10.08.2016 Views

alarabi_July-Comp

You also want an ePaper? Increase the reach of your titles

YUMPU automatically turns print PDFs into web optimized ePapers that Google loves.

العدد > 692 رمضان / شوال 1437 ه > يوليو 2016 م <strong>July</strong><br />

سالم الله على أهل<br />

سرنديب<br />

ISSN : 0258 - 3941


مجلة شهرية ثقافية مصورة يكتبها عرب ليقرأها كل العرب<br />

تأسست عام 1958، تصدرها وزارة اإلعالم بدولة الكويت<br />

AL-ARABI - A Cultural Illustrated Monthly Arabic Magazine, Published by<br />

Ministry of Information - State of Kuwait - P.O.Box: 748 - Safat, Kuwait<br />

Tel: )00965( 22512081/82/86 Fax: (00965) 22512044<br />

E.mail: arabimag@arabimag.net<br />

رئيس التحرير<br />

د.‏ عادل سالم العبداجلادر<br />

العنوان في الكويت<br />

بنيد القار - قطعة - 2 شارع - 76 قسيمة - 105 هاتف البدالة )00965( 22512081/82/86<br />

> هاتف التحرير:‏ Tel: 22512017 Editorial<br />

> اإلعالن والتوزيع:‏ )00965( 22512043 > الفاكس:‏ )00965( 22512044<br />

العنوان البريدي:‏ ص ب - 748 الصفاة - الرمز البريدي 13008- الكويت.‏<br />

عناوين البريد اإللكتروني<br />

االشتراك مبجلة العربي:‏ subscribe@<strong>alarabi</strong>.info<br />

املتابعة املالية:‏ fin@<strong>alarabi</strong>.info<br />

املشاركات واملقاالت:‏ <strong>alarabi</strong>@<strong>alarabi</strong>.info<br />

Editor in Chief<br />

Dr. Adel S. Al-Abdul Jader<br />

<strong>alarabi</strong>.kw <strong>alarabi</strong>_kw <strong>alarabi</strong>.kw<br />

شروط النشر في مجلة العربي<br />

> توجه املقاالت إلى رئيس حترير املجلة.‏<br />

تكتب املقاالت باللغة العربية وبخط واضح وترسل على البريد اإللكتروني،‏ ومرفقة مبا يلي:‏<br />

- 1 تعهد خطي من املؤلف أو املترجم بعدم نشر املقالة سابقًا في أي مجلة أخرى.‏<br />

- 2 سيرة ذاتية مختصرة للمؤلف أو املترجم.‏<br />

- 3 األصل األجنبي للترجمة،‏ إذا كانت املقالة مترجمة.‏<br />

- 4 يفضل أن تكون املقاالت الثقافية مدعمة بصور أصلية عالية النقاء،‏ مع ذكر مصادر هذه<br />

الصور،‏ ومراعاة ترجمة تعليقات وشروح الصور واجلداول إلى اللغة العربية.‏<br />

> املوضوعات التي ال تنشر ال تعاد إلى أصحابها.‏<br />

> يفضل أال تقل املقالة عن 150 كلمة وال تزيد على 1000 كلمة.‏<br />

> يحق للمجلة حذف أو تعديل أو إضافة أي فقرة من املقالة متاشيًا مع سياسة املجلة في النشر.‏<br />

> اخلرائط التي تنشر باملجلة مجرد خرائط توضيحية وال تعتبر مرجعا للحدود الدولية.‏<br />

> ال يجوز إعادة النشر بأي وسيلة ألي مادة نشرتها العربي منذ 1958 وحتى تاريخه دون موافقة<br />

خطية من اجلهات املختصة باملجلة وإال اعتبر خرقا لقانون امللكية الفكرية.‏<br />

> االسم الكامل حسب الوثائق الرسمية،‏ واسم الدولة،‏ واسم البنك،‏ ورقم احلساب اخلاص<br />

