />
بينهم يف معظم باد الإصام - ما عدا املغرب - فكان<br />
اأهاً اأن يضحك منه، لكون ذلك ممتنعاً يف حقه مع<br />
وجود ذلك مفروغاً منه« )20( . وهذا اأمر بنيّ بنفسه يف<br />
الصنائع العملية.<br />
مل يرد اأمر التمثيل بالفقه اإل يف سياق التمثيل<br />
بالصناعة العملية عموما، اأعني التمثيل باحلقيقة التي<br />
مفادها اأنه ليس من الصناعات »واحدة يقدر اأن ينشئها<br />
واحد بعينه«. وملا كان الفقه صناعة عملية، صار التمثيل<br />
به نافعا يف اإظهار احلكم بوجوب التعاون بني العلماء.<br />
ويجب اأن نضيف اأنه ليس فقط ملكان عملية صناعة<br />
الفقه حصل هذا التمثيل، واإمنا ملكان اأن ابن رشد<br />
نفسه قد خَ رب اأمر صناعة الفقه عن قرب، لذلك كان<br />
التمثيل بالفقه يف احلقيقة متثيا بالنموذج الذي هو ابن<br />
رشد نفسه، ابن رشد الفقيه الذي األف كتابا يف مسائل<br />
اخلاف بني املذاهب، اأعني كتاب »بداية املجتهد ونهاية<br />
املقتصد«، الذي عُ دّ كتابا عمدة يف الفقه املقارن.<br />
لكن يبدو لنا اأن ما دعا ابن رشد اإىل استبدال مثال<br />
علوم التعاليم ليس فقط ما ذكرنا، اأعني التمثيل بصناعة<br />
عملية وبصناعة مارسها وخربها، بل لعله اأمر اآخر،<br />
يجعل مثال علم التعاليم اإذا قارناه مبثال الفقهيات اأقل<br />
جناعة يف استيفاء الغرض من التمثيل. فاإذا اأخذنا بعني<br />
العتبار اإشارته اإىل اأن احلقيقة اأو املقدمة التعاليمية<br />
التالية: »الشمس اأعظم من الأرض بنحو مائة وخمسني<br />
ضعفاً اأو ستني« )21( ، هي مما قام عليه الربهان يف علم<br />
الهيئة، فاإنه يجب اأن نقول اإن هذه احلقيقة ليست بينة<br />
بذاتها اإل عند من هو من اأصحاب علم الهيئة، هذا اإن<br />
كانت كذلك بالفعل. وابن رشد، فوق ذلك، ل يتوجه بهذا<br />
املثال اإىل اأصحاب علم الهيئة، واإمنا اإىل فئة من الناس<br />
ليست من اأهل العلم بالصناعات وبشروط اإنشائها<br />
وحفظها وتطويرها، لأن من هو من علماء الهيئة يبدو<br />
يف غنى عن هذا القول ما دام ابن رشد يعتربه اأمرا بينّا<br />
بذاته. فهو ل يتوجه بالقول اإل اإىل من يشكك يف اأمر<br />
التعاون بني الناس يف اإنشاء العلوم والصناعات، اإىل<br />
من يعتقد اأن العلم قد يصدر عن قوة غري بشرية. لهذا<br />
رمبا كان مضطرا اإىل التخلي عن مثال العلم التعاليمي<br />
واستبداله بعلم الفقه، لأن املثال الفقهي، مقارنة باملثال<br />
التعاليمي، قريب املاأخذ عند املخاطب، مستوف بشرط<br />
الظهور له، وهو عنده مبثابة مقدمة حممودة.<br />
هكذا يكون ابن رشد قد خضع، يف هذا التمثيل<br />
اأيضا، اإىل دواع تداولية اأخذ فيها بعني العتبار شروطَ<br />
املُخاطَ ب اأكرث مما اأخذ شروط اخلطاب ذاته. وقد كان<br />
ذلك على حساب وثاقة املثال، ذلك لأنه من الأنسب، من<br />
ناحية الوثاقة، التمثيل بصناعة الهيئة والهندسة لوجوب<br />
استعانة املتاأخر باملتقدم يف صناعة املنطق والفلسفة،<br />
مادامت علوم التعاليم عموما ل تَعلّقَ لها بعقيدة بعينها،<br />
واأنها يقينية، بينما الفقه صناعة ظنية.<br />
ويف هذا السياق ل بد من الإشارة اإىل اأن من الباحثني<br />
من استغرب جلوء ابن رشد اإىل الفقه عموما لتربير قيمة<br />
الفلسفة وموضوعها، بل اعترب يف هذا اللجوء ضربا من<br />
“املفارقة”. ميكن اأن نعترب كام علي اأومليل منوذج هذا<br />
الستغراب. فهو ل ميل من تكرار احلديث عن »استعمال<br />
ابن رشد اخلطاب الفقهي الأصويل دفاعا عن شرعية<br />
الفلسفة« )22( . علما اأن الفلسفة صناعة برهانية والفقه<br />
صناعة ظنية. من هنا حق للباحث اأن يتساءل »فكيف<br />
اإذن يحتاج علم اأعلى )الفلسفة( اإىل علم اأدنى )الفقه(<br />
لتربير قيمته وموضوعه؟ اإنه يحتاج اإىل مثل ذلك لأن<br />
املخاطب هو جمهور املجتمع الإصامي« )23( . ومع اأن<br />
منطلقات واأغراض هذا الباحث تختلف عن منطلقنا<br />
وغرضنا من فحص متثيل ابن رشد باخلطاب الفقهي<br />
اأبحاث
2 0 1 1<br />
64<br />
والأصويل، فاإننا نوافق الباحث صوؤال وجوابا. وهو ما<br />
اأظهرناه اأعاه من طريق خمتلفة.<br />
فقد جلاأ ابن رشد يف فصل املقال: »اإىل لغة الفقيه<br />
ليدافع عن شرعية الفلسفة، مع اعتقاده الراسخ باأن<br />
علم الفقه هو علم اأدنى من علم الفلسفة« )24( . ومع اأن<br />
علي اأومليل ل يعترب مصاألة اللجوء هذه مندرجة ضمن<br />
تقنية التمثيل ويضعها على مستوى العاقة املتوترة بني<br />
السلطة العلمية والسلطة السياسية، حني قال: »لقد<br />
اضطر ابن رشد اإذن اإىل الستعانة بالسلطة العلمية<br />
للفقيه للدفاع عن السلطة العلمية للفيلسوف« فاإن<br />
املفارقة تكمن هنا بالضبط »لأنه من الناحية النظرية<br />
املحض، فاإن العلم الأعلى هو الذي يحتاج اإليه العلم<br />
الأدنى لتربير مبادئه وليس العكس. والفقه يف نظر ابن<br />
رشد ما هو سوى صناعة ظنية، فليس هو املوؤهل لتربير<br />
العلم الفلسفي الذي يعتمد قياس الربهان، وهو اأوثق<br />
منهج علمي بحسب املنطق الأرسطي«. )25( هاهنا ينبغي<br />
اأن نسجل اأن علي اأومليل يخلط بني تربير ابن رشد قيمة<br />
الفلسفة وموضوعها )مشروعية النظر الفلسفي( وهو ما<br />
عرب عنه بوضوح وتربير املبادئ وهو قضية اأخرى ليست<br />
داخلة ل ضمن برنامج عمل ابن رشد يف فصل املقال ول<br />
ضمن اأغراضه. فاستعانة ابن رشد باخلطاب الأصويل<br />
للدفاع عن مشروعية اخلطاب الفلسفي هو ضرب من<br />
القياس التمثيلي، استدل فيه ابن رشد بظهور مشروعية<br />
القياس الفقهي على مشروعية النظر الفلسفي. وعامل<br />
الظنية هنا له دور حاسم يف التمثيل. فالفقه من هذا<br />
الباب ل ميكن اأن يكون منوذجا اأمثل للفلسفة، بالنظر<br />
اإىل ظنية الطرف الأظهر يف الستدلل ويقينية الطرف<br />
الثاين. هذا هو جوهر ماحظتنا على ابن رشد. لكن<br />
التمثيل غري تربير املبادئ. اإن استعانة علم بعلم اآخر<br />
لتربير مبادئه وموضوعه ليس مقيدا بالعلو والدنو بدليل<br />
اأن ما بعد الطبيعة يضطر اإىل الطبيعة وهو علم اأدنى<br />
ليربر مبادئه. وهذا ما ذهل عنه علي اأومليل.<br />
على اأية حال، يتقدم ابن رشد يف سريورة التمثيل<br />
خطوة اإىل الأمام من قياس املساوي اإىل قياس الأوىل.<br />
فاإذا كان اأمرُ وجوب التعاون بني العلماء املتقدم منهم<br />
واملتاأخر يف النظر »بيّنًا بنفسه، ليس يف الصنائع العلمية<br />
فقط، بل ويف العملية، فاإنه ليس منها صناعة يقدر اأن<br />
يُنشئها واحد بعينه، فكيف بصناعة الصنائع، وهي<br />
احلكمة؟!« )26( . واإذا كانت قاعدة قياس الأوىل تقول: »اإن<br />
كان شيئان يقالن على شيئني، فاإنه اإن كان ما يظن به<br />
اأنه اأحرى باأن يكون وجوده اأقل يوجد، فالذي هو اأحرى<br />
بالوجود يوجد اأيضا« )27( ، مبعنى اأنه اإذا كانت احلكمة،<br />
مبا هي صناعة نظرية بل ومبا هي صناعة الصنائع،<br />
اأوىل باسم الصناعة من صناعة الفقه مبا هي صناعة<br />
عملية، وكانت صناعة الفقه ل يقدر اأن ينشئها واحد<br />
بعينه، فاإنه من باب الأوىل والأحرى، األ يقدر واحد<br />
بعينه اأن ينشئ احلكمة.<br />
واإذا كان هذا هكذا، فاحلكم النهائي هو: »يجب<br />
علينا اإن األفينا ملن تقدمنا من الأمم السالفة نظراً<br />
يف املوجودات واعتباراً لها بحسب ما اقتضته شرائط<br />
الربهان، اأن ننظر يف الذي قالوه من ذلك وما اأثبتوه يف<br />
كتبهم« )28( .<br />
ثالثا: التمثيل بالفقهيات<br />
صحيح اأن معظم الدارسني الذين تعرضوا لكتاب<br />
»فصل املقال وتقرير ما بني الشريعة واحلكمة من<br />
التصال« قد شدُّواْ اأحكامهم بخصوص هذا الكتاب<br />
بناءً على فحص مضامني الكتاب دون جتاوزها اإىل<br />
فحص الآليات التي استعملها يف تشييده لهذه املضامني،<br />
اأو يف عرضه لها. لكن هذا ل يعني اأن فحص الآليات قد<br />
يغني عن الطريق الأول، بل نعتقد خاف ما يذهب اإليه<br />
د. طه عبد الرحمن، باأن املزاوجة بني الفحصني هي<br />
التي ميكن اأن تقدم لنا صورة اأكرث تكاملية لأقوال ابن<br />
)29(<br />
رشد ومقاصدها.<br />
ول تهمنا كثريا مصاألة هوية كتاب فصل املقال هنا،<br />
لأن ما يشغلنا اأساسا هو الآلية التدليلية التي اشتغل بها<br />
ابن رشد من اأجل حتصيل مقصوده من تاأليف الكتاب،<br />
اأعني اإثبات مشروعية للفلسفة وللمنطق، كما يصرح<br />
بنفسه؛ فلقد اأفرد الرجلُ هذا الكتابَ لهذا الغرض، الذي<br />
مل يكن ليحصله دون الستعانة بالتمثيل، ف»هو ل يكاد<br />
يتوسل يف بيان موضوعها ويف تقرير مشروعيتها، على
65<br />
2 0 1 1<br />
امتداد حجم هذا الكتاب، اإل بالآليات التمثيلية« 03 ؛ هذا<br />
بغض النظر عن طبيعة الفحص، هل هو كامي جديل،<br />
اأو فقهي خطابي، اأو اأنه فلسفي برهاين، مع اأن طبيعة<br />
الفحص هذه شديدة التداخل بالآليات املستعملة.<br />
واحلقيقة اأن القول الذي يسهل العثور له على<br />
ما يدعمه هو اأن ابن رشد كان فقيها يف نص فصل<br />
املقال، بدليل اأنه نظر يف منزلتي الفلسفة واملنطق<br />
»على جهة النظر الشرعي« . 13 ومن ثم فالقول بتوسله<br />
بالآليات التمثيلية يتماشى متاما مع جهة النظر الفقهية<br />
القياسية، على اعتبار اأن التمثيل هو احلجة الفقهية/<br />
اخلطابية بامتياز، على اأن نفهم من اسم الفقه معناه<br />
العام الذي سبق اأن نقله املرتجمون العرب عن كتاب<br />
اأنالوطيقا الأوىل لأرسطو، وشرحه ابن رشد يف تلخيص<br />
)32(<br />
كتاب القياس.<br />
وحتى اإن اأخذنا بعني العتبار اأن اأبا الوليد نفسه<br />
يتحدث عن متثيل يقيني، ونحن نعرف اأن اخلطابة<br />
)والفقه( ل تتجاوز عتبة الإقناع، وملنا اإىل القول مع<br />
من سبقنا اإىل هذا الأمر، باأن مقاربته كانت فلسفية من<br />
جهة املقاصد، ومن جهة اجلهاز املفاهيمي املستعمل،<br />
فاإن الأمر لن ميس يف شيء قولنا باأن الرجل قد توسل<br />
يف فصل املقال باآلية التمثيل بشتى اأنواعها، هذا بغض<br />
النظر عن الطبيعة الفلسفية اأو الكامية اأو الفقهية<br />
لهذا النص. مما يعني اأيضا اأنه ل ميكن اعتبار توسله<br />
بالآليات التمثيلية حجة على فقهية نص فصل املقال،<br />
لأن اشتغاله باآليات التمثيل كان يف كتب عدة، ومن اأجل<br />
مقاصد متنوعة.<br />
1. يف مشروعية التمثيل<br />
ميكن اأن نقول، على وجه العموم، اإن ابن رشد قد<br />
استعمل يف فصل املقال جميع اأصناف املثال التي كان<br />
حددها يف خمتصر اخلطابة وتلخيص كتاب اخلطابة<br />
وتلخيص كتاب القياس وتلخيص كتاب اجلدل. فقد<br />
استعمل الشبيه يف عرض ما )وهو املثال(، والشبيه<br />
باملناسبة )وهو ما يعرف بالتمثيل(، وقياس الأوىل...؛<br />
كما اأن مادة التمثيل التي استخدمها يف استدلله يف هذا<br />
الكتاب قد تنوعت واختلفت من صناعة اإىل اأخرى، فقد<br />
مثل بالطب كما مثل بالصناعات النظرية وغريها. لكن<br />
يبدو لنا اأن التمثيل بصناعة الفقه وباملقاييس الفقهية<br />
كان هو الغالب يف فصل املقال.<br />
كنا قد انتهينا اأعاه اإىل اأن ابن رشد قد تراجع عن<br />
التمثيل بالصناعات النظرية لفائدة التمثيل بالفقه،<br />
وهذا ما يجعلنا نفرتض اأن هذه الصناعة كانت حتتل<br />
عنده منزلة الشاهد الأمثل اأو »الأعرف«. ونعني بتخليه<br />
عن التمثيل بالعلوم النظرية لصالح التمثيل بالفقه،<br />
اأنه رمبا وجد يف الفقه قول مشرتكا بينه وبني من قد<br />
يعرتضون )اجلمهور والفقهاء( على شرعية املنطق<br />
والفلسفة، فيكون اخلصم )اأو السائل بلغة تلخيص<br />
كتاب اجلدل( هنا هو الذي فرض عليه طبيعة التمثيل.<br />
لكننا ميكن اأن نضيف اإىل هذه الدواعي التي حملت<br />
على التمثيل بالفقهيات، مربرات اأخرى، ل تتصل<br />
باملخاطب الذي يتوجه اإليه ابن رشد فقط، واإمنا تتصل<br />
اأساسا بصناعة الفقه ذاتها؛ حيث ميكن اأن نقول بكثري<br />
من اليسر اإن من دواعي التمثيل بهذه الصناعة، منزلة<br />
ابن رشد العلمية نفسها، فهو فقيه مشهور معروف، وهذا<br />
املربر الذاتي له اأيضا دور يف اختياره التمثيل بصناعة<br />
اأصول الفقه والفقه. ومن هذه اجلهة اإذا كان شرط نقل<br />
حكم من شبيه اإىل شبيه، هو استيفاء شرط املعرفة<br />
بالشبيه الأول، فاإنه يعترب منوذج العارف بالشبيه قبل<br />
)33(<br />
نقل صفاته اأو حكمه اإىل املطلوب.<br />
لكننا ميكن اأن نسوق داعيا اآخر يقف وراء التمثيل<br />
بالفقهيات، وهو منزلة اأصول الفقه بني العلوم واملعارف،<br />
املنزلة التي تشبه الفلسفة شبها ما. اإذ ميكن احلديث<br />
عن تشابه ما بني الآليات الفقهية واآليات الفلسفة، هذا<br />
التشابه هو الذي مكن ابن رشد من اإجراء عملية التمثيل<br />
وتعدية الأحكام من الشبيه الأعرف اإىل شبيهه الأخفى.<br />
فلكي يصح التمثيل كان لبد »اأن يكون الفقه مشرتكا مع<br />
الفلسفة يف جملة من املضامني ويف جمموعة من الآليات<br />
التي تنقل هذه املضامني« )34( ، وذلك عما بالقاعدة<br />
التي تفيد اأن الشاهد ل يستقيم الستدلل به اإل اإذا<br />
كان مبنزلة النموذج الأمثل للصفة اأو احلكم الذي يراد<br />
نقله اإىل املمثل له مستوفيا بذلك شرط ما اأسميناه<br />
اأبحاث<br />
• بالفقه
2 0 1 1<br />
66<br />
ب»الشاهد«. فاإىل اأي حد ميكن القول اإن الفقه كان فعا<br />
النموذج الأمثل يف فصل املقال حتى مثل به ابن رشد؟<br />
يوؤكد ابن رشد اأن مقصد الشرع مثله مثل الفلسفة<br />
يرتاوح بني تعليم العلم احلق والعمل احلق. ويظهر اأن<br />
التعليم الأول نظري مداره »معرفة اهلل تبارك وتعاىل<br />
وسائر املوجودات على ما هي عليه، وبخاصة الشريفة<br />
منها، ومعرفة السعادة الأخروية والشقاء الأخروي« )35( .<br />
اأما التعليم الثاين، فمداره »امتثال الأفعال التي تفيد<br />
السعادة، وجتنب الأفعال التي تفيد الشقاء« )36( . والعلم<br />
الذي ينظر يف هذه الأفعال هو الذي يسمى »العلم<br />
العملي« )37( . ومبا اأن هذه الأفعال تنقسم اإىل نوعني:<br />
اأفعال ظاهرة بدنية، واأفعال نفسية. فاإن هذه الأخرية هي<br />
ما يشكل -يف نظر ابن رشد- علوم الآخرة اأو الزهديات،<br />
)38(<br />
اأما الأفعال الظاهرة فهي موضوع علم الفقه.<br />
يظهر اأنه ما كان لبن رشد اأن ميثل الفلسفة بالفقه<br />
لو مل يتقدم اأول ليقرّ ب بينهما، والواقع اأن تقريبه هذا<br />
ذهب اإىل حد اعتبار الفقه علما عمليا، واحلال اأن هذا<br />
العلم هو القسم اأو الفرع العملي من الفلسفة اإىل جانب<br />
القسم النظري. اإن مقايسته بني الفلسفة والفقه، مل<br />
تكن لتحصل لو مل يعمد اأول اإىل وضع منوذج للشرع<br />
على غرار منوذج الفلسفة. فكما اأن الفلسفة قسمان،<br />
نظرية وعملية، كذلك الشرع قسمان نظري وعملي. هذا<br />
مع اأنه يجب اأن نشري اإىل اأن كامه هنا يوحي بنوع من<br />
التشابه بني الفلسفة والشرع، وخاصة من جهة دخولهما<br />
معا حتت مسمى العلم، ومن جهة اأجزائهما، ومن جهة<br />
مقاصدهما.<br />
ومع اأن من عادة ابن رصد عند تعريفه للعلوم<br />
واملعارف األ يعلن عن اأبعادها الثقافية اخلاصة مبلة<br />
الإصام، فاإنه اإذا رجعنا اإىل كتابه الضروري يف اأصول<br />
الفقه جنده يقول: »اإن املعارف والعلوم ثاثة اأصناف«،<br />
هكذا باإطاق، رغم اأن ما ياأتي به من تصنيف قد يفهم<br />
منه على التوايل: علم الكام، والفقه واأصوله، والقياس<br />
الفقهي.<br />
ومن هذه اجلهة فاملعارف ثاث:<br />
•اإما »معرفة غايتها العتقاد احلاصل عنها<br />
يف النفس فقط، كالعلم بحدث العامل، والقول باجلزء<br />
الذي ل يتجزاأ واأشباه ذلك« )39( ، وهذا ما نسميه بالعلوم<br />
الإلهية عموما)=اأصول العقيدة(؛<br />
•واإما معرفة غايتها العمل، وهذه منها كلية<br />
وبعيدة عن اأن تكون مفيدة للعمل؛ ومنها »جزئية كالعلم<br />
باأحكام الصاة والزكاة وما اأشبههما من جزئيات<br />
الفرائض والسنن، والكلية كالعلم بالأصول التي تبنى<br />
عليها هذه الفروع من الكتاب والسنة والإجماع، والعلم<br />
بالأحكام احلاصلة عن هذه الأصول على الإطاق<br />
واأقسامها، وما يلحقها من حيث هي اأحكام« )40( ؛<br />
•واإما »معرفة تعطي القوانني والأحوال التي بها<br />
يتسدد الذهن نحو الصواب يف هاتني املعرفتني، كالعلم<br />
بالدلئل واأقسامها، وباأي اأحوال تكون دلئل وباأيها ل.<br />
ويف اأي املواضع تستعمل النقلة من الشاهد اإىل الغائب<br />
ويف اأيها ل. وهذه فلنسمها سبارا وقانونا، فاإن نسبتها<br />
اإىل الذهن كنسبة الربكار واملسطرة اإىل احلس يف ما ل<br />
يوؤمن اأن يغلط فيه« )41( .<br />
وهكذا صارت قسمة العلوم يف الضروري يف الفقه<br />
)وهي قسمة متعلقة بالعلوم الإصامية، كما يظهر(<br />
تشبه على التوايل قسمة الفلسفة اإىل علوم نظرية، وعلوم<br />
)42(<br />
علمية، من سياسة واأخاق، وعلوم اآلية وهي املنطق.<br />
لكن ابن رشد ينبه اإىل اأن املقصود بالنظر اأساسا هو<br />
اأصول الفقه، الذي ينقسم اإىل اأربعة اأجزاء: يتضمن<br />
اجلزء الأول النظر يف الأحكام، والثاين النظر يف اأصول<br />
الأحكام، والثالث يف الأدلة املستعملة يف استنباط حكم<br />
حكم عن اأصل اأصل، وكيف استعمالها. والرابع يتضمن<br />
)43(<br />
النظر يف شروط املجتهد يف الفقيه.<br />
من هنا يتبني اأن النظر اخلاص بصناعة اأصول<br />
الفقه اإمنا هو اجلزء الثالث، لأن الأجزاء الأخرى من<br />
جنس املعرفة التي غايتها العمل، ولذلك »لقّبوا هذه<br />
الصناعة باسم بعض ما جعلوه جزءا منها، فدعوها<br />
باأصول الفقه. والنظر الصناعي يقتضي اأن يفرد القول<br />
يف هذا اجلزء الثالث اإذ هو مباين باجلنس لتلك الأجزاء<br />
الأخرى« )44( .<br />
وعليه، فتمثيل ابن رشد يف فصل املقال لن يكون
67<br />
2 0 1 1<br />
2<br />
بالفقه بحصر املعنى، اأعني مبا هو علم عملي، بل<br />
باأصول الفقه الذي هو علم نظري اأو اآيل.<br />
•1. وجوه التمثيل بالأمور الفقهية<br />
• . اإحداث النظر يف الفلسفة كاإحداث النظر<br />
يف الفقه: بني الأوىل واملساوي<br />
كيف استنبط ابن رشد من الأمر الإلهي وجوب<br />
النظر يف املوجودات اأو اعتبارها؟<br />
الواضح اأن اإعماله اآلية الستنباط من اأجل اخلروج<br />
بحكم متعلق بالنظر يف الأشياء التي تنزل من النظر<br />
منزلة الآلت من العمل، جاء نتيجة مقايسة اأقامها بني<br />
النظر العقلي والنظر الفقهي. فما هي هذه الأشياء التي<br />
تتنزل من النظر منزل الآلت من العمل؟<br />
نهج ابن رشد يف استنباط احلكم بوجوب معرفة<br />
القياس العقلي طريق تقنية التدرج من التوطئة اإىل<br />
النتيجة، حيث ل يكون لنا مدخل اإىل النتيجة اإل عن<br />
طريق توطئة. هذه التوطئة بدورها ل نصل اإليها اإل عن<br />
طريق توطئة اأخرى. وهكذا فلكي نصل اإىل درجة النظر<br />
يف املوجودات، ل بد من استيفاء هذه املقدمات:<br />
1معرفة . 1 اأجزاء القياس التي منها تَركّ ب، اأعني<br />
املقدمات واأنواعها؛<br />
2 معرفة القياس املطلق، واأنواعه؛<br />
2 .<br />
3 .<br />
3 العلم باأنواع الرباهني وشروطها؛<br />
استيفاء هذه الشروط يفضي بنا اإىل حتصيل:<br />
الأهلية ملعرفة اهلل تعاىل وصائر موجوداته<br />
بالربهان.<br />
صحيح اأن الشرع قد حث على معرفة املوجودات<br />
وعلتها القصوى بالربهان، غري اأنه ل ميكن الرتقاء اإىل<br />
القيام بهذا العمل الذي فيه امتثال للشرع اإل بحصول<br />
املقدمات الثاث الأوىل. لكن ابن رشد مل يَكْ فِ ه هذا<br />
الصتدلل الذي يجعلنا نتاأكد من صرورة استيفاء<br />
تلك التوطئات قبل القيام بالنظر، فلجاأ اإىل التمثيات<br />
التالية: فبخصوص الأول الذي هو متثيل تناسبي، يكون<br />
النظر مثل العمل ومن ثم يكون اقتضاوؤه العلمَ بتلك<br />
املقدمات مثل اقتضاءِ العمل املعرفة بالآلت؛ والتمثيل<br />
الثاين كان باللجوء اإىل الفقه:<br />
الفقيه<br />
الأمر بالتفقه يف الأحكام؛<br />
غري مذكور؛<br />
معرفة املقاييس الفقهية على اأنواعها، وما منها<br />
قياس وما منها ليس بقياس؛<br />
معرفة الأصول.<br />
العارف<br />
الأمر مبعرفة اهلل وسائر موجوداته بالربهان؛<br />
العلم باأنواع الرباهني وشروطها؛<br />
معرفة ما هو القياس املطلق، وكم اأنواعه؛ وما منه قياس وما<br />
منه ليس بقياس؛<br />
معرفة اأجزاء القياس التي منها تركب، واملقصود مقدمات<br />
الأقيسة واأنواعها.<br />
من خال مقارنتنا للشروط التي حصل استنباطها<br />
من احلث على النظر يف الأحكام بالشروط التي استنبطت<br />
من احلث على النظر يف املوجودات، تتضح منزلة النظر<br />
الفقهي عند ابن رشد، وهي دون منزلة النظر العقلي<br />
طبعا. اإن النظر يف الأحكام ليس من مقام النظر يف<br />
املوجودات. ويظهر ذلك من املقدمتني الأوليني يف<br />
الستنباط، ومن التفاوت يف الشروط )اخلانة الثانية(.<br />
اإذا كان الفقيه يحكم على الأفعال، فاإن العارف يحكم<br />
على املوجودات ف»اأي حاكم اأعظم من الذي يقول باأن<br />
الوجود كذا اأو ليس بكذا« )45( . لذلك ينتهي الأمر بابن<br />
رشد اإىل جتاوز التمثيل من قياس املساوي اإىل التمثيل<br />
بالأوىل. وجند ذلك عنده يف نصني اثنني: اأحدهما هو<br />
الذي استخلصنا منه مكونات اجلدول اأعاه؛ والنص<br />
الثاين كان مبناسبة احلديث عن اخلطاأ يف النظر<br />
الفقهي والنظر العقلي حيث ميثل الثاين بالأول اأيضا.<br />
يقول ابن رشد: »اإنه كما اأن الفقيه يستنبط من الأمر<br />
اأبحاث<br />
جماعات املهجر
2 0 1 1<br />
68<br />
بالتفقه يف الأحكام وجوب معرفة املقاييس الفقهية على<br />
اأنواعها، وما منها قياس وما منها ليس بقياس، كذلك<br />
يجب على العارف اأن يستنبط من الأمر بالنظر يف<br />
املوجودات وجوب معرفة القياس العقلي واأنواعه، بل هو<br />
اأحرى بذلك لأنه اإذا كان الفقيه يستنبط من قوله تعاىل<br />
)فاعتربوا يا اأويل الأبصار( وجوب معرفة القياس<br />
الفقهي، فكم باحلري والأوىل اأن يستنبط من ذلك<br />
العارف باهلل وجوب معرفة القياس العقلي« )46( . وهذا<br />
الأمر يعود ليوؤكده بالقول: »اإذا كان يشرتط يف احلاكم<br />
يف احلال واحلرام اأن جتتمع، له اأسباب الجتهاد-<br />
وهو معرفة الأصول ومعرفة الستنباط من تلك الأصول<br />
بالقياس- فكم باحلري اأن يشرتط ذلك يف احلاكم<br />
على املوجودات، اأعني اأن يعرف الأوائل العقلية ووجه<br />
الستنباط منها« )47( . فاإذا كان قد تقدم اإىل معرفتنا اأن<br />
احلكم الشرعي ل ميُ كن لصاحبه اإل باستيفاء شروطٍ ،<br />
كما تقدم اإىل علمنا اأن احلكم على الأفعال يف الشرعيات<br />
دون احلكم على املوجودات، فاملطلوب، من باب اأوىل،<br />
اأن يستويف احلكم على املوجودات جمموعة من الشروط<br />
التي ذكرناها اأعاه. وبعبارة اأخرى اإن ما صح للفقه،<br />
يصح بالأوىل للفلسفة، فقد تبني اأن الفلسفة تنظر يف<br />
املوجودات، بينما ينظر الفقه يف اأفعال الناس، والنظر<br />
يف املوجود عموما اأشمل واأكمل من النظر يف عرض من<br />
اأعراضه وهو الفعل، لذلك يقتضي شروطا اأكرب.<br />
لكن ابن رشد يرتاجع، مع ذلك، عن التمثيل بالأوىل<br />
اإىل التمثيل باملساوي، ولرمبا مل يكن ليحصل هذا<br />
الرتاجع اإل اضطرارا عند الرد على العرتاض الذي<br />
ميكن اأن يضعه اأحد من الناس، والذي مفاده اأن »هذا<br />
النوع من النظر يف القياس العقلي بدعة« )48( ، وحجة<br />
املعرتض اأن هذا النظر يف القياس العقلي »مل يكن يف<br />
الصدر الأول« )49( . لذلك غدا النظرُ يف القياس العقلي<br />
مثله مثل القياس الفقهي. اإذ ملا كان النظر يف القياس<br />
الفقهي واأنواعه شيئا استنبط بعد الصدر الأول، ومل<br />
يعترب بدعة، فكذلك يجب اأن يعتقد يف النظر يف القياس<br />
العقلي. فلما كان القياس الفقهي قد استنبط من احلث<br />
على العتبار، فاإن القياس العقلي مثله، ل يجب اأن<br />
يعترب بدعة لأنه استنبط اأيضا من احلث على النظر يف<br />
املوجودات.<br />
الأصل الذي يستنبط منه الفقيه وجوب القياس<br />
الشرعي هو الأمر الإلهي: )فاعتربوا يا اأويل الأبصار(،<br />
واحلقيقة اأن هذا الأمر ذاته اأحرى واأوىل اأن يكون مصدر<br />
استنباط احلكم بوجوب القياس العقلي. وهنا يكمن<br />
التمثيل اأو قياس الأوىل. فما يصدق على الشبيه يصدر<br />
على شبيهه بالأوىل. فاإذا كان استنباط الفقيه قد اأدّى<br />
به، بناء على وجود اأمر بالتفقه يف الأحكام، اإىل القول<br />
بوجوب معرفة القياس الفقهي؛ فاإن استنباط الفيلسوف<br />
يوؤدّي به، بناء على وجود اأمر بالنظر يف املوجودات، اإىل<br />
القول بوجوب معرفة القياس العقلي.<br />
يرد ابن رشد متبعا القاعدة اخلطابية اجلدلية يف<br />
التمثيل، والتي تلزم صاحبها ب»اأَن يحكم على شيء ما<br />
بحكم ما من اأَجل اأَنه قد حكم به مَ نْ سلف يف شبيه<br />
ذلك الشيء« )50( . فالظاهر اأن القياس العقلي والقياس<br />
الفقهي شيئان حممولن على مثال واحد، لأنه »اإن كان<br />
شيئان خاصيتني لشيئني على مثال واحد ثم مل يكن<br />
اأحدهما خاصة لأحدهما مل تكن الأخرى خاصة، واإن<br />
كان اأحدهما خاصة كان الآخر خاصة« )51( .<br />
يجيب ابن رشد عن هذا العرتاس، بلجوئه اإىل<br />
التمثيل اأو اأحد اأنواعه الذي هو قياس املساوي، الذي<br />
يقضي باأن ما يصح للشبيه يصح لشبيهه بالتساوي، اإن<br />
اإثباتا اأو نفيا. وهكذا فقد اأقام حجته التمثيلية، جميبا<br />
السائل املعرتض ببدعية القياس العقلي، على اأن السائل<br />
يلزمه اأن يقول اأيضا ومن باب املساوي »اإن النظر اأيضا<br />
يف القياس الفقهي واأنواعه« بدعة، هو الذي »استنبط<br />
بعد الصدر الأول« )52( . وملا كان النظر يف القياس الفقهي<br />
»ليس يرى اأنه بدعة«، فكذلك »يجب اأن يعتقد يف النظر<br />
يف القياس العقلي« )53( . اأي »ليس لقائل اأن يقول اإن هذا<br />
النوع من النظر يف القياس العقلي بدعة« )54( . وبعبارة<br />
اأخرى، اإذا صح اعتبار القياس العقلي بدعة، ملكان اأنه<br />
جاء بعد الصدر الأول، فاإنه سيكون صحيحا اعتبار<br />
القياس الفقهي بدعة اأيضا، لأنه هو اأيضا جاء بعد<br />
الصدر الأول، وبهذا تكون اجلهة التي عُ دت علةً يف
69<br />
2 0 1 1<br />
تبديع القياس العقلي، هي ذاتها اجلهة التي يجب اأن تعد<br />
علة يف تبديع القياس الفقهي، وهي اأنهما معا جاءا بعد<br />
الصدر الأول. واإذا تبني اأن القياس الفقهي قد استحدث<br />
بعد الصدر الأول، ومل يكن بدعة، فاإن القياس العقلي<br />
اإذن ليس بدعة. فما يسري على القياس الفقهي يسري<br />
على القياس العقلي:<br />
•القياس الفقهي استنبط من احلث على<br />
العتبار وليس يرى اأنه بدعة؛<br />
•القياس العقلي مثل القياس الفقهي يستنبط<br />
من العتبار؛<br />
•اإذن القياس العقلي ليس بدعة.<br />
لكن هاهنا ماحظة نرغب يف تسجيلها. مبدئيا،<br />
اإذا كانت احلجة باملثال ل تستعمل اإل حني يكون قد تقدم<br />
اإىل علم املتكلم واملخاطب حكم املثال، فاإن املفرتض يف<br />
هذه احلالة اأن يكون القياس الفقهي قد تبني اأنه ليس<br />
بدعة واأن العمل به واجب؛ لهذا فاإننا نستطيع اأن نقول<br />
اإن هذا القياس مل يكن اأعرف حقيقة كما هو مفرتض<br />
ومنتظر، بل هو اأيضا موضع اعرتاض من ثاث جهات<br />
على الأقل:<br />
اجلهة الأوىل: هي اأنه ليس اأمر القياس الفقهي اأمرا<br />
بينّا بذاته، اإذ هناك من النظار من يعرتض على وجود<br />
القياس الفقهي من اأساسه، وهم الذين اشتهروا مببطلي<br />
القياس. صحيح اأن ابن رشد يعترب هوؤلء فئة قليلة ل<br />
يُعتد بقولها مقارنة مبن يقولون به. لكن األيس وجود هذه<br />
الفئة القليلة دليا على اأن التمثيل به ل يستويف شرطه،<br />
الذي هو اأن يكون بينّا قبل اأن تتبني النتيجة؟ فما مصري<br />
دعوى ابن رشد اأمام من يعترب القياس الفقهي ذاته<br />
بدعة؟ لعل اأساس التمثيل، اأعني انتفاء البدعة عن<br />
القياس الفقهي، هو ذاته يف حاجة اإىل تاأسيس. اإذ كان<br />
يلزم اأن نتقدم اإىل القول بالقياس قبل اأن ميثل لنا به.<br />
اأما اإن مل نتقدم اإىل ذلك فالتمثيل يفقد جناعته متاما.<br />
اجلهة الثانية التي جتعل التمثيل معرتضا عليه: هو<br />
ظنية القياس الفقهي، وقطعية القياس العقلي، وهذا<br />
بصريح قول ابن رشد نفسه يف فصل املقال ويف تهافت<br />
التهافت ويف غريهما من الكتب. فهل ما اأثبته للقياس<br />
الفقهي يصدق اأيضا على القياس العقلي؟<br />
اجلهة الثالثة: ماذا لو اعرتض معرتض بالقول اإن<br />
القياس الفقهي، بل صناعة الفقه واأصوله كلها بدعة،<br />
اإذ مل تكن زمن النبي؟ احلقيقة اأن ابن رشد نفسه كان<br />
يعرف، خصوصا يف الضروري يف الفقه، اأن القياس<br />
الفقهي ليس اأمرا مقطوعا فيه، بل هو نفسه كان موضع<br />
صوؤال عنده، وهذا ما سننظر به بشيء من التفصيل قبل<br />
النظر يف تعامله مع هذه العرتاضات:<br />
لقد كان النظار الذين جاءوا بعد وفاة رسول<br />
الإصام مضطرين اإىل القياس الفقهي، بل اإىل صناعة<br />
الفقه ككل، وهو الأمر الذي مل يُضطر اإليه من كان<br />
معاصرا لزمن النبوة. فكلما كانت العلوم اأكرث تشبعا<br />
كان الناظرون فيها مضطرين يف الوقوف عليها اإىل<br />
اأمور مل يُضطر اإليها من تقدمهم، اأي »اإىل قوانني حتوط<br />
اأذهانهم عند النظر فيها اأكرث«. ف»بني اأن الصناعة<br />
املوسومة بصناعة الفقه يف هذا الزمان ويف ما سلف<br />
من لدن وفاة رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وتفرق<br />
اأصحابه على الباد واختاف النقل عنه صلى اهلل عليه<br />
وسلم بهاتني احلالتني، ولذلك مل يحتج الصحابة رضي<br />
اهلل عنهم اإىل هذه الصناعة كما مل يحتج الأعراب اإىل<br />
قوانني حتوطهم يف كامهم ول يف اأوزانهم« )55( .<br />
الظاهر اأن جلوء ابن رشد اإىل التمثيل بالنحو العربي<br />
وبقوانني اللسان العربي - التي مت الضطرار اإليها بعد<br />
حصول احلاجة اإىل ذلك )الختاط باأمم اأخرى...(،<br />
وهي احلاجة التي مل تكن عند الأعراب – كان من اأجل<br />
اإثبات اأن الأمر كذلك يف ما يخص الفقه، اأو اأصول الفقه<br />
على وجه اأخص. وعليه ف»بهذا الذي قلناه ينفهم غرض<br />
هذه الصناعة، ويسقط العرتاض عليها باأن مل يكن<br />
اأهل الصدر املتقدم ناظرين فيها« . 65<br />
هذا اجلواب الذي قدمه ابن رصد يف مقدمة<br />
الضروري يف الفقه عن العرتاصات التي ميكن اأن<br />
توضع يف وجه مستعملي القياس الفقهي، يقدم لنا<br />
بيانا واضحا يجعلنا نقرر اأنه اإن كان هناك شيء يشبه<br />
القياس الفقهي القياس العقلي، فهو مسار البحث عن<br />
املشروعية.<br />
اأبحاث
2 0 1 1<br />
70<br />
لكن الرجل يذهب اأبعد مما قلنا قبل قليل، وهو اأن<br />
العرتاض على متثيله بظنية القياس الفقهي ومن ثم<br />
زوال منوذجيته، جعله ينقل القياس من قياس املساوي<br />
اإىل قياس الأوىل. اإذ جنده يستغل ظنية القياس الفقهي<br />
لصالح القياس العقلي، فبدل من الرتاجع عن حجة<br />
التمثيل التي جلاأ اإليها على اعتبار اأن الفقه من الظنيات<br />
والقياس العقلي من القطعيات؛ يتجاوز هذا الأمر<br />
لصاحله، وذلك عن طريق قياس الأوىل، بحيث يكون<br />
ما اأثبته للقياس الفقهي، وهو دون القياس العقلي، يثبته<br />
للقياس العقلي، وهو اأعلى من القياس الفقهي من جهة<br />
اليقني، من باب الأوىل والأحرى.<br />
1 القياس الفقهي والقياس العقلي: سكوت<br />
الشرع واحد<br />
يلجاأ ابن رشد اإىل التمثيل بسكوت الشرع عن بعض<br />
الأحكام املتعلقة بالوجود، وعن اإعمال التاأويل العقلي.<br />
فما سكت عنه الشرع يف باب النظر الفلسفي مبنزلة<br />
ما سكت عنه الشرع يف باب النظر الفقهي، اأي »هو<br />
مبنزلة ما سُ كت عنه من الأحكام، فاستنبطها الفقيه<br />
بالقياس الشرعي. واإن كانت الشريعة نطقت به، فا<br />
يخلو ظاهر النطق اأن يكون موافقاً ملا اأدى اإليه الربهان<br />
فيه اأو خمالفاً. فان كان موافقا، فا قول هنالك. واأن<br />
كان خمالفاً، طلب هنالك تاأويله« )57( .<br />
واإذا كان الفقيه اأيضا ميارس التاأويل، عندما<br />
يتعارض ظاهر نص مع ما اأدى اإليه النظر الفقهي،<br />
فاإنه بالأوىل اأن يفعل ذلك صاحب علم الربهان، اأعني<br />
اأن ميارس هو اأيضا التاأويل قياسا على تاأويل الفقيه.<br />
واأولوية استحقاق صاحب الربهان لفعل التاأويل نابعة<br />
من كون صاحب الربهان له قياس يقيني، يف حني ل<br />
يتعدى قياس الفقيه عتبة »الظن«. فاإذا كان الفقيه يفعل<br />
التاأويل، وهو ليس له سوى قياس ظني، فمن باب الأوىل<br />
اأن يعمل ذلك صاحب الربهان. ف»اإذا كان الفقيه يفعل<br />
هذا يف كثري من الأحكام الشرعية، فكم باحلري اأن<br />
يفعل ذلك صاحب علم الربهان؟ فاإن الفقيه اإمنا عنده<br />
قياس ظني، والعارف عنده قياس يقيني« )58( .<br />
) 2 2خطاأ احلاكم كخطاأ العامل: خطاأ معذور<br />
ما كان لبن رشد اأن يتحدث عن فلسفة احلُ كم،<br />
من حيث اإن الفيلسوف حاكم على املوجودات، دون اأن<br />
يتعرض ملشكلة اخلطاأ. فاإننا نعلم اأن احلكم تصديق<br />
- يف مقابل الإدراك والتصور- يدور عليه الصدق كما<br />
يدور عليه الكذب. وقد كانت مقاربته مصاألة اخلطاأ يف<br />
احلكم على املوجودات مدعومة باآلية التمثيل باحلاكم<br />
يف الفقهيات، وذلك من جهة اأنواع اخلطاأ ودرجاته.<br />
يحصر ابن رشد اخلطاأ يف الشرعيات يف ضربني:<br />
»اإما خطاأ يعذر فيه من هو من اأهل النظر يف ذلك<br />
الشيء الذي وقع فيه اخلطاأ- كما يعذر الطبيب املاهر<br />
اإذا اأخطاأ يف صناعة الطب، واحلاكم املاهر اإذا اأخطاأ<br />
يف احلكم. ول يعذر فيه من ليس من اأهل ذلك الصاأن.<br />
واإما خطاأ ليس يعذر فيه اأحد من الناس، بل اإن وقع يف<br />
مبادئ الشريعة فهو كفر واإن وقع فيما بعد املبادئ فهو<br />
بدعة« )59( . واأما اخلطاأ الذي يقع من غري هذا الصنف<br />
من الناس فهو اإثم حمض، وسواء كان اخلطاأ يف الأمور<br />
النظرية اأو العملية. فكما اأن احلاكم اجلاهل بالسنة<br />
اإذا اأخطاأ يف احلكم مل يكن معذوراً، كذلك احلاكم<br />
على املوجودات اإذا مل توجد فيه شروط احلاكم، فليس<br />
مبعذور، بل هو اإما اآثم واإما كافر. واإذا كان يشرتط<br />
يف احلاكم يف احلال واحلرام اأن جتتمع، له اأسباب<br />
الجتهاد- وهو معرفة الأصول ومعرفة الستنباط من<br />
تلك الأصول بالقياس- فكم باحلري اأن يشرتط ذلك يف<br />
احلاكم على املوجودات، اعني اأن يعرف الأوائل العقلية<br />
)60(<br />
ووجه الستنباط منها.<br />
) 3 3ضالل بعض الفالسفة كقلة تورع بعض<br />
الفقهاء: اإما بالعرض واإما بالذات<br />
كانت معاجلة مشكلة اخلطاأ يف نظر ابن رشد،<br />
مناسبة لتشغيل اآلية التمثيل بالفقه والفقهاء اأيضا:<br />
»هذا الذي عرض لهذه الصناعة هو شيء عارض لسائر<br />
الصنائع. فكم من فقيه كان الفقه سبباً لقلة تورعه<br />
وخوضه يف الدنيا، بل اأكرث الفقهاء كذلك جندهم،<br />
وصناعتهم اإمنا تقتضي بالذات الفضيلة العملية. فاإذاً<br />
ل يبعد اأن يعرض يف الصناعة التي تقتضي الفضيلة<br />
1 )
71<br />
2 0 1 1<br />
العلمية ما عرض يف الصناعة التي تقتضي الفضيلة<br />
العملية« )61( . فاإذا كانت صناعة الفقه تقتضي الفضيلة<br />
العملية، فاإنه ل ميكن اأن نقول اإنها سبب يف قلة تورع<br />
فقيه ما وخوضه يف الدنيا، ومن ثم يجب اأن مننع تعاطي<br />
صناعة الفقه. صحيح اأننا جند فقهاء قليلي الورع<br />
وخائضني يف الدنيا، لكن ذلك مل يحصل بالذات عن<br />
تعاطيهم للفقه، بل كان الفقه سببا عرضيا يف ذلك،<br />
وليس ذاتيا. ويجب األ نتخذ من حصول شيء بالعرض<br />
عن صناعة ما مربرا ملنع تلك الصناعة. واإذا كان الأمر<br />
كذلك يف الفقه فاإن الأمر نفسه ينسحب على الفلسفة،<br />
بل هو اأصدق على الفلسفة من باب الأوىل كما سنظهر<br />
السبب يف ذلك. فما عرض للناس اأو لبعضهم عن هذه<br />
الصناعة هو شيء يعرض لهوؤلء اأو لغريهم مع سائر<br />
الصنائع، ول يجب اأن يكون ذلك مربرا ملنع احلكمة عن<br />
الناس، اأو ملن هو اأهل لها.<br />
اأما اأولوية اإباحة الفلسفة بالقياس اإىل الفقه فلعلها<br />
ترجع اإىل اإصارة ابن رشد نفسه حينما قال اإنه اإذا<br />
قارنا كميّا بني الناس الذين يحصل لهم اختال ما عن<br />
صناعتي الفقه والفلسفة، فاإننا سنكتشف اأن الفقه كان<br />
سببا بالعرض لقلة تورع كثري من الفقهاء، ومع ذلك فهو<br />
ل ميكن منعه عن الناس، اأما الفلسفة فا جند سوى قلة<br />
فقط من الناس هم الذين يدخل عليهم الضرر، لذلك<br />
كان الأوىل اأن نتعاطى الفلسفة. يقول ابن رشد: »الضرر<br />
الداخل على الناس من كتب الربهان اأخف، لأنه ل يقف<br />
على كتب الربهان يف الأكرث، اإل اأهل الفطر الفائقة،<br />
واإمنا يوؤتى هذا الصنف من عدم الفضيلة العملية<br />
والقراءة على غري ترتيب واأخذها من غري معلم« )62( . اإن<br />
تعاطي الفلسفة اأسلم من تعاطي الفقه.<br />
4 املتاأخر واملتقدم يف حتصيل الفلسفة ويف<br />
الفقه: احلاجة اإىل الرتاكم<br />
ملا ظهر اأن الشرع يوجب القياس العقلي واأنواعه<br />
قياسا على وجوب القياس الفقهي، فاإنه ل بد من<br />
اأمرين اإما اأن يكون قد تقدم اأناس فنظروا يف القياس<br />
العقلي كما قد تقدم اأناس فنظروا يف القياس الفقهي،<br />
واإما اأن ل يكون قد تقدم يف ذلك اأحد، كما قد يكون<br />
ذلك يف القياس الفقهي. فاإن مل يكن قد ابتداأ اأحد<br />
ذلك فاإنه ل بد من الشروع يف ذلك، واإن كان قد تقدم<br />
فنظر اأحد ما يف القياس فقهيا كان اأو عقليا فا بد من<br />
الستعانة بنظره حتى تكمل املعرفة بذلك. وملا كان من<br />
العسري اأن يقف واحد فقط ابتداء ومن تلقاء نفسه على<br />
القياس الفقهي، فاإن هذا يصدق بالأوىل على القياس<br />
العقلي. واإذا كان املتاأخرون قد استعانوا باملتقدمني يف<br />
نظرهم يف القياس الفقهي، فاإنه يجب اأيضا اأن يستعني<br />
)63(<br />
املتاأخرون باملتقدمني الناظرين يف القياس العقلي.<br />
وهكذا فلما ظهر اأن القياس العقلي اأو النظر يف القياس<br />
العقلي ليس بدعة بل هو واجب بالشرع مثله يف ذلك<br />
مثل وجوب النظر يف القياس الفقهي، سننتهي اإىل اأحد<br />
اأمرين: اإما اأن نكون نحن اأول من يدشن هذا النظر يف<br />
القياس العقلي، واإما اأن يكون اأحدنا قد تقدم فنظر يف<br />
ذلك. ففي احلالتني معا نكون مطالبني باإعمال قاعدة<br />
»يجب اأن يستعني املتاأخر باملتقدم«، ويف احلالتني معا<br />
يلجاأ ابن رشد اإىل التمثيل:<br />
1 احلالة االأوىل:<br />
اإذا كان مل يتقدم اأحد ممن قبلنا بفحصٍ عن<br />
القياس العقلي واأنواعه، فاإنه يجب علينا اأن نبتدئ<br />
بالفحص عنه. ويف هذه احلالة فاإنه لو كنا نحن من<br />
تقدم اإىل النظر يف القياس العقلي، فاإن غرينا ل بد له،<br />
من اأجل استكمال هذا النظر، من الستعانة بنظرنا.<br />
يقول ابن رشد: »فاإنه عسري اأو غري ممكن اأن يقف واحد<br />
من الناس من تلقائه وابتداء على جميع ما يحتاج اإليه<br />
كل من ذلك، كما اأنه عسري اأن يستنبط واحد جميع<br />
ما يحتاج اإليه من معرفة اأنواع القياس الفقهي، بل<br />
معرفة القياس العقلي اأحرى بذلك« )64( . هنا اأيضا يبداأ<br />
بالتمثيل باملساوي وينتهي بالتمثيل بالأوىل. وكاأن ما<br />
يضفي مشروعية حقيقية على ما يدعيه، اأعني ضرورة<br />
وجود التعاون، هو هذا الأوىل، وليس املساوي. واإىل ذات<br />
القياس، قياس الأوىل يلجاأ ابن رشد ليثبت قاعدة عامة<br />
هي: ضرورة استعانة املتاأخر باملتقدم. فيقيم مشابهة<br />
اأبحاث<br />
1 .<br />
4 )
2 0 1 1<br />
72<br />
بني نظام العلم ونظام العمل. فاإذا كان من البني بذاته<br />
اأن يكون نظام العمل مقتضيا تضافر اجلهود لأجل<br />
اإنشاء الصنائع وتصويرها فبالأوىل اأن يكون نظام العلم<br />
)65(<br />
كذلك.<br />
لكن ابن رشد يعرف جيدا اأن النظر يف القياس<br />
العقلي قد تقدم اإليه غرينا، اأما ما مل يتقدم اإليه غرينا<br />
فهو القياس الفقهي. )66( اأو بعبارة اأخرى ملا مل تكن هذه<br />
حالنا، لأننا لسنا ممن تقدم اإىل النظر القياس العقلي،<br />
بل غرينا، جلاأ ابن رشد اإىل متثيل النظر يف القياس<br />
العقلي بالنظر الفقهي، علما اأن النظر يف القياس<br />
الفقهي غري النظر يف القياس العقلي.<br />
رمبا يكون من تبعات هذا التمثيل القول بوحدة النوع<br />
البشري. واإل فما معنى اأن ميثل املتقدم واملتاأخر يف<br />
النظر يف القياس العقلي باملتقدم واملتاأخر يف النظر يف<br />
القياس الفقهي، مع اأن املتاأخر واملتقدم يف القياس الأول<br />
ل يخرجنا عن امللة، يف حني تكون الستعانة يف الجتهاد<br />
الفقهي مشروطة باملشاركة يف امللة؟<br />
ومن تبعاته اأيضا، اإلغاء الفروق بني الأقيسة، وما<br />
كان ليتاأتى له ذلك اإل من جهة النظر اإليها من جهة<br />
الصورة. لأنه يف هذه احلالة فقط ميكن استعانة املتقدم<br />
باملتاأخر دون اعتبارات ثقافية اأو ملية، اإل اعتبار شروط<br />
صحة هذه الأقيسة. ومن تبعات اإلغاء الفروق بني<br />
الأقيسة حتييدها. من هنا جاء ذلك التمثيل الشهري<br />
للقياس العقلي باآلة التذكية.<br />
2 احلالة الثانية:<br />
وهي احلالة التي ل نكون فيها نحن اأول من تقدم<br />
بالنظر يف القياس العقلي، بل غرينا هو الذي سبقنا<br />
اإىل ذلك. يف هذه احلالة اأيضا، يستعمل ابن رشد تلك<br />
القاعدة ليسحبها على هذه النازلة، ليحكم: »بنيٌ اأنه<br />
يجب علينا اأن نستعني على ما نحن بسبيله مبا قاله من<br />
تقدمنا يف ذلك، وسواء كان ذلك الغري مشاركاً لنا اأو غري<br />
مشارك يف امللة. فاإن الآلة التي تصح بها التذكية ليس<br />
يعترب يف صحة التذكية بها كونها اآلة ملشارك لنا يف امللة<br />
اأو غري مشارك اإذا كانت فيها، شروط الصحة؛ واأعني<br />
بغري املشارك من نظر يف هذه الأشياء من القدماء قبل<br />
ملة الإصام« )67( . وعلينا اأن نوضح قول ابن رشد:<br />
فلما كانت املقاييس العقلية تشبه اآلة التذكية،<br />
ول اعتبار ملشاركة صاحب هذه الآلة يف امللة اأو عدم<br />
مشاركته، واإمنا شروط صحة اآلة التذكية هي فقط ما<br />
يجب اأن يوؤخذ بعني العتبار؛ وملا كان كل ما يحتاج اإليه<br />
من النظر يف اأمر املقاييس العقلية قد تقدم اإليه القدماء<br />
بالفحص، فاإنه ينبغي اأن نفحص ما تركوه من نظرهم<br />
يف القياس العقلي، متاما مثلما ينبغي فحص شروط<br />
صحة اآلة التذكية.<br />
لكن هذا الفحص ل ينبغي اأن يتوجه اإىل من نظر<br />
يف املقاييس اأو صاحبها ومنشئها الأول، واإمنا اإىل هذا<br />
النظر، اأعني اإىل شروط صحته فقط: »فاإن كان كله<br />
صواباً قبلناه منهم، واإن كان فيه ما ليس بصواب،<br />
نبهنا عليه« )68( . والظاهر اأن التاأكيد حصر الفحص<br />
يف الرتاكم احلاصل بخصوص املقاييس العقلية دون<br />
احتفال مبن كان وراء ذلك الرتاكم، ضرب من اللتزام<br />
من ابن رشد بقواعد الفحص العقلي من غري اعتبار<br />
للسُّ لُطات املعرفية التي تقف وراء ذلك.<br />
غري اأن اأهم العوائق يف متثيل القياس العقلي<br />
بالقياس الفقهي، هو دخول معطى اأساسي يف القياس<br />
العقلي غري موجود يف القياس الفقهي: فاملتقدمون<br />
واملتاأخرون الناظرون يف القياس الفقهي رغم كونهم<br />
خمتلفني يف املذهب، فهم يشرتكون كلهم يف ملة واحدة،<br />
اإذ كان النتماء اإىل امللة اأول شروط الجتهاد فيها؛ اأما<br />
املتقدمون واملتاأخرون الناظرون يف القياس العقلي فهم<br />
يختلفون يف امللة، وليسوا بالضرورة من ملة واحدة، اأو<br />
على الأقل ليست وحدة امللة بينهم شرطا لجتهادهم<br />
واستفادة بعضهم من بعض. وانتفاء شرط املشاركة<br />
يف امللة يجعل من القياس العقلي اأمرا غري منتم مللة<br />
معينة، واإل سقطنا يف التناقض، فالقياس العقلي يخص<br />
الإنسان مبا هو اإنسان. هذا املعطى هو الذي ل يجعل<br />
عملية التمثيل قائمة على التشابه التام بني الطرفني،<br />
لأن درجة الختاف يف املذهب على كل حال ل ترقى<br />
اإىل مستوى الختاف يف امللة. غري اأن ابن رشد مل يكن<br />
ليعتد بهذا العائق، ف »سواء كان ذلك الغري مشاركا لنا<br />
2 .
73<br />
2 0 1 1<br />
اأو غري مشارك يف امللة« فاإنه من البني اأنه يجب علينا اأن<br />
نستعني مبا قاله من تقدمنا.<br />
من جهة، اإن جتريد ابن رشد القياس العقلي من<br />
انتمائه »الثقايف« هو الذي ميكن من التفاعل واستعانة<br />
املتاأخر باملتقدم وتلبية حاجة املتاأخر اإىل املتقدم؛<br />
كما اأن انتفاء الهوية الثقافية للقياس العقلي هو الذي<br />
حمله على النظر اإىل القياس العقلي على اأنه اآلة، وليس<br />
صناعة. اأما من جهة ثانية، فاإن اعتباره القياس العقلي<br />
اآلة قد كان الإمكانية الوحيدة التي يحصل بها ضمان<br />
شرط التفاعل والقتباس واستعانة املتقدم باملتاأخر، لأن<br />
ما يهم اآنئذ ليس هوية الآلة، واإمنا صحتها وصامتها.<br />
من هنا جاءت ضرورة الستنجاد بتمثيل اآخر والتخلي<br />
للحظة عن التمثيل بالفقه، يقول ابن رشد: »اإن الآلة<br />
التي تصح بها التذكية ليس يعترب يف صحة التذكية بها<br />
كونها اآلة ملشارك لنا يف امللة اأو غري مشارك اإذا كانت<br />
فيها، شروط الصحة« )69( .<br />
اإن معيار الستعانة باآلة كان القدماء قد شرعوا<br />
يف النظر فيها، ل يشرتط فيها شرط املشاركة يف امللة،<br />
واإمنا يشرتط فيها شرط اآخر هو الصحة. لهذا يخلص<br />
ابن رشد: »اإذا كان الأمر هكذا، وكان كل ما يحتاج<br />
اإليه من النظر يف اأمر املقاييس العقلية قد فحص عنه<br />
القدماء اأمت فحص، فقد ينبغي اأن نضرب باأيدينا اإىل<br />
كتبهم« )70( .<br />
خامتة<br />
ميكن القول اإن التمثيل بعلوم التعاليم كان بقصد<br />
التشريع للنظر العلمي، وبقصد اإرساء شروطه. وقد<br />
مكنت خصائص علوم التعاليم، وبخاصة علم الفلك،<br />
من حتصيل هذه الغاية بالنظر اإىل يقينيتها وانفصالها<br />
عن بادئ الراأي، واقتضائها التعاون والتداول بخصوص<br />
ثمراتها، هذا التعاون والتداول هما ما يوؤسس علمية<br />
هذا العلم اأساسا. لذلك قلنا اإن علوم التعاليم عموما<br />
قد ساعدت، بخصائصها الشبيهة باملطلوب، ابن رشد<br />
كبرية مساعدة كبرية على اإجناح عملية التمثيل بهذه<br />
العلوم لأجل تربير مشروعية علم املنطق وضرورة<br />
استفادة املتاأخر باملتقدم.<br />
لكن على الرغم من ذلك، مل يكن اأمام ابن رشد<br />
سوى اأن يرتاجع عن التمثيل بعلوم التعاليم ليمثل بعلم<br />
قريب من خماطبه، وهو علم اأصول الفقه. وقد كان من<br />
غايات التمثيل بالفقهيات عنده يف هذا املوضع تاأكيد ما<br />
وظف له التمثيل بالتعاليم، اأي ضرورة التعاون والتداول،<br />
وكاأنه قد شعر من طرف خفي اأن مثال التعاليم غري<br />
ظاهر مبا يكفي للمخاطب.<br />
غري اأن ابن رشد وظف التمثيل بالفقه اأيضا بقصد<br />
اإثبات ضرورة حصول الآلت التي بها نكون قادرين<br />
على »العتبار يف املوجودات ودللة الصنعة فيها«،<br />
اأعني الآلت التي بها نكون قادرين على فعل الفلسفة،<br />
من حيث اإن هذا الفعل »ليس شيئا اأكرث من النظر يف<br />
املوجودات واعتبارها من جهة دللتها على الصانع -<br />
اأعني من جهة ما هي مصنوعات، لأن املوجودات تدل<br />
على الصانع مبعرفة صنعتها، واأنه كلما كانت املعرفة<br />
بصنعتها اأمت كانت املعرفة بالصانع اأمت« )71( . اأو بعبارة<br />
اأخرى، اإن من ل يعرف الصنعة ل يعرف املصنوع، ومن<br />
ل يعرف املصنوع ل يعرف الصانع، لذلك وجب الشروع<br />
يف فحص املوجودات على الرتتيب والنحو الذي اأفادتنا<br />
)72(<br />
به صناعة املعرفة باملقاييس الربهانية.<br />
وهذه هي غاية التمثيل، اأعني المتثال للأمر<br />
بوجوب معرفة سائر املوجودات بالربهان. من هنا يصح<br />
اأن نقول اإن ابن رشد كان مضطرا اإىل منهج التمثيل يف<br />
اأفق التشريع لفعل الربهان يف اأرض الإصام، وكاأن قرار<br />
التشريع هذا ل يحصل اإل من مدخل التمثيل.<br />
اأبحاث
2 0 1 1<br />
74<br />
املصادر واملراجع<br />
. 1<br />
. 1اأبو الوليد، ابن رشد، تهافت التهافت، حتقيق موريس بويج، بريوت: دار املشرق، ط 1992 3،<br />
2اأبو . 2 الوليد، ابن رشد، فصل املقال وتقرير ما بني الشريعة واحلكمة من التصال ، حتقيق عبد الواحد العسري،<br />
بريوت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1997.<br />
3اأبو . 3 الوليد، ابن رشد، تلخيص كتاب الربهان ، حتقيق حممود قاسم وتشارلس برتوورث واأحمد عبد احلميد هريدي،<br />
القاهرة: الهيئة املصرية العامة للكتاب، 1982.<br />
4اأبو . 4 الوليد، ابن رشد، تلخيص كتاب القياس ، حتقيق حممود قاسم وتشارلس برتوورث واحمد عبد احلميد هريدي،<br />
القاهرة: الهياأة املصرية العامة للكتاب، 1983.<br />
. 5اأبو الوليد، ابن رشد، تلخيص كتاب اخلطابة، حتقيق مارون عواد، باريس: فران، 2002<br />
. 6اأبو الوليد، ابن رشد، الضروري يف الفقه، حتقيق جمال الدين العلوي، بريوت: دار الغرب الإصامي، 1994<br />
7اأبو . 7 الوليد، ابن رشد، تلخيص كتاب اجلدل ، حتقيق حممود قاسم، وتشارلس برتوورث واحمد عبد احلميد هريدي،<br />
القاهرة: الهيئة املصرية العامة للكتاب، 1982.<br />
. 8اأرسطو، املواضع اجلدلية، حتقيق فريد جرب، بريوت: دار الفكر اللبناين، 1999<br />
. 9اأومليل، علي، السلطة الثقافية والسلطة السياسية، بريوت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1996<br />
10 العروي، عبد اهلل، مفهوم العقل: مقالة يف املفارقات، البيضاء/ بريوت: املركز الثقايف العربي، 1995<br />
1برملان، 1 خاييم، »التمثيل والستعارة يف العلم والشعر والفلسفة«، ترجمة حمو النقاري، جملة املناظرة، ع1، 1987<br />
، 12 عبد اهلل، احلجاج يف القراآن من خال خصائصه الأسلوبية، )جملدان(، اجلزء الثاين، تونس: جامعة<br />
منوبة: منشورات كلية الآداب، 2001.<br />
1عبد 3 الرحمن، طه، جتديد املنهج يف تقومي الرتاث، البيضاء/ بريوت: املركز الثقايف العربي، 1994<br />
1النقاري، 4 حمو، »حول عاقة املنطق بعلم الأصول عند ابن رشد«، جملة مقدمات، ع15، شتاء 1998<br />
1منسية، 5 مقداد عرفة، »موازنة ابن رشد بني القول بالظاهر والقول بالقياس«، اجلمعية الفلسفية املصرية، ع. 8<br />
.1999<br />
1اجلرجاين، 616 علي الشريف، تقدم التعريفات، حتقيق غوستاف فلوغل، بريوت: مكتبة لبنان، 1908.<br />
. 5<br />
. 6<br />
. 8<br />
. 9<br />
. 10<br />
. 11<br />
1صولة 2<br />
. 13<br />
. 14<br />
. 15<br />
17. De Libera, Alain. Introduction au Discours décisif. Paris: GF- Flammarion, 1996.
75<br />
2 0 1 1<br />
الهوامش واالإحاالت<br />
غري اأن ابن رشد مل يحصر متثياته يف علوم التعاليم واأصول الفقه فقط، اإذ اأن تشبيها اآخر كان حاضرا يف<br />
1- فصل املقال على نحو ملفت لانتباه، هو تشبيه اآلت النظر باآلت العمل وتشبيه النظر بالعمل، وبخاصة تشبيه<br />
املنطق باآلة التذكية، الذي جلاأ اإليه لأجل اإبراز مشروعية استعارة علوم املنطق من الأوائل؛ وهذا املثال ل تخفى<br />
طبيعيته الفقهية. لكننا سنوؤجل فحصه اإىل فحص منفرد، ولن نقف عنده هنا اإل قليا.<br />
عبد اهلل العروي، مفهوم العقل: مقالة يف املفارقات، البيضاء/ بريوت: املركز الثقايف العربي، 1995، ص119؛<br />
2- ويبدو اأن ذ. العروي مل ينتبه اإىل اأن النص املنطقي الأرسطي هو خمسة اأجزاء وليس ثمانية، ومل يعترب ثمانية اإل<br />
يف عرف التقليد الإصامي الذي ورثه اأهله عن التقليد السكندري السابق.<br />
عبد اهلل العروي، مفهوم العقل، ص119.<br />
3- نفسه، ص123.<br />
4- نفسه.<br />
5- خاييم برملان، ‘التمثيل والستعارة يف العلم والشعر والفلسفة’، ترجمة حمو النقاري، جملة املناظرة، ع. 1،<br />
6- 1987، ص123.<br />
عبد اهلل صولة، احلجاج يف القراآن من خال خصائصه الأسلوبية، )جملدان(، اجلزء الثاين، تونس: جامعة<br />
7- منوبة: منشورات كلية الآداب، 2001، ص562.<br />
ابن رشد، تهافت التهافت، حتقيق موريس بويج، ط 3، بريوت: دار املشرق، 1992، ص207.<br />
8- ابن رشد، فصل املقال وتقرير ما بني الشريعة واحلكمة من التصال، حتقيق عبد الواحد العسري، بريوت: مركز<br />
9- دراسات الوحدة العربية، 1997، ص91-90، ف13.<br />
ابن رشد، تهافت التهافت، حتقيق موريس بويج، ص208.<br />
10- تهافت التهافت، ص207.<br />
11- تهافت التهافت، ص207.<br />
12- تهافت التهافت، ص207.<br />
13- ابن رشد، فصل املقال، ص91-90، ف13.<br />
14- تهافت التهافت، ص207.<br />
15- تهافت التهافت، ص207.<br />
16- ابن رشد، تلخيص كتاب الربهان، حتقيق حممود قاسم وتشارلس برتوورث واأحمد عبد احلميد هريدي،<br />
17- القاهرة: الهيئة املصرية العامة للكتاب، 1982، ف1.<br />
تهافت التهافت، ص 12.<br />
18- فصل املقال، ص92-91، ف14.<br />
19- فصل املقال، ص92-91، ف14.<br />
20- فصل املقال، ص91-90، ف13.<br />
21- علي اأومليل، السلطة الثقافية والسلطة السياسية، بريوت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1996، ص202.<br />
22- علي اأومليل، السلطة الثقافية والسلطة السياسية، س203؛ لكن هذا ل يعني بالضرورة طلب “وجاهة عند<br />
23- العامة”، على غرار ما يستنتج علي اأمليل.<br />
نفسه.<br />
24- نفسه.<br />
25- فصل املقال، ص92-91، ف14.<br />
26- اأرسطو، املواضع اجلدلية، حتقيق فريد جرب، بريوت: دار الفكر اللبناين، 1999، ص549.<br />
27- اأبحاث
2 0 1 1<br />
76<br />
28- فصل املقال، ص92، ف14.<br />
29- انظر طه عبد الرحمن، جتديد املنهج يف تقومي الرتاث، البيضاء/ بريوت: املركز الثقايف العربي، 1994،<br />
ص175.<br />
30- طه عبد الرحمن، جتديد املنهج يف تقومي الرتاث، ص175.<br />
31- فصل املقال، ص85، ف1؛ وقد ذهب الباحث اآلن دوليربا يف تقدميه لرتجمة فصل املقال اإىل الفرنسية اإىل<br />
اأن فصل املقال عبارة عن »فتوى«، اأنظر: Paris: Alain de Libera, Introduction au Discours décisif,<br />
..11.p GF- Flammarion, ,1996 واإىل هذا املوقف نفسه انتهى حتليل ذ .علي اأومليل ،اأنظر ،السلطة الثقافية<br />
والسلطة السياسية، ص201.<br />
32- يقول ابن رشد: »وينبغي اأن يبني الآن اأن سائر املقاييس التي تستعمل يف اخلطابة والفقه واملشورة راجعة اإىل<br />
املقاييس التي سلفت. وبذلك يصح لنا اأن نقول اإن جميع املقاييس تكون بالأشكال التي سلفت، ليس الربهانية<br />
فقط ول اجلدلية بل وجميع املقاييس الفكرية وباجلملة كل تصديق يقع يف كل صناعة«؛ تلخيص كتاب القياس،<br />
حتقيق حممود قاسم وتشارلس برتوورث واحمد عبد احلميد هريدي، القاهرة: الهيئة املصرية العامة للكتاب،<br />
1983، ص363، ف371؛ ومن الباحثني املعاصرين من ذهب اإىل حد اعتبار الفقه جزءا من صناعة اخلطابة،<br />
انظر بخصوص هذه املصاألة، حمو النقاري، »حول عاقة املنطق بعلم الأصول عند ابن رشد«، جملة مقدمات،<br />
ع. 15، شتاء 1998؛ ومقداد عرفة منسية، »موازنة ابن رشد بني القول بالظاهر والقول بالقياس«، اجلمعية<br />
الفلسفية املصرية، ع. 1999، 8. ص50-25.<br />
33- من قواعد الستدلل باملثال: »اأَن يحكم على شيء ما بحكم ما من اأَجل اأَنه قد حكم به مَ نْ سلف اإِما يف ذلك<br />
الشيء بعينه، واإِما يف شبيهه، واإِما يف ضده، اأَعني اأَن احلكم على شيء ما يوجب ضد احلكم على ضده، ول سيما<br />
اإِن كان الذين حكموا هم الكل واجلمهور والعلماء معهم اأَو اأَكرثهم وكان ذلك احلكم دائما، اأَو ما يحكم به الأَكرث<br />
اأَو احلكماء اإِما جلهم واإِما بعضهم، وكذلك اأَيضا اإِذا حكم به الذين يظن اأَنهم ل يحكمون باملتضادات، اأَعني<br />
بضد احلق اأَو بضد اخلري اأَو بضد النافع اأَنهم ل يحكمون باملتضادات، اأَعني بضد احلق اأَو بضد اخلري اأَو بضد<br />
النافع اأَو بضد العدل كالإِله والأَبوين واملعلم. واحلكم من هوؤلءِ قد يكون بالقول، وقد يكون بالفعل، وقد يكون<br />
بالطبع، اأَعني اإِذا مل يكن يف طباعهم ذلك الشيء، مثل قول القائل: اإِن املوت شر، هكذا حكم اهلل، فاإِنه ليس<br />
مبائت. واأَما مثال ذلك يف الأَبوين واملعلم فظاهر، وذلك اإِذا احتج على الإِنسان باأَفعالهما واأَقوالهما«؛ تلخيص<br />
كتاب اخلطابة، حتقيق مارون عواد، باريس: فران، 9. 23. 2. 2002:<br />
34- طه عبد الرحمن، جتديد املنهج يف تقومي الرتاث، ص175.<br />
35- فصل املقال، ص115، ف57.<br />
36- فصل املقال، ص115، ف57.<br />
37- فصل املقال، ص115، ف58.<br />
38- يقول ابن رشد: »واملعرفة بهذه الأفعال هي التي تسمى العلم العملي. وهذه تنقسم قسمني: احدهما اأفعال ظاهرة<br />
بدنية، والعلم بهذه هو الذي يسمى الفقه، والقسم الثاين اأفعال نفسانية، مثل الشكر والصرب، وغري ذلك من<br />
الأخاق التي دعا اإليها الشرع اأو نهى عنها. والعلم بهذه هو الذي يسمى الزهد وعلوم الآخرة«؛ فصل املقال،<br />
ص115، ف58.<br />
39- ابن رشد، الضروري يف الفقه، حتقيق العلوي جمال الدين، بريوت: دار الغرب الإصامي، 1994، ص34.<br />
40- ابن رشد، الضروري يف الفقه، حتقيق جمال الدين العلوي، س35-34؛ وعلى سبيل املقارنة تقدم تعريفات<br />
اجلرجاين الفقه كما يلي: »الفقه يف الصطاح هو العلم بالأحكام الشرعية العملية من اأدلتهما التفصيلية وقيل<br />
هو الإصابة والوقوف على املعنى اخلفي الذي يتعلق به احلكم وهو علم مستنبط بالراأي والجتهاد ويحتاج فيه<br />
اإىل النظر والتاأمل«؛ حتقيق غوستاف فلوغل، بريوت: مكتبة لبنان، 1908: )مادة فقه(.<br />
41- الضروري يف الفقه، ص35.
