المستقبل الكندي حزيران 2019
News Magazine
News Magazine
Create successful ePaper yourself
Turn your PDF publications into a flip-book with our unique Google optimized e-Paper software.
قالت ليَ ابنتي يومًا: يا أبتِ، عنّك تقطع آالف الكيلومترات لتأتي من مونتريال على بيروت لتمضي بيننا<br />
أسابيع معدودات، ثم أراك في معظم األيام تبقى حبيب هذا المنزل، فلما ا ال تقوم بزياراتٍ لألماكن التي<br />
كنت تتردد عليها سابقًا؟ وبالتأكيد لك كرياتٌ كثيرة في العديد منها.<br />
فقلت لها: يا بنيتي، عنَّ أكثر وأهمَّ ما يدعوني على المجيء على لبنان، هو رؤيتكم أنتِ وشقيقتيك وحفيديَّ<br />
الحبيبين. أمّا عن الذكريات فم شكَّ في أنَّ لي منها الكثير الكثير في هذه المدينة التي أحببتها وأمضيت<br />
فيها العديد من سنوات الشباب والكهولة. ولكن، يا حبيبتي، بيروتكم اليوم تختلف كثيرًا عن بيروتنا<br />
نحن. لقد تغيرت معالمُها حتى أنّي بتُّ أشعر بأنَّ ما لم يزل يربط بينهما هو االسم فقط.<br />
فما تسمُّونه أنتم اليوم "وسط المدينة" كنا ندعوه نحن "البلد"، وشتّان بين االثنين، ف"البلد" كان<br />
بلدنا حيث كنَّا نقصده ونلتقي فيه جميعنا، غنيّنا وفقيرنا ومتوسط الحال على ٍ حدّ سواء. أما "وسط<br />
مدينتكم" فقد أصبح حُكرًا على األغنياء وميسوري الحال من روادِ المطاعم والمقاهي والممهي<br />
والفنادق الفخمة، والمحمتِ التجارية التي تبيع أغلى البضائع. بينما كان أبناء جيلنا وآباؤنا يجدون في<br />
"بلدنا" كلَّ ما يحتاجون وبالنوعيات واألسعار التي تناسب كُما منهم.<br />
ثمَّ ما ا تبقى من ساحة الشهداء، والتي كنَّا نسميها أيضًا "ساحة البرج"؟ ال أرى اليوم من قديمها سوى<br />
مبنيين اثنين حافظا على شكلهما الخارجيّ فقط، وتمثالَ الشهداء الذي أعيد عليها، ولكنِّي كلما نظرت عليه<br />
أراه نُصبًا غُرسَ في قطعة أرضٍ صحراوية. فأين جارته، تلك البحيرة، التي كانت تتوسط الساحة،<br />
بنافورتها التي كانت تدفع المياه عاليًا لبضعة أمتار. وأين ساعة الزهور التي كانت تعلن األوقات نطقًا<br />
بلغة عربية فصحى. وأين أشجار النخيل الباسقة التي كانت تحميها جميعًا، وطيور اليمام التي كانت<br />
تعشش فوق أغصانها؟ وأين تلك األبنية الحجرية التي كانت تشكل حدود تلك الساحة؟ وأين صاالت<br />
السينما والمسرح التي كنَّا نرتادها؟ أين "الريفولي" و"األوبرا" و"األمبير" والدنيا" و"الروكسي"<br />
وغيرها؟ وأين مسرح "شوشو"، رحمة هللا عليه؟ أين سوق الصاغة وسوق النورية وسوق سرسق<br />
وخان البي ودرج األربعين وسوق األرمن؟ كلها أصبحت في خبر كان.<br />
ثمَّ ما تسمونه اليوم "أسواق بيروت" فيوم زرتُها، وعلى الرُّغم من عتقان بنائها، شعرتُ باألسى ألنني<br />
رأيتني في مجمَّعٍ تجاريّ ٍ حديثٍ ال يمتُّ على بيروتنا بأيّ ِ صلة فيما عدا أسماء ممراته. لم أجد فيها من<br />
سوق الطويلة وسوق آياس وسوق الجميل وسوق الفرنج وسوق سيور وسوق الجوخ... سوى<br />
أسمائها. وأين "بركة العنتبلي" التي كان رواد تلك األسواق يتحلقون حولها ليطفئوا حرّ وعطش<br />
الصيف بكؤوسٍ من العصير الطازج أو "العرق سوس"؟<br />
حتى شارع الحمراء الذي كنا في شبابنا نرتاد مقاهيه وصاالت السينما الحديثة، التي تحولت اليوم على<br />
محمت تجارية، أو كنَّا نقصده لنتمشّى على أرصفته ونتنشقَ رائحة الصابون الممتزجة بروائح العطور،<br />
تنبعثُ من أثواب وأجساد الحسان اللواتي كنَّ يشاركننا تلك األرصفة؟<br />
واألبنية البسيطة وات االرتفاعات المتوسطة والغرف الفسيحة واألسقف العالية، التي بنيت، بالحجر<br />
الرملي أو الصخري أو أسطح القرميد، في النصف األول من القرن الماضي، اختفى معظمها لتحلَّ محلّه<br />
هذه "األعمدة اإلسمنتية" الشاهقة االرتفاع، والمسماة "أبراجًا"، بغرفها األشبه بالعلب. هذه المدينة<br />
التي تغسل أقدامها أمواجُ البحر، بمياهه التي كانت نقية نظيفة، ويظاهرها الجبل الذي كان حلوً ا أخضر،<br />
حرمت تلك األبراجُ عيونَ سكانها من رؤية البحر والجبل معًا. أمَّا نحن فقد كنَّا، ع ا نظرنا على بيروت من<br />
مشارف الجبل، نرى أبنيتها وبيوتها بوضوح، بينما ال نرى اليوم سوى غيومِ التلوث تحجب رؤيتها<br />
ورؤية بحرها بالكامل.<br />
أين أصبحت بساطة العيش ونقاء الهواءِ وصفاء مياه البحر؟ بل أين المحبة التي كانت تربط بين سكان<br />
بيروتنا؟ ففي بيروتكم اليوم، يا ابنتي، الجارُ ال يعرف أسماء جيرانه عالّ ع ا قرأها على لوحة "األجراس"<br />
المثبتة على جدران مداخل األبنية. وع ا ما التقى اثنان منهم في المدخل أو في المصعد فقد ال يتبادالن<br />
حتى السمم، بينما نحن لم نكن نكتفي بالتحية بل كنَّا نتبادل األحاديث المطولة والزيارات، حتى من دون<br />
مواعيد، وكأننا نعيش في منزلٍ واحد.<br />
سأدع جانبًا الكمم عن الحالة السياسية واألمنية واالقتصادية وعن الفساد المستشري وعن حقوق<br />
المواطنين الضائعة، وعن سوء األخمق وانعدام الضمير، وعن الغمء والماء والكهرباء وغيرها.<br />
وسأكتفي بأن أقول، وبأسفٍ شديدٍ: لقد تبدل اسم لبنان من "سويسرا الشرق" على "جمهورية الزبالة".<br />
فهل تلومينني بعد، يا قُرّة العين، ع ا ما رأيتني معتكفًا في المنزل أنتظر يوم عودتي على كندا، حيث أشعر<br />
بأنني عنسانٌ ِ بكلّ ما للكلمة من معنى؟<br />
فم تعذلوا، بل اعذروا، يا أحبتي، عنسانًا كسره الحزن واألسى على وطنه الذي يراه يضيع من بين يديه<br />
وهو ال حول له وال قوة.<br />
22