باملستفيد،‏ وكذلك رقم اآليبان )IBAN(<br />

> املواد املنشورة تعبر عن آراء كتابها وال تعبر بالضرورة عن رأي املجلة,‏<br />

ويتحمل كاتب املقال جميع احلقوق الفكرية املترتبة للغير.‏<br />

طبعت مبطبعة حكومة الكويت<br />

3


العدد - 692 رمضان،‏ شوال 1437 ه<br />

يوليو ‏)متوز(‏ ‎2016‎م<br />

70<br />

73<br />

78<br />

86<br />

197<br />

89<br />

95<br />

99<br />

132<br />

140<br />

144<br />

154<br />

158<br />

163<br />

166<br />

172<br />

175<br />

8<br />

26<br />

36<br />

122<br />

103<br />

104<br />

110<br />

112<br />

113<br />

115<br />

116<br />

118<br />

31<br />

12<br />

19<br />

66<br />

حديث الشهر<br />

د.‏ عادل سالم العبداجلادر...‏ مقومات البناء<br />

احلضاري...‏ العمل والعلم والثقافة والفن.‏<br />

فكر وقضايا عامة<br />

د.‏ سعيد إسماعيل علي<br />

احلُصَ‏ ري يحاور سالمة موسى<br />

استطالعات وحتقيقات<br />

إبراهيم املليفي...‏ سلالم الله على أهل<br />

‏»سرنديب«...‏ رحلة من كولومبو إلى بيرواال...‏<br />

جوامع وجامعات.‏<br />

رياض توفيق...‏ كهوف عمرها 50 مليون سنة!‏<br />

ملف العدد<br />

مارجريت أوبانك...‏ ناشرة بقدرات مؤسسة<br />

كاملة.‏<br />

حوار:‏ إبراهيم فرغلي...‏ مارجريت أوبانك...‏ األدب<br />

العربي جزء جوهري من احلضارة اإلنسانية.‏<br />

فاضل العزاوي...‏ حياة مكرسة من أجل األدب<br />

العربي.‏<br />

صبحي حديدي...‏ ‏»بانيبال«...‏ حجر أساس أدبي<br />

ومعرفي.‏<br />

سيف الرحبي...‏ احلفر عميقاً‏ في تربة صعبة.‏<br />

محمود شقير...‏ صديقة األدب العربي.‏<br />

طالب الرفاعي...‏ عاشقة األدب العربي احلديث.‏<br />

ماذا قالوا عن ‏»بانيبال«؟<br />

‏»العربي«‏ في مثل هذا الشهر<br />

محمود تيمور...‏ تشيكوف واألدب العربي احلديث.‏<br />

أدب ونقد ولغة<br />

فاروق شوشة...‏ ‏»أيها القمر«‏ مع الشاعر املصري<br />

فوزي العنتيل وأحلان البدايات<br />

‏)جمال العربية(.‏<br />

د.جابر عصفور...‏ عن شعرية أمل دنقل ‏)أوراق أدبية(.‏<br />

د.إيهاب النجدي...‏ االعتراف والهوية.‏<br />

عبدالواحد أبجطيط...‏ البعد العجائبي في<br />

مجموعة ‏»جني ليلتي«‏ مليمون حرش.‏<br />

جهاد فاضل...‏ مع أبي الطيب املتنبي<br />

د.أحمد اجلرطي...‏ إدوار اخلراط منظراً‏<br />

للحساسية اجلديدة في السرد العربي.‏<br />

حتسني الناشئ...‏ موت اللغات وانقراضها.‏<br />

عرض واختيار:‏ د.‏ مشاري املوسى...‏<br />

‏»قصص على الهواء«‏ بالتعاون مع إذاعة ‏»مونت<br />

كارلو«‏ الدولية.‏<br />

تاريخ وتراث وشخصيات<br />

د.‏ مصطفى محمد طه...‏ حول الكون في التصور<br />

العراقي القدمي.‏<br />

د.‏ عادل زيتون...‏ فولتير و»رسالته في<br />

التسامح«.‏<br />

محمد عويس...‏ أحمد شفيق اخلطيب...‏ البيت<br />

العربي أشد فقراً‏ في املعاجم.‏<br />

فن<br />

رشا عدلي...‏ سنان باشا...‏ فنان العمارة<br />

اإلسالمية.‏<br />

محمد الفقي...‏ أندريه تاركوفسكي...‏ صناعة<br />

األفالم تعني البحث عن اجلمال اخلالص.‏<br />

ماجد صالح السمرائي...‏ فائق حسن...‏ فنان<br />

الفضاء الطلق.‏<br />

علوم<br />

د.‏ أبو بكر خالد سعدالله...‏ كيف تتقدم<br />

الرياضيات؟<br />

د.‏ أحمد شعالن...‏ املد واجلزر...‏ حكاية اختالف<br />

في قوى اجلذب الثقالي.‏<br />

البيت العربي<br />