77<br />
2 0 1 1<br />
جند يف هامش نص الضروري يف الفقه املاحظة التالية: »ميكن اعتبار التصنيف الثاثي للعلوم تصنيفا فريدا<br />
42- بالقياس اإىل ما ذهب اإليه ابن رشد يف اأعماله الاحقة على هذا املختصر، وذلك على الرغم من اأنه ل يخرج عن<br />
التصنيف العام للعلوم اإىل نظرية وعملية اآلية، وهو ما ذهب اإليه ابن رشد مع غريه من املتقدمني«؛ ص34؛ ه1.<br />
الضروري يف الفقه، ص36.<br />
43- الضروري يف الفقه، ص36.<br />
44- فصل املقال، ص107، ف43.<br />
45- فصل املقال، ص89، ف7<br />
46- فصل املقال، ص108-107، ف44.<br />
47- فصل املقال، ص89، ف8.<br />
48- فصل املقال، ص89، ف8.<br />
49- ابن رشد، تلخيص كتاب اخلطابة، حتقيق مارون عواد: 9. 23. 2.<br />
50- ابن رشد، تلخيص كتاب اجلدل، حت. حممود قاسم ومن معه، ص160، ف222.<br />
51- فصل املقال، ص89، ف8.<br />
52- فصل املقال، ص89، ف8.<br />
53- فصل املقال، ص89، ف8.<br />
54- الضروري يف الفقه، ص35.<br />
55- الضروري يف الفقه، ص36.<br />
56- فصل املقال، ص97، ف20.<br />
57- فصل املقال، ص98، ف22.<br />
58- فصل املقال، ص108، ف44؛ ويضيف: »وهذا اخلطاأ هو اخلطاأ الذي يكون يف الأشياء التي تفضي اإليها جميع<br />
59- اأصناف طرق الدلئل اإىل معرفتها، فتكون معرفة ذلك الشيء بهذه اجلهة ممكنة للجميع. وهذا هو مثل الإقرار<br />
باهلل تبارك وتعاىل، وبالنبوات، وبالسعادة، الأخروية، والشقاء الأخروي. وذلك اأن هذه الأصول الثاثة توؤدي<br />
اإليها اأصناف الدلئل، الثاثة التي ل يعرى احد من الناس عن وقوع التصديق له من قبلها بالذي كلف معرفته،<br />
اعني الدلئل اخلطابية واجلدلية والربهانية«؛ فصل املقال، ص109، ف45.<br />
فصل املقال، ص108-107، ف44؛ وانظر اأيضا بخصوص الجتهاد، ابن رشد، الضروري يف الفقه، ص143-137.<br />
60- فصل املقال، ص95، ف18.<br />
61- فصل املقال، ص114، ف55.<br />
62- فصل املقال، ص89، ف9.<br />
63- فصل املقال، ص90، ف9.<br />
64- انظر فصل املقال، ص93، ف14، حيث يقول: »وهذا اأمر بني بنفسه ليس يف الصنائع العلمية فقط بل ويف<br />
65- العملية، فاإنه ليس منها صناعة يقدر اأن ينشئها واحد بعينه، فكيف بصناعة الصنائع وهي احلكمة؟«.<br />
اإل اأن يكون ابن رشد يعني بالفقه معناه العام الذي اأشار اإليه اأرسطو يف كتاب التحليات الأوىل، وترجمه العرب<br />
66- بالفقه، ويعني علم القوانني والتشريع، ويبدو الأمر يف حاجة اإىل نظر.<br />
فصل املقال، ص91، ف10.<br />
- 67 فصل املقال، ص91، ف11.<br />
- 68 فصل املقال، ص91، ف10.<br />
69- فصل املقال، ص91، ف11.<br />
70- فصل املقال، ص86-85، ف2.<br />
71- فصل املقال، ص91، ف12.<br />
72- اأبحاث
هموم املعيشة كما تصوِّرها<br />
الرواية التاريخية<br />
)العرص اململوكي منوذجً ا(<br />
د. خريي دومه<br />
باحث من مصر
81<br />
2 0 1 1<br />
Abstract<br />
This paper aims at answering some<br />
questions concerning the historical novel:<br />
What kind of relationship is there between<br />
the reality of the past as presented by the<br />
historical novel and the present reality in<br />
which the writer lives and in which the novel<br />
is written?<br />
What kind of relationship is there between<br />
the Novel as a realistic literary genre and<br />
History as a discipline based on narrating<br />
events within a temporal and philosophical<br />
frame?<br />
Is it possible to depend on the novel as a<br />
source for History?<br />
To what extent does the background, vision<br />
and style of the writer play an important role<br />
in dealing with details of the daily life of the<br />
age?<br />
The paper discusses three Egyptian<br />
historical novels:<br />
Ala Bab Zwilaa, by Mohamed Said Al-<br />
Erian (1947)<br />
Assaeroun Niaman , by Saad Makkawy<br />
(1965)<br />
Al-Zeeny Barakat, by Gamal Al-Ghitani<br />
(1974)<br />
The three novels discussed recall the<br />
last decades of the Mamluk period when the<br />
Mamluk independent state started to decline.<br />
In general, the three writers were<br />
interested in history but they belong to<br />
deferent generations. Therefore their motives<br />
and ways of recalling this period also varied.<br />
امللخص<br />
هذا البحث يحاول اختبار جمموعة من الفرضيات،<br />
عرب مناقشة عدد من الأسئلة، اأهمها:<br />
ما طبيعة العاقة بني الواقع املاضي الذي تعرضه رواية<br />
تاريخية ما، وبني الواقع احلاضر الذي عاش فيه كاتبها،<br />
وصدرت يف اإطاره؟<br />
ما طبيعة العاقة بني الرواية نوعً ا اأدبيًّا واقعيًّا وزمنيًّا،<br />
وبني التاريخ علمً ا يقوم على سرد الوقائع يف اإطار زمني<br />
وفلسفي؟<br />
اأي لون من التاريخ تقدمه الرواية مبا هي نوع اأدبي<br />
له روؤيته وخصائصه املميزة؟ وهل بالإمكان العتماد على<br />
الرواية مصدرًا للتاريخ؟<br />
اإىل اأي مدى يوؤدي تكوين الكاتب وروؤيته واأسلوبه دورًا<br />
يف طريقة تناوله تفاصيل احلياة اليومية وهموم املعيشة يف<br />
الرواية التاريخية؟<br />
تتوقف الدراسة عند ثاث روايات تاريخية مصرية،<br />
حاولت استعادة فرتة حمددة من العصر اململوكي، تلك<br />
العقود الأخرية الرهيبة التي شهدت التخلخل التدريجي، ثم<br />
النهيار املتسارع لسلطنة املماليك املستقلة، التي ساهمت<br />
لوقت طويل يف صنع جوانب من حضارة املسلمني.<br />
الروايات الثاث موضوع الدرس التطبيقي هي:<br />
“على باب زويلة” ملحمد سعيد العريان )1947(<br />
»السائرون نيامً ا« لسعد مكاوي )1965(<br />
»الزيني بركات« جلمال الغيطاين )1974(<br />
والكتاب الثاثة يجمعهم هذا الهتمام اخلاص<br />
بالتاريخ، لكنهم مع ذلك ينتمون اإىل ثاثة اأجيال خمتلفة،<br />
كما اأن خلفياتهم الثقافية والسياسية تبدو خمتلفة؛ ومن ثم<br />
فقد اختلفت دوافعهم وروؤاهم يف استعادة تلك الفرتة من<br />
ذلك العصر، كما اختلفت بطبيعة احلال اأساليبهم يف هذه<br />
الستعادة.<br />
اأبحاث
2 0 1 1<br />
82<br />
هموم املعيشة كما تصوِّرها الرواية التاريخية<br />
)العرص اململوكي منوذجً ا(<br />
د. خريي دومه<br />
)1(<br />
تَركّ ز عمل الدرس العلمي يف العقود الأخرية،<br />
ولأسباب ودوافع متعددة، على املناطق البينية الواصلة<br />
والفاصلة بني العلوم املختلفة. وقد اأفضى هذا يف غالب<br />
الأحوال، اإىل نوع من اإثراء العلم؛ ذلك اأن موضوع العلوم<br />
مهما تعددت، ومهما توالت الأزمنة واختلفت الآراء، هو<br />
الإنسان، كما اأن من املعروف اأن من ينظرون اإىل حقل<br />
علمي من خارجه، يكتشفون عادة زوايا جديدة للنظر،<br />
ويرون اأشياء ل يراها اأبناوؤه املتخصصون الغارقون يف<br />
مشكاته.<br />
وقد شكلت املنطقة الواقعة بني الأدب والتاريخ<br />
موضوعً ا للدرس من قدمي، منذ اأن ميز اأرسطو متييزه<br />
الذي صار شهريًا بني الشعر )اأو الفن اأو الأدب(<br />
والتاريخ، باعتبار اأن املوؤرخ يحكي ما حدث فعاً، يف<br />
حني يحكي الشاعر ما يحتمل حدوثه وفقً ا لقانون فلسفي<br />
اأعم واأشمل هو قانون الحتمال والضرورة )1( . وقد ظلت<br />
هذه املنطقة مثار مناقشات وخافات حتى اليوم، حيث<br />
يرتكز البحث من جديد وبقوة على طبيعة العاقة<br />
املربكة بني ما صار يطلق عليه »علم التاريخ«، وما اأصبح<br />
يسمى »الرواية« اأو »السرد«.<br />
هناك توجهات اأساسية يف املناقشات التي دارت<br />
حول طبيعة العاقة بني الرواية والتاريخ، يحسن اأن نبداأ<br />
برصدها والتمييز بينها.<br />
- هناك اأولً توجُّ ه يرى ضرورة الفصل اأو التمييز<br />
بني التاريخ بصفته علمً ا، والرواية بصفتها فنًّا؛ فاملوؤرخ<br />
- مهما تكن درجة ذاتيته - عاملِ ٌ موضوعي، يستخدم<br />
احلقائق والوثائق ليسجل صورة عن تطور جماعة اأو اأمة<br />
اأو حتى تطور الإنسانية، اأما الروائي - ومهما تكن درجة<br />
التزامه باحلقائق والوثائق املوضوعية - ففنانٌ ذاتي،<br />
واحلقائق التاريخية بالنسبة له جمرد وسيلة اأو استعارة،<br />
يعرب من خالها عن ذاته وعن راأيه يف العامل. اإن بعض<br />
دارصي التاريخ – من جهة - يدافعون عن علمهم،<br />
والسرد والرواية من وجهة نظرهم حمض خيال وحبكة،<br />
ورمبا يشكل استخدامها خطرً ا داهمً ا على التاريخ<br />
بصفته علمً ا، ومن هنا كانت دعوتهم اإىل التخلي يف كتابة<br />
التاريخ وتدوينه، عن استخدام السرد اأو القص )2( . ومن<br />
جهة اأخرى، فاإن بعض املبدعني يدافعون عن اإبداعهم،<br />
ويناأون به عن صفة التاريخية اأو التسجيلية، ول يرون يف<br />
املادة التاريخية – بعبارة األكسندر دوما الأب - سوى<br />
»مسمار يشجبون عليه لوحاتهم«، بل اإن بعضهم يرى يف<br />
»الرواية التاريخية« مصطلحً ا »سخيفً ا«، اأو »متناقضً ا«<br />
على اأقل تقدير )3( .<br />
- وهناك ثانيًا توجُّ ه يرى اأن التاريخ والسرد<br />
يتشابهان اإىل اأبعد حد، ورمبا يتطابقان؛ فالرواية - من<br />
جهة – هي نوع من التاأريخ املستند اإىل بحث ووثائق<br />
ومعاينة ورمبا معاناة للأحداث والوقائع املحكية )4( ،<br />
والتاريخ - من جهة اأخرى ومن وجهة نظر ما - لن<br />
يكون تاريخً ا حقيقيًّا، اإل اإذا استند اإىل روؤية اأو فلسفة<br />
ذاتية، جتمع الوقائع وتصوغها يف صورة قصة لها حبكة<br />
وفيها صراع ونتائج )5( . التاريخ والرواية كاهما نوع من<br />
حماكاة الوقائع وسردها، وكل منهما يصوغ الوقائع<br />
والوثائق من منظور معني، وكل منهما يستخدم اللغة يف<br />
صياغة هذه احلقائق.<br />
- ويف مقابل هذين التوجهني التقليديني، هناك<br />
توجهان اآخران يقومان على نظريات السرد احلديثة<br />
وما بعد احلديثة )6( ، تلك النظريات التي - كما يقول<br />
هايدن وايت – »نقضت التفرقة بني اخلطاب احلقيقي<br />
واخلطاب املتخيل، التفرقة القائمة على تصور اختاف<br />
اأنطولوجي بني مرجعية اخلطابني، اأي املرجعية احلقيقية<br />
واملرجعية اخليالية. وقد جاء نقض هذه التفرقة لصالح<br />
تاأكيد اجلانب املشرتك بني اخلطابني« )7( . اإن الفصل<br />
بني ما هو تاريخي وما هو اأدبي يواجه اليوم - كما تقول
83<br />
2 0 1 1<br />
ليندا هاتشيون - حتديًا كبريًا من قِ بَل فن )ونظرية( ما<br />
بعد احلداثة، »وتتجه القراءات النقدية احلديثة للتاريخ<br />
والرواية اإىل الرتكيز على اأوجه التشابه ل الختاف<br />
بني هذين الشكلني من الكتابة؛ فقد لوحظ اأن كليهما<br />
يستمد قوته من التشابه مع الواقع وليس من اأي حقيقة<br />
موضوعية. وكذلك فاإنهما يعدان بناءين لغويني استقرت<br />
لهما اأشكالهما السردية، ول ميتلك اأيهما اليقني الكامل<br />
من ناحية اللغة اأو البناء، كما اأنهما يبدوان متساويني يف<br />
مصاألة التناص، اأي استخدام نصوص سابقة يف النسيج<br />
النصي املعقد لكل منهما« )8( .<br />
اأحد التوجهني يرى اأن الصرد والصردية هما<br />
الظاهرة الأصمل، التي تضم كل ما يف حياتنا من<br />
ظواهر، واأن السرد متامً ا كاللغة، خاصية جوهرية<br />
للإنسان، واأن الإنسان ل يستطيع اأن يفهم احلياة ول<br />
اأن يصوغها بعيدً ا عن هذه اخلاصية؛ فهو يوؤرخ بالسرد<br />
ويكتب العلوم بالسرد، ويفكر بالسرد، ويتحدث سردً ا.<br />
هناك عاقات اإشكالية بني الرواية والتاريخ، حاضرة<br />
دائمً ا يف كام منظري ما بعد احلداثة عن قضايا كثرية،<br />
مثل التناص والذاتية والأيديولوجيا، وبعضهم ينظر<br />
اليوم اإىل القص بوصفه »الأمر الأكرب« الذي يشمل هذه<br />
القضايا كلها، لأن عملية خلق القص قد اأصبحت شكاً<br />
جوهريًّا من اأشكال الفكر الإنساين، وتلعب دورها يف<br />
فرض املعنى والتساق الشكلي على فوضى الأحداث،<br />
والقص من وجهة نظرهم هو الذي يرتجم املعرفة اإىل<br />
حكي، وهذه الرتجمة بالتحديد هي ما يشغل رواية ما<br />
بعد احلداثة ومنظريها. اإنهم مييزون بني »اأحداث«<br />
املاضي اأو التاريخ اأو حتى اأحداث احلياة الواقعية،<br />
وبني »احلقائق« التي نتوصل اإليها من هذه الأحداث اأو<br />
نعطيها اإياها؛ فاحلقائق اأحداث اأعطيناها معنى. اإن<br />
مناظري تاريخية خمتلفة ستصل من نفس الأحداث اإىل<br />
حقائق خمتلفة )9( .<br />
اأما التوجه الآخر، فريى اأن الرواية لون من التاأريخ،<br />
لكنها تاريخ اآخر، لأنها تقف على النقيض متامً ا من<br />
التاريخ الرسمي؛ فهي من ناحية، »تاريخٌ للمقموعني«،<br />
اأو »تاريخ للعوام«، اأو »تاريخ ملن ل تاريخ لهم )10( ؛ وهي<br />
من ناحية اأخرى، ل تتوقف عند رصد الوقائع اخلارجية،<br />
واإمنا تتجاوزها اإىل رصد مشاعر الناس اإزاء هذه<br />
الوقائع. الرواية كما يقول هوؤلء، هي تاريخ القلب اأو<br />
تاريخ الداخل؛ فاملصادر التاريخية ليست جيدة فيما<br />
يتعلق مبا يدور يف عقول الناس، قد تكون قادرة اأن تقول<br />
لك بالضبط اأين كان شخص معني يف يوم معني، كما<br />
اأن باإمكانها اأن تقول لك ماذا فعل هذا الشخص، ومن<br />
قابل، ومن باع له وباأي سعر..اإلخ. اأحيانًا يكون باإمكان<br />
هذه املصادر حتى اأن تذكر لك ما قاله الناس. غري اأن<br />
املصادر التاريخية – واملوؤرخني يف احلقيقة – رمبا ل<br />
يكون مبقدورهم اأبدً ا اأن يتحدثوا عما شعر به الناس<br />
اإزاء ما حدث، برغم اأن ما نشعر به اإزاء ما يحدث هو<br />
يف الغالب اأهم شيء فيه )11( . وهنا بالضبط ميكن اأن<br />
ندخل اإىل موضوعنا: هموم املعيشة كما صورتها الرواية<br />
التاريخية.<br />
)2(<br />
الرواية - باأشكالها املختلفة - نوعٌ خاص جدًّ ا من<br />
الأدب، اأهم ما مييزه اأنه يتحرك – وبخاف اأنواع<br />
الأدب الأخرى- يف اإطار من مشابهة الواقع. الرواية<br />
شكل واقعي، وواقعيتها كما يقول اأيان واط »ل تكمن<br />
يف نوعية احلياة التي تعرضها، واإمنا يف الطريقة التي<br />
تعرضها من خالها« )12( مل يكن ممكنًا للرواية اأن تنصاأ<br />
ول اأن تصل اإىل قارئها احلديث اإل يف اإطار هذا التشابه<br />
مع الواقع؛ ومن ثم كانت عنايتها الفائقة بالتفاصيل<br />
وتفاصيل التفاصيل، ومن ثم اأيضً ا كانت اإمكانية اأن<br />
تتحول الرواية خصوصً ا اإىل مصدر خصب للتاريخ،<br />
ولكن: اأي نوع من الرواية؟ واأي نوع من التاريخ؟<br />
هناك ثاثة اأنواع من التاريخ، اأو ثاث نوعيات<br />
من كتابة التاريخ، كما يقول هيجل يف كتابه »العقل يف<br />
التاريخ«، ونحن ميكن اأن نضع يف موازاتها ثاثة اأنواع<br />
من الرواية -:<br />
1- التاريخ الأصلي، اأي التاريخ الذي يكتبه املوؤرخ<br />
وهو يعيش الأحداث الأصلية، ويف موازاة هذا النوع ميكن<br />
اأن تاأتي الرواية الواقعية؛ حيث يعيش الروائي اأحداث<br />
واقعه ويكتب واصفً ا ما راآه بعينه وعايشه بنفسه.<br />
2-التاريخ النظري، اأي التاريخ الذي يكتبه موؤرخ<br />
بعد مرور زمن على وقوع الأحداث الأصلية، معتمدً ا على<br />
ما وصله من الوثائق وما رواه الشهود يف كتبهم. ويف<br />
موازاة هذا النوع من التاريخ تاأتي الرواية التاريخية؛<br />
فهي اأيضً ا عودة اإىل التاريخ الأصلي، ولكن اعتمادً ا على<br />
اأبحاث
2 0 1 1<br />
84<br />
الكتب والوثائق ل على الروؤية اأو املعايشة.<br />
3- التاريخ الفلسفي، وهو لون من التفكري يف<br />
التاريخ اأو فلسفة التاريخ، ويف موازاته تاأتي الروايات<br />
التي تستلهم التاريخ، حيث تصبح شخصية معينة اأو<br />
حادث معني بواعث تدفع الكاتب نحو التفكري يف التاريخ<br />
والزمن يف عمومه.<br />
وهكذا ميكن القول اإن الرواية مبختلف اأشكالها نوع<br />
من التاريخ؛ فكل نوع من الرواية يوازي – بصورة ما -<br />
لونًا من الكتابة التاريخية.<br />
غري اأن الرواية - مع ذلك - ل ميكن اأن تكون وثيقة<br />
من وثائق املوؤرخ ميكن العتداد بها، حتى يف حالة الرواية<br />
الواقعية التي توازي النوع الأول من التاريخ، حيث يتحدث<br />
الروائي عن اأشياء راآها وعاشها، اأو على الأقل استعادها<br />
وكتبها يف اإطار املرئي واملعيش يف واقعه. رمبا ميكن<br />
لثاثية جنيب حمفوظ مثاً، اأن تكون يف املستقبل -اإىل<br />
مدى حمدود وباحرتازات معينة- وثيقة من وثائق تاريخ<br />
القاهرة يف النصف الأول من القرن العشرين، وكذلك<br />
ميكن لروايات صنع اهلل اإبراهيم ويوسف القعيد وبهاء<br />
طاهر، اأن تصبح يف املستقبل وثيقة من وثائق تاريخ<br />
مصر يف النص الثاين من القرن العشرين، متامً ا كما<br />
اأن كتب املقريزي وابن تغري بردي وابن اإياس، اأولئك<br />
الذين عاشوا فرتات من العصر اململوكي وكانوا موؤرخني<br />
اأصليني، قد اأصبحت اليوم روايات واقعية ووثائق لتاريخ<br />
اجلزء الأخري من ذلك العصر. ومع ذلك تظل هناك<br />
-حتى يف هذه احلالة- مسافة ل ميكن ردمها بني ما<br />
حدث يف الواقع وما نقلته اللغة والنصوص املكتوبة.<br />
اأما النوعان الآخران من الرواية ومن التاريخ اأيضً ا<br />
-حيث مل يعش الراوي الأحداث ومل ير الشخصيات،<br />
واإمنا هو يستعيدها ويتصورها ويبنيها ويسردها،<br />
مستعينًا بوثائق وبروايات اأصلية جاءته من زمن هذه<br />
احلوادث- فمن الصعوبة مبكان اأن تتحول مادتهما اإىل<br />
وثيقة؛ لأن الكاتب فيهما )سواء كان روائيًّا اأو موؤرِّخً ا(<br />
يكتب مدفوعً ا بهموم احلاضر، وموجّ هً ا بدرجات من<br />
الروؤية الذاتية والفلسفة اخلاصة، وحمتشدً ا بقدر<br />
من التاأمل الفلسفي يف التاريخ العام ودوراته واأقداره<br />
ومصائره، كما اأنه يكتب وقد اكتملت الأحداث وحتددت<br />
املصائر التاريخية متامً ا. اإن هذين النوعني من الرواية<br />
)ورمبا من التاريخ اأيضً ا( ينطويان بالضرورة على قدر<br />
من التمرد على التاريخ الرسمي املكتوب، وقدر من<br />
الرغبة يف اإعادة كتابته. وهكذا تزداد املسافة اتساعً ا<br />
وعمقً ا، بني ما حدث يف املاضي وما هو مكتوب اليوم.<br />
غري اأن هناك مع ذلك فارقًا اأساسيًّا بني الروايات<br />
التاريخية والروايات التي تستلهم التاريخ من ناحية،<br />
والتاريخ النظري والتاريخ الفلسفي من ناحية اأخرى.<br />
هذا الفارق هو نفسه الفارق بني فن الرواية وعلم<br />
التاريخ الرسمي. الرواية بصفتها فنًّا اأدبيًّا خاصً ا، تقوم<br />
على مناوشة املحرمات، ورفض سلطة الصوت الواحد<br />
املتناغم، والنتصار بدلً من ذلك لاحتفال الكرنفايل<br />
الذي ينهض على الأصوات املتعددة واملتنوعة، كما ينهض<br />
على خلط الوضيع بالرفيع والفصيح بالعامي..اإلخ،<br />
كل هذا يف مقابل التاريخ الرسمي الذي هو يف الغالب<br />
قرين السلطة التي ل حتتفي اإل باحلكام واملنتصرين<br />
والأسياد. وهكذا فاإن الرواية تعتني -بالإضافة اإىل<br />
السادة واحلكام طبعًا- بالقاع املقموع، بعامة الناس،<br />
باحلياة اليومية، بل بحياة الناس من الداخل، وما<br />
يشعرون به من اأمل وغربة يف عاملهم الغريب. الرواية ل<br />
حتكي عن اأناس املاضي بقدر ما تتقمصهم من الداخل<br />
وحتضرهم اأمامنا وهم ميارسون حياتهم اليومية بكل<br />
ما فيها من تفاصيل واأفراح واأتراح صغرية، وكل هذه<br />
سمات تعطيها الفرصة الطبيعية الأوسع والأعمق، لرسم<br />
مشاهد احلياة وتفاصيلها وهمومها.<br />
ليس من اأهداف الرواية التاريخية اأن تستعيد<br />
املاضي بشخصياته ولغته واأزيائه، واإمنا هدفها الأساس<br />
-كما يقول لوكاش- اأن تنطلق من احلاضر، واأن تصور<br />
السياق الكلي للحياة الجتماعية، سواء كانت حاضرة<br />
اأم ماضية، يف شكل قصصي سردي. اإنها تضع احلاضر<br />
يف مقابل املاضي، وتاحظ ما بينهما من عاقات.<br />
الرواية التاريخية ليست جمرد كتاب تدور اأحداثه<br />
وتاأتي شخصياته من املاضي. اإن ما مييز الروايات<br />
التي تدور اأحداثها يف املاضي عن »الرواية التاريخية«<br />
احلقيقية، هو الوعي مبوضوع التاريخ نفسه، والعناية<br />
به؛ فالروايات التاريخية مكتوبة عن قناعة باأن يد<br />
التاريخ اخلفية ماثلة يف كل مكان من اأمكنة احلاضر،<br />
واأن التاريخ هو اأحد الطرق الأساسية التي نفهم اأنفسنا<br />
من خالها، ل بصفتنا كائنات يف جمتمع فحسب، بل<br />
اأيضً ا بصفتنا اأفرادً ا. ومن هذه الزاوية تُعد الروايات
85<br />
2 0 1 1<br />
التاريخية روايات حديثة، لأنها معنيّة – رمبا اأكرث من<br />
كتب التاريخ التقليدي - باكتشاف كيف وملاذا وصلنا اإىل<br />
ما نحن عليه اليوم، كما اأنها تنزع اإىل تذويب التفرقة<br />
بني احلاضر واملاضي، واستعادة الصلة بينهما )13( .<br />
هذه الفروق نفسها بني التاريخ الرسمي من ناحية،<br />
والرواية التاريخية من ناحية اأخرى، هي التي تربر لنا<br />
الآن اأن ننظر يف الروايات التاريخية، لرنى كيف صنع<br />
اخليال الروائي من الوثائق، ومن التفاصيل املنثورة يف<br />
كتب التاريخ »الأصلي«، صورة عميقة ومركبة)وواقعية؟(<br />
لهموم املعيشة يف العصر اململوكي.<br />
)3(<br />
هذه الدراسة تتوقف عند ثاث روايات تاريخية<br />
مصرية، حاولت استعادة فرتة حمددة من العصر<br />
اململوكي، تلك العقود الأخرية الرهيبة التي شهدت<br />
التخلخل التدريجي، ثم النهيار املتسارع لسلطنة<br />
املماليك املستقلة، التي ساهمت لوقت طويل يف صنع<br />
جوانب من حضارة املسلمني.<br />
الروايات الثاث موضوع الدرس التطبيقي هي:<br />
»على باب زويلة« )14( ملحمد سعيد العريان، و«السائرون<br />
نيامً ا« )15( لسعد مكاوي، و»الزيني بركات« )16( جلمال<br />
الغيطاين.<br />
والكتاب الثاثة يجمعهم هذا الهتمام اخلاص<br />
بالتاريخ )17( ، لكنهم مع ذلك ينتمون اإىل ثاثة اأجيال<br />
خمتلفة، كما اأن خلفياتهم الثقافية والسياسية تبدو<br />
خمتلفة؛ ومن ثم فقد اختلفت دوافعهم وروؤاهم يف<br />
استعادة تلك الفرتة من ذلك العصر، كما اختلفت<br />
بطبيعة احلال اأساليبهم يف هذه الستعادة.<br />
حممد سعيد العريان )1964-1905(، وهو اأقدم<br />
الكتاب الثاثة، مل يتحدث صراحة عن دوافعه يف كتابة<br />
»على باب زويلة« عام 1947، ومع ذلك فاإن باإمكان<br />
من يعرفونه -مقدِّ مً ا لبعض روايات شوقي التاريخية،<br />
وتلميذً ا لعلي اجلارم، وحمررًا لأعمال الرافعي وكاتبًا<br />
لسريته، وموظفً ا يف صحبة طه حسني- اأن يدركوا رغبته<br />
يف استخدام ما ورثه من اأساليب هوؤلء الكتاب، لتقدمي<br />
صور من التاريخ العربي الإصامي، يف مقابل غريه من<br />
كتاب جيله الذين ذهبوا اإىل التاريخ الفرعوين كنجيب<br />
حمفوظ وعادل كامل )18( .<br />
كانت لدى العريان رغبة رومانتيكية يف الكتابة<br />
العاطفية عن شخصيات مركبة كصجرة الدر،<br />
ومنحنيات خطرة كلحظة شنق طومان باي على باب<br />
زويلة، وهو خال ذلك يستعيد التاريخ، متخياً حياة<br />
الرجل املاأساوية من بدايتها اإىل نهايتها، ويجد يف<br />
ذلك كله موضوعات ميكن اأن تتحول اإىل ميلودراما<br />
مبكية، اأو اإىل دفاع شعري عن احلضارة الإصامية اأو<br />
عن املصريني يف مواجهة املماليك، من دون حاجة اإىل<br />
اإدراك كاف للمحيط التاريخي الجتماعي املركب، الذي<br />
تظهر فيه الهموم اليومية للناس العاديني زمن املماليك،<br />
ومن دون حاجة كذلك اإىل الرتباط مع احلاضر، اأي<br />
مع الهموم املعاصرة لكاتب مصري يف اأربعينيات القرن<br />
العشرين )19( .<br />
وسعد مكاوي )1985-1916(، الذي كتب السائرون<br />
نيامً ا ونشرها اأواسط الستينات )20( وقبل هزمية العام<br />
السابع والستني الكبرية، يكتب من البداية مهمومً ا مباآزق<br />
احلاضر التي حركته ودفعته دفعًا اإىل ذلك العصر<br />
اململوكي، واإىل تلك الفرتة املحددة منه، حيث تصاعد<br />
صراع الأمراء على السلطة واملكاسب، فيما يشبه ما<br />
حدث مع ضباط يوليو. يقول سعد مكاوي: »مل اأكن<br />
اأرغب يف بعث فرتة من التاريخ اململوكي، .. و«السائرون<br />
نيامً ا« هي موقف فاح مصري مثقف، عايش عصرنا،<br />
ووجد يف فرتة تاريخية معينة من ماضي اأمته، ما ميكن<br />
اأن يكون شاهدً ا على عصره« )21( .<br />
اأما جمال الغيطاين)1945- (، الذي كتب روايته<br />
بعد وقوع هزمية 1967، ونشرها اأواسط السبعينات )22( ،<br />
فينطلق هو الآخر من حاضره ومن جتربته الشخصية<br />
وجتربة اأبناء جيله من الشباب الذين غيبتهم سجون<br />
ثورة يوليو، لكنه يلتقط جانبًا اآخر من التماثل بني عصره<br />
والعصر الذي يستعيده، وهو جانب اجلاسوسية اخلانقة<br />
املخيفة. يقول: »كان ترحايل يف تاريخ مصر اململوكية<br />
عامًّ ا، لكني بعد عام 1967، عدت لأصغي من جديد اإىل<br />
موؤرخ مصري سبق اأن استوقفني صوته الفريد، الغني<br />
الشجي، اإنه حممد اأحمد بن اإياس، صاحب »بدائع<br />
الزهور يف وقائع الدهور«، وتوقفت اأكرث عند الفرتة التي<br />
يصف فيها ما جرى ملصر على اأيدي العثمانيني. كنت<br />
اأرى ما جرى ملصر يف يونيو 1967 من زاوية اأخرى،<br />
من هذا العمق الزمني البعيد.. من موقع هذا املوؤرخ يف<br />
اأبحاث
2 0 1 1<br />
86<br />
املاضي راأيت احلاضر « )32( .<br />
ينتمي الكتاب الثاثة اإذن، اإىل ثاثة اأجيال<br />
خمتلفة، وميثلون مراحل ثاث خمتلفة يف تاريخ الرواية<br />
العربية يف مصر؛ فالأول كتب روايته ماأخوذً ا بالرتاث<br />
العربي واأساليبه، وتلميذً ا للمنافحني عنه، ومنتميًا<br />
بوعيه وعاطفته وجتربته اإىل فئة من جيل الرومانتيكيني<br />
التعبرييني من الكتاب والشعراء )24( ، والثاين كتب روايته<br />
بعد اأن قضى اجلانب الأكرب من حياته منافحً ا عن<br />
الواقعية)الشرتاكية خصوصً ا( ممثاً لها يف جمموعاته<br />
القصصية، وممارسً ا للكتابة وفقً ا ملنظورها )25( . اأما<br />
الثالث فكان ينتمي اإىل جيل جديد من الكتاب، ولدت<br />
جتربته مع هزمية 1967، نعم تتلمذ على الواقعيني، لكنه<br />
اأدرك اخلديعة التي وقعوا فيها، وبداأ يبحث عن طرق<br />
جديدة للعمل على الواقع اجلديد املرعب )36( .<br />
وكان من الطبيعي اأن توؤدي هذه الدوافع<br />
والتجارب املختلفة للكتاب الثاثة، اإىل نظرة خمتلفة<br />
للتاريخ وملعناه. ومع اأنهم ذهبوا ثاثتهم اإىل املرحلة<br />
نفسها )نهايات العصر اململوكي(، فاإن اأساليبهم يف<br />
النظر اإىل التاريخ واأهدافهم من وراء استعادته كانت<br />
خمتلفة متامً ا.<br />
كل واحد من الكتاب الثاثة يتعامل مع التاريخ<br />
)27(<br />
بشكل خمتلف عن الأخر: العريان يكتب يف صيغة<br />
الرومانس، مستكماً – صاأن اأبناء جيله – ما بداأه<br />
الرائد جورجي زيدان )28( ، مستعيدً ا ومستمتعًا وباكيًا<br />
ومعلِّمً ا ومسلّيًا، ومصطنعًا ماأساة فارس )طومان باي(<br />
تبداأ يف باد الكُ رج)جورجيا( وتنتهي على باب زويلة<br />
بالقاهرة. ومكاوي يكتب وكاأنه ل يكتب رواية تاريخية<br />
بل يستكمل قصصه الواقعية عن احلاضر املصري،<br />
وخصوصً ا يف اأوساط فاحي القرية واأجرائها وحريف<br />
املدينة ومشايخها وسادتها، صانعًا صراعً ا ل يكاد<br />
ينتهي بني السادة والعبيد، وبني الأغنياء والفقراء . اأما<br />
الغيطاين فيكتب يف صيغة اأقرب ما تكون اإىل املفارقة<br />
والهجاء؛ اإذ تنطوي كتابته على حماكاة ساخرة للكتابة<br />
التاريخية اململوكية )خصوصً ا ابن اإياس(، اأو على<br />
توظيفات متعددة لهذه الكتابة، كما ينطوي على تغريب<br />
واضح وكسر للألفة واصطناع ملسافة ماأمونة مع الواقع<br />
املعاصر. وهذا كله يعني اأن كل واحد من الكتاب الثاثة،<br />
اإمنا يستكمل يف روايته رحلةً ومسريةً يف الكتابة والأسلوب<br />
والروؤية، كان قد بداأها يف اأعماله الأدبية السابقة صحبة<br />
اأبناء جيله.<br />
للروايات الثاث -ورمبا لكل رواية تاريخية-<br />
جانبان: الأول يسري مبحاذاة الأحداث التاريخية التي<br />
وقعت يف املاضي، وهذا جانب يتصل يف العادة مبا رواه<br />
التاريخ عن امللوك والأتابك والعسكر والشخصيات<br />
واملعارك الشهرية. اأما اجلانب الآخر فيستلهم املاضي<br />
فقط ويقوم )مستعينًا مبا ذكرته كتب التاريخ اأيضً ا،<br />
ولكن بعد اأن يضيف ويبدل ويغري؛ لأنه يشعر اأن هذا<br />
اجلانب الداخلي من الرواية ملكه هو وحده( - يقوم<br />
باإعادة خلق كاملة لتجسيد احلياة اليومية وكيف تسري،<br />
فيطلعنا يف خال ذلك على هموم املعيشة وما يفكر فيه<br />
الناس وما يحلمون به وما ينتشر بينهم من اإشاعات<br />
.. اإلخ. وكل رواية تاريخية تنهض يف حقيقتها على<br />
طريقة التفاعل بني هذين اجلانبني: الشخصي الذاتي<br />
والتاريخي الرسمي.<br />
يكتب الروائي )وكذلك املوؤرخ( لقرائه الذين<br />
يعيشون معه اليوم يف هموم احلاضر وينظرون اإىل<br />
املستقبل. وحني يستدعي التاريخ باأي صورة وباأي درجة،<br />
فاإمنا يستدعيه لأهداف: فهو اإما يقدم لقرائه عاملًا<br />
مسلِّيًا وممتعًا مفارقًا لواقعهم، ول مانع خال ذلك اأن<br />
يعلمهم وميتعهم ببعض احلوادث والدقائق واملفردات<br />
املنقرضة، مبا يتاءم متامً ا مع خلق عامل روائي متخيل؛<br />
واإما هو يفعل ذلك كله، صانعًا موازاة بني دورتني من<br />
دورات التاريخ حدثت الأوىل يف املاضي وانتهت، وها هي<br />
دورة ثانية حتدث الآن وستنتهي حتمً ا؛ واإما هو يبحث<br />
فيما حدث بالأمس القريب، اأو البعيد نسبيًّا، عن جذور<br />
ما يحدث اليوم؛ واإما هو ينظر اإىل احلياة الإنسانية كلها<br />
خطًّ ا واحدً ا متصاً منذ بداأ الزمان واإىل اأن ينتهي.<br />
وكما اأن كل رواية كبرية تطرح بالضرورة صوؤال<br />
النوع الروائي كله؛ فكذلك كل رواية تاريخية كبرية تعيد<br />
طرح الصوؤال عن ماهية الرواية التاريخية. هل هناك حقًّا<br />
رواية تاريخية ورواية غري تاريخية اأم اأن كل كتابة عن<br />
عامل الإنسان هي لون خاص من كتابة التاريخ والبحث<br />
فيه؟ اأين ينتهي التاريخ واأين يبداأ الواقع املعيش؟<br />
ومع تقديرنا لكل هذه الأسئلة الوجيهة متامً ا،<br />
ولكل الذين صككوا يف جدوى مصطلح »الرواية<br />
التاريخية«)هوارد فاست مثاً(؛ فاإن اختيار زمن
87<br />
2 0 1 1<br />
تاريخي بعيد عنا لتدور فيه الأحداث، واختيار شخصيات<br />
وموضوعات واأماكن تاريخية لتملأ فضاء الرواية،<br />
يفرض شروطه بالضرورة على النوع، ل اأعني من جهة<br />
املوضوع اأو املادة فقط، واإمنا اأيضً ا وقبل ذلك، من جهة<br />
الفن؛ اأي الأسلوب وتقاليد البناء.<br />
)4(<br />
اأول ما يلفت النظر يف رواية العريان، ولعله اآخر<br />
ما يبقى منها اأيضً ا يف ذاكرة القارئ، عنوانها: »على<br />
باب زويلة«، وهو عنوان ل يشري اإىل جمرد مكان )باب<br />
زويلة، اأحد اأبواب القاهرة اململوكية(، واإمنا يحكي -واإن<br />
ضمنًا- حدثًا تاريخيًّا ل سبيل اإىل نسيانه، وهو حدث<br />
متعلق بصيغة اجلار واملجرور التي يتاألف منها العنوان؛<br />
اإذ يقول لنا علماء النحو اإن صيغة اجلار واملجرور ل<br />
يكتمل معناها ويفيد اإل مبتعلقاتها، ونحن نعرف وقبل<br />
اأن تبداأ الرواية اأن ما وقع »على باب زويلة« وارتبط به،<br />
هو شنق طومان باي، السلطان الشاب واآخر صاطني<br />
الدولة اململوكية، على يد سليم الأول قائد احلملة<br />
العثمانية املنتصرة على املماليك يف موقعتي مرج دابق<br />
1516 والريدانية 1517م.<br />
هذه اإذن، وحتى قبل اأن نبداأ، رواية تاريخية،<br />
وعنوانها يشري اأيضً ا اإىل اأنها رمبا تكون رواية عن<br />
اآخرة املماليك اأو )واقعة السلطان الغوري مع سليم<br />
العثماين(، ورمبا كما رواها ابن زنبل الرمال يف كتابه<br />
الذي يحمل هذا العنوان ذاته )29( . ولكن املوؤلف ل يكتفي<br />
بذلك، واإمنا يضيف وحتت العنوان مباشرة لفتة تقول:<br />
»قصة تاريخية«.<br />
بل اإن املوؤلف، وبعد فهرس عناوين الفصول<br />
وفهرس الصور املرافقة للقصة، وقبل اأن تبداأ احلوادث<br />
الفعلية، وبعبارة حاسمة حتتل صفحة كاملة وتنفي اأي<br />
شك اأننا باإزاء قصة تاريخية بداأت وانتهت، يقول موجّ هً ا<br />
حديثه لقراء اليوم 1947:<br />
بداأت حوادث<br />
هذه القصة منذ<br />
خمسمائة سنة يف<br />
بالد الكُرج »جورجيا:<br />
موطن ستاليني«،<br />
وانتهت بالقاهرة يف<br />
قصور السالطني.<br />
)الرواية، ص 1(<br />
على باب زويلة »قصة« لعب اخليال دوره يف بنائها<br />
ويف استعادة تفاصيلها كما يحدث يف كل القصص،<br />
ولكنها اأيضً ا قصة »تاريخية«، حتكي رحلة بطل تاريخي<br />
من بدايتها اإىل نهايتها، اأي منذ ولد طومان باي يف باد<br />
الكرج )جورجيا الآن كما يقول لنا املوؤلف، مضيفً ا اأنها<br />
موطن ستالني!(، وحتى مات مشنوقً ا على باب زويلة<br />
بالقاهرة. غري اأن املوؤلف ل يقول لنا يف هذه اجلملة<br />
التلخيصية احلاسمة اأن احلوادث انتهت باملوت على<br />
باب زويلة، واإمنا انتهت »يف قصور الصاطني بالقاهرة«،<br />
وكاأنه يقول اإن القصة التي بداأت بصبي اأعجمي فقري<br />
هناك عند مضارب خيام القبج يف اأقصى باد املسلمني<br />
)التي اأصبحت الآن بلد الشيوعية!(، انتهت به سلطانًا<br />
على العرب املسلمني يف قصور الصاطني، هنا يف<br />
القاهرة، اإحدى العواصم الإصامية الزاهرة. وهكذا<br />
تنقل لنا العتبات الأوىل للكتاب، كثريًا من املعلومات عن<br />
فحواه وروؤيته للتاريخ، فماذا بقي لكي ينقله لنا املوؤلف<br />
يف منت الكتاب كله؟<br />
يتاألف كتاب »على باب زويلة« من سبعة وثاثني<br />
فصاً، يستقل كل فصل منها بعنوانه، الذي قد يكون<br />
اسم مكان )يف باد الكرج، يف باد الروم( اأو اسم<br />
شخصية )قنصوه الغوري، شهد دار، اأرقم الرمال( اأو<br />
مرحلة من احلوادث التي تتاألف منها احلكاية )عودة<br />
املاضي، خطوات الزمن، نذير العاصفة، بوادر املعركة،<br />
اآخر الطريق(، وعناوين الفصول كلها على اأية حال،<br />
فصاً عن رغبتها يف تلخيص احلوادث وتتبع مراحل<br />
القصة، حتمل طابعًا رومانتيكيًّا يشبه عناوين مقالت<br />
املنفلوطي الشهرية )اأحام جارية، سلطان الشهوات،<br />
اأنباء من الغيب، لفتات الذكرى، اأدراج الرياح، وراء<br />
الأكمة، شعاع من النور(.<br />
ولكن ما الذي تقوله هذه الفصول السبع<br />
والثاثون؟ اإنها يف احلقيقة تتبع اخليط الرئيسي<br />
الظاهر من قصة الطفل طومان باي، الذي اختطفه<br />
جتار الرقيق من اأحضان اأمه هناك يف خيام قبائل<br />
القبج، ثم رحلوا ليبيعوه يف قصور الصاطني يف حلب<br />
والقاهرة. ول تكاد الرواية تغوص اإىل ما حتت ذلك<br />
اخليط اخلارجي الظاهر من الأحداث اإل قلياً، فصاً<br />
اأبحاث
2 0 1 1<br />
88<br />
عن اأن تغوص يف نفوس شخصياتها الرئيسية )طومان،<br />
واأمه، واأبوه مثاً( التي حتمل همومً ا واأبعادً ا ل حدود<br />
لها. اإن الراوي العليم يحكي قصته وعينه من البداية<br />
على نقطة النهاية التي يجسدها العنوان، حيث الذروة<br />
الدرامية املتمثلة يف الهزمية والشنق )30( ؛ ومن ثم فاإنه<br />
يقفز قفزً ا على املراحل، حتى واإن تلبّث عند بعض<br />
الذرى الدرامية اخلصبة املضيئة، مثل اللقاءات العابرة<br />
بني اأفراد من الأهل الغرباء، ومثل املعارك احلربية بني<br />
طومان واأعدائه.. اإلخ.<br />
ومل يكن اأمام العريان وقد فاتته اإمكانات باغة<br />
الرواية، اإل اأن يعتمد اأكرث فاأكرث على باغة اللغة. كان<br />
الرجل معنيًّا اأكرب عناية بالأسلوب البليغ باغة لغوية،<br />
)31(<br />
حتى لو تناقض هذا الأسلوب مع جوهر الفن الروائي<br />
القائم على مشابهة الواقع كما قلت؛ ومن ثم فقد عاقه<br />
ذلك عن اكتشاف التفاصيل الغنية، فلم تكن معرفته<br />
بفن الرواية تسمح باإدراك هذا اجلانب، ومن ثم مل تكن<br />
روايته اأكرث من صياغة ميلودرامية بليغة حلياة طومان<br />
باي وماأساته، من سطحها ل يف عمقها.<br />
يف بداية الرواية، اجلزء الذي يقوم فيه الروائيون<br />
عادة بوصف تفاصيل العامل املحيط بشخوصهم، يف<br />
تقدمية درامية تنقل القارئ اإىل مكان وزمان تاريخيني<br />
حمددين، وتهيئه ملا هو مقبل عليه من اأحداث وشخوص<br />
وصراعات، يتحدث العريان معتمدً ا باغة النرث العربي<br />
التقليدية ل باغة الرواية الناهضة. يقول:<br />
»ويف ليلة من ليايل<br />
الربيع رقراقة النسيم،<br />
معطارة االأرج، هوى اأهل<br />
العشيرة اإىل مضاربهم<br />
هادئني وادعيني، وانسرحت<br />
اأحالمهم ملا وراء هذه اجلبال<br />
الشُّ مِّ ، تطوِّف يف االآفاق وراء<br />
بعض من فارقهم من الفتيان<br />
والفتيات، راضني اأو كارهني،<br />
اإىل حيث يلقَون اجلاه والغنى<br />
والسعادة، اأو حيث يحتملون<br />
الهوان واملذلّة وضيق العيش<br />
واأنكاد احلياة!<br />
وكانت خيام العشرة<br />
متناثرة على غير نظام،<br />
يقرتب بعضها من بعض حينًا<br />
ويتباعد بعضها عن بعض<br />
اأحيانًا، وقد اأسبغ الليل رداءه<br />
على الغور كله فال بصيص<br />
من نور، وضرب الصمت<br />
على اآذان االأيقاظ والنائمني<br />
من اأهل احلي، فال حس وال<br />
حركة، اإال عواء كلب، اأو ثغاء<br />
عنز، اأو ضُ غاء طفل رضيع،<br />
واإال زفيف الريح تضرب يف<br />
مسالكها بني اخليام املتناثرة،<br />
فتضطرب االأطناب يف اأوتادها<br />
وتهز البيوت هزة خفيفة كما<br />
تهدهد االأم وليدها لينام!«<br />
)الرواية ص 4(<br />
واإذا كانت مثل هذه اللغة مقبولة يف مطالع<br />
الروايات، خصوصً ا اإذا كانت مطالع رعوية تصف لياً<br />
وخيامً ا وسهولً خضراء، فاإنها ستبدو اأمرً ا بالغ الغرابة<br />
حني توصف من خالها الوقائع والأحداث التاريخية<br />
العامة واليومية اخلاصة؛ فبعد صفحات قليلة يتحدث<br />
الراوي عن عاقة قايتباي ببايزيد العثماين والد سليم<br />
الأول، فيقول:« مل تكن الأمور يف ذلك الوقت بني بايزيد<br />
العثماين والأشرف قايتباي سائرة على نهج الصفاء<br />
واملودة؛ فاإن كاًّ منهما ليرتبص بصاحبه غرة يناله بها<br />
اأو ينال منه..«)ص 19( ولن يتورع الراوي بعد صفحات<br />
قليلة عن استخدام السجع، ليصف من خاله صراع<br />
اأمراء املماليك على السلطة، فيقول يف مونولوج غري<br />
مباشر يرد على ذهن قنصوه الغوري:« نعم اإنه من اأقدم<br />
مماليك الأشرف قايتباي واأدناهم اإليه منزلة، ولكن<br />
اأين هو من اأقربدي وقنصوه اخلمسمئي؟ واأين وسائله<br />
يف الكفاح. اإنه ل ميلك املال الذي يصطنع به الأشياع،<br />
ول اجلاه الذي يتكرثّ به من الأتباع، وليس له كغريه<br />
من الأمراء جيش يعده للهجوم والدفاع..« )ص29(<br />
وهو مغرم مبفردات واأوصاف ثابتة يرددها يف كل وقت<br />
ويف وصف كل شخص، بحيث تتحول كل الشخصيات<br />
تقريبًا اإىل سطح ل عمق له؛ فقنصوه الأصريف كان
89<br />
2 0 1 1<br />
»فتى يف عنفوانه، واسع الذرع، بعيد احليلة، فسيح<br />
مطارح الآمال..« )ص 48( اأما اأرقم الرمال، فوصفه<br />
الكاريكاتوري الثابت الذي سيتكرر مرات عدة على<br />
مدار الرواية، اأنه »رجل مشوه اخللق، اأصلم الأذن،<br />
معوج الساقني، مستكرش البطن، كاأنه صرة ثياب على<br />
عصوين من قصب« )ص 69(<br />
كانت عناية العريان منصبة على حكي الوقائع<br />
التاريخية الرسمية، ومن ثم فاإن تركيزه انصب<br />
على الشخصيات التاريخية الشهرية من احلكام<br />
وصراعاتهم. اأما الأشخاص العاديون، الذين هم<br />
موضوع كل رواية كبرية، والذين ميكن اأن نعرف من<br />
خالهم هموم املعيشة، فاأمر وقفت ضده روؤية العريان<br />
للتاريخ، واأسلوبه الباغي الذي ل ينتصر للغة الشارع<br />
ولغة الناس التي هي لغة الرواية، واإمنا ينتصر ملفردات<br />
غريبة ك»الأميِّ » و»الأيِّد« و»البهر« و»الأفكوهة«، واأفعال<br />
ك»يستزير« و»يخيس«.. اإلخ، فصاً عن اإنّاته التي تذهب<br />
معه اأينما ذهب.<br />
لقد توارى صوت القاص الذي يتقمص شخصياته،<br />
ويعيش همومها من الداخل، ويعرضها علينا يف حالة<br />
فعل اأو تفكري اأو انفعال، ليحل بدلً منه صوت موؤرخ ل<br />
ميلك حتى حساسية التحليل العميق؛ لأنه ل يقدم كتابًا<br />
اأو مقالً يف التاريخ، واإمنا يكتب فنًّا، وكان من الطبيعي<br />
اأن تاأتي حتلياته لبعض الوقائع التاريخية مبتوتة الصلة<br />
باأحداث القصة وما يدور يف نفوس اأبطالها، سواء<br />
جاءت هذه التحليات على لسان اململوك الشاب احلكيم<br />
طومان باي، يف جملس شيخه اأبي السعود اجلارحي )32( ،<br />
اأو على لسان الراوي العليم الذي يقص علينا من التاريخ<br />
كما يقول حكاية »شعب يلهو« )32( .<br />
وعلى الرغم من كل اخللفية النظرية التي ميلكها<br />
العريان حول كتابة تاريخ العوام وحياتهم اليومية،<br />
وعلى الرغم من اجلهد الواضح الذي بذله ليجسد هذا<br />
الوعي النظري ويعكس صورًا من حياة الناس العاديني،<br />
وخصوصً ا املصريني الذين اجتهد يف تصوير طوائفهم<br />
املختلفة )34( – على الرغم من كل ذلك، ظلت »على باب<br />
زويلة« كتابًا يحكي سرية بطل تراجيدي على النمط<br />
الإغريقي، حتيط به السقطات والأسرار، واإن افتقدت<br />
حبكة احلكاية اإىل متاسك الدراما الإغريقية ومذاقها.<br />
وكان من الطبيعي اأن يتم تقدمي صور من حياة املصريني<br />
وفئاتهم املختلفة، ولكن يف اإطار حتليات باهتة معزولة،<br />
تعتمد على املعلومات التاريخية اجلاهزة، اأكرث مما<br />
تعتمد على تصوير الأبطال وهم يفعلون ويخلقون<br />
احلياة.<br />
)5(<br />
حينما وصل سعد مكاوي اإىل كتابة »السائرون نيامً ا«<br />
يف مطلع الستينات من القرن العشرين، كان قد اأصبح<br />
كاتبًا متمرِّ سً ا مكتمل الأدوات؛ فقد بداأ بكتابة القصة<br />
القصرية منذ اأواخر الثاثينات، ومرَّ ن فيها اأدواته<br />
السردية، وحقق اإجنازًا ضمن له مكانته امللحوظة على<br />
خريطة القصة املصرية القصرية )35( . هذا بالإضافة<br />
اإىل اأنه كان قد كتب روايته القصرية »شهرية« )36( ،<br />
ورواية اأخرى بعنوان »الرجل والطريق« )37( .<br />
ومل تكن اأدوات سعد مكاوي التقنية وحدها، هي<br />
التي تبلورت حينما كتب »السائرون نيامً ا«، واإمنا كانت<br />
قد تشكلت له اأيضً ا -مثل كثريين من اأبناء جيله-<br />
معرفةٌ عميقة وموسوعية بالرتاث الإنصاين، وروؤيةٌ<br />
للواقع املصري والعربي والإنساين. وقد اأدت عوامل<br />
ثاثة اأساسية دورها يف تشكيل هذه املعرفة، وصياغة<br />
تلك الروؤية: اأولها، نصاأته الريفية التي تركت اأثرً ا عميقً ا<br />
يف روؤيته؛ فقد نصاأ يف قرية الدلتون باملنوفية، لأب من<br />
رجال الدين له مكتبته الرتاثية العامرة، وراأى يف الصغر<br />
صراعات هذه القرية بفاحيها وحرفييها وهامشييها،<br />
وهي الصراعات التي رسمها فيما بعد يف جمموعة »املاء<br />
العكر«. وثانيها، معرفته باللغة الفرنسية وسفرته اإىل<br />
فرنسا مبعوثًا لدراسة الطب، ثم حتوله - صاأن توفيق<br />
احلكيم - اإىل دراسة الأدب والفن والثقافة. وهي السفرة<br />
التي انقطعت بعد ثاث سنوات، دون اأن يكمل دراسته،<br />
وذلك مبجيء احلرب العاملية الثانية عام 1939. وثالث<br />
هذه العوامل، وبعد رجوعه من فرنسا، كان انضواءه<br />
الغامض على يسار حزب الوفد وضمن الطليعة الوفدية،<br />
يف جمموعة الكتاب التي اتخذت من جريدة »املصري«<br />
الوفدية منربًا.<br />
وكان لهذا العامل الثالث اأثره احلاسم يف تشكيل<br />
روؤية سعد مكاوي، وبلورة موقفه من حركة الضباط<br />
الأحرار وتطوراتها الدرامية، وهي احلركة التي عاصر<br />
خماضها الأليم يف اأواخر الأربعينات واأوائل اخلمسينات،<br />
اأبحاث
2 0 1 1<br />
90<br />
وكَ تبَ مبشِّ رً ا بها على صفحات املصري، ثم جاءت ويا<br />
للمفارقة لتغلق – ضمن ما اأغلقت – جريدة املصري<br />
هذه، ولتفتح الباب لأنواع جديدة من صراع العسكر على<br />
السلطة، وهو املاأزق الذي يئس الرجل – على مستوى<br />
الواقع - اأن جتد مصر سبياً للخروج منه، ولكنه مل<br />
يياأس على مستوى الفن، وظل يبحث عن سبيل للخروج.<br />
كتب الرجل عددً ا هائاً من القصص القصرية<br />
واملقالت طوال اخلمسينات، ونشرها يف جرائد الثورة<br />
التي عمل فيها، من »الشعب« اإىل »اجلمهورية«، وعرب يف<br />
بعضها اأحيانًا وبشكل األيجوري، عن موقفه هذا )38( . ويف<br />
الوقت نفسه، كانت تقنياته السردية تتخلى شيئًا فشيئًا<br />
عن الوصف الواقعي اخلارجي البهيج بانتصاراته،<br />
وتتحرك يف اجتاه نوع من املونولوج املتصاعد الذي<br />
يصف الداخل ومتزقاته الأليمة )39( . وكاأنه كان يحتشد<br />
طوال هذه السنوات، لكي يحصل على الصيغة التي<br />
يبلور فيها روؤيته يف اأصفى صورها، وكاأنه وجدها اأخريًا<br />
يف روايته هذه »السائرون نيامً ا«.<br />
مل تكن »السائرون نيامً ا« اإذن، من صنع كاتب<br />
مبتدئ ل يجد املادة التي يكتب عنها، اأو ل ميلك الأدوات<br />
التي يكتب بها، فيلجاأ اإىل التاريخ هربًا من العناء ومن<br />
املساءلة على السواء. واإمنا كانت نهاية املطاف، يف بحث<br />
ممتد ومضن عن صيغة مائمة.<br />
غري اأن »السائرون نيامً ا« ليست جمرد حكاية رمزية<br />
)األيجوري( ساذجة، تستعني بالتاريخ لكي تقول كلمتها<br />
يف واقع معاصر مرتبك تخافه ول تفهمه، اأو تقيم تطابقً ا<br />
اآليًّ ًا بني اأمراء املماليك بشخوصهم وطبيعة صراعاتهم<br />
املعزولة عن مصالح الشعب وحماية الوطن من ناحية،<br />
وعسكر يوليو الصاعدين املتصارعني يف ظروف مشابهة<br />
من ناحية اأخرى. كما اأنها ليست جمرد »رواية تاريخية«<br />
تبتعث خطوط التاريخ املسجَّ ل يف الكتب، فخرً ا اأو حزنًا<br />
اأو اإسقاطً ا كما هي العادة يف الرواية التاريخية. بل هي<br />
قبل هذا وبعده، روايةٌ تطرح الصوؤال الأكرب حول »الرواية<br />
التاريخية«: ما هي وما فلسفتها.<br />
اأول ما يلفت النظر يف هذه الرواية عنوانُها؛ فرمبا<br />
تكون هذه هي املرة الأوىل، اأو فلنقل اإنها من املرات<br />
النادرة يف الأدب العربي احلديث )ورمبا يف الآداب<br />
العاملية الأخرى( التي نقراأ فيها رواية تاريخية، دون اأن<br />
يكون عنوانها جزءًا من التاريخ، فقد اعتدنا اأن يكون<br />
عنوان الرواية التاريخية اسم شخصية تاريخية، اأو اسم<br />
مكان تاريحي ، اأو اسم مدينة، اأو معركة اأو حادثة اأو<br />
)40(<br />
مقولة معروفة يف التاريخ ..اإلخ.<br />
عنوان الرواية، والرواية التاريخية خصوصً ا، هو<br />
البوابة التي يدخل منها القارئ، متوقعًا ومتاأهبًا اأن<br />
يفارق عامل الواقع املعاصر، واأن يدلف بخياله اإىل عامل<br />
التاريخ. حني نقراأ على الغاف »كفاح طيبة«، اأو »طارق<br />
بن زياد«، اأو »على باب زويلة«، اأو حتى »وااإصاماه«،<br />
فاإننا سننتقل على الفور اإىل فضاء التاريخ، ورمبا ينقلنا<br />
العنوان اإىل مكان حمدد، فرتة اأو شخصية اأو حادثة<br />
حمددة سلفً ا. اأما حني نقراأ على الغاف »السائرون<br />
نيامً ا«، فاإن الأفق ينفتح على احتمالت متعددة، قد ل<br />
يكون من بينها احتمال الرواية التاريخية.<br />
صحيح اأن املوؤلف سيبادر من البداية اإىل تنبيه<br />
القارئ يف ماحظة جانبية ومقتضبة، اإىل اأن »الفرتة<br />
التاريخية التي تدور فيها اأحداث هذه القصة، ل تكاد<br />
تتجاوز ثاثني سنة )1499-1468( من عمر سلطنة<br />
املماليك التي حكمت تاريخ مصر والشرق 267 سنة«<br />
)الرواية س2(، وصحيح اأن الرواية ستدخلنا من<br />
فصلها الأول اإىل قاهرة املماليك، واأن املوؤلف سيشرح<br />
لنا بعض املصطلحات اململوكية الغامضة يف هوامش<br />
هذا الفصل )41( ، ولكننا سنمضي يف قراءة الرواية<br />
- باأقسامها الثاثة، وفصولها الثاثة واخلمسني،<br />
وشخصياتها الكثرية التي تتنوع اأسماوؤها ووظائفها،<br />
وتتواىل اأجيالها وماآسيها، وتتوزع بني القمة احلاكمة<br />
يف قلعة اجلبل والقاع املطحون يف الأزقة والدكاكني،<br />
بني مدينة القاهرة اململوكية وقرية ميت جهينة يف ريف<br />
اجليزة – سنقراأ هذا كله ويستغرقنا، ورمبا ننتهي<br />
من قراءة الرواية، وتظل الأسئلة التي طرحها العنوان<br />
معلَّقة: السائرون نيامً ا؟! من هم؟ واإلم يسريون؟<br />
اأَهُ م املجاذيب الذين »يجاأرون بالدعوات«؟ اأهم<br />
العميان الذين »يدقون الأرس بالعكاكيز يف غضب«؟<br />
املشوهون والعرايا الذين ل ينقطعون عن البكاء؟<br />
املجذومون الكثريون الذين »يضربون صدورهم املتاآكلة<br />
بقطع احلجارة يف مرارة«؟ اأهم اأبناء العامل التحتي من<br />
حرفيي املدينة واأُجَ رَ اء القرية ومستعبَديها؟ ويف خلفية<br />
هوؤلء يقف »الشجر املهذول ورمق احلياة فيه شاحب،<br />
والدواجن القليلة منكمشة عند كل سقيفة اأو حجر
91<br />
2 0 1 1<br />
خوفًا من اجلوارح املحمومة دانية من الأرض، واحلمري<br />
واجلمال يف عيونها اأحزان عجيبة وهي ترفع رءوسها<br />
عن الأرس املتشققة يف ياأس ضامر مثلها« - اأهً م<br />
هوؤلء جميعًا وقد ساروا نيامً ا، ونراهم يف نهاية الرواية<br />
يتجمعون، مدفوعني بكبت تاريخي مركَّ ب مديد، ليصلوا<br />
- وهم السائرون نيامً ا!! - اإىل ثورة هائلة مقموعة، رمبا<br />
مل يتحدث عنها التاريخ املكتوب ملصر اململوكية؟<br />
اأم اإنهم اأولئك العسكر من اأمراء املماليك<br />
وحواشيهم، »يتطاوسون« عند القمة، حولهم بساتينهم<br />
وحدائقهم الغناء وموائدهم وطوواويسهم وظباوؤهم<br />
وجواريهم وماهيهم وبصاصوهم اأيضً ا، يتصارعون<br />
صراعً ا دمويًا على الكرسي، ويلتذون بطحن احلرافيش<br />
ودود الأزقة حتت نعالهم، ذاهلني عن اخلطر املقرتب<br />
على الأبواب، وسائرين نيامً ا – مدفوعني هم اأيضً ا<br />
بكبت تاريخي مركب - اإىل نهايتهم املحتومة؟ )42( ، وهي<br />
نهاية سجلها التاريخ اململوكي املكتوب، بينما مل يكن<br />
التاريخ احلاضر قد سجلها بعد.<br />
اأم اإنهم البشر جميعًا، يسريون يف الأغال نيامً ا،<br />
وتتكرر ماأساتهم من زمان اإىل زمان، ومن مكان اإىل<br />
مكان، دون اأن يدركوا فلسفة التاريخ العجيبة؟ نحن<br />
نعرف كما يعرف املوؤلف، اأن زمن هذه الرواية ل يزيد<br />
على ثاثني عامً ا يف واقع العصر اململوكي الغابر، لكننا<br />
- ومبنطق قريب اإىل الواقعية السحرية يرسمه مكاوي<br />
مبهارة وحرفة - سنشعر بقوة اأن هذه رواية اأجيال، واأن<br />
للزمن فيها منطقً ا عجيبًا؛ ففي اأربع وعشرين ساعة<br />
يتواىل على كرسي السلطنة ثاثة من الأمراء، حدث<br />
هذا اأكرث من مرة على مدار الرواية، ويف ميت جهينة<br />
تتواىل ثاثة اأجيال وطاعونان على الأقل يف هذه الأعوام<br />
الثاثني.<br />
وهذا املنطق العجيب للزمن، هو ما تستشعره اأيضً ا<br />
شخصيات القاع املعذبة باأصفادها؛ فالصبي يوسف<br />
جنار النعوش الذي تبداأ به الرواية، سيدهشنا مع بداية<br />
اجلزء الثالث حني يقول: »زمن يروح وزمن يجيء ..<br />
وسبحان من له الدوام«، ويتذكر: »ما اأبعد ذلك الزمن!..<br />
ناس غري الناس ودنيا غري الدنيا .. كاأنها ثاثمائة سنة<br />
ل ثاثون..«)ص 175( ، كما اأنها »اأمم تزول والهمّ ما<br />
يزول«)ص 192( كما تقول حمسنة »مرتحِّ مة على كل<br />
الأحبة الذين تخطَّ فهم الزمن«. اإنه الطاعون الذي<br />
نظن اأنه »انتهى، مات وشبع موتًا«، لكننا نكتشف اأن<br />
»الطاعون ل ميوت، اإنه يختفي حقً ا، ويلبد يف خبث، اإىل<br />
اأن حتني له فرصته، فاإذا الفئران راقصة، واإذا الوباء<br />
يف الناس«. هذه الإشارة اإىل الأعوام الثاثمائة، والأمم<br />
التي تزول والهم الذي ل يزول، والطاعون املتجدد،<br />
األ تقرِّ ب يف ذهن القارئ، املسافةَ الفاصلةَ بني زمننا<br />
وزمن املماليك؟ األ تضعنا اأمام زمن واحد ممتد متكرر<br />
احللقات، ل فاصل فيه بني حلقة وحلقة، بني »حاضر«<br />
معيش و»تاريخ« منقض؟<br />
كيف استطاع الكاتب اأن ميسك بهذا الزمن املمتد،<br />
كيف استطاع اأن ينقلنا اإىل قاهرة املماليك وقرى<br />
امللتزمني وفاحي السخرة، دون اأن نفارق قاهرتنا<br />
املعاصرة وقرانا الكثرية املتشابهة، كيف اأقنعنا اأننا نقراأ<br />
رواية »واقعية« من نوع خاص، اأكرث منها رواية »تاريخية«.<br />
هذا ما صنعته تقنيات القاص املتمرِّ س املحتشد لكتابة<br />
هذه الرواية.<br />
هذه الرواية يحكيها راو عليم، يتنقل يف خفَّة<br />
الطائر، بني املشاهد/الفصول اخلمسني التي مل تنقطع<br />
ومل تهداأ، منذ اأن راأينا اأيوب صانع النعوش وصبيه<br />
يوسف يف مطلع الرواية، اإىل اأن وصلنا اإىل ثورة اجلياع<br />
واملهمَّ شني يف نهايتها. وبني هذين املشهدين املتباعدين،<br />
تتواىل املشاهد يف اإيقاع درامي وروائي متسارع، هو اأهم<br />
خصيصة فنية متيز هذه الرواية، وجتذب القارئ اإىل<br />
عاملها.<br />
ولقد استخدم الكاتب كل طاقاته الواعية والاواعية،<br />
من اأجل اأن يصنع هذا الإيقاع الروائي اجلاذب، ومن<br />
اأجل اأن يحافظ عليه دون سقطات اأو تنشيزات قدر<br />
الإمكان.<br />
مل يكتف الرجل باحلقوق التي تكفلها له صفة<br />
الراوي العليم، وهو راو ميكنه دون اإخال باملنطق، اأن<br />
ينتقل يف اأية حلظة، من قلعة اجلبل اإىل ميت جهينة،<br />
من احلمام اإىل خمابئ املجاذيب، من سراي امللتزم اإىل<br />
زريبة ست الكل اإىل بساتني احلرمي ..اإلخ، بل انتزع اإىل<br />
ذلك حقوقًا اأخرى، كفلتها له اأصولٌ درامية كاسيكية<br />
ومعروفة للجميع، لكنه التزمها ببساطة وبشكل صارم.<br />
اأول هذه الأصول، اأن يستقل كل فصل من الرواية<br />
مبشهد واحد، ل يجاوزه قيد اأمنلة؛ فالرواية تتكون من<br />
ثاثة وخمسني مشهدً ا، يدور كل مشهد منها يف مكان<br />
اأبحاث
2 0 1 1<br />
92<br />
حمدد، ويظهر فيه قطاع حمدد من شخصيات الرواية،<br />
ويعالج حادثة حمددة بادئًا بالفرشة الوصفية وصاعدً ا<br />
باحلوار اإىل ذروته؛ بحيث نشعر عندما ننتهي من قراءة<br />
كل مشهد، باأننا قد انتقلنا خطوة اإىل الأمام يف دراما<br />
الرواية وحركتها.<br />
وثاين هذه الأصول يرتبط بالعاقات التي يقيمها<br />
املوؤلف بني هذه املشاهد املستقلة، وهي عاقات تتعدد<br />
وتتداخل وتتواشج لكي تشكل يف النهاية عاملًا روائيًا<br />
واحدً ا، عامل »السائرون نيامً ا« بتنويعاته وطبقاته.<br />
وعاقة القربى احلقيقية التي تربط بني بعض<br />
الشخصيات يف املصاهد املختلفة، هي اأوىل هذه<br />
العاقات الرابطة واأبسطها واأكرثها منطقية، ومن<br />
خالها ميكن للراوي وروايته، ودون اأن نشعر بقفزة غري<br />
منطقية، اأن ينتقا بصاسة – مثاً - من عامل اأيوب<br />
وصبيه يوسف وزوجته ست الكل يف القاهرة، اإىل عامل<br />
الفاحني يف قرية ميت جهينة؛ لأن هناك عاقة قربى<br />
وهجرة متبادلة بني العاملني، هربًا من العسف، اأو طلبًا<br />
للرزق، اأو استعدادً ا لانتقام.<br />
واإذا كان هذا نوعً ا من العاقات البسيطة، التي يبدو<br />
دور املوؤلف فيها مقصورًا على النقل، من العامل الواقعي<br />
اخلارجي الكائن هناك، اإىل عامل الرواية الداخلي<br />
املتخيل، فاإن هناك نوعً ا اآخر من العاقات التي يخلقها<br />
املوؤلف خلقً ا، وهي عاقات اأكرث تعقيدً ا واأشد رهافة،<br />
وعلى نحو تبدو معه اأحيانًا عاقات خمططة وخطرة،<br />
لأنها قد تبدو حتكمية وخمتلقة ، وهو ما كان ميكن اأن<br />
يضر حركة الرواية واإيقاعها ومصداقيتها.<br />
من هذه العاقات مثاً، ما ميكن اأن نسميه عاقة<br />
»الستباق«، وهي العاقة التي يستخدمها املوؤلف يف<br />
مواضع كثرية، ولكنه يستخدمها خصوصً ا يف التمهيد<br />
البطيء وعلى مهل، لثاث ذرى درامية كربى يف الرواية:<br />
1- الطاعون، و2- اكتشاف الأسرار امليلودرامية املدهشة<br />
اخلاصة بتداخل النسب يف احلرام بني امللتزمني من<br />
اآل اإدريس وفاحي ميت جهينة، ثم 3- ساعة الثورة<br />
والنتقام التي تاأتي بها نهاية الرواية.<br />
على مدار الفصول العشرين يف القسم الثاين من<br />
الرواية، والذي يجعل املوؤلف عنوانه : الطاعون، سرنى<br />
عامة الستباق الأساسية تظهر ثم تختفي، يف صورة<br />
فئران تتخلل املشاهد، تظهر بشكل عرضي يتخلل<br />
حوارات املشاهد يف البداية، لكنها تتزايد وتتقدم<br />
املشاهد برقصها املذبوح وبدمها املقزز، ثم اإنها سرعان<br />
ما تنتقل من الفئران اإىل البشر، وكلما تقدمنا مع<br />
املشاهد تبلور شعورنا بالطاعون املقبل، اإىل اأن نصل يف<br />
املشهد الأخري من هذا القسم اإىل اإعانها صريحة:<br />
»اندفع خليل بعويله<br />
املكتوم مارقًا من العتبة<br />
اإىل اخلالء، وهو يسد اأذنيه<br />
بيديه، وقبل اأن يبتلعه البعد<br />
كان املرعوش قد حلق به<br />
يف وثبات طائرة، واندفع<br />
خيالهما يف ضوء القمر<br />
ذاهبيني اإىل االأفق يف عدو<br />
خاطف واأذرعهما مفتوحة<br />
للسماء بكفوفها املبسوطة،<br />
وصوتهما الواحد يرج ما بني<br />
االأرض والسماء:<br />
- الطاعون! الطاعون!<br />
الطاعون!« )ص 163(<br />
وعامة الصتباق املمهدة للذروة الثانية، هي<br />
النغزة املتشابهة على خدود اآل اإدريس، وخدود اأبنائهم<br />
واإخوانهم يف احلرام من فاحات ميت جهينة. وهي<br />
عامة تبداأ يف صورة وصف اآيل وساخر اأحيانًا، يقوم به<br />
الراوي يف مشاهد متعددة، ثم يزداد اقرتابنا مع الوقت<br />
من هذا اخلد املنغوز املتكرر ودللته، اإذ تتضح احلقائق<br />
فصاً بعد فصل حني تتبادل النسوة اعرتافاتهن. اإنها<br />
النغزة املاأساوية التي تتحول اإىل كابوس يراه حممد وقد<br />
انطبع على كل الكائنات:<br />
»- راأيت سوق ميت<br />
جهينة بالناس والبهائم كاأنه<br />
يوم احلشر، والناس جميعًا<br />
يف خدودهم نغزة مثل هذه<br />
.. وحتول احللم اإىل كابوس<br />
عندما اأخذت كل بهائم<br />
السوق ترفع من االأرض<br />
رءوسها، فاأرى لكل بهيمة<br />
نغزة اأيضً ا .. يا للكابوس!..<br />
حتى عندما رفعت وجهي اإىل
93<br />
2 0 1 1<br />
السماء وجدت يف خد القمر<br />
نغزة!« )م235(<br />
اأما عامة الستباق الثالثة ، فهي »ساعة الوعد«<br />
التي متثل ذروة الرواية كلها ونهايتها، وهي الساعة التي<br />
يرد ذكرها على األسنة املجاذيب، من الشيخة زليخة<br />
حامية احلرافيش يف القاهرة، اإىل الشيخ املرعوش<br />
حامي املجاذيب واملطاريد والغرباء يف ميت جهينة. اإنها<br />
الساعة التي يبدو اأن اجلميع يسريون نيامً ا يف اجتاهها،<br />
وهم يعرفون جياً بعد جيل كما يقول خالد يف اأحد<br />
مونولوجاته، كيف يبكون يف صرب وبا دموع، ويكِ زُّون<br />
على اأسنانهم وهم ينتظرونها:<br />
»ساعتنا نحن؟ اآه!<br />
وحق سيدي املرعوش الذي<br />
يسمعنا اآه! ساعتنا نحن!<br />
ساعة تنتفض قلوبنا مثل<br />
قلب واحد، وتزعق الدماء يف<br />
عروقنا، وتكونني معنا يا ست<br />
زليخة اأنت وروح عزة الساري<br />
يف اأرضنا، اأوله يف الصعيد<br />
واآخره يف البحر املالح، وملء<br />
الرب اأنفاسه الطاهرة.«<br />
)ص 238(<br />
ومن هذه العاقات الرابطة بني املشاهد اأيضً ا،<br />
عاقة اأخرى يبدو اأن مكاوي استعارها من »اللغة<br />
السينمائية« )43( ، واأعني بها عاقة »التوليف« بني<br />
املشاهد، سواء كان توليفً ا »روائيًّا« اأو توليفً ا »تعبرييًّا«.<br />
وعاقة التوليف هذه ترتكز يف السطور التي ينتهي بها<br />
كل مشهد يف الرواية، والسطور التي يبداأ بها املشهد<br />
الذي يليه، ورمبا تكون هي اأكرث العاقات املسوؤولة عن<br />
ضبط اإيقاع الرواية بكاملها، واإعطائها الطابع املتاحم<br />
الذي متيزت به.<br />
ولأن الرواية حتتوي على عدد هائل من الشخصيات<br />
املتنوعة املشارب والأماكن، مل يكن من السهل توليف<br />
املشاهد على اأساس التتابع الزمني التقليدي؛ اإذ مل<br />
يحدث يف الرواية اأن احتلت شخصية واحدة اأو مكان<br />
واحد مشهدين متتاليني اأو فصلني متتاليني، اللهم اإل<br />
الفصول الثاثة الأخرية من القسم الثاين)التي تصور<br />
ذروة الطاعون(، والفصول الثاثة الأخرية من القسم<br />
الثالث والأخري )التي تصور ثورة اجلياع يف اجتاه<br />
صوامع امللتزم(.<br />
فيما عدا هذا، كان لبد للرواية اأن تبني التوليف بني<br />
املشاهد على اأساس القطع ؛ ومن ثم كان هناك حرص<br />
كامل على اإغاق املشهد، سواء بجملة حوارية قصرية<br />
باترة، كما يحدث يف اأغلب املشاهد، اأو بجملة قصرية<br />
يضيفها الراوي متعمدً ا بعد انتهاء احلوار، فقط ليغلق<br />
املشهد مبا افتتحه به من وصف، كاأن يقول: »ويف الطاقة<br />
خفق نور املسرجة خفقة متوهجة«)الطاعون، الفصل<br />
اخلامس( اأو »وسمعت القاعة من حنجرتني حمزاويتني<br />
قويتني قهقهة عالية غطت على ثرثرة العصفور املتفائلة<br />
يف املشربية«)الطاووس، الفصل السابع عشر(.<br />
كانت كل شخصية من شخصيات الرواية –<br />
وكلها يف »السائرون نيامً ا« شخصيات اأساسية وحتتل<br />
مساحات متقاربة – تختفي فصلني اأو ثاثة ورمبا اأكرث،<br />
ثم نعود اإليها يف قلب ما تقوم به من فعل، متوقعني اأن<br />
اأشياء كثرية قد حدثت معها. وكان من الطبيعي واحلالة<br />
هذه، اأن تبداأ غالبية املشاهد/الفصول بجملة فعلية، مع<br />
اأن كل مشهد يبدو يف الظاهر على الأقل، مقطوعً ا عما<br />
قبله.<br />
ويف فصول القسم الأخري على الأقل، كثريًا ما يلعب<br />
سعد مكاوي لعبة سينمائية واضحة وطريفة، عند النتقال<br />
من مشهد اإىل مشهد؛ فالفصل الرابع مثاً ينتهي بجملة<br />
»وقراأ الفاحتة«، بعدها مباشرة يبداأ الفصل اخلامس<br />
بجملة »قراأت حمسنة الفاحتة مرتحِّ مة على ..«. انتهى<br />
مشهد بقراءة الفاحتة ليبداأ املشهد اجلديد بقراءة<br />
الفاحتة، مع اأن الظرف خمتلف والشخوص خمتلفون،<br />
لكنها رابطة سينمائية قائمة على التقابل الساخر بني<br />
مضمون املشهدين. وكذلك ينتهي الفصل السادس<br />
مبوت اأم حسن التي يودعها خالد قائاً: مع الصامة يا<br />
اأم حسن، وبعدها مباشرة يبداأ الفصل السابع بتشييع<br />
جنازة، ولكنها جنازة الشيخ عباس يف القاهرة:«خرج<br />
عامله كله يودعه وشيَّعته ..«. وهذا اأيضً ا ما يحدث مع<br />
نهاية الفصل احلادي عشر وبداية الثاين عشر.<br />
كل هذه العاقات وغريها، تلعب دورًا حاسمً ا<br />
يف رسم العامل املحتشد بالشخصيات، ويف الإمساك<br />
باأطراف الزمن املمتد - بصورة ما - من التاريخ اإىل<br />
احلاضر. وهو عامل ينقسم بشكل عام اإىل معسكرين<br />
اأبحاث
2 0 1 1<br />
94<br />
اأساسيني يعيشان يف وطن واحد ولكنهما منفصان:<br />
معسكر املماليك من الأمراء العسكر، وتابعيهم من<br />
اجلواري والغلمان وامللتزمني والشيوخ والقضاة اأيضً ا،<br />
وهو معسكر يهتم الكاتب بوصف تفاصيله ونزوعاته<br />
وعقده واحللقات التي تصله بالشعب، ولكنه ل يبداأ بهذا<br />
املعسكر ول ينتهي اإليه، واإمنا يرتكه ينسحب يف صمت<br />
قبل اأن تصل الرواية اإىل نهايتها بثاثة فصول على<br />
الأقل. اأما املعسكر الآخر الذي يبداأ به الكاتب وينتهي<br />
اإليه، ويعطيه املساحة الأكرب، فهو عامل الشعب املهمَّ ش،<br />
حرفيي املدينة وجماذيبها، فاحي الريف الأجراء<br />
وفاحاته.. اإلخ<br />
»السائرون نيامً ا«، وكما يشي عنوانها الساحر هذا،<br />
ليس لها بطل فرد، وشخصياتها كلها اأساسية كما اأشرت<br />
منذ قليل، والبطولة فيها جماعية بامتياز. ومع ذلك فاإن<br />
الكاتب يركز تركيزً ا خاصًّ ا على شخصيتني، اإحداهما<br />
من معسكر املماليك، وهي شخصية السلطان قايتباي،<br />
والأخرى من معسكر الشعب، وهي شخصية خالد. كل<br />
منهما ميتلك بعدً ا بطوليًّا ملموسً ا ؛ فقايتباي - كما<br />
تقول الرواية - ظل مديد، ينتصر على الطاعون مرتني،<br />
وميقت املحيطني به من املماليك، وتصوره الرواية عند<br />
موته وقد سئم لعبتهم وصراعهم على السلطة. اأما<br />
خالد فيحمل رمز مصر وشعارها على كتفه وفوق لسانه<br />
)اأخته عزة التي اختطفها اململوك من احلمام يف بداية<br />
الرواية(، ول يكف عن تكرار عبارته التي حفظناها<br />
منذ قالتها الشيخة زليخة اإىل اأن انتهت الرواية:<br />
»اأينما تويل وجهك فثم وجه عزة، يداها يف البحر<br />
املالح وقدماها، يف اأرض الصعيد، وملء الرب اأنفاسها<br />
الطاهرة«. ولأن الكاتب يعطي لهاتني الشخصيتني بعض<br />
الرتكيز، كان من الطبيعي اأن يرسمهما من الداخل،<br />
واأن يستخدم مونولوجاته غري املباشرة، لكي يدخل اإىل<br />
عقليهما ونفسيهما ويصور ما فيهما من اأفكار ومشاعر<br />
وهواجس.<br />
ولأن الكاتب مل يكن يرغب – كما قال – »يف بعث<br />
فرتة من التاريخ اململوكي، ولأن »السائرون نيامً ا« هي<br />
»موقف فاح مصري مثقف، عايش عصرنا، وجد<br />
يف فرتة تاريخية معينة من ماضي اأمته، ما ميكن اأن<br />
يكون شاهدً ا على عصره«؛ لهذا كله كتبت الرواية<br />
بلغة معاصرة ل تختلف كثريًا عن لغة سعد مكاوي يف<br />
اأعماله الأخرى، ولهذا اأيضً امل يحاول الكاتب استعادة<br />
لغة شبيهة باللغة العربية يف عصر املماليك. يخيل اإيلَّ<br />
اأحيانًا اأن الرجل مل يكتب روايته لتكون رواية تاريخية،<br />
واإمنا كان يكتب لونًا جديدً ا من الرواية الواقعية. والشيء<br />
الذي لبد من اللتفات اإليه يف لغة هذه الرواية، هو ذلك<br />
البعد الباطني املونولوجي، الذي يكشف عنه استخدامه<br />
للمجاز وللإيقاع بكثافة وخصوصية.<br />
)6(<br />
حظيت رواية »الزيني بركات« منذ صدورها<br />
باهتمام نقدي تستحقه )44( ؛ ذلك اأنها مل تكن جمرد<br />
رواية تاريخية تضاف اإىل ما سبقها من روايات من هذا<br />
النوع، واإمنا شكلت لونًا خاصًّ ا جديدً ا من التعامل مع<br />
التاريخ، ل ينهض على حماكاة اأحداث التاريخ ونقل ما<br />
وقع يف فرتة حمددة كما يف »على باب زويلة«، ول على<br />
اختاق تاريخ مواز مل يذكره التاريخ الرسمي صراحة<br />
كما يف »السائرون نيامً ا«، واإمنا تنهض بدلً من ذلك<br />
على »معارضة« مركبة ورهيفة لنص تاريخي حمدد هو<br />
كتاب »بدائع الزهور يف وقائع الدهور« لبن اإياس )45( ،<br />
وخصوصً ا ذلك اجلزء من حولياته الذي يرصد فيه،<br />
بطريقته وبلغته اخلاصة، حال الديار املصرية يف<br />
السنوات العشر الأخرية من عمر سلطنة املماليك.<br />
ينتهي الزمن التاريخي لرواية »السائرون نيامً ا«<br />
عام 1499، وهو زمن ل يشار اإليه تقريبًا يف منت<br />
الرواية؛ اإذ ل يكاد يرد ذكر تاريخ حمدد اإل يف الإشارة<br />
املباشرة التي يضعها الكاتب يف البداية وقبل اأن يبداأ<br />
املنت الروائي. اأما »الزيني بركات« التي ل تبداأ باإشارة<br />
مباشرة اإىل التاريخ، فيبداأ زمنها التاريخي بعد ذلك<br />
باأعوام قليلة، والإشارة اإىل الزمن فيها حاضرة يف كل<br />
منحنى، ويرتدد ذكرها يف بداية كل فصل اأو يف نهايته،<br />
بحيث تتحول الإشارة املتكررة اإىل التاريخ وصيغته اإىل<br />
جزء اأصيل من النص.<br />
ويف حني يسري الزمن الروائي يف »السائرون نيامً ا«<br />
سريًا تعاقبيًّا متصاً، من النقطة »اأ« اإىل النقطة »ي«،<br />
فاإن زمن »الزيني بركات« ل يسري على هذا النحو<br />
التعاقبي اأبدً ا؛ اإذ يبداأ من نقطة قرب نهاية الأحداث<br />
)رجب 922ه، اأغسطس اإىل سبتمرب 1517م( يف صورة<br />
مقتطف من مشاهدات للرحالة البندقي فياسكونتي
95<br />
2 0 1 1<br />
جانتي، يسجل فيها اأحوال القاهرة، ثم نعود بعدها<br />
مباشرة اإىل نقطة تسبقها بعشر سنوات )ما جرى لعلي<br />
بن اأبي اجلود وبداية ظهور الزيني بركات بن موسى<br />
شوال 912ه(، لننتهي عند نقطة تالية للنقطة التي<br />
بداأنا بها )مقتطف اأخري من مذكرات الرحالة البندقي<br />
فياسكونتي جانتي 923ه(. وبني هاتني النقطتني يتم<br />
تقسيم الرواية اإىل سبع سرادقات )46( ، لكن الرواية ل<br />
تتلبث يف هذه السرادقات سوى عند عام 912ه )يحدث<br />
تسجيل للتاريخ عشر مرات على راأس املكاتبات والنداءات<br />
الرسمية التي ترتدد من شوال اإىل ذي احلجة( حيث<br />
توىل بركات بن موسى صاأن احلسبة وخلع عليه السلطان<br />
لقب الزيني، ودخل يف مصادمات ناعمة مع الشهاب<br />
زكريا بن راضي وبداأ يجتذب قلوب العامة ورجال الدين<br />
واملثقفني، يف الوقت نفسه الذي يثري ريبتهم وسخطهم<br />
املكتوم. اأما بقية الأعوام الإحدى عشرة املمتدة من 912<br />
اإىل 923ه، وهي الزمن التاريخي التقريبي للرواية، فا<br />
يكاد الراوي يسجل منها سوى ثاث اإشارات ، الأوىل<br />
يف مطلع عام 913 وكاأنها تكملة لأحداث العام السابق،<br />
اأما الأخريني فاإىل عامي 914 و 920ه خال مقتطفني<br />
للرحالة البندقي نفسه. وما عدا ذلك ليس سوى مساحة<br />
طويلة من الصمت، تركنا الراوي فيها نتخيل ما حدث<br />
طوال سنوات من خداع البصاصني الناعم، اإىل اأن نصل<br />
اإىل صوت سعيد اجلهيني، وحيدً ا يف السرادق السابع<br />
والأخري يتكلم، فا يقول اإل جملة واحدة يائسة وباترة<br />
وبضمري املتكلم: »اآه، اأعطبوين، وهدموا حصوين«. )ص<br />
)279<br />
ويحكم هذا الزمنَ املضطرب داخل السرادقات<br />
اإطارٌ خارجي يتمثل يف خمسة مقتطفات تعليقية متفاوتة<br />
الطول واملوضوع، ماأخوذة من مذكرات الرحالة البندقي<br />
فياسكو جانتي، الذي مر بالباد ثاث مرات خال تلك<br />
الفرتة، مقتطفان منها يقعان خارج السرادقات وميثان<br />
ما يشبه مقدمة وخامتة للرواية، اأما املقتطفات الثاثة<br />
الأخرى فتمثل جزءًا من السرادقات.<br />
التعامل مع الزمن واحد من اأمور كثرية بالغة<br />
الرتكيب واحلرفية يف رواية الغيطاين؛ فهو اأمر يتعلق<br />
بطبيعة من يحكي)اأو يحكون( يف النص من ناحية،<br />
وبطبيعة اللغات املتعددة املصادر التي تتداخل يف نسيج<br />
البناء الروائي مبستوياته املختلفة من ناحية ثانية،<br />
وبطبيعة املضمون النهائي للرواية )وللرواية التاريخية<br />
عمومً ا( وعاقتها بحاضرها من ناحية ثالثة.<br />
من الذي يقوم بفعل احلكي يف هذه الرواية الغريبة؟<br />
يبدو الأمر وكاأننا قد عرثنا مصادفة على جمموعة من<br />
الوثائق واملكاتبات، كما صادفت مسامعنا يف السرادقات<br />
جمموعة هائلة من الأحاديث والإشاعات والنداءات،<br />
ومن كل هذه املادة تاألفت لدينا الصورة النهائية لعامل<br />
غامض مضطرب، هو عامل القاهرة اململوكية يف تلك<br />
الفرتة احلالكة، القاهرة املليئة بالشائعات واملحوطة<br />
بالبصاصني واملنتظرة للحرب، حيث يزدهر القمع<br />
باأنواعه، من القمع الدموي الفظ اإىل القمع الناعم.<br />
وعلى الرغم من تعدد من يتحدثون اإلينا يف »الزيني<br />
بركات«، فاإن الذي يحكي يف الرواية كلها هو راو عليم<br />
من خارجها، يراقب ويرصد ما يقوله الناس، وما<br />
يتداولونه من اإشاعات، وما يواجهونه من هموم، يسمع<br />
النداءات املتوالية التي تطلقها السلطة، يعرض الرسائل<br />
املتبادلة بني اأركان احلكم املخابراتية املتصارعة، يقتطع<br />
مقتطفات مما سجله الرحالة يف كتبهم، راصدً ا - عرب<br />
كل ذلك - اأحامَ الناس العاديني وما يدور يف نفوسهم<br />
ويتبدى على وجوههم.<br />
نحن ل نرى السلطات ول نرى الزيني نفسه بعيون<br />
راو ميثل املوؤلف، واإمنا بعيون الناس واألسنتهم، ومن<br />
مسافة واضحة ل تسمح بالسخط اأو التعاطف. ل سخط<br />
هناك ول تعاطف مع اأحد )اللهم اإل سعيد اجلهيني<br />
اأحيانًا(. سنعرف الأحداث والتطورات كما تصورها<br />
الناس بعد اأن وصلتهم الأخبار والإشاعات؛ ومن ثم<br />
فاملشاهد الأساسية يف الرواية تقوم على جماعات من<br />
الناس تتبادل الأحاديث والإشاعات والأقوال عما يدور<br />
يف اأركان السلطنة واأقبيتها السرية، ل شيء يقيني ول<br />
سبيل اإىل التعاطف الفج مع حدث اأو شخص اأو ضده.<br />
يف هذه املشاهد، التي ميكن بصعوبة مللمة نثارها<br />
من كام املتحدثني الكرث يف النس، صرنى عمال<br />
احلمامات، وعمال املستوقدات، وباعة اللنب، وباعة<br />
الفول، وامراأة اأمام اجلامع تبيع الفجل، وروؤوصً ا<br />
تطل من الأبواب الصغرية، واأطفالً يضعون اأطراف<br />
جابيبهم بني اأسنانهم، ونساء خرجن حافيات يحملن<br />
اأطفالهن، والضرائب وملح الطعام الذي عز وجوده،<br />
ورجاً جمرسً ا مشهرً ا فوق حمار اأزعر با ذيل، وخافًا<br />
اأبحاث
2 0 1 1<br />
96<br />
فقهيًّا حول بدعة الفوانيس، وشكاوى ل تنتهي للشيخ<br />
اأبي السعود اجلارحي، وشكوكً ا متلأ نفوس الناس من<br />
بعضهم البعض، وحكايات صغرية هنا وهناك، والأزهر<br />
وطابه، واحلرفيني وباعة احللوى..اإلخ. اإن هموم املعيشة<br />
اليومية وحياة الناس العاديني، هي الأرضية التي تنهض<br />
عليها حكاية الزيني بركات وصراعاته مع الآخرين، هي<br />
اخللفية الأوسع والأعمق ملشهد التعذيب ولذة التجسس<br />
التي تتصدر املشهد وتداعب خيال اأصحابها املقتنعني<br />
اإىل درجة املرض. ينقل لنا الراوي املجهول املختفي<br />
العليم ما سُ مع زكريا بن راضي يقوله »دائمً ا« لأعوانه<br />
املقربني، حول رسالة التجسس اخلالدة:<br />
»..هنا تتلخص الديار املصرية،<br />
دائمً ا يقول زكريا الأعوانه املقربني،<br />
عندما اأود الذهاب اإىل اأي بلدة يف<br />
مصر ال اأبتعد عن بيتي، اأجيء اإىل<br />
هنا، لكل بلدة قسم، لكل قرية، اأي<br />
كوم اأو عزبة، اأي اإقطاع يف بر مصر<br />
من اأدناها اإىل اأقصاها، كل دفرت<br />
يحوي اأوصاف املكان، ما اشتهر<br />
به، ثم اأهم االأشخاص فيه، كافة<br />
ما يتوافر عنهم، القسم اخلاص<br />
بالقاهرة يحوي حاراتها وخططها<br />
وجوامعها، رجالها وشيوخها ونساءها<br />
وغلمانها وجواريها وبيوت اخلطاأ<br />
فيها وشرطتها وعسسها وفقهاءها<br />
وحماماتها واأسواقها وخاناتها<br />
وطوائفها ومغنياتها ومالهيها،<br />
واأسماء االأروام املقيمني والقادمني<br />
والراحليني واالإفرجن العابرين،<br />
ومن يتصل بهم، يترتدد عليهم من<br />
املصريني، كل اأمر كبر اأو صغر هنا،<br />
اأما االأمراء واأعيان الناس ومشاهر<br />
اخللق فكل ما يتعلق بهم، اأمزجتهم<br />
وعاداتهم، مشاربهم واأهواوؤهم، ما مر<br />
بهم من اأفراح واأتراح كله هنا، يقول<br />
زكريا متباهيًا، هذا القسم يف الديوان<br />
مفخرة للسلطان وغرة يف جبني<br />
السلطنة املصرية، مل يحدث قط اأن<br />
اأعد شيء كهذا يف تاريخ اأي بصاص<br />
مصري اأو اإفرجني، وباإذن اهلل العليم<br />
القريب سيجيء يوم يصبح لكل<br />
اإنسان قسم خاص به، يلخصه منذ<br />
رعشة امليالد حتى اآهة املوت ..«<br />
)ص 37-36(<br />
واللغات املتعددة املستويات تاريخيًّا واجتماعيًّا،<br />
لعبة اأخرى تضاف اإىل األعاب هذه الرواية وتساعدها<br />
يف الإمساك بهذا العامل املضطرب؛ فمن اللغة العربية<br />
املصرية ذات الطابع اخلاص والباغة اخلاصة، واملبنية<br />
بوضوح على لغة ابن اإياس، اإىل لغة النداءات التحذيرية<br />
اجلازمة احلازمة، اإىل اللغة الدينية التي تداعب خيال<br />
العامة باقتباساتها من القراآن الكرمي واحلديث الشريف<br />
ومستودع احلكم العربية، اإىل لغة الراوي العليم التي ل<br />
تكاد تختلف عن لغة الغيطاين يف اأعماله القصصية<br />
الأخرى، بتدفقها وجملها القصرية وغنائيتها وصورها<br />
اأحيانًا، اإىل لغة الرحالة البندقي التي ل تختلف كثريًا<br />
عن لغة الراوي العليم، اإىل مستوى اآخر من اللغة ملتبس<br />
بني زمن العصر اململوكي)زمن العسس والبصاصني(<br />
وزمن الستينات من القرن العشرين )زمن املخابرات<br />
الثورية(، وهو مستوى قد تعكسه عبارات مقتضبة<br />
ماأخوذة يف الغالب من العامية املصرية املمتدة، وذهبت<br />
مضرب الأمثال، مثل “عد غنماتك يا جحا” اأو “تسمح<br />
معانا”.<br />
لقد كُ تبت “السائرون نيامً ا” كما ذكرتُ يف اأوائل<br />
الستينات، ونُشرت فصولها قبل اأن تقع هزمية 1967<br />
بحوايل اأربع سنوات، بينما كتبت “الزيني بركات”<br />
يف عامي 1970 و1971، وفقً ا ملا تشري اإليه ماحظة<br />
املوؤلف يف نهاية نص الرواية ، ونشرت الرواية لأول مرة<br />
يف دمشق عام 1974، اأي بعد وقوع الهزمية والرتاجع<br />
النسبي لدولة املخابرات ومراكز القوى. وهذا اأمر<br />
يدعو من جديد اإىل تاأمل طبيعة العاقة بني اجلانب<br />
الذي تستدعيه الرواية من التاريخ وطريقة الستدعاء<br />
من ناحية، والرسالة التي توجهها حلاضرها من ناحية<br />
اأخرى.<br />
يبدو اأن الإنسان – كما يقول باصار – ل يتذكر<br />
ماضيه مبجرد التكرار، واإمنا هو يف كل الأحوال يعيد<br />
تركيبه، واأن الذاكرة تكتمل يف الصمت، وتتضح وتكتمل
97<br />
2 0 1 1<br />
مبرور الزمن. الذكرى ليست شيئًا جاهزً ا، وليس<br />
بالإمكان حتقيقها ول روايتها اإل انطاقً ا من قصد<br />
راهن. هناك شروط عقانية اأو ظرفية تقود العودة<br />
اإىل املاضي؛ اإذ هناك على الدوام اأهمية راهنة للآلم<br />
املاضية )47( .<br />
على هذا الضوء ميكننا اأن نتصور كيف يعود سعد<br />
مكاوي اإىل الفرتة التي عاد اإليها من التاريخ اململوكي،<br />
يف نوع من »التنبوؤ« مبستقبل الصراع بني السائرين نيامً ا<br />
على اجلانبني حكامً ا وحمكومني، ويف دورتني متشابهتني<br />
من دورات التاريخ، واحدة انتهت قبل خمسمائة عام<br />
والأخرى نحن مقبلون عليها، وميكننا اأن نتصور اأيضً ا<br />
كيف ولِمَ عاد الغيطاين - يف اأعقاب هزمية جديدة -<br />
اإىل جانب حمدد من ذكرى هزمية قدمية.<br />
اإن هزمية - 1517 كما قالت رصوى عاشور يف<br />
حتليلها للرواية – »ليست هي هزمية 1967، وليس<br />
املجتمع اململوكي يف مطلع القرن الصادس عشر<br />
مراآة للمجتمع املصري يف النصف الثاين من القرن<br />
العشرين، كما اأن الزيني بركات وزكريا بن راضي من<br />
ناحية وسعيد اجلهيني واأبو السعود اجلارحي من ناحية<br />
اأخرى يتجاوزون كونهم جمرد اإسقاطات على الواقع<br />
املعيش، فلهم كيانهم املستقل وحركتهم املوضوعية،<br />
ومع ذلك فلهذه الشخصيات التي متثل قوى الستبداد<br />
وقوى الوعي املضاد نظائر يف املجتمع املعاصر« )48( . هنا<br />
تاأتي الذاكرة الغامضة التلقائية التي تكتمل يف الصمت<br />
لتدفع الكاتب اإىل هذه اللحظة من املاضي، ل لكي ننهزم<br />
هزمية نهائية واإمنا لكي نفهم وننهض. »هزمت مصر<br />
اململوكية سنة 1517، واحتلها العثمانيون ليفرضوا عليها<br />
مئات السنني من النحطاط، ومع ذلك مل تكن تلك<br />
الهزمية نهاية املسرية التاريخية حلياة الشعب املصري,<br />
صحيح اأنه ملن عاصر تلك اللحظة بدا وكاأن الساعة<br />
قد قامت وقضي الأمر وضاعت مصر.. اأما القراء<br />
املزودون مبنظور تاريخي توفره اأربعة قرون ونصف قرن<br />
هي الفاصل الزمني بني وقوع احلدث وبيننا، فنعرف اأن<br />
ذلك الهاك، رغم فداحته، مل يكن نهائيًّا، ونعرف اأن<br />
مصر التي هلكت قامت ثم ضُ ربت ثم قامت ثم ها هي<br />
تُضرب مرة اأخرى. هكذا يسمح لنا البعد الزمني بروؤية<br />
هذه اللحظة القامتة يف سياق ممتد من الظلمة والضوء،<br />
من النكسار والإجناز.. ويف حني مت جتاوز الهزمية<br />
الأوىل مل يتم بعد جتاوز الهزمية الثانية. والسند الذي<br />
يستمده الغيطاين من موازاة اللحظتني والذي يريد اأن<br />
ينقله اإىل قرائه، هو اإمكانية جتاوز هذه الهزمية يف<br />
تاريخنا املعاصر انطاقًا من الوعي التاريخي« )49( .<br />
غري اأن الرواية ل تتورط اأبدً ا، يف الإفصاح املباشر<br />
عن هذه الروؤية، وترتك الأمور على حالها امللتبس<br />
الغامض الذي كانت عليه يف الواقع التاريخي، وهو<br />
الدرس الذي تعلمه الغيطاين متامً ا من حوليات ابن<br />
اإياس، وهي حوليات تقول لغتها اإنها مبنية يف معظمها<br />
على ما »قيل« وما »اأشيع« )50( بني الناس، اأكرث مما هي<br />
مبنية على حقائق اأو مشاهدات.<br />
واختيار عنوان الرواية وموضوعها الرئيس كان من<br />
اأبرز الأمور التي تعكس مفارقة اللتباس التي انبنت عليها<br />
الرواية؛ ف »الزيني بركات« شخصية تاريخية حقيقية<br />
يرتدد اسمها يف مواضع ومشاهد كثرية من حوليات<br />
ابن اإياس، والغيطاين يرسمه بناء على معطيات تنطق<br />
بها نغمة ابن اإياس يف احلديث عن الزيني، اأكرث مما<br />
تنطق بها لغته الواضحة املباشرة )51( ؛ فاللغة املباشرة<br />
تقول باأنه قاض عادل حمبوب من عامة الناس، ملتزم<br />
بالفروض الدينية، يعمل يف خدمة السلطان والرعية<br />
ل يف خدمة اأغراضه الشخصية، اأما النغمة الباطنة<br />
فتحمل سخرية وتعجبًا من استمراره مع تقلب الأحوال،<br />
واأما جممل املواقف التي يسردها ابن اإياس فتقول باأنه<br />
مراءٍ ، واأن ظاهره بخاف باطنه واأنه خائن وقادر على<br />
التواوؤم مع كل السلطات حتى سلطة املحتل. ورواية<br />
الغيطاين، متامً ا كحوليات ابن اإياس، حتتفظ بوجهي<br />
الصورة حتى النهاية، واإن بدت الرواية اأقرب اإىل احلكم<br />
النهائي بالسلب، خصوصً ا يف مشهد النهاية )52( .<br />
وهكذا يعكس العنوان »الزيني بركات« صيغة املفارقة<br />
املركبة التي انبنت عليها الرواية؛ فهي رواية عن واقعنا<br />
املعاصر لكنها حول شخصية »تاريخية« حقيقية وكاملة،<br />
والزيني بركات اسم جميل ينطوي على فرحة وبهاء،<br />
لكنه ل زيني ول بركات ول ينطوي اإل على الظلم والقهر<br />
واخلداع الذي قاد اإىل الهزمية والنهيار الكامل.<br />
ورسم شخصية الزيني كان واحدً ا من الأمور التي<br />
اأبدع فيها الغيطاين مستفيدً ا من درس ابن اإياس؛ فقد<br />
ظل الزيني كما صورته الرواية شخصية غامضة،<br />
ملتبسة، مغلقة على عاملها الداخلي، مل نستمع اإليه<br />
اأبحاث
2 0 1 1<br />
98<br />
يف الرواية اأبدً ا على نحو مباشر، واإمنا وصلنا صوته<br />
ومضمون كامه عرب ما يرتدد بني الناس يف السرادقات،<br />
وعرب حكي الآخرين، خصوصً ا ذلك الرحالة البندقي<br />
الذي يشبه الغيطاين من وجوه كثرية: فكل منهما ينظر<br />
اإىل عامل القاهرة اململوكية من خارجه )مكانًا وثقافة يف<br />
حالة الرحالة، وزمانًا يف حالة الغيطاين(، وكل منهما<br />
معنيٌّ باأمر الزيني بركات عناية خاصة، وكل منهما<br />
رحالة معنيٌّ باأمر البشر يف اأزمنة واأمكنة خمتلفة من<br />
العامل، وكل منهما صديق صريح لبن اإياس، يتخذ منه<br />
وسيطً ا اأمينًا بينه وبني عامل القاهرة اململوكية ذاك،<br />
وينقل عنه نصوصه وروؤيته.<br />
ليس للزيني كما ترسمه الرواية مامح واضحة؛<br />
فدائمً ا هناك حواجز بينه وبني العيون التي تراه، حتى<br />
حني يراه الرحالة يف خطبة الأزهر الشهرية، ل يراه<br />
اإل وسط هالة من الإعجاب والرهبة، ومن مسافة ل<br />
تسمح بالوضوح، اأو من وراء لثام كما يحدث يف املشهد<br />
اخلتامي، وبحيث ل يتوقف اإل عند اأصياء مراوغة<br />
ك»نربات صوته«، و»ملعة عينيه«، وهو الأمر الذي يزيد<br />
صورة البطل التاريخي غموضً ا على غموضها، بحيث<br />
تبقى يف الوضع الذي كانت عليه بالنسبة ملعاصريها يف<br />
الواقع التاريخي:<br />
».. بيني الناس سرت همهمة،<br />
دوائر تتسع تتسع بعد اإلقاء حجر<br />
يف مياه ساكنة، تعلقت العيون باملنرب<br />
اخلشبي، وفوق السالمل اخلشبية<br />
طلع حاكم القاهرة، حمتسب الديار<br />
املصرية، الزيني بركات بن موسى،<br />
اأصغيت مرهفًا، حديثه عامي اللهجة،<br />
وهذا يخالف االأصول على حد علمي،<br />
اضطررت اإىل اإحاطة اأذين حينًا بيدي<br />
حتى اأسمع ما يقول، بداأ لينًا ثم<br />
عال.. وهنا متهّل صوت الزيني.. هنا<br />
توقف احلديث وبداأ التاأثر يف لهجة<br />
الزيني .. عال صوت ابن موسى، راأيته<br />
يضرب صدره بيده .. فوق املنرب وقف<br />
ابن موسى صامتًا، راأسه مطرق، يداه<br />
تضمان طرف عباءته السوداء« )ص<br />
)202-200<br />
»..راأيت رجاالً كثرين .. لكني<br />
مل اأر مثل بريق عينيه، ملعانهما،<br />
خالل احلديث تضيقان، حدقتي قط<br />
يف سواد ليلي، عيناه خلقتا لتنفذا يف<br />
ضباب البالد الشمالية، يف ظالمها،<br />
عرب صمتها املطبق، ال يرى الوجه<br />
واملالمح، اإمنا ينفذ اإىل قاع اجلمجمة،<br />
اإىل ضلوع الصدر، يكشف املخباأ من<br />
االآمال، حقيقة املشاعر، يف مالحمه<br />
ذكاء براق، اإغماضة عينيه فيها رقة<br />
وطيبة تدين الروح منه، يف نفس<br />
الوقت تبعث الرهبة ..« )ص 10(<br />
»..حاذاين الركب وراأيت الزيني<br />
يضع لثامً ا حول وجهه، ال اأذكر<br />
مالحمه فلم األتق به اإال مرة واحدة،<br />
البد اأن اأسعى اإليه..« )ص 283(<br />
مل يكن الغيطاين يصعى اإذن،<br />
اإىل جمرد كتابة رواية تاريخية، واإمنا كان<br />
مسعاه – متامً ا مثل كثريين من اأبناء جيله –<br />
اإىل افرتاع هوية اإبداعية جديدة )53( ، تائم<br />
منظوره اجلديد الذي يختلف عن منظور جيل<br />
الواقعيني السابق عليه، والذي مثلته هنا رواية<br />
سعد مكاوي على وجه اخلصوص. وهكذا لعب<br />
التجريب بالتقنيات الدور الأكرب يف جتسيد<br />
هذا املنظور وهذه الهوية الإبداعية اجلديدة،<br />
وخاصة فيما يتصل بطبيعة العاقة مع مواد<br />
املوروث السردي واأساليبه.<br />
)7(<br />
تناولت الروايات الثاث الفرتة<br />
التاريخية نفسها )نهايات العصر اململوكي(،<br />
واستخدمت اأساليب ثاثة خمتلفة يف التعبري<br />
كما راأينا. والصوؤال الذي ميكن طرحه يف<br />
اخلتام هو: اإىل اأي مدى جنحت كل رواية من<br />
الروايات الثاث يف تقدمي جوانب من هموم<br />
املعيشة، اأو حياة الناس اليومية يف ذلك<br />
الزمن البعيد؟<br />
ل ترتبط الإجابة عن هذا الصوؤال باحلقائق
99<br />
2 0 1 1<br />
التي تثبتها كتب التاريخ )الأصلي( بقدر ما<br />
ترتبط بالرواية نوعً ا اأدبيًّا خاصًّ ا، ميلك كاتبه<br />
الوسائل املتنوعة التي تضع يده على تفاصيل<br />
الصورة ودللتها. وبعبارة اأخرى، فاإن املسالة<br />
ل ترتبط بالتاريخ بقدر ما ترتبط بالرواية،<br />
التي هي نوع خاص من الأدب، ظل منذ نصاأته<br />
ويف كل مراحل تطوره، يعمل يف اإطار مشابهة<br />
الواقع )54( ، سواء كان واقعًا معاصرً ا اأو واقعًا<br />
تاريخيًّا. وبطبيعة احلال فاإن فن الرواية ميلك<br />
مئات الوسائل والصيغ والأساليب لاقرتاب<br />
من هذا الواقع، والرواية التاريخية كما اأكد<br />
لوكاش )55( ، تكاد ل تختلف -يف هذا الأمر كما<br />
يف غريه- عن الرواية الواقعية.<br />
لقد اقرتبت كل رواية من الروايات الثاث<br />
من رسم صورة لهموم املعيشة بقدر اقرتابها<br />
من هذه اخلاصية الأساسية يف فن الرواية؛<br />
فرواية »على باب زويلة«مل تفلح يف رسم صورة<br />
مقنعة حلياة الناس اليومية، ل لأن صاحبها ل<br />
يعرف حقائق التاريخ، بل رمبا لأنه على العكس<br />
كان يعرف التاريخ معرفة مستفيضة، فغرق<br />
يف معرفته واحرتمها اأكرث مما احرتم فنية<br />
الرواية وخصوبة اخليال الروائي، الذي هو -يف<br />
جانب من جوانبه - خيال تاريخي يتخلل هذا<br />
الفن ويتبدى يف تقنياته املختلفة، خصوصً ا يف<br />
صياغة احلبكة ورسم الشخوص واللغة التي<br />
ينطقون بها.<br />
وعلى العكس من ذلك كانت روايتا<br />
»السائرون نيامً ا« و»الزيني بركات«؛ فمع اأنهما<br />
انتهجتا اأسلوبني خمتلفني متامً ا يف تصوير<br />
الواقع التاريخي للبشر يف العصر اململوكي،<br />
وعربتا عن روؤيتني خمتلفتني اإىل حد كبري،<br />
فاإنهما جنحتا يف تصوير الواقع اليومي للناس<br />
بقدر ما احرتمتا فنية الرواية واأدواتها.<br />
جنحت الأوىل -ببنائها الدرامي الصارم،<br />
وبشخوصها املتنوعني- يف خلق عامل روائي<br />
مكتمل له منطقه الداخلي الذي يحكمه، والذي<br />
ل يتناقض يف النهاية مع ما حدث يف التاريخ.<br />
وجنحت الثانية -بتقنياتها اجلديدة وبطبيعة<br />
عاقتها مع املوروث التاريخي والسردي- يف بناء<br />
عاملها الروائي اخلاص الذي ل يتناقض اأيضً ا<br />
مع ما حدث يف التاريخ. يف الروايتني سنجد<br />
تصويرً ا تفصيليًّا جلوانب من حياة الناس<br />
اليومية وهمومهم التي يعربون عنها بصور<br />
خمتلفة، سنجد -ومن دون خطاب مباشر من<br />
الراوي اأو الكاتب- عاملًا متسعًا يضم صورًا من<br />
الريف ومن املدينة، من القاهرة ومن الصعيد،<br />
من القلعة ومن الشوارع والأزقة، وهي صور<br />
نابضة باحلياة، ل لأنها تنقل الواقع التاريخي،<br />
واإمنا لأنها حتتكم ملنطق من داخل الرواية<br />
نفسها، فتخلق واقعها اخلاص املقنع.<br />
اأبحاث
2 0 1 1<br />
100<br />
الهوامش واالإحاالت<br />
1- يقول اأرسطو يف بداية الفصل الثامن من كتابه فن الشعر: “ل يختلف الشاعر عن املوؤرخ يف الكتابة بالشعر اأو<br />
بالنرث؛ فعمل هريودوت رمبا يكتب شعرً ا، ولكنه يظل نوعً ا من التاريخ، موزونًا اأو من دون وزن. اإن الفارق احلقيقي<br />
يف اأن اأحدهما يحكي ما حدث، يف حني يحكي الآخر ما ميكن حدوثه؛ وهكذا يكون الشعر اأكرث فلسفة من التاريخ؛<br />
لأنه مييل اإىل التعبري عما هو عام، بينما مييل التاريخ اإىل التعبري عما هو خاص. واأنا اأعني بكلمة “عام” الكيفية<br />
التي يتكلم بها اأو يتصرف بها شخص ما وفقً ا لقانون الحتمال والضرورة”. راجع:<br />
THE POETICS OF ARISTOTLE, trans. S. H. Butcher, 14.<br />
2- يقول »هايدن وايت« عن اأصحاب هذا الجتاه: اإنهم »بعض املوؤرخني من ذوي التوجه الجتماعي/ العلمي...<br />
وهوؤلء نظروا اإىل التاريخ القائم على السرد بصفته اسرتاتيجية يف العرض غري علمية، اأو رمبا حتى اسرتاتيجية<br />
اأيديولوجية، يصبح من الضروري استئصالها لكي يتحول التاريخ اإىل علم اأصيل«. راجع:<br />
-Hayden White , The Content of the Form: Narrative Discourse and Historical Representation, 30.<br />
3- عبارة األكسندر دوما – الكاتب الفرنسي الذي كتب عشرات القصص واملسرحيات التاريخية – مقتبسة هنا<br />
من حممد مندور: الأدب وفنونه، القاهرة :دار نهضة مصر، 1980، ص 79. اأما التعبري عن سخف مصطلح<br />
الرواية التاريخية وتناقضه فريد لدى واحد من كتابها اأيضً ا، هو الروائي الأمريكي هوارد فاست، صاحب الروايات<br />
التاريخية الشهرية مثل “طريق احلرية” و“سبارتاكوس” الذي يقول: “مصطلح الرواية التاريخية يجب بالنسبة<br />
يل اأن يُلقى يف سلة املهمات، ول اأستطيع اأن اأقول اإنني اأكتب روايات تاريخية ؛ اإذ ل شيء مما اأكتب يندرج حتت<br />
هذا العنوان.. وظيفتي كما اأتصورها هي حكي القصص، وقصصي ليست دراسات تاريخية، وليست دراسات<br />
سياسية، اإمنا هي قصص عن البشر. بعض هذه القصص وقع منذ زمن طويل، وبعضها وقع منذ اأجيال معدودة،<br />
وبعضها يحدث اليوم«. راجع:<br />
Howard Fast. “History in Fiction” (http://www.trussel.com/hf/plots/t469.htm,)<br />
)زيارة املوقع يوم 2 مايو 2009(<br />
4- يرى كثريون من دارسي النوع الروائي يف ذلك جانبًا اأصياً من جوانب النوع، واأن يف كل روائي كبري كما يقول<br />
شكري عياد جانبًا من املوؤرخ والباحث الجتماعي. راجع شكري عياد: القصة القصرية يف مصر، دراسة يف<br />
تاأصيل فن اأدبي، القاهرة : دار املعرفة، 1979، ص 49.<br />
5- هذا اجتاه ميثله كثري من دارسي التاريخ وفاسفته على وجه اخلصوص، ولعل اأهمهم هنا كولنجوود، وجوتشلك.<br />
ركز كولنجوود يف كتابه “فكرة التاريخ” على ما سماه “اخليال التاريخي”، وهو الذي يقوم بعمليات ذاتية مهمة،<br />
منها الختيار من بني الوقائع والوثائق املتاحة، وصياغة الفكرة، ثم النقد، وكلها عامات على الستقالية التي<br />
ل غنى عنها للموؤرخ. كما اأن كولنجوود يتحدث عن الثغرات التي يسدها خيال املوؤرخ عرب النقد والإنشاء. يقول:<br />
»اخليال – »هذه امللكة العمياء التي ل غنى عنها« ، والتي ل نستطيع على حد تعبري »كانت« اأن ندرك العامل<br />
املحيط بنا بدونه - ضروري كذلك للتاريخ. وهذا اخليال الذي ينشط يف صورة استدلل عقلي بحت، ل صورة<br />
خرافة تهذي وتتخبط، هو الأصل يف كل اإنتاج للصياغة التاريخية.. يجب اأن تنطوي الرواية، كما ينطوي التاريخ،<br />
على مغزى، بحيث ل ينبغي اأن يقحم يف اأحدهما تفصيل ل يفرضه منطق الأحداث. والذي يقرر هذه الضرورة<br />
املنطقية يف احلالتني هو اخليال. ستجد اأن الرواية والتاريخ على حد سواء، يحمان يف طياتهما من العناصر ما<br />
يكفل تفسريهما وتربيرهما، بحيث يبدو كل منهما نتاج نشاط مستقل، اأو نشاط يفرض نفسه، كما اأن النشاط
101<br />
2 0 1 1<br />
يف احلالتني هو نشاط اخليال الإبداعي العقلي.. ول يوجد ثمة فارق بني اإنتاج املوؤرخ، وبني اإنتاج الروائي؛ بوصف<br />
الثنني من نسج اخليال. والنقطة التي يختلفان فيها، هي اأن الصورة التي يرسمها املوؤرخ قصد بها اأن تكون صورة<br />
صادقة: اإن الروائي ليلتزم بشيء واحد فقط – ذلك هو رسم صورة متشابكة متماسكة، صورة ذات مغزى. اأما<br />
املوؤرخ فيلتزم بواجبني معًا – اأن صورته يجب اأن تستويف هذا الوصف السابق، بالإضافة اإىل رسم صورة ترسم<br />
الأشياء بالوضع الذي كانت عليه، وتصف الأحداث على نحو ما حدثت فعاً« راجع:<br />
- ر. ب. كولنجوود: فكرة التاريخ، ترجمة: حممد بكري خليل، مراجعة حممد عبد الواحد خاف، القاهرة : جلنة<br />
التاأليف والرتجمة والنشر،ط 1961، 1، ص 435-409.<br />
. اأما جوتشلك فريكز على التمييز بني ما يسميه املنهج التاريخي، اأي »عملية الفحص والتحليل الدقيق لسجات<br />
املاضي وخملفاته«، وتدوين التاريخ اأو كتابة التاريخ، اأي « اإعادة البناء التصوري للماضي من واقع احلقائق<br />
املستخلصة بتلك الطريقة«. اإن تدوين التاريخ كما يقول جوتشلك « اأقرب اإىل الفن اأو الفلسفة اأو اجلدل اأو الدعاية<br />
اأو الدفاع اخلاص .. ومبا اأن هناك طرقًا خمتلفة لعرض احلقائق التاريخية فاإن احلقيقة ل تظل هي الأساس<br />
الوحيد للحكم على قيمة الكتابات التاريخية، اإذ املعيار الثاين من املعايري التي يزن بها املرء تلك الكتابات هو ما<br />
تنطوي عليه مبادئ الكاتب الفلسفي من بصرية، فاملوؤرخ ل يستطيع ان يتجنب فلسفة ما اأو دستورًا اأخاقيًا .. اإن<br />
املوؤرخ الذي ليست لديه مبادئ فلسفية اأو اأخاقية ليست لديه اأسس يقيس بها التغري اأو الستمرار..«. راجع<br />
لويس جوتشلك: كيف نفهم التاريخ، ترجمة: عائدة سليمان عارف واأحمد مصطفى اأبو حاكمة، القاهرة : دار<br />
الكاتب العربي وموؤسسة فرانكلني للطباعة والنشر،ط1، 1966، ص23-20.<br />
6- هناك رافدان اأساسيان يصبان يف نظرية السرد هذه، ويدليان بدلوهما يف مصاألة العاقة بني السرد والتاريخ،<br />
الرافد الأول متثله جماعة من منظري الأدب والفاسفة ذوي التوجه السيميولوجي، اأولئك الذين درسوا السرد يف<br />
كل جتلياته، وراأوا فيه جمرد شفرة للخطاب بني شفرات اأخرى )مثل بارت، وفوكو، وتودوروف، واإيكو(. والرافد<br />
الثاين متثله جماعة من الفاسفة والدارسني ذوي التوجه الهرمنيوطيقي، واأولئك راأوا يف السرد خطابًا يتجلى فيه<br />
نوع حمدد من الوعي بالزمن واأبنيته )مثل جادامر وريكور( راجع هنا اأيضً ا ما ذكره وايت يف املرجع املشار اإليه<br />
سابقً ا، خصوصً ا ص 31-30.<br />
7- راجع مقدمة وايت للمرجع نفسه، خصوصً ا ص .x-ix ويف هذا السياق نفسه يقول بول ريكور: “.. اخلطاأ<br />
الأساسي لأولئك الذين يعارضون بني التاريخ واملحكي، يتمثل يف جهلهم للطابع الواضح الذي تضفيه احلبكة<br />
على املحكي.. ويف الوقت نفسه يتم جتاهل املسافة التي يضعها املحكي بينه وبني التجربة احلية؛ ذلك اأنه بني اأن<br />
نعيش واأن نحكي ينحرف تباعد ما، مهما كان ضئياً، فاحلياة هي معيش، فيما التاريخ حمكي..ل ينبغي القول<br />
باأن التخييل ل مرجعية له، ومن جهة ثانية ل يجب القول باأن التاريخ يرجع اإىل املاضي بنفس الطريقة التي ترجع<br />
بها التوصيفات التجريبية للواقع احلاضر.. اإن احلبكات التي نبتدعها تساعدنا على اأن نشخص جتربتنا الزمنية<br />
املضطربة، الفاقدة للشكل والبكماء يف حدها الأقصى..” راجع:<br />
- بول ريكور : من النص اإىل الفعل ، اأبحاث التاأويل، ترجمة: حممد برادة وحسان بورقية، القاهرة : دار عني<br />
للدراسات والبحوث الإنسانية والجتماعية، ط1، 2001، ص 13-12.<br />
8- ليندا هتشيون: رواية الرواية التاريخية، ترجمة شكري جماهد، جملة فصول، املجلد 12، العدد 2، القاهرة :<br />
صيف 1993، ص 97-96.<br />
9- انظر: املرجع نفسه ، ص 111. وانظر املرجعني التاليني للموؤلفة نفسها:<br />
- احلكي: القصص والتاريخ، ضمن كتاب احلداثة وما بعد احلداثة، اإعداد وتقدمي بيرت بروكر ، ترجمة عبد<br />
اأبحاث
2 0 1 1<br />
102<br />
الوهاب علوب، مراجعة جابر عصفور، اأبو ظبي، الإمارات العربية املتحدة : منشورات املجمع الثقايف ، 1995، ص<br />
.378-377<br />
- Linda Hutcheon, The Poetics of Postmodernism,57.<br />
- 10 تلك فكرة يرتدد صداها يف معظم ما كتب عن الرواية التاريخية املعاصرة التي ازدهرت ازدهارًا لفتًا، حيث<br />
وجد فيها الكتاب احلداثيون وما بعد احلداثيني اأداة لضرب كل القناعات الراسخة حول التمييز بني احلقيقة<br />
واخليال والعلم والفن والشعر والنرث .. اإلخ. وكما يقول اأحد النقاد: “ حتى النسخة ما بعد احلداثية من الرواية<br />
التاريخية، التي وصفت من قبل بعض النقاد باأنها تاريخ شارح؛ تضع التاريخ يف بوؤرة اهتمامها. اإن كتاب ما بعد<br />
احلداثة ونقادها، بتشكيكهم يف السرديات الكربى، ويف موضوعية التاريخ، ويف اتساق الهويات، اإمنا يعيدون كتابة<br />
املاضي من منظور اأولئك الذين كانوا ضحايا )النساء، الشعوب البدائية، مثليي اجلنس(. وقد اأثر املوقف ما بعد<br />
احلداثي تاأثريًا كبريًا يف كل من يكتبون الرواية التاريخية اليوم، لقد ساقتهم سوقًا اإىل اأن يصبحوا الأوائل يف<br />
جمالت لطاملا جتاهلها املوؤرخون« . راجع:<br />
زيارة املوقع)<br />
- Guy Vanderhaeghe (2006). “Writing History Vs.Writing the Historical Novel”, 136.<br />
(http://www.drumlummon.org/images/PDF-Spr-Sum06/DV_1-2_Vanderhaeghe.pdf).<br />
(بتاريخ 28 أبريل 2009<br />
اأما عبد الرحمن منيف، صاحب مدن امللح واأرض السواد، فيقول يف السياق نفسه: الروائي ل مييل اإىل التاريخ الرسمي،<br />
لأن هذا التاريخ كتبه احلكام والأقوياء، يف الوقت الذي غيب وجهات النظر الأخرى اأو شوهها، وعليه فهو تاريخ<br />
طرف واحد. الروائي يتوجه يف معظم احلالت اإىل التاريخ املغيب، الآخر، ليس من اأجل اإعادة كتابة التاريخ، واإمنا<br />
من اأجل عرض الوقائع، والتنصت اإىل اأصوات الذين مل تتح لهم الفرصة لكي يسمعوا اأصواتهم، ولإبداء وجهات<br />
نظرهم مباشرة .. واإذا افرتضنا صحة املقولة التي تصف الرواية باأنها “فن النميمة”، فيجب األ نستغرب<br />
توجهها نحو املسكوت عنه، اأو نحو ذاك الذي ل يقال علنًا، واأيضً ا توجهها نحو الناس “الصغار”، لأن للكبار من<br />
ينطق باسمهم ويربر سلوكهم ويربز عبقرية تصرفاتهم. بصيغة اأخرى: اإن الرواية متيل اإىل التسلل عرب النوافذ،<br />
نظرً ا لأن البوابات ل تسمح اإل بدخول التاريخ الرسمي، وتعترب ذلك التاريخ وحده الذي يحمل سمة الدخول،<br />
واملسموح له باجتياز احلدود.<br />
التاريخ الرسمي معني بتسجيل وقائع احلكام والأقوياء، ومفتون بتغييب من عداهم، من اخلصوم وناس القاع.<br />
والرواية ل حتاول جتاهل الأقوياء واحلكام، وحتاول يف نفس الوقت اأن ترد العتبار للذين مل يكن لهم صوت مسموع،<br />
وهذا ما يجعل الرواية تهتم بالبسطاء، واأن تعيد رسم املشهد بتفاصيله احلقيقية.. عبد الرحمن منيف: التاريخ<br />
ذاكرة اإضافية للإنسان)حاوره فيصل دراج(، حوار الكرمل، جملة الكرمل )العدد 36، ربيع 2000( ص 29-19.<br />
)وقد نشر احلوار بعد ذلك يف كتاب عبد الرحمن منيف : رحلة ضوء، بريوت: املوؤسسة العربية للدراسات والنشر<br />
، 2001. وراجع هنا اأيضً ا جمموعة املقالت املمتازة التي نشرها فيصل دراج يف جملة الكرمل يف السنوات العشر<br />
الأخرية من عمرها، خصوصً ا مقالته الكتابة الروائية وتاريخ املقموعني، جملة الكرمل )العددان 77-76 ، صيف-<br />
خريف 2003(. وحول غياب »العامة« يف الكتابات التاريخية الرسمية راجع: حسن كشاحي : اإشكالية »العامة« يف<br />
الكتابات التاريخية: املغرب والأندلس خال العصر الوسيط منوذجا، جملة فكر ونقد، العدد 74، ص 50-41،<br />
)mth.ihahcak40_74n/ten.debairbajla.dkanawrkfi.www//:ptth( )زيارة املوقع 25 ديسمرب 2008(<br />
- 11 راجع:<br />
Richard Lee, “History is but a fable agreed upon: the problem of truth in history and fiction”. (http://<br />
www.historicalnovelsociety.org/historyis.htm)
103<br />
2 0 1 1<br />
(زيارة املوقع 23 مارس 9002(<br />
12- اأيان واط: نشوء الرواية، ترجمة: ثائر ديب، القاهرة: دار شرقيات للنشر والتوزيع، 1997، ص 16.<br />
13- راجع<br />
- Guy Vanderhaeghe (2006). “Writing History Vs.Writing the Historical Novel”,136<br />
)زيارة املوقع (http://www.drumlummon.org/images/PDF-Spr-Sum06/DV_1-2_Vanderhaeghe.pdf).<br />
بتاريخ 28 أبريل 2009(<br />
ومن الافت يف هذا السياق اأن جند كتابًا بعنوان “تراث العبيد يف حكم مصر املعاصرة: دراسة يف علم الجتماع<br />
التاريخي” وهو ملوؤلف يسمي نفسه الدكتور ع. ع، )منشور يف القاهرة : املكتب املصري للمعارف، 1995( يتحدث<br />
فيه عن امتدادات العصر اململوكي بسياساته واأخاقياته ومفرداته يف حياتنا السياسية املعاصرة، وخصوصً ا بعد<br />
ثورة يوليو 1952.<br />
14- حممد سعيد العريان: على باب زويلة ، القاهرة : دار الكاتب املصري، ط1، مارس 1947.<br />
15- سعد مكاوي: السائرون نيامً ا، القاهرة : الدار القومية للطباعة والنشر، ط1، 1965.<br />
16- جمال الغيطاين: الزيني بركات، القاهرة : دار الشروق، ط2، 1989. ( بالنسبة للروايات الثاث، سنعتمد هذه<br />
الطبعات، وسنقتصر بعد ذلك على الإشارة اإىل الصفحات يف املنت(<br />
17- لقد شغل التاريخ والعودة اإىل املاضي حيزً ا كبريًا من جتربة كتابنا الثاثة؛ فاستغرقت جتربة العريان كلها تقريبًا،<br />
حيث كتب اإىل جانب على باب زويلة روايات تاريخية اأخرى مثل “قطر الندى” و“شجرة الدر” و“بنت قسطنطني”<br />
وغريها من قصص الأطفال والقصص املدرسي، اأما سعد مكاوي فقد كتب اإىل جانب “السائرون نيامً ا”، روايتني<br />
تاريخيتني اأخريني على الأقل، هما “الكرباج” و“ل تسقني وحدي”، والأمر نفسه ينطبق على الغيطاين الذي كتب<br />
مستلهمً ا التاريخ واملاضي قبل الزيني بركات يف القصص التي ضمتها جمموعته الأوىل “اأوراق شاب عاش منذ<br />
األف عام” وبعدها يف رواية مثل “كتاب التجليات”. ويبدو اأن من يجربون كتابة الرواية التاريخية مرة يعودون<br />
اإليها بعد ذلك مرارًا، وقد صارت الرواية التاريخية املشروع الأساس لعدد كبري من الكتاب يف ثقافات خمتلفة؛<br />
فرائد الرواية التاريخية السري والرت سكوت استغرقته متامً ا جتربة الرواية التاريخية، والأمر نفسه ميكن اأن<br />
ناحظه مع رائد اآخر لهذا النوع كجورجي زيدان، وهو ما ينطبق اأيضً ا على كاتب مثل اأمني معلوف.<br />
18-يف الأربعينيات ظهرت جمموعة من الكتاب اأرادت استخدام الرواية التاريخية يف الدعوة اإىل ما توؤمن به؛ فكتب<br />
بعضهم مستلهمني التاريخ الفرعوين، مثل عادل كامل الذي كتب “ملك من شعاع” عن اإخناتون، وجنيب حمفوظ<br />
الذي كتب رواياته التاريخية الثاث التي بداأ بها مسريته الروائية: “عبث الأقدار” و“رادوبيس” و“كفاح طيبة”،<br />
بينما انصرفت جمموعة اأخرى اإىل استلهام التاريخ العربي والإصامي، مثل حممد فريد اأبي حديد وعبد احلميد<br />
جودة السحار وعلي اأحمد باكثري وحممد سعيد العريان. ورمبا كانوا جميعًا يطمحون اإىل تقليد مشروع الرائد جورجي<br />
زيدان يف كتابة التاريخ بالروايات. وهكذا اأخذ كل واحد من هوؤلء يبني مشروعه يف كتابة جمموعة من الروايات<br />
التاريخية، ومنهم من مل يكتب سوى الرواية التاريخية كالعريان. ويصرح جنيب حمفوظ باأنه بداأ كتابة الرواية<br />
مبشروع كمشروع زيدان ولكن لكتابة تاريخ مصر، لكنه عدل عن املشروع بعد الروايات الثاث الأوىل. راجع:<br />
- حلمي حممد القاعود: الرواية التاريخية يف اأدبنا احلديث، القاهرة : الهيئة العامة لقصور الثقافة، سلسلة<br />
كتابات نقدية ، اأكتوبر 2003.<br />
- قاسم عبده قاسم واأحمد اإبراهيم الهواري: الرواية التاريخية يف الأدب العربي احلديث: نصوص تاريخية<br />
ومناذج تطبيقية من الرواية املصرية، القاهرة : دار املعارف، 1979.<br />
اأبحاث
2 0 1 1<br />
104<br />
- رجاء النقاش: جنيب حمفوظ : صفحات من مذكراته واأضواء جديدة على اأدبه ، القاهرة : مركز الأهرام<br />
للرتجمة والنشر، 1998، ص 54، وص 187.<br />
19- يقول شفيع السيد متحدثًا عن روايات العريان التاريخية: “والنظرة النقدية اإىل هذه الروايات تشري اإىل فقدان<br />
الرتباط بني اأحداث ماضيها البعيد وحاضر املوؤلف، واأن ليس ثمة انعكاس لظال الواقع الجتماعي اأو القومي<br />
الذي كان يعايشه الكاتب على وقائع ذلك التاريخ الذي تعاجله رواياته. وخاصة القول فيها اأنها تقدم بعض<br />
فصول من تاريخنا تقدميًا بارعً ا يخلو من جفاف التاريخ ..”) شفيع السيد: اجتاهات الرواية املصرية منذ<br />
احلرب العاملية الثانية اإىل سنة 1967، القاهرة: دار املعارف 1978، ص 46.(واإذا كان هذا هو حال الرواية<br />
وصاحبها باملقارنة مع ما جاء بعدها من روايات تاريخية، فاإن رواية “على باب زويلة” مثلت باملقارنة مع ما<br />
سبقها من روايات تاريخية تعليمية، خطوة مهمة نحو الرتباط باحلاضر ونحو اإدراك اجلانب الذي مل يتحدث عنه<br />
التاريخ الرسمي، اأي احلياة اليومية للناس وما يكتنفها من هموم، وهذا ما يعكسه الفهم النظري الذي يعرب عنه<br />
العريان يف مقالته. يقول يف اإحدى هذه املقالت: “التاريخ عندي .. هو الناس، هو السوقي كيف يبيع ويشرتي،<br />
والنادل يف القهوة كيف يسمع ويجيب، وبياع اليانصيب يف حماط الرتام وعلى اأبواب املساجد، وهو شرطي املرور،<br />
وبواب العمارة، وخادم الدار، وهو زوجي وولدي، وزمائي يف الديوان، وسماري يف القهوة، ثم هو طعامي وشرابي<br />
.. اأشياء واأشياء هي منا واإن بعدت عنا.. وهي العصر والتاريخ والبيئة.. وتبني وتهدم يف حياتنا اأكرث مما تبني<br />
وتهدم اأحداث السياسة ووقائع التاريخ العام« )حممد سعيد العريان: العصر والبيئة يف الأدب والتاريخ، جملة<br />
الثقافة 23 ديسمرب 1941) ضمن كتاب قاسم عبده قاسم واأحمد اإبراهيم الهواري: الرواية التاريخية يف الأدب<br />
العربي احلديث، القاهرة : دار املعارف، 1978(، ص 175.<br />
20 -نشرت “السائرون نيامً ا” لأول مرة مسلسلة يف جريدة “اجلمهورية” )من 1963/1/10 اإىل 1963/7/19(، ثم<br />
نشرت يف كتاب صدر يف القاهرة: الدار القومية للطبع والنشر، 1965. ورواية على هذا القدر من التساع والتنوع لبد<br />
اأنها احتاجت زمنًا طوياً لإعداد مادتها التاريخية، ومن ثم فاإن املتوقع اأن تكون مكتوبة قبل عام 1963 باأعوام.<br />
21- من حديثه املنشور يف كتاب عبد الرحمن اأبو عوف: حوار مع هوؤالء، القاهرة : الهيئة العامة لقصور الثقافة،<br />
،1990 ص .75<br />
22- يف اأحاديثه املختلفة يشري الغيطاين اإىل اأن كتابة رواية الزيني بركات كانت استجابته اخلاصة ملا وقع يف عام<br />
1967، وما سبقها من قمع وسجن. وقد صدرت الطبعة الأوىل من الرواية يف دمشق: وزارة الثقافة السورية،<br />
1974، ثم جاءت الطبعة الثانية يف القاهرة: مكتبة مدبويل، 1975، وتوالت بعد ذلك طبعات الرواية يف القاهرة<br />
ويف غريها من العواصم العربية.<br />
23- جمال الغيطاين: جتربتي يف كتابة القصة، جملة الهال، القاهرة : عدد مارس 1977، ص 60<br />
24- يقف الرافعي بكتاباته املختلفة على راأس هذه الفئة الرومانتيكية التي اعتدت برتاثها اللغوي والديني اأميا اعتداد،<br />
وعملت من داخل هذا الرتاث على التعبري عن عواطفها املشبوبة.<br />
25- حول جتربة سعد مكاوي وجيله راجع الفصل الذي كتبه سيد حامد النساج: اجتاهات القصة املصرية القصرية،<br />
القاهرة :دار املعارف، 1978. الفصل بعنوان “الواقعية النحيازية”، وحلل فيه مواقف الكاتب وقصصه من<br />
منظور الواقعية الشرتاكية، وراجع كذلك خريي دومة :القصة القصرية عند سعد مكاوي”، القاهرة: رسالة<br />
ماجستري خمطوطة، كلية الآداب جامعة القاهرة 1989.<br />
26- حول جتربة جيل الستينيات الذي ينتمي اإليه جمال الغيطاين، ووعيه واأساليبه اجلديدة يف روؤية الواقع، راجع<br />
خصوصً ا القسم الثاين من كتاب حممد بدوي: الرواية احلديثة يف مصر ، القاهرة: الهيئة املصرية العامة
105<br />
2 0 1 1<br />
للكتاب، 1993.<br />
27- ليس الروائيون وحدهم هم من يرون مسرية التاريخ وفقً ا لصيغة فنية معينة، واإمنا املوؤرخون اأيضً ا يقومون<br />
بذلك. هذا ما تكشف عنه دراسة هايدن وايت ملا قام به موؤرخو اأوروبا الكبار الذين اأسسوا علم التاريخ يف القرن<br />
التاسع عشر؛ اإذ يراه ميشيليه يف صيغة الرومانس، ويراه رانكه يف صيغة الكوميديا، بينما يراه توكيفيلي يف صيغة<br />
الرتاجيديا، ويراه بوخاردت يف صيغة الهجاء الساخر. راجع خصوصً ا القسم الثاين من كتاب وايت التايل:<br />
- Hayden White, Metahistory: The Historical Imagination in Nineteenth-Century Europe.<br />
28- يقول يحيى حقي باأسلوبه الساخر املعروف وهو يناقض قصة “بنت قسطنطني” ملحمد سعيد العريان: “والظاهر<br />
اأن الأستاذ العريان يتهيّاأ للقيام بدور يشبه ما قام به من قبل جورجي زيدان يف رواية التاريخ العربي. ونحن نتمنى<br />
له النجاح ونحثه على املواظبة، فهو نعم املدافع عن تراثنا واأجمادنا. واإين اأكرب من الفائدة التي يجنيها طلبة<br />
املدارس من قراءة قصصه، فاإنها جديرة باأن تهذب نفوسهم وتقوّم األسنتهم”. راجع:<br />
يحيى حقي: “بنت قسطنطني ملحمد سعيد العريان”، جريدة املصري 1948/10/22، نقاً عن كتاب »خطوات يف<br />
النقد« ، القاهرة: الهيئة املصرية العامة للكتاب، 1976، ص 74.<br />
29-يلتفت عبد املنعم عامر حمقق كتاب “ابن زنبل الرمال” اإىل العاقة الواضحة بني قصة “على باب زويلة” وكتاب<br />
“ابن زنبل” يقول: »واعتمد عليه رواد القصة التاريخية، فنسجوا من بعض حوادثه قصصً ا له اأثره يف احلياة الأدبية<br />
املعاصرة، كما فعل السيد الأستاذ سعيد العريان يف قصته املشهورة “على باب زويلة” ص 73 من مقدمة املحقق.<br />
راجع ابن زنبل الرمال: اآخرة املماليك، اأو واقعة السلطان الغوري مع سليم العثماين، حتقيق عبد املنعم عامر،<br />
القاهرة: الهيئة املصرية العامة للكتاب، ط 1998. ، 2 هذا وقد اأمعن العريان يف تعميق عاقة كتابه بكتاب “ابن<br />
زنبل” خصوصً ا، حني ساوى بوضوح بني شخصية اأرقم الرمال والد طومان باي الذي خرج طلبًا للثاأر، وبني شخصية<br />
اأحمد الرمال موؤلف كتاب “اآخرة املماليك”، وصاحب النبوءة التي مل يفهمها الغوري على وجهها الصحيح.<br />
30- ميكن للمرء اأن يقارن هنا بني قصة طومان باي كما يرويها العريان يف روايته، والقصة نفسها كما يرويها عماد اأبو<br />
غازي معتمدً ا على جمموعة الوثائق وعلى كتابي ابن اإياس وابن زنبل الرمال، ليكتشف اأن العريان قد صنع بخياله<br />
الروائي اجلزء الأول املجهول من حياة طومان الطفل، واأنه بداأ احلكاية برتتيبها التاريخي، بينما بداأ اأبو غازي<br />
من لقطة النهاية ومشهد الشنق على باب زويلة. راجع عماد اأبو غازي: طومان باي السلطان الشهيد، القاهرة: دار<br />
مرييت للنشر واملعلومات، 1999.<br />
31- يف هذا السياق نفسه يقول يحيى حقي اأيضً ا عن اأسلوب العريان: “واإذا تركنا طلبة املدارس وتكلمنا عن العريان<br />
كقصصي نقول اإنه حمروم من هذا القلق الغامض الذي ينبغي اأن جتيش به نفس الكاتب الفنان ... ولعل اأشق ما<br />
يعانيه الكاتب الفنان هو حريته يف الهتداء اإىل الطريق الوسط بني قلق الفكرة وهدوء الأسلوب. فللعريان اأسلوب<br />
كاملرمر ناصع ثقيل مصقول تنزلق عليه األفاظ، بعضها فرادى، وبعضها جملة يف خيط واحد، وكلها رغم حشمتها<br />
واأدبها وكمالها مضاعة يف ذل الأسر والسخرة..« راجع يحيى حقي، املرجع السابق، الصفحة نفسها. حتى طه<br />
حسني نفسه، وبعد اأن يبدي اإعجابه بالكاتب الذي »اآثر مذهب القاص على مذهب املوؤرخ« والذي يتوجه بكتابه اإىل<br />
عامة املثقفني ل اإىل املوؤرخني وحدهم، وحتى بعد اإعجابه بالتاريخ الصحيح والتحليل الدقيق والأسلوب الرصني،<br />
ل يتورع عن السخرية من اأسلوب العريان بسبب « هذه الإنات التي يسرف بها الكاتب على نفسه وعلى الناس، ل<br />
يف هذا الكتاب وحده، بل يف كل ما يكتب، واأكاد اأملي يف كل ما يقول«. راجع : طه حسني: على باب زويلة، قصة<br />
تاريخية للأستاذ حممد سعيد العريان، القاهرة: جملة الكاتب املصري، جملد 5- العدد ، 19 اأبريل 1947، ص<br />
.595-594<br />
اأبحاث
2 0 1 1<br />
106<br />
32- يف هذا املجلس الصويف، يتحدث طومان باي يف جملة حوار طويلة كاأنها خطبة، عن الفئات التي يتاألف منها جمتمع<br />
القاهرة حملا موقف كل فئة ودوافعها، فيقول: “- على رسلكم اأيها الإخوان، اإمنا نحن جميعًا هنا اأبناء مصر،<br />
جراكسة، واأعرابًا، ومصريني؛ كلنا سواسية يف احلق والواجب، واإمنا يغلبنا السلطان اجلائر على اأنفسنا بهذه<br />
العصبية التي تفرقنا وتشق عصا جماعتنا! وماذا يجدينا اأن نفاخر باأنسابنا وهذا السيف مصلت على رءوسنا<br />
جميعًا يف يد صبي عابث قد استبدت به شهواته، فليس يعنيه من اأمر هذا الشعب قليل ول كثري؟ ليس فينا من<br />
يرضى هذه احلال الأليمة: اأما الأعراب فيعربون عن سخطهم بهذه الغارات املتتابعة على اأطراف املدينة، ويف<br />
البوادي، وعلى حدود املدائن يف الشمال واجلنوب، فا ينالون شيئًا من السلطان ولكن ينالون من اإخوانهم، ومن<br />
اأنفسهم؛ واأما املماليك فيتخذون سلطانهم قدوة فا يزالون يعيثون يف الأرض الفساد، ينهبون، ويفتكون، ويهتكون؛<br />
واإمنا يتعجلون اآخرتهم بهذه املظامل؛ واأما املصريون فينظرون اإىل هوؤلء واأولئك ساهرين اأو شامتني، ثم ل يزال<br />
فتيانهم يوؤلفون العصائب للتخويف والإرهاب وانتهاز الفرص، ويتندرون فكهني مبا كان ومبا سيكون؛ والسلطان<br />
يلهو.. واإمنا سبيل اخلاص واحدة: هي اجتماع الكلمة على تقومي املعوج، وليكن السلطان بعد ذلك من يكون،<br />
مصريًّا، اأو عربيًّا، اأو من اأبناء اجلركس!.. فكلنا ملصر” )الرواية ص 73-72(<br />
33- يف نهاية جملس طرب واأنس ضم طومان باي واأمراء املماليك كما ضم طوائف متنوعة من املصريني، شعراء<br />
وعلماء وجتار..اإلخ ، يتدخل الراوي العليم املوؤرخ، معلقً ا على هوؤلء املماليك الذين جاءوا للقبض على علي بن<br />
رحاب املغني الشهري، ويستغل الفرصة ليعطينا درسً ا مطوّل قي التحليل الجتماعي والسياسي، ل عاقة له<br />
باأحداث القصة ل من قريب ول من بعيد: “ مل يكن علي بن رحاب املغني اأمريًا من اأمراء املماليك يُخاف ويُتقى؛<br />
نعم، ول كان من اأولد الناس: تلك الطبقة التي كان اآباوؤها منذ جيل اأو اأجيال مماليك من ذوي السلطان فا<br />
يزالون يعيشون مما خلف اآباوؤهم من املال واملتاع والضياع، مباهني باأنهم “اأولد الناس” الذين يحسب الأمراء<br />
احلاكمون حسابهم ويتقونهم، نعم، ول كان علي بن رحاب من املماليك القراصنة الذين كان لهم يومً ا دولة<br />
وسلطان ثم دالت دولتهم وذهب سلطانهم بنزول اأستاذهم عن العرش ولكن اأنفسهم ل تزال تنازعهم اإىل الإمارة<br />
ول يزالون يدبرون خللع السلطان القائم عن العرش ليتوله اأمري من “طبقتهم” ينتسبون اإليه وياأمترون يف كنفه،<br />
ول كان علي بن رحاب مملوكً ا من املماليك “اجللبان” الذين ينتسبون اإىل السلطان اجلالس على العرش فا<br />
يزالون يتنافسون يف اأسباب الزلفى اإليه بالدس واخليانة لريفعهم من طبقة املماليك اإىل طبقة الأمراء..<br />
مل يكن علي بن رحاب املغني واحدً ا من هذه الطوائف اجلركسية، ول كان شيخً ا من شيوخ العربان الثائرين اأبدً ا<br />
على املماليك ل يدخلون حتت طاعة سلطان منهم اإل مطاولة ورياء حتى جتتمع جموعهم فيعودوا بعد جمام اإىل<br />
الثورة والعصيان.. ول كان تاجرً ا من مياسري التجار املصريني الذين تفرض عليهم النظم القتصادية التي<br />
اأملتها مطامع الصاطني اأن يكونوا اأبدً ا على حذر ورقبة من غدر السلطان واأن يكون السلطان واأمراوؤه على حذر<br />
منهم، ول كان واحدً ا من فتيان الزعر اأو زعمائهم: تلك العصائب الشعبية التي تاألفت يف الظام ملقاومة طغيان<br />
الصاطني وعسف الأمراء.. ول كان من تلك الطبقة املصرية الضئيلة من الفقهاء واأهل الكتابة الذين اأهلتهم<br />
مواهبهم ليتولوا بعض الوظائف السلطانية مبقدار ما تبعد بهم عن اأبناء جلدتهم، فا يزالون مرتددين بني<br />
العوامل املتناقضة تتنازعهم ذات اليمني وذات الشمال، ول يزالون بذلك موضع الريبة عن املصريني وعند<br />
املماليك على السواء.<br />
مل يكن علي بن رحاب، واحدً ا من هذه الطوائف التي تنتظم املصريني واجلركس جميعًا... فلماذا يخافه الدوادار<br />
الكبري ويرسل عسكره للقبض عليه؟...ملاذا؟..<br />
لأن علي بن رحاب واإن مل يكن من اأولئك اجلركس، ول من هوؤلء املصريني الثائرين كان يشعر اأنه مصري، واأن
107<br />
2 0 1 1<br />
مصريته تفرض عليه اأن يتتبع الأحداث اجلارية يف وطنه بني الشعب واأمرائه، واأن يكون له راأي فيما يجري من<br />
تلك الأحداث، واأن يتحدث براأيه اإىل من يغشى جملسه من اأصحابه اأو من غري اأصحابه، وكان له لسان وبيان، وله<br />
اإىل ذلك منزلة يف نفوس الناس، واإنه لشاعر ،اإن كانت شهوته باملوسيقى والغناء؛ وكان جملسه يضم من السراة<br />
والعلية طائفة من املصريني لو اجتمعت على راأي لتزلزلت قوائم عرش السلطان .. من اأجل ذلك” اإلخ)ص<br />
107-105(. وهكذا ينتهز الراوي املوؤرخ فرصة هامشية يف روايته ليلقي علينا درسً ا طوياً يف التحليل الجتماعي<br />
والسياسي، وسرعان ما يختفي علي بن رحاب وينساه املوؤرخ الراوي فيما ينسى.<br />
34- يقارن حممود حامد شوكت بني “على باب زويلة” وسابقاتها من روايات العريان التاريخية ، ويرى فيها تقدمً ا<br />
ملحوظً ا واتساعً ا يف الصورة وابتكارًا يف الشخوص. يقول: على اأن موضوع “على باب زويلة” بداية ملرحلة ثانية<br />
يف حياة الكاتب الفنية؛ فاللوحة تتسع طولً وعرضً ا، ويبتكر الكاتب يف الشخصيات واحلوادث، مستفيدً ا من<br />
جتاربه يف املرحلة الأوىل، فالقصة عرض حلياة مملوك منذ ولدته حتى مقتله، ويستهوي الكاتب جانب اإنساين<br />
جديد طغت عليه اجلوانب السياسية العامة يف القصص السابقة ....يوازي هذا العرض التاريخي عرض قصة<br />
موضوعة، قوامها سعي اأم سرق ولدها فتتبع اآثاره واأخباره عامً ا بعد عام يف دولة بعد دولة حتى تصل اإىل مصر،<br />
وتلتقي بزوجها اأرقم، ول تتمكن من روؤية ابنها اإل وهو قتيل مصلوب..«. راجع حممود حامد شوكت: القصة<br />
العربية احلديثة يف مصر، بحث تاريخي وحتليلي مقارن، القاهرة : دار اجليل للطباعة، 1974، ص 147-145.<br />
35- نشر سعد مكاوي قبل “السائرون نيامً ا” عشر جمموعات قصصية، لكن منجزه السردي يتضح على وجه<br />
اخلصوص يف جمموعات مثل:<br />
- يف قهوة املجاذيب، القاهرة : دار روز اليوسف، سلسلة الكتاب الذهبي)العدد 35(، ، اأبريل 1955.<br />
- املاء العكر، القاهرة : دار الفكر، ، 1956.<br />
- جممع الشياطني، القاهرة : دار روز اليوسف، سلسلة الكتاب الذهبي ،العدد 69، ديسمرب 1959.<br />
- الزمن الوغد، القاهرة : الدار القومية للطباعة والنشر، سلسلة الكتاب املاسي ،العدد 1، ، فرباير1962.<br />
وملزيد من التعرف اإىل مكانته يف تاريخ القصة املصرية القصرية ميكن الرجوع اإىل:<br />
خريي دومة: القصة القشرة عند سعد مكاوي، القاهرة: رسالة ماجستري خمطوطة، كلية الآداب – جامعة<br />
القاهرة، 1989.<br />
36- نشرت “شهرية” للمرة الأوىل مسلسلة يف جريدة “املصري” )من 1948/12/7 اإىل 1949/1/15(، ظهرت بعد<br />
ذلك يف جمموعة بالعنوان نفسه ،القاهرة: ضمن سلسلة الكتاب الفضي ،العدد 19، ديسمرب 1956.<br />
37- نشرت “الرجل والطريق” لأول مرة مسلسلة يف جريدة “اجلمهورية” )من 1961 8/12 اإىل 1961(، 11/11 ثم<br />
نشرت يف كتاب صدر يف القاهرة: عامل الكتب )د.ت(.<br />
38- راجع قصة مثل “عزبة الشيخ الشاذيل« يف نهاية جمموعة »الزمن الوغد«.<br />
39- تاأمل قصته “يف خر وسالم« ضمن جمموعة »جممع الشياطني«، وهي مونولوج واحد ممتد، ثم انظر قصته<br />
»الزمن الوغد«، وهي مونودراما من الطراز الرفيع ترسم باملونولوج ومبناجاة النفس املستوحدة، صورة حلياة<br />
الشاعر عبد احلميد الديب.<br />
40- راجعت الببليوجرافيات وصاألت الأصدقاء بحثًا عن استثناء اآخر يشبه “السائرون نيامً ا” يف هذه املصاألة، فلم<br />
اأجد سوى “عبث االأقدار” لنجيب حمفوظ، على ما يف هذا العنوان من بعد غامض يتصل بالتاريخ ومسريته.<br />
- 41 راجع يف هوامش الصفحات الأوىل من الرواية شرحه ملصطلحات مثل “الباذدارية” و“جفتاوات” و“الركبدارية” اإلخ.<br />
42- قدم اإبراهيم فتحي قراءة كهذه لرواية السائرون نيامً ا، نشرها يف جريدة الأهايل يف 1986/6/19 بعنوان<br />
اأبحاث
2 0 1 1<br />
108<br />
“السائرون نيامً ا: طواويس على القمة وتيارات االأعماق الشعبية تتواىل«. وقد اأعاد نشرها ضمن كتابه<br />
»اخلطاب الروائي واخلطاب النقدي يف مصر، القاهرة : الهيئة املصرية العامة للكتاب، 2004.<br />
43- يف اأوائل الستينيات، كان سعد مكاوي قد ترجم عن الفرنسية كتابًا ملارسيل مارتن عنوانه “اللغة السينمائية«،<br />
وقد صدر الكتاب يف القاهرة: املوؤسسة املصرية العامة للتاأليف والأنباء والنشر، 1964. وقد اأخذت عنه مصطلح<br />
التوليف بنوعيه الروائي والتعبريي.)ص 35(<br />
44- ليس هنا جمال احلصر الببليوجرايف للدراسات التي تناولت الرواية، وليس املقصود الهتمام النقدي الأكادميي<br />
وحده، الذي تشري اإليه اأعداد الرسائل العلمية التي اتخذت من الرواية موضوعً ا لها، وهي رسائل كثرية يف جامعات<br />
وتخصصات خمتلفة، واإمنا املقصود القراءات النقدية التي قدمها نقاد كبار للرواية ومنجزها، ويكفي اأن نشري<br />
هنا اإىل قراءات نقاد من قبيل سيزا قاسم ورضوى عاشور وسامية اأسعد وسامية حمرز وفيصل دراج واإبراهيم<br />
فتحي.. وغريهم.<br />
45- )ابن اإياس( حممد بن اأحمد بن اإياس احلنفي املصري: بدائع الزهور يف وقائع الدهور، القاهرة: دار الشعب<br />
)سلسلة كتاب الشعب( 3 جملدات، 1960. واأظن اأن تلك النسخة التي كانت تباع بثمن زهيد هي التي اعتمدها<br />
الغيطاين ومن قبله سعد مكاوي.<br />
46- ل نستطيع اأن نحسم ما تعنيه كلمة سرادقات بالضبط، وهي الكلمة التي يستخدمها الغيطاين يف تقسيم روايته،<br />
غري اأن لكلمة سرادق فيما اأحسب دللة واضحة على الطريقة التي حتكى بها الرواية؛ فالسرادق وهي كلمة فارسية<br />
معربة حسب اجلواليقي تعني فيما تعني “خيمة السلطان الكبرية” )معجم دوزي، بغداد : دار الرشيد، ج6، ص<br />
62(، وحسب املعجم الوسيط “الفسطاط يجتمع فيه الناس لعرس اأو ملاأمت وغريهما” )املعجم الوسيط، القاهرة:<br />
جممع اللغة العربية، ط3، ص 426(. ومهما يكن معنى الكلمة ، فاإنها بالضبط تعكس لونًا من الصمت املضطرب<br />
املكبوت احلزين، اإذ ل اأحد يحكي على نحو مباشر اأبدً ا يف الرواية، ونحن اإمنا نعرف الأخبار والأحداث وكل شيء<br />
عرب اأحاديث واإشاعات ترتدد يف السرادقات املختلفة وعلى األسنة اأناس متعددين، اأو عرب املكاتبات التي تلقى يف<br />
طريقنا من قبل جمهول.<br />
47- انظر جاستون باصار: جدلية الزمن، ترجمة : خليل اأحمد خليل، بريوت : املوؤسسة اجلامعية للدراسات والنشر<br />
والتوزيع، 1992، ص 66-64.<br />
48- رضوى عاشور: الزيني بركات جلمال الغيطاين، بريوت : جملة الطريق، عدد 1981، 423، ص 134.<br />
49- املرجع نفسه، ص 135-134.<br />
50- يستطيع اأي قارئ اأن ياحظ املساحة التي حتتلها كلمتا “قيل” و “اأشيع” يف كتاب ابن اإياس، خصوصً ا يف بداية<br />
الفقرات، يف السنوات التي تدور فيها رواية الغيطاين؛ بحيث يبدو العامل كله مضطربًا وكاأنه جمرد اإشاعات.<br />
51- يرتدد اسم الزيني بركات مرات كثرية جدًّ ا يف كتاب “بدائع الزهور”، منذ اأن كان القاضي يركات بن موسى، اإىل<br />
اأن استقر اسمه “الزيني بركات بن موسى”؛ فهو حاضر دومً ا يف كل احتفالت السلطان وجولته، وهو حاضر يف<br />
عمليات التفتيش والتعذيب، وهو حاضر يف املنازعات التي ل تنتهي لإقامة العدل واإقرار النظام. وكام ابن اإياس<br />
املباشر يقول باأنه عادل وحمبوب من الناس قاطبة، لكن نغمته مبطنة بالسخرية والعجب. ولن اأذكر هنا سوى<br />
ثاثة مواقف عن الزيني، اآخرها كان بعد اأن عينه خاير بك من جديد حمتسبًا للباد يف العهد اجلديد، وفيه يورد<br />
بن اإياس بيتني قالهما هو نفسه يف مدح الزيني، لكنهما ينطويان على سخرية صامتة ومكتومة.<br />
1- “.. فتزايدت عظمة الزيني بركات، وصار حمتسبًا واأستادار الذخرية الشريفة، وغري ذلك من الوظائف<br />
السنية، وكان الزيني بركات له سعد خارق، وهو مسعود احلركات يف اأفعاله حمببًا للناس ..” بدائع الزهور يف
109<br />
2 0 1 1<br />
وقائع الدهور، القاهرة :دار الشعب، ، 1960 مج: 2، ص: 922.<br />
2- “وحضر الزيني بركات بن موسى املحتسب، فلما ثبت روؤية الهال وانفض املجلس ركب الزيني بركات بن<br />
موسى من هناك، فتاقاه الفوانيس الأكرة واملناجنيق واملشاعل والشموع املوقودة، فلم يُحص ذلك لكرثته، ووقدوا<br />
له الشموع على الدكاكني، وعلقوا له التنانري والأحمال املوقودة بالقناديل، من الأمشاطيني اإىل سوق مرج وش اإىل<br />
اخلشابني اإىل سويقة اللنب اإىل عند بيته، فارجتت له القاهرة يف تلك الليلة، وكانت من الليايل املشهودة، واطلقوا<br />
له جمامر بالبخور بطول الطريق، وكان ذلك يعادل املواكب السلطانية، وكان الزيني بركات بن موسى حمبّبًا<br />
للناس قاطبة، فارتفعت له الأصوات بالدعاء، وكان له سعد خارق مل يقع لغريه من الناس اإل القليل، ول سيَّما<br />
اجتمع فيه من الوظائف السنية ما ل اجتمع يف اأحد من الأعيان قبله، منها احلسبة الشريفة واأستدارية الذخرية<br />
وغري ذلك من الوظائف، والتحدث على اجلهات من الباد السلطانية..” )مج: 3، ص 932(.<br />
3 -“وخلع على الزيني بركات بن موسى، وقرره مدير اململكة، وناظر احلسبة الشريفة، وناظر املارستان<br />
املنصوري، وناظر الذخرية الشريفة، وغري ذلك من الوظائف، وتزايدت عظمته، واجتمعت الكلمة فيه، وصار<br />
عزيز مصر يف هذه الفرتة، فتوجه الناس اإىل بابه لقضاء حوائجهم، وصار هو حاكم البلد، وقد قلت فيه:<br />
يا جنل موسى عدت بالربكات يف اأعلى املراتب حيث كنت واأزيدا<br />
قد كان قطعًا زال عنك ومل تزل يف السعد عمّ الً على رغم العدا )مج: ، 3 ص : 1112(<br />
52- فوجئت يف املقدمة التي كتبها اإدوار سعيد للطبعة الإجنليزية من رواية الزيني بركات، من اأنه يرى توافقات كثرية<br />
بني شخصية الزيني بركات وشخصية جمال عبد الناصر، وهي روؤية لها ما يربرها يف الرواية نفسها، فاسم الزيني<br />
بركات يشبه يف دللته اسم جمال عبد الناصر )الزين والربكات واجلمال والنصر(، وكا الرجلني كان يحاول<br />
اإقامة العدل ويخلق الأعداء، وميكن اأن نضيف اإىل ذلك خطبة الأزهر الشهرية يف احلالتني، غري اأن هذا التوافق<br />
بني الشخصيتني اأمر يتنافى مع الطابع الأساس للرواية الذي ل يحسم شيئًا ويبقي على موقف املفارقة، وهذا ما<br />
لحظه اإبراهيم فتحي يف قراءته للرواية حني وقف بشدة ضد املوقف الشائع يف الكتابات الغربية حول التشابه بني<br />
الشخصيتني. راجع اإبراهيم فتحي: اخلطاب الروائي واخلطاب النقدي يف مصر، مرجع سابق، ص 112.<br />
53- هذا ما يشري اإليه كثري من الدراسات التي تناولت الرواية، خصوصً ا دراسة سيزا قاسم التي اأمعنت يف حتليل<br />
التقنيات اجلديدة وعاقة التناص اجلديدة القائمة بني الرواية ونص ابن اإياس، ودراسة فيصل دراج التي اأشارت<br />
بوضوح اإىل وعي الغيطاين باملادة الأدبية الذي يوازي معرفته باملادة التاريخية اإن مل يفقها يف الأهمية.اأما جابر<br />
عصفور فقد وصف مسعى الغيطاين الأساسي يف هذه الرواية باأنه كان اأقرب ما يكون اإىل )البحث عن هوية<br />
اإبداعية(. راجع:<br />
- فيصل دراج: االإنتاج الروائي والطليعة االأدبية، جملة الكرمل، العدد الأول 1981<br />
- سيزا قاسم: املفارقة يف القص العربي املعاصر، ضمن كتاب روايات عربية:قراءة مقارنة، الدار البيضاء<br />
:منشورات الرابطة، 1997.<br />
- جابر عصفور: البحث عن هوية اإبداعية، جريدة احلياة اللندنية، 2008/05/21.<br />
- 54 يتحدث نقاد الرواية عادة عن نصاأتها نوعً ا اأدبيًّا يف ظل “الواقعية”. راجع هنا على وجه اخلصوص الفصل<br />
الأول املعنون “الواقعية والشكل الروائي”، وذلك يف كتاب اأيان واط: نشوء الرواية، ترجمة: ثائر ديب، القاهرة :<br />
دار شرقيات، 1997.<br />
- 55 راجع جورج لوكاش: الرواية التاريخية، مرجع سابق، ص 356-354.<br />
اأبحاث
2 0 1 1<br />
110<br />
املصادر واملراجع<br />
املصادر:<br />
1ابن اإياس )حممد بن اأحمد بن اإياس احلنفي املصري(: بدائع الزهور يف وقائع الدهور، ط كتاب الشعب<br />
. القاهرة : دار الشعب، 1960.<br />
2ابن زنبل الرمال: اآخرة املماليك، اأو واقعة السلطان الغوري مع سليم العثماين، حتقيق: عبد املنعم عامر<br />
. القاهرة: الهيئة املصرية العامة للكتاب، ط 1998. 2،<br />
3حممد سعيد العريان: على باب زويلة ، القاهرة : دار الكاتب املصري، ط1، مارس 1947<br />
. 4سعد مكاوي: السائرون نيامً ا، القاهرة : الدار املصرية للتاأليف والرتجمة والنشر، ط1، 1965<br />
. 5جمال الغيطاين: الزيني بركات، القاهرة : دار الشروق، ط2، 1989<br />
. 6جتربتي يف كتابة القصة، القاهرة : جملة الهال، السنة اخلامسة والثمانون، عدد مارس 1977<br />
. 7جدلية التناص )حوار مع الغيطاين (، القاهرة: جملة األف )اجلامعة الأمريكية بالقاهرة( العدد الرابع، ربيع<br />
7. ، 1<br />
، 2<br />
. 3<br />
. 4<br />
. 5<br />
. 6<br />
1984<br />
.) 8<br />
.) 9<br />
8املعجم الوسيط، القاهرة: جممع اللغة العربية، ط3، )د.ت<br />
. 9معجم دوزي، ج6، بغداد: دار الرشيد، )د.ت<br />
. املراجع العربية:<br />
. 1اإبراهيم فتحي، اخلطاب الروائي واخلطاب النقدي يف مصر، القاهرة : الهيئة املصرية العامة للكتاب، 2004<br />
. 2جابر عصفور، البحث عن هوية اإبداعية، جريدة احلياة اللندنية، 2008/05/21<br />
. 3حسن كشاحي ، اإشكالية »العامة« يف الكتابات التاريخية: املغرب واالأندلس خالل العصر الوسيط منوذجا<br />
جملة فكر ونقد، العدد ، 47 )نسخة األكرتونية من املجلة( http://www.fikrwanakd.aljabriabed.net/(<br />
. 1<br />
. 2<br />
، 3<br />
)n47_04kachahi.htm )زيارة املوقع 25 ديسمرب 2008(<br />
4حلمي . 4 حممد القاعود، الرواية التاريخية يف اأدبنا احلديث ، القاهرة: الهيئة العامة لقصور الثقافة، سلسلة كتابات<br />
نقدية – اأكتوبر .<br />
5 جامعة<br />
القاهرة، 1989.<br />
. 5خريي دومة، القصة القشرة عند سعد مكاوي، القاهرة: رسالة ماجستري خمطوطة، كلية الآداب –<br />
6رجاء . 6 النقاش، جنيب حمفوظ )صفحات من مذكراته واأضواء جديدة على اأدبه ، القاهرة: مركز الأهرام<br />
للرتجمة والنشر، 1998.<br />
. 7رضوى عاشور، الرواية والتاريخ - الزيني بركات جلمال الغيطاين، بريوت: جملة الطريق، العدد 4-3<br />
، 7 اأغسطس<br />
.1981<br />
. 8<br />
. 9<br />
8سامية اأسعد، عندما يكتب الروائي التاريخ، القاهرة: جملة فصول، املجلد 2، العدد 2، شتاء 1982<br />
. 9سمية رمضان، املصريون بني التاريخ والرواية، القاهرة: جملة فصول، املجلد 15، العدد 4، شتاء 1997<br />
. 1سيزا قاسم، املفارقة يف القص العربي املعاصر ، ضمن كتاب: »روايات عربية:قراءة مقارنة«، الدار البيضاء :<br />
010 منشورات الرابطة، 1997.<br />
1شفيع السيد، اجتاهات الرواية املصرية منذ احلرب العاملية الثانية اإىل سنة 1967، القاهرة: دار املعارف، 1978.<br />
111
111<br />
2 0 1 1<br />
1طه 212 حسني، »على باب زويلة، قصة تاريخية لالأستاذ حممد سعيد العريان«، القاهرة: جملة الكاتب املصري،<br />
اأبحاث<br />
جملد -5 العدد ، 19 اأبريل .1947<br />
. 13<br />
1عبد الرحمن اأبو عوف، حوار مع هوؤالء، القاهرة : الهيئة العامة لقصور الثقافة، 1990<br />
3 1عبد الرحمن منيف ، التاريخ ذاكرة اإضافية لالإنسان )حاوره فيصل دراج(، حوار الكرمل، جملة الكرمل ،العدد<br />
414 ،63 ربيع .2000<br />
. 15<br />
. 16<br />
، 17 بريوت : دار احلقيقة،<br />
1عبد الرحمن منيف ، رحلة ضوء، بريوت :املوؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2001<br />
5 1عبد الفتاح احلجمري، هل لدينا رواية تاريخية؟، القاهرة: جملة فصول، املجلد 16، العدد ، شتاء 1997<br />
6 1عبد اهلل العروي، العرب والفكر التاريخي<br />
7 1عبد اللطيف حمفوظ: الرواية التاريخية ومتثل الواقع ، دمشق: احتاد الكتاب العرب، جملة املوقف الأدبي،<br />
818 السنة37، العدد 438، تشرين الأول 2007. )نسخة األكرتونية( http://www.awu-dam.org/mokifadaby/438/<br />
mokf438-003.htm )زيارة املوقع بتاريخ 2مارس 2009(<br />
1فيصل دراج، االإنتاج الروائي والطليعة االأدبية/ جملة الكرمل، العدد الأول 1981<br />
919 ) 2 0.<br />
2 1.<br />
. ) 2 2.<br />
) 2 3.<br />
) 2 4.<br />
) 2 5.<br />
) 2 6.<br />
، نصوص تاريخية<br />
27 اأرض السواد ذاكرة التاريخ وتاريخ الذاكرة، جملة الكرمل )العدد 64، صيف 2000<br />
الرواية وتاأويل التاريخ، الكرمل )العدد 73-72، صيف وخريف 2002<br />
التاريخ وصعود الرواية، جملة الكرمل، )العدد 71-70، شتاء –ربيع 2002<br />
الرواية العربية املعرفة املعوقة يف التاريخ املقيد، الكرمل )العددان 75-74، شتاء- ربيع 2003<br />
الكتابة الروائية وتاريخ املقموعني، الكرمل)العددان 77-76 ، صيف- خريف 2003<br />
طه حسني واأنسنة التاريخ املقدس، الكرمل )العدد 81، خريف 2004<br />
فالرت بنيامني والهوت التاريخ، الكرمل )العدد 86، شتاء 2006<br />
2قاسم 7 عبده قاسم واأحمد اإبراهيم الهواري، الرواية التاريخية يف االأدب العربي احلديث<br />
ومناذج تطبيقية من الرواية املصرية، القاهرة: دار املعارف، 1979.<br />
2حممد 828 بدوي، قناع التاريخ واملعارضة النصية يف الزيني بركات ، ضمن كتاب :الرواية احلديثة يف مصر، القاهرة:<br />
الهيئة املصرية العامة للكتاب، 1993.<br />
2حممد 929 رياض وتار، توظيف الرتاث يف الرواية العربية املعاصرة ، دمشق : منشورات احتاد الكتاب العرب ،<br />
2002<br />
، 30<br />
ربيع 1998.<br />
. 31<br />
3حممد 0 القاضي، الرواية والتاريخ، طريقتان يف كتابة التاريخ روائيًّا، القاهرة: جملة فصول، املجلد 16 العدد 4<br />
3حممد مندور، االأدب وفنونه، القاهرة: دار نهضة مصر للطباعة والنشر، 1980<br />
1 3حممود اأمني العامل، الرواية بني زمنيتها وزمنها، جملة فصول، املجلد 12- العدد1، ربيع 1993<br />
232 3حممود حامد شوكت، القصة العربية احلديثة يف مصر ، بحث تاريخي وحتليلي مقارن، دار اجليل للطباعة،<br />
333 القاهرة 1974<br />
3وجيه 434 يعقوب، الرواية والرتاث العربي )قراءة يف روايات جمال الغيطاين( ، القاهرة :الهيئة العامة لقصور<br />
الثقافة، 1997.<br />
3يحيى 535 حقي، بنت قسطنطني ملحمد سعيد العريان، جريدة املصري ، 1948/10/22 منشورة ضمن كتاب<br />
»خطوات يف النقد«، الهيئة املصرية العامة للكتاب، 1976.
2 0 1 1<br />
112<br />
3املراجع االأجنبية املرتجمة اإىل العربية<br />
636 3اإيجلتون ، تريي، مفهوم التاريخ يف الفكر ما بعد احلداثي، جملة الكرمل )العدد 68، صيف 2001<br />
7 3باصار ، جاستون، جدلية الزمن، ترجمة: خليل اأحمد خليل، بريوت : املوؤسسة اجلامعية للدراسات والنشر<br />
838 ) 37<br />
والتوزيع، 1992.<br />
3جوتشلك ، لويس، كيف نفهم التاريخ ، ترجمة: غائدة سليمان عارف واأحمد مصطفى اأبو حاكمة، القاهرة : دار<br />
939 الكاتب العربي وموؤسسة فرانكلني للطباعة والنشر، 1966.<br />
4ريكور ، بول ، من النص اإىل الفعل ، اأبحاث التاأويل ، ترجمة: حممد برادة وحسان بورقية، القاهرة : دار عني<br />
040 للدراسات والبحوث الإنسانية والجتماعية، 2001.<br />
4فيدال ، غور، مقدمة رواية »جوليان« ، ترجمة: اأسامة منزجلي ، دمشق : دار املدى، 2008<br />
1 4كولنجوود ، ر. ب، فكرة التاريخ ، ترجمة: حممد بكري خليل، مراجعة: حممد عبد الواحد خاف، القاهرة : جلنة<br />
242 التاأليف والرتجمة والنشر، 1961.<br />
4لوكاتش، جورج، الرواية التاريخية، ترجمة: صالح جواد الكاظم، بريوت : دار الطليعة، 1978<br />
3 4مارتن ، مارسيل، اللغة السينمائية ، ترجمة: سعد مكاوي، القاهرة : املوؤسسة املصرية العامة للتاأليف والأنباء<br />
444 . 41<br />
. 43<br />
والنشر، 1964.<br />
4هاتشيون 545 ، ليندا، احلكي: القصص والتاريخ ، ضمن كتاب احلداثة وما بعد احلداثة، اإعداد وتقدمي: بيرت بروكر،<br />
ترجمة: عبد الوهاب علوب، مراجعة: جابر عصفور، اأبو ظبي، الإمارات العربية املتحدة،: منشورات املجمع<br />
الثقايف، 1995<br />
. 46<br />
4رواية الرواية التاريخية، ترجمة: شكري جماهد، القاهرة: جملة فصول، املجلد 12، العدد 2، صيف 1993<br />
6 4هيجل، حماضرات يف فلسفة التاريخ ، اجلزء الأول: العقل يف التاريخ، ترجمة وتعليق وتقدمي: اإمام عبد الفتاح<br />
747 اإمام، بريوت : دار التنوير )د.ت(<br />
4واط ، اأيان: نشوء الرواية، ترجمة: ثائر ديب، القاهرة: دارشرقيات للنشر والتوزيع، 1997<br />
848
113<br />
2 0 1 1<br />
مراجع باللغة الإجنليزية<br />
ARISTOTLE , THE POETICS OF ARISTOTLE, trans. S. H. Butcher, The Pennsylvania State<br />
University, A Penn State Electronic Classics Series Publication, 2000.<br />
Feuchtwanger, Lion. (1935)”The Purpose of the Historical Novel”, Translated by John Ahouse,<br />
(http://www.historicalnovelsociety.org/lion.htm)<br />
Fast, Howard, “History in Fiction”, (http://www.trussel.com/hf/plots/t469.htm. (<br />
)زيارة املوقع 2 مايو 2009(<br />
Holton, Robert, Jarring Witnesses: Modern Fiction and the Representation of History, New York:<br />
Simon and Schuster, 1998.<br />
Hutcheon, Linda, The Politics of Postmodernism. London & NY: Routledge,1989.<br />
Johnson, Sarah, “What Are the Rules for Historical Fiction?”, 2002, (.http://www.<br />
historicalnovelsociety.org/historyic.htm).<br />
Lee, Richard, “History is but a fable agreed upon: the Problem of Truth in History and Fiction”,<br />
2000. (http://www.historicalnovelsociety.org/historyis.htm).<br />
Vanderhaeghe ,Guy “Writing History Vs.Writing the Historical Novel”, DRUMLUMMON<br />
VIEWS,<br />
2006, (http://www.drumlummon.org/pdf.php?path=images/PDF-Spr-Sum06/DV_1-2_<br />
Vanderhaeghe.pdf).<br />
White, Hayden, Metahistory: The Historical Imagination in Nineteenth-Century Europe, Baltimore<br />
and London: The John Hopkins UP, 1973.<br />
The Content of the Form: Narrative Discourse and Historical Representation, London: John<br />
Hopkins UP, 1987.<br />
اأبحاث
الصحف االإلكرتونية<br />
البحرينية<br />
دراسة يف تقييم واجهة<br />
االستخدام والوصول للمعلومات<br />
حامت الصريدي<br />
كاتب واأكادميي- جامعة البحرين
117<br />
2 0 1 1<br />
Abstract<br />
In these last years, the internet presented<br />
a big challenge to traditional media and<br />
especially to printed newspapers which<br />
was deeply affected by the gradual shift<br />
of its readers to the internet. It was then a<br />
necessity for news companies to think about<br />
new strategies and to adopt new modern<br />
economic models in relation to the use and<br />
the accessibility of information. Its major goal<br />
is to reinforce its position and its relations<br />
with readers and users in front of the tough<br />
competition and the spread of news websites<br />
and citizen journalism.<br />
Like other Arabic and international news<br />
companies, Bahraini newspapers adopted<br />
almost the same strategy by creating their<br />
own web sites which came as a support to<br />
the printed newspaper. Even though, these<br />
web sites were created at different periods of<br />
time, they almost all have adopted the same<br />
method in term of interface design of pages<br />
and the publication of news contents and its<br />
updating.<br />
In this paper, we will try to present the<br />
most important results of a descriptive and<br />
evaluative study of five websites representing<br />
the major online Bahraini newspapers. The<br />
focus of the study will be on two major levels:<br />
Interface and Accessibility.<br />
امللخص<br />
سوف نحاول من خال هذا البحث تقدمي دراسة<br />
وصفية نقدية ملواقع الصحف الإلكرتونية البحرينية<br />
مركزّ ين على جانبني اأساسيني هما تصميم واجهة<br />
الصتخدام Design( )Interface والوصول اإىل<br />
املعلومات .)Accessibility( وقمنا بتقييم تصميم<br />
واجهة الستخدام من خال قياس مساحات خمتارة<br />
لصور ملتقطة )Screenshots( خاصة بصفحات<br />
الويب. اأمّ ا بالنسبة لتقييم وحتليل عنصر الوصول<br />
للمعلومات فقد استخدمنا اأدوات قياس وجتريب اآلية.<br />
وحتتوي عيّنة البحث على خمسة مواقع الكرتونية لأهم<br />
الصحف البحرينية اليومية. وقد تغذّ ت هذه الدراسة<br />
بالأدبيات العلمية يف جمال تقييم وحتليل واستخدام<br />
مواقع الصحف الإلكرتونية.<br />
اأبحاث
2 0 1 1<br />
118<br />
الصحف االإلكرتونية البحرينية<br />
دراسة يف تقييم واجهة االستخدام والوصول للمعلومات<br />
حامت الصريدي<br />
الكلمات املفاتيح<br />
الصحافة الإلكرتونية، الإعام اجلديد، تصميم املواقع الإلكرتونية، واجهة الستخدام، الوصول اإىل املعلومات،<br />
تصفح املواقع، تقييم مستخدم الويب.<br />
- I تقدمي<br />
مثلت شبكة الإنرتنت يف السنوات الأخرية حتدّ يا كبريا لوسائل الإعام التقليدية ومنها باخلصوص الصحافة<br />
املطبوعة التي تاأثرت تاأثرا بالغا من حتوّل عدد كبري من قرّ ائها تدريجيا اإىل الشبكة. وكان لزاما على هذه<br />
املوؤسسات الإعامية التفكري يف اسرتاتيجيات جديدة وتبني مناذج اقتصادية حديثة، ترتبط بالستخدامات<br />
والوصول اإىل املعلومات، من صاأنها اأن تعزّ ز مكانتها وتقوّي الروابط التي جتمعها مع قرائها ومستخدميها اأمام<br />
املنافسة الشديدة والنتشار الواسع للأخبار واملعلومات سواء كان يف شكله املوؤسساتي Websites( )News اأو<br />
الفردي يف اإطار ما اأصبح يعرف بصحافة املواطن Journalism( .)Citizen<br />
وقد كان دخول الإنرتنت بوصفه وسيلة اإعام جديدة حملّ نقاشات واآراء متعددة من قبل الدارسني والباحثني<br />
يف علوم الإعام والتصال وكذلك من قبل ممثلي الصناعات الإعامية والثقافية. ومن بني اأهم املسائل التي<br />
طرحت مساألة مستقبل الصحيفة املطبوعة اأمام النمو السريع ملكانة الصحيفة الإلكرتونية وانعكاساتها على<br />
املوؤسسات الإعامية. كما طرحت مساألة ثانية موازية تتمثل يف كيفية وصول الأخبار واملعلومات اإىل املستخدمني<br />
عرب املوقع الإلكرتوين وطرق قراءتها وتاأثري عناصر التصميم يف استخداماتها.<br />
ومثلها مثل باقي الصحف العربية والدولية، تبنّت الصحف البحرينية اإسرتاتيجية املرور اإىل الشبكة الدولية<br />
للإنرتنت واأنصاأت مواقع اإلكرتونية، جاءت يف جمملها داعمة للموؤسسة الإعامية الأم. ولئن ظهرت هذه املواقع<br />
الإلكرتونية يف فرتات زمنية خمتلفة، اإلّ اأنها اعتمدت تقريبا الأسلوب نفسه يف مستوى تصميم الصفحات ونشر<br />
املضامني الإعامية وحتديثها.<br />
وتنقسم هذه الورقة اإىل اأربعة حماور اأساسية: يركّ ز العنصر الأول على اإبراز الدراسات السابقة يف جمال<br />
البحث بالإضافة اإىل تقدمي للمنهجية املتبّعة يف اختيار املواقع الإلكرتونية املمثّلة لعينة البحث، واأساليب التحليل<br />
والدراسة التي شملتها. اأما املحور الثاين فيهتم اأساسا بتقييم تصميم واجهة الستخدام، يف حني يختص املحور<br />
الثالث بدراسة وحتليل مساألة الوصول اإىل املعلومات. واأخريا خصّ ص عنصر رابع للحديث عن اأهم النتائج التي<br />
خرجت بها الدراسة.