عبدالغني كرم الله...‏ العيد في جيب جلبابي.‏<br />

د.‏ شيرين محمود...‏ كذب األطفال وعالجه.‏<br />

نسرين البخشوجني....‏ العالج بالفن...‏ عودة<br />

اإلنسان لفطرته.‏<br />

د.‏ صفية فرجاني...‏ الهناء الشخصي.‏<br />

العدد - 692 يوليو 2016<br />

4


200<br />

202<br />

طرائف<br />

صالح عبدالستار الشهاوي...‏ ‏)طرائف عربية(.‏<br />

محمد حسن أحمد...‏ ‏)طرائف غربية(.‏<br />

ص 36<br />

ص 147<br />

ص 166<br />

184<br />

186<br />

190<br />

192<br />

194<br />

6<br />

7<br />

34<br />

179<br />

182<br />

204<br />

206<br />

210<br />

مكتبة ‏»العربي«‏<br />

عرض:‏ هيا محمد...‏ رواية ‏»بيسان احلب<br />

والكراهية«...‏ أتون الدمار والنار.‏<br />

‏)من املكتبة العربية(.‏<br />

عرض د.نزار العاني...‏ اإلسالموفوبيا...‏ املخاوف<br />

اجلديدة من اإلسالم في فرنسا<br />

‏)من املكتبة األجنبية(.‏<br />

كتب مختارة.‏<br />

املفكرة الثقافية<br />

محمد خليفة صديق...‏ إعلالن الفائزين في<br />

الدورة السادسة جلائزة الطيب صالح العاملية<br />

لإلبداع.‏<br />

الزبير مهداد...‏ اإلرهاب رديف اإلقصاء.‏<br />

أبواب ثابتة.‏<br />

كاريكاتير.‏<br />

عزيزي القارئ.‏<br />

قالوا.‏<br />

املسابقة الثقافية.‏<br />

مسابقة التصوير الفوتوغرافي.‏<br />

منتدى احلوار.‏<br />

عزيزي العربي.‏<br />

إلى أن نلتقي.‏<br />

االشتراكات<br />

قيمة االشتراك السنوي > داخل الكويت 8 د.ك > الوطن العربي 8 د.ك أو 30 دوالرا.‏<br />

> باقي دول العالم ‎10‎د.ك أو مايعادلها بالدوالر األمريكي أو اليورو األوربي:‏<br />

> ترسل قيمة االشتراك مبوجب حوالة مصرفية أو شيك بالعمالت املذكورة باسم وزارة اإلعالم على عنوان املجلة.‏<br />

Subscription: All Countries $ 40 or The Equivalent<br />

ثمن النسخة<br />

الكويت 500 فلس،‏ األردن 500 فلس،‏ البحرين 500 فلس،‏ مصر 1.25 جنيه،‏ السودان 500 جنيه،‏ موريتانيا 120 أوقية،‏ تونس دينار واحد،‏<br />

اجلزائر 80 دينارا،‏ السعودية 7 رياالت،‏ اليمن 70 رياال،‏ قطر 7 رياالت،‏ سلطنة عمان 500 بيسة،‏ لبنان 2000 ليرة،‏ سورية 30 ليرة،‏<br />

اإلمارات 7 دراهم،‏ المغرب 10 دراهم،‏ ليبيا 500 درهم،‏ العراق 50 سنتاً‏<br />

Iran 4000 Riyal, Pakistan 75 Rupees, UK 2.5 Pound, Italy 2 € , France 2 € , Austria 2 € , Germany 2 € ,<br />

USA 2$, Canada .4.25 CD<br />

5<br />

الفهرس


الكويت عاصمة الثقافة اإلسالمية 2016<br />

عزيزي<br />

القارئ<br />

إرادة النجاة بالفن والتسامح<br />

ال يبدو كثيرون من شعوب العالم اليوم،‏ سعداء،‏ خصوصاً‏ في عاملنا العربي،‏ واألسباب<br />

عديدة ومشهودة،‏ وبينها ما تتجلى سماته الرئيسة اليوم في غياب فضيلة التسامح،‏<br />

وانتشار موجات من االقتتال على اخلالفات العقائدية واملذهبية مع األسف،‏ وشيوع<br />

هجمات مروعة على الفنون واآلداب والتراث احلضاري في دول عديدة ممن انتكبت<br />

باحلروب والدمار,‏ وهو ما يشير إليه رئيس التحرير في حديثه الشهري،‏ مؤكداً‏ مفارقة<br />

مؤسية نرى فيها العالم يبني حضارته،‏ بينما نسعى في ثقافتنا العربية إلى هدم كل ما<br />

أجنزناه.‏<br />

وإلميان ‏»العربي«‏ بخطورة هذه الصراعات وقدرتها على محو أي حضارة،‏ ركزت في<br />

هذا العدد على مجموعة من املوضوعات التي تذكر وتؤرخ وتنبه ملفاهيم وقيم التسامح،‏<br />