119<br />
2 0 1 1<br />
- II الدراسات السابقة<br />
يشري املسح الذي قمنا به حول الدراسات السابقة<br />
اإىل قلّة املراجع املتخصّ صة باللغة العربية املرتبطة بهذا<br />
املوضوع. وقد وجدنا بعض الدراسات التي متثّل جتارب<br />
الصحافة الإلكرتونية يف بعض البلدان العربية، نذكر<br />
من بينها دراسة حتليلية للتجربة الإلكرتونية للجرائد<br />
املصرية املطبوعة )1( وكذلك دراسة حول لستخدامات<br />
الإنرتنت يف الصحف العربية )2( . ونضيف اإىل ذلك<br />
رسالة ماجستري )3( حتت عنوان “اإخراج الصحف<br />
السعودية الإلكرتونية يف ضوء السمات التصالية لشبكة<br />
الإنرتنت”.<br />
وقد متكّ نا يف اجلهة املقابلة من احلصول على عدد<br />
مهم من الدراسات التي اأجريت على مناذج لصحف<br />
الكرتونية ومواقع اإخبارية غربية كان لها الأثر البالغ يف<br />
تغذية هذه الدراسة من ناحية الأدبيات العلمية واملنهجية<br />
املعتمدة، سوف نحاول اإيجاز ما جاء فيها.<br />
يعد Jacob Nielsen املرجع العاملي يف القضايا<br />
املرتبطة بتصميم واجهة الستخدام وعاقة املوقع<br />
الإلكرتوين مبستخدميه على جميع املستويات. واأهم<br />
ما جاء به Nielsen يف كتابه )4( Web Designing<br />
،Usability: The Practice of Simplicity هو اأن<br />
مستخدمي الإنرتنت الذين يعلمون ما يبحثون عنه،<br />
يريدون احلصول على املعلومة يف اأسرع وقت. اأما الذين<br />
ل يعلمون بالتحديد ما يبحثون عنه، فاإنهم يتصفحون<br />
املواقع بصورة سريعة ويتوقفون عند املعلومات بصورة<br />
منطقية.<br />
وقد وضع ،Nielsen يف الجتاه نفسه، منهجية<br />
مرجعية يف حتليل تصميم الصفحة الرئيسة من خال<br />
كتابه )5( Websites Homepage Usability: 50<br />
.Deconstructed وتعتمد هذه املنهجية على جمموعة<br />
من القواعد يف دراسة املساحات املستخدمة ضمن<br />
تصميم الصحف الإلكرتونية. ونشري يف هذا الإطار اإىل<br />
اأن دراستنا التي طبقت على عينه الصحف الإلكرتونية<br />
البحرينية قد اعتمدت على هذه املنهجية نفسها..<br />
وبيّنت دراستان خمتلفتان اأجراهما كل من<br />
الباحثني السويديني<br />
جامعة Goteborg السويدية اأن هنالك حتديات كبرية<br />
يف تصميم الصحف الإلكرتونية مرتبطة بالإمكانات<br />
والوظائف التي ل تتوافر ضمن شكل الصحيفة<br />
املطبوعة.<br />
وقامت Ivory ببحوث متقدمة يف السنوات )8( 2001<br />
و2002 )9( و2005 )10( حول موضوع حتليل املواقع الإلكرتونية<br />
بطريقة التقييم الآيل وامليداين لاستخدامات. وقد<br />
استخدمت منهجيات بحث متعددة من بينها التقييم<br />
الآيل والتقاط صور الشاشة واملاحظة امليدانية اأو<br />
الإمربيقية.<br />
وكانت مساألة بنية الصحف الإلكرتونية على الإنرتنت<br />
متثّل املوضوع الرئيسي لكتاب Li Xigen الذي صدر<br />
سنة 2006 حتت عنوان )11( Newspapers: Internet<br />
.The Making of a Mainstream Medium وقد ركّ ز<br />
الكاتب على مساألة الصحيفة الإلكرتونية بوصفها وسيلة<br />
اإعام تفاعلية والطرق التي من خالها يتم التفاعل بني<br />
اجلمهور والصحيفة الإلكرتونية.<br />
كما اأن التجارب والدراسات والبحوث مازالت<br />
متواصلة يف هذا الصاأن للتعرّ ف اأكرث على اجلوانب<br />
الدقيقة يف استخدام الصحف الإلكرتونية ومواقع<br />
الإنرتنت بصفة عامة من قبل املستخدمني. اآخر هذه<br />
الدراسات املتقدمة اهتمت اأساسا بحركة عني املتصفّح<br />
لدى استخدامه صفحات املوقع.<br />
اأبحاث<br />
يف مساألة الآخر<br />
(6) Erikson و (7) Akesson يف<br />
I- منهجية البحث<br />
1- اختيار عيّنة املواقع<br />
يعرّ ف الباحثون يف علوم الإعام والتصال<br />
املوقع الإخباري باأنه املوقع الإلكرتوين اململوك لإحدى<br />
الشركات اأو املوؤسسات الإعامية والذي يحتوي على<br />
مضامني اإعامية يقع حتديثها بصورة مستمرة. وعلى<br />
هذا الأساس تكونّت عيّنة البحث من خمسة مواقع<br />
الكرتونية بحرينية تستجيب لهذا التعريف، موضّ حة
2 0 1 1<br />
120<br />
حسب اجلدول الآتي:<br />
التسلسل عنوان املوقع االإلكرتوين املوؤسسة التابع لها<br />
جدول 1. عيّنة املواقع الإلكرتونية<br />
صورة رقم 2. تصنيف املواقع الإلكرتونية بواسطة<br />
Gopagerank.com<br />
www.alayam.com<br />
www.alwasatnews.com<br />
www.akhbar-alkhaleej.com<br />
www.alwaqt.com<br />
www.alwatannews.com<br />
1<br />
2<br />
3<br />
4<br />
5<br />
موؤسسة الأيام للنشر<br />
شركة دار الوسط للنشر والتوزيع<br />
دار اأخبار اخلليج للصحافة والنشر<br />
دار الوقت للإعام<br />
شركة الوطن للصحافة والنشر<br />
ومتثل هذه الصحف اخلمس اأهم الصحف<br />
البحرينية التي لها مواقع الكرتونية على الشبكة. كما<br />
اأنها متثل تقريبا جميع الجتاهات السياسية والجتماعية<br />
والفكرية يف اململكة. كما وقع اختيار املواقع الإلكرتونية<br />
املذكورة عن طريق استخدام طريقة “تصنيف املوقع”<br />
PageRank وذلك باستعمال اأدوات اإلكرتونية متكّ ن<br />
من احلصول على تصنيف املوقع حسب سلّم تقييمي<br />
خاص. وقد استخدمنا لتحقيق هذا الغرض ثاثة مواقع<br />
متخصّ صة يف هذا املجال هي ( (13) )gopagerank.com<br />
و ( (15) )seochat.com و ( (14) web.com .)top25<br />
صورة رقم 1. تصنيف املواقع الإلكرتونية بواسطة<br />
Google pagerank<br />
صورة رقم 3. تصنيف املواقع الإلكرتونية بواسطة<br />
Ceochat.com<br />
1- اختيار الصفحات<br />
بالعتماد على عيّنة املواقع الإلكرتونية التي وقع<br />
اختيارها، قمنا كذلك باختيار صفحتني لكل موقع، متثّل<br />
الصفحة الأوىل الصفحة الرئيسة )Homepage(<br />
ومتثّل الصفحة الثانية صفحة املقال الإخباري News(<br />
.)article page<br />
1- اختيار عدد ومقاسات الصفحات<br />
قمنا باستخدام طريقة التقاط صور الشاشة<br />
)Screenshots( بالنسبة لصفحات الويب التي تشملها<br />
الدراسة وذلك ضمن مقاسني خمتلفني )800X600<br />
)15(<br />
بكسل( و )1024X768 بكسل(. وتشري الإحصائيات<br />
يف هذا الإطار اإىل اأن اأكرب عدد من متصفّحي الإنرتنت يف<br />
العامل يستخدمون شاشات كمبيوتر مقاس )1024X768<br />
بكسل( وذلك بنسبة تقدّ ر ب %48. وعلى هذا الأساس<br />
وقع التقطت )شعرونرين( صورة متثل صفحات الويب<br />
ضمن مقاسي الشاشة املذكورين. كما قمنا يف الوقت<br />
نفسه بحذف عناصر املتصفح )Browser( لنحصل<br />
على مقاس اأقل بقليل من مقاس الشاشة الأصلي. وقد<br />
استخدمنا يف عملية التقاط الصور الربنامج املجاين<br />
.)Screen Hunter )16( (
121<br />
2 0 1 1<br />
صورة رقم 4. صورة ملتقطة للصفحة الرئيسة ملوقع<br />
alwatannews.net<br />
ضمن مقاس 800X600 بكسل<br />
صورة رقم 5. صورة ملتقطة للصفحة الرئيسة ملوقع<br />
alwatannews.net<br />
ضمن مقاس 1024X768 بكسل<br />
1- مدة اإجناز الدراسة<br />
بهدف حتليل عيّنة املواقع الإلكرتونية التي تشملها<br />
الدراسة يف نفس السياق ويف املدة الزمنية نفسها، قمنا<br />
بالتقاط صور شاشة صفحات الويب ضمن املقاسني<br />
)800X600 بكسل( و )1024X768 بكسل( يف اليوم<br />
نفسه، اأي يوم الثاثاء 29 يوليو 2008.<br />
تقييم واجهة الستخدام )Interface(<br />
بالعتماد على الأبحاث التي قام بها )17( Nielsen<br />
سنة 2001 حول استخدامات الصفحة الرئيسة للموقع<br />
الإلكرتوين من قبل املتصفحني، ركّ زنا على نفس<br />
املنهجية املتّبعة وقمنا بالتقاط صور شاشة للعشرين<br />
صفحة ويب التي وقع اختيارها ضمن الدراسة، ثم قمنا<br />
بدراسة تقييمية كمّ ية evaluation( )Quantitative<br />
لكل صفحة ويب عن طريق حتليل عناصر الصفحة التي<br />
قمنا بتقسيمها حسب مساحات معينة وقع التعريف بها<br />
سابقاً.<br />
وتنقسم عناصر مساحات الصفحة اإىل الآتي:<br />
- الإبحار )Navigation( املساحة التي تستخدم لدعم<br />
اإبحار املتصفح عرب مضامني املوقع الإلكرتوين.<br />
- املضمون )Content( املساحة املخصصة لعرض<br />
مضامني املوقع الإلكرتوين سواء كانت يف شكل نصوص<br />
اأو صور.<br />
- الإعان )Advertisement( املساحة التي تستخدم<br />
لعرض الإعانات.<br />
- العرض اخلاص )Auto-Promotion( املساحة<br />
التي تستخدم لرتويج العروض اخلاصة باملوقع نفسه اأو<br />
املنتجات والربامج التي يرعاها املوقع نفسه.<br />
- الهوية )Identity( املساحة التي تستخدم لعرض<br />
العناصر املرتبطة بهوية املوقع اأو الشركة التابع لها.<br />
- البحث )Search( املساحة التي تستخدم يف عرض<br />
اأدوات البحث سواء كانت اأدوات بحث داخلي اأو شامل.<br />
- الأدوات املساعدة )Features( املساحة التي<br />
تستخدم لعرض اأدوات مساعدة للمستخدم مثل اإدخال<br />
التعليقات اأو الوصول اإىل نسخة سهلة الطبع<br />
للمضامني.<br />
- غري مستخدم )Unused( املساحة التي ل تدخل<br />
ضمن اأي تقسيم وقع ذكره سابقا وليس بالضرورة اأن<br />
تكون بياضا.<br />
اعتمادا على هذه التقسيمات داخل الصفحة، قمنا<br />
باستخدام برنامج معاجلة الصورة الرقمية Adobe(<br />
)Photoshop واخرتنا لوناًَ مميزاً لكل صنف من<br />
اأصناف املساحات املذكورة سابقا وقمنا بتحديد هذه<br />
العناصر يف جميع صفحات الويب امللتقطة التي تشملها<br />
الدراسة.<br />
اأبحاث
2 0 1 1<br />
122<br />
صورة رقم 6. صورة ملتقطة للصفحة الرئيسة ملوقع<br />
alwasatnews.net<br />
ضمن مقاس 800X600 بكسل<br />
باستثناء صحيفة الوسط التي تعتمد على عنصر اإبحار<br />
مغاير يوجد يف شكل قائمة اأفقية يف اأعلى الشاشة.<br />
كما نشري اإىل اأن عنصر الإبحار ل يظهر كليّا بالنسبة<br />
لصحف الأيام والوسط والوطن ضمن مقاس شاشة<br />
)800X600(، ممّ ا ميثل عنصرا سلبيا يف تصميم<br />
الصفحة الرئيسة للموقع بحيث اإنها ل تسهّ ل عملية<br />
التصفح بالنسبة ملستخدمي شاشة )800X600(.<br />
اأما بالنسبة لصحيفتي اأخبار اخلليج والوقت فعنصر<br />
الإبحار واضح متاما ضمن املقاسني.<br />
صورة رقم 7. صورة ملتقطة للصفحة الرئيسة ملوقع<br />
alwasatnews.net<br />
ضمن مقاس 800X600 بكسل مع األوان مميزة لأصناف<br />
تقسيم املساحات<br />
صورة رقم 8. غياب عنصر الإبحار بالنسبة للصفحة<br />
الرئيسة ملوقع alayam.com<br />
ضمن مقاس 800X600 بكسل<br />
ونشري يف السياق نفسه اإىل اأنه قيست صفحة<br />
الويب الواحدة مرتني ضمن قياسني خمتلفني ومن ثم<br />
اأجريت عملية حتليل دقيق لعناصر التصميم واخليارات<br />
املرتبطة به. فعلى سبيل املثال مكّ نت هذه العملية من<br />
حتديد وفهم اأنواع املساحات داخل اأو خارج مقاس<br />
شاشة )800X600(.<br />
1- ضعف نسبة املساحة املخصصة للإبحار<br />
ويفيد التحليل الذي قمنا به اأن عنصر الإبحار<br />
)Navigation( يوجد يف شكل قائمة عمودية اإىل<br />
اأقصى ميني الشاشة بالنسبة جلميع املواقع الإلكرتونية<br />
صورة رقم 9. ظهور واضح لعنصر الإبحار بالنسبة<br />
للصفحة الرئيسة ملوقع alwaqt.com<br />
ضمن مقاس 800X600
123<br />
2 0 1 1<br />
صورة رقم 10. ظهور واضح لعنصر الإبحار بالنسبة<br />
للصفحة الرئيسة ملوقع alwaqt.com<br />
ضمن مقاس 1024X768 بكسل<br />
كما ناحظ اأيضا اأن نسبة املساحة املخصصة<br />
لعنصر الإبحار ضمن قياس 800X600 بكسل تبدو<br />
مهمة مقارنة باملساحة الكلية للصفحة وذلك بالنسبة<br />
لصحيفتي الوقت واأخبار اخلليج )11 و % 12 من املساحة<br />
الكلية للصفحة( وتبدو اأقل اأهمية بالنسبة لصحيفتي<br />
الوسط والوطن )6 و %5(، يف حني تطرح املساحة<br />
املخصصة لعنصر الإبحار بالنسبة لصحيفة الأيام<br />
)%1( اأكرث من صوؤال بخصوص خيارات التصميم.<br />
وضمن مقاس شاشة 1024X786 تبقى صحيفتا<br />
الوقت واأخبار اخلليج حمرتمتني لنفس املساحة<br />
املخصصة لعنصر الإبحار )11 و %12(، يف حني تبدو<br />
صحيفة الوطن اأكرث تناغما مع هذا املقاس بفضل<br />
تخصيص %14 من املساحة اجلملية للصفحة. وتبقى<br />
صحيفتا الأيام والوسط بنسبة مساحات مشابهة ملقاس<br />
الشاشة السابق )7 و%5(.<br />
2- غياب واضح للإعانات<br />
اإذا ما متعّنا يف املساحات املخصصة للإعانات<br />
بالنسبة جلميع الصحف وبالنسبة ملقاسي الشاشة التي<br />
شملتها الدراسة )800X600 و1024X786 بكسل( فا<br />
ميكن اأن نغفل الغياب الواضح للإعانات، اإذ افتقرت<br />
صحف اأخبار اخلليج والوسط والوقت لهذا العنصر، يف<br />
حني مل ميثل هذا العنصر سوى %7 بالنسبة لصحيفة<br />
الأيام و%10 بالنسبة لصحيفة الوطن.<br />
اأما بخصوص الإعانات القليلة التي حصلنا عليها<br />
فقد جاءت ضمن شكلني خمتلفني من حيث املوقع:<br />
اإعانات اأفقية يف اأقصى اأعلى الشاشة واإعانات<br />
عمودية يف اأقصى يسار الشاشة.<br />
3- مساحات كبرية خمصصّ ة للمضامني الإخبارية<br />
يبدو اأن املساحات املخصصّ ة للمضامني الإخبارية<br />
تسجل يف جمملها حيزا مهماً من املساحة الكلية<br />
للصفحة بالنسبة جلميع الصحف وخاصة ضمن مقاس<br />
شاشة 1024X786 بكسل. اإذ مثّلت مساحة املضامني<br />
الإخبارية اأكرب نسبة جتاوزت يف بعض احلالت %70 من<br />
املساحة الكلية للصفحة )%27 بالنسبة لصحيفة الوقت<br />
و%61 بالنسبة لصحيفة اأخبار اخلليج(.<br />
اإل اأننا ناحظ يف الوقت نفسه اأن املساحة املخصصة<br />
للمضامني الإخبارية بالنسبة لصحيفتي الأيام والوسط<br />
جاءت غري مناسبة )21 و %22( ضمن مقاس شاشة<br />
800X600 بكسل. وهذا يدعّ م مرة اأخرى ما توصلنا<br />
اإليه سابقا من وجود بعض الثغرات يف التصميم العام<br />
للصحيفتني من حيث فعّالية الستخدام ووضوح عناصر<br />
التصفح داخل املوقع.<br />
4- نسبة مناسبة من املساحات املخصصة للهوية<br />
والبحث<br />
ل شك اأن عنصر الهوية )Identity( ميثل<br />
العنصر الأساسي يف اإكساب املوقع الشخصية املميّزة<br />
له وجعله مصدرا لدعم املصداقية والرفع من عدد<br />
مستخدميه على الشبكة. وجاءت املساحات املخصصة<br />
لهذا العنصر متقاربة بالنسبة جلميع الصحف ضمن<br />
مقاسات الشاشة املختلفة. وتراوحت هذه النسبة بني 4<br />
و%6 من املساحة الكلية للصفحة، وهي نسبة تعد اإىل حد<br />
ما مناسبة، باعتبار اأن املساحة املخصصة للهوية عادة<br />
اأبحاث
2 0 1 1<br />
124<br />
ما تكون صغرية.<br />
من جهة ثانية ل ميكن احلديث عن موقع اإخباري<br />
دون توافّر خدمة البحث )Search( ضمن الصفحة<br />
الرئيسة للموقع وباقي الصفحات املكونة له. املساحة<br />
املخصصة لهذا العنصر جاءت هي الأخرى متقاربة<br />
بني جميع الصحف وتراوحت نسبتها بني 2 و % 4 من<br />
املساحة الكلية للصفحة، وهي اأيضا مساحة مناسبة<br />
باعتبار اأن املساحة املخصصة للبحث تكون يف اأغلب<br />
الأحيان صغرية.<br />
1- نسبة كبرية من املساحات غري املستخدمة<br />
لقد اأفرزت الدراسة ماحظة مهمة تتمثل يف ارتفاع<br />
نسبة املساحات غري املستخدمة مقارنة باملساحة الكلية<br />
للصفحة وذلك ضمن خمتلف مقاسات الشاشة. وكما<br />
ذكرنا يف تعريف املساحات سابقا، فاإن املساحات غري<br />
املستخدمة ل نعني بها املساحات البيضاء فقط. وعلى<br />
هذا الأساس، فاإن نسبة هذه املساحات غري املستخدمة<br />
كانت مرتفعة بالنسبة لصحف الأيام )%64(، والوسط<br />
)%38( والوطن .)%35(<br />
ولئن شهدت هذه النسب انخفاضا ضمن مقاس<br />
شاشة 1024X768 بكسل، فاإنها تبقى يف اعتقادنا<br />
مرتفعة مقارنة باملساحة الكلية للصفحة )%36 بالنسبة<br />
لصحيفة الأيام و%26 بالنسبة لصحيفة الوسط(.<br />
وميكن القول باأن هذه املساحات غري مناسبة للتصميم<br />
اإذا ما لحظنا اأن نسبة املساحات غري املستخدمة<br />
بالنسبة لصحيفة الأيام متثّل نفس نسبة املساحة<br />
املخصصة للمضامني الإخبارية )%36(. ويعني ذلك<br />
وجود خلل واضح يف مستوى توزيع عناصر التصميم<br />
املكونة للصفحة.<br />
ويف اجلهة املقابلة، سجّ لت صحيفتا الوقت واأخبار<br />
اخلليج وجود نسبة قليلة من املساحات غري املستخدمة،<br />
بل اإن هذه النسبة تعد مثالية بالنسبة لصحيفة الوقت،<br />
اإذ ل تتجاوز %5 من املساحة الكلية للصفحة.<br />
شكل رقم 1. توزيع مساحات صفحة اأخبار اخلليج<br />
ضمن مقاس 800X600<br />
شكل رقم 2. توزيع مساحات صفحة اأخبار اخلليج<br />
ضمن مقاس 1024X768<br />
شكل رقم 3. توزيع مساحات صفحة الأيام<br />
ضمن مقاس 800X600<br />
شكل رقم 4. توزيع مساحات صفحة الأيام
125<br />
2 0 1 1<br />
ضمن مقاس 1024X768<br />
شكل رقم 5. توزيع مساحات صفحة الوقت<br />
ضمن مقاس 800X600<br />
شكل رقم 8. توزيع مساحات صفحة الوسط<br />
ضمن مقاس 1024X768<br />
شكل رقم 6. توزيع مساحات صفحة الوقت<br />
ضمن مقاس 1024X768<br />
شكل رقم 9. توزيع مساحات صفحة الوطن<br />
ضمن مقاس 800X600<br />
شكل رقم 7. توزيع مساحات صفحة الوسط<br />
ضمن مقاس 800X600<br />
شكل رقم 10. توزيع مساحات صفحة الوطن<br />
ضمن مقاس 1024X768<br />
اأبحاث
2 0 1 1<br />
126<br />
صورة رقم 11. تقييم عنصر الوصول للمعلومات بواسطة<br />
Cynthia<br />
تقييم الوصول للمعلومات )Accessibility(<br />
تتمثل عملية تقييم الوصول اإىل املعلومات<br />
)Accessibility( يف اختبار مدى استجابة صفحات<br />
املوقع الإلكرتوين خلطوط الإرشاد .)Guidelines(<br />
وترتبط خطوط الإرشاد بقواعد تطبيق لغات برجمة<br />
الويب الصادرة عن الهيئة الدولية للإنرتنت )18( W3C<br />
التي تتكفل بعملية نشرها وحتديثها بصورة مستمرة.<br />
وتتمحور خطوط الإرشاد حول جمموعة من املبادئ<br />
والقواعد العامة التي تساعد على وصول املستخدم اإىل<br />
املعلومات. ويحتوي كل مبداأ من هذه املبادئ على واحد<br />
اأو جمموعة من نقاط التدقيق )Checkpoints( يقع<br />
من خالها تفسري كيف تتم عملية تطبيق خطّ الإرشاد<br />
ضمن وضعية معيّنة.<br />
ولإجناز هذا العمل قمنا باستخدام اأدوات تقييم<br />
الكرتونية ميكن استعمالها بصورة جمانية على شبكة<br />
الإنرتنت وهي )19( Cynthia و )20( Etre و )21( .ebXACT<br />
وقد متّ استخدام هذه الأدوات بتاريخ 29 يوليو 2008.<br />
شكل رقم 12. تقييم عنصر الوصول للمعلومات بواسطة<br />
Etre<br />
شكل رقم 13. تقييم عنصر الوصول للمعلومات بواسطة<br />
WebXACT<br />
على اإثر حتليل البيانات ميكن القول باأن صفحات<br />
املواقع اخلمسة تتضمن اأخطاء مرتبطة بالوصول<br />
للمعلومات errors( .)Accessibility عدد هذه<br />
الأخطاء يختلف من صحيفة اإىل اأخرى ليصل العدد<br />
الأعلى من الأخطاء اإىل 572 خطاأ الذي وقع تسجيله<br />
ضمن الصفحة الرئيسية لصحيفة اأخبار اخلليج، يف<br />
حني سجّ لت الصفحة الرئيسية لصحيفة الأيام العدد<br />
الأقل من الأخطاء )272 خطاأ(.<br />
اأمّ ا اأهم نوع من الأخطاء فهو مرتبط بخط الإرشاد<br />
)1.1 1.1 )Guideline الذي يجب من خاله توفري<br />
نص تعويض اأو تفسري للعناصر املرئية. كمثال على<br />
ذلك ضرورة توفري نص يفسّ ر حمتوى الصورة يف حالة<br />
اعتذار حتميلها مع الصفحة.
127<br />
2 0 1 1<br />
النتائج<br />
من خال هذه الدراسة التي وضّ حنا اأبعادها فيما<br />
سبق، ميكن اأن نخلص اإىل النتائج الآتية:<br />
اأول: مل تاأخذ بعض الصحف الإلكرتونية البحرينية<br />
بعني العتبار ضرورة اأهمية اأن يتوافق تصميم<br />
واجهة الستخدام على الأقل مع مقاسي )800X600<br />
و1024X768( وذلك حتّى تسهل عملية استخدام املوقع<br />
من قبل اأكرب عدد من املستخدمني. ما لوحظ هو جناح<br />
صحيفتي الوقت واأخبار اخلليج فقط يف هذا املستوى،<br />
يف حني شهدت بقية الصحف تفاوتا تسبب يف خلل<br />
ضمن توزيع مساحات العناصر املكونة للصفحة، جعل<br />
على سبيل املثال عنصر الإبحار اأو الهوية غائبا ضمن<br />
اأكرث من صحيفة.<br />
ثانيا: احتوت صفحات الويب املكونة للصحف<br />
الإلكرتونية عددا عاليا من الأخطاء يف مستوى الوصول<br />
اإىل املعلومات وخاصة بالنسبة خلط الإرشاد 1.1<br />
املرتبط بتعريف العناصر املرئية.<br />
ثالثا: من البدهي اأن نفكّ ر يف اأن اأهم عنصر<br />
مكون للصفحة هو املضمون الإخباري اأو الإعامي،<br />
اإل اأن ما توصلنا اإليه هو حمدودية املساحة املخصصة<br />
لهذا العنصر باستثناء صحيفتي الوقت واأخبار<br />
اخلليج.<br />
رابعا: ناحظ وجود ارتفاع مهم لنسبة املساحات<br />
غري املستخدمة ضمن الصفحة. ولئن اختلفت نسبة<br />
هذه املساحة من صحيفة اإىل اأخرى، فاإنها يف تقديرنا<br />
تعربّ عن غياب اإسرتاتيجية تصميم واضحة متكّ ن من<br />
تغطية هذه املساحات عند تصفح املوقع ضمن مقاس<br />
اأو مقاس 1024X768. 800X600<br />
خامسا: باستثناء بعض احلالت القليلة، فاإننا<br />
سجّ لنا غياباً واضحاً للمساحات املخصصة للإعانات<br />
وعروض الرتويج بصورة عامة. ويف اعتقادنا اأن هذه<br />
املصاألة مرتبطة مبشكل عام ضمن مواقع الإنرتنت<br />
العربية وهو ضعف سوق الإعانات على الشبكة<br />
مقارنة بوجودها الضخم عرب وسائل الإعام والإعان<br />
الأخرى.<br />
سادسا: تعد صحيفة الوقت الصحيفة الأكرث جناحا<br />
يف مستوى تصميم واجهة الستخدام من خال التوزيع<br />
الناجح للمساحات املكونة للصفحة الرئيسة وبقية<br />
الصفحات الداخلية. كما اأن عدد الأخطاء املرتبط<br />
بالوصول اإىل املعلومات جاء بنسبة متواضعة، مما يعزز<br />
موقع هذه الصحيفة مقارنة بالصحف الأخرى التي<br />
اأخذناها عينة للبحث.<br />
هذه النتائج تدفعنا اإىل القول باأن الصحف<br />
الإلكرتونية البحرينية يف حاجة ملحّ ة اإىل اإعادة نظر<br />
وبناء اإسرتاتيجية تصميم جديدة تاأخذ بعني العتبار<br />
املاحظات والنتائج التي وردت ضمن الدراسة. كما اأن<br />
مصاألة الوعي باأن املوقع الإخباري هو عبارة عن وسيلة<br />
اإعام جديدة تدخل ضمن ما اأصبح يعرف بالإعام<br />
اجلديد وتختلف عن وسائل الإعام التقليدية يف شكلها<br />
والعناصر املكونة لها وطريقة عملها وعاقاتها مع<br />
مستخدميها، اأصبحت مصاألة ملحة لأن ما ناحظه على<br />
صعيد الواقع ويف اأغلب احلالت هو استنساخ ملضامني<br />
اإعامية صادرة عن وسائل اإعام تقليدية ورفعها على<br />
املوقع الإلكرتوين دون اعتبار خلصائص هذا الأخري.<br />
وهذا يجعلنا مستخدمني لوعاء اإلكرتوين جديد دون<br />
الستفادة من اإمكاناته الكبرية واملتنوعة بوصفه وسيلة<br />
اإعام جديدة.<br />
يف نهاية املطاف ميكن القول باأن هذه الدراسة تعد<br />
اإضافة يف جمال حتليل وتقييم املواقع الإخبارية العربية.<br />
كما اأن املرحلة القادمة التي ميكن اأن تكمّ ل هذه الدراسة<br />
هي مرحلة تقييم الستخدام evaluation( )Usability<br />
التي ميكن من خالها تقدمي حتليل مفصّ ل لعاقة<br />
املوقع الإلكرتوين مبستخدميه يف مستوى احلصول<br />
على املضامني الإخبارية والتفاعل مع املساحات املكونة<br />
للصفحة. وحتّى يحصل تراكم يف هذا املجال يجب اأن<br />
تتعدّ د هذه الأنواع من الدراسات على املستوى العربي.<br />
اأبحاث
2 0 1 1<br />
128<br />
الهوامش واالإحاالت<br />
1 حممد عبد احلليم حممد، التجربة الإلكرتونية للجرائد املصرية املطبوعة: دراسة حتليلية للجرائد القومية اليومية<br />
اأخبار-اأهرام-جمهورية، القاهرة، اأوراق املوؤمتر العلمي الثاين لأكادميية اأخبار اليوم، 9-8 اأبريل 2003.<br />
2 اأبو بكر عبد القادر وزيري، استخدامات الإنرتنت يف الصحافة العربية، القاهرة، اأوراق املوؤمتر العلمي الثاين<br />
لأكادميية اأخبار اليوم، 9-8 اأبريل 2003.<br />
3 صالح بن زيد العنزي، اإخراج الصحف السعودية الإلكرتونية يف ضوء السمات التصالية لشبكة الإنرتنت، رسالة<br />
ماجستري يف الإعام، جامعة الإمام حممد بن سعود الإصامية، الرياض، مارس 2006.<br />
4 Jacob Nielsen, Designing Web Usability: The Practice of Simplicity, New Riders Publishing,<br />
CA, USA, 2000, p13.<br />
5 Jacob Nielsen, Homepage Usability: 50 Websites Deconstructed, New Riders Publishing, CA,<br />
USA, 2001, p74.<br />
6 Lars Bo Eriksen, “Evolution of the web news genre- the slow move beyond the print metaphor”.<br />
In HICSS 00: Proceedings of the 33rd Hawaii International Conference ob System Sciences<br />
(HICSS 03). IEEE Computer Society, (2000): 40-102.<br />
7 Maria Akesson, Design patterns for online newspaper genre- a genre analysis of 85 Swedish<br />
daily online newspapers. Master’s thesis, Department of Informatics, Goteborg University,<br />
2000.<br />
8 Melody Yvette Ivory, “The state of the art in automating usability evaluation of user interfaces”.<br />
ACM Computing surveys (CSUR). Vol. 33. No. 4, (2001): 470-516.<br />
9 Melody Yvette Ivory, “Statistical profiles of highly-rated web sites”. In Proceedings of the<br />
SIGCHI’02 conference on Human factors in computing systems. ACM Press, (2002): 367-374.<br />
10 Melody Yvette Ivory, “Evolution of web site design patterns”. ACM Transactions on Information<br />
Systems (TOIS). Vol. 23No. 4, (2005): 463-497.<br />
11 Li Xigen,. Internet Newspapers: The Making of Mainstream Medium. Rutledge publishing,<br />
USA, 2006, p26.<br />
12 http://www.gopagerank.com/<br />
13 http://www.seochat.com/seo-tools/pagerank-lookup/<br />
14 http://www.top25web.com/pagerank<br />
15 تفيد الإحصائيات الصادرة عن موقع 3wschools.com اأن توزيع استخدام متصفحي الإنرتنت حسب قياس<br />
شاشة الكمبيوتر بالنسبة ليناير 2008 هي %48 ملقاس )1024X768 بكسل( و%8 ملقاس )800X600 بكسل( و%38<br />
ملقاسات اأعلى و%6 ملقاسات غري معروفة.<br />
16 ميكن احلصول على هذا الربنامج جمانا عرب املوقع الإلكرتوين .http://wisdom-soft.com<br />
17 Jacob Nielsen, 2001. Op. Cit, pp 7-12.<br />
18 ميكن احلصول على قائمة القواعد وخطوط الإرشاد عرب موقع الهيئة الدولية للإنرتنت http://www.w3.org/<br />
WAI<br />
19 http://www.cynthiasays.com<br />
20 http://www.etre.com/tools/accessibilitycheck<br />
21 http://www.w3c.hu/talks/2006/wai_de/mate/watchfire.html
129<br />
2 0 1 1<br />
املصادر واملراجع<br />
املراجع العربية<br />
1اأبو . 1 بكر عبد القادر وزيري، استخدامات الإنرتنت يف الصحافة العربية، القاهرة، اأوراق املوؤمتر العلمي الثاين<br />
لأكادميية اأخبار اليوم، 9-8 اأبريل 2003.<br />
2 صالح بن زيد العنزي، اإخراج الصحف السعودية الإلكرتونية يف ضوء السمات التصالية لشبكة الإنرتنت، رسالة<br />
ماجستري يف الإعام، جامعة الإمام حممد بن سعود الإصامية، الرياض، مارس 2006.<br />
3 حممد عبد احلليم حممد، التجربة الإلكرتونية للجرائد املصرية املطبوعة: دراسة حتليلية للجرائد القومية اليومية<br />
اأخبار-اأهرام-جمهورية، القاهرة، اأوراق املوؤمتر العلمي الثاين لأكادميية اأخبار اليوم، 9-8 اأبريل 2003.<br />
2 .<br />
3 .<br />
املراجع االأجنبية<br />
اأبحاث<br />
1. Akesson Maria, Design patterns for online newspaper genre- a genre analysis of 85 Swedish<br />
daily online newspapers. Master’s thesis: Goteborg University, 2000 .<br />
2. Courage, Catherine and Baxter, Kathy. Understanding Your Users: A Practical Guide to User<br />
Requirements, Methods, Tools, and Techniques. New York: Morgan Kaufmann, 2005.<br />
3. Eriksen, Lars Bo and Ihlstrom, Carina. “Evolution of the web news genre- the slow move beyond<br />
the print metaphor”. HICSS 00: Proceedings of the 33rd Hawaii International Conference of<br />
System Sciences (HICSS 03). IEEE Computer Society (2000): 40-102 .<br />
4. Garrett, Jesse James. The Elements of the User Experience: User-Centered Design for the Web.<br />
Berkeley, CA: New Riders, 2003.<br />
5. Ivory, Melody Yvette. “The state of the art in automating usability evaluation of user interfaces”.<br />
ACM Computing surveys (CSUR). Vol. 33. No. 4 (2001): 470-516 .<br />
6. Ivory, Melody Yvette. “Statistical profiles of highly-rated web sites”. In Proceedings of the<br />
SIGCHI’02 conference on Human factors in computing systems. ACM Press, (2002): 367-<br />
374.<br />
7. Ivory, Melody Yvette and Megraw, Rodrick. “Evolution of web site design patterns”. ACM<br />
Transactions on Information Systems (TOIS). Vol. 23. No. 4, (2005): 463-497.<br />
8. Koyani, Sanjay, Bailey, Robert and Nall, Janice. “Research-based Web Design and Usability<br />
Guidelines”. Washington, DC: Department of Health and Human Services, General Services<br />
Administration, 2006.<br />
9. Krug, Steve. Don’t Make Me Think: A Common Sense Approach to Web Usability. 2nd ed.<br />
Berkeley, CA: New Riders, 2006.<br />
10. Lazar, Jonathan. Web Usability: A User-Centered Design Approach. Boston: Addison-Wesley,<br />
2006.<br />
11. Nielsen, Jacob. Designing Web Usability: The Practice of Simplicity. CA, USA: New Riders<br />
Publishing, 2000.<br />
12. Nielsen, Jacob. Homepage Usability: 50 Websites Deconstructed. CA, USA: New Riders<br />
Publishing, 2001.<br />
13. Richard Craig, Online Journalism- Reporting, Writing and Editing for New Media. Canada:<br />
Wadsworth Publishing, 2005.<br />
14. Xigen Li. Internet Newspapers: The Making of Mainstream Medium. USA: Rutledge publishing, 2006.<br />
15. W3C, 1999. Web Content Accessibility Guidelines 1.0. [Accessed 29th July 2008]. Available<br />
from World wide Web: http://www.w3c.org/TR/WCAG10.
يف البحث عن<br />
العالقة بني املدونات<br />
االإلكرتونية والصحافة<br />
د. نصر الدين لعياضي<br />
كلية التصال، جامعة الشارقة
133<br />
2 0 1 1<br />
Abstract<br />
The current study theoretically endeavours<br />
to sketch out the future of journalism within<br />
the emerging frames of the new of the<br />
new media. Based on this, the researcher<br />
has already developed the following core<br />
questions:<br />
How can communication researchers<br />
forecast the justifiable future of journalism<br />
apart from its abstract concept?<br />
Can scholars conceive of the present<br />
day journalism as they did before using the<br />
traditional paradigm?<br />
Is it viable to trace the power of relationship<br />
between the blogs and the present day<br />
journalism irrespective of any sort of denial<br />
or exclusion?<br />
Are the blogs inducing any sort of<br />
effect on the present day journalism even<br />
though blogging is still technologically not<br />
sophisticated, and so on the cultural and<br />
ontological levels?<br />
To answer all these questions, there<br />
seems to be a need for looking after the<br />
consequences of blogging in accordance with<br />
the journalistic paradigm.<br />
Hence, the journalistic paradigm enables<br />
communication scholars to trace back the<br />
development of the press over 400 years. In<br />
the mean time, scholars will find themselves<br />
confronted with the fact that journalism<br />
over the long history is not a static genre.<br />
However, it looks renovating itself. In<br />
addition, it becomes evident that the present<br />
day journalism is different from blogging in<br />
many different ways.<br />
Actually, constructivism has led to the<br />
emerging development of the “journalistic<br />
paradigm.” It intensifies that journalism as<br />
a genre is not a socio-cultural or political<br />
phenomenon; however it is an open system<br />
that is institutionally teeming up with<br />
functions, discourses, and ideas.<br />
Finally, the current study concludes that<br />
there seems to be a sort of difficulty in terms<br />
of the reciprocal interaction between the<br />
genre of journalism and blogging especially<br />
in the Arab arena but not in the Western one.<br />
امللخص<br />
حتاول هذه الدراصة اأن تستجلي العاقة بني<br />
الصحافة واملدونات الإلكرتونية بعيدا عن منطق<br />
النهايات الذي وجه العديد من البحوث الجتماعية،<br />
مبا فيها بحوث الإعام والتصال، ومبناأى عن النظرة<br />
الإقصائية التي ل ترى مستقبا للصحافة يف ظل تطور<br />
املدونات وازدهارها.<br />
اإن الكتشاف املعريف لطبيعة هذه العاقة يشرتط<br />
استبدال املنظور Paradigm الذي نقراأ عربه التحولت<br />
التي تعيشها الصحافة يف احلاضر واملستقبل. فاإذا<br />
كان من الصعب اأن نسحب ماضي الصحافة على<br />
واقعها ومستقبلها، فمن الأصعب اأن نستخدم املنظور<br />
القدمي لفهم ما تعيشه الصحافة من تطورات. وذلك<br />
لأن الصحافة ليست معطى جمردا، ول كائنا جامدا.<br />
اإنها شكل ملموس وديناميكي يتفاعل مع اليكولوجيا<br />
اجلديدة التي فرضها الإعام اجلديد، الذي يعد<br />
اإفرازا لتطور تقني واجتماعي يتسم باستشراء<br />
التكنولوجيا الرقمية مبختلف تطبيقاتها واستتباعاتها<br />
يف عامل الإعام والتصال.<br />
اإن الصحافة عبارة عن بناء اجتماعي يتجلى عرب<br />
تطور املمارسة يف خمتلف مستوياتها. هذه احلقيقة<br />
تفرضها املقاربة البنائية للصحافة بوصفها خطاباً،<br />
وموؤسسة اقتصادية وسياسية، وحزمة من العاقات<br />
الجتماعية.<br />
اإن املقاربة البنائية لتطور الصحافة قربت الباحث<br />
من رصد اأنواع املدونات ومقاصدها، واإسرتاتيجية<br />
اصتخدام وصائل الإعام املختلفة لها يف الدول<br />
الغربية.<br />
كما اأن هذه املقاربة قدمت بعض العناصر التاريخية<br />
والثقافية والسياسية الكفيلة بتفسري ضعف التفاعل بني<br />
الصحافة واملدونات الإلكرتونية يف املنطقة العربية.<br />
اأبحاث
2 0 1 1<br />
134<br />
يف البحث عن العالقة بني املدونات االإلكرتونية والصحافة<br />
د. نصر الدين لعياضي،<br />
املقدمة<br />
مل يكن اأحد يدري اأن املراهنة التي جرت بني ديف وايرن ديف ، Winer Dave اأحد خمرتعي اآليات اخلاصات<br />
) RSS Really Simple Syndication و API( ) )1( ، و نيزنهلتز مارتن ،Martin Nisenholtz مصوؤول موقع<br />
صحيفة نيو يورك تاميز على شبكة الإنرتنت، ستوؤطر النقاش حول مستقبل الصحافة ملدة طويلة من الزمن.<br />
لقد تنباأ نيزنهلتز يف السنة 2003، باأن املدونات الإلكرتونية)Blogs( ستفرض نفسها خال السنوات اخلمس<br />
القادمة، وتكسب سمعة تفوق سمعة صحيفة نيو يورك تاميز. واأكد اأن وسائل الإعام ستتغريّ ، بعمق، اإىل درجة اأن<br />
)2(<br />
الأشخاص سيتجهون للبحث عن املعلومات التي يحتاجونها يف مدوّنات الهواة الإلكرتونية التي يثقون بها.<br />
على الرغم من اأن وايرن نظر اإىل التغيري احلاصل يف الصحافة )3( ضمن الإيكولوجية اجلديدة التي فرضها<br />
بروز منط التصال الأفقي يف عامل وسائل الإعام، التي ل توؤدي اإىل القضاء على اجلرائد، اإل اأن احلديث عن<br />
تاأثري املدونات يف العمل الصحفي ظل منحصرا يف اإمكانية القضاء على الصحافة الورقية. لقد وجد الزاعمون<br />
بنهاية الصحافة حجتهم يف فيلم الفيديو القصري الذي اأعده متحف تاريخ وسائل الإعام يف الوليات املتحدة<br />
الأمريكية، الذي نعى الصحافة الورقية، وتوقع نهايتها بعد خمس سنوات، اأي يف العام 2014، بعد موت صحيفة<br />
)4(<br />
“نيو يورك تاميز”، التي تُعّد العنوان الأكرث شهرة يف الصحافة املكتوبة.<br />
هل يرسم هذا التنبوؤ اأفق تطور وسائل الإعام اأو<br />
اأنه يعرب عن حالة القلق الذي ينتاب املنشغلني بوسائل<br />
التصال اأو ممتهنيها كلما ظهرت تكنولوجيا جديدة،<br />
واخلوف من تبعاتها على صعيد اإنتاج مواد التصال<br />
وتوزيعها؟ اأي القلق الذي يفضي، من ثقل وطاأته، اإىل<br />
تاأبني التكنولوجيات القدمية، والحتفاء باجلديدة<br />
والتبشري بوعودها الوردية يف جمال الإعام والتصال<br />
الجتماعي.<br />
هل هذا التاأبني يتناغم مع خطاب النهايات الذي<br />
ميّز الفكر املعاصر، بدءا من نهاية التاريخ، ونهاية<br />
الإيديولوجيات، ونهاية الفلسفة، وصول اإىل نهاية<br />
التلفزيون )5( ، ونهاية الصحفة )6( ، ونهاية املسرح،<br />
ونهاية السينما، ونهاية اليديولوجيا، وغريها من قائمة<br />
النهايات التي ل نهاية لها؟<br />
املنظور :Paradigm اأداة لفهم املاثل، وتصور لقراءة<br />
االآتي:<br />
اإننا منيل اإىل العتقاد باأن الكتابات التي تناولت<br />
مستقبل الصحفة يف ظل التطور التكنولوجي، والتي<br />
انتهت اإىل احلكم عليها بالنقراض، انطلقت من متثّل<br />
Representationللواقع الذي ينتج الصحفة املَتَّسِ م<br />
بالثبات والستقرار، ول يكف عن اإنتاج النموذج الواحد<br />
والقدمي من الصحفة. وتعاملت مع الصحفة بوصفها<br />
ظاهرة تكنولوجية بدرجة اأساسية، واحلال اأن الصحفة<br />
بناء اجتماعي، كما سنثبت ذلك لحقا؛ اأي اأنها عرضة<br />
للتجدّ يد والتطور الذي تنتجه جملة من الأفعال املتداخلة،<br />
منها الفعل الجتماعي الذي يدفعها، تدريجيا، للتموقع<br />
يف الفضاء الدميقراطي، والفعل القتصادي الذي<br />
تستند اإليه باعتبارها موؤسسة اقتصادية، والفعل الثقايف<br />
املنتج للمعرفة ومتثّات الواقع الذي تقوم به كل وسيلة
135<br />
2 0 1 1<br />
اإعامية.<br />
اإن توظيف منطق النهايات للحديث عن مستقبل<br />
وسائل الإعام يقولب التفكري، صاأنه صاأن احلتميات<br />
سواء كانت بيولوجية اأو اجتماعية اأو تقنية، ويدفع اإىل<br />
رفض التغريات غري املنتظرة يف جمال معني اأو غري<br />
املتطابقة مع املنظور السائد. فالنهايات واحلتميات<br />
توؤدي، يف اعتقادنا، اإىل ما اأسماه الفيلسوف الفرنسي<br />
غستون بصار بالعائق البستمولوجي الذي يكمن يف فعل<br />
)7(<br />
املعرفة العلمية ذاته، وليس يف موضوعها.<br />
اإن النظرة التشاوؤمية التي تطبع احلديث عن الصحفة<br />
ووسائل الإعام يف الكثري من مناطق العامل ل تنطبق<br />
على الصحفة ووسائل الإعام العربية، واإن كان البعض<br />
يعتقد اأنه تشاوؤم موؤجل، طاملا اأن الصحف العربية،<br />
بصفة عامة، ل تعاين، يف العقد احلايل، من تراجع<br />
كبري يف سحبها اأو تناقص موؤكد يف عدد قرائها، كما<br />
هو الصاأن يف بعض الدول الأوروبية، والوليات املتحدة<br />
الأمريكية على وجه التحديد التي اأعلنت فيها بعض<br />
املجموعات الصحفية عن اإفاسها، مثل املجموعة<br />
الصحفية »تربيون« ، Tribune التي تعد ثالث اأقوى<br />
جمموعة صحفية اأمريكية، ومتلك اثنى عشر عنوانا<br />
صحفيا، وصحيفة كريستيان ساينس مونتور Christain<br />
Rocky وروكي مونن نيوز ،Science Monitor<br />
Mountain News وغريها. اإن السبب الأبرز الكامن<br />
وراء هذا الإفاس يكمن يف تناقص عائدات اإعانها،<br />
التي ترتاوح ما بني 75 و%95. حقيقة اإن اإفاس هذه<br />
العناوين جنم عن الأزمة التي تعصف بالقتصاد<br />
العاملي، والتي دفعت العديد من املوؤسسات الناشطة<br />
يف بعض القطاعات القتصادية: السيارات، والبناء،<br />
والبنوك اإىل الإفاس اأو النكماش. لكنه يُعّد، اأيضا،<br />
نتيجة منطقية لرتاجع عدد قراء الصحف منذ اأكرث من<br />
عقدين من الزمن، لكن بوترية اأسرع لتسجل انخفاضا<br />
بلغ %7 خال الثلث الأول من السنة احلالية )8( . لذا ل<br />
جمال لاندهاش اإذا لقيت املواقع الإلكرتونية املصري<br />
املحتوم الذي لقيتهاالصحف املذكورة اإن كان دخلها<br />
يعتمد اعتمادا شبه كلي على عائدات الإعان. )9( مع<br />
فارق كبري هو اأن الصحف اليومية تخسر ما بني 20 و60<br />
يورو يف العام نظري فقدانها قارئاً واحداً، وهذا خافا<br />
للمواقع الإلكرتونية التي ل تفقد سوى يورو واحداً اأو<br />
اثنني )10( .<br />
اإذا كانت بعض القنوات التلفزيونية يف الدول<br />
املتقدمة تعاين من وهن نتيجة صراصة املنافسة<br />
والصعوبات املالية، فاإن الفضائيات العربية تعيش<br />
“عصرها الذهبي”، رغم اأن العديد منها مل يشتد<br />
عودها بعد، ومل تصل اإىل الستقرار على هوية واضحة،<br />
حلداثة انطاقاتها.<br />
اإننا نعتقد اأنه ل ميكن الجابة عن الأسئلة<br />
املطروحة اأعاه دون الأخذ مبنطق التحولت يف<br />
املنظور“Paradigm” الصحفي، الذي ما زال يف طور<br />
الصياغة حسب اعرتافات منظريه على الرغم من<br />
الشروع يف التفكري فيه منذ اأكرث من عقد من الزمن.<br />
)11(<br />
لضرورة توضيح هذا املنطق يجب اأن نربز الإطار<br />
الفلسفي والفكري لنظرية التحولت يف املنظور الصحفي<br />
journalistic Paradigm باحثني عما يعززها يف الواقع<br />
اليومي الذي عاشته وتعيشه الصحفة يف عامل اليوم،<br />
طارحني بعض النشغالت التي تساهم يف اإعادة التفكري<br />
يف مستقبل الصحفة العربية، ووسائل الإعام بصفة<br />
عامة، ضمن مقاربة خمتلفة.<br />
من الصعوبة مبكان اأن ندرك نظرية التغيري يف منظور<br />
الصحفة دون اأن نحاول اأن نعرف ما هو املنظور<br />
.Paradigm<br />
اإن املنظورParadigm هو جملة من التوجهات واملواقف،<br />
واملواضيع، والطرق التي تعتربها جمموعة من الباحثني،<br />
يف مرحلة معينة، صاحلة وموؤكدة )12( ؛ اأي اأنها طريقة<br />
شاملة لروؤية ظاهرة اأو مساألة يستعني بها الباحثون<br />
لفهمها وقراءة تطوراتها.<br />
توؤكد الروؤية الكوهينية )نسبة اإىل طوماس كوهني(<br />
اأن املنظور يشتغل بصفته منوذجاً لدى جمموعة من<br />
الباحثني يف وقت حمدد. فيحدد لهم املشكات ويقدم<br />
لهم احللول النموذجية لتوجيه بحوثهم.<br />
اأبحاث
2 0 1 1<br />
136<br />
يدرك جميع املهتمني بالعلوم اأن تاريخ املعرفة العلمية<br />
هو تاريخ تعاقب املنظورات ،Paradigms الذي يوؤكد<br />
اأنها ل تتقدم، دائما، اإىل الأمام سالكة اجتاها خطيا<br />
مستقيما، بل تتم، اأيضا، يف شكل قطيعة واستئناف<br />
متجدد. هذا اإذا اتفقنا اأن العلم ليس حلُ مة من املعارف،<br />
لكنه طريقة من املاحظة والتاأويل )13( ، وذلك لأن<br />
النقطاعات والستئنافات والقفزات يف املعرفة العلمية<br />
تاأتي يف الغالب نتيجة حتول/ جتاوز يف املنظور.<br />
لكن ملاذا يتحول املنظور؟ وكيف يتم؟<br />
اإن العلوم تعيش اأزمة تتجلى عندما تقتنع جمموعة<br />
من الباحثني باأنها يف طريق مسدود، وتُقَ دِّ رُ باأن ثقل<br />
الأحداث والظواهر والأشياء الشاذة يتجاوز املقدرة<br />
التفسريية للمنظور الذي تستخدمه )14( . ففي هذه<br />
احلالة يتم جتاوز املنظور والطعن يف اأسسه النظرية<br />
اأو الأمربيقية، واستبداله مبنظور جديد يفرتض اإعادة<br />
النظر يف التصور النظري للظواهر، ويف طرق املاحظة<br />
والقياس والتاأويل من اأجل اإعادة بناء منوذج تفسريي<br />
جديد لها.<br />
منظور الصحفة Paradigm Journalistic<br />
يقتضي تطليق النظرة الثابتة واجلاهزة للميديا.<br />
يلفت الباحثان جون شارو، وجون دوفيل انتباهنا اإىل<br />
اأن استخدام مفهوم املنظور لدراسة »امليديا« Media<br />
ليس حديثا، بل يعود اإىل نهاية الستينات من القرن<br />
املاضي، اإذ مت على يد الباحث الفرنسي Maurice<br />
Mouillaudيف مقاربته البنيوية للمواد الصحفية،<br />
حيث استعان باللسانيات واعتمد على عدتها التحليلية،<br />
مثل ثنائية الكام – اللسان، والدال واملدلول وشكل<br />
منوذجا تفسرييا للمنتج الصحفي .وقد طور ،لحقا، هذا<br />
املنهج مبعية الباحثجون فرنسوا تيتي Jean-François<br />
Tétu يف كتابهما املشرتك املوسوم: الصحيفة اليومية.<br />
)15( واستخدمت الباحثة الفرنسية مارلني كولوب غويل<br />
Marlène Coulomb-Gully مفهوم املنظور الإعامي<br />
والرتفيهي للكشف عن الطريقة التي يتم بها اإنتاج املواد<br />
الإعامية والرتفيهية. وشَ غّل شوسي فريدريك مفهوم<br />
املنظور لستجاء التغيري يف املمارسة الصحفية من<br />
خال حتليل عناوين املواد الصحفية ومقدماتها يف<br />
)16(<br />
صحافة الكيبك، كندا.<br />
يُعّرف الباحثان شارو ودو بوفيل املنظور الصحفي<br />
باأنه نظام معياري اأفرزته املمارسة القائمة على النموذج<br />
واملحاكاة، ويتشكل من املسلمات وخمططات التاأويل،<br />
والقيم والأشكال النموذجية التي تُعّد مرجعا ملجموعة<br />
من الصحفيني يُشَ خَ صُ ون بها يف سياق مكاين وزماين<br />
حمدد. ويُجددون من خالها اإنتماءهم ملجموعتهم<br />
املهنية، فتعطي مشروعية ملمارستهم. )17( ولد مفهوم<br />
)18(<br />
املنظور الصحفي من رحم البنائية الجتماعية<br />
التي شكلت، منذ صدور كتاب بيرت ل برجر Peter<br />
Thomas Luckmann لوكمات Lوتوماس Berger<br />
املوسوم “ البناء الجتماعي للواقع” يف السنة 1966،<br />
موصوع تقاطع العديد من التيارات الفكرية التي<br />
اهتمت بالجابة عن الصوؤال التايل: كيف تُبنى احلقيقة<br />
الجتماعية والظواهر الجتماعية؟ اأي كيف تنصاأ<br />
وتكتسب طابع املوؤسسة وتتحول اإىل تقليد. فاحلقيقة<br />
الجتماعية ليست معطى جاهزا، بل تُبنى وفق مسار<br />
ديناميكي، ينتج الأشخاص من خاله احلقيقة ويُعِ يدون<br />
اإنتاجها وفق تاأويلهم ومعارفهم سواء كانوا واعني بها اأو<br />
غري واعني. لكن على الرغم من اأهمية هذا التعريف<br />
اإل اأننا نعتقد اأنه ل يقبض على صلة الوصل بني نظرية<br />
تغيري املنظور الصحفي والبنائية الجتماعية، لذا ميكن<br />
القول اإن البنائية هي موقف فلسفي ينطلق من اأن الواقع<br />
ل يُعرَ ف اإل من خال فئات حمددة سابقاً. فالعامل الذي<br />
يحيط بنا يعترب، دائما، مبنياً مسبقاً، وذلك من خال<br />
سلم من الروؤى والقراءات لنظم متثّاتنا للواقع. مبعنى<br />
اأن البنائية ل توؤمن بوجود الواقع اأول ثم اإدراكه له، بل<br />
تنطلق اأول من الإدراك ثم الواقع، لأن هذا الأخري يتجلى<br />
من خال عملية اإدراكنا. وهذا ما يُفسر تباين الواقع<br />
الواحد من شخص اإىل اآخر، ومن ثقافة اإىل اأخرى.<br />
لقد انتشرت البنائية يف الثقافة الغربية، ووسمت<br />
العديد من الدراصات الجتماعية اإىل درجة اأنها<br />
اأصبحت ترمز اإىل رفض الواقع الجتماعي الذي يقدم<br />
بوصفه جملة من املسلمات والتصورات اجلاهزة التي
137<br />
2 0 1 1<br />
“تسجن” التفكري يف سياجها. وتعرب عن قطيعة مع<br />
الجتاه الوضعي، وحتولت اإىل اجتاه معريف يف العلوم<br />
الجتماعية.<br />
وتاأسيسا على هذا الفهم للبنائية، يرى منظور التطور<br />
اأن التغريات العديدة واملتشابكة التي تعيشها الصحفة<br />
ل ميكن اأن تفهم ضمن روؤية ثابتة وقارة للصحافة،<br />
والتعامل معها كاأنها معطى منتهي البناء ومنجز،<br />
وليست ظاهرة اجتماعية وثقافية وسياسية يف حالة<br />
تغيري دائم. وميكن اأن نفهم العوامل التي تتدخل يف صنع<br />
التغيري الذي يحدث يف الصحفة، بفضل هذا املنظور،<br />
ونستطيع اأن ندرك اأفق تطورها. اإن التمسك بقراءة<br />
التطورات التي تعيشها الصحفة دون استبدال املنظور<br />
، Paradigm اأي سحب ماضي الصحفة على حاضرها،<br />
يوؤدي اإىل احلكم عليها باأنها بلغت نهاية تطورها، اأواأنها<br />
تعيش بداية نهايتها دون بذل اأي جهد نظري وفكري، بل<br />
مبجرد الكتفاء ببعض املوؤشرات والوقائع، التي ل يشك<br />
اأي عاقل يف قوتها ووزنها ،لتربير هذا احلكم اأو تسويقه،<br />
كانسحاب بعض املجات والصحف من عامل الورق،<br />
والتحاقها بالعامل الفرتاضي جمسدا يف شبكة الإنرتنت،<br />
والتي قد تعود للأزمة القتصادية التي تعصف بالعامل<br />
اليوم اأكرث من التحولت التكنولوجية، مثل صحيفة<br />
ستايل بوست اإنتليجنسرIntelligencer Style Post<br />
)19(<br />
الأمريكية ،التي صدرت قبل 146 سنة بواشنطن،<br />
وجملة املجلة السعودية. اأو العرتاف بكُ تاب املدونات<br />
كصحفيني حمرتفني وقبولهم يف النقابات الصحفية يف<br />
هذه الدولة اأو تلك، اأو تعيني املدون الأمريكي Garrett<br />
Graff صحفياً معتمداً بالبيت الأبيض الأمريكي يف<br />
السنة )20( 2005 اأو استعانة وسائل الإعام الكاسيكية<br />
ببعض ما تنشره املدونات الإلكرتونية من اأخبار وصور<br />
واأشرطة فيديو ،كنشرها ملا نقله السيد هارفرد اأرون<br />
شانبهاغ، اأستاذ كلية الطب يف جامعة هارفرد، عن<br />
الهجوم املسلح على تاج حمل بالهند يوم 26 تشرين<br />
الأول، 2008م، الذي لعب تويرتTwiter دورا بارزا يف<br />
رواجها )21( ، وغريها من الوقائع والأحداث التي فتحت<br />
شهية احلديث الذي يبشر باأنه باإمكان اأي شخص اأن<br />
يصبح صحفيا، ليس بفضل املدونات الإلكرتونية فقط،<br />
بل بفضل تزايد عدد املوؤسسات املختلفة التي اأصبحت<br />
تنتج الأخبار والتقارير عن الأحداث الآنية التي تطراأ يف<br />
العامل، والتي يساهم يف حتريرها اأشخاص مل ميتهنوا<br />
العمل الصحفي من قبل.<br />
اإذن، اإن احلكم على عامل الصحفة كشيء ثابت وقار<br />
ومنجز يجانب احلقيقة. هذا ما يثبته الفرق الصارخ<br />
بني املنشورات املتواضعة التي ظهرت يف املنتصف الثاين<br />
من القرن اخلامس عشر يف اأوروبا، والتي كانت تتسم<br />
بصدورها غري املنتظم، وصحافة القرن السابع عشر<br />
التي عرفت النتظام يف الصدور )شهرية( وحاولت اأن<br />
تلبي حاجات القراء املعرفية والإعامية. ول يستطيع اأن<br />
يغطي الفرق الواضح بني صحافة القرن التاسع عشر،<br />
الذي يعد العصر الذهبي للصحافة، وصحافة مطلع<br />
القرن احلادي والعشرين التي تعيش تغيريا شاما يف<br />
شكلها ومضمونها ووسائل نشرها.<br />
اإن العمل الصحفي مل يكن، اأبدا، نشاطا مغلقا على<br />
ذاته وكامل التطور، ول نشاطا متجانسا كما تصوره<br />
النظرة التعميمية والا تاريخية لوسائل الإعام. كما<br />
اأن تطوره مل يكن خطيا.<br />
اإن عدم جتانس تطور الصحفة تعرب عنه اأشكال<br />
الكتابة الصحفية. فغني عن القول اأن املمارسة الصحفية<br />
ارتبطت باملمارسة الأدبية سواء يف الدول الغربية اأو<br />
العربية. فكتابة اخلرب الصحفي يف الصحفة العربية،<br />
على سبيل املثال، مل تفلت من السجع والقول املقفى<br />
اإل يف 1909 فقط. )22( ويعتقد اأن الأنواع الصحفية التي<br />
توصف باأنها تعبريية حافظت على اخلصائص الأدبية،<br />
فاأخذت منها املجاز والصور اجلمالية والباغية من اأجل<br />
اإبراز العاقات الإنسانية عرب الأحداث والوقائع للكشف<br />
عن ما هو شخصي اأو فردي وحتويله اإىل « اأمنوذج«.<br />
اإن الأنواع الصحفية مل تظهر كلها دفعة واحدة<br />
يف كل الدول، وتعم كل العناوين، بصرف النظر عن<br />
التضاريس اجلغرافية والجتماعية التي نبتت فيها. لقد<br />
مت تبنيها بشكل تدريجي، وتطورت يف خضم استخدامها<br />
املتجدّ د، وتنوعت بفعل العديد من العوامل، منها:<br />
اأبحاث
2 0 1 1<br />
138<br />
التقاليد الجتماعية والثقافية، واملتغريات التقنية،<br />
وطبيعة اجلمهور الدميغرافية والنفسية واإرثه التصايل.<br />
فالرببورتاج الصحفي، على سبيل املثال، ولد خال<br />
الفرتة املمتدة من 1865 اإىل 1918 يف املنطقة الأجنلو<br />
سكسونية، و امتد استعماله، تدريجيا، ليشمل العديد من<br />
الدول، بيد اأنه ل يزال غريب الدار يف بعض الفضاءات<br />
الأكادميية واملهنية. وقد اأضطرت الصحفة املكتوبة،<br />
بعد انتشار الذاعة والتلفزيون، اإىل التخلي عن اأحد<br />
الأنواع الصحفية التي ساهمت يف ترسيخ وفاء القراء<br />
لها، واملتمثل يف « الفيتون« Feuilleton الذي انتقل اإىل<br />
التلفزيون اجلامع اأو العام ليشكل احلجر الأساس يف<br />
بناء شبكته الرباجمية.<br />
والواقع اأن البنية القتصادية للصحافة مل تظل على<br />
ما كانت عليه يف القرن التاسع عشر. فبعد العتماد<br />
على عائدات املبيعات فقط، ظهرت الصحيفة التي<br />
تعتمد على عائدات املبيعات وخمتلف اإعانات السلطات<br />
العمومية، وكذا عائدات الإعانات، ثم الصحيفة التي<br />
تعتمد على عائدات الإعانات فقط، ويُطلق عليها<br />
تسمية: »الصحفة املجانية«، التي ظهرت يف شمال<br />
اأوروبا يف السنة 1995 وبداأت تزحف نحو العديد من<br />
مناطق العامل مبا فيها الدول العربية: املغرب، ومصر،<br />
والإمارات العربية املتحدة، والسودان. اإن هذه العناصر<br />
الستطرادية توؤكد اأن الصحفة تتميز بتاريخ ثري<br />
ومتنوع، ومتجدّ د، اأي اأنه غري معياري، واخرتاع جماعي<br />
)23(<br />
دائم ومتجدّ د.<br />
كما اأن وظيفة الصحيفة قد تغريت هي الأخرى.<br />
فبعد صحافة الراأي التي اتسمت بطابعها النخبوي،<br />
وانخراطها النشيط يف تاأطري الصراع الفكري<br />
والسياسي النابع من قناعتها باإمكانية املساهمة يف<br />
تغيري العامل، ظهرت الصحفة الإخبارية، التي تعترب<br />
اأكرث جماهريية من صحافة الراأي، لرتكز على الأحداث<br />
اأكرث من الآراء والأفكار اإميانا منها باأن مهمتها تقف<br />
عند وصف العامل ونقل اأحداثه بدل تغيريه. وعلى هذا<br />
الأساس تغريت اخلصوصية املهنية والثقافية للصحافة.<br />
فبعد سيطرة الكتاب واملثقفني ورجال السياسة على<br />
صحافة الراأي، شرعت الصحف الشعبية يف اإعادة<br />
هيكلة مهنة الصحفة، واأولت الهتمام للجانب احلريف<br />
واملهني الذي بداأ يتحدد اأكرث سواء على مستوى تصنيف<br />
مناصب العمل داخل قاعة التحرير، اأو تفضيل العمل<br />
امليداين. هكذا انفتحت الصحفة على الفئات الوسطى<br />
والشعبية وبداأت تنقل تفاصيل احلياة واإن كانت تركز<br />
على ما هو شاذ وغرائبي واإثاري. اإن هذه التغريات<br />
مل تتم دون توترات اجتماعية ومهنية داخل املوؤسسة<br />
الإعامية وخارجها، لعل اأبرزها تلك التي وصفت باأنها<br />
»اأزمة احلداثة املنتظمة« يف القرن التاسع عشر والتي<br />
صادفت اجلهود املبذولة من اأجل متهني الصحفيني يف<br />
)24(<br />
وقت تطورت فيه الصحفة الشعبية الصاعدة.<br />
ربط اخلطاب العلمي عن وسائل الإعام تطورها،<br />
يف دول اأوروبا الغربية واأمريكا، بالأزمة، منذ السبعينات<br />
من القرن املاضي. لقد حاول شوسي فريدريك اأن<br />
يستجلى اأعراضها يف استعراضه ملواقف بعض الكتاب<br />
وروؤيتهم لتطور وسائل الإعام، حيث بنيّ اأن هذا<br />
التطور هو عبارة عن تراجع للإعام الكوين حسب ولنت<br />
،)Wolton) وهيمنة سرطان الستعراض والتمشهد<br />
حسب بوشن ،)Beauchamp( والامعرفة حسب<br />
ما ذهبت اإليه كولوب غويل )Coulomb-Gully)<br />
نتيجة انصراف املوؤسسة الإعامية اإىل الرتفيه على<br />
حساب الإعام واملعرفة، وابتاع الصحفة من طرف<br />
التصال بعد ربط مصريها بالإعان حسب لفوان<br />
.)Lavoinne(<br />
لعل الستنتاج باأن وسائل التصال اجلماهريي<br />
قد انزلقت بنشاطها نحو التصال يعد املفتاح الأساس<br />
لفهم تطور وسائل الإعام، ليس لأن العديد من الكتاب<br />
واملختصني تناوبوا على تقدمي احلجج والرباهني<br />
التي توؤكد صحته فقط، بل لأنه انتج مفهوم »صحافة<br />
التصال« )25( الذي يلخص التغري احلاصل يف دور وسائل<br />
الإعام و اأسس ممارستها، ويغطى جملة من الوقائع،<br />
منها: تفهم الصحفيني املتزايد لأهداف املوؤسسة<br />
الصحفية، وتاأثر الكتابة الصحفية املتزايد بالكتابة<br />
الإعانية، وتصاعد التخصص يف العمل الصحفي
139<br />
2 0 1 1<br />
ليتمكن من التموقع يف السوق الإعاين، والتداخل بني<br />
مفهومي التصال والإعام، و تذّ ويت )اأي اإعطائه طابعا<br />
ذاتيا( العمل الصحفي اأكرث فاأكرث...<br />
وميكن القول، من باب التلخيص، اإن من يتابع<br />
مسرية الصحفة على مدار القرون الأربعة السالفة<br />
ياحظ باأنها خضعت للتغيري »العادي«، على حد تعبري<br />
شارو )26( ؛ هذا رغم الختاف يف توصيفه اأو تشخيصه.<br />
اإذن، ما هو التغيري »غري العادي« الذي طراأ على<br />
الصحفة يف مطلع الألفية احلالية واأدى اإىل تاأبينها؟<br />
للإجابة عن هذا الصوؤال ميكن القول اإن شبكة<br />
الإنرتنت، طرحت وتطرح، مبا اأتاحته من ممارسات على<br />
صعيد التصال الجتماعي ويف عامل الإعام، الصوؤال<br />
حول الشرعية املهنية للصحافة. الكل يعلم اأن الصحفة<br />
مل توؤسس شرعيتها التاريخية على الإعام والتثقيف<br />
فقط، بل على قيم ومُ ثل كربى، كاملوضوعية، واإستجاء<br />
احلقيقة. وقد استخدمت يف ذلك جملة من التدابري<br />
الإجرائية والجتماعية والسياسية، مثل: الفصل بني<br />
احلدث والراأي، وتعددية املصادر الإعامية، وترسيخ<br />
التعددية الإعامية وحمايتها سياسيا وقانونيا.<br />
لقد كشف تطور وسائل الإعام خال العقدين<br />
الأخريين تاآكل الشرعية املهنية املذكورة. فعلى الرغم<br />
من اأن القراءة الفلسفية املتجددة ملاهية املوضوعية<br />
بالعتماد على ما توصلت اإليه نظرية بناء الواقع<br />
الجتماعي، التي توؤكد وجود املوضوعية من خال<br />
التمييز بني ما هو ابستمولوجي وانطولوجي، )27( فاإن<br />
العديد من العوامل املتفاعلة تفصح عن صعوبة وجودها<br />
يف جمال الصحفة، نذكر منها العامل اليديولوجي،<br />
والقتصادي، والتنظيمي، والتقني، والتحريري. كما<br />
اأن احلقيقة مل تعد ضالة املوؤسسات الإعامية، وذلك<br />
نتيجة جملة من التغيريات البنيوية يف العمل الصحفي<br />
املوؤسساتي. كما اأن تعدد وسائل الإعام مل يصبح<br />
مرادفا للتعددية بعد اأن سقطت العديد من احلواجز<br />
اأمام متركز املوؤسسات الإعامية واحتكارها بفعل ضغط<br />
اقتصاد السوق. وتعددية مصادر الأخبار تقلصت بفعل<br />
المتثال والتماثل الذي ازدادت وطاأته يف العامل. وحرية<br />
الفكر والتعبري داخل قاعات التحرير الصحفي تقلصت<br />
بفعل هشاشة وضع الصحفيني القتصادي. والأنواع<br />
الصحفية الستقصائية تراجعت اأمام تزايد مواد<br />
الرتفيه والتسلية.<br />
لو ابتعدنا عن اجلانب الشكلي، وحاولنا القرتاب<br />
من الختاف بني الصحفة واملدونات من منظورين<br />
متكاملني، وهما املنظور السيميائي والسوسيولوجي،<br />
لوجدنا اأن هذه الختافات ميكن اأن تختصر يف العناصر<br />
التالية: املُتلفِّظ ،Enonciateur- enunciator امللفوظات<br />
situation ووضعية التلفُّظ Énoncés - utterances<br />
،situation d’énonciation- of enunciation التي<br />
تشمل الوضعية التي يتم فيها التصال، واملتحدث وملن<br />
يتحدث، والهدف من التحدث، وشكل التصال؛ اأي هل<br />
تتزامن عملية التلفظ و التلقي، اأو تتعاقبان من خال<br />
تاأجيل التلقي لبعض الوقت؟<br />
اإن املدونة حتيلنا اإىل الرغبة يف اإشراك الغري يف<br />
مساحة التعبري التي منلكها، والتي تعرب من خالها<br />
بكل »حرية«. وهذه الرغبة يف اإمكانية التعبري عن<br />
املشاعر والأفكار وبثها اأو تبادلها مع الآخر، تشكل<br />
مركز قوة املُدوّنة، ومبنى الأسطورة التي رُوجت ملستقبل<br />
الإنرتنت.<br />
اإن املُتلفِّ ظ يف الصحيفة الورقية هو الصحفي اأو<br />
املوؤسسة الإعامية التي تنتج خطابا وفق عاقة تعاقدية<br />
مع القارئ. فاملتلفظ ينمحي يف امللفوظات وذلك لأن<br />
منط التصال يتسم بعموديته. فالعاقة التي يقيمها<br />
القارئ مع املُتلفِّ ظ تتم عرب امللفوظات، حتى يف العمود<br />
الصحفي، الذي يتميز، بهذا القدر اأو ذاك، بحضور<br />
شخصية كاتبه. بينما املُتلفِّ ظ يف املُدونة يتجّ لى عرب<br />
عدة مستويات، اأولها املُدوّن الذي ينتج خطابا شديد<br />
اللتصاق به لأنه يشكل مادته اأو يتوسله لستعراض<br />
ذاتيته. فبصمات املُتلفِّ ظ تبدو جَ لِيَّةً حتى يف املدونات<br />
ذات الطابع السياسي، وهذا من خال استعمال ضمري<br />
املتكلم اأو استعراض التجارب الشخصية اأو التعبري<br />
الصريح على اأنها وجهات نظره. فاملهم يف املُدوّنات،<br />
ليس دائما امللفوظات، اأي مضمون ما يُقال، لكن طريقة<br />
اأبحاث
2 0 1 1<br />
140<br />
القول. لذا يعتقد بعض الصحفيني اأن القراء اأصبحوا<br />
يفضلون الذاتية والنحياز املجهور به يف املدونات عن<br />
املوضوعية املزيفة والنزاهة املنافقة التي تتحلى بها<br />
بعض الصحف )28( .<br />
ثانيها اأن املُتلفِّ ظ، ل ياأخذ، دائما، صيغة املفرد،<br />
بل ميكن اأن يشمل، اأيضا، كل الذين ساهموا يف جعل<br />
التصال دائريا، من خال مساهمتهم بالراأي اأو<br />
املعلومات اأو احلوار واملناقشة التي تتضمنها تعليقاتهم<br />
املنشورة يف املُدوّنات. وهنا يكمن التجديد يف السرد،<br />
والبناء النصي للمدونة: فالسرد ل ياأخذ، دائما، اجتاها<br />
تصاعديا، بل يسجل وقفاته واستئنافاته التي قد<br />
يثريها احلوار، مما يدفع املتلفظ اإىل اجلمع بني السرد<br />
واخلطاب وفق التعريفات التي يقدمها السيميائيون<br />
لهما، هذا يف ظل تعدّ دية املُتلفِ ظني التي توؤدي اإىل<br />
متفصات النص وتنوع بنيته.<br />
تسمح املدونات ببناء الذات اأو تشكيل الهُ وّية يف<br />
اإطار اإقامة شبكة من العاقات )29( ، عرب امللفوظات التي<br />
تُعّد، يف اآخر املطاف، ثمرة نشاط تشاركي، يساهم فيه<br />
اأشخاص مزدوجو الهواية، اإذ اإنهم كُ تاب وقُراء يف اآن<br />
واحد. مبعنى اأن املتلقي هو، اأيضا، منتج يف املدونة.<br />
لقد بينت مقربة املُدونات يف العديد من الدول اأن<br />
مُ ستقبَل املُدونة يتوقف على مقدرة املُدوّن على متابعة<br />
ما يُنشر يف بقية املدونات، وعلى ربط مُ دوّنته باملصادر<br />
اجلديدة. فقراء املُدوّنات هم املُدوّنون ذاتهم، ومن<br />
دونهم ل وجود للمدونات. فما معنى الفضاء التدويني<br />
اإذا مل يكن هذا التدفق الدائري الذي يجعل من متابعة<br />
بقية املدونات شرطا اأساسيا لإنتاج اأي مدونة«؟ )30( هذا<br />
ما تعرب عنه جملة من املفاهيم التي تبدو ذات طابع<br />
تقني حمض، لكن امتدادها التطبيقي يعطيها حمتوى<br />
اجتماعيا وثقافيا، مثل: Blogroll الذي يعني قائمة<br />
الوصات الإلكرتونية اخلارجية املدجمة يف صفحات<br />
املدونة والتي تظهر، غالبا، يف الصفحة الرئيسة اأو<br />
صفحة البداية ،Home page والتي حتيل اإىل مدونات<br />
اأخرى حتدد “ اإقليم” املجموعة الفرعية التي تشكلها<br />
و - Ping نص قصري- يتمثل<br />
)31(<br />
املدونات الصديقة.<br />
يف اإرسال اإشارة نحو مواقع اإلكرتونية اأو مدونات اأخرى،<br />
مبجرد نشر مادة جديدة. )32( و Trackback الروابط<br />
التّعقبية، وهي بروتوكول يسمح ملواقع الويب بالتواصل<br />
بني بعضها البعض، بشكل اآيل، ويستعمل يف املدونات<br />
لإشعار املدونني باأن هناك اإدراجاً جديداً يف املدونة<br />
يهمهم، ويستفيد منه املدونون ملتابعة اأثار ما ينشر عنهم<br />
يف مواقع اأخرى يف الويب.<br />
وتختلف وضعية التلفظ يف املدونات عن الصحفة<br />
الورقية، ويرتتب عنها تباين يف مسالك اإعادة اإنتاج<br />
الرابط الجتماعي، التي تتمحور فيها الصحفة املكتوبة<br />
لرتسخ القواعد واملعايري الجتماعية التي تسعى<br />
اإىل توحيد الأشخاص واملجموعة البشرية املختلفة<br />
واندماجها، يف حني ترتكز هذه الوضعية يف املُدونة حول<br />
تعزيز الهوية الشخصية والجتماعية عرب عملية التبادل<br />
الرمزي بني املُدونني.<br />
اإن التعبري عن الذات، والإفصاح عن الراأي<br />
اخلاص هما حق مضمون يف النظام الدميقراطي. لكن<br />
هذا احلق يصبح اأكرث تعقيدا ومفخخا يف املدونات<br />
الإلكرتونية )33( ، حيث ميكن اأن يوؤدي اإىل نوع من<br />
الرتاجع عن املنجز الدميقراطي الكبري املتمثل يف<br />
تعزيز ما هو عام ومشرتك، الذي رسخته الصحفة عرب<br />
مسريتها الطويلة من خال « الإعام العمومي«، والذي<br />
يسمح بتداول واسع للأفكار والآراء املختلفة واملتعارضة<br />
ومناقشتها، بشكل علني. فالصحفي يضطلع مبهمة<br />
جتميع القراء حول الأحداث، والأخبار والآراء التي<br />
يجمعها، وينتقيها ويرتبها وفق متطلبات مهنية تساهم<br />
يف صناعتها اعتبارات اأدبية واأخاقية. يف حني يعمل<br />
الفضاء التدويني، على تفتيت الفضاء العمومي، ليصبح<br />
جمموعة من الفضاءات اخلاصة باملجموعات البشرية<br />
،Communities هذا اإضافة اإىل اأن بعض املدونات<br />
تتغذى على النزعة الرنجسية التي تنمو بني مفاصل ما<br />
هو ذاتي وحميمي؛ اأي فيما هو خاص. هذا مع الإشارة<br />
اإىل اأن مفهوم »الإعام العمومي« يف املنطقة العربية<br />
بحاجة اإىل مراجعة وتفكري، خاصة بعد اأن حتزبت<br />
بعض وسائل الإعام الكاسيكية، وتخصخصت وسائل
141<br />
2 0 1 1<br />
الإعام الرسمية، اأي اأنها اأصبحت مبثابة ملكية خاصة<br />
يف يد جمموعة متنفذة يف السلطة، تتحدث عنها ولها<br />
اأكرث مما تتحدث عن املجتمع ولكل مكوناته.<br />
اإننا نعتقد اأن هناك عدة مستويات ملا نطلق عليه<br />
باخلصوصية، Privacy يف عاقتها بالعلن. فهناك<br />
مستوى اخلاص الذي ل يتعدى احلدود الضيقة التي<br />
تفرضها قصديته: مثل: املكاملات الهاتفية بني شخصني،<br />
اأو »الرسائل النصية القصرية« املتداولة بني شخصني اأو<br />
اأكرث. وهناك القضايا الشخصية واحلميمية التي تخرج<br />
اإىل العلن وتنشر يف املُدوّنات، وميكن لأي شخص عادي<br />
اأن يطلع عليها، وحتى التفاعل معها عرب اإبداء الراأي اأو<br />
الإعجاب اأو املواساة.<br />
ومن الصعب اأن نضع كل املُدوّنات يف سلة واحدة لأنها<br />
غري متجانسة يف مواضيعها ومراميها املعلن عنها، وتلك<br />
املنجزة. فهناك املُدوّنات ذات الطابع السياسي التي<br />
تروم فتح النقاش وتعميم الأفكار والآراء والنطباعات،<br />
ودعوة الغري لتبادلها، والتي تعدل وتصحح وتنضج من<br />
خال النقاش، وهناك املُدوّنات ذات الطابع الرتويجي<br />
للسلع واخلدمات والتي تتاأرجح بني الإعام عنها، ورفع<br />
درجة اإغرائها خللق حوافز لقتنائها اأو الستفادة منها.<br />
وهناك مُ دوّنات« وحدانية« )34( ، ل حتظى برواج كبري<br />
من قبل املدونني والزوار. وهدف صاحبها ل يكمن يف<br />
رفع عدد املطلعني عليها بقدر ما يسعى اإىل التنفيس<br />
عن الذات بسرد املشاكل احلميمية التي توؤرقه، اأو كتابة<br />
خواطر اأو حماولت اأدبية. فعاقة هذه املدونات بالعلن،<br />
اأو الهدف من خروجها للعلن، تختلف يف طبيعتها عن<br />
املفهوم الشائع عن العاقة العضوية بني العلن والفضاء<br />
العمومي، وحمتواها واأهدافها.<br />
ليست املُدوّنات وحدها هي التي اأقحمت القضايا<br />
احلميمية يف الفضاء العمومي، بل اإن وسائل الإعام<br />
الأخرى قد سبقتها اإىل ذلك، بدءا بالصحف اليومية<br />
واملجات التي كانت تخصص صفحات كاملة لنشر<br />
القضايا اخلاصة واحلميمية، التي يروم اأصحابها<br />
النصيحة من القراء اأو املختصني يف علم النفس،<br />
وصول اإىل برامج تلفزيون الواقع التي حولت »احلياة<br />
اخلاصة واحلميمية« لبعض الأشخاص اإىل مادة للفرجة<br />
والرتفيه. هذا من جهة، ومن جهة اأخرى، فاإن التفكري<br />
يف العاقة بني الفضاء العام ووسائل الإعام احلديثة،<br />
يتطلب اإعادة النظر يف الروؤية الأحادية واملركزية للفضاء<br />
العام الذي يثمن البعد اجلدايل والعقاين، ويُبعد ما هو<br />
)35(<br />
عاطفي وحميمي من مملكته.<br />
ولكي نفهم معنى احلضور املكثف للحياة اخلاصة<br />
واحلميمية يف الفضاء العمومي بفضل وسائل الإعام<br />
املختلفة، وليس فقط املدونات اأو اأدوات ما يطلق عليه<br />
تسمية »الإعام اجلديد« ميكن الستعانة مبفهوم<br />
»الرقابة« الذي طرحه الفيلسوف ميشال فوكو، الذي<br />
اكتشف مبوجبه باأن الرقابة اأصبحت ل متارس من طرف<br />
سلطة مركزية وموحدة، بل اكتست طابعا لمركزيا،<br />
فوُجدت حيث ل يُنتظر وجودها. ليس هذا فحسب، بل اإن<br />
املُراقَ بني اأصبحوا هم ذاتهم يبتهجون بتقدمي املعلومات<br />
عنهم مبا فيها احلميمة، فيضمن الستمرارية لفعل<br />
املراقبة بالنيابة الواعية اأو الاواعية وتغلغلها يف النسيج<br />
الجتماعي، مما يساهم يف تنظيم احلياة الجتماعية.<br />
فهل ميكن للأخ الأكرب ،Big Brother الذي تنباأ به جورج<br />
اأورويل George Orwell يف روايته املوسومة 1984،<br />
اأن يسرتيح الآن، ليس لأن التكنولوجيا اقتصدت نشاطه<br />
وجهده، بل لأن الناس اأصبحوا يتسابقون، عن طواعية،<br />
للبوح مبا يف صدورهم، ناهيك عما ظهر من سلوكهم<br />
وتصرفاتهم؟<br />
املدونات ووسائل االإعالم: تقارب اإىل حد االحتواء<br />
خلص اأحد الإنرتنتيني فكرته عن احلوار الدائر<br />
حول تاأثري املدونات الإلكرتونية يف وسائل الإعام يف<br />
اجلملة التالية: اإن الأمر يشبه اإىل حد ما كما لو اأننا<br />
تساءلنا، قبل خمسة قرون، هل تخلق املطبعة شكا<br />
جديدا من الأدب؟ )36( اإن هذه الفكرة تنبهنا اإىل اأن<br />
املدونة ليست سوى تقنية، ول ميكن اأن تعوض الكاتب<br />
اأو القارئ. حقيقة اإن املطبعة مل تنتج اأدبا خاصا بها،<br />
بيد اأنه ل ميكن اأن ننكر باأنها اأسهمت يف اإحداث<br />
ديناميكية اجتماعية وثقافية يف اأوروبا اأدت اإىل تعزيز<br />
منط التصال املكتوب، وزيادة انتشار الأدب وجددته،<br />
اأبحاث
2 0 1 1<br />
142<br />
وحررت التفكري، وساهمت يف نشر التعليم، والثقافة<br />
والفكر، واملعرفة بصفة عامة.<br />
اإن املدونات الإلكرتونية مل تولد من العدم، اأي من<br />
فراغ يف الكتابة، بل اإنها ارتكزت على ما هو مكتسب<br />
وراسخ يف منط التصال املكتوب. فتحليل كتابة املدونات<br />
الإلكرتونية يكشف عن قواسمها املشرتكة مع كتابة<br />
الريبورتاج، و املقالت والفتتاحيات الصحفية، والأعمدة<br />
الصحفية. )37( واملُدوّنات بتلقائيتها يف القول طورت<br />
بعض اأشكال الكتابة لتتحول اإىل »اأمنوذج« ميارس، بهذا<br />
القدر اأو ذاك، تاأثريه يف الكتابة الصحفية، وفق الصيغ<br />
التالية:<br />
اأ- اأسلوب الكتابة: اإن النزاعات املسلحة يف العديد<br />
من مناطق العامل، وتوتر العاقات الجتماعية داخل<br />
العديد من الدول، وتعدد مصادر املعلومات والآراء،<br />
كلها عوامل ساهمت يف الكشف عن حمدودية اأو مكر<br />
مفهوم موضوعية الصحفة الذي وجد رواجا يف احلرب<br />
الباردة، وحتول اإىل حجة دامغة يف يد الأنظمة الليربالية<br />
للهجوم على »اأعداء حرية الإعام«. لقد كانت الصحفة<br />
يف العديد من الدول الغربية، تتباهي، قبل نهاية<br />
القرن املاضي، مبصوؤوليتها الجتماعية التي اأجربتها<br />
على اللتزام بقدر من املوضوعية يف صياغة الأخبار<br />
ومعاجلة الأحداث و حتليل الآراء باأسلوب حمايد وغري<br />
شخصي يطهر الكتابة الصحفية من كل بعد ذاتي )38( .<br />
ولكننا ناحظ اليوم اأن الصحفيني يتسابقون من اأجل<br />
اإبراز ذاتيتهم فيما يكتبون، ويسعون اإىل تذويت الواقع<br />
الجتماعي – حتويله اإىل ذاتي- مما يوحي باأن الذّ اتية<br />
مل تعد تطبع بعض الكتابات الصحفية فقط، بل اأضحت<br />
وسيلة تضفي شرعية على العمل الصحفي، وتعزز<br />
مهنيته. وهذا ما ميكن اأن ناحظه حتى يف الصحفة<br />
العربية. فمن يتابع كتابات صحيفة »القدس العربي«،<br />
على سبيل املثال، ل يكتشف السقاطات الذاتية التي<br />
تُبنى للمجهول فقط، بل يتاأكد باأن بعض الصحفيني<br />
يقحمون ذواتهم فيما يكتبون، ويتحدثون للقارئ<br />
بضمري املتكلم، ويستثمرون اللغة العامية والقول املاأثور<br />
املستخرج من املخزون الشفهي يف بعض الدول العربية.<br />
كما اأن ما يكتبونه ل يتميز بتماسكه النابع من وحدة<br />
املوضوع, لأن مادتهم اأصبحت متفرعة وموزعة على<br />
اأكرث من موضوع دون رابط يربطها، وكاأنها مادة للنشر<br />
)39(<br />
يف مدونة اإلكرتونية.<br />
وقد بلغ التفاعل بني كتابة بعض الصحف واملدونات<br />
درجة اأن البعض يعتقد اأن الصحيفة الفرنسية<br />
Libération« « اأصبحت تقرتب يف كتابتها من املدونة<br />
الإلكرتونية، بعد اأن غادرها العديد من الصحفيني<br />
)40(<br />
لإنشاء صحيفة اإلكرتونية سميت .Rue89<br />
ب- قالب الكتابة: لقد اصتعارت الكثري من<br />
الصحف قالب القائمة، اخلاص بالفضاء التدويني،<br />
الذي يستخدم من اأجل الإيجاز يف الكتابة، و اإبراز ما<br />
هو اأساسي، والتجاوب مع السرعة التي طبعت العصر<br />
واأثرت يف اإيقاع القراءة يف املجتمعات املعاصرة.<br />
فالقارئ اأصبح مييل لقراءة ما هو خمتصر، ويتجه<br />
راأسا ملا هو اأساسي يف املادة الصحفية. وهذا ما يوفره<br />
قالب القائمة )41( ، لأنه يتمثل يف تلخيص موضوع املادة<br />
التصالية اأو الإعامية يف شكل نقاط مرقمة، مثل:<br />
الأزمة القتصادية العاملية يف عشر اأفكار اأو عشر نقاط،<br />
وميكن تشبيك كل فكرة بوصلة اإلكرتونية خارجية<br />
حتقق غرض كل من يرغب يف الطاع على املزيد من<br />
املعلومات حول املوضوع. وحتيل هذه الوصلة اإىل مادة<br />
متعددة الوسائط: حماضرة يف شريط فيديو، اأو نص<br />
مكتوب، اأو نص تشريعي.<br />
ج- ترتيب االأخبار: اإن العديد من املواقع<br />
الإلكرتونية للصحف اأصبحت تدمج يف موقعها ما يسمى<br />
»stream« الأخبار، اأي سيل الأخبار التي ل تُرتب وفق<br />
التقاليد الصحفية املتعارف عليها، بل حسب منطق<br />
الفضاء التدويني، اأي الرتتيب التنازيل: من الأحدث<br />
اإىل الأقدم، مبعنى اأن الأخبار التي تظهر يف الصفحة<br />
الأوىل هي اآخِ ر الأخبار التي وصلت اإىل الصحيفة،<br />
وليس بالضرورة اأهم الأخبار، كما عودتنا على ذلك<br />
وسائل الإعام الكاسيكية.<br />
د- االأخبار التي تخلق منتديات: بالستفادة<br />
من املدونات الإلكرتونية استطاعت الكثري من املواقع
143<br />
2 0 1 1<br />
الإلكرتونية لوسائل الإعام اأن تنطلق من خرب اأو راأي<br />
لتجمع اأكرب عدد من الآراء والكتابات، وتتخطى عتبة املادة<br />
الصحفية لتتحول اإىل فضاء للنقاش. والكثري من القراء<br />
يوؤكدون اأن التعليقات على املواد الصحفية، تكون يف الغالب،<br />
ذات اأهمية اأكرب، من املادة. وهكذا بداأت الصحفة تنتقل<br />
من صحافة اخلطاب اإىل صحافة احلوار.<br />
والواقع اأن العاقة بني املدونات والصحف ل ميكن<br />
حصرها يف بعض اأشكال التعبري التي تبنتها الصحفة،<br />
بل ميكن النظر اإليها من زاوية تكاملية يفصح عنها<br />
اندماج املدونات يف املوؤسسة الإعامية. و تزايد عدد<br />
املوؤسسات الإعامية التي فتحت اأبوابها للمدونات<br />
الإلكرتونية، ووظفتها ضمن روؤى خمتلفة؛ اأي اأن بعضها<br />
اأعتربها اأداة ميكن استغالها، ظرفيا، لتوسيع صيت<br />
الوسيلة الإعامية، وبعضها الأخر تعامل معها بصفتها<br />
اسرتاتيجية مستقبلية ترسم متوقع الوسيلة الإعامية<br />
»الكاسيكية« يف املشهد الإعامي املستقبلي، اأو ترافع<br />
للتحرر من الصفة الكاسيكية التي لزمتها. وهذا ما<br />
يتجلى عرب استقراء املقاصد التي تفصح عنها استعانة<br />
املوؤسسات الإعامية باملدونات الإلكرتونية، والتي<br />
نختصرها فيما يلي )42( :<br />
تقدمي خدمات مضافة للجمهور (خدمات اإخبارية<br />
واإعامية، وفتح اأبواب احلوار حول القضايا التي تثريها<br />
املوؤسسة الإعامية اإذا كانت هي التي تصدر مدوناتها(،<br />
اأو تقدمي خدمة تقنية للجمهور من خال توفري منصة<br />
تسمح له باإنشاء مدوناته الإلكرتونية.<br />
•اإثراء الإعام، والقرتاب، اأكرث، من هواجس<br />
اجلمهور وانشغالته وميولته وذوقه. واإحداث التزاوج يف<br />
اأشكال تلفظ الوسيلة الإعامية: الإعام واحلوار الذي<br />
يُعيد صياغة العاقة مع اجلمهور من خال الستمرار<br />
يف التوسع الأفقي، والشروع يف بناء عاقات شبكية<br />
ترفدها اجلماعات املختلفة .Communities<br />
•حماولة منح مهنة الصحفة الشفافية املفقودة،<br />
حيث تستعمل املدونات الإلكرتونية لسرد التفاصيل<br />
املتعلقة ب “كواليس” العمل الصحفي، وتفسري<br />
خلفيات التحقيقات الصحفية، وبث املعلومات ذات<br />
الصلة باحلقائق التي قادت اإىل اإجناز هذا التحقيق<br />
الصحفي اأو ذاك احلوار، ونشر اإسقاطات الريبورتاج<br />
الصحفي التي ل تستوعبها بنية هذا النوع الصحفي،<br />
اأو الستفاضة يف حتليل بعض ما تنشره اأو تبثه الوسيلة<br />
الإعامية من خال وجهة نظر الكاتب وفق ما تقتضيه<br />
خصوصية املُدوّنة.<br />
وميكن القرتاب من هذه السرتاتيجية التي تبنتها<br />
وسائل الإعام عرب حصر اأشكال املدونات الإلكرتونية<br />
التي وجدت مكانتها يف املواقع الإلكرتونية لوسائل<br />
الإعام الكاسيكية، وقد رُصدت يف شكلها الفيزيائي<br />
)43(<br />
والجتماعي وفق الصيغ التالية:<br />
اأ- الشكل املغلق: تعرب عنه املدونات الإلكرتونية<br />
التي تصدرها مواقع وسائل الإعام يف شبكة الإنرتنت،<br />
ويحررها الصحفيون واخلرباء وبعض ضيوف قاعات<br />
التحرير املتميزون. فوسائل الإعام التي تستخدم هذه<br />
املدونات تقدم عربها مادة اإعامية مضافة اأو مكملة<br />
للمادة التحريرية “الرسمية”. لكنها ل تقرتح على<br />
الإنرتنتيني اإنشاء مدونات يف موقعها الإلكرتوين. وبهذا<br />
فاإنها تخضع ملنطق صك ماركة للوسيلة الإعامية التي<br />
تروج لها اأكرث من تقدمي خدمة للقراء. وميكن اأن نذكر<br />
يف هذا املقام، على سبيل املثال، صحيفة Le Figaro<br />
الفرنسية، التي تقرتح 17 مدونة اإلكرتونية لصحافييها.<br />
وصحيفة Libération الفرنسية، التي تقرتح 51 مدونة،<br />
17 منها خاصة بصحفييها، والبقية، اأي 34 مدونة،<br />
وضعت حتت تصرف ضيوفها. اأما موقع اإذاعة France<br />
Inter فقد اأنصاأت 22 مدونة، وضعت ربعها حتت تصرف<br />
مراسليها.<br />
وكذلك اأنصاأت قناة اجلزيرة موقعا اأسمته اجلزيرة<br />
توك ”aljazeeratalk“ وعرفته باأنه نافذة عربية<br />
املنطلق دولية التوجه يطل منها جيل من الشباب<br />
الإعاميني العرب.<br />
الشكل نصف املغلق: ويتمثل يف قيام وسائل<br />
الإعام باإنشاء مدونات يف مواقعها الإلكرتونية لتجمع<br />
كتابات صحفييها، وضيوفها ومشرتكيها من مستخدمي<br />
الإنرتنت، كما هو الأمر بالنسبة لصحيفة Le Monde<br />
اأبحاث<br />
•
2 0 1 1<br />
144<br />
الفرنسية. فهذا الشكل يندرج ضمن اخلدمة املحدودة<br />
التي تقدمها الصحيفة لقرائها ومشرتكيها لتتحوّل<br />
اإىل حلُ مة متنت عاقتها الذاتية مبشرتكيها، لأنها<br />
متنح احلق للمشرتك لانضمام اإىل »طاقم« الوسيلة<br />
الإعامية. وبهذا فاإنها حتاول اأن تساهم يف بناء جسر<br />
من التواصل بني كتابة املحرتفني؛ اأي الصحفيني، املبنية<br />
على ما يعرفونه واطلعوا عليه، ، وكتابة الهواة املستقاة<br />
من جتاربهم ويومياتهم.<br />
1( الشكل املنفتح: ويتمثل يف اقرتاح املواقع<br />
الإلكرتونية التابعة لوسائل الإعام على زوارها الكتابة<br />
يف مدونات تابعة لها بشرط تسجيل اأسمائهم يف املوقع،<br />
وفتح حساب فيه. فهذا الشكل، الذي يندرج ضمن<br />
منطق اخلدمات التي تقدمها وسائل الإعام، يسعى<br />
خللق وشائج مع زوارها ل تقف عند حد الطاع على<br />
ما تنشره فقط، بل ميتد اإىل الستثمار يف اإقامة عاقة<br />
دائمة.<br />
تدل اإحصاءات عام 2008 اأن %85 من وسائل<br />
الإعام الربيطانية تقرتح على صحافييها اإنشاء مدونات<br />
لهم، وتنخفض هذه النسبة اإىل %70 يف وسائل الإعام<br />
)44(<br />
الأمريكية، و %44 يف وسائل الإعام الأوروبية.<br />
ول ميكن لهذه الإحصاءات اأن تخفي وجود نفر<br />
من الصحفيني جلاأوا اإىل اإنشاء مدونتهم اخلاصة<br />
املستقلة عن وصاية املوؤسسة الإعامية التي يشتغلون<br />
بها، الأمر الذي كلف بعضهم الختيار بني العمل يف<br />
املوؤسسة الإعامية والتخلي عن املدونة، اأو التمسك<br />
بهذه الأخرية والنفصال عن املوؤسسة الإعامية، بعد<br />
اأن يتضح عدم خضوعه لسياسة موؤسسته الإعامية.<br />
وهذا ما جرى للصحايف الأمريكي كيفن سايتس الذي<br />
طلبت منه موؤسسته: )قناة )CNN اإغاق مدونته.<br />
ففضل الستقالة من قناة التلفزيون، ومواصلة جتربته<br />
التدوينية املستقلة مع اإعداد مراصات حرة للقناة<br />
التلفزيونية الأمريكية .NBC وكذلك الأمر بالنسبة<br />
للصحافية روبيكا ماكينون ،Rebecca MacKinnon<br />
التي كانت مراسلة القناة ذاتها يف طوكيو واستقالت من<br />
عملها، واأصبحت تُعرّ ف بنفسها باأنها صحافية يف طور<br />
النقاهة. لقد اأنصاأت موقعا اإلكرتونيا اأسمته Global<br />
، Voicesلتحقيق طموحها الكبري النابع من روؤيتها<br />
لوسائل الإعام العاملية الناطقة باللغة الإجنليزية.<br />
حيث كانت تعتقد اأن هذه الأخرية تتجاهل، كثريا،<br />
القضايا واملشاكل التي تهم اأكرب عدد من الناس يف<br />
العامل .وبالفعل اأصبح هذا املوقع ينشر ويرتجم اإىل<br />
18 لغة، مبا فيها اللغة العربية، الأعمدة التي تنشر يف<br />
مدونات العامل من اأجل تسليط الأضواء على الأماكن،<br />
والأحداث، والأشخاص الذين مل يحظوا اإل بالقليل من<br />
)45(<br />
اهتمام وسائل الإعام الكاسيكية.<br />
ويوجد من الصحفيني من سلك مسلكا اآخر ل<br />
يتعارض، بالضرورة، مع ما تطرحه موؤسسته الإعامية<br />
من مواقف واآراء. مثل مدونة الصحفي الفرنسي جون<br />
ميشال اأباتي ،Jean –Michel Apathie الصحفي<br />
السياسي يف اإذاعة وتلفزيون ليكسنبورغ ،RTL الذي<br />
خصص مدونته للتعليق على املقابات التي يجريها مع<br />
ضيوفه، لأن الوقت املخصص للحوار الإذاعي ل يسمح<br />
له بذلك، وكذا طبيعة النوع الصحفي املستخدم؛ اأي اأن<br />
احلوار ل يتحمل ذلك. كما يستغل مدونته، من اأجل نشر<br />
اأفكاره واآرائه. وميكن اأن نضيف يف هذا الإطار مدونة<br />
الصحفي اجلزائري سعيد شكري، رئيس حترير صحيفة<br />
Liberté« اجلزائرية، الصادرة باللغة الفرنسية.<br />
ومدونة رئيس مكتب قناة اجلزيرة بالأردن ياسر اأبو<br />
هالة والذي اأطلق عليها اسم: »ما وراء الشاشة ...<br />
والصفحات« وهذا لعتقاده اأن «الإعام اجلديد«<br />
يصل اإىل حيز ل تصله الصحفة الورقية ول الصحفة<br />
التلفزيونية، واأن املدونة متنح الصحفي هامشا، من<br />
احلرية اأكرب مما توفره له وسائل الإعام الكاسيكية.<br />
ويعرتف اأن مدونته كانت حمدودة الستعمال، اإذ كان<br />
ينشر فيها مقالته متضمنة الفقرات واجلمل التي<br />
حذفتها الصحيفة التي نشرتها )46( .<br />
ويرى بعض املدونني صعوبة التوفيق بني العمل<br />
يف موؤسسة صحفية رسمية والستمرار يف التدوين<br />
السياسي والفكري خارجها. فمن يروم هذا التوفيق قد<br />
جتربه الأحداث اإىل التعبري عن موقفه يف مدونته مبا
145<br />
2 0 1 1<br />
يتعارض مع مواقف املوؤسسة الإعامية التي ينتسب<br />
اإليها. فيُخشى اأن يعاين من اأزمة هوية؛ اإي اإزدواجية يف<br />
شخصيته. واحلقيقة اأن هذه اخلشية ليست جديدة يف<br />
املنطقة العربية، بل ميكن القول اإنها زالت من اأوساط<br />
املهنيني قبل ظهور املدونات، بعد اأن اختفى الستغراب<br />
من انتقال الصحفيني من قناة تلفزيونية اإىل اأخرى<br />
تختلف عنها يف التوجهات والقناعات. فمن قناة<br />
اجلزيرة القطرية اإىل قناة احلرة الأمريكية، ومن القناة<br />
العربية اإىل قناة اجلزيرة. فلو اقتصرنا على الوضع<br />
اجلزائري على سبيل املثال، فاإننا ناحظ اأن بعض<br />
الصحفيني املنتسبني اإىل موؤسسات اإعامية حكومية<br />
يكتبون باأسماء مستعارة، وبشكل مواز، يف صحف غري<br />
موؤيدة للحكومة. وبعض الصحفيني يتعاونون مع العديد<br />
من الصحف ذات التوجهات السياسية واليديولوجية<br />
املختلفة، اإن مل تكن متعارضة، دون اأدنى شعور باهتزاز<br />
يف هويتهم املهنية. ول يرتددون يف تربير ما يقومون به<br />
بالقول اإن عصر الصحفي املثقف العضوي قد وىلّ ، وحل<br />
حمله »الصحفي التقني«!<br />
وحدث اأن اأنصاأ بعض الصحفيني مدونات خاصة<br />
بهم لتكون منتداهم، يطرحون فيها مشاكلهم ومطالبهم<br />
املهنية، ويعرّ فون اجلمهور بها. اإنهم يفعلون ذلك عندما<br />
تتاأزم عاقتهم املهنية مبوؤسستهم الإعامية جمموعات<br />
)47(<br />
اأو اأفراداً يف العديد من الدول.<br />
وبعد، فاإن التجربة الرثية واملكتسبة يف الفضاء<br />
التدويني، والتطور املتسارع يف اأدوات الإعام اجلديد،<br />
ل يسمحان باستسهال احلكم على مستقبل التدوين،<br />
واستقراء اأشكال تطوره، واإن قدما بعض املوؤشرات<br />
التي تفصح، بهذا القدر اأو ذاك، عن احتواء وسائل<br />
الإعام الكاسيكية للمدونات مما يوحي بتغيري عميق<br />
يف الصحفة. وهذا ما ميكن التاأكد منه على املستويات<br />
الثاثة:<br />
1- توظيف املدونيني يف املوؤسسات االإعلالمية<br />
الكالسيكية: توؤكد الكثري من شهادات اخلرباء باأن<br />
اأفضل املدونني يف الوليات املتحدة الأمريكية، اأي الذين<br />
يحظوّن برتدد كبري على مدوناتهم، ويستقبلون اأكرب<br />
عدد من الإدراجات التي تنم على اهتمام مبا ينشرون<br />
ينتهي بهم املطاف اإىل النضمام اإىل املوؤسسة الإعامية<br />
الكاسيكية، حيث يتحولون اإىل صحفيني مشهورين<br />
يتقاضون رواتب مغرية. )48( ول يقتصر الأمر على<br />
الوليات املتحدة الأمريكية، بل يشمل العديد من الدول<br />
املتطورة.<br />
فصحيفة الغارديان The Guardian الربيطانية،<br />
تتابع يوميا املُدوَنات، ول ترتدد يف اقرتاح شراء<br />
اأحسن ما جاد به املدونون لنشره يف طبعتها الورقية<br />
والإلكرتونية. ومتنح صحيفة لوموند Le monde<br />
الفرنسية مكافاأة مالية لأفضل املُدوّنني. وتكافئ القناة<br />
الأوىل من التلفزيون الفرنسي املدونني الذين ينشرون<br />
يف مواقعها الإلكرتونية باسم حقوق املوؤلف. ويف ظل هذا<br />
الواقع، انتهى املطاف باملُدوّن الفرنسي الراحل رولن<br />
بكباي ،Roland Piquepaille صاحب املدونة املشهورة<br />
،ZDNet ليصبح صحافيا باملجلة الإلكرتونية Primidi<br />
املختصة يف الكمبوتر والإنرتنت. والشيء ذاته يُقال عن<br />
املدون العراقي الذي انتحل اسم « صام بيس Salam<br />
،Peace الذي كان يسرد يف مدونته تفاصيل حياته<br />
الجتماعية واحلميمة، وينقل احلياة اليومية يف بغداد<br />
املحتلة، وصعوباتها بدقة حتسده عليها كربيات وسائل<br />
الإعام. لقد فتحت له صحيفة »الإندبندت« The<br />
independant الربيطانية الأبواب لكتابة افتتاحيتها<br />
مرتني يف الشهر.<br />
لقد اأصبحت املدونات املمر الأساسي خلريجي<br />
الصحفة وطالبي العمل يف املوؤصصات الإعامية<br />
الكاسيكية الذين ل ميلكون معارف يف عامل وسائل<br />
الإعام اأو ل يتمتعون بخربة مهنية. فاملدونات تعمل على<br />
صقل املواهب وتطويرها حتى تلتحق بصفوف املهنيني.<br />
2- اإن النجاح يف الفضاء التدويني اأصبح يشرتط<br />
اخلضوع ملنطق املوؤسسة: التفرغ للمدونة اأو الستعانة<br />
مبن هو متفرغ، اأو اللجوء اإىل اأسلوب الشراكة والتعاون<br />
اخلارجي. )49( فاملدون الفرنسي املشهور لوك لومور<br />
، Lemeur Loïc صاحب املدونة التي حتظى ب 25 األف<br />
مشرتك، الذي اأوكل اإدارة الإعان يف مدونته لوكالة<br />
اأبحاث
ْ<br />
2 0 1 1<br />
146<br />
خمتصة متنحه 6 األف يورو شهريا، كان يبحث عن<br />
»مُ تعاونَنيّ دائمَ ْ نيّ » يتكفان مبدونته عندما قرر الهجرة<br />
اإىل الوليات املتحدة الأمريكية!<br />
فالتدوين مل يعد مكتفيا بالفعل التطوعي الذي كان<br />
شرطا يف عامل التدوين، ومتميّزا عن العمل الحرتايف<br />
يف الصحفة، بل بداأ يجنح نحو الحرتاف ليس بتاأثري<br />
من املدونات املوؤسساتية، بل لأن كل مُ دوّن يبلغ عدد زوار<br />
مُ دوّنته خمسة اآلف زائر يشرع يف التفكري يف كيفية<br />
تسخريها لتحقيق عائد مايل، مبختلف السبل، كبيع<br />
املساحات الإعانية للشركات املختصة يف الإعان اأو<br />
تزوديها بوصات اإلكرتونية ترعاها شركات الإعان.<br />
ول يستطيع يف غالب الأحيان اأن يقوم باأكرث من وظيفة:<br />
التحرير، واإدارة املدونة، والبحث عن معلنني اأو بيع<br />
مساحة اإعانية للشركات املختصة.<br />
وتسقط الكثري من املدونات يف شباك الإسرتاتيجية<br />
الإعانية والتسويقية للشركات الصناعية والتجارية<br />
الكربى، القائمة على تقنيات الطنني Buzz؛ اأي<br />
الإشاعات التي تروج من خال التصال الشفاهي. اإذ<br />
اإن الكثري من خمتصي التسويق يعتقدون اأن للمدونات<br />
قوة سحرية يف بث الطنني الذي يخدم املوؤسسات. وقد<br />
استفادت منه شركة « نوكيا«، و»سامسونغ، وشركة نايك<br />
Nike لإنتاج الألبسة الرياضية. )50( وهكذا يتم اإدراج<br />
املدونات لتندمج يف النسق القتصادي الذي تتحرك<br />
فيه وسائل الإعام الكاسيكية، بفاعلية اأكرث، وكلفة<br />
مالية اأقل.<br />
)Endnotes(<br />
1- رمبا يعتقد البعض اأن مفهوم احلقيقة قد تطور،<br />
لأنها ليست معطى جاهزا تشكل مبعزل عن الفاعلني<br />
واجلمهور. كما اأن الواقع الذي تغطيه احلقيقة يتبادل<br />
ويتغري يف اإطار سياق من التفاعل الجتماعي. فمشكل<br />
احلقيقة حسب الفيلسوف ميشال فوكو يرتبط، اأكرث،<br />
بالقواعد التي على اأساسها نتفق على ما هو حقيقي<br />
ومزيف من ارتباطه بالأشياء احلقيقية التي ميكن<br />
)51(<br />
اكتشافها اأو جعلها مقبولة.<br />
اإن التاأكيد على اأن الإنرتنت غريت وتغري الصحفة<br />
يعد من حتصيل احلاصل. والنظر اإىل اأنها تقضي<br />
على الصحفة نهائيا وبشكل قاطع يتضمن روؤية ثابتة<br />
للصحافة تفصلها عن السياق العام لتطور وسائل<br />
الإعام. لقد اتضح، بشكل جلي، اأن هذه الأخرية تتطور،<br />
وتتجدّ د، وتتغري ضمن دينامية تفكيك العمل الصحفي<br />
واإعادة تشكيله على اأسس جديدة، ومعايري مستحدثة،<br />
ووفق هوية مغايرة تستند اإىل اأهداف غري تلك التي<br />
كانت سائدة يف القرن التاسع عشر واأغلب سنوات القرن<br />
العشرين. ففي السابق كانت وسائل الإعام تروم تغيري<br />
وعي اجلمهور، واأصبحت الآن تسعى اإىل التفاوض حول<br />
)52(<br />
“نظامهم” اخلاص للحقيقة.<br />
اإذا، اإن جوهر العمل الصحفي تغري عرب التاريخ،<br />
فبعد اأن كان راأي/ موقف املوؤسسة الإعامية ميثل<br />
القيمة املحورية يف نشاطها، انتقل اإىل احلدث/الإعام،<br />
واأصبح يف ظل التطور التكنولوجي ممثا يف احلوار<br />
والتعليقات التي تثريها املواد املنشورة.<br />
ضمن هذه احلركية جُ رد الصحفي من بعض<br />
الأدوار والوظائف. فلم يعد منتجا وحيدا للأخبار<br />
وشاهدا فريدا على ما يجري لينقله اإىل اجلمهور. لقد<br />
اأصبحت العديد من املوؤسسات غري الصحفية تنتج<br />
الأخبار وتوزعها، وتشرك يف ذلك العديد من الأشخاص<br />
من خارج مهنة الصحفة. كما اأن الصحفي مل يعد<br />
املحلل الوحيد للأحداث واملعلق عليها. لقد اأصبح راأيه<br />
مغمورا يف املجتمعات الغربية، وسط جيش من اخلرباء<br />
واملختصني الذين اأصبحت اآراوؤهم متداولة على نطاق<br />
واسع. لكن هل يعني هذا موت الصحفي؟<br />
ودفعت الصحفة الإلكرتونية الصحفي ملمارسة<br />
دور مدير النقاش واحلوار ومنظّ مه، وذلك لأنها بداأت<br />
تقرتب من فضاء تداول املعلومات ومناقشتها.<br />
اإذن، اإن التطبيقات املختلفة التي اأتاحتها وتتيحها<br />
شبكة الإنرتنت للصحافة ليست احللقة النهائية اأو<br />
القاتلة، يف سلسلة التغريات التي عاشتها الصحفة<br />
عرب قرون، بل تذكرنا، رمبا بقوة واإيقاع متسارع، باأن<br />
الصحفة ليست نصوصا باملعنى السيمائي فقط، بل
147<br />
2 0 1 1<br />
اإنها ممارسة اجتماعية وثقافية تشكلت تاريخيا عرب<br />
العاقات الجتماعية التي تقيمها، واملعاين التي حتملها<br />
)52(<br />
و والتمثّات التي ترسخها لدى القراء عنها:<br />
تاأسيسا على ما سبق، تبدو نظرية تغيري املنظور<br />
الصحفي كاأنها تفتح املجال للنظر اإىل تطور الصحفة<br />
ضمن روؤية شاملة باعتبارها مهنة، وخطابا اأو ظيفة<br />
اجتماعية. وبهذا فاإنها تتعدى الروؤية التجزيئية التي تهتم<br />
بالوسيلة فقط اأو املهنة يف حد ذاتها بعيدا عن اخلطاب<br />
اأو الوظيفة الجتماعية اأو تعتني باخلطاب الصحفي<br />
مبناأى عن تطور املهنة. لكن هذه الروؤية الشاملة، تبدو<br />
غري مكتملة، رغم صابة منطقها، اإذ اإنها مل تاأخذ<br />
بعني العتبار الإيكولوجيا العامة التي تتطور فيها<br />
الصحفة املعاصرة، والتي ل تصنعها التكنولوجيا فقط،<br />
رغم اأهميتها، بل يتدخل فيها القتصادي والسياسي<br />
والجتماعي والثقايف، والتي ميكن اأن نلخصها فيما<br />
ياأتي:<br />
اأ- هدم احلدود التقليدية الفاصلة بني املصدر<br />
والوسيلة الإعامية واجلمهور 45 ميكن التاأكد من هذا<br />
الواقع من خال قيام الكثري من املوؤسسات القتصادية<br />
والجتماعية والثقافية والسياسية والعلمية باإنتاج<br />
الأخبار واملعلومات وبثها مباشرة. ففي السابق ما<br />
كان لها ذلك دون املرور بوسائل الإعام الكاسيكية.<br />
ناهيك عن قيام العديد من املواقع باإنتاج املعلومات<br />
املكتوبة واملصموعة واملرئية و بثها مباصرة، مثل<br />
صور فيديو الهواة التي التقطت اإعصار تسونامي يف<br />
ديسمرب 2004، و الصور املنشورة يف موقع Flickr<br />
التي نقلت تفجري مرتو لندن يف يونيو 2005، واملدونات<br />
الإلكرتونية التي نقلت اأحداث اإعصار كاترينا، يف<br />
الوليات املتحدة الأمريكية، يف ديصمرب 2005.<br />
وهكذا فتحت العديد من املوؤسسات الإعامية اأبوابها<br />
للمساهمات اخلارجية. فمصوؤول موقع Military.com« ،<br />
الذي يُعد منصةً جتمع 17 األف مدونة اإلكرتونية، يوؤكد<br />
اأن القبض على الرئيس العراقي السابق صدام حسني<br />
قد اطلع عليه العامل باأسره بفضل شريط فيديو التقطه<br />
جندي اأمريكي ونشره يف مدونته الإلكرتونية، فتناقلته<br />
)55(<br />
وسائل الإعام العاملية.<br />
وتعني الستعانة بغري املهنيني لتزويد املوؤسسات<br />
الإعامية الكاسيكية والعريقة، بالصور والأخبار<br />
والشهادات، اأن املواد الإعامية والإخبارية التي ل متر<br />
عرب قناة وسائل الإعام الكاسيكية يف تزايد مستمر،<br />
واأن انتشارها اأصبح يتم بسرعة مذهلة مما يخلق لها<br />
شعبية كربى يف ظرف زمني قياسي. لكن الستغناء عن<br />
وسائل الإعام الكاسيكية لتبادل املعلومات يف املجتمع،<br />
وظهور فاعلني جدد يف جمال اإنتاج املعلومات، يدفعان<br />
اإىل ضرورة احلذر من اعتبارين اأساسيني، اأولهما اأن<br />
كل املعلومات املتداولة خارج وسائل الإعام الكاسيكة<br />
ليست ذات حمتوى صحفي، فاملادة الإخبارية الصحفية<br />
تتميز، بشكل اأساسي، عن املادة السياسية والعلمية<br />
والفنية يف عاقتها بالأحداث، والتصاقها بالوقت<br />
اأو الزمن بصفة عامة )56( ، ومصوؤوليتها الجتماعية.<br />
وثانيهما، اأن العديد من الفاعلني اجلدد يف جمال<br />
اإنتاج الأخبار واملعلومات ل يستغنون عن وسائل الإعام<br />
الكاسيكة. فموقع غوغل نيوز ،Google News على<br />
سبيل املثال، يحقق اأرباحا من تعب الصحف ووكالت<br />
الأنباء، حيث يقوم باإعادة نشر، واأحيانا، صياغة الأخبار<br />
)57(<br />
واملعلومات التي تنشرها.<br />
- باأصبح مفهوم التفاعلية يغطي العديد من<br />
املمارسات بدءا من برتوكولت التواصل بني اأجهزة<br />
الكمبيوتر يف الشبكة التي بفضلها يتم تبادل املعلومات<br />
بينها، والعاقة التي يقيمها الإنسان بالكمبيوتر الذي<br />
يستجيب لطلبه اأو اأوامره، وصول اإىل التفاعل بني<br />
الأشخاص عرب املواد التي يتبادلونها بشكل مباشر<br />
–وجها لوجه- اأو عرب واسطة، والتي تصوغ الرابط<br />
الجتماعي، وتعيد صياغة العاقات الجتماعية وفق<br />
تصورات حمددة ومضامني جديدة. ذلك اأن التفاعلية<br />
يف انتقالها من الوظيفي )تبادل املعلومات بني اأجهزة<br />
الكمبيوتر اأو بينها والإنسان( اإىل القصدي)التبادل بني<br />
الأطراف الجتماعية انطاقا من الرسائل املبتادلة(<br />
اقتحمت العديد من املجالت، بدءا من قطاع التعليم<br />
الذي مازال يناقش صرورة تطوير اأساليب التعليم<br />
اأبحاث
2 0 1 1<br />
148<br />
ومنطيته، مرورا بقطاع الألعاب والتسويق، وصول<br />
اإىل جمال الإعام. لقد اأعاد منطق التفاعلية النظر<br />
يف متوقع مكونات العملية التصالية، اإذ سمح بتبدل<br />
اأدوار اأقطاب التصال: املرسل واملتلقي. وبهذا غريّ<br />
الروؤية للجمهور، بل اأعاد النظر فيه واستبدله مبفهوم<br />
املستخدم، الذي يركز على الفرد اأكرث من احلشد،<br />
فاهتم به وبثقافته، بعد اأن كان الهتمام مركزا على<br />
احلشد والثقافة اجلماهريية.<br />
كما اأن التفاعلية غريت بنية املادة الإعامية، ومن<br />
ثم غريت حمتواها، اإذ كانت تتوقف، يف السابق، على<br />
ما يكتبه منتجها سواء كان صحافيا اأو مدونا، وبفضلها<br />
اأصبحت التعليقات التي ترسل للكاتب، والنقاش<br />
Talkback الذي يعقب املادة الإعامية مكونا اأساسيا<br />
من مكوناتها، بل ميلك، يف الكثري من احلالت، اأهمية<br />
اأكرب من املادة موضوع التعليق.<br />
ولقد ساهمت الوصات اخلارجية والإحالت التي<br />
تتضمنها مادة التصال يف تغيري بنيتها. فالإضافات<br />
التي تقرتحها الوصات تزيد يف اأهميتها، وترفع كفاءة<br />
اجلمهور يف فهمها بشكل اأعمق. لقد شكلت التفاعلية<br />
بوابة “الإعام التساهمي” اأو“التشاركي”. فالتفاعلية<br />
مل توؤد اإىل توسيع حلقة النقاش حول مادة التصال<br />
واإثرائها فقط، بل جَ رّ ت اجلمهور للقيام بدور مزدوج:<br />
مستهلك مادة التصال ومُ نتجها ومُ وزعها. وقضت<br />
على الرتاتيبة الكاسيكية التي كانت تنظم العاقة<br />
بني اأطراف العملية الإعامية )58( ، حيث غريت موقع<br />
مُ نتج هذه املادة الذي مل يعد حمتكرا لها، ول العارف<br />
الوحيد مبوضوعها ورهاناته. وسلحت املتلقي مبا يجعله<br />
يقف على قدم املساواة مع مُ نتجها ملساهمته النشيطة<br />
يف اإنتاجها.<br />
اإننا جنانب الصواب اإذا اعتقدنا باأن التفاعلية تنبت<br />
من العدم، لأنها ولدت يف تربة الرث الجتماعي والثقايف<br />
والسياسي الذي رسخ بفضل السعي من اأجل النقاش،<br />
وتبادل الآراء، واحرتام الراأي الآخر وازدهر وسط<br />
تقاليد التصال والإعام القائم على املكاملات الهاتفية<br />
والتواصل املباشر مع الربامج الإذاعية والتلفزيونية،<br />
وعلى بريد القراء، واملنابر احلرة املنفتحة على خمتلف<br />
الآراء، وعلى استجابة املوؤسسات الجتماعية والثقافية<br />
والصناعية للرسائل والشكاوي التي تصلها. لذا ناحظ<br />
تعرث ممارسة التفاعلية اأو انعدامها يف املجتمعات التي<br />
عانت من سلطوية التصال والإعام وهيمنة اأحادية<br />
الراأي. اإن ما يعتربه بعض مصوؤويل الصحف العربية<br />
املنشورة يف شبكة الإنرتنت من “ جتاوزات” اأخاقية<br />
وسياسية يف التعليقات على املواد الصحفية املنشورة،<br />
يعد يف اعتقادنا وجها اآخر لهشاشة اأو انعدام تقاليد<br />
احلوار يف املجتمعات العربية.<br />
ج - اإن التواوؤم Convergence الرقمي غَ ريَّ َ وسائل<br />
الإعام تغيريا كبريا. حيث سمح باندماج الوسائط،<br />
وترحيل املحتوى من وسيلة اإعامية جماهريية اإىل<br />
اأخرى اأو اإىل وسيلة اتصال شخصية، مما ساهم يف<br />
اإعادة هيكلة بنية قطاع الإعام على اأساس الطلب وليس<br />
العرض، كما كان الأمر يف عصر التكنولوجيا التماثلية.<br />
واأضاف اإمكانية تقدمي خدمات بجانب املادة الإعامية<br />
والثقافية.<br />
ميكن اأن ندرك ابتكار الإنرتنت من زاوية التواوؤم<br />
التكنولوجي الذي ل يُكمن فيما يوفره كل تطبيق<br />
تكنولوجي جديد من فرص يف جمال الإعام و التصال<br />
واإثرائها، مثل الصحفة املنشورة على شبكة الإنرتنت،<br />
وتلفزيون الإنرتنت اأو حمطات الإذاعة الإنرتنانية،<br />
واملدونات الإلكرتونية، بل يف اإمكانية جمع كل هذه<br />
التطبيقات- اخلدمات- يف وسيلة واحدة )59( . وهذا<br />
التواوؤم الذي يُعّد سابقة تاريخية يف وسائل الإعام،<br />
اأثر يف املحتوى املتداول، فجمع فيه خصائص الإنتاج<br />
اجلماهريي والستهاك الفردي الذي يراعي منطق<br />
املحتوى الذي يكونه املستخدم User Generated<br />
Content بطريقة انتقائية. لقد لحظنا اأن عام 2007<br />
قد شهد شكا من التعاون بني التلفزيون الكاسيكي<br />
والإنرتنت، حيث قامت القنوات التلفزيونية ببث بعض<br />
براجمها على موقع ،You tube مثل هيئة الإذاعة<br />
الربيطانية، وقناة اجلزيرة القطرية. اأما قناة NBC<br />
الأمريكية فقد بثت مسلسلها الذي حقق جناحا كبريا
149<br />
2 0 1 1<br />
على شبكة الإنرتنت، وتعتزم بث اأول مسلسل تلفزيوين<br />
حصريا عل شبكة الإنرتنت . . وشرعت قناة ،MBC<br />
من جهتها، تبث اأبرز اأعمالها الكوميدية، التي بثت<br />
يف رمضان 2007، على شاشات اجلوال، مثل مسلسل<br />
»طاش ما طاش«، و«بيني وبينك«. كما قامت قناة CNN<br />
الأمريكية بتنظيم مناظرة تلفزيونية بني مرشحي<br />
الرئاسة الأمريكية عرب موقع »يو تيوب«، بحيث يرسل<br />
زوار املوقع اأسئلتهم املصورة عرب املوقع لتظهر على<br />
الشاشة وتطرح على املرشحني، مما سمح للجمهور باأن<br />
يكون طرفا يف املناظرة. وقد فتحت قناة العربية الأبواب<br />
للجمهور باإرسال ما يصورونه ويريدون اأن يطلع عليه<br />
الآخرون اإىل “منتدى الفيديو”. والشيء ذاته قامت<br />
به قناة اجلزيرة القطرية، لكن املنتدى توقف يف القناة<br />
الناطقة باللغة العربية وظل مستمرا يف القناة الناطقة<br />
(60)<br />
باللغة الجنليزية!<br />
ح- املنظومة :Device لميكن ان ندرك عمق التغيري<br />
يف اإيكولوجيا الإعام بدون تشغّيل مفهوم املنظومة<br />
الإعامية الذي يتجاوز مصطلح الناقل الإعامي اأو<br />
الوسيلة الإعامية. اإن معنى مفهوم املنظومة يختلف<br />
باختاف احلقل الذي يُوظف فيه. ففي احلقل التقني<br />
يدل على جملة معقدة من الألت املرتبطة بالوظيفة.<br />
ويف حقل العلوم الجتماعية يتحول اإىل مفهوم تاأويلي<br />
يحيل اإىل حزمة من الأفعال واملعاين: نظام، تنظيم،<br />
اأدوات، مهارات تقنية، اإطار من التداخل والتفاعل،<br />
ممارسات )61( .<br />
ويذهب الصادق احلمامي اإىل اعتبار مفهوم<br />
املنظومة اإطارا نظريا ميُ كن من فهم املمارسات<br />
التصالية املختلفة املرتبطة بتقنية ما، ويحيل اإىل<br />
نظام مركب تتفاعل داخله العديد من العناصر:<br />
تقني، وخطابات، وعاقات تبادل، واقتصاد. ويقسم<br />
املنظومات يف الإنرتنت اإىل ثاث وهي: املنظومة<br />
الفردية–اجلمعية، واملنظومة املوؤسساتية، واملنظومة<br />
)62(<br />
الإعامية.<br />
اإن مفهوم املنظومة الذي يحررنا من حمدودية<br />
الوسيلة يف حالتها املجسدة والفردانية، يدفعنا اإىل<br />
التفكري يف التغيري الشامل يف حقل الإعام والتصال<br />
ضمن روؤية جتمع بني اخلاص والعام، الفردي والشامل<br />
ويف نسق من التفاعل بني القتصاد والتنظيم واخلطب<br />
التي توؤسس لديناميكية التغيري احلاصل يف وسائل<br />
الإعام.<br />
املدونات االإلكرتونية :Blogs وسيلة لالتصال واإقامة<br />
عالقات<br />
اإن النطاق من الشعبية التي بلغتها بعض املدونات<br />
الإلكرتونية للحكم على نهاية الصحفة يطمس الصوؤال<br />
الذي طرحه اأحد الكتاب املهتمني بالتكنولوجية احلديثة،<br />
حول املدونات الإلكرتونية ،Blogs قبل خمس سنوات،<br />
والذي ما زال يحتفظ بنضارته، ونلخصه فيما يلي: هل<br />
(36)<br />
وجدت املدونة الإلكرتونية صياغتها النهائية؟<br />
فمنذ عشر سنوات من الوجود, وصيغ املدونات<br />
الإلكرتونية تزداد تعقيدا من ناحية الشكل: مدونات<br />
الصورة ،Photoblogs ومدونات الفيديو التي وجدت<br />
يف العديد من املنصات، التي توفرها الإنرتنت، وسيلة<br />
ثرية للبث، ومدونات الرسائل القصرية التي ترسل<br />
على الهواتف النقالة Moblogs يف شكل نص وصورة.<br />
وتتعقد، اأكرث، على صعيد املضمون متجاوزة الثنائية<br />
التالية: الذاتي/ احلميمي، واملوضوعي/ العام. فهل اأن<br />
عود املدونات الإلكرتونية قد اشتد حتى ميكن تقدميها<br />
على اأنها ستكون بديا للصحافة؟<br />
لعل التعريف الأويل للمُ دوّنات الإلكرتونية، بعيدا<br />
عن خصائصها التكنولوجية، يتمثل يف القول اإنها موقع<br />
ويب web شخصي يسهر عليه مُ دوّن اأو اأكرث ليعربوا<br />
بحرية، وبانتظام، يف شكل مواد اإخبارية اأو حميمية<br />
حتاكي دفرت الذكريات اليوميات، وتصدر وفق ترتيب<br />
زمني تنازيل – من الأحدث اإىل الأقدم- وتُرثى، يف<br />
الغالب، بالوصات الإلكرتونية، والصورة والصوت،<br />
)64(<br />
وتثري مواضيعها تعليقات الذين يرتددون عليها.<br />
اإننا نعتقد اأن هذا التعريف غري شامل ويكتفي<br />
بالشكل دون اأن يعطي حمتوى اجتماعيا للتدوّين. فتطور<br />
ممارسة التدوين قد اأعتق املدونات من الصفة التي<br />
التصقت بها، واملتعلقة بكتابة اليوميات احلميمية،<br />
اأبحاث
2 0 1 1<br />
150<br />
ودفعها لتكون ملتقى للقول املختص، والراأي، واجلدل،<br />
والتمرن على التعبري الأدبي. وحررها من حمدودية<br />
التصال ليضعها يف قلب التصال الجتماعي الساعي<br />
اإىل اإقامة عاقات، وتشكيل اجلماعات ،Communities<br />
التي تسمح بصياغة الهوية الفردية واجلماعية.<br />
وتاريخيا، تشكلت اأوىل املُدوّنات من قوائم الوصات<br />
الإلكرتونية مع التعليق عليها. ثم ظهر شكل يقرتب من<br />
اليوميات اأو املذكرات احلميمية التي ينشرها يف « الويب«<br />
الإنرتنتيون العاديون. وتتكون من مداخل تعكس، يف<br />
الغالب، حالة كاتبها الذي يكشف عن جانب من حياته<br />
الشخصية و يفرغ جزعه، ويعرب عن ردات اأفعاله جتاه<br />
املحيط، ثم تطورت ممارسة املدونات لتشمل، اليوم، كل<br />
الأنواع املعروفة، التي نستعرض قسماتها لحقا.<br />
اإذاً مل يعد املُدوّن وحمتوى ما ينشره والوسائط التي<br />
تعتمد عليها املدوّنات لتوصيل حمتواها اإىل اجلمهور<br />
من العوامل احلاسمة يف تصنيف املدونات، فممارسة<br />
التَدوّين خال عقدين تقريبا ساعدت البحث الجتماعي<br />
والإعامي على تصنيف املدونات الإلكرتونية انطاقا<br />
من قصدين: قصد املُدوّن، وقصد املُطلع اأو املتفاعل مع<br />
املدوّنات. ول شك يف اأن القصد يوؤثر يف حمتوى كتابة<br />
املُدوّنة و اأسلوبها، وشكلها الفني. وعلى هذا الأساس<br />
سنقدم جمموعة من اأنواع املدونات، )65( على النحو<br />
الآتي:<br />
1- املدونات الشخصية: وقد يطلق عليها البعض<br />
مسمى املدونات احلميمية؛ اأي التي تتحدث عن اأمور<br />
حميمية خاصة باملدون. والبعض يرى اأنها مدونات<br />
تخريجية ،Extimacy - Extimité وتتمحور الكلمة فيها<br />
حول الأنا، ليس باملعنى الرنجسي، بل مبعنى التنفيس<br />
عن الذات عرب تخريج دواخلها وعرضها على الآخرين.<br />
فاحلياة احلميمية تتحول اإىل مادة للسرد، و اأداة اتصال<br />
بالغري الذين يُشَ خَ صون، مع مرور الزمن، بهويتهم<br />
الفعلية اأو الفرتاضية، ويكون اللقاء بهم يف احلياة<br />
اليومية حمتما. فاحلديث عن الأنا ل يكون، دائما،<br />
مرتبطا مبشاكل ظرفية يصعب على الفرد اأن يتحرر<br />
من ضغوطها دون احلكي عنها، لأنه يجسد الرغبة يف<br />
البحث عن هوية اأو السعي اإىل تاأكيدها.<br />
2- مدونات الصحفيني: يقصد بهذه املدونات،<br />
بصرف النظر عن طبيعتها التنظيمية، اأي دون التساوؤل<br />
عن مدى ارتباطها العضوي مبوؤسسة الصحفة اأو<br />
استقالها عنها، تلك التي يستعملها الصحفيون للتعليق<br />
على الأحداث السياسية والوقائع التي كانوا شهودا<br />
على حدوثها. ويتحول بعضها اإىل منرب لتبادل الآراء<br />
والأفكار حول الوقائع الطارئة يف احلياة املحلية اأو<br />
الوطنية اأو الدولية واإثارة النقاش حولها. وتطرح هذه<br />
املدونات مصاألة التقارب والتنافر بني ما يكتبه الصحفي<br />
يف املوؤسسة الإعامية التي ينتسب اإليها وما ينشره يف<br />
املدونة- )سنحاول اأن نوضح هذه النقطة لحقا(.<br />
يستغلها املختصون لتقدمي خربتهم املهنية،<br />
ونصائحهم، واآرائهم.<br />
- 3 مدونات اخلرباء:<br />
4- مدونات التسويق: وتروم تسويق اإنتاج معني اأو<br />
بيع خدمات، وهي يف متناول جميع املوؤسسات، وبخاصة<br />
التجارية التي تروم احلوار مع زبائنها، والأخذ بعني<br />
العتبار اقرتاحاتهم واآراءهم.<br />
5- مدونات املجموعات: عدد زوارها قليل، اإذ<br />
يقتصر على الأصدقاء وبعض اأفراد العائلة وتُبنى على<br />
عاقات اجتماعية قائمة مسبقا، وتتسم بكثافة التبادل<br />
واستمرارية التواصل الذي يتوسل الوسائط املختلفة:<br />
الصوت، والصورة، والنص، و تقرتب هذه املدونات، يف<br />
جوهرها، من النصوص القصرية ،SMS واملضامني<br />
التي يتم تبادلها بواسطة تويرت .Twitter<br />
6- مدونات النظراء: تقوم هذه املدونات بتشّ كيل<br />
“جماعات انتقائية”، وتُكوّن اجتماعيتها Sociability<br />
من خال هواية ما، اأو منفعة ما، اأو خصائص هوايتية.<br />
وتتوسع عرب الشبكة من خال املعارف والأصحاب، مثل<br />
املدونات املهنية، ومدونات اأنصار الفرق الرياضية، اأو<br />
حمبي فنان معني، اأو ممارسي هواية بعينها، وغريها.<br />
7- املدونات التجنيدية اأو املواطنة: تتجه هذه<br />
املدونات اإىل اكرب عدد من الإنرتنتيني ملحاولة جتنيدهم<br />
حول قضية اأساسية اأو هاجس مركزي ذي عاقة
151<br />
2 0 1 1<br />
بانشغالت املجتمع املدين. تقدم مادة موثقة، يلتقي<br />
فيها الأشخاص الذين يتقاسمون القناعات ذاتها حول<br />
القضية املطروحة. وتتضمن عددا كبريا من الوصات<br />
التي حتيل روادها اإىل ما هو خارج اإدراجاتها. هذه<br />
الإدراجات تشكل حلُ مة النقاش واجلدل الذي من املمكن<br />
اأن يتحول اإىل منتدى حواري.<br />
اإن العاقة بني اأصحاب هذه املدونات وروادها تستند اإىل<br />
املحتوى املتداول، والنتقال من تبادل الآراء اإىل نسج عاقات<br />
افرتاضية قد تتوج بعاقات جماعية فعلية و ملموسة.<br />
8- مدونة املدونات :Metablog مدونة خاصة<br />
بظاهرة التدوين والفضاء التدويني. يذكرنا وجودها<br />
باأول شكل من املدونات الذي كان يعرض سجا للمواقع<br />
الإلكرتونية مع الإشارة اإىل اأهميتها، واإضافة تعليقات<br />
خاصة بكل موقع.<br />
وعلى الرغم من اأن هذا التصنيف يكشف عن جوانب<br />
خمتلفة من التقاطع بني املدونات والصحفة، اإل اأن التفاق<br />
على النظر اإىل املدونة بوصفها وسيلة اإعام مل يحقق<br />
الإجماع بني الباحثني واملدونني. فالكثري من املدونني<br />
ينفون الصفة الإعامية على ما يقومون به، باستثناء<br />
اأصحاب املدونات املرتبطة عضويا بوسائل الإعام<br />
الكاسيكية التي اأنصاأها الصحفيون املحرتفون )66( ، بل اإن<br />
البعض يعتقد اأن سر جناح املدونات يكمن يف كونها غري<br />
)67(<br />
صحفية ويعتربها ضربا من اإدارة املعارف ل غري<br />
اأمام السيل الهائل من املدونات الإلكرتونية وتداخلها،<br />
سعى البعض اإىل متييزها انطاقا من جمموعة من<br />
املتغريات الثاثية التالية: نوع املحتوى، وطبيعة احلامل<br />
)68(<br />
الذي تظهر فيه، واملوضوع الذي تتناوله<br />
ولنرتك جانبا، موؤقتا، نقاط التقاطع بني املدونات<br />
الإلكرتونية والصحفة، خاصة الإلكرتونية، ونحاول اأن<br />
نكتشف الفروق بني املدونة والصحفة الورقية.<br />
الصحف الورقية<br />
مساحة حمدودة<br />
موؤسساتية وتخضع لأدبيات املهنة ومصوؤولياتها.<br />
)69(<br />
املدونات<br />
مساحة غري حمدودة<br />
اأكرث شخصية ومتحررة من املصوؤولية الأخاقية والجتماعية<br />
املُدّ ون اأكرث حرية وتلقائية<br />
الختصار والإيجاز<br />
اأسلوب سهل ومباشر يقرتب من النمط الشفاهي<br />
الكتابة منفردة واأكرث ذاتية<br />
احلوار املفتوح والتعليقات شرط اأنطولوجي<br />
نص املدونة متشعب ويتيح تعددية الأصوات.<br />
والوصات ضمان بقاء واإزدهار املدونات<br />
الكتابة يف املدونة قد تكون ذات نهاية مفتوحة<br />
لأنها تتضمن حوارا، وتعاليق ومساهمات خارجية<br />
Information work in progress<br />
الإدراجات Posts ترتب ترتيبا تنازليا من الأحدث<br />
اإىل الأقدم، دون مراعاة مواضيعها.<br />
الستعانة بالطنني ،buzz اأي ما يُذاع من الفم اإىل<br />
الأذن مباشرة، ليقرتب من الإشاعة<br />
الصحايف املهني يفقد استقاليته لرتباطه الوظيفي برب<br />
العمل، ومعاناته من وطاأة الرقابة الذاتية. ويلتزم باملصوؤولية<br />
اإزاء املوؤسسة واملجتمع.<br />
التفصيل والإسهاب<br />
اأسلوب تعاقدي اأو تواضعي.<br />
الكتابة تعيد اإنتاج قوالب الكتابة النمطية السائدة<br />
املادة الصحفية تكتفي بذاتها يف ظل بطء صداها، وتلك<br />
التي تفتح اأبواب اجلدل قليلة جدا اإن مل تكن نادرة.<br />
نص الكتابة منغلق على ذاته ويهيمن عليه صوت كاتبه<br />
امللتبس بصوت املوؤسسة رغم نهله من نصوص خمتلفة.<br />
بعض املواد الصحفية تنشر يف شكل حلقات، اأما جل املواد<br />
الصحفية فتكون نهايتها مغلقة نظرا لنمط تلفظها.<br />
املواد الصحفية تنتقى وترتب وفق شرطني: الأهمية التي<br />
تراها الصحيفة، واملواضيع التي توزع على الأقسام<br />
السعي اإىل السبق الصحفي.<br />
اأبحاث
2 0 1 1<br />
152<br />
والواقع اأن البحث عن عائد مايل ينبئ بتغيري يف<br />
الفعل التدوَيني، الذي يحمل معه التساوؤل عن مستقبل<br />
التدوّين، ومدى صحة اعتماده كبديل جاد للعمل<br />
الصحفي.<br />
3- اإن العديد من اأبرز اأدوات “الإعام اجلديد”،<br />
التي تعرّ ف على اأنها فضاء لإعام املواطنني، اأو صحافة<br />
املواطنني، Citizen Journalism اأو شبكة التصال<br />
الجتماعي، سقطت يف يد املعلنني وشركات الكمبيوتر<br />
و الإعام العماقة. فشركة غوغل اصرتت موقع<br />
Youtube مببلغ 1,65 مليار دولر اأمريكي يف نوفمرب<br />
)70( 2006 وموقع ، Myspace الذي يضع جمانا حتت<br />
تصرف املشرتكني مساحة من الويب الشخصي يسمح<br />
لهم بوضع املعلومات التي يريدون، واإنشاء مدوناتهم،<br />
اشرتته موؤسسة روبرت مردوخ يف يوليو )71( 2005 .<br />
واصرتت شركة ميكروسوفت نسبة 1.7٪من موقع<br />
، Facebook مببلغ240 مليون دولر يف اأكتوبر 2007،<br />
مما يعطى لها احلق يف احتكار الإعان الذي ينشر يف<br />
)72(<br />
املوقع.<br />
خاصة القول، اإن التاأمل يف خمتلف الأساليب<br />
العلنية واملتسرتة لحتواء العديد من املدونات الإلكرتونية<br />
املوؤثرة والفاعلة يف حقل التصال الجتماعي يحفز<br />
التفكري يف الإعام اجلديد، عن اإيديولوجية تكنولوجيا<br />
التصال احلديثة حتى ل تختصر كلمات السوق سوق<br />
الكلمات )73( ويصبح احلديث عن الإعام اجلديد من<br />
زاوية تكنولوجية يغطى واقع سيطرة املال على اأدوات<br />
التعبري. فالسكوت عما تفعله السوق يف جمال تنظيم<br />
حرية الكام هو صرب من التسرت على الرهانات<br />
السياسية والجتماعية والقتصادية للتكنولوجيا<br />
اجلديدة.<br />
الصحفة العربية واملدونات: التقارب املوؤجل يف<br />
انتظار الشروط السياسية والثقافية الغائبة.<br />
اإن التكامل بني املدونات ووصائل الإعام<br />
الكاسيكية، والتوظيف املتبادل لأشكال التعبري واأساليبه<br />
بني الصحفة واملدونات الإلكرتونية ما كان له اأن يتحقق<br />
لو مل يتحول جزء متزايد منها اإىل وسائل اإلكرتونية اأو<br />
تنشئ مواقع خاصة بها يف شبكة الإنرتنت.<br />
نعتقد اأن الصحفة العربية مل تعش بعد ثورتها<br />
الرقمية. فعلى الرغم من اأن بعض عناوينها، مثل<br />
صحيفة الشرق الأوصط، خاضت جتربة النشر عرب<br />
شبكة الإنرتنت يف ديسمرب 1995، اأي بشكل متزامن مع<br />
اأول التجارب العاملية يف النشر الإلكرتوين، فاإن جتربة<br />
الصحفة الإلكرتونية، بكل ما حتمله الكلمة من معنى،<br />
مازالت يف بداية الطريق. فالكثري من املواقع الإلكرتونية<br />
التي تطلق على نفسها صفة صحافة اإلكرتونية مل تراع<br />
خصائص ومعايري هذه الصحفة: غياب غرف احلوار<br />
واملنتديات، وعدم نشر العنوان الإلكرتوين للصحايف<br />
اأو املراسل، وغياب التعليقات )74( ، وحتى اإن وجدت فاإن<br />
الكثري منها ظل خاضعا للذهنية التي اأدارت بريد القراء<br />
لعقود من الزمن: اأي يُحتمل اأن تكتب تعليقك على مادة<br />
صحفية ما، لكنه ل ينشر رغم اأنه يتضمن كل شروط<br />
النشر، ول يخرج عن اخلط الفتتاحي للصحيفة.<br />
ناهيك عن تغيّب منطق الكتابة وفق النص املتشعب<br />
،Hypertext وصعوبة استغال الأرشيف لأن حمركات<br />
البحث ضعيفة اأو غري مناسبة. ما يفسر هذه احلقائق<br />
يتمثل يف عدم وضوح الروؤية والأهداف من اإصدار نسخ<br />
اإلكرتونية من الصحف ماعدا رفع سمعة الصحيفة<br />
الورقية )75( اأو الوصول اإىل القراء املوجودين يف العديد<br />
من نقاط العامل )76( . وقد يتفق الكثري من الباحثني على<br />
القول اإن ما يسمى بالصحف الإلكرتونية يف املنطقة<br />
العربية ليست، يف حقيقة الأمر، سوى نسخ مصورة من<br />
الطبعة الورقية. لكن الدارس يكتشف، مبجرد متابعة<br />
هذه الصحف، اأنها تراجعت على هذا املستوى البسيط<br />
الذي انطلقت منه، وذلك ما يفسره « نسيان« حتديثها اأو<br />
ذكر تاريخها، اأو تعليق نشرها الإلكرتوين ملدة قد تطول<br />
اأو تقصر حسب املزاج والإمكانات املالية. هذا الواقع ل<br />
ميكن تفسريه بالعامل السياسي فقط، بل يرتبط مبا هو<br />
اأعمق؛ اأي بتمثّل التصال وتصور اجلمهور.<br />
واحلقيقة، اأن شبكة الإنرتنت سجلت حضورا<br />
متواضعا يف املنطقة العربية، حيث اإن نسبة مستخدميها<br />
)77(<br />
ل يزيد على ٪6,2 من تعداد مستخدميها يف العامل.
153<br />
2 0 1 1<br />
ويتفاوت عدد مستخدميها، بشكل كبري جدا، من دولة<br />
عربية اإىل اأخرى، اإذ يرتاوحون ما بني ٪48.9 من جممل<br />
سكان دولة الإمارات العربية اإىل%1 من جممل سكان<br />
العراق. )78( . ويُرتجم هذا التفاوت بالقول اأن حوايل %60<br />
من مستخدمي الإنرتنت يف العامل العربي موجودين يف<br />
منطقة اخلليج العربي، والتي متثل حوايل % 11 فقط من<br />
تعداد سكان العامل العربي. )79( وهذا ينعكس اإىل حد ما<br />
على التطبيقات التي يتيحها الإعام اجلديد.<br />
»نشر با حدود لكن بخوف«، هو العنوان الذي<br />
اأختارته اأول دراصة مسحية للمدونات يف الدول<br />
العربية )80( ، لتعرب عن جانب اأساسي يف ظاهرة التدوين<br />
يف املنطقة العربية، واملرتبط بوجودها كشكل من اأشكال<br />
التصال والإعام، وكاأداة لتمديد هامش التعبري،<br />
والستماتة يف الدفاع عن احلق يف الإعام والتصال.<br />
لكن هذا اجلانب الظاهر قد يخفي جوانب اأخرى مهمة<br />
تتعلق بتمثّل املدونات واستخدامها واستماكها والتي<br />
تكشف عنها املمارسات اليومية. حيث ناحظ اأن ٪38<br />
من الإنرتنتني العرب مهتمون باملُدوّنات، ونصفهم ،<br />
فقط، يطلع على املدونات بشكل يومي. )81( ونعتقد اأن<br />
هذا العدد يتجاوز كثريا عدد قراء الصحفة املكتوبة.<br />
ويعترب الكثري من الإنرتنتيني اأن املدونات هي مصدر<br />
معلوماتهم، خاصة تلك املستقلة عن السلطة السياسية،<br />
وذلك لنغمتها الناقدة وهامش احلرية الذي يتمتع به<br />
اأصحابها، خاصة اأمام استشراء النزعة المتثالية لدى<br />
وسائل الإعام الكاسيكية، خاصة تلك التي تسمى<br />
رسمية.<br />
ويتسم التدوِين يف املنطقة العربية بطابعه السياسي<br />
والجتماعي والثقايف والأدبي. ففي الدول التي يعيش<br />
شارعها احتقانا سياسيا وجتاذبات يف جمال حرية التعبري،<br />
فاإن التدوين فيها اأصبح جزءا من الصراع السياسي<br />
والجتماعي، الذي يدفع % 87 من اأصحاب املدونات<br />
السياسية العربية اإىل انتحال اأسماء مستعارة. )82( هذا<br />
مع العلم اأن تنكر املدونني وراء اأسماء مستعارة ليس<br />
مرتبطا بالسياسة فقط، بل يرتبط، اأيضا، بالأدب<br />
والفن، ويكشف عن عادات وتقاليد فعلية اأو متمثلة لدى<br />
املدونني فيستبطنونها بشكل يدفعهم اإىل انتحال اأسماء<br />
تخفي هويتهم احلقيقية.<br />
وتقدر بعض الأوساط اأن حوايل % 5 من جممل مستخدمي<br />
الإنرتنت يف مصر ذوو اهتمامات سياسية. (83) والكثري منهم<br />
ميلك مدونات ذات توجه سياسي، واأكرث املدونني شهرة<br />
يجمع حوايل 30 األف قارئ منتظم ملدونته. وهو رقم ل<br />
يستهان به لسببني، على الأقل، وهما، اأن اأكرث من % 15<br />
من مستخدمي الإنرتنت يف مصر يعتربون قراء مدونات<br />
منتظمني! واأن قراء بعض املدونات يتجاوز عددهم قراء<br />
بعض عناوين الصحف احلكومية اأو املعارضة. فاملدونات<br />
مل تكتف بالتعبري عن وجهة نظر شخصية، بل اهتمت<br />
بالقضايا الأساسية يف املجتمعات العربية، التي جتاهلتها<br />
وسائل الإعام الكاسيكية، خاصة الرسمية، ومتكنت<br />
من فرضها على النقاش العام مثل: ظاهرة التحرش<br />
اجلنسي ووضعية املراأة يف املجتمع )84( ، والتعذيب، حيث<br />
نشرت العديد من املدونات صورا لعمليات التعذيب،<br />
وحماربة الفساد. )85( وقد قامت املدونات بدور واضح يف<br />
التعبئة ومناصرة الشعب الفلسطيني وهذا ما متثل يف<br />
اأثناء احلرب الإسرائيلية على لبنان يف صيف 2006،<br />
)86( واحلرب الإسرائيلية على غزة.<br />
اأما يف الدول التي مت اإفراغ الفعل السياسي فيها من<br />
كل حمتوى، فقد استشرت حالة من امللّل والضجر من<br />
السياسة التي اأحضرت احلرية وغيّبت الدميقراطية.<br />
فاأدار الكثري من املدونني ظهرهم للصاأن السياسي<br />
وجعلوا من مدوناتهم منابر اأدبية لتعويض النقص الكبري<br />
يف جمال النشر، وترفع الوصاية السياسية والأدبية على<br />
الإنتاج الأدبي وتخرجه من شرنقة الشللية.<br />
لعل اجلنوح نحو العتكاف على كتابة الأدب<br />
واخلاطرة يف املدونات اأصبح مرادفا حلرية الكلمة،<br />
وجتسيدا للتمرد على اأمناط الكتابة السائدة. ويعرب عن<br />
البحث عن منفذ للثقافة املهمشة يف املجتمع، وعن بديل<br />
لصعوبات النشر يف العديد من الدول العربية اإىل درجة<br />
اأن مصطلح “اأدب املدونات” اأصبح متداول بكرثة يف<br />
الأوساط الصحفية والأكادميية ليُشخص الذين وجلوا<br />
عامل الأدب من باب الإنرتنت واملدونات الإلكرتونية<br />
اأبحاث
2 0 1 1<br />
154<br />
حتديدا، ومن رموزه: سارة مطر صاحبة مدونة »قبيلة<br />
تدعى سارة« والشابة العراقية التي تكنى باسم مدونتها<br />
الجنليزية: »ريفر بند« ، riverbend وابراهيم رحمة<br />
صاحب مدونة « اأيقظوا احللم، اأريد اأن اأنام«، وحسنة،<br />
صاحبة املدونة التي حتمل اسمها، وغريهم. ويوجد عدد<br />
كبري من املدونات العربية التي ل حتُ نيّ باستمرار، اأي<br />
ل تتضمن اإدراجات حديثة ول تعليقات. ويتزايد عدد<br />
زوار املدونات العربية الذين يكتفون بالطاع على<br />
الإدراجات دون اللتفاتة اإىل التعليقات، ويرتفع عدد<br />
الإنرتنتيني الذين يقومون باإرسال الكثري من التعليقات<br />
اإىل املدونات دون اأن تكون لها اأي صلة باملوضوع الذي<br />
اأثاره املدوّن، وكاأن لهفة الإنرتنتيني العرب للكام كانت<br />
ومازالت جارفة اإىل درجة اأنها هدمت ضوابط الفعل<br />
التدويني. فاملهم هو اأن ترفع صوتك وتتكلم لتشعر الغري<br />
باأنك موجود، ول يهم ما تقوله. رغم كل هذه املظاهر<br />
التي حتتاج اإىل دارسة سوسيولوجية معمقة لستشراف<br />
مستقبل التدوين يف املنطقة العربية اإل اأنها ل تنفي<br />
حركية الفضاء التدويني النشيطة يف املنطقة العربية،<br />
وتنوع اهتماماته، وتعدد لغاته: (العربية، والجنليزية،<br />
والفرنسية....( وهذا ما حدا بالصحفية اليطالية باول<br />
كاريدي للقول اإن املدونني العرب يستخدمون الإنرتنت<br />
يف حماولة منهم لتغيري الواقع املعيش، كما يحاولون<br />
اإظهار الوجه الإنساين للعامل العربي يف مواجهة النمطية<br />
الأوروبية عن الشرق املسلم ، وشبهت حركة التدوين يف<br />
املنطقة العربية مبا قامت به الشعوب يف اأوروبا الشرقية<br />
للإطاحة بالأنظمة الشيوعية يف نهاية الثمانينات عرب<br />
املناشري والصحف السرية. )87( اإن هذا التشبيه يبدو<br />
مبالغا فيه لأنه يعتمد على تاأثري حمتمل حلركة التدوين<br />
على املجتمع واملواطنني. ول ياأخذ بعني العتبار باأن<br />
التدوين الفعال هو ذاك الذي يتكئ على حركية ثقافية<br />
وسياسية، ويعيش يف بيئة حرية التعبري والتفكري.<br />
لكن اأين هي استتباعات حركية التدوين على وسائل<br />
الإعام العربية الكاسيكية؟<br />
بعد اأن جتاهلت املوؤسسات الإعامية الكاسيكية<br />
العربية الرسمية املُدونات، بداأت تهجم عليها واعتربتها<br />
راأس حَ رْ بَةِ القوى السياسية املعارضة، خاصة بعد اأن<br />
وجدت وشائج مع القوى الجتماعية الفاعلة يف املجتمع<br />
)88(<br />
املدين، وبعد اأن اتسع صداها يف صحافة املعارضة<br />
لكن امام انتشار املدونات كوسيلة فاعلة يف التصال<br />
الجتماعي والسياسي، خاصة يف اأثناء الأحداث<br />
املاأسوية والتشنجات السياسية )89( ، بداأت وسائل الإعام<br />
املختلفة تتحدث عنها بصفتها ظاهرة غري مسبوقة يف<br />
تاريخ التصال يف املنطقة العربية، وكبديل للإعام<br />
الرسمي. واعطت املدونني حق الكام عن جتربتهم،<br />
سواء يف الصحفة، كما فعلت جريدة الحتاد الإماراتية،<br />
على سبيل املثال، التي اأنصاأت صفحة خاصة بالتدوين<br />
ضمن ملحقها اليومي املسمى »دنيا«، اأو يف التلفزيون،<br />
مثلما فعلت قناة اجلزيرة القطرية التي خصصت بعض<br />
احللقات من براجمها للحديث عن حركة التدوين مع<br />
بعض املدونني العرب. وشرع الكثري من الصحفيني<br />
يعرتفون اإنهم يبداأون يومهم املهني بالطاع على ما<br />
تنشره املدونات املشهورة اأو املوؤثرة، اإذ اإنهم يعتربونها<br />
)90(<br />
مصدرا اإخباريا.<br />
وتوؤكد البحوث العلمية اأن الصحف الإلكرتونية<br />
العربية اأوالورقية التي تنشر نسخة على شبكة الإنرتنت<br />
وتنشر مدونات ل تتعدى اأصابع اليد الواحدة، نذكر<br />
منها: سودانايل )سودانية- تصدر باللغة الجنليزية(،<br />
ولورين لوجور )لبنانية- تصدر باللغة الفرنسية(، حيث<br />
اأنها تنشر 16 مدونة، تخلو كلها من التعليقات وحتُ نيّ<br />
اأربعة منها فقط، بشكل يكاد يكون منتظما، وصحيفة<br />
العامل )اإماراتية( املجانية التي تصدر ملحقا بعنوان<br />
»كشكول« تابع لحتاد املدونني، واإياف )السعودية(.<br />
ورغم اأن هذه الأخرية تقدم نفسها لقرائها على اأنها<br />
اأول الصحف الإلكرتونية العربية )صدرت يوم 21 مايو<br />
2001( اإل اأنها مل تفتح املجال للمدونني لولوج عاملها اإل<br />
منذ مايو 2008، ضمن روؤية يطبع عليها تصور الصحفة<br />
الكاسيكية. هذا ما يعكسه شعارها: »دوّن يف بيئة<br />
صحافية«، وتفصح عنه طريقة اإخراجها الذي يشبه<br />
املواقع الإلكرتونية الإخبارية التي يتماهى عرضها مع<br />
الصحف الورقية يف تقسيمها وتصميمها. )91( وصحيفة
155<br />
2 0 1 1<br />
»اإياف« ل تسعى، من خال املدونات، اإىل تقريب<br />
الصحيفة الإلكرتونية من هواجس وانشغالت الفضاء<br />
التدويني، والتماهي مع اأسلوبه وروؤيته اخلاصة للأحداث<br />
الآنية واحلياة الجتماعية، بل ترمي من خالها اإىل<br />
)92(<br />
صقل املواهب الصحفية لتعزيز شبكة مراسليها.<br />
اإذن، مازالت املدونات تنمو على تخوم وسائل الإعام<br />
الكاسيكية يف املنطقة العربية التي مل تستطع اأن تفتح<br />
جسورا للتفاعل املثمر معها. والسبب ل يعود للعامل<br />
السياسي فقط، على اأهميته، كما يعتقد البعض، بل<br />
يعود اإىل جمموعة من العتبارات الجتماعية والثقافية.<br />
التي ميكن اأن نختصرها يف القول باأن املدونات صاأنها<br />
صاأن الإعام اجلديد تقوم على حمورية الفرد، واعتباره<br />
قوة مرجعية يف روؤية الأحداث واحلكم على الظواهر<br />
الجتماعية. ووسائل الإعام الكاسيكية العربية مل<br />
تتاأسس على مرجعية الفرد بدليل اأن هذا الأخري مل يرتق<br />
يف وسائل الإعام ليكون مصدرا للأخبار اإل يف بعض<br />
احلالت النادرة، اأي اإذا كان ضحية للكوارث الطبيعية<br />
وحركة املرور، اأو »خبريا« يف صاأن ما، وما اأكرثهم يف<br />
الفضائيات العربية!.. ول يُعتد براأيه اأو مواقفه اإل اإذا<br />
كان موؤيدا ومباركا للخطاب الرسمي اأو متماهيا مع<br />
اخلطاب املهيمن، هذا اإذا استثنينا بعض احلالت التي<br />
يسمح لرموز املعارضة بحق الكام الظريف يف وسائل<br />
الإعام الكاسيكية لأسباب ظرفية واأجندات ل تدخل<br />
يف اطار جتسيد حرية التعبري. كما اأن الصحفة العربية<br />
تطورت يف ظل غياب ثقافة الراأي الآخر، وحتى الستماع<br />
له. و الكثري من املهنيني يسردون العديد من القصص<br />
التي تروي تشابه عملية اإقصاء وتهميش الآراء التي حتمل<br />
قدرا من النقد يف بريد القراء، وليس صفحات الراأي يف<br />
الصحف العربية. واحلقيقة اأن الصحفة العربية منت<br />
يف كنف الروح الأبوية وغياب احلوار اأوتغيّبه مما جعلها<br />
تبدو وكاأنها تخاطب ذاتها. هذه احلقائق تركت ظالها<br />
الثقيلة على متثّل الصحفة، والصحفة الإلكرتونية.<br />
واإذا مل يكن الأمر كذلك فكيف نفسر قلة املنتديات<br />
وغرف احلوار يف الصحفة الإلكرتونية؟ و قيام بعض<br />
الصحف، بالرتاجع عن املنتديات التي افتتحتها يف<br />
طبعتها الإلكرتونية، لعتقادها اأن القراء جتاوزوا حدود<br />
احلوار.<br />
اإن جتربة املنتديات يف القنوات التلفزيونية العربية،<br />
على قلتها، مل تتبلور بعد، فاإما اأنها تقتصر على طلب<br />
املشاهدين بتصوير لقطات الفيديو واإرصالها اإىل<br />
موقع القناة التلفزيونية، وتكون هذه اللقطات متناغمة<br />
مع ما تبثه القناة من اأخبار اأو مكملة ملا تنقله عن<br />
وكالت الأنباء العاملية، والغالب اأنها ل تخرج عن اإطار<br />
التصنيفات والصور النمطية التي تضعها القنوات<br />
التلفزيونية للأحداث والظواهر الجتماعية والسياسية<br />
والعاقات بني الدول، اأو تتحول اإىل منتدى للمعجبني<br />
باملذيعني واملذيعات والصوؤال عنهم وعن اأحوالهم!<br />
هذه املوؤصرات ل توؤكد اأن وصائل الإعام<br />
الكاسيكية، ووسائل الإعام اجلديد تتطور يف املنطقة<br />
العربية ضمن دوائر مغلقة ول تلتقي، بقدر ما تشهد على<br />
بطء الوصل والتكامل بني املدونات الإلكرتونية ووسائل<br />
الإعام الكاسيكية، مقارنة مبا يجري يف العديد من<br />
الدول املتطورة، كما ذكرنا اآنفا.<br />
وتزكي املوؤشرات املذكورة التفكري يف اأشكال تطور<br />
الصحفة العربية املختلفة عن نظريتها الأجنبية، وتعطي<br />
شرعية للحديث عن حدود الفصل بني الفضاءين : فضاء<br />
الإعام اجلديد، وفضاء الإعام الكاسيكي، وتستسيغ<br />
اخلطاب عن نهاية الصحفة العربية املتقوقعة على ذاتها<br />
نتيجة دورانها يف فلك السلطة السياسية اأو خضوعها<br />
لسلطة راأس املال الذي يخشى املغامرة والتجديد، هذا<br />
التقوقع يوؤدي بها، مستقبا، اإىل حالة من الفصام مع<br />
جمهورها يف ظل اإزدهار املدونات الإلكرتونية، والإعام<br />
اجلديد، حيث ياحظ توجه الشباب العربي، بشكل<br />
لفت للنظر، اإىل اإستخدام اليوتيب Youtube والفيس<br />
بوك Facebook<br />
يفرتض التمعن يف جتربة الصحيفة ،OhmyNews<br />
التي صدرت يف السنة 2000 يف كوريا اجلنوبية، التي<br />
متلك اأكرب عدد من الصحف الإلكرتونية، ضرورة<br />
تغيري منظور قراءة مستقبل الصحفة. فقد بلغ عدد<br />
مراسلي هذه الصحيفة حوايل 400 األف مراسل، من<br />
اأبحاث
2 0 1 1<br />
156<br />
بينهم 2000 صحايف دائم، والبقية جتسد اإميان<br />
اأصحاب الصحيفة املذكورة باأن كل شخص ميكن اأن<br />
يكون مراسلها املحتمل، وتكافئ ماليا اأحسن الكتابات.<br />
ويوجد 600 مراسل باخلارج يشاركون يف اإعداد طبعتها<br />
)93(<br />
بالإجنليزية.<br />
ولعل حالة الفصام بني الإعام الكاسيكي<br />
واملدونات الإلكرتونية يف املنطقة العربية هي التي تسد<br />
النظر اأمام كل روؤية ملستقبل الصحفة وفق ما ترسمه<br />
نظرية التحولت يف منظور الصحفة التي طرحناها<br />
اأعاه، لفهم التواصل والنقطاع بني الصحف الإلكرتونية<br />
العربية احلالية ووريقات “العروة الوثقى”، على سبيل<br />
املثال، التي ظهرت يف باريس يف السنة 1884 على يد<br />
جمال الدين الأفغاين وحممد عبده.<br />
لعل هذا الفصام هو الذي جعل النقاش حول<br />
الصحفة العربية يف الأوصاط املهنية ولدى بعض<br />
املختصني يرتاوح يف مكانه منذ ما يقارب العقد من<br />
الزمن، رغم اأن العامل يعيش حالة من التفاعل والتكامل<br />
بني الإعام اجلديد: املدونات، الفيس بوك، و البود<br />
كاست ،Podcast واليوتيب، والتوتري، ووسائل الإعام<br />
الكاسيكية، لقد ظل متمحورا حول النهاية احلتمية<br />
للصحف الورقية ، وزخم الصحفة الإلكرتونية. فاأفرز<br />
اجتاهني متعارضني: اجتاه يتباهى بصحة تنبوؤاته<br />
بانقراض هذه الصحف بنغمة التشفي من الذين راهنوا<br />
ويراهنون على بقاء الصحف الورقية. واجتاه يرى، بنوع<br />
من احلنني للماضي، اأن للصحافة مستقباً يف املنطقة<br />
العربية. ومل يتبلور النقاش ليتناول الإشكاليات املعرفية<br />
التالية: ماذا نخسر من انقراض الصحفة الورقية،<br />
وماذا نربح من وسائل الإعام اجلديد؟ وهل يُعّد ما<br />
ينشره الناشرون العرب يف الإنرتنت صحافة اإلكرتونية<br />
حقا؟ هل اأن املصاألة تختصر يف الوسيط فقط: ورق<br />
اأو دون ورق، اأو اإن الأمر يتعلق بشكل من التنظيم<br />
والقتصاد واملحتوى وموقع اجلمهور؟ اأي بعبارة اأخرى<br />
ما هو مفهوم الصحفة العربية؟ هل يختصر يف الأداة اأو<br />
الوسيلة؟ هل يقتصر على املضمون؟ هل هي املوؤسسة اأو<br />
املهنة اأو اخلطاب؟<br />
اأخريا، ل مناص من القول باأن الصحفة ل تتطور<br />
بقوة الدفع التكنولوجي مبفرده، على اأهميته، بل تستند<br />
اإىل الستخدام الجتماعي لهذه التكنولوجيا الذي ترفده<br />
جملة من العوامل القتصادية والسياسية والثقافية،<br />
التي اأسست لنظرية التحولت يف منظور الصحفة. وعلى<br />
هذا الأساس ميكن اأن نتفهم وضع بعض املتفائلني الذين<br />
فقدوا الصرب من مياد الثورة الثقافية والسياسية<br />
التي يحدثها التدوين الإلكرتوين، وبقية اأدوات الإعام<br />
اجلديد يف املنطقة العربية.<br />
حتى يكتسب تغيري املنظور كل حمتواه لقراءة علمية<br />
وشاملة لتطور الصحفي يجب اأن يتكئ على مقاربة<br />
منهجية واضحة جتسد الروؤية ملتغريات قطاع الإعام<br />
والتصال. ومنيل اإىل العتقاد باأن املقاربة التواصلية<br />
كفيلة بذلك، لأنها ل حتلل تطور وسائل الإعام مبنطق<br />
تعاقبي، بل ضمن اأفق تداويل متزامن. فاملقاربة<br />
التصالية لظاهرة ما تتجلى يف حتليلها كعنصر يف نظام<br />
)94(<br />
يساهم ضمن حركة دائرية يف بروز ظاهرة اأخرى.
157<br />
2 0 1 1<br />
الهوامش واالإحاالت<br />
ل نقصد باملنظور الرتجمة العربية للمفاهيم الأجنبية perspective اأو ، Horizon بل اإننا نقرتحه كبديل عربي<br />
للمفهوم الأجنبي: ، Paradigm وParadigme ، والذي يتكرر استخدامه يف منت هذه الدراسة.<br />
اإن هذا القرتاح ليس اعتباطيا، بل قام على دراسة متاأنية ومقارنة جلل الرتجمات العربية ل ،Paradigm الذي تعود<br />
جذوره اإىل اللغة اليونانية. وهو كلمة مركبة من Para وتعني القريب، و digm وتعني النموذج . لقد فضلنا هذا البديل<br />
مقتفني اأثر فخري صالح فيما ذهب اإليه. فراجعنا ترجمة كمال ابو ديب لكتاب اإدوارد سعيد املعنون بالستشراق )1984(<br />
ولحظنا اأنه ترجم Paradigm ب )املَنسَ ق( و) منوذج كلي( وعربه سعيد الغامني ب )التبادل( يف ترجمته لكتاب<br />
روبرت شولز املعنون السيمياء والتاأويل)1994(، وعربه سعيد بن كريد ب )اجلذر( يف كتابه مدخل اىل السيميائيات<br />
السردية)1991(، وعربه يوسف الصديق ب )اجلدول( يف كتابه املفاهيم واللفاظ الفلسفية )1976(. اأما استعماله<br />
يف منت الدرس الإعامي العربي فاإنه يتاأرجح بني احلفاظ عليه كما ورد يف اللغة اليونانية، اأي براديغم اأو استبداله ب<br />
»النموذج املرجعي« .<br />
انظر: فخري صالح: اإشكالية املصطلح يف النقد العربي املعاصر، امللحق الثقايف، صحيفة اخلليج، الإمارات العربية<br />
املتحدة، 31 مايو 2004<br />
1- RSS وتعّد اختصارا ل Summary( ) Rich Site الفهرس الرثي ملوقع اإلكرتوين يف شبكة الإنرتنت. وهو عبارة<br />
عن ملف نصي يحتوي على عناوين املقالت الأخرية التي نشرت يف الشبكة، وكذا الوصات الإلكرتونية اإليها.<br />
فهذا امللف يتجدد دوريا من اأجل حتديث عملية الفهرسة. :MetaWeblog API هو بروتوكول التصال بني برامج<br />
املدونات الإلكرتونية.<br />
2 - Pisani Francis: Internet saisi par la folie des « weblogs, le monde diplomatique, aôut 2003<br />
- 3 ياحظ كل دارس لعلوم الإعام والتصال اأن مفهوم الصحافة يف اللغة العربية يقتصر على الصحافة املكتوبة،<br />
وبهذا فاإنه يختلف عن مفهوم Presse يف اللغة الفرنسية الذي شحذته صحافة الراأي ليتضمن بعدا سياسيا ويعني<br />
التعبري عن راأي اأو موقف. وبهذا فاإنه يختلف عن مفهوم Journalisme الذي يشمل كل من عمل ومنتح وسائل<br />
الإعام املختلفة: صحافة، راديو، تلفزيون. بينما يلتقي املفهومان – Press وJournalism يف اللغة الجنليزية<br />
للتعبري عن واقع واحد وميكن اختصاره، يف جمع ونشر املادة الإعامية يف خمتلف املوؤسسات الإعامية. وقد<br />
استعمل الباحث جون شارون Jean Charron مفهوم Journalism يف معناه العام والذي يحيل اإىل اجلريدة<br />
journal التي تتجاوز يف معناها العام النمط املكتوب، لتمتد اإىل اجلريدة املصورة اأو النشرة املتلفزة. وبهذا فاإنه<br />
ل يرتبط بالوسيلة بقدر ما يقرتن باملمارسة الغائرة يف التاريخ التي تقع يف نقطة التقاطع بني اللسانيات والتاريخ<br />
وعلم الجتماع، اأنظر:<br />
Charron Jean : Les mutations paradigmatiques du journalisme, intervention lors des assises sur le<br />
journalisme par le Centre d’Etudes Littéraires et Scientifiques Appliquées et le Réseau d’études sur<br />
le journalisme, Paris, Retrieved june 12, 2009 from : http//www.surlejournalisme.com/wp-content/<br />
uploads/2007/06/expose-sur-les-mutations-paradigmatiques.pdf<br />
4- ميكن مشاهدة هذا الفيلم على شبكة النرتنت على املوقع التايل<br />
http://idorosen.com/mirrors/robinsloan.com/epic/ols-master.html<br />
5 - Missika Jean-Louis: La Fin de la télévision le Seuil 2006(108 pages)<br />
6 - Fogel Jean-François, Patino Bruno: Une presse sans Gutenberg; Grasset & Fasquelle, 2005 p<br />
26<br />
اأبحاث
2 0 1 1<br />
158<br />
7 - Bachelard Gaston :La formation de l’esprit scientifique. Contribution à une psychanalyse de<br />
la connaissance objective, Paris, Librairie philosophique Vrin, 1975 P 57<br />
8 - Ternisien Xavier : Internet et conjoncture publicitaire obligent la presse américaine à se<br />
repenser, Le monde, France, 11 may 2009<br />
9- هذا ما اأكده الصحايف “سكلرب اأوغست” Augustin Scalbert بالصحيفة الإلكرتونية الفرنسية Rue89 يف<br />
الربنامج الإذاعي املسمى InMedia حول الصحافة، والذي بثته اإذاعة طلبة معهد العلوم السياسية التي تاأسست<br />
يف دميسرب 2008، مسرتجع بتاريخ 01 مايو 2008 من:<br />
http://www.inmedia-lesite.fr/?p=827<br />
10 - Ternisien Xavier; Ibid<br />
11- يوؤكد استاذ الإعام يف جامعة لفال بكندا، شارو جون Jean Charron اأن نظرية التحولت يف النماذج النظرية<br />
للصحافة هي ثمرة حوار فكري بداأه منذ عشر سنوات مع الأستاذ جون دو بونفيل de Jean Bonville ومل يكتمل<br />
بعد. اأنظر : نص مداخلته التي قدمها يف اليوم الدراسي بعنوان: “نظرات متقاطعة حول الرهانات املعاصرة<br />
للصحافة والذي انعقد بتاريخ 1 يونيو ، 2007 مسرتجع بتاريخ 71 مارس 2009 من:<br />
http:<br />
//www.surlejournalisme.com/wp-content/uploads/2007/06/expose-sur-les-mutationsparadigmatiques.pdf.<br />
12 - Attalah Paul : Theories de la communication, Sens, Sujet, Savoirs, ed presse de l’universite du<br />
Quebec, tele-universite – Canada; 1991;p 19<br />
13 - CHARRON, Jean et Jean DE BONVILLE: « Le paradigme du journalisme de communication:<br />
essai de définition ». Communication, vol. 17, No 2. 1996 P. 71<br />
14 - Attalah Paul, Ibid, p 23<br />
15 - Mouillaud Maurice, Tétu Jean-François : Le Journal quotidien, lyon, Presses universitaires;<br />
1989; (204 pages)<br />
16 - Chaussée frédérik: Les changements des pratiques journalistiques au Quebec à travers l’etudes<br />
des titres et amorces: la presse ( 1945-1995), mémoires de maitre és art –M A- département d<br />
information et de communication; faculté des lettres; 2007 ( 142 pages)<br />
17 - CHARRON, Jean et Jean De Bonville, Ibid, p 73<br />
18- ميكن الإشارة، من باب الدقة، اإىل اأن بعض املساهمات النظرية التي تنفي الطابع العلمي للبنائية يف جمال<br />
Gauthier<br />
التصال، والصحافة حتديدا، وتوصف باأنها اإيديولوجية، اأنظر:<br />
Gilles : Critique du constructivisme, Revue Communication en questions de<br />
communication : Numero 3- P 185-198 Retrieved, April 21,2009 from http://www.ques2com.<br />
fr/index.php?p=details&cat=recherche&type=article&revue=25&id=392<br />
19- بعد اأن انخفض عدد قرائها اإىل 117.600 قارئ يومي، قررت الصحيفة التوقف عن الإصدار يف شكل ورقي<br />
واقرتحت على صحفييها الستمرار يف العمل لإصدار طبعة اإلكرتونية التي صدرت يوم 17 مارس 2009 متضمنة<br />
العنوان التايل: -One Era Ends, Another Begins اأنظر:<br />
Inparis James : Le Seattle Post-Intelligencer : fin et début, France, Retrieved, April 21,2009 from<br />
http://www.mediapart.fr/club/blog/jamesinparis/170309/le-seattle-post-intelligencer-fin-et-début<br />
20 - Seelye, Katharine.Q :White House Approves Pass for Blo-Ger, New York Times. Retrieved<br />
8 may, 2009, from http://www.nytimes.com/2005/03/07/technology/07press.html?_r=1<br />
21 يعرتف »بيز ستون« ،Biz Stone الشريك يف تاأسيس التويرت، اأن هذا الأخري ل ينافس وسائل الإعام الكاسيكية،<br />
بل يكملها. حقيقة اأن بعض الأحداث سمحت لتويرت بتجاوز وكالت الأنباء. ويُعد تويرت الأفضل يف نقل الأحداث<br />
املستعجلة ،breaking news لكن ل يستطيعه اأن يبلور الأخبار ويحدد اأفقها، ويحلل الأحداث مثلما تفعل وسائل<br />
الإعام الكاسيكية. اأنظر:
159<br />
2 0 1 1<br />
اأبحاث<br />
Biz Stone :Testons les usages commerciaux de Twitter, Propos recueillis par Laurence Girard, in<br />
Le monde, 24 juin 2009<br />
ميكن اأن نذكر، على سبيل املثال، وليس احلصر، النظم الذي نشرته صحيفة اأمني ناصر الشامية عن حرب<br />
22- البوير، وموت ملكة بريطانيا ( 1901( ورفض جملس النواب لتويل اإبنها املجلس النيابي والذي جاء فيه:<br />
جرى يف جملس النواب شيء يدل على التعصب يف الأمور فاإن رئيسه اأسدى مديحا اإىل فكتوريا ذات السرير<br />
فحزب الراديكال استاء منه واأصبح يف غيظ كبري فصرخوا كلهم غيظا وحنقا ليحيا مظفرا شعب البوير<br />
اأنظر: سعيد الأفغاين ( 1983(، اخلرب الإعامي، جملة الإعام العربي، تونس، عدد ديسمرب.<br />
23 - Ringoot R, Utard J.M :Le journalisme en invention, nouvelles pratiques nouveaux<br />
acteurs,Rennes, Presses Universitaires; coll. Res Publica, 2005; pp. 40-41<br />
24 - Blondeau Olivier: Become The Media ! Du Post-Media au Médiascape, intervention au<br />
colloque :Internet, Culture, and Society : French and American Perspectives, les 18-19-20<br />
novembre 2004 à l’Université d’Austin (Texas, EU). Retrieved, May 10, 2009 from http://<br />
www.freescape.eu.org/biblio/article.php3?id_article=214<br />
25 - Chaussée frédérik: Ibid,<br />
26 - Charron Jean: Les mutations paragmatiques du journqlisme; Retrieved, May 10, 2009 from<br />
http recherche.telecom-bretagne.eu/.../expose-sur-les-mutations-paradigmatiques.pdf<br />
27 - Martin Stéphanie: Vérité et objectivité journalistique, même contestation ; les cahiers du<br />
journalisme NO13 ; printemps; 2004 ( p 144-163)<br />
28 - Foucault, Michel: La fonction politique de l’intellectuel», in Dits et Ecrits II, 1976-1988,<br />
Editions Gallimard, Paris, 2001; p. 114<br />
29 - Blondeau Olivier: Ibid,<br />
30 - GenèseJean-Utard Michel :Dispersion et réinvention permanente du journalisme,intervention<br />
lors des des journées d’études intitulées: Regards croisés sur les enjeux contemporains<br />
du journalisme; Retrieved, march 24,2009, from http://www.surlejournalisme.com/<br />
regardscroises/1er-juin-2007/<br />
31 - Tredan Olivier :Le « journalisme citoyen » en ligne : un public réifié ? Hermès, CNRS<br />
Editions, france, n° 47, 2007; p. 115-122<br />
32 - Signouret Muriel: Les médias face au défi de l’info 2.0, Stratégies Magazine n°1431, 26 oct.<br />
Retrieved, April 21,2009, from http://www.strategies.fr/articles/r42521W/les-medias-faceau-defi-de-l-info-2-0.html<br />
33 - Rebillard F : L’information journalistique sur l’internet, entre diffusion massmédiatique<br />
et circulation réticulaire de l’actualité », in Broudoux E., Chartron G., (dir.),Document<br />
numérique et société – Actes du colloque DocSoc 06, Paris : ADBS Editions, pp. 213-226.<br />
Retrieved, march 28,2009 from : http://archives.univ-lyon2.fr/171/<br />
هذا ما عرب عنه »فايو فريدك« Frédéric Filloux مصوؤول نشر جريدة Minutes 20 الفرنسية يف الربنامج<br />
34- الإذاعي املسمى ،InMedia مرجع سابق.<br />
الصادق احلمامي: نهاية اجلمهور، مسرتجع بتاريخ 10 مايو - 2007<br />
من املوقع: 35- http://www.arabmediastudies.net/index.php?option=com_content&task=view&id=182&Itemid=101<br />
36 - Idem<br />
37- الصادق رابح : املصدر ذاته.<br />
38 - Jeanneret Yves : Dispositif; Retrieved, march 24,2009, from ensmp.net/pdf/2005/glossaire/<br />
dispositif.doc<br />
39- الصادق احلمامي: الإعام اجلديد، مقاربة تواصلية، جملة احتاد الإذاعات العربية، تونس، عدد - 2006 4 ص<br />
3- 14
2 0 1 1<br />
160<br />
40 - Pisani Francis, Ibid.<br />
-41 نقا عن « terminologique “ Le grand dictionnaire مُ سرتجع بتاريخ 10 اأبريل 2009 من http://www.<br />
granddictionnaire.com/BTML/FRA/r_Motclef/index800_1.asp<br />
42 متت الستعانة يف هذا التصنيف مبداخلة الباحثني دولوين اإيان Hélèneو Cardon Dominique كردو دومنيك<br />
،Cardon Delaunay اأنظر:<br />
Dominique Cardon, Delaunay Hélène : Un essai de typologie des blogs par leur public, intervention<br />
lors des journées Communication et apprentissage instrumente en réseau, 27,28,29 aout,<br />
Amiens France. Retrieved, April 21, 2009 from http//:www.dep.u-picardie.fr/jocair/resume/<br />
Production_de_soi_comme_technique_relationnelle.ppt<br />
43 الصادق رابح، املصدر ذاته.<br />
44 - Pisani Francis :Internet saisi par la folie des « weblogs, le monde diplomatique, aôut 2003<br />
45 - Cabanis Alexandre: Médias traditionnels et acteurs du Web 2.0; vers la cohabitation ou la<br />
convergence des acteurs de l’information et du divertissement ? These professionnelle, HEC<br />
Paris, Retrieved, February 29,2009, from: http://www.mediafire.com/?7ygmwwjz0cm<br />
- 46 بعض العناصر اخلاصة باملدونة مستلهمة من املصدر التايل:<br />
Couve Phillipe : Comment le blog renouvelle le journalisme, école de journalisme de science<br />
politique, Retrieved, February 29,2009, from http://www.slideshare.net/phcouve/commentle-blog-renouvelle-le-journalisme-presentation.<br />
47 - Ramonet Ignacio: Medias en crise, Le monde Diplomatique, frnace, Janvier 20005<br />
48 - Dominique Cardon, Delaunay Hélène; Ibid,<br />
49 - Ibid,<br />
- 50 تتفق خمتلف القواميس اخلاصة بالنرتنت اأو التصال على هذا التعريف، اأنظر:<br />
Agence Conseil de communication (2009): lexique de communication. Retrieved, march 24,2009,<br />
from http://www.natcom.fr/lexique/B.html.<br />
51 : -TV5 monde: Blogsphere, lexique ( 2003). Retrieved, march 24,2009, from http://www.tv5.<br />
org/TV5Site/blogosphere/glossaire_blogosphere.php<br />
ميكن الشارة اإىل اأن املوقعني ، Weblogs.com وblo.gs يسمحان مبتابعة عملية استحداث املدونات. واملوقع<br />
Weblogues.com يسمح فقط مبتابعة ما يستحدث يف الفضاء التدويني الفرنكفوين فقط .<br />
75 - Bougnoux Daniel: La fonction des médias dans la démocratie, les Cahiers français, n 338, maijuin<br />
2007; Pages ) 3-7) Retrieved, march 24,2009, from http://www.ladocumentationfrancaise.<br />
fr/spip/IMG/pdf/338-bougnoux.pdf<br />
76 - Dominique Cardon, Delaunay Hélène; op cite<br />
77- نصر الدين لعياضي: فضاء عمومي اأم خميال اإعامي، مقاربة نظرية لتمثل التلفزيون يف املنطقة العربية، حولية<br />
العلوم الجتماعية، جامعة الكويت- سيصدر يف شهر سبتمرب 2011<br />
- 78 هذا ما صرح به اأحد املدونني يف الربنامج Compus الذي تبثه القناة الفرنسية الثانية يوم 21 سبتمرب 2007،<br />
نقا عن املقال ا ملعنون ? media Blogs: un nouveau مسرتجع بتاريخ 24 اأكتوبر 2007 من:<br />
http://info.france2.fr/dossiers/medias/14338334-fr.php?page=accueil<br />
79- هذا ما اأكده Paul Grabowicz اأستاذ املدونات الإلكرتونية يف جامعة بريكلي الأمريكية، نقا عن Francis<br />
( Pisani مصدر سابق )<br />
80 - Charron Jean, Loïc Jacob :Énonciation journalistique et subjectivité: les marques du<br />
changement Revue les Études de communication publique : no 14, Département d’information<br />
et de communication; Université Laval; Québec; 1999; P 5-75
161<br />
2 0 1 1<br />
39- ميكن الرجوع اإىل املتابعات التلفزيونية التي ينشرها كل من توفيق رباحي وسليم عزوز يف القدس العربي ليكتشف<br />
انصرافهما عن متطلبات املوضوعية واحلياد التي كانت تعد من الركان الأساسية يف مهنة الصحافة.<br />
40 - Benoît Raphaël : Comment les blogueurs ont révolutionné le journalisme ? Retrieved,<br />
august 20,2008, from http ://benoit-raphael.blogspot.com/2008/05/comment-les-blogueursont-rvolutionn-le.html<br />
ميكن الشارة اإىل اأن Rue89 هي صحيفة اإلكرتونية اأنصاأها صحافيون من صحيفة Libération يوم 6 مايو 2007<br />
للإعام واحلوار حول النتخابات الرئاسية الفرنسية.<br />
41- Benoît Raphaël : Comment les blogueurs ont révolutionné le journalisme ? Retrieved,<br />
august 20,2008, from http ://benoit-raphael.blogspot.com/2008/05/comment-les-blogueursontrvolutionn-le.html<br />
42- François Guillot: Les médias en ligne et leurs politiques de blogs; Retrieved, august, 20,2008,<br />
from http://internetetopinion.wordpress.com/2008/11/30/les-medias-en-ligne-et-leurspolitiques-de-blogs/<br />
43- حسب الدراسة املوسومة: وسائل الإعام املتواجدة يف شبكة النرتنت وسياستها يف جمال املدونات الإكرتونية،<br />
التي اأعدها كل من ، François Guillot و Emmanuel Bruant ونشراها بتاريخ 30 نوفمرب 2008، مسرتجع<br />
بتاريخ 11 ديسمرب 2008 من :<br />
http ://internetetopinion.wordpress.com/2008/11/30/les-medias-en-ligne-et-leurs-politiques-deblogs.<br />
44 - Phillipe couve ; Ibid,<br />
45- بهذه الكلمات عرّ ف املوقع املذكور هدفه، اأنظر:<br />
اأبحاث<br />
http://fr.globalvoicesonline.org<br />
46- ياسر اأبو هالة : عامان من التدوين، مسرتجع بتاريخ 11 مارس 2009، من املوقع :<br />
http://arabicos.blogspot.com/2009/04/blog-post_9036.html<br />
47- ميكن اأن نذكر، على سبيل املثال، مدونتني الأويل خاصة بالصحفيني الفرنسيني والثانية بالصحفيني الأمريكيني،<br />
وهما:<br />
http://www.presseencolere.org<br />
http://angryjournalist.com<br />
48- Pisani Francis; Ibid,<br />
49- Ibid<br />
50- Debouté Alexandre : Peut-on vivre de son blog ? Retrieved, May 11, 2009, from http://www.<br />
strategies.fr/etudes-tendances/dossiers/r45495/peut-on-vivre-de-son-blog.html<br />
70- http://fr.wikipedia.org/wiki/You_Tube/ Retrieved March 21,2009<br />
71- http://fr.wikipedia.org/wiki/myspace/ Retrieved March 21,2009<br />
72- http://fr.wikipedia.org/wiki/ Facebook. Retrieved March 21,2009<br />
73- Mattelard Armand , Ibid,<br />
- 74 جاسم حممد جابر: الصحافة اللكرتونية العربية: املعايري الفنية واملهنية، دراسة حتليلية لعينة من الصحف<br />
الإلكرتونية العربية، اأبحاث املوؤمتر الدويل الأول، العام اجلديد، تكنولوجيا جديدة .. لعامل جديد، جامعة<br />
البحرين، 7-9 اأبريل 2009 ص )412-391(<br />
75- Al Malky Rania :Blogging for reform: the case of Egypt, Retrieved, May 10, 2009 from:<br />
http://www.arabmediasociety.com/?article=12<br />
76- Zouari Khaled (2005): Publics et usages de la presse maghrébine francophone sur l’Internet,<br />
les GRESEC (Université Stendhal Grenoble 3), Retrieved, march 28,2009 from, http://www.<br />
gdrtics.uparis10.fr/pdf/doctorants/papiers_2005/KhaledZouari.pdf
2 0 1 1<br />
162<br />
- 77 حسب اإحصائيات السنة 2008، نقا عن املوقع املختص يف الحصائيات املتعلقة باستخدام النرتنت:<br />
:أنظر ، internetworldstats.com<br />
Top Ten Languages Used in the Web, (Number of Internet Users by Language) Retrieved, march<br />
21,2009 from http://www.internetworldstats.com/stats7.htm .<br />
78- حسب اإحصائيات السنة 2008، نقا عن املوقع املختص يف الحصائيات املتعلقة باستخدام النرتنت:<br />
:أنظر ، internetworldstats.com<br />
Middle East Internet Usage and Population Statistics, Retrieved, march 21,2009 http://www.<br />
internetworldstats.com/stats5.htm<br />
- 79 نقا عن : « الإنرتنت يف املغرب العربي: الواقع واملعوقات« مُ سرتجع بتاريخ 19 مارس 2009 من:<br />
http://knol.google.co.kr/k/-/-/nuwt25le1ayl/9#<br />
80- مصطفى سامل: نشر با حدود لكن بخوف، دراسة مسحية للمدونات والتدوين، الرابطة العربية للثقافة، دبي.<br />
مسرتجع بتاريخ 1 مايو 2009 من:<br />
http://arabicos.blogspot.com/2009/02/blog-post_9043.html<br />
81 - Ibid<br />
82- Ibid<br />
83- Patrice Claude :Egypte : les rebelles de la Toile, LE MONDE, France; 11mars 2009<br />
84- فايز بن عبد اهلل الشهري: واقع ومستقبل الصحف اليومية على شبكة النرتنت ...دراسة مسحيّة شاملة على<br />
روؤساء حترير الصحف السعودية ذات الطبعات اللكرتونية، بحث مقدم لندوة “الإعام السعودي سمات الواقع<br />
و اجتاهات املستقبل «املنتدى الإعامي الأول- اجلمعية السعودية للإعام والتصال الرياض/ جامعة امللك<br />
سعود - مارس 20-25مارس/2003م ، مسرتجع بتاريخ 1 مايو 2009، من املوقع: http://www.e3lami.com/<br />
innerarticles.php?articleid=919&id=39<br />
85- اأمل قرامي ، املصدر ذاته<br />
86- املصدر ذاته.-<br />
87- اأمين حامد: باول كاريدي: املدونون العرب هم اأفضل من يصفون الواقع العربي املعقد، صحيفة الشرق الأوسط<br />
16 يناير، مسرتجع بتاريخ 11 فرباير 2009، من: http://www.aawsat.com/details.asp?section=19&a<br />
rticle=454219&issueno=10641<br />
88- Al Malky Rania. Ibid,<br />
89- Lynch Mark (2007): blogging the new Arab public, Retrieved 21, may, 2009, from:<br />
http://www.arabmediasociety.com/?article=10<br />
- 90 هذا ما اأكدته الصحافية واملدونة وفاء بنت خلفان، يف مقابلة مع الباحث اأجريت يف كلية البنات، بجامعة الشارقة،<br />
يوم 3 مايو 2009 على الساعة الثالثة ظهرا.<br />
91- خلف علي اخللف: مدونات اإياف، مفهوم اآخر للصحافة التفاعلية ، اخلميس 19 يونيو. مسرتجع بتاريخ 16<br />
فيفري 2009 من:<br />
www.elaph.com/Web/Oyoon/2009/4/429097.htm<br />
92- احتفالً بالذكرى السابعة لتاأسيسها: اياف تطلق خدمة املدونات، مسرتجع بتاريخ 16 فيفري 2009<br />
http://www.elaph.com/Web/Oyoon/2009/4/429079.htm<br />
93- lemeur Loïc: Les blogs contre le journalisme, Retrieved 21, february ,2009,from :<br />
http://loiclemeur.com/france/2005/09/les_blogs_contr.html<br />
94- Mucchielli Alex :Les sciences de l’information et de la communication, Hachette livre,<br />
Paris. 1995; P 45
163<br />
2 0 1 1<br />
املصادر واملراجع<br />
1-<br />
2-<br />
3-<br />
4-<br />
5-<br />
6-<br />
7-<br />
8-<br />
9-<br />
الكتب االجنبية:<br />
Attalah, Paul. Théories de la communication, Sens, Sujet, Savoirs, Canada : Ed presse de<br />
l’université du Québec, télé-université ,1991<br />
Bachelard, Gaston. La formation de l’esprit scientifique, Contribution à une psychanalyse de<br />
la connaissance objective. France :Librairie philosophique Vrin, 1975<br />
Chaussée, frédérik. Les changements des pratiques journalistiques au Québec à travers l’etudes<br />
des titres et amorces: la presse ( 1945-1995), mémoires de maitre és art –M A- département d<br />
information et de communication. France :faculté des lettres, 2007<br />
Fogel, Jean-François, and Patino Bruno. Une presse sans Gutenberg. France :Grasset &<br />
Fasquelle, 2005<br />
Foucault, Michel. La fonction politique de l’intellectuel», in Dits et Ecrits II, 1976-1988 .<br />
France : éditions Gallimard, 2001<br />
Missika Jean-Louis. La Fin de la télévision. France :Le Seuil, 2006<br />
Mouillaud, Maurice, and Tétu, Jean-François .Le Journal quotidien. France : Presses<br />
universitaires, 1989<br />
Mucchielli, Alex .Les sciences de l’information et de la communication. France : Hachette<br />
livre, 1995<br />
Ringoot R, and Utard J.M . Le journalisme en invention, nouvelles pratiques nouveaux<br />
acteurs. France : Presses Universitaires; coll. Res Publica, 2005<br />
الدوريات:<br />
•الأفغاين، سعيد، اخلرب الإعامي، جملة الإعام العربي، تونس، عدد ديسمرب 2003<br />
احلمامي، الصادق، الإعام اجلديد، مقاربة تواصلية، جملة احتاد الإذاعات العربية، تونس، عدد (2006<br />
•صالح، فخري، اإشكالية املصطلح يف النقد العربي املعاصر، امللحق الثقايف، صحيفة اخلليج، الإمارات العربية<br />
املتحدة، 31 مايو 2004<br />
•لعياضي، نصر الدين، فضاء عمومي اأم خميال اإعامي، مقاربة نظرية لتمثل التلفزيون يف املنطقة العربية،<br />
حولية العلوم الجتماعية، جامعة الكويت- سيصدر يف شهر سبتمرب 2011<br />
اأبحاث<br />
) •<br />
10-<br />
11-<br />
12-<br />
13-<br />
14-<br />
15-<br />
16-<br />
17-<br />
18-<br />
Biz Stone .Testons les usages commerciaux de Twitter, Propos recueillis par Laurence Girard.<br />
Le monde, 24 juin 2009<br />
CHARRON, Jean, and Jean, De Bonville. « Le paradigme du journalisme de communication :<br />
essai de définition ». Communication, vol. 17, No 2 ( 1996) : 51-97<br />
Charron, Jean and Loïc , Jacob. Énonciation journalistique et subjectivité: les marques du<br />
changement, Revue les Études de communication publique : no 14, (1999) : 5-75<br />
Gauthier, Gilles. Critique du constructivisme, Revue Communication en questions, No 3<br />
(2003) : 185-198<br />
Martin , Stéphanie. Vérité et objectivité journalistique, même contestation .Les cahiers du<br />
journalisme, NO13 ( 2004) : 24-39<br />
Patrice, Claude. Egypte : les rebelles de la Toile. LE MONDE,; 11mars 2009<br />
Pisani, Francis. Internet saisi par la folie des « weblogs, Le monde diplomatique, août 2003<br />
: 8-9<br />
Ramonet, Ignacio: Medias en crise. Le monde Diplomatique, Janvier ( 20005) : 26-27<br />
Ternisien, Xavier. Internet et conjoncture publicitaire obligent la presse américaine à se
2 0 1 1<br />
164<br />
19-<br />
repenser, Le monde, France, 11 mai 2009<br />
Ternisien, Xavier. Internet et conjoncture publicitaire obligent la presse américaine à se<br />
repenser, Le monde, France, 11 mai 2009<br />
املصادر الإلكرتونية:<br />
2احلمامي، 020 الصادق، نهاية اجلمهور، مسرتجع بتاريخ 10 مايو 2007<br />
http://www.arabmediastudies.net/index.php?option=com_content&task=view&id=18Itemid=101<br />
2رابح، 121 الصادق، املدونات والوسط الإعامية: بحث يف الوصل والفصل، اأبحاث املوؤمتر الدويل الأول، الإعام<br />
اجلديد: تكنولوجيا جديدة... لعامل جديد، جامعة البحرين، 7- 9 اأبريل ( 2009 ص7 43- 558( مسرتجع بتاريخ 2<br />
مايو 2009 من املوقع: www.nmconf.uob.edu.bh/download/book/arabic.pdf//<br />
2اأبو 222 هالة، ياسر، عامان من التدوين، مسرتجع بتاريخ 11 مارس 2009، من املوقع : http://arabicos.<br />
blogspot.com/2009/04/blog-post_9036.html<br />
2سامل، 323 مصطفى، نشر با حدود لكن بخوف، دراسة مسحية للمدونات والتدوين، الرابطة العربية للثقافة،<br />
دبي. مسرتجع بتاريخ 1 مايو 2009 من: http://arabicos.blogspot.com/2009/02/blog-post_9043.html<br />
2بن 424 عبد اهلل الشهري، فايز، واقع ومستقبل الصحف اليومية على شبكة النرتنت ...دراسة مسحيّة شاملة<br />
على روؤساء حترير الصحف السعودية ذات الطبعات اللكرتونية، بحث مقدم لندوة “الإعام السعودي سمات الواقع<br />
و اجتاهات املستقبل «املنتدى الإعامي الأول- اجلمعية السعودية للإعام والتصال الرياض/ جامعة امللك سعود -<br />
مارس 20-25مارس/2003م ، مسرتجع بتاريخ 1 مايو 2009، من املوقع: http://www.e3lami.com/innerarticles.<br />
php?articleid=919&id=39<br />
25- Agence Conseil de communication. Lexique de communication. Retrieved, march 24,2009,<br />
from http://www.natcom.fr/lexique/B.html.<br />
26- Al Malky, Rania .Blogging for reform: the case of Egypt, Retrieved, May 10, 2009 from<br />
http://www.arabmediasociety.com/?article=12<br />
27- Benoît, Raphaël . Comment les blogueurs ont révolutionné le journalisme ? Retrieved,<br />
august 20,2008, from http ://benoit-raphael.blogspot.com/2008/05/comment-les-blogueursont-rvolutionn-le.html<br />
28- Blondeau, Olivier. Become The Media ! Du Post-Media au Médiascape . intervention au<br />
colloque :Internet, Culture, and Society : French and American Perspectives, les 18-19-20<br />
novembre 2004 à l’Université d’Austin (Texas, EU). Retrieved, May 10, 2009 from http://<br />
www.freescape.eu.org/biblio/article.php3?id_article=214<br />
29- Bougnoux. Daniel. La fonction des médias dans la démocratie, les Cahiers français, n 338,<br />
mai-juin 2007 :) 3-7) Retrieved, march 24,2009, from http://www.ladocumentationfrancaise.<br />
fr/spip/IMG/pdf/338-bougnoux.pdf<br />
30- Cabanis, Alexandre. Médias traditionnels et acteurs du Web 2.0; vers la cohabitation ou la<br />
convergence des acteurs de l’information et du divertissement ? These professionnelle, HEC<br />
Paris, Retrieved, February 29,2009, from: http://www.mediafire.com/?7ygmwwjz0cm<br />
31- Charron, Jean .Les mutations paradigmatiques du journalisme, intervention lors des assises<br />
sur le journalisme par le Centre d’Etudes Littéraires et Scientifiques Appliquées et le Réseau<br />
d’études sur le journalisme, Paris, Retrieved june 12, 2009 from : http//www.surlejournalisme.<br />
com/wp-content/uploads/2007/06/expose-sur-les-mutations-paradigmatiques.pdf<br />
32- Couve, Phillipe. Comment le blog renouvelle le journalisme ? école de journalisme de science
165<br />
2 0 1 1<br />
politique, Retrieved, February 29,2009, from http://www.slideshare.net/phcouve/commentle-blog-renouvelle-le-journalisme-presentation.<br />
33- Debouté Alexandre : Peut-on vivre de son blog ? Retrieved, May 11, 2009, from http://www.<br />
strategies.fr/etudes-tendances/dossiers/r45495/peut-on-vivre-de-son-blog.html<br />
34- Dominique, Cardon and Delaunay, Hélène . Un essai de typologie des blogs par leur public,<br />
intervention lors des journées Communication et apprentissage instrumente en réseau,<br />
27,28,29 aout, Amiens France. Retrieved, April 21, 2009 from http//:www.dep.u-picardie.fr/<br />
jocair/resume/Production_de_soi_comme_technique_relationnelle.ppt<br />
35- François, Guillot. Les médias en ligne et leurs politiques de blogs; Retrieved, august,<br />
20,2008, from http://internetetopinion.wordpress.com/2008/11/30/les-medias-en-ligne-etleurs-politiques-de-blogs/<br />
36- Genèse ,Jean and Utard Michel. Dispersion et réinvention permanente du journalisme,i<br />
ntervention lors des journées d’études intitulées: Regards croisés sur les enjeux contemporains<br />
du journalisme; Retrieved, march 24,2009, from http://www.surlejournalisme.com/<br />
regardscroises/1er-juin-2007/<br />
37- http://idorosen.com/mirrors/robinsloan.com/epic/ols-master.html<br />
38- http://fr.wikipedia.org/wiki/myspace/ Retrieved March 21,2009<br />
20-http://fr.wikipedia.org/wiki/You_Tube/ Retrieved March 21,2009<br />
21- Inparis, James : Le Seattle Post-Intelligencer : fin et début, France, Retrieved, April 21,2009<br />
from http://www.mediapart.fr/club/blog/jamesinparis/170309/le-seattle-post-intelligencerfin-et-début<br />
22- Jeanneret ,Yves. Dispositif, Retrieved, march 24,2009, from ensmp.net/pdf/2005/glossaire/<br />
dispositif.doc<br />
23- Lemeur ,Loïc .Les blogs contre le journalisme, Retrieved 21, february ,2009,from http://<br />
loiclemeur.com/france/2005/09/les_blogs_contr.html<br />
24- Lynch, Mark.Blogging the new Arab public, Retrieved 21, may, 2009, from: http://www.<br />
arabmediasociety.com/?article=10<br />
25- Rebillard, F . L’information journalistique sur l’internet, entre diffusion massmédiatique<br />
et circulation réticulaire de l’actualité », in Broudoux E., Chartron G., (dir.),Document<br />
numérique et société – Actes du colloque DocSoc 06, Paris : ADBS Editions, Retrieved,<br />
march 28,2009 from : http://archives.univ-lyon2.fr/171/<br />
اأبحاث<br />
26- Seelye, Katharine.Q :White House Approves Pass for Blo-Ger, New York Times. Retrieved 8<br />
may, 2009, from http://www.nytimes.com/2005/03/07/technology/07press.html?_r=1<br />
27- Signouret, Muriel. Les médias face au défi de l’info 2.0, Stratégies Magazine n°1431, 26 oct.<br />
Retrieved, April 21,2009, from http://www.strategies.fr/articles/r42521W/les-medias-faceau-defi-de-l-info-2-0.html<br />
28- TV5 monde. Blogsphere, lexique, Retrieved, march 24,2009, from http://www.tv5.org/<br />
TV5Site/blogosphere/glossaire_blogosphere.php<br />
29- Zouari, Khaled .Publics et usages de la presse maghrébine francophone sur l’Internet, les<br />
GRESEC (Université Stendhal Grenoble 3), Retrieved, march 28,2009 from, http://www.<br />
gdrtics.uparis10.fr/pdf/doctorants/papiers_2005/KhaledZouari.pdfr
2 0 1 1<br />
166
مقاربات<br />
2 0 1 1<br />
املرتكزات السوسيولوجية للظواهر<br />
السيكولوجية عند فيكوتسكي: هل ميكن<br />
اإرجاع الظاهرة النفسية اإىل اأرومتها الثقافية؟<br />
االأدب التفاعلي واجتاهات ما بعد البنيوية<br />
Fabulous Universalism:<br />
St Paul According to Alan<br />
Badiou
املرتكزات السوسيولوجية للظواهر<br />
السيكولوجية عند فيكوتسكي:<br />
هل ميكن اإرجاع الظاهرة النفسية<br />
اإىل اأرومتها الثقافية؟<br />
مقاربات<br />
اأ.د.علي اأسعد وطفة<br />
جامعة الكويت
171<br />
2 0 1 1<br />
املرتكزات السوسيولوجية للظواهر السيكولوجية عند فيكوتسكي:<br />
هل ميكن اإرجاع الظاهرة النفسية اإىل اأرومتها الثقافية؟<br />
اأ.د.علي اأسعد وطفة<br />
تعد نظرية فيكوتسكي )1934-1896( البنائية،<br />
من اأكرث الطفرات العلمية خصوبة وتاألقا يف تاريخ<br />
علم النفس احلديث، وهي ترتجم عبقرية فيكوتسكي<br />
البنيوية التي اأدهشت معاصريه يف نهاية القرن التاسع<br />
عشر، مبا قدمته من عطاءات مذهلة بكل املقاييس<br />
العلمية يف جمال علم النفس والتطور النفسي والعقلي<br />
عند الأطفال )1( .<br />
ولد ليف سومينوفيتش فيكوتسكي Lev Vygotsky<br />
عام 1896، و ترعرع اإبان الثورة الروسية باأحداثها<br />
الدموية املريعة؛ انتسب اإىل كلية احلقوق وتخرج من<br />
اجلامعة سنة 1917، اأي يف العام الذي انتصرت فيه<br />
الثورة البلشفية وتولت مقاليد السلطة يف روسيا. وعلى<br />
اإثر تخرجه من اجلامعة تركز اهتمامه العلمي يف جمال<br />
علم النفس بصورة عامة وعلم نفس الطفولة بصورة<br />
خاصة، وقد شكل موصوع منو الأطفال وتطورهم<br />
النفسي شغله الشاغل وموضوعه الرئيس، حيث وجد<br />
نفسه يف مهنة التعليم والطب النفسي بعيدا عن ميدان<br />
التخصص اجلامعي احلقوقي الذي انخرط فيه بداية<br />
يف اجلامعة )2( . ومن ثم بداأت عبقرية فيكوتسكي تظهر<br />
بوصوح يف جمال البحث العلمي عندما بداأ بنشر<br />
جمموعة من املقالت الرائعة يف جمال علم النفس،<br />
وهي الأعمال التي وجدت طريقها اإىل املوؤمتر الثاين<br />
للأمراض العصبية و النفسية يف ليننجراد عام 1924.<br />
كان فيكوتسكي موؤمنا مببادئ الثورة البلشفية،<br />
متحمسا لتعاليم ماركس؛ وكان يعتقد باأن النظام<br />
الشرتاكي هو النظام الأمثل ملجتمع اإنساين تسوده<br />
قيم العدالة واحلق واملساواة. وحتت تاأثري هذه النزعة<br />
املاركسية كتب مقال بعنوان “التغيري الجتماعي<br />
للإنسان” يف عام 1930 يبني فيه اأن التحول الثوري<br />
للمجتمع كان ضروريا لتغيري احلياة املادية والظروف<br />
املجتمعية.<br />
وحتت تاأثري هذه الروؤية الأيديولوجية املاركسية،<br />
بداأ فيكوتسكي يوؤسس لعلم النفس املاركسي منطلقا<br />
من مفاهيم ومبادئ املاركسية وتصوراتها، مضفيا عليه<br />
مامح نزعة اجتماعية مفرطة تنطلق من اأهمية التغيري<br />
الجتماعي يف اإحداث منظومة من التحولت البنيوية يف<br />
جمال سيكولوجيا اجلماهري واحلياة اليومية، ويف دائرة<br />
هذا التوجه السيكولوجي بداأ يدرس الظواهر النفسية يف<br />
ظل التحولت املجتمعية الطبقية، التي شهدها املجتمع<br />
الروسي حتت مطارق الثورة البلشفية. لقد اأحدثت الثورة<br />
البلشفية ثورة يف الأمزجة ويف التصورات والتكوينات<br />
النفسية للمجتمع يف روسيا القيصرية، ويف ظل هذه<br />
الأوضاع بداأ املجتمع يشهد حتولت سيكولوجية واسعة،<br />
وعلى هذا الأساس بداأ فيكوتسكي يفكر يف اجلوانب<br />
الجتماعية للعملية النفسية، ويرى اأصولها متجذرة<br />
يف طبيعة احلياة الجتماعية، وعلى اأساس هذه الروؤية<br />
تكونت عقيدته السيكولوجية يف الإميان الكبري باأن<br />
الظواهر النفسية تُفسر بالطبيعة الجتماعية وترتد اإىل<br />
اأصولها املجتمعية، وينطلق هذا التصور من اإقرار شامل<br />
بعقيدة علمية توؤمن باأن سيكولوجيا اجلماهري ميكن اأن<br />
حتُ دد وَترتسم عرب حتولت جمتمعية عميقة اجلذور.<br />
وقد شكلت روؤيته هذه نابضا اأساسيا من نوابض تطور<br />
النظرية املاركسية يف علم النفس، وهذه الروؤية كانت<br />
متشبعة بالطابع الأيديولوجي، حيث كان يعتقد باأن<br />
علم النفس املاركسي ليس جمرد مدرسة بني املدارس،<br />
بل هو علم النفس الذي يشتمل بذاته على خصائص<br />
العلم احلقيقي دون غريه من النظريات السيكولوجية<br />
التي كانت قائمة يف عصره، ولذلك فاإن فيكوتسكي يعد<br />
مقاربات
2 0 1 1<br />
172<br />
يف حقيقة الأمر واحدا من كبار موؤسسي علم النفس<br />
املاركسي ودعاته يف القرن التاسع عشر )3( .<br />
ويف ظل هذه العقيدة الأيديولوجية الواضحة لعلم<br />
النفس، عمل فيكوتسكي على تطبيق املبادئ املاركسية<br />
يف الكشف عن قانونية الطبيعة النفسية للإنسان، وهو<br />
يف هذا السياق يتنكر للنظريات السطحية التي اعتمدها<br />
بعض معاصريه من علماء النفس تاأسيسا على مقولت<br />
منطقية تتعلق بالقوانني العامة للماركسية ولسيما<br />
قانون التحولت الكمية اإىل كيفية، وقانون وحدة وصراع<br />
الأضداد، وقانون نفي النفي، وغري ذلك من القوانني<br />
واملبادئ العامة التي شكلت منهجا سيكولوجيا اعتمده<br />
بعض مفكري علم النفس املاركسي يف تاأسيس تصوراتهم<br />
النفسية. و على خاف ذلك انطلق فيكوتسكي من<br />
املنهجية املاركسية يف اأصولها العلمية التي تعتمد على<br />
مبداأ املاحظة والتجربة يف اجتاه الكشف عن معامل<br />
سيكولوجيا الإنسان وتطور العقل الإنساين )4( .<br />
لقد اأكدت اأعمال فيكوتسكي الأوىل، يف جامعة<br />
موسكو، اآراءه عن تاأثري التكوينات الجتماعية الثقافية<br />
يف تشكل الظواهر النفسية وتطورها، فالصراعات<br />
والتناقضات التي جنمت عن الثورة الروسية، خلفت<br />
اأمناطا متعددة من املشكات السيكولوجية، ولسيما<br />
هذه التي تتمثل يف اأمراس نفسية عاناها املجتمع<br />
الروسي اإبان الضطرابات الدموية يف ذلك العصر.<br />
لقد عمل فيكوتسكي مع مرضى هذه املرحلة، و لحظ اأن<br />
اأغلب هذه احلالت املرضية ميكن اأن تعالج عرب فعاليات<br />
اجتماعية ناجعة ترتكز اإىل مبادئ املساندة والتوجيه<br />
والإرشاد والتشجيع، التي تساعد املرضى يف التعويض<br />
عن اآلمهم النفسية ومعاناتهم السيكولوجية، فالتعويض<br />
الجتماعي غري املباشر ميكّ ن املريض من القيام بعدد<br />
من الوظائف السيكولوجية ولسيما القراءة و التواصل<br />
والتذكر و التفكري و الستنتاج )5( .<br />
اخلصائص االجتماعية التاريخية للظاهرة النفسية:<br />
يربر فيكوتسكي الطبيعة الجتماعية للظاهرة<br />
السيكولوجية بتاأكيده اأن الظاهرة النفسية نتاج للتفاعل<br />
الجتماعي والتجارب الجتماعية املكونة للثقافة، ومن<br />
ثم فاإن الثقافة مبا تشتمل عليه من عامات ورموز<br />
ومصطلحات لغوية وقيم ومنتوجات اإنسانية تشكل<br />
العناصر الأساسية للتفاعل الجتماعي الذي يوجد يف<br />
اأصل الظواهر النفسية.<br />
فاأسلوب التنشئة الجتماعية، مبا تنطوي عليه من<br />
تفاعل بني الآباء والأبناء، متلي على الأطفال صيغا<br />
سيكولوجية حمددة يف طريقة استجاباتهم وتفاعلهم،<br />
فطريقة الآباء يف السيطرة على الأطفال حتدد للأطفال<br />
نوع وطبيعة املشاعر التي متتلكهم، وتشكل منطق روؤيتهم<br />
للوجود، بصورة تبدو على نحو سيكولوجي راسخ املعامل.<br />
فطرق تربية الأطفال والهتمام بهم توؤدي اإىل خلق<br />
شخصيات اجتماعية منفتحة اأو منعزلة، كما اأن التسلط<br />
الدائم على الطفل وعدم منحه احلرية الكافية تكون<br />
شخصا سلبيا مسلوب الإرادة، وعلى خاف ذلك، فاإن<br />
اإعطاء الطفل حرية التعبري عن الراأي و الهتمام و الثقة<br />
الكافية، تولد لديه قوة الإرادة وتعطيه مامح شخصية<br />
فاعلة، وهذا يعني بالنتيجة اأن سيكولوجيا الطفل تتشكل<br />
يف اأتون التجربة الجتماعية للتنشئة الجتماعية مبا لها<br />
وما عليها، وعرب هذه التجربة الرتبوية املجتمعية تتشكل<br />
طبيعة الطفل النفسية مبا تنطوي عليه من مشاعر<br />
وجدانية ومضامني تتعلق باأنظمة الوعي والإدراك<br />
والأحاسيس )6( .<br />
فالثقافة الإنسانية كما يوؤكد فيكوتسكي تشكل<br />
الظواهر السيكولوجية عرب عاقة الفرد مع العامل الذي<br />
يحيط به: فاجللوس على الكراسي، وتناول الطعام<br />
باستخدام اأدوات املائدة، وما يتعلق باحليّز املكاين<br />
لشروط الطعام، يوؤثر يف تكوين سيكولوجية الفرد<br />
بطريقة خمتلفة عما اإذا كان يتناول طعامه جالسا اإىل<br />
جوار شخص اآخر على الأريكة، اأو تناول الطعام باليد،<br />
ومن ثم فاإن العيش يف شكل مثلث يولد معطيات خمتلفة<br />
عن تلك التي توجد يف شكل دائري.<br />
واإذا كان للمكان هذه الأهمية يف حتديد اخلصائص<br />
السيكولوجية للفرد، فاإن اأهمية الرموز الثقافية تفوق<br />
هذه الأهمية وتتجاوزها اإىل حدّ كبري، فالرموز واملعاين<br />
والتصورات الثقافية القائمة تشكل وحتدد وتبلور الصيغ
173<br />
2 0 1 1<br />
املختلفة للتكوينات السيكولوجية املتعددة. فالطريقة<br />
التي ندرك بها الأحداث حتدد ردود اأفعالنا النفعالية<br />
جتاهها، فهناك اأحداث واأفعال تغضبنا وحتزننا اأحيانا،<br />
وتفرحنا اأحيانا اأخرى، وهذه احلالت النفعالية مرهونة<br />
بالتفسري الذي نعتمده لتحديد طبيعة هذه الأفعال.<br />
وهذا يعني اأن التفسري الذي نسقطه على الأشياء هو<br />
الذي يحدد موقفنا السيكولوجي منها، فعلى سبيل<br />
املثال، بعض الناس يغضبون جدا لنهيار مبنى حتت<br />
تاأثري زلزال طبيعي، لأنهم يعتقدون اأن هذا املبنى مل<br />
يستوف الشروط املطلوبة للأمن ضد الزلزل، ولذلك<br />
فاإنهم يهاجمون السلطة والأنظمة السياسية القائمة<br />
لإهمالها وعدم العناية بالشروط الهندسية للبناء؛<br />
ولكن بعض الناس يحزنون فقط لأنهم يرون يف هذا<br />
الفعل الطبيعي جتليا للقضاء والقدر والمتحان الإلهي<br />
للإنسان على الأرض، و لذا فاإن بعض الأحداث املوؤملة<br />
يف املجتمعات ذات الثقافة التقليدية ل تلقي لومها على<br />
السلطة السياسية ول متتلكها مشاعر الغضب.<br />
وهذه الوضعيات النفعالية تنسحب على القضايا<br />
التي تتعلق بطبيعة اإدراك الناس للمسافات والأحجام<br />
والأوزان واحلركة، حيث تكون لكل شعب اأو جماعة<br />
طريقتها يف فهم الأشياء وتفسريها والتفاعل معها<br />
وجدانيا بطرق انفعالية متنوعة؛ على سبيل املثال: يدرك<br />
الفاحون يف اأوزباكستان األواناً معينة على اأنها خمتلفة<br />
وغري متجانسة بطريقة تختلف عن اإدراك املعلمني لها<br />
الذين يرونها متشابهة متجانسة، ويفسر هذا التباين<br />
الإدراكي باخللفية الثقافية لكل جمموعة، فاإدراك<br />
الفاحني لاألوان مرتبط بالأشياء، يف حني اإدراك<br />
املعلمني للألوان هو اإدراك جمرد يحمل طابعا رمزيا،<br />
فالفاحون يرون اأن لون روث البقر يختلف عن لون روث<br />
اخلنزير لأنهم من مصدرين خمتلفني، يف حني يرى<br />
املعلمون اأن اللون البني منفصل اأو جمرد و ل يربطونه<br />
بشيء اآخر، فيصنفون الألوان على هذا الأساس.<br />
ويعيد فيكوتسكي اأصنافا اأخرى من الظواهر<br />
السيكولوجية مثل الإدراكات اخلاطئة و فقدان الذاكرة<br />
اإىل اأرومة اجتماعية، ويعلن باأن فقدان الذاكرة ميكن اأن<br />
يفسر باأنه صيغة من صيغ التجليات الاشعورية ناجمة<br />
عن بواعث اجتماعية، ويبني يف هذا السياق اأن التصورات<br />
اجلماعية برموزها واآليات اشتغالها هي التي حتدد<br />
طبيعة اإدراك الفرد كما اأنها حتفز بعض اأمناط السلوك<br />
و تثبط اأمناطاً اأخرى. ويعمم فيكوتسكي روؤيته هذه على<br />
اأمناط الذكريات التي تتعلق باملاضي حيث يعتقد باأن<br />
هذه الذكريات تتلون مبعاين احلياة الجتماعية وترتسم<br />
بوحي من دللتها، فالأحداث الجتماعية مبضامينها<br />
واجتاهاتها ودللتها تشكل ذكريات الفرد وترسم له<br />
مامح ذاكرته الإنسانية.<br />
وجتد هذه الفكرة ما يساندها يف دراسة قام بها<br />
روبنز )1963( حول سلوك بعض الآباء املتعلمني يف<br />
مدى مطابقة الذكريات لطريقة تغذية الأطفال، وقد<br />
وجد اأن الذاكرة تاأخذ مسارا توافقيا مع بعض العادات<br />
والتقاليد والقيم السائدة. وهذا ما يوؤكده روبنز حيث<br />
وجد باأن الذكريات تنحرف عن مسارها بتاأثري العادات<br />
والقيم السائدة يف املجتمع فحوايل نصف عدد الأمهات<br />
( اأفراد العينة( اأخطاأن يف تذكر كيفية اإطعام اأبنائهن<br />
)هل مت ذلك بناء على طلب الأبناء؟ اأو بناء على وجود<br />
جدول معني؟(، لقد اأعلنت اأكرث من %65 من الأمهات<br />
اأنهن كن يطعمن اأطفالهن بناء على طلبهم ل بناء على<br />
جدول زمني، و ذلك لأن النمط الأول هو النمط املفضل<br />
اجتماعياً. ولحظ الباحث عدم دقة الأمهات يف تذكر<br />
عادة مص الأصابع لدى اأطفالهم حيث اأنكرن ذلك لأنه<br />
سلوك غري حمبب اجتماعياً.<br />
ويف السياق السابق نفسه يثبت كل من كوردو وماكجرو<br />
و درامبان باأن ذاكرة الأطفال حول دور اجلنس املوصوف<br />
يف القصص يعتمد على اأهمية هذه الأدوار يف التقسيم<br />
املعياري اجلنسي للأعمال يف املجتمع. والتقسيم املعياري<br />
لدور الفرد يف القصص قائم على اأساس اجلنس مثاً:<br />
الرجل هو الطبيب، و املراأة هي املمرضة، و هو التقسيم<br />
الأكرث دقه لقبول دور النوع من الآخر املناقض لنظرة<br />
املجتمع الطبيعية لتوزيع الأنواع على الأدوار )مثاً: اأن<br />
يكون الرجل ممرضاً و املراأة هي الطبيبة(.<br />
واإذا كانت الأحداث الجتماعية، ووقائعها وقيمها،<br />
مقاربات
2 0 1 1<br />
174<br />
توؤدي اإىل تشويه الذكريات، فاإن احلياة املجتمعية ل<br />
توؤدي اإىل هذا الدور السلبي دائما، لأنها يف معظم<br />
احلالت تسهم يف جعل الذاكرة اأكرث دقة، لأن املفاهيم<br />
الجتماعية تنظم الذاكرة لستدعاء اخلربات الأكرث<br />
شيوعاً، فالعتماد على تناغم احلياة الجتماعية، متكن<br />
الأشخاص عادة من استدعاء احلوادث التي حدثت<br />
فعاً، ولكن حالة تشويه الذكريات تكون يف املواقف التي<br />
ل تتطابق فيها الأحداث السابقة مع اخلربات الشائعة<br />
حيث ميكن حذفها اأو جتاهلها.<br />
فتذكر الألوان يعتمد على الطريقة التي تستخدم<br />
فيها تلك الألوان يف التواصل الجتماعي. فقد اأثبتت<br />
دراسات عدة باأن الألوان ذات املدلولت اللغوية التي<br />
تستخدم يف عملية التواصل الجتماعي ميكن استدعاوؤها<br />
بسهولة اأكرث من تلك التي ليس لها مدلولت لغوية و ل<br />
تستخدم يف عملية التواصل الجتماعي. هذا ويبني كل<br />
من راترن و ماك كاثي )1990( باأن تذكر الألوان يعتمد<br />
على ما اإذا كانت تلك الألوان مرتبطة و تتوافق مع<br />
اأشياء ذات عاقة بخربات الشخص الثقافية، فاخللفية<br />
الثقافية للأشخاص حتسن من تذكر الألوان اأكرث من<br />
اخلصائص الشكلية للألوان مثل صفائها.<br />
ويتجاوز الدور الجتماعي للحياة تاأثريه اإىل بعض<br />
اأشكال اخلرف النفسي، ففي املجتمعات التي تسودها<br />
اخلرافات والتطري واملفاهيم غري املنطقية، يبني<br />
الأفراد توقعاتهم واإدراكهم لذاتهم و مظهرهم اخلارجي<br />
واأفكارهم عن كيفية التعامل مع احلياة والضغوط<br />
بطريقة مَ رَ ضية، حيث يوؤدي استمرار هذه التصورات<br />
اإىل تشويه حقيقي يف تكويناتهم النفسية والإدراكية.<br />
ويف اجتاه الكشف عن العاقة بني الوظائف<br />
السيكولوجية، واحلياة الجتماعية يبني فيكوتسكي )7( اأن<br />
مشكات احلياة توؤدي اإىل تطور خمتلف الوظائف العقلية<br />
والذهنية للفرد مثل: الإدراك، والذاكرة، والنتباه،<br />
ويعاد تشكيلها على اأساس جديد وفقا لوضعية اجتماعية<br />
واضحة البيان. فالثقافة هي التي حتدد اجلوانب<br />
السيكولوجية للفرد، ولسيما فيما يتعلق باملشاعر<br />
والأحاسيس والدوافع و الحتياجات و الإدراك و الذاكرة<br />
والتخيل، ومن ثم فاإن هذه العناصر السيكولوجية هي<br />
اأجزاء مكملة ملخطط الإدراك املعريف الثقايف، ومرتبطة<br />
بالشخصية الواعية الجتماعية )8( .<br />
االأسس الفيزيولوجية للظاهرة النفسية:<br />
يوؤكد فيكوتسكي من جانب اآخر اأهمية الأصول<br />
البيولوجية للظاهرة السيكولوجية، ويرى اأن العوامل<br />
الفيزيولوجية متارس دورا واضحا ومتنوعا يف تشكيل<br />
معامل الظواهر السيكولوجية، حيث يتنوع دور العوامل<br />
البيولوجية يف التاأثري يف اخلربات السيكولوجية طوال<br />
مراحل احلياة. وياحظ فيكوتسكي يف هذا السياق<br />
اأن تاأثري العمليات البيولوجية يبداأ فعله ونشاطه يف<br />
مراحل الطفولة املبكرة، ويبداأ دوره بالرتاجع لصالح<br />
العوامل الجتماعية تدريجيا، ويطلق فيكوتسكي على<br />
هذا التحول اأسم العوامل اجلينية الجتماعية للظواهر<br />
السيكولوجية.<br />
تبعاً لهذه الدراسة فاإن ردود الأفعال البيولوجية<br />
املنعكسة عند الأطفال التي ترتبط بالغرائز والهرمونات<br />
هي التي حتدد سلوك الأطفال واحلال ل يختلف كثريا<br />
عند الأطفال عنه عند احليوانات. فاأمناط السلوك<br />
الطفويل مبا يشتمل عليه من ابتسام و بكاء و عناد وردود<br />
اأفعال عبارة عن اأمناط من السلوك البيولوجي البسيط<br />
املتكرر، وهي العمليات التي يطلق عليها فيكوتسكي<br />
الأمناط السلوكية الدنيا. فالطفل الذي يتحرك حتت<br />
تاأثري هذه العمليات الدنيا من السلوك، يستجيب تلقائيا<br />
وعفويا دون تفكري اأو اإدراك للعامل من حوله، فهو يندمج<br />
معه فقط ويتفاعل على نحو اآيل عفوي بيولوجي (9) .<br />
فالعمليات البيولوجية الدنيا، ليست ظواهر<br />
سيكولوجية باملعنى الدقيق للكلمة، لأنها ل تنطوي على<br />
الفهم اأو اخلربة، بل هي، كما يصفها فيكوتسكي، عبارة<br />
عن ردود اأفعال عمياء للمنبهات اخلارجية والداخلية.<br />
فالظواهر النفسية ظواهر معقدة، وهي تتطلب انفصال<br />
الكائن عن العامل ليكوّن ذاتا مستقلة، متكنه من فهم<br />
التجارب واملثريات والوسط، وجتعله قادرا على اختبار<br />
العامل الذي يعيش فيه. وهذا النفصال عن الواقع<br />
باجتاه تكوين الذات، يقتضي هدما للروابط الطبيعية
175<br />
2 0 1 1<br />
القائمة بني الكائن والعامل. فبدلً من اأن تسيطر<br />
العمليات الطبيعية على ردة فعل الكائن جتاه العامل يف<br />
احلالة البيولوجية الدنيا، ياأخذ نظام معقد من العمليات<br />
العقلية دوره يف توجيه ردود فعل الإنصان يف اجتاه<br />
التفاعل مع العامل الذي يعيش فيه. فالوعي الذاتي يقوم<br />
باأداء رائع لعمليات الفهم والتحليل والإقبال والمتناع<br />
واملبادرة، و يقوم بالرد على املنبهات، وينظم فعاليات<br />
الفرد وردود اأفعاله اإزاء املنبهات اخلارجية والداخلية<br />
منها على حدّ سواء.<br />
وتاأسيسا على هذا التصور يعلن فيكوتسكي ضرورة<br />
اإعادة بناء املنظومة الجتماعية بشكل يسمح للطفل باأن<br />
ينتقل من مراحل الإدراك البدائية، اإىل املراحل الأكرث<br />
رقيا التي تقوم على اأساس اإدراك العامل اخلارجي،<br />
وتتضمن تلك املنظومة الجتماعية عمليات متنوعة،<br />
منها: التحفيز، والإرشاد، و املكافاأة، و العقاب والتقليد،<br />
وهي عناصر تنظم سلوك الطفل، وترتقي به اإىل<br />
املستويات النفعالية والوجدانية املطلوبة.<br />
فالتغيريات البيولوجية يف الدماغ ضرورية اأيضاً<br />
لستبدال العمليات السيكولوجية البدائية الأولية<br />
باأخرى اأكرث تعقيداً و تقدماً. فالقشرة اخلارجية للدماغ<br />
تتطور لتسيطر على معظم ردود الأفعال التي كانت تتم<br />
بواسطة اجلزء الأدنى يف دماغ الطفل. و مع ذلك فاإن<br />
التغيري الناشئ عن عمل قشرة الدماغ حمفزة و مدعمة<br />
بالعاقات الجتماعية. فاخلربة الجتماعية تقوم<br />
بالتحفيز لتطوير القشرة اخلارجية للدماغ.<br />
توفر اخلربات الجتماعية الوسائل الثقافية لضبط<br />
العمليات البيولوجية البدائية، واإخضاعها لسيطرة<br />
الوعي الذي يحولها بدوره اإىل ظاهرة سيكولوجية؛ اإن<br />
كثريا من مظاهر احلياة النفعالية للطفل مثل البكاء<br />
والهذيان والتشنج واخلوف والغضب والرثثرة والنتباه<br />
تنتظم وتضبط على نحو تربوي، من خال النماذج<br />
الرتبوية التي يطرحها املربون من اآباء اأمهات ومعلمون.<br />
فاملربون يقومون بتوجيه تلك الأمناط من السلوكات<br />
البدائية باجتاهات جديدة، عن طريق اإكسابها بعض<br />
اخلصائص الثقافية يف طبيعة التجاوب مع املنبهات<br />
اجلديدة اخلارجية والداخلية، ويتضمن ذلك تعليم<br />
الأطفال اأفضل الطرق التي تتيحها املعايري الثقافية يف<br />
السيطرة على خمتلف املنبهات والظروف التي توجد<br />
يف وسط الأطفال. ووفقا لهذه الفعاليات الجتماعية<br />
الثقافية يتحرر السلوك الإنساين من طابعه البدائي<br />
الأويل اأو البيولوجي، لياأخذ طابعا سيكولوجيا حمددا<br />
وواضح املعامل، ويتحول من جمرد سلوك اآيل اآين، يعتمد<br />
ردود الفعل البيولوجية، اإىل سلوك معقد حتكمه مهارات<br />
عقلية واجتاهات نفسية معقدة وهادفة. ويف هذا النمط<br />
املعقد من التجاوب املنظم النفعايل مع الوسط يوظف<br />
الكائن منظومة من القرارات والفعاليات الذهنية<br />
الواعية التي تعطي للسلوك صبغته الإنسانية الواعية.<br />
وياحظ يف هذا اخلصوس، اأن فيكوتسكي ل<br />
يقلل اأبدا من اأهمية العمليات البيولوجية الأوىل، بل<br />
يراها مرحلة اأساسية ومهمة من مراحل تطور الإنسان<br />
سيكولوجيا، لأن ردود الأفعال البيولوجية، يف سياق<br />
تطورها وتناميها، تعمل على حتسني الأداء النفسي<br />
والسيكولوجي عند الإنصان، لأنها تنمي العمليات<br />
الكيفية واملهارات الذهنية التي توؤدي يف النهاية اإىل<br />
تنمية النتباه والتفكر عند الفرد.<br />
عندما نتحدث عن التطور الثقايف يف التكوين<br />
السيكولوجي للفرد، فاإن ذلك يرمز اإىل حتول كبري يوؤدي<br />
اإىل تنمية العمليات النفسية واإخضاعها يف الوقت نفسه<br />
لسيطرة الإنسان. فالنتباه الطوعي يرجع اإىل حقيقة اأن<br />
الأشخاص الذين يحيطون بالطفل يبداأون باستخدام<br />
حوافز ووسائل متعددة لتوجيه انتباه الطفل ووضعها<br />
حتت سيطرتهم، ومن غري هذا التدخل الثقايف، فاإن<br />
التطور العضوي الطبيعي للطفل، ل ميكنه اأبدا اأن يصل<br />
اإىل النتباه النتقائي اأو الطوعي. اإن كلمات الطفل الأوىل<br />
ليست سوى صرخات بيولوجية موؤثرة، اإنها ردود فعل<br />
بيولوجية تعرب عن حاجات الطفل اإىل الطعام والعناية<br />
وجتنب الأمل، ولكن هذه الصرخات واحلركات العفوية<br />
تكتسب معنى ودللة بتاأثري املحيطني بالطفل الذي<br />
يعطون لهذه الصرخات دللة ومعنى، ويحولونها اإىل<br />
طاقة سيكولوجية بتنظيمها وتوجيهها، فالآباء مينحون<br />
مقاربات
2 0 1 1<br />
176<br />
صرخات الطفل وكلماته معنى ويحملونها دللة منطقية<br />
مبعزل عن اإرادة الطفل احلقيقية. بعد ذلك تتحول تلك<br />
الكلمات اإىل وسيلة تخاطب يعرب فيها الطفل عن ذاته<br />
بشكل واعي و مقصود.<br />
وهذا الأمر ينسحب على الذاكرة اأيضاً، فالذاكرة<br />
تتشكل بالنتقال اأيضا من حالة طبيعية اإىل حالة<br />
ثقافية سيكولوجية. يتذكر الأطفال الأشياء املوجودة<br />
واملجسدة اأمامهم مباشرة، ولكن هذا الأداء التذكري<br />
يتطور لحقا وبفعل التشريط الثقايف الجتماعي اإىل نوع<br />
من التذكر املجرد الرمزي غري احلسي. وبالتايل فاإن<br />
جمموعة من العمليات الثقافية متارس فعلها لتنظيم<br />
عمل الذاكرة واآليات اشتغالها يف اجتاه النتقال بها<br />
من حالتها الطبيعية احلسية العفوية، اإىل حالة رمزية<br />
جمردة واعية، وبالتايل فاإن هذا التحول من الشكل<br />
الطبيعي للذاكرة اإىل الشكل الثقايف منها يوؤدي اإىل<br />
تطوير الذاكرة والرتقاء بها ابتداء من مرحلة الطفولة<br />
اإىل مرحلة البلوغ.<br />
فالطريقة التي تستخدم فيها الذاكرة املفاهيم<br />
الثقافية لستعادة املعلومات تتشكل بواسطة خربة<br />
الفرد: ل ميكن اأن اأتذكر عنوان الكتاب الذي اأحتاجه<br />
ولكني اأعرف موضوع الكتاب، و بعد ذلك بداأت اأتذكر<br />
الفصل الذي ناقشت فيه هذا املوضوع، ثم فكرت يف<br />
الكتب التي استعنت بها يف ذلك الفصل، و اأخرياً توصلت<br />
لسم الكتاب الذي كنت اأبحث عنه. تلك العملية املعرفية<br />
املعقدة تنتج عنها استعادة ما مل ميكن استعادته من<br />
الذاكرة املباشرة.<br />
توجد اختافات ثقافية كبرية يف الذاكرة بسبب<br />
اختاف املعايري الثقافية تاريخيا بني الثقافات<br />
واجلماعات الإنسانية. ويف هذا الصدد يذكر كاروثرز<br />
)1990( اأنه يف اأديرة العصور الوسطى كان يتم<br />
التدريس بطريقة استظهارية خالصة، حيث يتوجب على<br />
املتعلمني اأن يختزنوا يف ذاكرتهم كمّ ا هائا من املعلومات<br />
واملعارف. وياحظ اأن الدارسني يف العصور الوسطى<br />
كانوا ميلكون ذاكرة حادة، حيث كان ميكن للواحد منهم<br />
اأن يقوم بتاوة اأعمال كاملة غيباً، و تسميع نصوص كاملة<br />
لأي عمل مهما كان حجمه. وكان الدارسون يعملون على<br />
حفظ تلك الأعمال من خال تقسيمها لأجزاء، و تلك<br />
الأجزاء كانت حتدد بعامات واضحة، و تلك العامات<br />
دائماً ما تكون موجودة ضمن املادة املكتوبة لتسهيل<br />
التذكر: كتابة الأحرف الأوىل من الفقرة باأحرف كبرية<br />
و واضحة، اأو رسم صور يف الهوامش بجانب الفقرات،<br />
اأو حتى تلوين الصفحات للتمييز بينها. ويستخلص من<br />
ذلك اأن هذه الطرائق والآليات الثقافية يف طرق احلفظ<br />
والستظهار كانت تساعد كثريا على تطوير الذاكرة<br />
الطبيعية، وحتسني القدرات املختلفة للذاكرة بني<br />
الأشخاص املختلفني. وعلى هذا النحو فاإن فيكوتسكي<br />
مييّز يف عملية تطور الذاكرة بني املستويات الطبيعية<br />
الدنيا بطابعها البيولوجي، وبني النشاطات السيكولوجية<br />
الجتماعية العليا بطابعها الثقايف. فالوظائف الطبيعية<br />
البدائية الطفولية القائمة - بغض النظر عن عملية<br />
النضج السيكولوجي الجتماعي- متحى وتستبدل<br />
بعمليات اأخرى اأكرث نضجاً، و يف اأحيان اأخرى، تندمج<br />
ويعاد تشكيلها بواسطة العمليات السيكولوجية العليا.<br />
ويوؤسس فيكوتسكي على هذا التصور اأن منظومة السلوك<br />
الإنساين تتم من خال تطوير اأنظمة جديدة للروابط<br />
التي تتخطى اأمناط السلوك الأولية يف اجتاه بناء<br />
منظومة سلوكية جديدة عليا تعتمد املعايري الثقافية.<br />
يوؤكد فيكوتسكي اأن الأمناط التنظيمية الأولية<br />
للسلوك تتشكل من خال الأنشطة الدماغية العضوية<br />
املساندة، وتتحول كلياً اإىل اأمناط اأكرث رقياً و تعقيداً.<br />
فالعمليات الطفولية ليس لها نظري عند الشخص البالغ،<br />
لأنها وجدت كذلك يف الطبيعة، و باملقابل فاإن نشاطات<br />
البالغني ليس لها مثيل طبيعي يف الأطفال اأو احليوانات<br />
( اأو الآلت (.<br />
فعملية التكيف عند الشخص البالغ تعتمد على<br />
منظومة معقدة من السلوك املنظم الهادف، وهو يختلف<br />
كليا عن السلوك املندفع املتهور الذي يتميز به الأطفال،<br />
اأو النشاط املنعكس الذي يتميز به احليوان. ويختلف<br />
السلوك التفاعلي للبالغ عن سلوك الطفل اأو احليوان،<br />
باأنه سلوك موجه وهادف ومتحكم به، لأن املنبهات
177<br />
2 0 1 1<br />
اخلارجية ل تستثري استجابة البالغ بشكل مباشر على<br />
عكس ما نشاهده يف سلوك الأطفال.<br />
ومن اأجل الستدلل على اأهمية التاأثري الذي ميارسه<br />
الوسط الثقايف مبحدداته املتنوعة، يلجاأ فيكوتسكي<br />
اإىل تاريخية الظاهرة السيكولوجية، فالإنسان يف شتى<br />
بقاع العامل يتمتع بالرتكيبة البيولوجية نفسها، ولكن<br />
الختاف يف التكوينات السيكولوجية هو على اأشده بني<br />
الشعوب واجلماعات الإنسانية، فالثابت هو الرتكيبة<br />
البيولوجية، واملتغري هو الطابع السيكولوجي للمجتمعات<br />
الإنسانية، وهذا يثبت باأن الثقايف هو الذي يحدد<br />
البيولوجي وينمطه ويهندس له معامل وجوده.<br />
وهذا يعني اأن التطور الثقايف يوؤثر يف التكوين<br />
البيولوجي للفرد، ويحوله من جمرد اآلية بيولوجية صرفة<br />
اإىل فعالية ثقافية معقده. فالعمليات البيولوجية الدماغية<br />
يف مرحلة الطفولة تعمل على توصيل املعلومات، ولكنها<br />
ل حتدد كيفية تنظيم املعلومات و استخدامها، فهي تنقل<br />
العمليات احلسية والإدراكية بني الفرد والعامل اخلارجي<br />
وتلك هي الوظيفة التي توؤديها اخلايا العصبية، فتعمل<br />
على نقل املعلومات من منطقة لأخرى يف دماغ الكائن<br />
احلي، ثم ياأتي لحقا العامل الثقايف الذي يقوم بتنظيم<br />
تلك املعلومات باإصارات ورموز ومعاين ذات طابع<br />
ثقايف، حيث ترتاجع الآليات الطبيعية وتفقد وظيفتها<br />
التحريضية و تعمل فقط كوسيط للعملية الذهنية.<br />
وهكذا فاإن تراجع الدوافع البيولوجية يشكل شرطا<br />
ضروريا يف اجتاه بناء الظواهر السيكولوجية؛ فالطفل<br />
يف بداية حياته، وفقا لفيكوتسكي، يتكيف عرب اآليات<br />
عضوية وحسية صرفة، وبالتايل فاإن خمتلف مظاهر<br />
حياته التي تتمثل يف الراحة والقلق والتوتر والهدوء<br />
والأمل والإحساس بالدفء تتم بصورة عفوية طبيعة<br />
ارتكاسية، وعندما تتوقف العمليات البيولوجية الصرفة<br />
عن توجيه حياة الطفل، تبداأ قدرة الطفل على اإدراك<br />
العامل اخلارجي بوصفه ذاتا عارفة مستقلة. وهذا يعني<br />
اأن الطفل يصبح قادرا على ممارسة الإدراك و اكتشاف<br />
احلقيقة اخلارجية التي حتيط بكيانه البيولوجي،<br />
وهذا الأمر يستغرق نصف عام من عمر الطفل حيث<br />
يبداأ نظامه الإدراكي بالظهور على صورة سيكولوجية<br />
متمايزة، وهذا يعني يف نهاية املطاف اأن اإدراك احلقيقة<br />
يتطلب اإزاحة العمليات البيولوجية كاأساس للخربة،<br />
والسماح للعامل اخلارجي باأن يحتك بالكائن احلي ويوؤثر<br />
يف اإدراكه. وهنا يجب اأن ناأخذ بعني العتبار اأن العامل<br />
اخلارجي مبثرياته وعناصره املتنوعة ل يحدد الطبيعة<br />
الإدراكية للطفل، وذلك لأن اإدراك الطفل للعامل<br />
اخلارجي يستند اإىل خرباته وفعالياته السيكولوجية<br />
السابقة، التي ترسم له الصورة الإدراكية لعناصر<br />
الوسط الذي يعيش فيه. فالطفل ل يدرك صورة العامل<br />
اخلارجي بعينيه املجردتني، بل يدركه بخرباته السابقة<br />
ومدركاته ومعاناته السيكولوجية املرتسمة يف مراحل<br />
زمنية متقدمة، وهذا يوؤدي اإىل اإضفاء الطابع الذاتي<br />
على الأشياء املدركة، اأي ما ميكن اأن نسميه ذاتية<br />
الإدراك، اأو ما ميكن اأن يطلق عليه اخلصائص الذاتية<br />
للعامل اخلارجي. وعلى هذا النحو تكون البيئة املحيطة<br />
بالفرد بيئة اجتماعية ثقافية حتى عندما تاأخذ هيئة<br />
طبيعية، لأن العامل الثقايف الجتماعي دائم احلضور<br />
والتاأثري يف التكوينات النفسية البيولوجية. فالعمليات<br />
البيولوجية الصرفة تقوم بنقل اخلواص املادية للأشياء<br />
مثل اللون واحلجم و الشكل من الأشياء املدركة اإىل<br />
العقل املدرك، ومع ذلك فاإن هذه املدركات املتعلقة بتلك<br />
الأشياء تتلون بطابع اخلربات الجتماعية و الثقافية<br />
للفرد املعني.<br />
لقد تاأكد هذا التصور للعاقة بني اخلربة السابقة،<br />
وعملية الإدراك يف اأبحاث هيلمولتز، حيث يعلن باأن<br />
»اخلربات السابقة، تعمل بالعاقة مع الإحساس احلايل<br />
لإنتاج اإدراك حسي جديد، وبالتايل فاإن الإدراك احلسي<br />
الذي ينبع من اخلربة ل يقل اأهمية عن الإدراك الذي<br />
يستمد من الإحساس املباشر الآين«. و باملثل فقد اأوضح<br />
زمياك )1961( باأنه يف الأجناس العليا من الكائنات<br />
احلية، توجد اأدلة كثرية على اأن الأمل ليس جمرد وظيفة<br />
للدللة على مدى الضرر اجلسدي، فهناك نوع من الأمل<br />
الذي حتدده الأسباب املوؤدية اإليه مثل الآلم املعنوية، ومن<br />
الواضح مبكان اأن دللة الأمل وطبيعته ودواعيه تختلف<br />
مقاربات
2 0 1 1<br />
178<br />
باختاف ثقافة الفرد التي نصاأ فيها، وذلك لأن الثقافة<br />
تلعب دورا مهماً يف كيفية اإحساسنا واستجابتنا له.<br />
لقد اأوضح كل من والسنت وجوتليب )1997( باأن<br />
املعلومات اجلينية ل حتدد ما نفكر فيه اأو نتذكره،<br />
فاجلينات ل تصنع نهايات الرتاكيب العصبية، و لكنها<br />
عبارة عن نظام مشفر للربوتينات التي تتاأثر بنظام<br />
الأيض املعقد واملذهل. وجتد هذه الفكرة وضوحها يف<br />
طبيعة التباين املاحظ عادة بني طفلني متتايلّ الولدة<br />
يف اأسرة واحدة، فالطفل الأول غالباً ما يكون واثقا<br />
بذاته ولكنه متحفظ، يف حني يكون الثاين اأكرث مرونة<br />
وتكيفا، وتلك الختافات يف الشخصية ل ميكن ردها<br />
اأو تفسريها على اأساس جيني، يف حني ميكن تفسريها<br />
فقط على اأصاس تعامل الآباء واختاف تعاملهم<br />
وتربيتهم لكل منهما.<br />
فالوظائف السيكولوجية املنظمة اجتماعياً، متكّ ن<br />
الأفراد من فهم البيئة بشكل اأكرث واقعية، مقارنة مبا<br />
ميكن للعمليات البيولوجية الصرفة اأن تفعله يف هذا<br />
املستوى. وهكذا فاإن العمليات املوجهة بيولوجياً يف<br />
الأطفال واحليوانات حتدد الستجابات الأوتوماتيكية<br />
املحددة، فهي متنع الفهم احلقيقي و الندماج مع البيئة.<br />
وكما بني فيكوتسكي فاإن الذاكرة والإدراك واملشاعر<br />
والدوافع، التي تتشكل اجتماعياً، تقوم على الإحساس<br />
العضوي و متكن من التصال مع العامل اخلارجي، وهنا<br />
يجب اأن ناأخذ بعني العتبار اأن معظم الناس يعتقدون<br />
باأن التفاعل البيولوجي يوفر اأهم املعلومات املتاحة،<br />
واأن التاأثري الجتماعي يشوه املعلومات. وميكن توضيح<br />
اأهمية اخلربة يف اإدراك الأحجام احلقيقية للأشياء<br />
التي ندركها، فاإدراك حجم الأشياء القائمة يعتمد على<br />
اخلربات الإدراكية السابقة بدرجة اأكرب من جمسات<br />
العوامل البيولوجية املستقاة من اخلربة املباشرة<br />
احلسية، فحجم الصورة الفسيولوجية يتغري بتغري<br />
املسافة بني املادة و املشاهد، ولذلك فاإن املشاهد يعتمد<br />
على خربته الإدراكية السابقة يف حتديد حجم الأشياء<br />
ومسافتها، علما باأن ثبات احلجم احلقيقي للمادة ل<br />
يتاأثر باملسافة بينها و بني املشاهد.<br />
وتاأسيسا على هذا الستدلل املتقدم، فاإن العوامل<br />
العقلية والنفسية كالإدراك والتفهم و العقانية والذاكرة<br />
و العواطف والحتياجات الشخصية ترتكز على واقع<br />
ثقايف يرتبط باملفاهيم اللغوية والرموز الثقافية<br />
واخلربات املكتسبة كاأنظمة عمل اأو تشغيل، وهذا يعني<br />
اأن هذه القوى ل متارس فعلها بوصفها جمرد قدرات<br />
فطرية بيولوجية بل هي قدرات ثقافية يف طبيعتها<br />
وماهيتها.<br />
و قد اأكد دونالد اأيضاً باأن الثقافة باأنظمتها الرمزية<br />
متارس وظائف سيكولوجية ترثي الفرد ومتكنه من<br />
الستفادة من جهود الآخرين. فقدرة الأفراد يف نظام<br />
ثقايف حمدد تتوسع لتشمل قدرة املجموعة، و هذا<br />
ياحظ دائماً يف اآليات اشتغال الذاكرة، فالفرد الذي<br />
يشارك يف النظام الرمزي اخلارجي ل يكون حمدوداً<br />
بذاكرته فقط يف تذكر الأشياء، فلديه مدخل لتسجيات<br />
دائمة متت كتابتها من خال التدوين اجلماعي للرموز<br />
والعامات )10( . وكصدى لوجهة نظر فيكوتسكي باأن<br />
الرموز الثقافية توؤدي اإىل تشكيل وظائف سيكولوجية<br />
جديدة؛ يقول دونالد باأن النظام الرمزي اخلارجي<br />
يفرض اأساليب روؤى جديدة، واأساليب تخزين متجددة،<br />
واأساليب تذكر متنوعة، وخيارات متقدمة للتحكم<br />
بالسلوك واإيجاد اأنظمة تكيف عقلية واإدراكية جديدة،<br />
لأن النظام الرمزي يكون مهارات مركبة جديدة مثل،<br />
التحليل والربجمة واملحاكمة وهي عمليات عقلية ل<br />
مكان لها يف الذاكرة، وغالباً ما تكون خارجية املنصاأ<br />
واملصدر.<br />
واإذا كانت الوظائف السيكولوجية مكونة من<br />
نسيج رمزي ثقايف اجتماعي بالدرجة الأوىل، فاإن هذه<br />
الوظائف تتكون وتتشكل من خال تفاعل الفرد مع<br />
الوسط الثقايف بدرجة اأكرب من اعتمادها على القدرات<br />
البيولوجية املحددة للوظائف السيكولوجية؛ وهذا<br />
بدوره يعيد الختافات الفردية السيكولوجية ويفسرها<br />
بالختافات يف التعرض للخربات الجتماعية املتنوعة<br />
التي متد الفرد بالرموز الثقافية والجتماعية املشكلة<br />
للظواهر السيكولوجية.
179<br />
2 0 1 1<br />
ويقدم فيكوتسكي مثال تاريخيا واضحا حول تاأثري<br />
العوامل الثقافية يف تشكيل البناء السيكولوجي للإنسان<br />
يتصل بالتفكري الرياضي عند الإنصان، فالتفكري<br />
الرياضي ل يستند بوضوح اإىل خاصة فطرية اأولية،<br />
لقد عاش الإنسان لآلف السنني دون علم الرياضيات،<br />
ومل تظهر الرياضيات فجاأة بسبب حمفزات فطرية<br />
وبالعكس: املتطلبات التاريخية وخاصة التجارية اأدت<br />
اإىل اخرتاع الرياضيات يف اأماكن واأوقات معينة. عندما<br />
دعت احلاجة اخرتع الإنسان الرموز الرياضية و اأنظمة<br />
اإدارتها. و لذلك ل يوجد مغزى للتسليم بوجود قدرات<br />
فطرية لعلم الرياضيات. ومن ثم فاإن العتقاد باأن<br />
علم احلساب يعتمد فقط على العمليات الطبيعية هو<br />
تقدير مبتذل وغري علمي، لأن العقل العادي ل ميكنه<br />
اإجراء العمليات احلسابية املعقدة واملبتكرة، ومن ثم<br />
اإذا كانت العمليات الفطرية ل حتدد التفكري احلسابي<br />
فاإن الختافات الفردية يف تلك القدرة يجب اأن تعود<br />
اإىل الختافات يف اخلربات الجتماعية الضرورية<br />
لتكوينها.<br />
وميكن اإيضاح هذا التصور بالإشارة اإىل الخرتاع<br />
الإنصاين املتجسد بربامج احلاسب الآيل، حيث ل<br />
ميكن لنا اأبدا اأن نقول باأن العمليات املعقدة للربجمة<br />
هي جمرد قدرة فطرية. فا يوجد شخص ميكنه اأن<br />
يرجع برجمة احلاصب الآيل للقدرة الفطرية غري<br />
املكتسبة، وذلك لأن عمر احلاسب الآيل ل يعدو عدة<br />
عقود من الزمن فحسب. وواصح للعيان اأن برجمة<br />
احلاسب الآيل تعني الستخدام الهائل واملنظم للرموز<br />
والصيغ واللغات الرمزية والشيفرات املعقدة التي مل<br />
تكن يوما تبلورا لصيغة فطرية اأو بيولوجية؛ فالعقل<br />
الفطري والعضوية البيولوجية ضروريان لستيعاب<br />
املعلومات والرموز والفعاليات الذهنية لعمليات الربجمة<br />
احلاسوبية املعقدة، ولكنهما ل يحددان نوعية املهارات<br />
الذهنية والعقلية اأو مستوى التطور الذهني املعقد كما<br />
يبني فيكوتسكي وذلك ينسحب بالضرورة على خمتلف<br />
الظواهر السيكولوجية.<br />
وهذا التصور للعقل املكتسب يجد مداه عند دونالد،<br />
اإذ يرى باأن عقل الإنسان يتشكل ويتبلور بقدرته الكلية<br />
على التعلم واكتساب الرموز، ومن ثم اإعادة بنائها<br />
وصوغها يف تكوينات اإبداعية جديدة، يف اجتاه يدعم<br />
تكيف البشر وسيطرتهم الهائلة على معطيات الوجود<br />
الذي يحتضنهم.<br />
لقد بنيّ فيكوتسكي اأن التمييز بني العمليات العقلية<br />
العليا، وبني الفعاليات الذهنية الدنيا، يشكل منطلقا<br />
منهجيا يف فهم و عاج الأمراض النفسية والضطرابات<br />
السيكولوجية الوظيفية، لأن هذه الضطرابات ميكن<br />
اأن تعود اإىل اختال يف العمليات الذهنية العليا اأو يف<br />
العمليات الذهنية البيولوجية الدنيا مع اختافات هامة<br />
يف السبب وطرق العاج اأيضا. فاخللل يف الوظائف<br />
الدنيا يفسر غالبا بتلف يف اأعضاء احلس اأو املناطق<br />
اللحائية )الأجزاء اخلارجية للمخ(، ومن ثم فاإن هذا<br />
اخللل الوظيفي ميكن اأن يتم جتنبه جزئياً من خال<br />
توفري بدائل جديدة للحواس مثل اأحرف برايل و اأجهزة<br />
السمع املختلفة. اأما اخللل يف الوظائف العليا فدائماً ما<br />
يحدث بسبب احلرمان الجتماعي، و ميكن عاجه من<br />
خال تعديل البيئة الجتماعية للمريض.<br />
اإن اأي خلل يف الوظائف الدنيا للطفل ينتج سلسلة<br />
من الصعوبات التي تعوق التطور الطبيعي لعاقاته<br />
الجتماعية وطبيعة تفاعله مع الآخرين، وبالتاأكيد فاإن<br />
نتائج هذه الإعاقات التي تاأخذ طابعا نفسيا وتتجلى يف<br />
اضطرابات نفسية واضحة توؤدي بدورها اإىل اإعاقة تطور<br />
العمليات العقلية العليا واإىل ظهور نوع من الضطرابات<br />
النفسية اجلديدة الناجمة عن اإعاقة التطور الثقايف<br />
املتعلق بنمو نشاط الطفل الجتماعي. ومع اأهمية هذا<br />
التصور فاإن فيكوتسكي يوؤكد باأن احتمالت تطور الطفل<br />
غري الطبيعي تتعلق بشكل اأكرب باإعاقة الوظائف النفسية<br />
العليا اأكرث من الوظائف الدنيا، فالضطرابات ذات<br />
املنصاأ البيولوجي ميكن جتنبها من خال اندماج املريض<br />
يف بيئة اجتماعية مساندة تعمل على تطوير التكوينات<br />
النفسية العليا، ويضاف اإىل ذلك اأن الوظائف العليا<br />
ميكن اأن تعوض الضعف يف العمليات الأولية، فالتفكري<br />
والفهم ميكن اأن يعوضا الضعف يف السمع والروؤية<br />
مقاربات
2 0 1 1<br />
180<br />
واحلواس الأخرى، لأن املريض يتعرف الأشياء مباشرة<br />
عرب احلواس، ولكنه يستطيع التعرف على هذه الأشياء<br />
ذاتها بتوسط التفكري والتاأمل والتحليل.<br />
ومع اأن فيكوتسكي يوؤكد اأهمية العوامل البيولوجية،<br />
اإل اأنه يرفض اإرجاع السيكولوجي اإىل البيولوجي، ويوؤكد<br />
اأهمية التفاعل بني البيولوجي والثقايف يف بناء الظاهرة<br />
السيكولوجية. وبعبارة اأخرى، ل ميكن التقليل من اأهمية<br />
الظاهرة السيكولوجية ووصفها باأنها ظواهر بيولوجية،<br />
مثل: اجلينات والهرمونات و املوصات العصبية، فهذه<br />
العناصر البيولوجية ل ميكنها حتديد طبيعة الظواهر<br />
السيكولوجية اإل من خال التفاعل مع الوسائل الثقافية.<br />
بالنسبة لفيكوتسكي، فاإن الوسائل الثقافية اأهم من<br />
الآليات البيولوجية يف اإعطاء تفسري كامل وشامل<br />
للوظائف السيكولوجية. وانطاقا من هذا التوجه، انتقد<br />
فيكوتسكي النظريات السيكولوجية الكاسيكية، لأنها<br />
كانت تركّ ز على العمليات الفطرية الطبيعية البيولوجية،<br />
وتقلل من اأهمية العوامل الجتماعية يف تفسري علم<br />
النفس الإنساين.<br />
وهذا التاأكيد الذي يوليه فيكوتسكي للثقافة يف<br />
بناء سيكولوجية الفرد، يحيلنا اإىل نظرية مايرسون<br />
)1983-1888( Meyerson وروؤيته للعاقة بني<br />
الوظائف السيكولوجية و املنجزات، حيث يعتقد اأن<br />
الإنسان ينزع اإىل التجسد يف صنمية الإجناز، ومن ثم<br />
فاإن البحث السيكولوجي – لديه- يكون يف الكشف عن<br />
املحتويات الذهنية والنفسية للفرد يف وقائع وصنائع<br />
احلضارة املوصوفة. فاأفعال الإنسان، حسب مايرسون،<br />
تنتهي باأن تتجسد يف موؤسسات اأو منجزات، والإنسان<br />
من ثم يتمكن بواسطة اجلهد الذهني من اإقامة هذه<br />
املنجزات، اإنه بذهنه يوجه يديه ويصنع اأدوات وجوده<br />
ويشكل املادة ويبني العامل الذي يحيط به، ومن هذا<br />
املنطلق ميكن القول باأن ذهن الإنسان وعقله موجود يف<br />
منجزاته احلضارية (11) .<br />
نقد التحليل النفسي:<br />
عارض فيكوتسكي نظرية التحليل النفسي، واأعلن<br />
نقده لها يف كتابه الشهري »املدلول التاريخي للأزمة يف<br />
علم النفس«، ويف هذا الكتاب يتهم فيكوتسكي مدرسة<br />
التحليل النفسي بالتحفظ واجلمود التاريخي، لأنها<br />
تنطلق يف فهم الإنصان من خال النوازع والأصول<br />
البدائية الغريزية الأولية، ويف مناأى عن الشروط<br />
التاريخية والثقافية لتكون عقلية الإنسان وسيكولوجيته،<br />
وهو يعتقد وفقا لذلك باأن مدرسة التحليل مل يكتب لها<br />
النجاح كما يجب لأنها تتعارض مع املنهج املاركسي يف<br />
دراسة وحتليل الظاهرة النفسية. فالتحليل النفسي<br />
يف صيغته الفرويدية ينطلق من منهجية الأخذ بالآلية<br />
الفطرية الطبيعية كاأساس للظواهر النفسية، ويتجلى<br />
هذا التصور يف تقسيم فرويد ملراحل التطور النفسي<br />
وفقا ملعايري اجلنسانية اللبيدية، وتاأكيده الصارم على<br />
اأهمية عقدة اأوديب، بوصفها نزعة فطرية متاأصلة يف<br />
الكيان النفسي للإنسان، وهذا يعني اأن الفرويدية تقلل<br />
من صاأن الضبط الثقايف وتاأثريه يف تشريط احلياة<br />
النفسية للإنسان.<br />
يفسر فرويد، التصادم احليوي بني النزعات<br />
الفطرية املنطلقة من عقالها والصرورات الثقافية<br />
الرمزية يف املجتمع، بطريقة سيكولوجية صرفة، حيث<br />
يطلق فرويد على انتصار املحددات الثقافية واإزاحتها<br />
للعوامل الفطرية الأولية مفاهيم: الكبت والنكوص<br />
والإسقاط والتخاطر، وهي عمليات يفرتض اأن تكون<br />
فطرية، وهذا يدل على ترجيح فرويدي للعامل الفطري<br />
يف تفسري ما هو ثقايف وتاريخي وجديل. فغالبا ما<br />
يرجع فرويد الظاهرة النفسية اإىل اأبعادها البيولوجية<br />
اجلسدية، حيث جند تقسيمه املشهور ملراحل التطور<br />
السيكولوجي للفرد )املرحلة الفموية، فالشرجية،<br />
والكمونية، فاجلنسية(، وهذا يعني اأن فرويد يرسم<br />
صورة النفس على صورة تطور اجلسد وغرائزه اللبيدية،<br />
وهذا هو التصور الذي جنده راسخا يف كتابه »مشروع<br />
السيكولوجية العلمية« )1895(. وعلى الرغم من<br />
فشل فرويد اعتماد مفاهيم التشريح العصبي اأساساً<br />
لعلم النفس، فاإنه مل يتخلّ اأبداً عن املفهوم الأساسي<br />
الفطري الذي حفزه يف البداية اإذ استمر يف العتقاد<br />
باأن الوظائف اجلسدية الناشئة كرد فعل منعكس وتلك
181<br />
2 0 1 1<br />
العمليات املنعكسة تشكل املثال لكل الوظائف النفسية<br />
)السيكولوجية(؛ فالفعل النفسي عند فرويد ينصاأ من<br />
غريزة شبه عضوية تهدف اإىل تفريغ الطاقة للحفاظ<br />
على احلدّ الأدنى من التوازن، لأن القوى النفسية لديه<br />
تعمل تبعاً للقواعد اجلسدية مثل الديناميكا احلرارية.<br />
وكاأن فرويد يستلهم نظرته للآلية النفسية من الفيزياء<br />
النفسية، اأو من مبادئ داروين البيولوجية التي كان لها<br />
تاأثري كبري يف تصوراته النفسية، حيث تبنّى عددا من<br />
الفرضيات البيولوجية التي جندها يف صلب النظرية<br />
التطورية عند دارون يف اأصل الأنواع.<br />
نقد بياجيه:<br />
ومل يكن انتقاد فيكوتسكي للمفكر السويسري جان<br />
بياجيه اأقل حدة من انتقاده لفرويد ونظريته يف التحليل<br />
النفسي. ومن الطبيعي اأن ياقي بياجيه ما لقيه فرويد من<br />
نقد، وذلك لأنه ل يختلف كثريا عن فرويد يف تفسريه للتفكري<br />
وبنائية العقل على خلفية بيولوجية. فبياجيه كان دائما مياثل<br />
بني عملية التفكري والعمليات الفيزيولوجية اخلالصة، وكان<br />
اأيضاً يعتقد باأن العمليات املعرفية مبنية على الأنا الفردية<br />
ولسيما يف املراحل املبكرة من حياة الفرد.<br />
يف الفصل الثاين من كتابة الشهري »التفكري<br />
واخلطابة« )1987( انتقد فيكوتسكي وجهة نظر<br />
بياجيه فيما يتعلق بالنمو الذهني عند الأطفال، حيث<br />
ينظر بياجيه اإىل الطفل بوصفه كائنا غري اجتماعي،<br />
تتحكم فيه دوافع بيولوجية وميول اإىل حتقيق رغباته<br />
بطريقة اأنوية غري موضوعية. و على سبيل املثال اعتقد<br />
بياجيه اأن لغة الأطفال موجهة اأساساً للتعبري عن<br />
الرغبات والأماين التخيلية عن النفس. وعلى خاف<br />
هذا التصور يوؤسس فيكوتسكي لتصور اآخر خمتلف<br />
عن هذا الذي جنده عند بياجيه، اإذ يرى باأن الآليات<br />
الفطرية تتحكم بسلوك الأطفال الرضع دون السنتني<br />
من العمر، ولكن الطفل بعد هذه املرحلة يبداأ بعمليات<br />
الندماج الجتماعي، وهذا يعني اأن الآلية البيولوجية<br />
تعمل لوقت قصري كعنصر اأساسي للحفاظ على البقاء،<br />
ومع ذلك فاإن املوؤثرات الجتماعية تعلو عليها بسرعة<br />
فائقة ومتزايدة، حيث تشكل العاقات الجتماعية<br />
السياق التطوري للأطفال بتكويناتهم الذهنية والعقلية.<br />
فالطفل، عند فيكوتسكي، كائن اجتماعي متفاعل يف<br />
دائرة احلياة الثقافية للجماعة. وعلى خاف ذلك يراه<br />
بياجيه فطريا اأنويا مفرغا من مضمونه الجتماعي.<br />
فالعاقات الجتماعية حتدد وتبلور سيكولوجية الطفل<br />
لدى فيكوتسكي منذ البداية، وعلى خاف ذلك، فاإن<br />
هذه العاقات الجتماعية تعد ثانوية ومناقضة لطبيعة<br />
الطفل عند بياجيه.<br />
يوؤكد فيكوتسكي اأن اللغة الأوىل للطفل تتشكل عرب<br />
التواصل الجتماعي وفق مراحل تكوينية متتابعة، ويرى<br />
اأن الوظيفة الأساسية للكام هي وظيفة اجتماعية<br />
غايتها التفاعل والتواصل الجتماعي، وهذا يعني اأن<br />
الكام يف جوهره اجتماعي وليس فطريا، وهذا الراأي<br />
يتضمن القول باأن الكام ل ينصاأ ول يتطور اإل مبقتضى<br />
احلاجة الجتماعية اإليه.<br />
لقد اآمن فيكوتسكي باأهمية الفعل الذاتي للفرد<br />
بوصفه كينونة فردية، وذلك على الرغم من الأهمية<br />
التي يعطيها للمجتمع يف حتديد سيكولوجيا الفرد.<br />
فالأفراد يفكرون ويحللون ويركبون ويجربون ويختارون<br />
ويبدعون نظما اجتماعية جديدة يف دائرة حياتهم<br />
وفعلهم ونشاطهم الجتماعي.<br />
لقد اأكد فيكوتسكي اأهمية الدور الجتماعي يف<br />
بناء سيكولوجيا الفرد، وهو يف هذا السياق يعرّ ف<br />
العمليات السيكولوجية العليا باأنها نشاط عقلي وذهني،<br />
يتحدد يف نسق واقع ثقايف اجتماعي حمدد، يفيض<br />
باملعاين والدللت والقيم والرموز. ويف عمق هذا<br />
الوسط الجتماعي الثقايف ينشط الفرد بوصفه فردا،<br />
وهذا يعني اأنه ل ميكن لنا استقراء الدور الجتماعي<br />
للفرد من خال الشخصية بوصفها بناء سيكولوجيا.<br />
وعلى خاف ذلك يجب استقراء الشخصية من خال<br />
فعالية الوسط الجتماعي الذي يحيط بها. فالظواهر<br />
الجتماعية ترتكز على منظومة من القيم، وبالتايل<br />
فاإن معظم الظواهر مبا فيها الظواهر النفسية عبارة<br />
عن اأشكال جديدة لقيم موجودة واأنشطة اجتماعية<br />
حمددة. فاملنحرف يتبنى سلوكا حمدثا ينتهك الأعراف<br />
مقاربات
2 0 1 1<br />
182<br />
الجتماعية، ومع ذلك فاإن التحليل العلمي الدقيق لهذا<br />
السلوك يكشف اأنه جمرد مبالغة اأو اإفراط يف جتسيد<br />
القيم السائدة: العنف، الكتئاب، والتملك، والتنافس،<br />
والغرور، ومركزية الأنا، الفردية، هي جتليات مبالغ<br />
فيها لقيم اجتماعية ضاربة اجلذور يف الثقافة القائمة.<br />
فالسلوك املنحرف اخرتاع يتجاوز حدود ومعايري القيم<br />
والأنشطة السائدة، ومثال ذلك الشذوذ اجلنسي بوصفه<br />
رفضا للقيم الجتماعية القائمة واإفراطا يف اإشباع<br />
اجلنس بوصفه قيمة اجتماعية مشروعة، وبعبارة اأخرى،<br />
فاإن الشذوذ اجلنسي يعرب عن انتشار قيم و عاقات<br />
اجتماعية يف شكل جديد خمتلف عن ما هو قائم وسائد<br />
يف الثقافة السائدة. وبعبارة اأخرى، ميكن القول، وفقا<br />
لفيكوتسكي، باأن الظواهر السيكولوجية تعكس اإىل حدّ<br />
كبري القيم الثقافية السائدة يف املجتمع وتنطلق منها.<br />
اإن معظم الظواهر النفسية اجلديدة هي جمرد<br />
اأشكال خمتلفة للظواهر النفسية الجتماعية املوجودة<br />
يف واقع الأمر، وهذا يعني وجود اإمكانية دائمة حلدوث<br />
تغيريات جذرية يف بنية الظواهر النفسية وابتكار صيغ<br />
جديدة لكيانات سيكولوجية ذات خصائص اجتماعية.<br />
ففي عصر الفردية املتطرفة و التنافس والنزعات املادية<br />
الصرفة، ميكن اأن تتشكل نزعات سيكولوجية معربة عن<br />
هذا الواقع مبا يعتمل فيه من وقائع وقيم وممارسات<br />
وفعاليات.<br />
لقد نصاأت ظاهرة التكالية كظاهرة سيكولوجية<br />
حتت تاأثري ظروف الإنتاج السائدة يف حياتنا املعاصرة،<br />
فطعامنا و اأفكارنا وحتى الهواء الذي نستنشقه يعتمد<br />
على اأنشطة اأفراد اآخرين يف اأماكن بعيدة عنا. وهذه<br />
التكالية الواسعة قد تقود الناس لأن يهتموا مبا يفعله<br />
الآخرون و اأن ينظموا اأنشطتهم بطريقة عقلية لتحقيق<br />
فائدة اأكرب. يف هذه احلالة فاإن تنمية الشخصية املتعاونة<br />
واملحبة للغري و تنمية الدوافع ميكن لنا اأن نستنبطها من<br />
عناصر احلياة الجتماعية وفعالياتها املختلفة. فالكثري<br />
من الظواهر النفسية مثل احلب العذري الرومانسي<br />
والتحرر اجلنسي تنصاأ يف ظل وضعيات اجتماعية<br />
حمددة تتناسب مع مراحل حمددة من مراحل التطور<br />
الجتماعي التاريخي. فالظواهر السيكولوجية منتجات<br />
عقلية خلقت بواسطة املجتمع واحلياة الجتماعية ولذلك<br />
فمن الصعب تفسريها على اأساس الوعي الفردي، كما<br />
اأن الدين واللغة والعادات مل يكتشفها الأفراد باملصادفة<br />
اخلالصة، لأن الوظائف النفسية العليا هي نتاج املجتمع<br />
الإنساين كما يحاول فيكوتسكي اأن يربهن واأن يجعلنا<br />
نعتقد.<br />
الهوامش واالإحاالت<br />
1- Schneuwly, B.; Bronckart, J. P. (eds.). 1985. Vygotsky aujourd’hui, Neuchâtel,Paris, Delachaux & Niestlé.<br />
2- فيكوتسكي، ل.س )2000(. السيكولوجيا وعلم اجلمال، ترجمة اأحمد حممد خنسة ، دار عاء الدين، دمشق.<br />
3- Vygotsky, L. S. (1997a). Collected works (Vol. 3). New York: Plenum.P 341.<br />
4-1Vygotsky, L. S. (1997a). Collected works (Vol. 3). New York: Plenum.P 331.<br />
5- Vygotsky, L., & Luria, A. (1993). Studies on the history of behavior. Ape, primitive, and child. Hillsdale, NJ: Erlbaum.<br />
(Original work published 1930)pp 213-228.<br />
6- فيكوتسكي، ل.س )2002( اخليال والإبداع عند الأطفال، ترجمة جمال سليمان، بريوت، موؤسسة الرسالة.<br />
7- Vygotsky, L. S. (1997b). Educational psychology. Boca Raton, FL: Ingram. (Originally written 1921- 1923).<br />
8- Ratner, C. (1991). Vygotsky>s sociohistorical psychology and its contemporary applications. New York: Plenum.<br />
9- Luria, A. (1978). Vygotsky and the problem of functional localization. In M. Cole (Ed.), The selected writings of A R.<br />
Luria (pp. 27 3 - 28 1). New York: Sharpe.<br />
10 - Donald, M. (1991). Origins of the modem mind. Cambridge: Harvard University Press.<br />
11- Meyerson, I. 1948. Les fonctions psychologiques et les oeuvres. Paris, Vrin. Perret-Clermont, A. N. 1979. La construction<br />
de l’intelligence dans interaction sociale, Berne, Peter Lang.
االأدب التفاعلي<br />
واجتاهات ما بعد<br />
البنيوية<br />
د. زرفاوي عمر<br />
اأستاذ حماضر بقسم الآداب، جامعة تبسة، اجلزائر
185<br />
2 0 1 1<br />
االأدب التفاعلي<br />
واجتاهات ما بعد البنيوية<br />
د. زرفاوي عمر<br />
ياأتي احلديث عن مرجعيّة الإبداع التفاعلي يف وقت تتاآكلُ فيه رقعة النقد وتتسعُ فيه رقعة التنظري بعد ذلك<br />
التّغريّ الذي طال مكوّنات املنظومة الإبداعية بولوج احلاسوب عامل الإبداع والتنظري الأدبي والنقدي، تنظري لأدب<br />
ناشئ ونقد يقوم على غراره، ومع القتحام املشهود الذي مارسه احلاسوب للمعرفة عامة، والإبداع خاصة، باتت<br />
احلاجة ماسّ ة لنظرية اأدبية جمالية جديدة تستوعب املتغريّ ات التي اأملّت بالإبداع الأدبي يف عصر املعلوماتيّة.<br />
لقد اتّخذت املنظومة الإبداعيّة بعد تلك التحوّلت شكا مربّعا بعدما ركنت لأمد طويل اإىل ذلك التكوين<br />
الثاثي مع نظريات النص السابقة على ظهور »النص املرتابط«، فقبل ذلك يقول سعيد يقطني »كنّا نحدّ دُ<br />
اأطراف ومكوّنات النص يف ثاثة اأطراف: 1-الكاتب 2- النص 3-القارئ، اأمّ ا مع النص املرتابط فتحدّ د<br />
الأطراف على النحو الآتي: 1-املبدع ( * ) 2-النص3-احلاسوب 4-املتلقي« )1( .<br />
وبعدما ظل النقد اخلادم املمتهن لاأدب حلقبة<br />
طويلة اأعلن استقاله وتزايد الإصرار يف السنني<br />
القليلة املاضية على اأنّه ل يقلّ اأدبيّة عن الأدب نفسه<br />
من خال جهود نقاد ما بعد البنيوية. فقد حقّق »رولن<br />
بارت Barthes Roland »ذلك العبور بالفعل يف حتليله<br />
لقصة »بلزاك« ... ويف تلك الدراسة يوؤكّ د بارت ضرورة<br />
عبور لغة النقد وانتقالها من موقع اللغة الثانية اإىل موقع<br />
اللغة الأوىل )لغة الأدب(« )2( ، وتوالت تلك الجهود مع<br />
اأعمال »ميشال فوكو »Michel Foucault و« جاك<br />
دريدا Jacques Derrida »و« اأمربتو ايكو Umberto<br />
»Eco عن النص املفتوح-Text ،Open وعن الدور<br />
الفعّال للقارئ اأو املوؤوّل يف قراءة النصوص باعتباره<br />
منتجا للنّص ل مستهلكا له، فليس من املصادفة<br />
اإذن اأن يذهب »جورج لندو« يف مقاله »ماذا سيفعل<br />
الناقد« اإىل اأن »النص املتعالق صاأنه صاأن اأعمال ما<br />
بعد البنيويني احلديثة اأمثال« رولن بارث »و« جاك<br />
دريدا« ، يعيد النظر يف الفرضيات املتعارف عليها<br />
والتي سادت طويا حول املوؤلفني والقرّ اء والنصوص<br />
التي يكتبونها ويقروؤونها، فالربط الإلكرتوين، وهو<br />
اأحد مظاهر تعريف النص املتعالق، يجسد اأيضا اآراء<br />
»جوليا كريستيفا« حول النصوصية املتداخلة، واإصرار<br />
»باختني« على التعددية الصوتية، ومفهوم ميشيل فوكو<br />
لشبكات القوى، واأقكار»جيل دولوز« و»فليكس غتاري«<br />
حول »الفكر املرحتل« )3( .<br />
اإنّ الباحثني املتحمسني لفكرة النص التشعبي<br />
يعتقدون اأنّنا الآن نشهدُ ثورة يف طريقة كتابة العمل<br />
الأدبي، ويبدو اأن مبداأ »تعدّ د الأصوات« ( ** ) الذي<br />
جاء به »ميخائيل باختني »Mikhail Bakhtin ينطبق<br />
على هذه الفكرة متام النطباق، ويبدو كذلك اأن رغبة<br />
»ميشال فوكو »Michel Foucault يف حرية تداول<br />
النصوص، وحرية استغالها وتركيبها وتفكيكها واإعادة<br />
تركيبها حتقق يف هذه النصوص )4( ، ويبدو اأن تصوّر«<br />
جان فرانسوا ليوتار Jean François Lyotard »حلركة<br />
ما بعد احلداثية، والتي من بني خصائصها الأساسية<br />
اإلغاء البناء الهرمي ثم تساوي اأجزاء الكلّ من حيث<br />
قيمة كلّ منها، قد جتسّ د يف اأعمال اأدبية جتريبية كتبت<br />
باأسلوب النص التشعبي مع اإلغاء القراءة واإتاحة حريّة<br />
التّجوال بني اأجزاء العمل، باإتّباع خطوط التّصال<br />
مقاربات
2 0 1 1<br />
186<br />
املائمة بني خمتلف املواقع )5( .<br />
ويعدُّ تصوّر الشبكة الذّ ي دعا اإليه« » رولن بارت<br />
»Barthes Roland يف كتابه ، S/Z فصا عن العاقة<br />
النشطة بني القارئ والنص التشعبي، جتسيدا للغاية<br />
املثلى التي ينشد فيها نصوص القراءة الإيجابية يف<br />
مقابل نصوص القراءة السلبية. ولكنّ هذا ل يعني اأنّ<br />
هذه النّصوص تقتضي قارئا نشطا وفعّال، بل يعني اأنّها<br />
تقتضي موؤلّفا مشاركا )مع عدم وضوح احلدود الفاصلة<br />
بني القارئ والكاتب(يعلّق على النّصوص ويرثيها<br />
بروابط-اأو خطوط اتّصال- جديدة يتيحها للكتّاب<br />
املشاركني يف كتابة العمل مستقبا )6( .<br />
وهو الأمر الذّ ي قاد يف املحصّ لة العامة اإىل استثمار<br />
تلك اجلهود من قبل روّاد املمارسات املفرّ عة يف اإبداع<br />
تقنية النص املرتابط، والنص املرتابط ميثل جتسيدا<br />
وتطبيقا عمليا» لقضايا كانت حمض جتريد ذهن<br />
القارئ مثل النصوصيّة املتداخلة، والنص املقروء،<br />
والإزاحة، ونظرية العماء، وشبكات القوى، اإضافة<br />
اإىل موقع القارئ واملوؤلّف، والكتاب، اإن هذا النوع من<br />
النص اأعطى ملفهوم »الصيميولكرم« حتقّقا غري<br />
.)7(<br />
واقعي)واملفارقة) *** (مقصودة(«<br />
اإنّ املهتّمني بهذا النص يرون نظريته تقومُ على<br />
نظريات النص ما بعد البنيوي التي نادى بها »دريدا«<br />
و»فوكو« و»بارت« على وجه اخلصوص، ولعلّ يف وصف«<br />
بارت« للنصوصية املثلى يف كتابه:S/Z تعريفا حقيقيا<br />
للنص املتعالق حتّى اأنّ »جورج لندو« استشهد به حني<br />
عرض لتاريخ مصطلح النص املتعالقّ » يقول بارت:»<br />
اإنّ يف هذا النص املثايل شبكات كثرية ومتفاعلة<br />
معها، دون اأن تستطيع اأي منها تجاوز البقيّة؛ اإنّ هذا<br />
النص كوكبة من الدوّال ل بنية من املدلولت، ليس له<br />
بداية، قابل للرتاجع، ونستطيع الولوج اإليه من مداخل<br />
متعدّ دة، ول ميكن لأيّ منها اأن يوصف باأنه املدخل<br />
الرئيس، والشيفرات التي يهيّوؤها متتّد على مسافة<br />
ما تستطيع )روؤيته( العني، ول ميكن حتديدها )اأي<br />
الشيفرات(...اإنّ اأنظمة املعنى تستطيع السيطرة على<br />
هذا النص املتعدّ د )تعددية( مطلقة، لكن عددها غري<br />
قابل لانغاق اأبدا، لأنه كما هي احلال معتمد على ل<br />
نهائية اللغة« )8( .<br />
ويوؤكّ د صاحبا دليل الناقد الأدبي يف اإضاءتهما<br />
ملصطلح »النص املتعالق »Hypertext اأن وصف »رولن<br />
بارت »Roland Barthes للنّصوصية ل يختلف عن<br />
»ميشال فوكو »Michel Foucault للكتاب خاصة يف<br />
حفريات املعرفة، ويوردانه كاما بعدا اأورده »جورج<br />
لندو »George Landow بصورة مقتضبة، يقول »فوكو«<br />
: »اإنّ اأطراف الكتاب القصوى ليست واضحة املعامل اأبدا<br />
بغض النظر عن عنوانه واأسطره الأوىل ونهايته، وبغض<br />
النظر عن عنوانه واأسطره ونهايته، وبغض النظر عن<br />
ترتيبه الداخلي ووحدته الشكليّة فاإنّ الكتاب مشتبك<br />
بنظام من الإحالت اإىل غريه من الكتب، اإىل غريه من<br />
النصوص، اإىل غريه من اجلمل: اإنّه حلقة ضمن شبكة«<br />
. )9(<br />
لقد اأصبحت تقنية النّس املرتابط خمتربا<br />
يستخدمه املنظّ رون لتفحّ ص اأفكارهم، كما اأنّ جتربة<br />
قراءة النص املرتابط توضحُ اأصدّ الوضوح عددا<br />
من اأهمّ اأفكار النظرية الأدبية، ويوؤكّ دُ »ج، دايفيد<br />
بولرت- »J.David Bolter مدى جتسيد النصية املفرّ عة<br />
ملفهومات ما بعد البنيوية عن النص املفتوح – Open<br />
،Text وهو ما ذهب اإليه اأبرز اأقطاب املمارسات املفرّ عة<br />
»جورج لندو«، موؤكّ دا »اأنّ النص الإلكرتوين املتفرّ ع سهّ ل<br />
مهمّ ة فهم مقولت »ما بعد احلداثة« التي تبدو للنّصوص<br />
الورقية املطبوعة مبهمة، وشاذة وطموحة جدّ ا« )10( ، لقد<br />
بلغ ذلك التّقارب الفكري بني توجّ هات اأعام النظرية<br />
الأدبية وبعض توجّ هات تكنولوجيا املعلومات اإىل حدّ<br />
اإعطاء السم نفسه– النص التشعبي مثلما استخدمه<br />
»جينيت« للإشارة اإىل اأشكال التّناص.<br />
ويف سياق حديثه عن العاقة بني اأفق العوملة وما بعد<br />
احلداثة يرجّ ح الدكتور »عز الدين اإسماعيل« مستوى<br />
التطابق على مستوى التداخل والتفاعل بين توجّ هات ما<br />
بعد احلداثة يف جتلياتها النقدية وبني جهود روّاد النّص<br />
املرتابط فيقول: »ويكفي اأن نذكر يف هذا الصّ دد اأن<br />
اأصحاب الجتّ اه الأخري الذّ ي بداأ مع بداية تسعينات<br />
القرن املاضي بزعامة »لنداو »Landow يف اأمريكا<br />
لدراسة ما يسمّ ى بالنص الشامل اأو النص الإلكرتوين<br />
،hypertext هوؤلء كانوا قد تاأثّروا بجملة من اأفكار<br />
ما بعد احلداثة التي كان« رولن بارت« و« جاك دريدا«<br />
وغريهما قد طرحوها، خصوصا فيما يتعلّق بفكرة<br />
النص املفتوح، وانتشار املعنى با حدود، ودور القارئ
187<br />
2 0 1 1<br />
يف اإنتاج النّص« )11( .<br />
واإذا كانت اجتاهات ما بعد البنيوية ممثلة يف<br />
اإسرتاتيجية التفكيك قد نقلت السلطة من النص اإىل<br />
القارئ فاإنّ جهود نقاد »مدرسة كونستانس Konstans<br />
»School كان لها الفضل يف اإرصاء تلك العاقة<br />
الديالكتيكيّة بني النص والقارئ، موجّ هة الأنظار اإىل فعل<br />
التلقي الأدبي ودور القارئ الفعّال واحليوي يف العملية<br />
الإبداعيّة، فهانز روبرت ياوس وهو يوؤسّ س لنظرية<br />
التلقي وينظّ ر لأفق التوقعّات حتدّ ث عن تاريخ التلقي<br />
وحوار الآفاق، وهو الأمر الذّ ي اأفادت منه املمارسات<br />
املفرّ عة حيث بات القارئ السرباين ل جمرّ د متلقٍ سلبي<br />
بل متلق مبدع، والباحث يف جماليات التّلقي ميكن اأنّ<br />
يجد يف النص املرتابط»اأداة بحثيّة نافعة، فالباحث،<br />
على سبيل املثال، قد يرفقُ استبانة بنص اإلكرتوين<br />
ميكنُ الوصول اإليها على الإنرتنت، وهو ما قد ميكّ نه من<br />
معرفة كيف تلّقى القرّ اء هذا العمل« )12( .<br />
ولأنّ اإسرتاتيجية التفكيك تهدف اإىل نقض املركز<br />
الثابت وفتح فضاء الدللة على اللّعب احلرّ للدّ وال التي<br />
ل تكفّ عن توليد املعاين اخلافية فاإن النص املرتابط<br />
نص ل مركزي، نص ل بوؤرة له، تنطلق منها وجهة<br />
نظر القارئ يف روؤيته له، ولذلك ميكن كما يقول« سعيد<br />
الوكيل« :»ربط النص التشعبي بنظرية التفكيك حيث<br />
تتعدّ دُ املراكز داخل النّص، ومن ثمّ ة تتعدّ د الروؤى ول<br />
ميكنُ اخلضوع لروؤية واحدة، اإذ يلفتنا التفكيك اإىل<br />
مراوغة النص حيث ل تتاآزرُ كل عناصره يف اإطار روؤية<br />
واحدة كليّة اإىل حدّ اأنّه يقوّضُ نفسه« )13( .<br />
وباإعان موت املوؤلّف صار العمل الأدبي جمرّ د<br />
»كولج« ثقايف اأو جمرّ د نصوص متّ امتصاصها وحتويلها<br />
وصيغت بشكل جديد، فكلّ نص هو حتما رابط بني<br />
نصوص عدّ ة، »وبظهور النص الإلكرتوين وظهور النص<br />
التشعبي تبعا لذلك، هذا الأخري الذّ ي يوؤدّي اإىل زيادة<br />
»الطاقة التّناصيّة« للنص زيادة ل حدود لها، كما اأن<br />
املراجع املستشهد بها ل تظل مربوطة فهرسيا مبسارات<br />
املخطط الربجمي، بل تصريُ هي املسارات بحيث يكون<br />
مبقدور القارئ ارتيادها كيفما شاء« )14( .<br />
اإذن، فالنظرية الأدبيّة املنشودة تستّمدّ اإطارها<br />
املرجعي من خال ما استقرت عليه النظرية النقدية<br />
خاصة جهود التفكيكيني؛ »رولن بارت- Roland<br />
»Barthes ، و»ميشال فوكو-Michel »Foucault ، وهو<br />
ما يقرّ ه »جورج لندو »Landow George قائا:»اإنّ<br />
التوازيات بني النص املفرّ ع احلاسوبي والنظرية النقدية<br />
تثري النتباه من عدّ ة نواح، رمبّ ا كان اأهمّ ها اأنّ النظرية<br />
النقدية حتملُ عائم التنظري للنّص املفرّ ع، وباملقابل<br />
يحمل النّصُ املفرّ ع عائم جتسيد النظرية الأدبية ورَوْزِ<br />
جوانبها، ولسيّما ما يتصلُ منها بالنّصية، والسردية،<br />
واأدوار القارئ والكاتب ووظائفهما« )15( .<br />
اإنّ توازي التنظري البارتي والفوكوي للنّص املفتوح -<br />
Text Open مع جتسيد وتفعيل »تيد نيلسون« و »جورج<br />
لندو« ملفهوم النص املرتابط، يقول« حسام اخلطيب«<br />
: »ليس نهاية املطاف، واإنّ وراء الأكمة ما وراءها، فمن<br />
الطبيعي اأن تنبثق عن املمارسات املفرّ عة جماليات<br />
جديدة ونظرات اأدبية متنوّعة من صاأنها اأن توؤدّي اإىل<br />
تاأزّم وتفاقم اإشكاليّة مرجعيّة النّص- وهذا ما يُنتظر اأن<br />
يحدث يف املنظور القريب- واإمّ ا اإىل شيء من النفراج<br />
والإضاءة للمرجعيّة من خال الفيض احلرّ للمعلومات<br />
وديناميّة املرونة احلاسوبيّة وعامليّتها« )16( .<br />
وبعقليّة حواريّة، تداولية يرتاجع فيها العقل النخبوي<br />
للمثقفني والنّقاد واملفكّ رين اأمام العقل امليديائي لعمّ ال<br />
املعرفة يدعو »حسام اخلطيب« اإىل توسيع دائرة مشاركة<br />
اجلمهور يف تصوّر جماعي ملرجعيّة الإبداع الأدبي يف<br />
عصر املعلوماتيّة عرب ما متنحه ديناميكية احلاسوب<br />
ومرونته وما يقدّ مه النص املرتابط من اإمكانات هائلة<br />
يف قراءة وتشكيل النص الأدبي، املرجعيّة تعقّدت وبات<br />
من الصعب حتديدها يف ظلّ التفلّت الفكري والأدبي،<br />
ولعلّ ما نقوم به من خال هذه السّ طور يعدّ لبنة تضاف<br />
اإىل تلك اللبنات التي سبق وضعها من جهود نقّاد<br />
واأكادمييني كحسام اخلطيب وسعيد يقطني وفاطمة<br />
الربيكي.<br />
وحسام اخلطيب بتوسيعه دائرة مشاركة اجلمهور<br />
يف تصوّر جماعي ملرجعيّة الإبداع يكون قد اأبدع نصاً<br />
مفتوحاً يفسح املجال اأمام القرّ اء والموؤوّلني لنصه<br />
املطبوع كتابة نص على نصه، وميهّ د الطريق لتصوّر<br />
جديد ملرجعيّة الإبداع يعتمد تقنية النص املرتابط، اأين<br />
يصبح نص تصوّر املرجعية نصا مرتابطا ميكن للقارئ<br />
السرباين الدخول اإليه ليسهم يف اإبداعه ويجري عليه<br />
اأي شكل من اأشكال التعديل التي يراها.<br />
مقاربات
2 0 1 1<br />
188<br />
الهوامش واالإحاالت<br />
( * ) يذهب سعيد يقطني يف كتابه »من النص اإىل النص املرتابط، مدخل اإىل جماليات الإبداع التفاعلي« اإىل استعمال<br />
مصطلح »املبدع« حمل الكاتب لأنّ دوره يتعدّ ى الكتابة اإىل الإبداع )بواسطة استخدام احلاسوب( الذي يتسع<br />
ملمارسات اأخرى غري الكتابة، والشيء نفسه يقال عن القارئ، وليس ذلك باجلديد بل اإنّ املصطلح املذكور<br />
تداولته الكتابات النقدية مع اجتاهات ما البنيوية.<br />
( ** ) يقول باختني: »اإنّ العمل الأدبي، والروائي بوجه خاص،اإطار تتفاعل فيه جمموعة من الأصوات اأو اخلطابات<br />
املتعدّ دة اإذ تتحاور متاأثّرة مبختلف القوى الجتماعيةّ من طبقات ومصالح فئوية وغريها«.<br />
( *** ) قول الناقدين: »اإنّ املفارقة مقصودة« يعني كيف تعدّ نظريات ما بعد البنيوية نظرية يتجسّ د من خالها النص<br />
املرتابط من ناحية والنص املرتابط« كما عرفنا من قبل هو النص املكتوب على سطح الشاشة؛ النص التخيّلي<br />
لنص رقمي موجود يف الذاكرة الصلبة للكمبيوتر من ناحية اأخرى.<br />
)1( سعيد يقطني: من النص اإىل النص املرتابط، مدخل اإىل جماليات الإبداع التفاعلي، ص10 .<br />
)2( عبد العزيز حمّ ودة: املرايا املحدبة، من البنيوية اإىل التفكيك، عامل املعرفة، ع232، املجلس الوطني للثقافة<br />
والفنون والآداب،الكويت ، اأبريل/نيسان 1998، ص357.<br />
)3( سعد البازعي وميجان الرويلي: دليل الناقد الأدبي،اإضاءة لأكرث من سبعني مصطلحا وتيارا نقديا معاصرا،املركز<br />
الثقايف العربي ، الدار البيضاء، املغرب، ط3،2002، ص271.<br />
)4( بابيس ديرميتزاكيس: »النص التشعبي: ما وراء حدود النّص«، ضمن النقد على مشارف القرن الواحد<br />
والعشرين: العوملة والنظرية الأدبية،اأعمال املوؤمتر الدويل الثاين للنقد الأدبي،القاهرة،2000،ص382.<br />
)5( املرجع نفسه، الصفحة نفسها.<br />
)6( املرجع نفسه، الصفحة نفسها.<br />
)7( سعد البازعي وميجان الرويلي: دليل الناقد الأدبي،اإصاءة لأكرث من سبعني مصطلحا وتيارا نقديا<br />
معاصرا،ص271.<br />
)8( املرجع نفسه، الصفحة نفسها.<br />
)9( املرجع نفسه، الصفحة نفسها.<br />
)10( George p.Landow,Hyper/text/Theory,The John Hopkins University press,1994,p.39.<br />
نقا عن فاطمة الربيكي: مدخل اإىل الأدب التفاعلي،ص147-146.<br />
)11( عز الدين اإسماعيل: »العوملة واأزمة املصطلح«، جملة العربي،ص165.<br />
)12( بابيس ديرميتزاكيس: »النص التشعبي: ما وراء حدود النص«، ص373- . 374<br />
)13( سعيد الوكيل: »الأدب التفاعلي العربي«، ضمن الثقافة السائدة والختاف، موؤمتر اأدباء مصر،بور سعيد،الهيئة<br />
العامة لقصور الثقافة،القاهرة، ط1 ،2005 ص327.<br />
)14( بابيس ديرميتزاكيس: »النص التشعبي: ما وراء حدود النص«، ص386.<br />
)15( حسام اخلطيب ورمضان بسطاويسي:حوارات لقرن جديد:اآفاق الإبداع ومرجعيّته يف عصر املعلوماتية،ص54.<br />
(16) - George p.Landow:Hypertext2.0, Baltimore-London, 1997:2.<br />
نقا عن حسام اخلطيب ورمضان بسطاويسي: اآفاق الإبداع ومرجعيّته يف عصر املعلوماتيّة،حوارات لقرن<br />
جديد،دار الفكر العربي ،دمشق،سوريا،ط1، 2001،ص54.
2 0 1 1<br />
190<br />
differences enabling a universal truth, but as a<br />
result it entraps the subject in its truth/ideology.<br />
Badiou went even further in theorising for this<br />
enclosure when he said that Universalism<br />
“requires the initiation of a subject divided in<br />
itself,” (58) in the way we have summarised<br />
earlier about the subjective division, admitting<br />
here that the subject is left with nothing but the<br />
event to face up to. It would either be granted<br />
life through its continued fidelity to the event,<br />
or it would be faced with death otherwise.<br />
This is the ‘universal’ revolutionary ideology<br />
that Badiou was weaving out of Paul!<br />
Bibliography<br />
1. Badiou, Alain. Infinite Thought: Truth And The Return To Philosophy, trans. Oliver Feltham,<br />
and Justin Clemens, London/ New York: Continuum, 2005.<br />
2. Badiou, Alain. Being and Event, trans. Oliver Feltham, London/ New York: Continuum,<br />
2005.<br />
3. Badiou, Alain. Ethics, trans. Peter Hallward, London/New York: Verso, 2001.<br />
4. Badiou, Alain. The Foundation of Universalism, trans. Ray Brassier, Stanford: Stanford<br />
University Press, 2003.<br />
5. Zizek, Slovaj. The Ticklish Subject: The Absent Centre of Political Ontology, London/New<br />
York: Verso, 1999.<br />
6. Wilson, A. N. Paul: The Mind of The Apostle, London: Sinclair-Stevenson, 1997.<br />
7. Vilenkin, N. Ya. Stories About Sets, trans. SCRIPTA TECHNICA, London/ New York:<br />
Academic Press, 1968.<br />
8. Taubes, J. The Political Theology of Paul, trans. Dana Hollander, Stanford: Stanford University<br />
Press, 2003.<br />
9. Gignac, A. “Taubes, Badiou, Agamben: Reception of Paul by Non-Christian Philosophers”<br />
in Reading Romans with Contemporary Philosophers and Theologians, Ed. David W. Odell-<br />
Scott, T & T Clark International, 2007.<br />
- 11 -
191<br />
2 0 1 1<br />
مقاربات<br />
But for Paul, Badiou argued, Christ was a<br />
pure event. He was “a coming; he is what<br />
interrupts the previous regime of discourse.”<br />
(48) Similarly, ‘traditional’ communists look<br />
up for the revolution to arrive so that there can<br />
be something else, while Badiou would like<br />
to think of a revolution as a “self-sufficient<br />
sequence of political truth.” (48)<br />
Here, Paul’s political orientation is made to<br />
fit into Badiou’s political activism. At the<br />
time when he wrote the book in 1997, he has<br />
already become disillusioned by the role of<br />
the party in revolutionary politics, and as a<br />
result has adopted a new approach of political<br />
activism without a party. To be able to practice<br />
that kind of political activism, he formed<br />
l’organisation Politique with some of his close<br />
friends in 1985. (Badiou Ethics interview 95)<br />
It would be fair to say that, in approaching<br />
Paul, Badiou was searching for a non-party<br />
militant that fitted very well with the type of<br />
engagement he had with the l’organisation<br />
Politique. This mode of “subjective” activism<br />
that Badiou has resorted to, a mode that<br />
enabled him to be politically engaged without<br />
a party, allowing him to escape participation<br />
in the parliamentarian democracy, which he<br />
deplored, and at the same time sparing him<br />
from any need to adopt a revisionist stance to<br />
his Leninist-Maoist ideology.<br />
Zizek saw Badiou’s notion of truth event as<br />
very close to Althusser’s notion of ideological<br />
interpellation (i.e. ideology subjectivating the<br />
pre-ideological individual transforming him<br />
or her to a subject proper). When an individual<br />
is, in Badiou terms, subjectively engaged, in a<br />
case that is a truth event, then that engagement<br />
is strikingly similar to Althusser’s notion of the<br />
individual being ideologically interpellated.<br />
Badiou also provided an exposition of Paolo<br />
Pasolini’s Project for a Film of St. Paul, the<br />
film that Pasolini never made but left its script.<br />
Pasolini was clear about his political motives<br />
behind the project, as Mariniello noted: “By<br />
replacing the conformity of Jews and Gentiles<br />
with that of today’s bourgeois (religious or<br />
not), the text historicizes the past, and biblical<br />
history, introducing elements of a materialist<br />
analysis: of institutional religion’s and<br />
liberalism’s relation to power.” (St. Paul: The<br />
Unmade Movie 72).<br />
Badiou found in Pasolini’s work an<br />
endorsement of his attempt to designate<br />
Paul as a militant of truth. In intersecting<br />
the question of Christianity with that of<br />
communism, Pasolini had as result intersected<br />
the question of ‘saintliness’ with that of the<br />
militant. Badiou concluded that Pasolini’s<br />
Paul, was, in a revolutionary fashion, “our<br />
fictional contemporary because the universal<br />
content of his preaching, obstacles and failures<br />
included, [remained] absolutely real.” (37)<br />
Given the closeness in the ideological stands<br />
of Badiou and Pasolini, it would be possible<br />
to accept Badiou’s interpretation of Pasolini’s<br />
motives for the film of St. Paul.<br />
Conclusion<br />
I have argued that there are problems with<br />
Badiou’s concept of the universal truth,<br />
especially when considering Badiou’s<br />
subjectivating truth procedure embedded in<br />
that universality, which inevitably requires<br />
“changed” subjects, and thus would form a<br />
particular set in addition to the existing sets<br />
in the situation.<br />
Moreover, Badiou’s event sounded like an<br />
ideology that completely defines, and thus<br />
confines its subject. It nullifies the existing<br />
- 10 -
2 0 1 1<br />
192<br />
a world or society yet<br />
concretely destined to<br />
become inscribed within a<br />
world and within a society”<br />
(p. 107).<br />
Without having more explanation from Badiou<br />
about what he meant by consciousness-oftruth,<br />
it was possible to see, however, how it<br />
alluded to the Christian terms ‘consciousness<br />
of Christ’ or ‘consciousness of church’. A<br />
consciousness-of-truth could then be thought<br />
of as a state of a direct knowledge of truth,<br />
without having to apply reason, as in Greek<br />
philosophical discourse, or use of signs or<br />
miracles, as in the Jewish prophetic discourse.<br />
Badiou used consciousness-of-truth to<br />
describe the state of the subject that has been<br />
transformed and made ready to enter the realm<br />
of Universalism.<br />
Using the terms Being and Event as Badiou<br />
established them in his Being and Event book;<br />
we can describe how this transformation<br />
occurs. The key to universalism, according to<br />
Badiou, is the opening up of a generic set of<br />
a being of truth, and thus making it possible<br />
for a subject that belongs to a particular set<br />
to have, through its faith in an event that was<br />
declared as true by another subject, a sort<br />
of a consciousness-of-truth that enables it<br />
to transgress its established set, and thus to<br />
enter a universal set to which anybody can<br />
subscribe. The consciousness-of-truth is the<br />
state in which the transformed subject finds<br />
itself, after it submits to faith in the declared<br />
event. The founding of a universal set, where<br />
the discourse of truth is removed from the<br />
distinctive communitarian sets of the Greeks<br />
and the Jews (the historical aggregates) was,<br />
according to Badiou, the contribution of Paul.<br />
So, what are, according to Badiou, the generic<br />
conditions of a universal truth? A truth that<br />
meets the generic conditions is one that despite<br />
being situated in the world “does not retain<br />
anything expressible from that situation”<br />
(Being and Event xiii). The work of truth in<br />
this context is that of a ‘generic procedure’<br />
and the subject is constituted by becoming an<br />
active dimension of such procedure.<br />
Paul as a Revolutionary Militant<br />
As Badiou was seeking to rethink the structure<br />
of the Political through Paul, he has not lost<br />
faith in the power of revolutionary politics. In<br />
seeking exactly to strengthen such politics by<br />
retrieving through Paul a model for thinking<br />
the event and living militantly, he was<br />
motivated by the potency of Paul as a militant<br />
figure.<br />
The ‘militant of truth’ subject, according to<br />
Badiou, is that who is actively proclaiming<br />
an event of truth. The militant of truth is<br />
the ‘artist-creator’, who “opens up a new<br />
theoretical field”, while “working for the<br />
emancipation of humanity in its entirety.”<br />
(Being and Event p.xiii) It is useful to<br />
remember here that Badiou’s reading of Paul<br />
in this book was already initiated in his earlier<br />
book Being and Event in his 21 st mediation<br />
about Pascal. In contrasting between Paul and<br />
Pascal in relation to the truth event, Badiou in<br />
consequence contrasted between ‘traditional’<br />
communist revolutionaries and his own post-<br />
Marxist conception of militancy. The event for<br />
Paul and Pascal was Christ, while it was, and<br />
probably still is, for Badiou and his ‘comrades’,<br />
the revolution. Pascal saw the Christ event<br />
as mediation, or in Badiou’s mathematical<br />
language, a ‘function’, through which we<br />
get the knowledge of God and Christianity.<br />
- 9 -
193<br />
2 0 1 1<br />
مقاربات<br />
51), Jacob Taubes, in his book The Political<br />
Theology of Paul, has recognised Paul as a<br />
founder of a new people. However, Paul did<br />
that, according to Taubes who clearly came to<br />
this conclusion from a Jewish point of view, by<br />
enlarging the election of Israel. That reading<br />
might comfortably set Paul as a Universalist,<br />
but the admission to his universal group/set<br />
is only possible via what Taubes calls “the<br />
needle of the crucified one.” (Taubes 52)<br />
We have seen that Badiou does not have a<br />
problem with the requirement of fidelity, or<br />
in other words faith, to the new truth event<br />
on the part of the subject; in fact Badiou<br />
has prescribed that fidelity as a necessary<br />
condition for the becoming of the universal<br />
truth. However, that requirement presents a<br />
problem when considering the universality of<br />
what Badiou calls the ‘new truth’. As Taubes<br />
has highlighted in his own way, Badiou’s<br />
universal set constitutes its own subjects, and<br />
thus is not automatically universal as such to<br />
the situation. The changed subject required<br />
by Badiou’s universal set would make his so<br />
called universal truth applicable only to the<br />
particular set of the new believing subjects.<br />
The Subjective Division<br />
In a way that denied any relevance to the<br />
Platonic concepts of ‘body’ and ‘soul’, Badiou<br />
defined the relationship between the Pauline<br />
concepts of ‘flesh’ and ‘spirit” through what<br />
he called the ‘subjective division’. What Paul<br />
named as the ‘flesh’ and ‘spirit’ were in fact<br />
two subjective paths into which the Christian<br />
subject, as constituted by the Pauline/Christian<br />
discourse, is weaved into. This made the<br />
Christian subject a divided one.<br />
Badiou moved on to say that this subjective<br />
division of the Christian subject disqualified<br />
what other discourses identified as their<br />
objects: the ‘finite cosmic totality’ in Greek<br />
discourse, and the ‘elective belonging/sign’<br />
in Jewish discourse. Instead, Badiou defined<br />
the subject of the Christian discourse in terms<br />
of the ‘figure of the real’ where the ‘real’ was<br />
“that which is thought in a subjectivating<br />
thought” (55). It is worth noting here that<br />
Badiou made use of Lacan’s distinction<br />
between real and reality. According to Lacan,<br />
the real as being, in a situation, is a “point of<br />
impossibility which allows us to think of the<br />
situation as a whole, according to its real.”<br />
(Badiou Ethics 119) The real, as the thought<br />
being grasped by the two subjective paths that<br />
constitute the divided subject deploys itself in<br />
a relation to this division as ‘death’ and ‘life’.<br />
In light of this theorisation, Badiou translated<br />
Romans 8:6 in which Paul’s defines ‘flesh’<br />
and ‘spirit’ as: “The thought of the flesh is<br />
death; the thought of the spirit is life.” (55)<br />
In comparison, this same verse was translated<br />
in the New International Version of the New<br />
Testament as: “The mind of the sinful man is<br />
death, but the mind controlled by the spirit is<br />
life and peace.” (Rom 8:6)<br />
The consciousness of Truth<br />
In the conclusion of the book, Badiou used the<br />
term consciousness-of-truth as follows:<br />
“In reality, the Pauline<br />
break has a bearing upon<br />
the formal conditions and<br />
the inevitable consequences<br />
of a consciousness-of-truth<br />
rooted in a pure event,<br />
detached from every<br />
objectivist assignation<br />
to the particular laws of<br />
- 8 -
2 0 1 1<br />
194<br />
entities in society), Badiou asked the question:<br />
“What are the conditions for a universal<br />
singularity?” (13) For a start, the truth as<br />
a universal singularity has to be entirely<br />
subjective. A person has to embrace it on a<br />
purely subjective basis without intermediary<br />
or mediation. Consequently, this truth, and<br />
it’s believing subject, have to pay the price<br />
of breaking up with established rites and<br />
markings specific to the subject’s locality<br />
before being reconstituted by that universal<br />
truth. Without qualification, the new truth has<br />
to stand suspended on its own, supported only<br />
by the uncompromising fidelity of its followers.<br />
Badiou still saw his truth procedures at risk<br />
of being dissolved into cultural ‘historicity’<br />
by the moral opinion, and he expressed his<br />
intent in this book to use Paul as a guide to<br />
subtract that cultural historicity from those<br />
truth procedures.<br />
Badiou touched on the Jewish and Greek<br />
identity in mathematical terms, in relation<br />
to their objects of the respective discourses,<br />
positing the claim that Paul’s profound idea,<br />
which lead to his universality, was that “Jewish<br />
discourse and Greek discourse are two aspects<br />
of the same figure of mastery.” (42) Note that<br />
this ‘figure of mastery’ was referred to at a<br />
different location in the book as the ‘figure of<br />
the real’ which in short could be thought of<br />
as the objects of the respective discourses; i.e.<br />
the ‘elective belonging/miraculous sign’ for<br />
the Jewish discourse and the ‘cosmic totality’<br />
for the Greek discourse. Badiou continued<br />
to argue that “the miraculous exception of<br />
the sign was only the ‘minus-one,’ the point<br />
of incoherence, which the cosmic totality<br />
requires in order to sustain itself.” (42) This<br />
mathematical representation forced Badiou to<br />
place both the Greek and Jewish discourses as<br />
opposites that suppose the persistence of each<br />
other. If it was possible to accept that the Jewish<br />
‘monotheist’ subject defined itself against the<br />
Greek/Roman ‘pagan’ subject, there was no<br />
reason to assume that this held true for how<br />
the Greek/Roman subject defined itself. After<br />
all, the Jewish minority in the Roman Empire,<br />
although a sizable one as A. N. Wilson argued<br />
(Wilson 6), was just one of other minorities<br />
in the Empire. In addition, the Roman subject<br />
was probably constituted by the discourse of<br />
wisdom inherited from the Greeks but also by<br />
the Roman legal discourse of what constituted<br />
a ‘free’ citizen. Such was the significance of<br />
Roman citizenship that Paul himself tapped<br />
into it when he needed to be granted a wider<br />
legal immunity during his trial in Rome than<br />
what a normal ‘minority’ Jew would get in the<br />
Roman Empire.<br />
Badiou asserted that the truth procedure didn’t<br />
comprise degrees, and Paul has fulfilled that<br />
assertion when he stood against some Judeo-<br />
Christians who felt strongly for the Jewish<br />
law to be applied to the Gentile followers,<br />
especially circumcision, and did not consent to<br />
making any distinction between the Jewish and<br />
non-Jew Christians (21). Paul’s determination<br />
in transgressing both the Jewish law and the<br />
Greek wisdom was the manifestation of total<br />
fidelity to the truth event that nonetheless may<br />
or may not triumph in making possible a new<br />
truth. This fidelity to the event on the part of<br />
the militant was always “a diagonal trajectory<br />
that rarely meets with success.” (28)<br />
In reading Paul’s saying in his letter to the<br />
Romans: “A hardening has come upon part of<br />
Israel, until the full number of the Gentiles has<br />
come in.” (Rom 11:25 – wording from Taubes<br />
- 7 -
195<br />
2 0 1 1<br />
مقاربات<br />
of the Jewish subject.<br />
Here, Badiou used the concepts he developed<br />
in his book Being and Event; the event is<br />
established (i.e. comes to Being) in a particular<br />
site, it nonetheless has to transgress it in order<br />
to succeed as a truth procedure. That is how<br />
Badiou concluded that for Paul, although the<br />
resurrection of Christ’s event was dependent in<br />
its Being on its site (i.e. the Jewish tradition),<br />
its truth should be independent of that<br />
particular site. Paul’s assertion in his letter to<br />
the Corinthians: “Circumcision is nothing, and<br />
uncircumcision is nothing” (I Cor. 7:19), was<br />
a testament that “the new universality bears no<br />
privileged relation to the Jewish community.”<br />
(23)<br />
In Badiou’s terms, Jews and Greeks were<br />
subjective dispositions, and regimes of<br />
discourse (to copy Foucault), in opposition of<br />
which Paul presented a third discourse which<br />
was his own. In this case, Paul has “instituted<br />
‘Christian discourse’ only by distinguishing its<br />
operations from those of Jewish discourse and<br />
Greek discourse”. (41) A by-product of Paul’s<br />
discourse was a fourth one, which Badiou<br />
called ‘mystical’ discourse. More specifically,<br />
Badiou claimed, it was a product of the ternary<br />
dialectic between the three discourses: Jewish,<br />
Greek and Pauls. This dialectic should require,<br />
as Hegel would demand as part of his routine<br />
of the ‘Absolute Knowledge’ of a ternary<br />
dialectic, a fourth discourse, which was in this<br />
case the mystic discourse of miracles.<br />
Universalism: A Universal Singularity<br />
Fighting the “abstract universality of our<br />
epoch” (Being and Event p.xii) that was made<br />
possible by the alliance between the ‘free’<br />
market forces and liberal parliamentarianism,<br />
Badiou tried to provide an alternative model of<br />
universality, which he called ‘universalism’.<br />
By characterizing the capitalist universality<br />
as abstract, Badiou pointed it out as a ‘false<br />
universality’, whose monetary abstraction of<br />
value was not hindered by accommodating<br />
the “kaleidoscope of communitarianisms.” (7)<br />
This has produced a ‘false’ sense of liberty in<br />
society.<br />
The four truth procedures identified by Badiou<br />
in the “Art, Love, Politics, and Science”<br />
typology face the risk of obliteration at the<br />
hand of capital’s false universality, as each truth<br />
procedure was merchandised and packaged in<br />
a category of ‘commercial presentation’ via<br />
a process of ‘nominal occlusion’: “the word<br />
‘culture’ comes to obliterate that of ‘art’.<br />
The word ‘technology’ obliterates the word<br />
‘science’. The word ‘management’ obliterates<br />
the word ‘politics’. The word ‘sexuality’<br />
obliterates the word ‘love’.” (12)<br />
Theoretical Support for capital’s false<br />
universality came from the liberal conception<br />
of the relativity of truth. Against this<br />
relativism that celebrated and effectively<br />
emboldened the cultural differences in society,<br />
Badiou advocated that if truths existed in a<br />
situation, they would have to be “indifferent<br />
to differences” (Being and Event xii) because<br />
differences couldn’t play a ‘normative role’;<br />
a role in finding the truths in the situation.<br />
This fundamentally anti-relativist doctrine<br />
was what drove Badiou to formulate his<br />
universalism.<br />
After a polemic attack on what he called the<br />
‘articulated whole’ of the abstract homogeneity<br />
of the capital (which abstracted everything to<br />
monetary value) and the identitarian protest<br />
(which manifested as cultural/ethnic groups<br />
sought to be recognised as separate cultural<br />
- 6 -
2 0 1 1<br />
196<br />
in political philosophy as well as political<br />
activism, and the latter would supposedly derive<br />
its principles from the former. To elaborate this<br />
point, a good place to start would be to look at<br />
Paul’s contemporariness in terms of Badiou’s<br />
thought by looking at the problematic that<br />
Badiou has tried to tackle through this book.<br />
Rightly so, Badiou has detailed this in the first<br />
chapter of the book in the context of discussing<br />
Paul’s contemporariness. He admitted that he<br />
embarked on a philosophical investment of<br />
Paul, who at first sight would seem distant from<br />
the possibility of such an investment. Badiou,<br />
however, saw a profitable engagement here,<br />
precisely because the centrality of a fabulous<br />
event (Christ’s resurrection) in Paul’s thought<br />
provided a proper mediation for “restoring the<br />
universal to its pure secularity, here and now”<br />
(p. 5).<br />
To explain what Badiou meant by restoring the<br />
universal to its pure secularity, it is important<br />
to remember his open contempt for relativism.<br />
Badiou wrote this book in 1997, at a time when<br />
the Marxist ‘universal’ project has declined.<br />
He was also at odds with the postmodern<br />
thought that yielded to the complexity of the<br />
human condition and has given up on the<br />
great narratives. Badiou, as Zizek puts it, is<br />
still “aiming for, against the postmodern doxa,<br />
(...) precisely the resuscitation of the politics<br />
of (universal) Truth in today’s conditions of<br />
global contingency.” (Zizek Ticklish 132)<br />
Being a staunch post-Marxist he had a great<br />
interest in finding new possibilities of political<br />
resistance to the project of capitalism.<br />
It is possible to see how Paul fitted into the<br />
development of Badiou’s project of trying to<br />
recover the ‘question of truth’ from cultural<br />
and historical relativism, and ‘resisting’ the<br />
current of “moral philosophy disguised as<br />
political philosophy” (Being and Event xi), as<br />
he lamented in his introduction to the English<br />
translation of Being and Event.<br />
The relevance of Paul to our time, in Badiou’s<br />
view, couldn’t be greater, for he (i.e. St<br />
Paul) has taken the risk of “assigning to the<br />
universal a specific connection of the law<br />
and the subject,” (7) and not without a price<br />
paid by the law (the Jewish and Philosophic<br />
laws being suspended) and the subject (the<br />
traditional Jewish subject abandoning the<br />
status of being one of the chosen, and the<br />
pagan subject submitting to an event that<br />
cannot be proved).<br />
The Christ Event and the Pauline<br />
Subject<br />
According to Badiou, the subject is constituted<br />
only by its active fidelity to the event of truth.<br />
Paul’s uncompromising fidelity to the event of<br />
Christ’s resurrection, and his insistence, that<br />
faith in it alone was enough to constitute the<br />
subject/follower of the ‘new way’, has both<br />
defined his discourse and caused him much<br />
trouble in defending it.<br />
Paul’s conflict with the more observant<br />
Judeo-Christians, who wanted all believers<br />
to be circumcised, was seen by Badiou as a<br />
tension between the potential universality of<br />
the ‘postevental’ truth (the truth inferred by<br />
the belief in Christ’s resurrection) and the<br />
eventual site itself, which was located in a<br />
singular situation (the Jewish tradition). Paul<br />
has succeeded, after his famous meeting with<br />
the historical apostles in Jerusalem (probably<br />
head by Peter), to bind the singularity of the<br />
new faith, with the universality of its message.<br />
He refused to accept circumcision as a mark<br />
of the Christian subject, like it was the mark<br />
- 5 -
197<br />
2 0 1 1<br />
مقاربات<br />
it makes visible what the ‘official’ state of the<br />
situation, that is its Being, represses.<br />
The subject then emerges after the Event and<br />
is completely defined by its fidelity to the<br />
event. The subject retroactively gives birth<br />
to the event by interpreting it as event. The<br />
interpretation becomes part of the event.<br />
The new truth starts from fixing the current<br />
situation, but is only achieved when it succeeds<br />
to evade it.<br />
To Badiou, philosophy takes place under<br />
four conditions: Art, Love, Politics, and<br />
Science. Badiou called these condition ‘truth<br />
procedures’, in the sense that they can, under<br />
the right conditions, produce truths.<br />
An important proposition in Badiou’s thought<br />
was the contingent nature of the truth event,<br />
and thus the contingency of truth produced<br />
by a truth-procedure based on that event. The<br />
event is contingent because of the multiplicity<br />
of the situation in which ‘random’ events may<br />
or may not succeed in forming a rupture in<br />
the situation to enable the truth-procedure to<br />
work.<br />
Insufficient Profanity<br />
In Saint Paul: The Foundation of Universalism<br />
Badiou started by claiming, in the prologue to<br />
the book, his undisputed right to draw on Paul’s<br />
letters freely, without devotion or repulsion.<br />
He stressed his secular inclinations to his<br />
subject-matter and spoke of the resurrection of<br />
Christ as a fable. However, that apparently did<br />
not deter Christian scholars from positively<br />
receiving his work, which was probably a<br />
sign that he did not fundamentally contradict<br />
religious convictions in his reading of St Paul.<br />
A possible indication that Badiou’s work<br />
could be accommodated, at some level, within<br />
the religious circles was what Alain Gignac,<br />
the professor in the Faculty of Theology<br />
at the University of Montreal, reported as<br />
‘favourable’ reception of Badiou’s book in<br />
the part of exegetes. (Gignac 16) Gignac even<br />
attempted to lighten the impact of the word<br />
fable used by Badiou as a belittling of the<br />
verity of the Christian faith: “the word fable<br />
is more ambiguous than it may appear. On the<br />
one hand, it can be used to describe the effect<br />
of language where the ineffable attempts to<br />
express itself (...). On the other hand, the word<br />
can refer to the very meaning of the event<br />
(...): Is it not characteristic of the event to be<br />
‘fabulous’?” (Gignac 16)<br />
Badiou, however, assured us that what<br />
interested him in Paul was a ‘gesture’ that was<br />
“formally possible to disjoin from the fable”<br />
(5). The ‘fable’ was stripped out of its fabulous<br />
element by Badiou’s meticulous use of formal<br />
mathematical language in the course of his<br />
analysis. Paul’s gesture was the bridging of<br />
the ‘communitarian’ divide between Jews and<br />
Pagans by offering a proposition of a subject<br />
that transgressed the communitarian identities<br />
via the belief in an event “whose only ‘proof’<br />
lies precisely in its having been declared by a<br />
subject” (5). The ‘declaring subject’ was Paul<br />
himself, and the faith in the event has become<br />
a law without a supporting evidence; a truth.<br />
Paul has succeeded in subtracting the truth<br />
from what Badiou called “the communitarian<br />
grasp.” (5)<br />
Why Paul Now?<br />
Being convinced that Badiou’s exploitation of<br />
Paul was far from religious, the question that<br />
still remained, however, was: Why was the<br />
rethinking of Paul’s gesture a “contemporary<br />
necessity”? (6) Badiou tried to answer the<br />
question by making Paul work for his projects<br />
- 4 -
2 0 1 1<br />
198<br />
Introduction<br />
Fabulous Universalism:<br />
St Paul According to Alan Badio<br />
By: Mohamed Almubarak<br />
This essay aims to provide an exposition of the analysis that Alan Badiou offers in his book<br />
Saint Paul: The Foundation of Universalism of what he calls Paul’s break, which to Badiou<br />
was caused by a sort of a consciousness-of-truth that was rooted in the event of Christ’s<br />
resurrection, and thus was detached from every objective assignation to the particular laws<br />
of a world or society.<br />
The essay focuses on examining Badiou’s concept of universalism, how he has applied it to<br />
St Paul, whether the ‘universality’ of Paul’s message stands out to scrutiny, or whether it<br />
was at best temporary in its universality when the new ‘set’ of truth was opened by Paul’s<br />
declaration of faith in Christ’s resurrection.<br />
The essay tries to tackle further questions like: Was Paul used by Badiou to create a new<br />
possibility of Politics, or to revive faith in the politics of the Marxist revolution? How<br />
relevant was Badiou’s ‘profane’ interpretation to the religious ‘exegetical’ readings of Paul’s<br />
letters as scripture? And how much, on the other hand, that interpretation was geared towards<br />
a ‘revolutionary’ discourse alien to religious interpretations?<br />
Badiou’s Being and Event<br />
An important starting point to understand<br />
Badiou would be to refer to his major book<br />
L’Être et l’Événement which was published in<br />
1988 and translated as Being and Event in<br />
2005.<br />
In Being and Event, Badiou used mathematical<br />
terns (in particular Georg Cantor’s axiomatic<br />
set theory) to create an ontology that<br />
describes the notion of the subject away<br />
from contemporary philosophy’s fixation<br />
upon language (Infinite Thought Translator’s<br />
Introduction). Using this mathematical<br />
tool, Badiou treated material situations as<br />
mathematical sets.<br />
Badiou started with the investigation of what<br />
determined the particularity of a material<br />
situation and showed, through mathematical<br />
ontology, that what he called the Being of a<br />
situation was particularly what necessarily<br />
existed in the situation as its ‘predicative<br />
universe’; i.e. the rules/ontology that determine<br />
what does or does not belong to the situation.<br />
The situation could be referred to as ‘One’, as<br />
it was now a ‘named’ set, but it is actually a<br />
multiplicity of ‘elements’ determined by the<br />
ontology of its Being.<br />
The event takes place from outside the known<br />
dimension of the situation, outside its Being.<br />
It emerges in the situation ex nihilo. Therefore<br />
the Event, according to Badiou, is a rupture in<br />
the situation, but also the Truth of it, because<br />
- 3 -
Fabulous<br />
Universalism:<br />
St Paul According to<br />
Alan Badio<br />
Mohamed Almubarak *<br />
* Researcher from Bahrain.<br />
- 1 -
احلجاج يف التداولية:<br />
مدخل اإىل<br />
اخلطاب البالغي<br />
املراجعات<br />
صابر احلباشة<br />
كاتب وباحث من تونس
203<br />
2 0 1 1<br />
احلجاج يف التداولية:<br />
مدخل اإىل اخلطاب البالغي<br />
صابر احلباشة<br />
تعرَّ ف التداولية املدجمة، حسب املعجم املوسوعي للتداولية، بكونها « نظريّة دلليّة تُدمِ جُ مظاهر التلفّظ يف<br />
السّ نّة اللّسانية )مبعنى اللّسان Langue عند دي سوسّ ري 1968(« )1( وليست مظاهر التلفّظ، يف بعض وجوهها،<br />
سوى عوامل حجاجية تندرج يف الأقوال فتكيّف تاأويلها وفق غاية املتكلّم. وقد درس ديكرو األفاظا وكلمات<br />
خمصوصة لها قيمة حجاجية، ولكن قبل النتقال اإىل التحليل احلجاجيّ , ما معنى احلجاج عند ديكرو؟<br />
اإنّ ديكرو يفرّ ق بني معنيني لِلَفظ احلِ جَ اج<br />
:Argumentation املعنى العادي واملعنى الفنّي اأو<br />
الصطاحيّ ، واحلجاجُ موضوعُ النّظر يف التداوليّة<br />
املدجمة هو باملعنى الثاين.<br />
احلجاج باملعنى الفنّي<br />
يعني احلجاج مبعناه الفنّيّ صنفا خمصوصا من<br />
العاقات املُودَ عَ ة يف اخلطاب واملُدرجَ ة يف اللّسان،<br />
ضمن املحتويات الدّ للية. واخلاصّ يّة الأساسية للعاقة<br />
احلجاجية اأن تكون دَ رَجيّة )Scalaire( اأو قابلة للقياس<br />
بالدّ رجات، اأي اأن تكون واصلةً بني سَ اَملِ َ)2( .<br />
اإنّ مفاهيم السُّ لّم احلجاجيّ والتوجيه احلجاجيّ<br />
يختصّ ان اإذن بالعاقة احلجاجيّة،سواء اأحُ دِّ دت هذه<br />
العاقة لسانيّا اأم اندرجت تداوليّا . اإنّه ضمن احلجاج<br />
مبعناه الفنّي ، نفهم اإمكانيّة الدفاع عن اأطروحة اأولويّة<br />
احلجاج على الإخبار. اإنّه من زاوية نظر اإخباريّة<br />
،)Vériconditionnel<br />
)3(<br />
)املستوفية شروط احلقيقة<br />
تقريبا »تستلزم ل« )4( ، واحلال اأنّ جملةً لها شكل: تقريبا<br />
»ل تستدعي موضعًا topos ميُ كن اأن تستعمله جملةٌ<br />
لها شكل ال«، بل هي تستدعي موضعًا ميكن اعتماده<br />
مع جملةٍ لها شكل ق. اإنّ القيمة احلجاجية )حتديد<br />
السّ لّم احلجاجيّ الذي ينبغي اأن يوُضَ ع عليه الفعلُ الذي<br />
يُحدِّ ده امللفوظُ ) هي الأوىل اإذن بالنّظر اإىل القيمة<br />
الإخبارية )5( .<br />
تصوّر موريس Charles W. Morris<br />
للدالئلية وللتداولية:<br />
التداولية هي العلم الذي يدرس عاقة العامات<br />
مبوؤوّليتها ، هذا هو التعريف الأوّيل للتداولية . ويفرّ ق<br />
موريس بني التداولية اخلالصة والتداولية الوصفية<br />
ونعت «اخلالصة» يعود على تطوير لغة حيث يكون<br />
احلديث فيها عن البُعد التداويل للسيميوزيس )توليد<br />
الدللة( Semiosis واملفاهيم الأساسية للتداولية هي:<br />
املوؤوِّل )بكسر الواو( واملوؤوَّل )بفتح الواو( والصطاح<br />
)املطَ بّق على العامة( والأخذ بعني العتبار )بوصفه<br />
وظيفة للعامات( والتحقّق والفهم كما توجد مفاهيم<br />
اأخرى هامّ ة للدلئلية مثل الدليل )العامة( واللغة<br />
واحلقيقة واملعرفة وهي ذات مكوِّن تداويلّ . اإنّ التداولية<br />
تفرتض الرتكيب والدللة. فاملعلوم اأنّها العاقة بني<br />
العامات فيما بينها والعامات يف عاقتها بالأشياء،<br />
حتّى نصل اإىل عاقة العامات باملوؤوِّلني )6( .<br />
املراجعات
2 0 1 1<br />
204<br />
1 .<br />
2 .<br />
مفهوم القاعدة التّداولية:<br />
اإنّ القواعد الرتكيبية حتدّ د العاقات بني العامات<br />
احلوامل؛ اأمّ ا القواعد الدللية فرتبط الصلة بني<br />
العامات واأشياء اأخرى؛ يف حني تنطق القواعد<br />
التداولية بالظّ روف اخلاصّ ة باملوؤوّلني، وهي ظروف<br />
تكون العامة احلامل ضمنها عامةً. ومن ثمّ ة، فاإنّ كلّ<br />
قاعدة جتري بطريقة سلوك منطي، وبهذا املعنى يوجد<br />
مكوّن تداويل يف كلّ القواعد. ولكن ثمّ ة قواعد تداولية<br />
خمصوصة. اإنّ هذه القواعد تعربّ مثا عن الشّ روط<br />
التي ينبغي اأن يستجيب لها املوؤوّلون ليوؤديّ اسم الفاعل<br />
مثل «اأوّاهُ !« وظيفته اأو صيغة اأمر مثل «تعَالَ !» اأو عبارة<br />
تقييمية مثل «حلسن احلظّ « اأو عبارات مثل «صباح<br />
اخلري !» اأو خمتلف الوسائل الباغية اأو الإنشائية . ومبا<br />
اأنّ صياغة مثل هذه الشّ روط ل تستوعبها حدود الرتكيب<br />
ول الدللة، فهي من جمال اشتغال التداولية )7( .<br />
لقد توقّع مُ وريس منذ سنة 1938 املنعطف الذي<br />
ستتخذه البحوث الاّحقة: املنزع العامّ يتمثّل يف البحث<br />
املتخصّ ص سواء يف الرتكيب اأو الدللة اأو يف ميدان<br />
التداولية الأرحب. لذلك مل يعد ثمّ ة تركيز زائد على<br />
العاقات فيما بني هذه الختصاصات ضمن الدلئلية.<br />
وغالبا ما يقدّ م املعلّقون تقدُّم البحث على اأنّه بناءٌ<br />
انطاقا من الرتكيب، تنضاف اإليه وجهة النظر<br />
الدلليّة ثمّ التداوليّة )التي تُعهد اإليها مسائل تستعصي<br />
معاجلتها خارجها !(. واحلال اأنّ البُعد التداويلّ حاضرٌ<br />
منذ اإدخالنا مفهوم القاعدة : القاعدة تكون دائما من<br />
اأجل استعمال )8( .<br />
نحو تداوليّة صوريّة: برنامج ستالنكر<br />
Stalnaker يف 1972<br />
علم الدللة هو دراسة القضايا(propositions)<br />
اأي دراسة مواضيع متثّل شروط حقيقية. تنطلق يف<br />
العادة من العامل الواقعيّ ولكن من املائم اإمكان تقييم<br />
ل فقط احلالة الراهنة للعامل ولكن حالت ممكنة له،<br />
وهو ما سمّ يناه »عوامل املمكنة « اإنّ القضيّة هي طريقة<br />
لتقسيم العامل على قسمني؛ لتقسيم جمموع احلالت<br />
املمكنة للعامل قسمنيْ : احلالت املُقصاةُ من قبل حقيقة<br />
القضيّة واحلالت غري املُقصاةِ . كيف نحدّ د عاملَ ًا<br />
ممكنًا؟ يكون ذلك بتخصيص جمال ذواتٍ يُقال اإنّها<br />
تُوجد يف هذا املجال )9( .<br />
فللتداولية اإذن مهمّ تان :<br />
1 حتديد الأعمال اللّغويّة املهمة ، وذلك هو حتليل<br />
الأعمال املتضمّ نة يف الأقوال )10( .<br />
2 تعيني خصائص سياق التلفّظ الذي يحدّ د اأيّ<br />
القضايا يُعربَّ عنها بجملة مُ عطاة .<br />
اإنّ مشكلة حتليل الأعمال اللغوية هي اإيجاد الشروط<br />
الضروريّة والكافية للنجاح اأو حتّى للإجناز العادي<br />
لعمل لغويّ . وتشتمل هذه الشّ روط على وجود بعض<br />
اخلصائص )السّ مات( اأو انتفائها يف السّ ياق الذي<br />
يُنجز فيه العمل اللغوي. مثال ذلك: مقاصد املتكلّم<br />
واملعرفة والعتقادات واملحاولت واملصالح املشرتكة<br />
بني املتكلّم واملخاطب، والأعمال اللغوية الأخرى املنجزة<br />
يف السّ ياق ذاته، والظرف الذي جرت فيه املخاطبات<br />
وتاأثرياتها وقيمة احلقيقة للقضيّة املعربَّ عنها ...اإلخ .<br />
ل يختصّ سياق التلفّظ بالقوّة التي عُ ربّ بها عن<br />
القضيّة، فحسب، ولكنّه يشمل القضيّة نفسها )11( .<br />
هذا العرض لبعض املقاربات اللسانية والفلسفية<br />
للتداولية يُركّ ز على الطابع املنهجيّ و الإجرائيّ ، وقد<br />
اعتمدنا بشكل غالب كتاب فرانسواز اأرمنغو املحال<br />
عليه يف الهوامش السّ ابقة، وذلك اقتصارًا منّا على<br />
اخلطوط الكربى، ففضّ لنا الطّ اع على عدد من<br />
املقاربات، ومل نتنبّ واحدةً منها فقط خشية الوقوع<br />
يف الإسقاط عند مزاولة املنت التلخيصيّ اأو رهبة من<br />
التمحّ ل يف استخراج النتائج . غري اأنّنا ل نزعم مع ذلك<br />
اأنّ جميع ما ذكرناه ميثّل الأطروحات التداوليّة، ولكنّه<br />
عرض خمتصر يتوقّف عند بعض املحطّ ات الهامّ ة يف<br />
النظريّات التداولية املعاصرة سنحاول الستفادة من<br />
اأخرى اأحدث منها يف الإبّان .<br />
ثمّ اإنّنا نزعم حماولة توظيف بعض تلك املقاربات<br />
يف اإنارة قراءة شروح التلخيص قراءة معاصرة تركّ ز<br />
على البُعد التداويلّ يف هذا املنت الباغيّ وما مسايرتنا<br />
ملصنّف فرانسواز اأرمنغو اإلّ حماولة لقتناص اأكرث
205<br />
2 0 1 1<br />
فُرَ ص املسك بخيوط املشهد التداويلّ املهمة، فاإن مل<br />
نفهم بعض املقاربات يف هذا املضمار اأو مررنا على<br />
بعضها الآخر مرور الكرام، فليس ذلك سوى قصور<br />
منّا عن اإدراك الشّ مول يف جمال تشعّبت فيه الرّ وؤى<br />
وتزاحمت الفلسفات واملناهج ورمبّ ا تضاربت املقاربات.<br />
اإنّ سمة الرثاء الشديد يف املباحث التداولية، قد توؤدّي<br />
بنا اإىل حماولة جتنّب التشتيت، وذلك بالوقوف على ما<br />
نراه مائما للمدوّنة الرتاثية سواء بالتوافق اأو املخالفة<br />
اأو غري ذلك من اأمناط التاقح .<br />
ولقد اأقامت فرانسواز اأرمنغو كتابها )12( على عرض<br />
اأهمّ املقاربات التداولية عرضا تاريخيا ما اأمكنها ذلك<br />
احلالُ ، ثمّ اأسّ ست الفصول الثاين والثالث والرابع على<br />
برنامج هنسن )Hansson( الذي اأسّ س تداولية ذات<br />
درجات ثاث. وكان الفصل اخلامس بيانا لتفاعل<br />
التداولية يف التيّارات الفلسفية املعاصرة.<br />
تكوين تداوليّة ذات درجات ثالث: برنامج<br />
هنسن يف 1974<br />
اإنّ هنسن )Hansson( هو الأوّل الذي حاول<br />
التوحيد بني خمتلف اأجزاء التداولية توحيدا نسقيّا<br />
مراعيا التمفصل بني خمتلف تلك الأجزاء. وقد اأقام<br />
حماولته هذه بطريقة تقدّ ميّة مستقلّة نسبيّا.<br />
اإنّ هنسن مييّز بني ثاث درجات يف التداولية.<br />
وكلمة »درجات« املختارة عوضا عن اأجزاء حتدّ د فكرة<br />
املرور التدريجي من مستوى اإىل اآخر. وسرنى اأنّه يتمّ<br />
وضع بعض مظاهر السّ ياق يف العتبار بالنسبة اإىل كلّ<br />
درجة. وميكن القول اإنّ السّ ياق يغتني ويتعقّد من درجة<br />
اإىل اأخرى.<br />
1 تداولية الدرجة الأوىل هي دراسة الرموز<br />
الإشاريّة، اأي العبارات الغامضة نسقيّا. عبارات معناها<br />
غامض ومرجعها يتنوّع نسقيّا حسب ظروف استعمالها،<br />
اأي حسب سياق التلفّظ .<br />
ما هو السياق بالنسبة اإىل الدرجة الأوىل؟ اإنّه<br />
موجودات اأو حمدِّ دات موجودات. سياق وجوديّ<br />
ومرجعيّ : املخاطَ بون واإحداثيات املكان والزمان .<br />
2(تداولية الدرجة الثانية هي »دراسة الطريقة التي<br />
تتّصل فيها القضيّة املُعربَّ عنها باجلملة املنطوقة«، اإذ<br />
يف احلالت املهمّ ة، ينبغي اأن تتميّز القضيّة املعربّ عنها<br />
عن الدّ للة احلَ رْ فية للجملة ما هو السّ ياق بالنسبة<br />
اإىل الدرجة الثانية؟ اإنّه السياق يف معناه املوسّ ع عند<br />
ستالنكري ،)Stalnaker( اأي هو موسّ ع حتّى ما يفرتضه<br />
املتخاطبون .<br />
اإنّه سياق معلومات ومعتقدات مشرتكة. ومع ذلك فاإنّه<br />
ليس سياقا »ذهنيّا« ولكنّه سياق يُعربّ عنه باألفاظ<br />
العوامل املمكنة .<br />
3( تداوليّة الدرجة الثالثة هي نظرية الأعمال<br />
اللغويّة. ويتعلّق الأمر مبعرفة ما يتمّ اإجنازه عرب استعمال<br />
بعض اأشكال اللّسانية. اإنّ الأعمال اللّغويّة موسومةٌ<br />
لسانيا، ولكن ذلك ل يكفي لرفع اللتباسات وحتديد<br />
ما متّ اإجنازه حقّا يف وضعيّة تواصليّة معيّنة. واإنّ وجود<br />
الأعمال اللّغويّة غري املباشرة يجعل املشكل اأعقد.<br />
وكما كتب شنال )Schnelle( منذ 1973: »اإنّ<br />
السّ ياق هو الذي يحدّ د ما اإذا كان ملفوظ جادّ قد متّ<br />
اإجنازه وليس مَ زْ حً ا، اأو اإذا ما عَ رَ ضنا مثال، هل اإنّه يشكّ ل<br />
اإنذارًا اأو اإنّه يُعطِ ي اأمرً ا«. فاإنّنا نرى اأنّ مفهوُم السّ ياق<br />
هنا اأشدّ ثراءً و اأكرث اإطاقا منه يف احلالت السابقة.<br />
اإنّ رفع اللتباسات يف احلالت التي طرحها شنال، قريبٌ<br />
اإىل النتساب اإىل كفاءة موسوعية اأو كفاءات ثقافية اأو<br />
بني الثقافات وحتّى احلسّ الفرديّ )13( .<br />
اإنّ هذا التخطيط الذي نقلته فرانسواز اأرمنغو عن<br />
هنسن ميثّل، يف ما نرى، مقاربة صاحلة للملفوظات<br />
باأنواعها يف اللّغات الطبيعية. غري اأنّنا نحدس مُ سبّقا،<br />
بِرِ هان مهم يتمثّل يف خصوصيّة املقاربة التداولية<br />
للنصوص املنتمية اإىل جنس الشرح الباغي، والرهان<br />
يكمن، يف ما نرى، يف حيّز اشتغال املشروع التداويل<br />
املقرتح : هل هو املنت الشّ رحي باعتباره وحدة منسجمة،<br />
فيتمّ تشريحه بطريقة كليّة وفق املنوال التداويلّ ؟ اأم اإنّ<br />
املقاربة التداولية ستغوص خال ثنايا الشّ رح، فتتسلّط<br />
على التناول الباغي ملدوّنة الشّ واهد )باعتبار انتماء<br />
هذه الأخرية اإىل الإجناز الفرديّ للّغة وهو اإجناز خاضع<br />
املراجعات<br />
1 )
2 0 1 1<br />
206<br />
من حيث املنطلق اإىل السّ ياق والعاقات التواصلية(<br />
لتُشكّ ل مقاربة ثانية ذات مستويني يف التعامل:<br />
1- مستوى فهم الطرح الباغي: التفسري الباغي<br />
للوجوه اجلمالية والتاأثريية يف الأقوال.<br />
2- مستوى طرح بديل تداويلّ / اأو اإقرار تشاكل مع<br />
التناول الباغيّ القائم )14( .<br />
ولعلّنا سنعمد اإىل املراوحة بني املستويني بشكل<br />
منظّ م عسانا نُوَفَّق اإىل اإحاطة اأشمل مبوضوع العمل،<br />
وهو دراسة البُعد التداويلّ يف شروح التلخيص.<br />
واإن كان نصّ العنوان يحتمل قراءتني على الأقلّ :<br />
1- القراءة الأوىل تسلّم بوجود بُعد تداويلّ يف<br />
املدوّنة، ومن ثمّ ة يكون البحث عبارة عن كشف ذلك<br />
البُعد واإماطة اللّثام عنه.<br />
2- القراءة الثانية ل تسلّم بوجود بُعد تداويلّ يف<br />
املدوّنة، ولكنّها تطرح اإضافة صبغة تداولية على التناول<br />
املتوافر يف الشّ روح الباغيّة املدروسة.<br />
فيكون البحث اإضافة وتلوينا خمصوصا للمدوّنة<br />
التي نشتغل عليها.<br />
التداخل بني النحو والبالغة:<br />
يُشري بعض الباحثني املستعربني اإىل »تطابق يف<br />
العمق« بني التحليل الباغي يف علم املعاين )مبحث<br />
الإسناد ) والتحليل النحوي للمبحث ذاته )15( ويف ذلك<br />
اإقرارٌ بثقل وطاأة املنهج النّحويّ الذي تكرّ س فجعل علم<br />
املعاين اختصاصا ضيّقا ل يبلُغه الباحث اإلّ بعد اأن<br />
ترسخ قدمه يف اآليات التحليل النحوي.<br />
غري اأنّ باحثا عربيّا معاصرا، قد ارتاأى اأنّ اختاط<br />
مسائل النحو مبسائل علم املعاين، قد اضرّ بالباغة<br />
من جهة كونه يقيم تعارضً ا صميما بني الباغة مبا<br />
هي دراسة الكام اجلميل والنحو مبا هو دراسة الكام<br />
السليم ، مع حتكيم منهج هذا يف تلك. فاملنطق يقول<br />
اإنّ املنهج الذي يُدرس به »الأسلوب العادي« ليس املنهج<br />
نفسه الذي يُحتكم اإليه عند دراسة »الأسلوب العايل«<br />
اأو الكام السامي بعبارة جون كوهني.لذلك يخلص<br />
الباحث اإىل الدعوة التالية: »ولعلّي اأكون اأكرث صراحة<br />
حني اأدعو اإىل تنحية علم املعاين عن كيان الباغة<br />
لتحتفظ الباغةُ بتجانُسها وصفائها ووظيفتها اجلمالية<br />
التي تختلف عن وظيفة النحو القائمة على الصامة<br />
اللّغويّة« )16( .<br />
غري اأنّ بوهاس وجماعته يروْن اأنّ الباغيني يف<br />
مبحث الإسناد رغم اشرتاكهم مع النّحاة، فقد توصّ لوا<br />
اإىل بعض النتائج التي مل يقف عندها النّحاة. وقد علّلوا<br />
ذلك باملنهج املعتمد لدى اأولئك الباغيني، وهو منهج<br />
يتاأسّ س على اهتمام قارّ لديهم »بربط الأعمال املتّصلة<br />
بنظام الكلمات، باسرتاتيجيات املتكلّم و باآثار املعنى<br />
)17(<br />
املرتبطة بتلك السرتاتيجيات بانتظام«<br />
فاملستعربون يعتربون الباغيني على تقارب كبري<br />
وتوافق شديد مع النّحاة، غري اأنّ ذلك مل يطمس<br />
بعض التميُّز لديهم. يف حني يرى د. صاح عيد اأنّ<br />
ارتباط الباغة بالنحو منذ عبد القاهر اجلرجاين<br />
)ت 471ه( يف »دلئل الإعجاز« مرورا بفخر الدين<br />
الرازي )ت 606ه( وصول اإىل السكاكي )ت 626 ه(<br />
واخلطيب القزويني )ت 739 ه( قد شلّ النظر الأصيل<br />
يف جماليات الأسلوب، وذلك بتسليط منهج النحاة على<br />
مباحث الباغة، ومل تكف حماولة حازم القرطاجنّي يف<br />
»منهاج البلغاء« يف الفصل بني جمايل النحو والباغة<br />
ول جهد ابن خلدون يف »املقدّ مة« يف ربط النحو مبجاله<br />
الأصلي وهو الإعراب )18( . فكاأنّ التداخل بني مباحث<br />
العلمني يُعدّ »خلطا« عند د. صاح عيد، ل سيما اإذا تعلّق<br />
الأمر باستبداد النحو بالباغة .<br />
غري اأنّ بوهاس وجماعته يرون اأنّ اأسبابا تاريخية<br />
تكمن خلف هذه الظاهرة، فقد حاولت الباغة<br />
التخلّص من سيطرة النّحو ، بل اأكرث من ذلك، اإذ<br />
يقرّ ر املستعربون « اأنّ لعلم املعاين نزعة احللول حملّ<br />
النحو بالقوّة )ل بالفعل( )وبعض الصفحات( يف دلئل<br />
الإعجاز )للجرجاين تلمّ ح اإىل ذلك تلميحا(« )19( غري<br />
اأنّ هذه النزعة قد ولدت يف نظر بوهاس وجماعته <br />
متاأخّ رة جدّ ا )القرن اخلامس للهجرة( فهي عاجزة<br />
عن اأن تزحزح النحو من مكانته التي ابتناها منذ اأواخر<br />
القرن الثاين للهجرة.<br />
فكان للنحو ذلك املحلّ الأسنى يف »الصرح الثقايف
207<br />
2 0 1 1<br />
)العربيّ (« )20( وارتضى الباغيون بالرتاتب بني الفنون<br />
،بحيث ل يُصار اإىل مباشرة الباغة اإلّ بعد التفقّه يف<br />
النحو )21( .<br />
لنا على كام د. صاح عيد نقطة نقديّة، واأخرى<br />
على كام بوهاس وجماعته.<br />
اإنّ تفريق د. صاح عيد بني هدف الباغة وهدف<br />
النحو هو اأساس دعوته اإىل »تنحية« علم املعاين من<br />
الباغة، واإن كان مل يبنيّ هل يقصد ب »التنحية« اإحلاق<br />
هذا العلم بالنحو، اأم اطّ راحه وطمسه، اأم اإعطاءه منزلة<br />
اأخرى بني املنزلتني؟<br />
اإذا سلّمنا باأنّ اللّغة من حيث هي جهاز )نظام<br />
سيميولوجي( عمياء عن اجلمال: فهي اآلة لإنتاج الكام<br />
وتركيبه. اأمّ ا النحو، فهو الضابط للصامة واملقبوليّة<br />
)يوجد فارق لطيف بني املقبولية acceptabilité<br />
والنّحوية ، grammaticalité يف النظرية التوليدية، على<br />
سبيل التدقيق(. واأمّ ا الباغة فهي الضابط للجماليّة.<br />
فاإذا نظرنا اإىل مباحث علم املعاين وهو جمال الطعن<br />
عند د. صاح عيد األفينا اأنّ الفصل والوصل والتقدمي<br />
والتاأخري والإيجاز والإطناب واملساواة، اأبوابٌ ل مندوحة<br />
عنها، عند النظر يف نحو النصّ اأو باغة اخلطاب. فاإذا<br />
اأفرغنا الباغة من هذه الأبواب كان التحليل اجلمايلّ<br />
ناقصا. ولعلّ القول بالتكامل بني النحو والباغة اأوىل<br />
عندنا. اإذ الباغة تبداأ عملها عندما يستويف النحو<br />
مهمّ ته. اإذ من غري املنطقيّ النظرُ يف باغة جُ ملة<br />
لحِ نة )ل نحويّة(، طبعا ينبغي الأخذ بالنحو يف مفهومه<br />
الواسع مبا هو سَ مْ تُ العرب ونَهْ جُ هم يف تصريف الأقوال<br />
واإنشائها.<br />
ورمبّ ا شُ بّه علم املعاين بعلم الدللة ،La sémantique<br />
وهو عند الغربيني مبعزل عن الباغة )اأو اخلطابة(<br />
،La rhétorique وهذه املقارنة تقودنا اإىل النقطة<br />
النقدية الثانية التي تتّصل بالقول بانحسار الباغة<br />
واتّخاذها مرتبة اأدنى من تلك التي للنحو -كما يشري<br />
اإىل ذلك بوهاس وجماعته- فهذا التمشّ ي يف التحليل<br />
يذكّ رنا بتاريخ الأسلوبية -عند الغرب- حيث اآلت اإىل<br />
الذّ بول عندما اتُّخذت مساعدة للنقد الأدبيّ وقد اأجرى<br />
جورج مولينيي حُ كما عامّ ا ينطبق على الأسلوبية الغربية<br />
وكذلك على الباغة العربية، يقول : »عندما يُعدّ علمٌ ما<br />
)22(<br />
ثانويا بطريقة مُ سبقة، فاإنّه يضعُف بسرعة«<br />
مقارنة منهج البالغيني مبنهج النّحاة:<br />
يشري جورج بوهاس وجون بول غيّوم وجمال الدين<br />
الكُ لُغْلِي اإىل التقاليد العربيّة يف علم الباغة معرّ جني<br />
على القزويني صاحب »تلخيص املفتاح« للسّ كاكي<br />
)الباب الثالث( وهو املصنّف الذي »فتح عهد الشّ روح<br />
واحلواشي الغزيرة يف اختصاص الباغة« )23( ويشري<br />
املستعربون اإىل استقرار الباغة علما يتفرّ ع اإىل ثاثة<br />
علوم:<br />
1 علم املعاين )النحويّة(<br />
2 علم البيان )باغة الصُّ وَر(<br />
1 .<br />
2 .<br />
3 .<br />
3 علم البديع )علم تزيني اخلطاب(<br />
وناحظ اأنّ التسمية الأجنبية التي اقرتحوها<br />
للعلمني الثاين والثالث تذكّ رنا ببعض اأقسام الرّ يطوريقا<br />
يف التقاليد الغرْ بيّة، اإذ يتحدّ ث تودوروف )24( عن<br />
اأقسام الباغة مشريا اإىل اأنّ املصنّفات )الباغية /<br />
اخلطابية( تقسّ م اإعداد كلّ خطاب اإىل خمس فرتات<br />
اأو خمسة اأقسام هي على الرتتيب: البتكار الرتتيب <br />
الإلقاء التذكّ ر النّطق )اأو التلفّظ (.<br />
فقسم الإلقاء يتمثّل يف »البحث عن اأحسن شكل<br />
ممكن للخطاب، وجوهر هذا البحث هو اجلنس الأدبيّ<br />
بشكل خاصّ )غنائي، ملحميّ ، دراميّ تراجيدي<br />
اأوكوميدي، تعليميّ ، تاريخي، اإلخ ....( ويكمن اأساسا<br />
يف علم حتسّ س الصّ ور« )25( . ويشري تودوروف يف موضع<br />
لحق من املرجع نفسه اإىل اأنّ »الباغات )اأو اخلَ طابات<br />
بفتح اخلاء( نزعت يف القرن السابع عشر وبدرجة اأشدّ<br />
يف القرن الثامن عشر اإىل تركيز اهتمامها على الإلقاء،<br />
اأي الأسلوب، حمقّقة بذلك عمليّا الربط بني الباغات<br />
والباغات الثواين اأي الشعريّات« )26( .<br />
وبتبسيط خملّ )وكلّ مقارنة هي مغالِطة من بعض<br />
النواحي ) نقول اإنّ علم املعاين يوافق تقريبا، قسمي<br />
البتكار والرتتيب )27( ، يف حني يوافق علمَ ا البيان والبديع<br />
قسم الإلقاء .<br />
املراجعات
2 0 1 1<br />
208<br />
وبعيدا عن هذا الهاجس املقارينّ غري املائم، نرى من<br />
الأصلح تركيز النظر على عاقة علم املعاين باإشكاليات<br />
امللفوظ )énoncé( والتلفّظ énonciation( )28( ويشري<br />
بوهاس وجماعته اإىل اأنّ »قسما ل يستهان به من<br />
اهتمام املختصّ ني يف هذا املجال، قد انصبّ على حتليل<br />
املعايري املوضوعيّة والذاتيّة الاّزمة ليكون امللفوظ<br />
مناسبا للمقام. هذا الأخذ يف العتبار للعاقات بني<br />
امللفوظ والتلفّظ قاد اإىل اأشكلة الأدوار املتوالية للمتكلّم<br />
واملخاطب وحلال اخلطاب )سياق التلفّظ(، كما اأدّى<br />
اإىل التعرّ ف على سمات هذه املكوّنات املختلفة حلدث<br />
التّواصل، ضمن البنية الشّ كليّة للملفوظ« )29( .وهذا<br />
التحليل مستقيم يف نظرنا غري اأنّ ما بُني عليه من نتائج<br />
يستحقّ التاأمّ ل. يقول املستعربون: »وهكذا، فاإنّ احلُ كم<br />
نفسه )املحتوى القضوي نفسه(، ل ينبغي -حسب<br />
املختصّ ني يف علم املعاين- اأن يُقدَّ م بالطريقة ذاتها اإىل<br />
املخاطب اخلايل الذهن اأو الطالِب اأو املنكر.<br />
وباملِثل، ميكن حذف عناصر تكوينية اأساسيّة من<br />
امللفوظ )املسند اإليه -املفاعيل- اأدوات التعريف(<br />
دون خسارة، ورمبّ ا حقّق ذلك احلذف فضْ ل جناعة<br />
واقتصاد، اأحيانا، اإذا كان السياق املقاميّ املوضوعي<br />
ّاأو العامل الذهنيَ الذاتيّ للمخاطب يسمح بتعويض<br />
العناصر املحذوفة. يف حني اأنّ عمليّات احلذف التي<br />
ل تتوفّر على ضمانات موضوعية وذاتية بالسرتجاع،<br />
تَصِ مُ امللفوظ بعدم املناسبة» )30( ميكننا اأن نقول عن<br />
هذه الستنتاجات الصائبة يف جمملها عن ظاهرتي<br />
مراعاة حال املخاطب واحلذف اأنّها -رغم صوابيّتها-<br />
تبدو انتقائية. فالظاهرة الأوىل تتعلّق باملخاطب: فاإذا<br />
كان خايل الذهن يتوجّ ه له القول خاليا من املوؤكّ دات<br />
كقولك -:<br />
( اأ ) عبدُ اهلل قادمٌ<br />
اأمّ ا اإذا كان مرتدّدا بني القدوم وعدمه، فنستعمل<br />
موؤكّ دً ا واحدا لرنجّ ح كفّة القدوم فنقول:<br />
( ب ) اإنّ عبدَ اهلل قادِ مٌ<br />
واإمّ ا اإذا كان املخاطب مُ نكرً ا متاما ملصاألة القدوم،<br />
فعند ذاك يُحتاج اإىل موؤكّ ديْن فاأكرث لإزالة الوهم العالق<br />
بذهنه فنقول:<br />
)ج( اإنّ عبدَ اهلل لَقَ ادِ مٌ<br />
وقد استعملنا يف هذا القول موؤكّ دين هما )اإنّ )<br />
والاّم يف صدر اخلرب.<br />
وقد نزيد على ذلك اإخراج القول من الإخبار اإىل<br />
الإنشاء باستعمال تاأكيد مغلّظ كالقسم:<br />
)د( واهلل اإنّ عبد اهلل قادِ م )اأو لَقادِ مٌ )<br />
وخروج القول من صيغة الإخبار اإىل صيغة الإنشاء،<br />
فيه تقوية اأشدّ لدرجة التاأكيد. اإذن ثمّ ة سلّمية حتكم<br />
قيس حالة املخاطب الذّ هنية، فريد القول مستجيبا لها<br />
على املقتضى املطلوب .<br />
اأمّ ا الظّ اهرة الثانية املتعلّقة باحلذف ، فقد اأدرجها<br />
الشرّ اح حتت باب »القول يف اأحوال املسند اإليه«، وقد<br />
قدّ م الشرّ اح احلذف على سائر الأحوال )كالذّ كر<br />
باأنواعه( استنادً ا اإىل قاعدة منطقية اأوردها التفتازاين<br />
)على سبيل املثال( يف قوله: »قدّ مه )اأي احلذف( على<br />
سائر الأحوال لكونه عبارة عن عَ دَ م الإتيان به، وعدمُ<br />
احلادثِ سابقٌ على وجوده« )31( . فاحلذف »من حيث<br />
مفهومه اللّغوي يعني الإسقاط« )32( ، وهذا يُشعِ ر باأنّه<br />
العدمُ بعد الإتيان، لذلك فاملقصود باحلذف هو املفهوم<br />
الصطاحيّ : وهو عدمُ الإتيان باملسند اإليه.<br />
وقد انتبه الشرّ اح اإىل اأنّ ظاهرة احلذف بوصفها<br />
حال من اأحوال املسند اإليه، اإمنّ ا تتعلّق اأساسا باملبتداأ<br />
ل بالفاعل )لأنّ الفاعل »مُ سْ تَكِ نٌ يف الفعل« كما يقول<br />
)33(<br />
النّحاة )<br />
املنوال النحوي و املنوال البالغيّ<br />
يشري بوهاس وجماعته اإىل التناقض القائم بني<br />
املنوالني النحويّ والباغيّ يف حتليل امللفوظات. يقولون:<br />
»)...( اإنّ املختصّ ني يف علم املعاين، قد طوّروا منوال<br />
للتحليل الشكلي للملفوظات، تُناقِ ضُ بساطتُه ورشاقتُه<br />
)34(<br />
تعقيد التحليل التقليدي للنّحاة واعتباطيّته اأحيانا«<br />
ل شكّ اأنّ هذا الوصف لتحليل النحاة يتناقض وموقفَ<br />
الأستاذ حممد صاح الدين الشريف، فما سمّ اه بوهاس<br />
وجماعته »اعتباطيّة التحليل اأحيانا« قد يُقصد منه<br />
ما يسمّ ى »متحُّ ل النّحاة« وقد بنيّ الأستاذ الشريف اأنّ
209<br />
2 0 1 1<br />
اعتماد النّحاة اأشكال نحويّة نادرة ومعقّدة اأحيانا اإمنّ ا<br />
هو »اختيار ذو قيمة منهجيّة، اإذا كان القصدُ منه<br />
مثا اختيار قدرة النظريّة على التكهّ ن بالظواهر قبل<br />
ماحظتها ووضعها»، ويستنتج الأستاذ الشريف قائا:<br />
»فليست اجلملة )...( تاأديةً عفويّةً ملعنى )...(، بل<br />
تاأديةٌ مبحوث عنها ومقنّنة بتمشٍّ منهجيّ واضح مُ صريَّ<br />
بنظريّة نحويّة ذات اأبعاد تطبيقيّة يف معاجلة النّصوص<br />
الأدبيّة بحثا عن معناها، و النّصوص الشّ رعيّة احرتازا<br />
)35(<br />
من اخلطاإ يف فهم اأحكامها«.<br />
وكيا يكون النقد املتّجه اإىل موقف بوهاس وجماعته<br />
اتّهاما للنّوايا اأو رجمً ا بالغيب، نعرض تصوّرهم لتميّز<br />
التحليل البياينّ للمشتغلني بعلم املعاين عن التحليل<br />
النحوي، يقولون: »هذا املنوال الذي نكتشف عناصره<br />
الأساسية عند اجلرجاين، يقوم على بعض املفاصل<br />
الوظيفية الأساسية التي ميكن تلخيصها كما ياأتي:<br />
)1( كلّ ملفوظ بسيط يتكوّن من عاقة اإسنادية<br />
بني مسند اإليه ومُ سند.<br />
)2( يف كلّ ملفوظ، ما خرج عن املسند اإليه واملسند،<br />
فهو قيد يتسلّط على املسند عليه اأو على املسند اأو على<br />
العاقة الإسنادية. ويحمل هذا القيد حصْ رً ا للّفظ الذي<br />
يتعلّق به .<br />
)3( عمليّة التقييد ميكن تكرارها، اأي اإنّ قيدً ا ميُكن<br />
اأن يُسلّط على قيد اآخر؛<br />
)4( كلّ ملفوظ معقّد يُحلّل اإىل اإسناد بسيط واحد<br />
تتعلّق به عمليّة تقييد واحدة اأو اأكرث، وتكون للعملية تلك<br />
بنية اإسناديّة هي الأخرى. وكذلك عمليّات التخصيص<br />
للمركّ ب السميّ )التعريف، النعوت، الإضافة، البدل،<br />
اإلخ...(، هي قيود تتسلّط على املسند اإليه اأو على اسم<br />
اآخر. وباملثل فاإنّ املفاعيل باأنواعها، هي عمليّة قيد على<br />
املسند. اأخريًا فاإنّ ملفوظا معقّدً ا كالشرط مثا، يُحلَّل<br />
اإىل جواب الشرط )اإسناد بسيط( يتعلّق به الشرط<br />
)قيدٌ اإسناديّ (.<br />
هذا املنوال لتحليل امللفوظات القائم على الثنائية:<br />
الإسناد والقيود، ليس التمييز الرّ واقيّ بني املحتوى<br />
القضوي والأحوال )الأمناط / الكيفيّات( -كما ل<br />
يخفى- وهو التمييز الذي استعادته اليومَ بعضُ املدارس<br />
اللّسانية . ومع ذلك، فا شيء يسمح، يف احلالة الرّ اهنة<br />
للمعارف، باعتبار هذا التوازي، ضربًا من القرتاض<br />
)القتباس(.<br />
ومهما يكن من اأمر، فاإنّ هذه املقاربة الوظيفية<br />
لبنية امللفوظات تسمح يف الواقع بتحاليل ابسط واأكرث<br />
اإقناعا شكا ومضمونا من ثقل الآلة املنطقيّة النحويّة<br />
التي اآل اإىل استعمالها النّحاة العرب املتاأخرون» )36( .<br />
قد يكون املوقف الذي ننقله عن بوهاس ( وغريه )<br />
مغريا بعض الشيء مبا اأنّه يُنصف البيانيني املشتغلني<br />
بعلم املعاين ويربز مواطن الإضافة احلقّة يف املنوال<br />
الذي اتّخذوه لهم. غري اأنّ هذا املوقف سرعان ما يفقد<br />
بريقه اإن نحن واجهناه بنقد يتساءل صوؤال اإنكاريّا عن<br />
قيام موقف بوهاس على التفريق التقابليّ بني املنوالني<br />
النحوي والباغي، واحلال اأنّ الباغيني اأنفسهم<br />
يتحدّ ثون عن التداخل بني العِ لْمني، بل اأكرث من ذلك:<br />
األيس اجلرجاين نحويّا قبل اأن يكون بيانيّا؟ ثمّ اإنّ<br />
ما وُصف به منهج النّحاة من سيطرة الآلة املنطقية<br />
النحوية الثقيلة عليه، ينسحب -كما هو شائع- على<br />
منهج السّ كاكي يف تقنينه الباغي وقد سار على هدْ يه<br />
الباغيون املتاأخّ رون.<br />
ولعلّ هشاشة هذا الطرح قد جعلت اأصحابه يقلّلون<br />
من صاأن ما ادّعوه قارئني ما توهّ موه من انزياح املنهج<br />
الباغيّ قراءة تاريخية تُنسِّ ب الأمر وتعيد الدرّ اإىل<br />
مكمنه، اإذ يستدرك بوهاس ومَ ن معه قائلني: »ومع<br />
ذلك ينبغي اأن نُشري اإىل اأنّ هذين املنوالنيْ مل يدخا<br />
يف صراع يف الثقافة العربية: رغم اأنّ لعِ لم املعاين<br />
نزعة احللول حملّ النحو، بالقوّة )ل بالفعل( )وبعض<br />
الصفحات )يف دلئل الإعجاز( للجرجاين تُلمَ ح اإىل<br />
ذلك تلميحً ا(، فلَكَ وْنها وُلدت متاأخّ رة جدّ ا، فاإنّها مل تكن<br />
لتتمكّ ن اجتماعيا من تهديد مكانة هذا الفنّ )النحو(<br />
)37(<br />
يف الصرح الثقايف )العربي(«<br />
الثالوث: النحو والبالغة والتداولية<br />
اإنّ قول فان دايك )38( يف كتابه »النصّ والسّ ياق«<br />
يف الصفحة الثامنة عشرة: »وكان ينبغي اأن نخصّ ص<br />
املراجعات
2 0 1 1<br />
210<br />
اأيضا كيف اأنّ الرتاكيب الشكلية الصرفية ترتبط<br />
بالبنيات الدللية السيمانطقية« اإمنّ ا يذكّ رنا بقول اأورده<br />
جار اهلل الزّ خمشري صاحب الكشّ اف »اإنّ الزيادة يف<br />
البناء لزيادة املعنى« )39( . والفرق بني القولني اأنّ الإشارة<br />
التي جاء بها دايك حتيل على العاقة اجلدلية عموما<br />
بني املستوى الشكلي واملستوى الدليل، يف حني حتيل<br />
ماحظة الزخمشري على ظاهرة تختصّ بها العربية<br />
( ورمبّ ا اللّغات الشتقاقية الأخرى كذلك( وتتعلّق بحمل<br />
اجلذر معنى اأصليّا يظلّ حمفوظا يف كلّ الصيغ التي<br />
يوضع فيها، وتنضاف اإىل املعنى الأصلي معان صيغية<br />
تختلف باختاف الصيغة. فماحظة الزخمشري مبنية<br />
على استقراء للّغة العربية. اأمّ ا اإشارة فان دايك فعامّ ة<br />
تتّصل باإثبات قرابة/عاقة بني البنية الصرفية الشكلية<br />
والبنية الدللية املعنوية.<br />
يشري فان دايك اإىل اأنّ املستويني الشكلي<br />
)الصوري( والدليل ل يكفيان لتحديد بنية العبارة، بل<br />
من الضروري اإمتام ذلك مبستوى ثالث هو مستوى فعل<br />
الكام . ومن ثمّ ة تتميّز ثاثة مستويات :<br />
)1( املستوى الصريف الرتكيبي )يعتني بصورة<br />
العبارة (.<br />
)2( املستوى الدليل )يهتمّ مبعنى العبارة(.<br />
)3( املستوى التداويل )يتعلّق بوظيفة العبارة(.<br />
غري اأنّ فان دايك ميتنع عن اإعطاء حلّ لإشكالية<br />
العاقة بني النحو والتداولية، سواء اأقامت تلك الصلة<br />
على الستقالية املحفوظة لكلّ مستوى اأم نصاأت عن<br />
اندراج اأحدهما يف الآخر. وغري بعيد يلوح موقف هرمان<br />
بارّيه واإن كان تناوله للمصاألة يفحص اأكرث من دايك<br />
الصلة بني املستوبني، ولكنّه يقول بوجود حدود غامضة<br />
/ غري مستقرّ ة بينهما )40( .<br />
ويشري دايك يف اأحد هوامش الفصل الأوّل اإىل<br />
مصاألة تبدو لنا مهمة، تتعلّق بالصلة القائمة بني النحو<br />
والباغة ، ذلك اأنّه يقول: »اإنّ صياغة القواعد التداولية<br />
من علم النحو تعني اأنّ مثل هذا النحو ينبغي اأن يفسّ ر<br />
ليس فقط القدرة على تركيب العبارات »الصحيحة«<br />
بل القدرة على استخدام مثل هذه العبارات يف بعض<br />
املواقف التواصليّة استخداما مطابقا وتُسمّ ى القدرة<br />
الأخرية »الكفاءة التواصليّة« )41( يبدو اأن دايك يف هذه<br />
الإشارة مل يخرج عن اإعطاء دور باغي للنحو ، فانتفاء<br />
العبارات املناسبة للمقام يدخل يف اإطار اهتمام الباغي<br />
ل النّحوي فيما نقدّ ر اإذ مراعاة مقتضى احلال ومناسبة<br />
املقال للمقام ممّ ا يدخل يف اأدبيات علم املعاين.<br />
وهذا الجتّ اه نرى بارّيه يسمّ يه اإكساب النحو صبغة<br />
باغية grammaire) (Rhétorisation de la على<br />
اأنّه جتدر الإشارة اإىل اأنّ الأمر ل يتعلّق بتوسّ ع اإمربياىل<br />
لأحد املستويني على حساب الآخر، ولكن نفهم املصاألة<br />
على النحو الذي ذهب اإليه فرنسوا راستيي (François<br />
)42(<br />
Rastier) اإذ عدّ التداولية بديا للباغة الكاسيكية<br />
حيث تشتغل باأدواتها وعلى ميدانها ومن ذلك فكسّ ر<br />
احلواجز بني النحو والباغة يعني من جهة اأخرى<br />
اإكساب النحو مسحة تداولية (Pragmatisation) على<br />
راأي التداولية املدجمة.<br />
ويبدو اأنّ فان دايك يرتاوح يف موقفه من النحو بني<br />
النحو »الضيّق« املنحصر فقط يف علم الرتاكيب، وبني<br />
النحو مبعناه الواسع الذي يندرج فيه املكوّن التداويل<br />
واملرجع الدليل وشروط التاأويل الناجتة عن معرفة<br />
العامل الدللية وكذلك علم السيمانطيقا الكليّ )43( ثمّ<br />
يقرّ ر اأن يختار النّحو مبعناه الواسع، معلّا اختياره هذا<br />
باأنّه ميكّ نه من »تعليل عدد كبري من ضروب التَعميم<br />
)يف كلّ من اجلمل و اخلطاب( يف حدود الإطار النّحوي<br />
نفسه« )44( .
211<br />
2 0 1 1<br />
(Endnotes)<br />
1- Jacques Moeschler&Anne Reboul :Dictionnaire encyclopédique de pragmatique ,Ed :du<br />
seuil,1994 p.79<br />
2- op. cit. p. 88<br />
عن املنطق غري الصّ وري انظر برملان ،Perelman 1977 وعن املنطق الطبيعي انظر غرايز 1982و 1990<br />
وغرايز ( ط.( 1984 ؛ بورالBorel وغرايز Grize ومييفيل ، 1983 Miéville فينيو . 1976 Vignaux<br />
3- وجهة النّظر >> املستوفية شروط احلقيقة > 11 الأعمال املتضمّ نة يف الأقوال الأعمال الاّقوليّة >والسابقة )in( كما تذكر فرانسواز اأرمنقو، من<br />
الاتينية تعني )يف( واجلذع ( )locutio يعني اخلطاب؛ فالعمل املضمّ ن يف القول هو ما نفعله ونحن نتكلّم
2 0 1 1<br />
212<br />
الطليعة، .42 ،2005<br />
وقد وجدنا اقرتاحات اأخرى لرتجمة املصطلح نفسه منها »الفعل التكلّميّ » اأو »فعل الإجناز«، طه عبد الرحمن:<br />
اللّسان وامليزان اأو التكوثر العقلي، ط1، الدار البيضاء بريوت، املركز الثقايف العربي، 1998، ص 260،<br />
الهامش)10(.<br />
ومعلوم اأنّ illocutionnaires( )Actes و)illocutoire )Actes هما مبعنى .<br />
12- F. Armengaud : La pragmatique, PUF , 1993 , p.127<br />
13- Op : cit. p.p. 47 - 48<br />
14- هذا التفريع يف الفرتاض يجعلنا نتفق مع ما قاله مسعود صحراوي »)...( ولكن استقالية الرتاث العربي ل تربر<br />
املمارسات الإقصائية احلزبية التي جتعل منه غري قابل للتحاور العلمي املنصف مع معطيات العلوم املعاصرة، ول<br />
سيما اإذا توافرت لبعض مفاهيمها الكفاية العلمية الوصفية والتفسريية املناسبة لدراسة البعد التواصلي الإباغي<br />
للظواهر اخلطابية phénomènes discursifs للغة العربية.«، التداولية عند العلماء العرب، ص8.<br />
15- Sylvain Aurous: Histoire des idées linguistiques, tome1, chap. IV, section 2: l’analyse<br />
grammaticale dans la tradition arabe classique ( G. Bohas, J – P. Guillaume, D. Kouloughli ) ,<br />
Pierre Mardaga éditeur , Liège , Bruxelles , 1989, p.271.<br />
16- صاح عيد : الأسلوب الأدبي بني الجتّ اهني النّحوي و الباغيّ ، القاهرة ، مكتبة الآداب ، 1993 ، ص. 6<br />
) عنوان سابق ) الرتجمة من عندنا p. 271 17- Sylvain Aurous: Histoire des idées linguistiques<br />
18- د. صاح عيد : الأسلوب الأدبي ، ص. 6<br />
19- Sylvain Aurous: Histoire des idées linguistiques, p. 270<br />
20- Sylvain Aurous: Histoire des idées linguistiques,p.270<br />
21- وتتجلّى هذه الظاهرة يف التعليم املدرسي اإىل الآن، حيث يُدرس الإعراب والتصريف منذ التعليم الأساسي يف<br />
مرحلته الأوىل، ول تدخل الباغة اإلّ بعد الفراغ من اكتساب املعارف النحوية الضرورية، اأي يف بداية التعليم<br />
الثانوي، ول يدوم تعليمها اإلّ سنة واحدة .<br />
22- G Molinié , Art. Stylistique , in Encyclopædia Universalis , Vol. 21, Paris, 1996, p. 706<br />
23- G. Bohas, J-P. Guillaume, D. Kouloughli: L’analyse grammaticale dans la tradition arabe<br />
classique, in Sylvain Aurous: Histoire des idées linguistiques, Tome 1, Pierre Mardage éditeur,<br />
Liège, Bruxelles, 1989 ,p.-p. 260 – 282<br />
24- T. Todorov: Poétique, in. Encyclopædia Universalis , Paris, 1990<br />
25- Ibid.<br />
26- Ibid.<br />
27- نشري جمدّ دا اإىل سذاجة املقارنة، ولكن لباأس من التذكري باأنّ البتكار -كما يرى تودوروف- قسمٌ من اخلطابة<br />
يشمل »البحث عن الأفكار واأساسً ا احلجج والرباهني التي ستكوّن مادّة اخلطاب واأساسه« براهني طبيعية اأو<br />
واقعية؛ براهني اصطناعية، اأي تعود، اإىل الفنّ و التي تُسمّ يها املصنّفات اأيضا مواضع )topoï( اإنّها كلّ التاأثريات<br />
والوسائل املمكنة -عددها خمس عشرة- تستطيع تاأثيث اخلطاب: العودة اإىل الشتقاق، اإىل التعريفات، اإىل<br />
الرتقيم، اإىل اعتبارات عن الصّ لة بني اجلنس والنّوع، بني السّ بب والتاأثري، املقارنة، املتضادّات، الظروف.<br />
ولكن البتكار يشمل اأيضا، وهذا غريب بالنسبة اإىل التفكري املعاصر، بناء املتكلّم شخصيّته )اأخاقه( بنفسه،
213<br />
2 0 1 1<br />
لأنّها تتحكّ م كثريا يف مصداقيّته خطيبا؛ ثمّ عِ لم استعمال العواطف وهو شديد احلَ دْ سيّة، فهي اأضمن »سرّ<br />
للذّ هاب اإىل القلب« كما يقول مصنّف جيبار )1730( .Gibert<br />
اأمّ ا الرتتيب، فيُعلّمنا تنظيم املوادّ املجمّ عة عرب البتكار حسب النظام الأنسب. ولكن مهما يكن املكان املختار<br />
لستعمال هذه املوادّ يف خطاب مُ عطً ى ، تتّفق كلّ املصنّفات اإجمال على نظام عامّ . فعن بوردالو Bourdaloue<br />
اأنّ الستهال يجلب النتباه ثمّ يقرتح صوؤال مع اإعان عدّ ة نقاط حتتويها )القسمةُ(؛ ويعرض السردُ الأحداثَ<br />
واحلجج )للتاأكيد( وضدّ )التفنيد(، واملوجز يلخّ ص التقاط املحصّ لة، ثمّ متنح خامتة اخلطبة لها الطاقة<br />
املنطقية، النفعالية، اجلمالية للضربة الأخرية املتقنة«<br />
T. Todorov : Poétique, in Encyclopaedia Universalis, paris, 1990.<br />
28- يقول حممد الشاوش : »وجتدر الإشارة اإىل اأنّ من يرتجم العبارتني الفرنسيتني énonciation و énoncé بالتلفّظ<br />
وامللفوظ على الرتتيب، ل يحصل من هذه الرتجمة اإلّ على حتريك الشّ فتني واإصدار الصوت، وهو معنى بعيد<br />
عن معنى العبارتني الفرنسيتني، والأنسب اأن يجعل مقابلهما »القول«. مبعنى املصدر الدّ ال على احلدث للأوىل،<br />
ومبعنى السم اأي املقول للثانية«. اأصول حتليل اخلطاب )مرجع مذكور ، ج2، ص618 (.<br />
اإن كانت وجهة نظر الشاوش وجيهة من جهة النقد، فاإنّها تثري اإشكال عندما يتعلّق الأمر بالقرتاح البديل. اإذ<br />
هو قد اتخذ كلمة)قول( ترجمة للكلمتني الفرنسيتني، وهذا الضرب من الشرتاك، واإن اأوحى برثاء معاين كلمة<br />
)قول( يف العربية، فاإنّه يوقع يف اللتباس عند الستعمال.<br />
29- G. Bohas et al. Ibid.<br />
30- G. Bohas et al. Ibid.<br />
شروح التلخيص ، ج. I، شرح التفتازاين ، ص. 273.<br />
31- شروح التلخيص ، ج. I، حاشية الدّ سوقي ، ص. 273.<br />
32- انظر حتليا موسّ عا لظاهرة احلذف يف باب »اأحوال املسند اإليه«، من هذا العمل.<br />
33- 34- G. Bohas et al.: L’analyse grammaticale dans la tradition arabe classique , in. Sylvain Aurous:<br />
Histoire des idées linguistiques, Tome 1, Pierre Mardage éditeur, Liège, Bruxelles, 1989,<br />
p.268<br />
35- حممّ د صاح الدين الشريف: تطابق اللّفظ واملعنى بتوجيه النّص اإىل ما يدلّ على املتكلّم، حوليات اجلامعة<br />
التونسيّة، عدد 1999، 43، ص. 40.<br />
36- G. Bohas et al. Op. cit. p.- p. 268 – 269<br />
( الرتجمة العربية لنا وما ورد بني معقّفني هو اقرتاح اآخر اأو توضيح وشرح(<br />
37- Op. cit. p. 270<br />
فان دايك: النصّ و السّ ياق، ترجمة عبد القادر قنيني، الدار البيضاء اإفريقيا الشّ رق 2000.<br />
38- جار اهلل الزخمشري: الكشّ اف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل يف وجوه التاأويل،ط.1، دار الفكر، 1977،ج<br />
39- ص.41.<br />
يقول هرمان بارّيه: »اإنّ احلدود بني النحو والباغة ليست مستقرّ ة، ل سيّما واأنّ معيار التمييز بني املنظورين<br />
40- ليست الصطاحية conventionnalité( (، باملعنى الكاسيكي للعبارة. فكلّما كانت اإجراءات اكتشاف التداوليّة
2 0 1 1<br />
214<br />
معقّدة وناقدةً، اسرتجعنا النحو يف دائرة الباغة وابتعدنا عن ظواهر ليست اصطاحية اإلّ لسانيّا«.<br />
Herman Parret : Prolégomènes à la théorie de l’énonciation : de Husserl à la pragmatique, Peterlang,<br />
Berne ,1987,p .217<br />
41- فان دايك، النص والسياق، ص32، الهامش4.<br />
42- يقول فرانسوا راستيي : ») ... ) كما حاولت التداولية وهي فرع اآخر من فلسفة الدللة اأن تضع يف العتبار<br />
البنى النّصيّة عرب بحوثها يف احلجاج وعرب حتليل املُحادثات وتبقى روابطها باللسانيات غري واضحة ويف الواقع<br />
-وكما بيّنّا ذلك يف غري هذا املوضع- فاإنّ التداوليّة قد عوّضت الباغة يف جانب )من اجلوانب (، بعد انفجار<br />
الثالوث ( trivium النحو / الباغة / اجلدل ) لذلك فهي تتخذ من التخاطب موضوعا لها بدل من النصّ يف<br />
حدّ ذاته«<br />
François Rastier : Sens et textualité, Hachette sup. paris, 1989, p 6<br />
( الرتجمة لنا، التسطر من عندنا، ما ورد بني معقّفني من اإضافتنا(<br />
فان دايك، النص والسياق، ص29.<br />
43- نفسه، ص29.<br />
44-
فيزر ستون يف كتابه:<br />
( ثقافة<br />
االستهالك, وما<br />
بعد احلداثة )<br />
حممدعويس<br />
كاتب من القاهرة
217<br />
2 0 1 1<br />
فيزر ستون يف كتابه:<br />
( ثقافة االستهالك, وما بعد احلداثة )<br />
حممدعويس<br />
هناك معضالت كثرية تتشابك يف فهم ما بعد احلداثة كعملية طويلة املدى.<br />
فكرة الثقافة املشرتكة اأكرث اإمكاناً اإذا كان يوجد عرف مشرتك توؤسس عليه.<br />
ليس هذا الكتاب جمرد بحث يف العاقة بني ثقافة الستهاك وما بعد احلداثة، ولكن تتشابك يف حتلياته<br />
النقدية كثري من القضايا البينية، ويقصد بالبينية هنا فاعلية التاأثري والتاأثر بكثري من القضايا الأخرى ذات<br />
الصلة بثقافة الستهاك وما بعد احلداثة؛ مثل قضية الثقافة الشعبية والتحول اإىل ما بعد احلداثة، والثقافة<br />
الرفيعة والتحديات التي تواجهها يف عصر ما بعد احلداثة، والثقافة املشرتكة والصوؤال عن اإمكانية بنائها على<br />
اأساس وحدة التنوع الثقايف وشرعية الختاف، والثقافة الكوكبية، والعاقة بني الثقافة والقتصاد والتكنولوجيا<br />
والسياسة، والعاقة بني راأس املال الثقايف وراأس املال القتصادي والتطور احلضري للمدن. كما يتناول الكتاب<br />
اأيضاً ظهور ما يسمى بطبقة الربجوازية الصغرية اجلديدة وفئاتها املتنوعة من )املفكرين اجلدد والوسطاء<br />
الثقافيني والفنانني واملديرين( ويكشف اأيضاً تناقضاتها الأساسية مع الطبقة الربجوازية الصغرية القدمية اأو<br />
التقليدية. ووجه التباين بني ما يسمى باملفكرين العامليني واملفكرين اجلدد. فصاً عن تقدم علم اجتماع الثقافة<br />
وكيف اأصبح موضع الهتمام البحثي يف قلب احلقل الجتماعي، ومن القضايا املهمة اأيضاً التي يثريها الكتاب<br />
العاقة بني ثقافة الستهاك واملقدس التي قد تكون سلباً للأديان التقليدية تنتج مقدساتها اجلديدة.<br />
يبداأ مايك فيزر ستون كتابه )ثقافة الستهاك,<br />
وما بعد احلداثة – ترجمة د فريال حسن خليفة-<br />
283ص-مكتبة مدبوىل- القاهرة 2010م( بتحديد<br />
مفهوم احلداثة وما بعد احلداثة، ويشري اإىل اآراء النقاد<br />
حول مفهوم ما بعد احلداثة واعتبارها عند بعضهم نوعاً<br />
من البدع اأو الهوس الفكري، اأو اأنها موؤشر على التوعك<br />
يف قلب الثقافة املعاصرة، اأو اأنها انعكاس لرد الفعل<br />
السياسي يف العامل الغربي، اأو اأنها ثقافة منشقة، اأو<br />
ثقافة روث، حلت حمل احلداثة عن طريق وفرة الصور<br />
والرموز والتصنع واملعاين غري املرتابطة والهلوسة<br />
الستاطيقية، اأو اأنها رد فعل وتفكري اآيل يف التغريات<br />
الجتماعية.<br />
وعلى الرغم مما يراه النقاد حول مفهوم ما بعد<br />
احلداثة واعتبارهم لها، فاإن الآثار التي اأحدثتها ما بعد<br />
احلداثة داخل املجالت الأكادميية وخارجها عظيمة<br />
الأهمية جديرة بالنظر والعتبار؛ يف الفن، واملوسيقى،<br />
والأدب، والسينما والدراما واملسرح والتصوير، والأعام،<br />
واملعمار، والنقد، والفلسفة والجتماع، واجلغرافيا،<br />
والأنرثوبولوجيا... الخ، ولقد اأصبحت ما بعد احلداثة<br />
واسعة املدى يف املجالت الأكادميية والفكرية والفنية.<br />
ولذلك يرى فيزر ستون ضرورة حتديد معنى اإجرائي<br />
ملا بعد احلداثة وهو يحدد جمموعة املصطلحات املشتقة<br />
من مصطلح )ما بعد احلديث( ويقابلها باملصطلحات<br />
املشتقة من احلديث، ومن ثم تنصاأ لديه ثمانية<br />
مصطلحات اأساسية:<br />
احلديث/ما بعد احلديث, والتحديث/ما بعد<br />
التحديث, واحلدثنة/ما بعد احلدثنة, واحلداثة/ما بعد<br />
احلداثة.<br />
املراجعات
2 0 1 1<br />
218<br />
ويشري فيزر ستون اإىل اأنه ل يوجد اتفاق على معنى<br />
مصطلح ما بعد احلديث ومشتقاته؛ ما بعد التحديث<br />
وما بعد احلدثنة وما بعد احلداثة، وغالباً تستخدم<br />
هذه املصطلحات بشكل فيه خلط وبطريقة قابلة<br />
لتبديل مصطلح باآخر.ويحلل العاقة بني احلديث وما<br />
بعد احلديث اأو بني احلداثة وما بعد احلداثة، ويثري<br />
التساوؤلت حول طبيعة هذه العاقة وهل هي عاقة<br />
تواصل اأو عاقة انقطاع؟<br />
ويعترب فيزر ستون اأن البادئة )ما بعد )post<br />
تشري اإىل القطيعة والتناقض مع احلديث، لكن احلركة<br />
املتصلة يف البتعاد عن احلديث جتعل ما بعد احلداثة<br />
مصطلحاً نسبياً غري حمدد لكنه يشري اإىل كل اجتماعي<br />
جديد يغاير متاماً فرتة احلديث، ويناقضها كما عربت<br />
عن ذلك كتابات بورديارد وليوتار وجيمسون.<br />
يرى بورديارد اأن تكنولوجيا املعلومات هي حمور<br />
التغري من النظام الجتماعي الإنتاجي اإىل النظام<br />
الجتماعي الذي يشكل فيه فيضان الصور والرموز عامل<br />
التصنع، عامل ما بعد احلداثة، هلوسة اأستاطيقية با<br />
عمق.<br />
وكذلك يهتم ليوتار بتاأثري التكنولوجيا يف املعرفة،<br />
ويرى اأن افتقاد املعنى يف ثقافة ما بعد احلديث ل يجب<br />
اأن يكون مفجعاً لأنه يشري اإىل استبدال معرفة الرواية<br />
بتعدد الألعاب اللغوية، واستبدال العاملية باملحلية.<br />
بينما يعترب جيمسون اأن ما بعد احلداثة هي املنطق<br />
الثقايف للراأسمالية املتاأخرة؛ الراأسمالية الستهاكية<br />
املتاأخرة التي تبداأ بفرتة ما بعد احلرب العاملية الثانية،<br />
وهو يعترب الثقافة اأساس املجتمع الستهاكي باعتباره<br />
جمتمعاً مشبعاً بالصور والرموز، وكل شيء فيه اأصبح<br />
ثقافياً.<br />
ويحدد جيسمون صفتني اأساسيتني ملا بعد احلداثة؛<br />
الأوىل: حتول الواقع اإىل صور. الثانية: جتزوؤ الوقت يف<br />
سلسلة حلظات حاضر مستمر اأو عرض دائم، واملثال<br />
الذي يجسد كل من الصفتني هو الإعام، ويرى جيمسون<br />
مثل بودريارد ثقافة الصورة خليطاً من التصنع والتنوع<br />
النمطي وعدم التجانس الذي يوؤدي اإىل فقد الدللة<br />
وموت املوضوع ونهاية الفردية. اأما عن الصفة الثانية<br />
اأو الإدراك املجزاأ للعامل عند املشاهد فاإنه يعترب سبب<br />
للشيزوفرنيا التي هي عامل من عوامل ما بعد احلداثة<br />
وتعترب الشيزوفرنيا حتطيم للعاقة بني املعاين، حتطيم<br />
الوقت والذاكرة ومعنى التاريخ. فاخلربة الشيزوفرونية<br />
هي خربة النفصال والتفكك وعدم التواصل وهي<br />
املصوؤولة عن حتول الواقع اإىل صور.<br />
ويبحث فيزر ستون ثاثة منظورات اأساسية عن<br />
ثقافة الستهاك يعنونها بنظريات ثقافة الستهاك،<br />
ولكن يف حمتوى التحليل يستخدم كلمة املنظور.<br />
ويرى يف املنظور الأول: اأن ثقافة الستهاك وجدت<br />
مبقتضى اتساع الإنتاج السلعي الراأسمايل خاصة بعد<br />
تلقي الدعم من الإدارة العلمية الفوردية حول حتول<br />
القرن، وضرورة التمسك ببناء الأسواق اجلديدة وتربية<br />
العامة عن طريق وسائل الإعام والإعانات ليصبحوا<br />
مستهلكني.<br />
وقد اأدى هذا املنظور اإثر تراكم السلع اإىل انتصار<br />
القيمة التبادلية للسلع والعقانية الأداتية يف كل جوانب<br />
احلياة، واأفضى ذلك اإىل حتول كل التقاليد الثقافية،<br />
وتدمري كل الرواسب الثقافية التقليدية والثقافة<br />
الرفيعة، واأصبحت ثقافة القيمة التبادلية والعقانية<br />
الأداتية يشار اإليها بوصفها )ل-ثقافة(، اأو )ما بعد-<br />
الثقافة(.<br />
ويف تقدير اأدو رنو اأن سيطرة القيمة التبادلية اأدت<br />
اإىل حمو ذاكرة القيمة الستعمالية احلقيقية للسلعة،<br />
واأصبحت السلعة حرة يف اتخاذ قيمة استعماليه ثانوية<br />
بديلة، وتقبل املدى الواسع من الروابط الثقافية والصور<br />
اخلادعة والإعان قادر على عمل هذا.<br />
كما تستلزم نظرية السلعنة عند بودريارد التناول<br />
النشط للرموز، حيث يجتمع الرمز والسلعة معاً من اأجل<br />
اإيجاد العامة املميزة للسلعة، وتصبح الرموز كعامات<br />
مميزة للسلعة قادرة على عمل الدعاية املتحررة من<br />
املوضوع. ومن ثم فاإن منطق السلعة عند بودريارد يبتعد<br />
عن نظرية ماركس املادية وينتقل من التاأكيد على املادة<br />
اإىل التاأكيد على الثقافة.
219<br />
2 0 1 1<br />
وهو يرى اأن فيضان الصور والرموز والتصنعات<br />
خال وسائل الإعام ميحو التمييز بني الواقع واخليال<br />
اأو بني الصورة والواقع، ويصبح املجتمع الستهاكي<br />
جمتمعاً ثقافياً، وتصبح احلياة الجتماعية غري منظمة،<br />
وتصبح العاقات الجتماعية اأكرث حتولً، ول تبنى على<br />
مبادئ اأو قواعد ثابتة.<br />
اأما املنظور الثاين: فاإنه يبحث يف طرق استخدام<br />
السلع ودللته على الختافات الجتماعية، وللسلعة<br />
قدرة على هدم احلدود الجتماعية، وتفكيك الروابط<br />
املستقرة طوياً بني الأشخاص والأشياء؛ لذلك<br />
فالستهاك واأفضليات منط احلياة تتضمن اأحكام<br />
تفرقة واأحكاماً تتميز وحتدد ذوقنا اخلاص وتصنفه<br />
بالنسبة للآخرين.<br />
وتعترب السلع التي حتدد احلالة الجتماعية يف<br />
الوصول اإىل اأعلى املجتمع سلعاً نسبية، ويستثمر الذين<br />
يف اأعلى املجتمع السلع املعلوماتية من اأجل اإعادة<br />
تاأسيس مسافة اجتماعية. ومن هنا تكون اأهمية معرفة<br />
السلع اجلديدة وقيمتها الثقافية والجتماعية، وكيفية<br />
استخدامها بشكل مناسب صحيح.<br />
واملنظور الثالث: يثري الصوؤال عن اأحام الستهاك<br />
وبهجته النفعالية والعاطفية، حيث يتطلب الستهاك<br />
بوصفه اإفراطاً واإسرافاً وتبذيراً؛ تراكماً يف الإنتاج كي<br />
يتم التغلب على الندرة، وعندما جتتمع حاجات املستهلك<br />
وسعادته تصبح الأحام والرغبات متحققة بالصور<br />
الثقافية الستهاكية، كاإفراط وتبذير وفوضى، وهي<br />
صور ترتبط بالربجوازية الصغرية اجلديدة املناقضة<br />
متاماً للربجوازية الصغرية التقليدية وقيمها الثقافية<br />
التي يكون فيها الستهاك مساعداً للعمل يحافظ على<br />
الإزاحة من الإنتاج.<br />
وهنا يرى فيزر ستون اأهمية علم اجتماع ثقافة ما<br />
بعد احلديث، ويعرض اآراء اأنتوين جيدنز الذي يرى<br />
اأن الثقافة هي البعد الرابع للتحديث اإىل جانب القوى<br />
الإدارية والعسكرية واحلرب. وهو يفهم ثقافة التحديث<br />
كانعكاس للراأسمالية ونظام التصنيع. ولكنه يرى فيما<br />
بعد احلداثة منوذجاً جيداً خلريطة الثقافة املعاصرة.<br />
ومع الهتمام بالقضايا الثقافية اأصبح الهتمام<br />
بعلم اجتماع الثقافة كمجال شرعي للبحث، وكان ذلك<br />
شاذاً يف السبعينات، وخروجاً على املاألوف، ولكنه تاأكد<br />
باعرتاف جيدنز بالثقافة كبعد رابع للتحديث، واهتمامه<br />
مبستقبل علم الجتماع.<br />
ومن منظور ثقافة ما بعد احلديث، اأي حماولة لبناء<br />
نظرية ملا بعد احلداثة باستخدام مناهج البحث القدمية<br />
تفشل بالضرورة، باعتبارها تنتمي ملرحلة النسق<br />
والنظام السابق الذي حلت ما بعد احلداثة حمله.<br />
وتعترب ما بعد احلداثة منهج البحث العامل على<br />
اكتشاف الهدم والتحطيم يف العملية التاريخية التي<br />
تضعنا اأمام ثقافة ما بعد احلديث؛ لذلك كان هجوم<br />
ما بعد احلداثة على الفن املوؤسساتي واملتاحف والأروقة<br />
وتراتبية الذوق الأكادميي والنقدي، وهدم احلدود بني<br />
الفن واحلياة اليومية، وانهيار التمييز الرتاتبي بني<br />
الثقافة الشعبية والثقافة الرفيعة، وخلط الأسلوب ،<br />
وتفضيل النتقائية، وخلط الشفرات والقواعد واجلد<br />
والهزل، ومزج املختارات الأدبية والسخرية والسطحية<br />
وانحدار اأو تدهور اأصالة يف الفن والفكر عموماً، وظهور<br />
فلسفة ضد الفلسفة وضد الأصولية يف الفلسفة والنظرية<br />
الثقافية الجتماعية. حتمل راية ما بعد احلداثة.<br />
ويهتم فيزر ستون بالوسطاء الثقافيني اجلدد<br />
كاأحد فئات الطبقة الوسطى اجلديدة، وقد اأشار اإليهم<br />
بورديو )باملفكرين اجلدد( الذين هم مفتونون بالهوية<br />
واملظهر ومنط احلياة والعرض والطلب ل نهاية له<br />
بالنسبة للخربات اجلديدة ويرفضون التصنيف يف<br />
اأي شيء، ويقاومون القواعد الثابتة ويعتربون احلياة<br />
مفتوحة النهايات، ويفضلون التمييز والختاف ومنط<br />
احلياة، ويشجعون بفاعلية منط حياة املفكرين وينقلونه<br />
اإىل املستمعني واملشاهدين، ويعطون شرعية للرياضة<br />
واملوضة واملوسيقى الشعبية والثقافة الشعبية باعتبارها<br />
جمالت صحيحة لتحليل الفكري، فالوسطاء الثقافيون<br />
يعملون بني الإعام واحلياة الفكرية الأكادميية، ويعملون<br />
على نقل الثقافة الشعبية اإىل الإعام ومن ثم يعملون<br />
على حمو التميز بني الثقافة الرفيعة والثقافة الشعبية.<br />
املراجعات
2 0 1 1<br />
220<br />
وعند الطبقة الوسطى اجلديدة احلياة اجلمالية<br />
حياة طيبة اأخاقية، واأنه ل توجد طبيعة اإنسانية اأو<br />
ذات حقة، وكل الذوات متشابهة واحلياة متاحة بشكل<br />
جمايل، ورغبة التعلم واإثراء الذات واإتباع القيم اجلديدة<br />
واملفردات اجلديدة.<br />
هكذا يوؤكد فيزر ستون اأن هناك معصات كثرية<br />
تتشابك يف فهم ما بعد احلداثة كعملية طويلة املدى<br />
تزيد من القوة املمكنة للمتخصصني يف الإنتاج الرمزي<br />
والنشر، ومن ثم تكون احلاجة مُ لحة اإىل العمل نحو علم<br />
اجتماع ما بعد احلداثة.<br />
ويناقش فيزر ستون قضية التغري الثقايف واملمارسة<br />
الجتماعية، ويرى اأن القاعدة الثقافية العميقة للتحديث<br />
اأوجدت العلم واملعرفة واملذهب الإنساين واملاركسية<br />
والنسائية... الخ، وهي مذاهب تطمح اإىل تقدمي طرق<br />
مرشدة جازمة للبشرية من اأجل كل من معرفة العامل<br />
وفعل املمارسة فيه، وعلى النقيض اأثارت ما بعد احلداثة<br />
اأسئلة بعيدة املدى حول طبيعة التغري الثقايف والعاقات<br />
)امليتانظرية اأو ما بعد النظرية( التي تبحث ما بعد<br />
احلداثة عن حتليل لها.<br />
ويكتب ليوتار عن نهاية الروايات اأو نهاية السرد لتفسري<br />
ظهور ما بعد احلديث، ويفهم جيمسون ما بعد احلداثة<br />
بوصفها املنطق الثقايف للراأسمالية الستهاكية املتاأخرة اأو<br />
الفرتة الثالثة، فرتة ما بعد احلرب العاملية الثانية.<br />
وكان من اأهم التغريات باسم الدميقراطية اإزالة<br />
التمييز بني الثقافة الشعبية والثقافة الرفيعة، ومل يكرتث<br />
املفكرون املوؤيدون لذلك باأن تدمري الثقافة الرفيعة فيه<br />
تهديد للنظام املستقر. بل اإنهم اإىل جانب ذلك يعلنون<br />
فضائل الثقافة الشعبية واجلماهريية وثقافة ما بعد<br />
احلديث.<br />
ولكي نفهم ما بعد احلداثة يجب اأن نفهم التغريات<br />
يف املجالت الأكادميية والفكرية والفنية، وذلك ظاهر<br />
يف الصراعات التنافسية، والتغريات يف املجال الثقايف<br />
الأوسع واأساليب الإنتاج والتداول والنشر للسلع الرمزية،<br />
والتغريات يف توازنات القوى والعتمادات املتبادلة بني<br />
اجلماعات والفئات الطبقية، والتغري يف املمارسات<br />
اليومية وخربات اجلماعات املختلفة، واستخدام نظم<br />
املعنى والوسائل اجلديدة يف التوجيه والتنظيم وبناء<br />
الهوية. وبالتايل تقوم ما بعد احلداثة رمز للتغري الثقايف<br />
املعاصر.<br />
وعلى الرغم من صعوبة تعريف ما بعد احلداثة<br />
باعتبار اأنها تعني شيئاً خمتلفاً يف كل جمال معني، فاإنه<br />
ميكن حتديد بعض الصفات ملا بعد احلداثة، التي تعترب<br />
اجتاهات داخل املجالت الأكادميية والفكرية.<br />
اأولً : تهاجم ما بعد احلداثة الفن املستقل بذاته<br />
وتنكر اأسس الفن املوؤسساتي، وهدفه، ول ترى الفن<br />
شكاً رفيعاً للخربة مستمداً من عبقرية مبدعة ول<br />
ميكن اأن ينجز الفنان منفرداً ولكن يدان اإن كان عمله<br />
تكراراً... ومل يعد ممكناً بقاء التمييز بني الفن الرفيع<br />
والفن الشعبي.<br />
ثانياً: تطور ما بعد احلداثة استاطيقا الإحساس،<br />
توؤكد استاطيقا اجلسد على البداهة اأو املباشرة.<br />
ثالثاً: يف املجالت الأدبية ما بعد احلداثة ناقدة<br />
للأصولية مناهضة لها يف كل ما وراء الروايات اأو ما<br />
وراء السرد يف العلم والدين والفلسفة واملذهب الإنساين<br />
واملاركسية اأو اأي كيان نسقي للمعرفة.<br />
رابعاً: على مستوى اخلربات الثقافية اليومية تدل ما<br />
بعد احلداثة على حتول الواقع اإىل صور وجتزوؤ الوقت يف<br />
عرض دائم؛ لذلك فاإن ثقافة ما بعد التحديث هي ثقافة<br />
التنوع والتعدد والتغاير والتصنعات، وفقدان الدللة اأو<br />
فقدان املعنى.<br />
خامساً: تفضل ما بعد احلداثة استاطيقا الشكل<br />
وجمالية احلياة اليومية وتصبح اخلربة اجلمالية منوذج<br />
املعرفة ومعنى احلياة.<br />
ويحدد فيزر ستون ثاثة معاين يف الكام عن<br />
جمالية احلياة اليومية.<br />
املعنى الأول: عن اإزالة احلد بني الفن واحلياة<br />
اليومية، وهذا ما اأكدت عليه اأدبيات الثقافات الفرعية<br />
اأو الشعبية التي اأوجدت الدادا، واملجموعة النشطة يف<br />
البتكار والتطبيق، واحلركات السريالية، وكان الهجوم<br />
على موؤسساتية احلداثة يف املتحف والأكادميية مبني
221<br />
2 0 1 1<br />
على هذه السرتاتيجية بالعمل على حمو احلد بني الفن<br />
واحلياة اليومية.<br />
اأما املعنى الثاين: فهو افرتاض اأن الفن ميكن اأن<br />
يوجد يف اأي مكان ويف اأي شيء، حتى السلع الستهاكية<br />
احلقرية ميكن اأن تكون فناً.<br />
املعنى الثالث: تشري جمالية احلياة اليومية اإىل<br />
مشروع حتول احلياة اإىل عمل الفن، وهذا املشروع<br />
له تاريخ طويل ولكن ما بعد احلداثة وضعت الأسئلة<br />
الستاطيقية يف الصدارة.<br />
وكان تصور فوكو وبورديارد الشكل الرئيسي<br />
للحداثة باأنه )الغندور( املتاأنق مبابسه وجسده<br />
وسلوكه ومشاعره وعواطفه، هو كل وجود وعمل الفن<br />
ومن ثم فاإن الإنسان احلديث هو الذي يحول نفسه اإىل<br />
)الغندورية(. ومنذ املدة املبكرة من القرن التاسع عشر<br />
كان الطلب الشديد على السمو والتميز، وبناء منط حياة<br />
مثايل مُ شرف ل يقارن تظهر فيه الروح الرستقراطية،<br />
وروح الستخفاف باجلماهري، والهتمام بتحقيق السمو<br />
يف كل منط احلياة. ولكن اأصبح الرتكيز املعاصر على<br />
احلياة الستاطيقية وتتبع الأذواق اجلديدة مرتبطاً<br />
بالستهاك اجلماهريي، فبناء اأمناط حياة متميزة<br />
اأصبح حموراً لثقافة الستهاك؛ لذلك مل يعد الفن<br />
واقعاً منفصاً بل دخل يف الإنتاج واإعادة الإنتاج،<br />
واأصبح كل شيء يف الواقع اليومي يخضع للفن ويصبح<br />
جمالياً. ويوؤسس الواقع اليومي يف جملته بُعد التصنع<br />
للواقعية املفرطة، ونعيش يف كل مكان هلوسة جمالية<br />
متحي التناقض بني الواقع واخليال.<br />
ويكون يف ثقافة الستهاك املعاصرة فردية الذوق<br />
والإحساس بالذات النمطية للمستهلك حيث جسد املرء<br />
ومابسه وحديثه وقضاء وقت الفراغ وما يفضله من<br />
املاأكل واملشرب واملنزل والسيارة واختيار اأيام الراحة<br />
اإمنا هي تعترب موؤشرات لفردية الذوق والإحساس بنمط<br />
حياة املستهلك؛ ولكن ل ميكن القول بوجود منط واإمنا<br />
بوجود اأمناط، وبا قواعد توجد اختيارات كل فرد ميكن<br />
اأن يكون اأي فرد، فالتمسك بقواعد النمط اأصبح معتدى<br />
عليها، فهناك حرب ضد التوحد والنظامية؛ ذلك اأننا<br />
نتحرك نحو جمتمع غري مستقر تتبنى فيه جماعات<br />
اأمناط حياة جماعات اأخرى جتاوزتها احلركة نحو<br />
ثقافة ما بعد احلديث؛ ثقافة الستهاك املوؤسسة على<br />
وفرة الصور واملعلومات، التي ل ميكن اأن تكون ثابتة اأو<br />
مرتبة ترتيباً هرمياً يف نسق اجتماعي ثابت؛ لذلك تكون<br />
نهاية الجتماعي كلية موضوع دال خطري يف راأي فيزر<br />
ستون.<br />
ويبحث فيزر ستون عن التحول يف اأمناط احلياة<br />
وثقافات املدن وتغريها اإىل ما بعد احلديث، كما<br />
يبحث التغريات يف البنية الجتماعية والعاقات بني<br />
املتخصصني الثقافيني واملفكرين اجلدد اأو الوسطاء<br />
الثقافيني، واستغال الأصواق اجلديدة وتطويرها،<br />
واإعطاء دور للموؤولني والناقلني للسلع الثقافية.<br />
وقد تكون املدن مراكز ثقافية حتمي الرتاث الثقايف<br />
املاضي يف املتاحف والأروقة ونسيج البناء ويف تخطيطها<br />
وتصميمها وكل ذلك يشكل راأسمالها الثقايف، وقد تكون<br />
املدن مراكز ثقافية حتمي صناعات وقت الفراغ والتسلية<br />
واللهو، وقد تكون املدن مراكز للإنتاج الثقايف حتمي<br />
الفنون وصناعة الثقافة اجلماهريية والنمط والتلفاز<br />
والسينما والنشر واملوسيقى الشعبية والسياحة.<br />
والتساع يف املجال الثقايف ل يشري اإىل السوق املتسع<br />
للسلع الثقافية واملعلومات فحسب بل اإىل الطرق التي<br />
يكون فيها فيضان الصور الثقافية مصدراً يستمد منه<br />
الإشباع، مثلما يحدث يف املتنزهات والسياحة واملراكز<br />
املجددة، واملتاحف والأروقة التي تقدم الطعام للزائرين،<br />
وتتاجر قانونياً يف الفنون السمعية، والتاأكيد على املشهد<br />
الشعبي املبهج، وتطوير الأسواق واملراكز التجارية.<br />
اإىل جانب اتساع مدى الصناعات واملهن الثقافية<br />
املوؤثرة يف اجتاهات الشباب واملتعلمني من الطبقة<br />
الوسطى، وتظهر فعاليات اأكرث جتاه اأمناط احلياة<br />
الشعبية والثقافة الشعبية. مثل الغجر والدادا<br />
والسريالية واملصورين والرسامني، كل يعمل نحو فن<br />
ما بعد احلديث وحمو احلد بني الفن واحلياة اليومية،<br />
وجعل احلياة اليومية حياة جمالية. ويظهر الهتمام<br />
يف ثقافة الستهاك اجلماهريية الهتمام بالنمط<br />
املراجعات
2 0 1 1<br />
222<br />
واملابس واملوضة.<br />
وتناقض ما بعد احلداثة الأصولية يف الفلسفة<br />
والنظرية الثقافية والجتماعية، ويرتجم هذا يف هدم<br />
شعبي دميوقراطي للرتاتبية الرمزية داخل الدوائر<br />
الأكادميية والفنية والفكرية التي تتنازع فيها الثقافة<br />
الرفيعة والثقافة الشعبية، فالروح الشعبية ضد الرتاتبية<br />
يف اأي جمال. وتصبح الثقافة كما يقول بودريارد تدفق<br />
حر، وهي يف كل مكان وسط نشط وصناعة اجتماعية<br />
جمالية استاطيقية، وتدفق للصور يوؤكد بشدة على<br />
الإحساسات السمعية والبصرية والسعادة الوقتية.<br />
ويبدو املعنى القدمي لثقافات املدينة مرتسباً يف<br />
التقاليد والتاريخ والفنون واملباين السكنية املشهورة<br />
وعامات احلدود التي تعطي الإحساس القوي باملكان<br />
والهوية، يف حني تشري مدينة ما بعد احلديث اإىل العودة<br />
للثقافة والنمط والزخرفة داخل حدود فضاء ل مكاين،<br />
وتكون فيه املعاين التقليدية للثقافة منزوعة من السياق،<br />
مصطنعة مكررة يعاد جتديدها وتنميطها؛ لذلك تكون<br />
مدينة ما بعد احلديث اأكرث صوراً ووعياً ذاتياً ثقافياً،<br />
ومراكز لاستهاك الثقايف والستهاك العام.<br />
فالعرتاف بقيمة صناعة الثقافة اآخذ يف التزايد<br />
بالنسبة اإىل اقتصاد املدن.<br />
ويتولد الوعي بصناعة الثقافة مثل النشر والتدوين<br />
واملوسيقى، والإذاعة، والسياحة، والفنون، واملوؤسسات،<br />
والبيوت الثقافية التي يعاد جتديدها وتطويرها وتوؤدي<br />
دوراً متنامياً يف القتصاد املحلي بجانب النمو العام يف<br />
اإنتاج السلع الرمزية واستهاكها. ومن ثم يحدث تواز<br />
بني راأس املال الثقايف وراأس املال القتصادي.<br />
ويوجد راأس املال الثقايف كما يقول بورديو يف ثاثة اأشكال:<br />
- 1 متعني )منط العرض واأسلوب احلديث واجلمال(.<br />
- 2 متموضع )السلع الثقافية مثل الكتب والصور<br />
والآلت واملباين(.<br />
- 3 موؤسساتي )مثل املوؤهات الرتبوية(.<br />
وراأس املال الثقايف يف حالة التموضع مهم بالنسبة<br />
للمدن، فالصيانة النموذجية للمباين والأشياء والسلع<br />
واملصنوعات اليدوية اأصبحت تعرف بوصفها كنوزاً<br />
فنية، ولكن شرعية الرتاتبية الرمزية فيها ل يجب اأن<br />
تكون اأبدية؛ لأنه يوجد مدى واسع من املعايري ميكن اأن<br />
تصنف عليها املدن بشروط راأس املال الثقايف. وميكن<br />
اأن تصبح صور معينة لراأس املال الثقايف مثل الثقافة<br />
الشعبية )اجلاز وموسيقى الروك والسينما واملتنزهات<br />
العامة( اأكرث شرعية من اأبعاد اأخرى، وتكون مصدراً<br />
للمكانة العالية. وكذلك يكون احلكم على الذوق الثقايف<br />
من موقف التعددية والنسبية، ويصبح ما هو مستبعد يف<br />
السابق معرتفاً به.<br />
ويف راأي فيزر ستون تطورت الأخاق الستهاكية<br />
اجلديدة منذ الثاثينات بواسطة الفنانني الغجر<br />
واملفكرين كهجوم علني على الأخاق املسيحية. وكانت<br />
الأخاق الستهاكية مضطلعة بصناعة الإعان<br />
والتعبري عن الذات واللحظة واجلمال اجلسدي والوثنية<br />
والتحرر من اللتزامات الجتماعية.<br />
وكان التنازل املتزايد عن نفوذ الدين يف احلياة<br />
الجتماعية مرتبطاً باحلداثة، ومع انحدار القيم<br />
الدينية)املسيحية( وتصدع املوؤسسات الدينية، انغمس<br />
الدين يف قضايا وجودية قطعية عن املقدس واملياد<br />
واملوت، واجلنس وهلم جرا، وذلك جعل الدين غري<br />
مرئي، وكانت استعارة فيرب الشهرية يف كتابه )الأخاق<br />
الربوتستانتية وروح الراأسمالية( عن خُ طى الدين يف<br />
جمال السوق، قد اأقفل باب الدير خلفه بشدة فاأصبح<br />
املجتمع احلديث اأكرث حتولً عن الدين.<br />
وتعترب ثقافة الستهاك عموماً شيئاً مدمراً للدين<br />
بشروط تاأكيده على مذهب السعادة واللذة، ويكون<br />
الدعاء غالباً اأن الستهاكية توؤدي غالباً اإىل الفقر<br />
الروحي. فاأنانية اللذة بفلسفتها ضد نظم النسك<br />
والزهد وحسن التدبري والقتصاد الذي هو من تعليم<br />
الدين.<br />
ولكن عند دوركامي التحديث بعملياته – من العقلنة،<br />
والعلمنة، والسلعنة واإزالة الأوهام – ل يوؤدي اإىل حجب<br />
املشاعر الجتماعية الدينية ولكن قد تنهار الأديان<br />
الرسمية وتبقى املمارسات التي جتسد اختافات احلياة<br />
املقدسة والدنيوية، فاأي شيء قد يصبح مقدساً، وكذلك
223<br />
2 0 1 1<br />
ميكن اأن يصبح سلعة دنيوية للراأسمالية، مثل البطولت<br />
الرياضية وحفات الروك، وحفات الزواج، وتزيد<br />
الصراعات الجتماعية واملنافسة الإحساس باملقدس،<br />
وتولد الوفاق الأخاقي وتوؤكده. فمثل هذه املناسبات<br />
تولد مشاعر قوية بالإثارة )انفعالت سيالة( معززة<br />
بقوة يف النشاط الشعبي والأغاين والرقص والإشارات<br />
الطقوسية، فالإحساس العام والإثارة واجليشان هذه<br />
اللحظات املبهجة يصبح فيها روتني العامل اليومي<br />
متحولً اإىل عامل مقدس يجعل الناس اأقدر على العيش<br />
يف وفاق اأو احتاد اأقرب اإىل املثالية.<br />
ويبني دوركامي فكرته عن دين الإنسانية على اأساس<br />
فكرته )عن العوامل غري التفاقية لاتفاق( حيث يرى<br />
اأن تعقد املجتمع وتزايد التميز الجتماعي والثقايف<br />
اإىل حد اأن الشيء الوحيد الذي ميكن للناس استبقاوؤه<br />
واحلفاظ عليه بشكل مشرتك هو اإنسانيتهم واأدى هذا<br />
كله لأن يصبح الشخص الإنساين رمزاً قوياً للمقدس.<br />
ويوؤكد فيزر ستون اأن ثقافة الستهاك ليست<br />
ناجتة عن حجب املقدس بواسطة املادية، وبالتايل فاإن<br />
تعريف الثقافة يجب اأن يكون اأوسع فا يركز على نظم<br />
وموؤسسات الدين الرسمي فحسب، ولكن يركز اأيضاً<br />
على العمليات واملمارسات الجتماعية التي يتولد فيها<br />
املقدس.<br />
وكانت بداية التغري بقوة نحو ثقافة ما بعد احلديث<br />
)ثقافة الستهاك( يف الستينات 1960، حيث التحولت<br />
الواسعة يف النظام الكوكبي وتوازن القوى على مستوى<br />
التفاعل املجتمعي.<br />
اأما عن كيفية ارتباط ثقافة الستهاك وما بعد<br />
احلداثة بالنظام الكوكبي فاإن ثقافة الستهاك توازي<br />
يف السلم الكوكبي اتساع قوي الوليات املتحدة فوق<br />
النظام القتصادي العاملي.<br />
وهنا ترى ثقافة الستهاك وقد قدر عليها اأن<br />
تصبح الثقافة العاملية التي تدمر الثقافات القومية<br />
اخلاصة يف الباد. ومع ذلك فالدراسات عن تاأثري<br />
الستقبال التلفزيوين توؤكد اأهمية الختافات القومية<br />
يف قراءة الرسائل الجتماعية املشفرة املتجسدة<br />
يف الربامج التلفزيونية، لذلك فالقوميات املختلفة<br />
والطبقات الجتماعية سوف تشاهد خال الربامج<br />
التلفزيونية املشهورة عاملياً شفرات غري مناسبة. وميكن<br />
التاأكيد اأيضاً على اأن الجتاه الذي اأشرنا اإليه يف ثقافة<br />
الستهاك الذي اأوجد النقل املفرط من املعلومات<br />
والرموز يعمل اأيضاً ضد اأي اعتقاد كوكبي عاملي صلب<br />
على مستوى املضمون ذلك لأن انتشار صور )الآخر(<br />
الأمم املختلفة غري املعروفة سابقاً رمبا تساعد بشكل<br />
فعال على الإحساس بوضع الآخر والإحساس بالظرف<br />
الكوكبي.<br />
لذلك يف ما بعد احلداثة فقدنا الإحساس )بالآخر(<br />
بوصفه غريباً اأو اأجنبياً، فالنفتاح على الآخر والبحث<br />
عن معرفته، والبحث عن وميض خلف صحف العرض<br />
املحملة باإشارات التحول كل هذا ضد التصنيف الثقايف<br />
والرتاتبية الرمزية بالنسبة للعامل الذي تتشابك فيه<br />
العتمادات املتبادلة بني الأمم والثقافات.<br />
وهذه التغريات حتدث على مستوى داخل املجتمع<br />
وتدفع بالأكادمييني واملفكرين نحو منظور التعددية<br />
الثقافية، بعضها يقلل من سلطة املفكرين العامليني<br />
بسبب ظهور املفكرين اجلدد، والطلب الكبري على السلع<br />
الرمزية واختزال دور املفكر يف دور املفسر واملرتجم<br />
واملوؤول غري القادر على اأن يقدم معرفة عاملية.<br />
ميكن فهم ما بعد احلداثة بوصفها صورة ثقافية<br />
تضم صور الفوضى والتفكك والتجزوؤ والنسبية وانفتاح<br />
الفضاء اإىل ما يجاوز فرضيات ترسانة احلداثة<br />
العاملية، فاستخدام مصطلح ما بعد احلديث يوجهنا<br />
اإىل الظروف املتغرية التي يُرى فيها العامل كمكان تاأتي<br />
فيه الصور املتنافسة للكوكب يف الصدارة اأو املقدمة.<br />
ويثري فيزر ستون الصوؤال عن اإمكانية وجود ثقافة<br />
مشرتكة اأو عامة يف مواجهة من يرحبون بالفوضى<br />
الثقافية ونهاية اللتزام باملعنى املكون للقيمة، ويبتهجون<br />
بوفاة القانون العام، ويرى فيزر ستون اأننا ل نستطيع<br />
فهم فكرة الثقافة املشرتكة بدون اأن نصاأل من املتحدث<br />
عنها؟ هل هم السسيولوجيون والنرثوبولوجيون؟ الذين<br />
يحاولون اإقناعنا اأنه توجد ثقافة مشرتكة يف العامل<br />
املراجعات
2 0 1 1<br />
224<br />
الجتماعي، وهل هم اأصحاب النظريات الأدبية والنقاد<br />
الذين يعملون على اإنتاج ثقافة مشرتكة متكاملة. وهو<br />
ويرى اأننا اإذا فهمنا مصطلح الثقافة املشرتكة وفقاً<br />
للراأي الأنرثوبولوجي يف اعتبار الثقافة )طريقاً كاماً<br />
حلياة اجلماعة والناس واملجتمع فاإن ذلك( يستلزم<br />
تربية العامة مبجموعة من القيم السامية واملرتابطة<br />
والذوق، توؤدي دوراً يف تعضيد النظام الجتماعي<br />
وتكامله. وبهذا املعنى تكون الثقافة املشرتكة موجودة<br />
من قبل، ولكن يجري الآن تدمريها بواسطة الثقافة<br />
الستهاكية، ثقافة ما بعد احلداثة، فهي النقيض<br />
للثقافة املشرتكة.<br />
ومتجد الثقافة الشعبية التحولت والنحرافات<br />
عن الثقافة الرسمية، وحتول املناسبات الكرنفالية<br />
العامل راأساً على عقب حلظات من )الفوضى املنظمة(<br />
التي تناقض الروتني البطيء للحياة اليومية. ودخلت<br />
العناصر الكرنفالية الأدب يف الحتجاج الرومانسي<br />
ضد الكاسيكية، ووجد الهتمام باخلصوصية والتنوع<br />
والثقافة الشعبية يف كتابات ودورث, وروسو, وهردر.<br />
واشتد التقليد الكرنفايل قوة يف الفن والأدب الغجري<br />
عند املجموعة النشطة يف البتكار والتطبيق، التي<br />
بداأت يف باريس يف ثاثينات القرن التاسع عشر، وذلك<br />
التقليد ناقد بشكل مباشر للعاملية، ويوؤدي دوراً رئيساً يف<br />
ظهور الهتمام بالثقافة الشعبية منذ السبعينات، وذلك<br />
بعدة طرق منها روح املساواة والنسبية وتدمري الرتاتبية<br />
الرمزية املستقرة طوياً يف الرتبية الرفيعة املوؤسسة<br />
على الأعمال الكاسيكية.<br />
وكان الهتمام بالثقافة الشعبية والبحث عن<br />
مصداقيتها يشكل حتدياً خطرياً لهوية اجلامعة<br />
احلديثة، لذلك عملت اجلامعة على استبعاد دراسة<br />
الثقافة الشعبية واأعطت لها مساحة صغرية داخل<br />
مساقات التاريخ، ونظرت اإىل الفولكلور على اأنه شيء ل<br />
يطور العقل اأو الفكر، ومضمونه يثري الأسئلة حول مبادئ<br />
الرتبية الرفيعة يف الإنسانيات والعلوم الجتماعية<br />
باعتبارها تصنع تراتبية ثابتة وتصاأل عن التقليد املعقول<br />
والقواعد والقانون.<br />
ومتثل اأيضاً دراسة الثقافة الشعبية الهجوم على<br />
الوحدة النسقية والنظامية من منظور التنوع والفوضى<br />
والدميوقراطية واملساواة والتنوع الإقليمي الواسع<br />
للثقافات املحلية.<br />
ومن هذا املنظور باجتاهه اإىل التنوع الكوكبي تصبح<br />
الثقافة املشرتكة مشروعاً مستحياً.<br />
ومع غياب الرتاتبية الثقافية تصبح دراسة الثقافة<br />
الشعبية متاأثرة مبا هو موجب الهتمام بالدارج املبهج،<br />
مثل خربة مشاهدة التلفاز، ويصبح الأكادميي جمرد<br />
مرتجم ملا هو غريب اأو اأجنبي، وتصبح النسبية الكلمة<br />
املشاهدة يف اأي اجتاه. وتعرض كل الأمناط والتقاليد<br />
والصور الصور الثقافية للماضي، ويصبح املونتاج<br />
والنتقائية قاعدة التنظيم.<br />
وتشري مضامني هذا التغري اإىل حتديد دور املفكرين<br />
املعاصرين اأي البتعاد عن دور الواثق اجلريء كمشرع<br />
من اأجل املجتمع والبشرية اإىل دور املفسر واملوؤول،<br />
والباحث عن نظم التقاليد الثقافية من اأجل اإنتاج<br />
مفيد مادي غريب من اأجل املشاهد واملستمع. وتغري<br />
دور املثقف من دور الواثق يف حكمه اإىل دور املعلق الذي<br />
يقدم الشفرات ويحلها، ويتوقف دور املفكر عن اأن يكون<br />
موجهاً مرشداً، ويصبح اأكرث انغماساً يف بحث اخلربة<br />
الثقافية الوطنية.<br />
وهنا تبدو الصلة بني ما بعد احلداثة والثقافة<br />
الشعبية، تشتهر ما بعد احلداثة بالطبيعة املتعددة<br />
الوجوه املحرية واملربكة وفوضى الثقافة الشعبية وغياب<br />
الرتاتبية. والشكل الشائع ضد التصنيف الثقايف<br />
املوجود بني املشتغلني بالإنتاج الثقايف هو اجتاه مستمر<br />
من الرومانسية والفن الغجري، واملجموعة النشطة<br />
واحلداثة وما بعد احلداثة، وجند فيه التعدي واملخالفة<br />
والشعبي والبحث عن التجديد والبتكار وكل هذا اأكسب<br />
هذا التقليد الثقايف املضاد شهرة عظيمة يف الإنتاج<br />
الثقايف الستهاكي.<br />
وبفعل الدمقرطة الوظيفية انحصر توازن القوى<br />
بني اجلماعات املسيطرة واجلماعات الأقل قوة،<br />
واتسعت الرتبية العالية للجماعات الغريبة واخلارجة
225<br />
2 0 1 1<br />
يف فرتة ما بعد احلرب، واتسع عدد الوسطاء الثقافيني<br />
يف وسائل الإعام اجلماهريية مما جعل من الصعب<br />
على اجلماعات املستقرة اأن حتافظ على وضعها<br />
املسيطر ثقافياً، وذلك مهد الطريق اإىل عدم املركزية<br />
والعرتاف بالختافات الثقافية املحلية والإقليمية يف<br />
العامل الغربي.<br />
ويف العاقات بني احلكومات الغربية والتكتات<br />
السياسية على مستوى الكوكب وعودة خطاب الآخر،<br />
يرفض مفكرو العامل الثالث اللتزام بالتحديث الغربي،<br />
مفضلني اسرتجاع ثقافتهم الشعبية وتقاليدهم<br />
اخلاصة؛ ولذلك حتدث املقاومة للعناوين الثقافية<br />
املفرطة التي تربطها بهم الأمم الغربية، مثل همجي<br />
وبربري ومتاأخر ومتوحش وملون.. وهلم جرا، وبهذه<br />
املقاومة يجربون الغرب على احرتام خياراتهم وهويتهم<br />
الثقافية اخلاصة.<br />
وعلى الرغم من اأن الثقافة املشرتكة عملية غري<br />
خمططة، فهي مع ذلك تعتمد على املشاركة والرتبية فهي<br />
التي ترثي الثقافة املشرتكة وتعد الأساس لزدهارها. ولكن<br />
يبدو اأن قضية الثقافة املشرتكة يف اأزمة واأن الجتاه الآن<br />
هو الهتمام املتنامي بالثقافة الشعبية وما بعد احلداثة.<br />
وتوؤكد ما بعد احلداثة مكانتها داخل العمليات<br />
التي تشكل املجال الثقايف، وتساعد على نهضة<br />
الثقافات الشعبية والكرنفالت، وتقوي الدوافع الشعبية<br />
للدميقراطية واملساواة والفتتان بالآخر والتسامح مع<br />
السعادة والبهجة املرتبطة مبا بعد احلداثة، والدللت<br />
املرتبطة بنهاية الجتماعي ونهاية املعيارية ونهاية<br />
املفكرين العامليني، وجتاوز كل الأطر القدمية يستلزم<br />
عادات اأكرث مرونة واإعطاء شرعية لاختاف والتسامح<br />
دون استبعاده اأو قهره.<br />
والرتكيز على تطور عادات اأكرث مرونة من جانب<br />
املتخصصني الثقافيني والوسطاء واملشاهدين ميكن<br />
الرتكان اإليه يف مشكلة الثقافة املشرتكة، ويجد فيزر<br />
ستون يف فكرة دوركامي عن العوامل غري التفاقية<br />
لاتفاق اإمكانية التفكري يف الثقافة املشرتكة ليس على<br />
مستوى املضمون اأي العقائد والقيم ولكن على مستوى<br />
الختافات الظاهرة مثل العوامل غري التفاقية<br />
الداعمة لاتفاق الثقايف الذي حتدث فيه الضطرابات<br />
والنزاعات الصناعية حيث يشتبك كل من احلزبني<br />
يف صراع حاد وفقاً ملجموعة من القواعد الأساسية<br />
املعرتف بها ضمناً والتي هي مشرتكة يف حني ل يوجد<br />
اتفاق عليها اإطاقاً. وهي صورة الفكرة املفرتضة عن<br />
البناء املنتج املرن الذي يسمح لاختافات اأن توجد،<br />
ويشكل متفصاً اأساسياً منتجاً ملعنى الثقافة املشرتكة<br />
اأو ميكن اعتباره منوذجاً للثقافة املشرتكة، التي يستلزم<br />
فيها مشاركة الناس اجلماعية القدرة على العرتاف<br />
بالختافات باعتبارها شرعية وصحيحة.<br />
ويعترب فيزر ستون اأن هذا التصور للوحدة خال<br />
التنوع يسمح بالختاف، ويرى اأن هذه الفكرة اأكرث<br />
قبولً اليوم، وهي التي اأنهضت ما بعد احلداثة، وقوضت<br />
مشروع التكامل الثقايف للدولة القومية. وهي فكرة لها<br />
فاعليتها يف احتاد الدول الأوسع )مثل الحتاد الأوروبي(<br />
و يف )القتصاد الكوكبي( وكاهما يشري اإىل الوحدة<br />
يف اإطار التنوع، وقد جند الحتاد الأوروبي يعمل على<br />
اإنتاج جمتمع مثايل، ورموز موحدة متيز الأوروبيني عن<br />
الآخرين، ويحاول خلق هوية اأوروبية. وتصبح هذه مهمة<br />
املتخصصني الثقافيني.<br />
وقد تكون فكرة الثقافة املشرتكة اأكرث اإمكاناً اإذا<br />
كان يوجد عرف مشرتك توؤسس عليه, ومعنى العرف<br />
جمموعة الرموز والأساطري والذكريات والأبطال<br />
والأحداث والتقاليد، وجميعها منسوجة يف الوعي<br />
الشعبي، وهو الأساس للثقافة املشرتكة.<br />
وميتلك العرف مرونة وقدرة عالية على مقاومة<br />
الضغط اأكرث مما يتخيل كثري من السياسيني واملعلقني،<br />
فهل قوة املقاومة من العرف والتقاليد الشعبية.<br />
وتاأسيساً على السابق يرى فيزر ستون اأن ما بعد<br />
احلداثة تقدم صورة واأماً للوحدة خال التنوع، وحتقيق<br />
حلم العامل العلماين املوؤسس على فكرة الإنسانية عند<br />
دوركامي، حيث نستطيع تخيل التجانس الثقايف الكوكبي<br />
ووجود فكرة الهوية واإنتاجها وذلك اإمنا يكون على اأساس<br />
ما يُهدد الكوكب.<br />
املراجعات
جملة علمية حمكمة تعنى بالدراسات الثقافية<br />
A Refereed Journal for Cultural Studies<br />
2 0 1 1<br />
Issue No 24<br />
Painting by Bahraini Artist<br />
Jamal A. Raheem
Price<br />
Bahrain BD 1.500<br />
Gulf States US $ 6<br />
Eygept US $ 1<br />
Other Arabic Countries US $ 2<br />
Other Parts of the world US $ 8<br />
Subscription<br />
Thaqafat<br />
The College of Arts<br />
University of Bahrain<br />
P.O.Box 32038, Kingdom of Bahrain<br />
One Year<br />
Two Years<br />
For Individuals<br />
Bahrain One Year 4 BD Two Years 8 BD<br />
Gulf States One Year 5 BD Two Years 10 BD<br />
Other Arabic Countries One Year 6 BD Two Years 12 BD<br />
Other Parts of the world One Year 8 BD Two Years 16 BD<br />
For Organizations<br />
Bahrain One Year 5 BD Two Years 10 BD<br />
Gulf States One Year 6 BD Two Years 12 BD<br />
Other Arabic Countries One Year 6 BD Two Years 12 BD<br />
Other Parts of the world One Year 8 BD Two Years 16 BD<br />
Subscribers Name & Addess<br />
Name:<br />
Job:<br />
Address:<br />
Cheques are payable to the order of the Thaqafat - College of Arts - University of Bahrain at the<br />
Bahraini Bank or a Bank Draft - Account No. (88500802) National Bank of Bahain<br />
Material published in Thaqafat does not necessarily<br />
represent the view of the Editors or Advisers<br />
Permission must be obtained from Thaqafat with<br />
regard to translating or republishing any material.
2. Tables, pictures and illustrious must be provided on separate sheets. Each<br />
item must have its sources and position in the body of the article clearly<br />
indicated at the bottom.<br />
3. Authors of research papers should provide on a separate sheet of paper their<br />
names, affiliation and, if applying for the fist time, CV's outlining their academic<br />
careers. They must also indicate whether the manuscript was submitted to<br />
a conference or seminar and whether it was published by the conference<br />
organizers. Sources of financial assistance, sponsorship by academic or nonacademic<br />
institutions must also be clearly acknowledged.<br />
4. Authors of research papers shall receive two copies of the issue containing<br />
their papers as well as 5 off prints of their articles. Authors of reviews,<br />
commentaries, reports and abstracts of these and dissertations shall receive<br />
one copy of the number which prints their contributions.<br />
III. Sources and References<br />
1. All sources must be acknowledged in note sprinted at the end of the article.<br />
Such notes must conform to the accepted connections for citations and notes.<br />
A note should provide the name of the author, title of the book or article, the<br />
name if the periodical or publisher, the year and place of publication in the<br />
case of books and the volume, issue and page number in the care of articles<br />
published in periodical: Arthur Mizener, the Saddest Story: A Biography of<br />
Ford madox (New York: World, 1971) 265.<br />
2. Research papers should have, in addition to the above-mentioned notes, a<br />
bibliographical list of sources. This should be alphabetically arranged by the<br />
name of the authors. Non-Arabic sources should be indicated in a separate<br />
list.<br />
IV. Approval for Publication<br />
A manuscript submitted for publication shall be acknowledged within two weeks<br />
of its receipt. Authors of such manuscripts shall also be notified of the decision<br />
concerning publication, which shall be based upon the recommendation of<br />
two confidentially - appointed referees in the case of research articles and the<br />
evaluation of the editorial board for other types of material. The Journal reserves<br />
the right to require minor or comprehensive alterations before a manuscript is<br />
approved for publication.<br />
Opinions expressed in this journal are solely those of their authors<br />
Distributor in Bahrain and the Arab World<br />
Al Ayam<br />
P.O. Box: 3232 Manama - Bahrain, Tel: 17 725111, Fax: 17 723763
2 0 1 1<br />
Guidelines for Authors<br />
In accordance with the following guidelines, the journal of Thaqafat welcomes for<br />
publication research papers and specialized academic studies in areas of cultural<br />
studies, cultural anthropology, everyday life sociology, political economy, media theory,<br />
film studies, new historical and philosophical studies, critical theory, studies of Islamic<br />
societies, gender and feminism, multiculturalism, politics of identity, post colonialism,<br />
postmodernism, and studies of the other, marginal-minority groups.<br />
I. General Guidelines<br />
1.The Journal invites for publication previously unpublished original research papers<br />
and academic studies in Arabic and English. A paper, once accepted for publication,<br />
may not be published in another journal without obtaining in advance the written<br />
consent of Journal's editor-in-chief.<br />
2.The Journal also welcomes reviews, book reviews, commentaries, and followup<br />
reports on conferences, seminars and other academic activities falling within<br />
its areas of interest. It also invites objective critiques of studies and opinions<br />
published on its own pages or in other journals and periodicals and similar scientific<br />
publications.<br />
3.The Journal furthermore invites abstracts of academic theses and dissertations for<br />
which degrees have been awarded provided subject of such works is in the field<br />
of Cultural studies and the abstracts are prepared and submitted by the author<br />
themselves.<br />
4. All manuscripts submitted for publication must be accompanied by two abstracts in<br />
Arabic and English, not exceeding 200 words each.<br />
5. All correspondence should be addressed to:<br />
Editor-in-Chief, Journal of Thaqafat,University of Bahrain<br />
P.O. Box: 32038, Bahrain, Fax: 17 449770<br />
e-mail: thaqafat@arts.uob.bh<br />
II. Manuscripts<br />
1. A research paper submitted for publication should not exceed 40 pages written in<br />
disk copy IBM compatibles. It must be thoroughly revised and fir for publication. All<br />
pages of the manuscript should be consecutively numbered. Charts, diagrams and<br />
illustrations should be similarly numbered.
Issue No 24, 2011<br />
A Refereed Journal for Cultural Studies<br />
Published by the College of Arts University of Bahrain<br />
Editor- in- Chief<br />
Dr. Haya Bent Ali Al Noaimi<br />
Managing Editor<br />
Dr. Nader Kadhem<br />
Editorial Board<br />
Prof. Adnan Zarzoor Prof. Baqir Al Najjar<br />
Dr. Faten Morsy<br />
Dr. Jamal A. Adheem<br />
Dr. Moh'd Al Sayed<br />
Advisory Board<br />
Prof. Baqir Al-Najjar<br />
Prof. Gaber Asfour<br />
Prof. Abdulla Al Ghadami<br />
Prof. Fatima Mernissi<br />
Prof. Ferial Ghazoul<br />
Art Supervision<br />
Mahmood Bahloos<br />
Executive Editor<br />
Yasser Othman<br />
Design & Production<br />
Sayed Jaffer Hameed<br />
Proofread by<br />
Dr. Isa Al Wedaee