في مقوالت غربية كشأنها لدى فولتير مثالً،‏ أو عبر استطالع ارحتلت فيه ‏»العربي«‏ إلى<br />

سريالنكا تتأمل فيه كيفية تعايش املسلمني األقلية مع أغلبية البوذيني في هذا البلد.‏<br />

أو عبر التنويه بكهوف عمرها 50 مليون عام،‏ دللت على أن الفنون جسدت داللة قدمية<br />

لرغبة اإلنسان في التعبير عن ذاته ورغبته في فهم العالم.‏<br />

وإذا كان التشاؤم مصدره العقل كما يقال،‏ فإن التفاؤل مصدره اإلرادة،‏ فال ميكن أن<br />

تواجه أي جماعة بشرية املخاطر التي حتيط بها إال إذا انتبهت لها،‏ وقاومتها بإرادة<br />

صلبة،‏ كتلك التي حركت السيدة البريطانية مارجريت أوبانك لترجمة ونشر األدب<br />

العربي في الغرب،‏ بجهدها وحدها،‏ فإذا به جهد يشبه ما تقوم به املؤسسات،‏ وهو<br />

موضوع ملف حتتفي به ‏»العربي«‏ تكرمياً‏ لها وتقديراً‏ لهذا الدور الذي يؤكد أن الثقافة<br />

العربية لها دور كبير في العالم.‏<br />

وهكذا خصصت ‏»العربي«‏ في هذا العدد مجموعة من املوضوعات التي تدعو للتفاؤل،‏<br />

عارجة على تراثنا العربي اخلصب,‏ نقداً‏ وأدباً‏ واستجالء حلوارات االستنارة بني رموزها،‏<br />

وفكراً‏ يستعيد تصورات الكون في احلضارة العراقية القدمية،‏ أو تسليطاً‏ للضوء على<br />

تراث فنان تشكيلي عربي من العراق،‏ أو جتوالً‏ في حدائق التراث السردي املعاصر.‏<br />

وكما يقول رئيس التحرير إن كل من بنوا احلضارات في العالم انتبهوا إلى الفن<br />

باعتباره الوسيلة التي تبنى بها احلضارات،‏ مشفوعا بالعلم والفهم والبحث واإلنتاج<br />

العلميني،‏ فلننتبه،‏ ولنبتهج بأعيادنا في هذا الشهر لكي نعود بإرادة صادقة للعمل الذي<br />

به تبنى احلضارات ><br />

7<br />

عزيزي القارئ


حديث الشهر<br />

مقومات البناء الحضاري...‏<br />

العمل والعلم والثقافة والفن<br />

د.‏ عادل سالم العبدالجادر<br />

نحن في أواخر شهر كريم سيمضي،‏ ويهلّ‏ علينا هالل عيد الفطر<br />

السعيد،‏ فنفرح به طاعة وعرفاناً‏ وشكراً‏ هلل سبحانه وتعالى،‏<br />

وندعوه أن يعم الخير والحب والسلالم جنبات العالم.‏ في هذه<br />

األيام يتألم الماليين في البلالد العربية المنكوبة من التشرد<br />

والجوع والخوف،‏ فلنسأل العلي القدير أن يردهم إلى ديارهم<br />

سالمين ويطعمهم من جوع ويأمنهم من خوف.‏<br />

ولعل ثقافتنا اإلسلامية،‏ التي حتمل دولة<br />

الكويت بكل فخر شعارها كعاصمة لهذا العام<br />

‎2016‎م،‏ قد وضح أثرها على أفراد الشعب<br />

واجلمعيات اخليرية واملؤسسات الرسمية<br />

فيها،‏ للمساهمة في إنقاذ أشقائهم العرب من<br />

شتات الفُرقة ونكبات احلروب.‏ فبينما جتاهد<br />

اجلمعيات اخليرية لتدعم األحبة السوريني في<br />

املخيمات خارج بادهم وتقدم لهم املساعدات<br />

اإلنسانية،‏ تتحرك املؤسسات الرسمية في<br />

الكويت لرأب صدع اخلاف بني طرفي النزاع<br />

في اليمن الشقيق.‏ لقد فتحت دولة الكويت<br />

ذراعيها واحتضنت طرفي النزاع اليمني في<br />

دارها،‏ حتى يصل الطرفان إلى حلٍ‏ سلمي<br />

مُرضٍ‏ يُسعد الطرفني،‏ بأمل عودة ديارهم<br />

كما عهدناها ‏»اليمن السعيد«.‏ وال نشكّ‏ في<br />

أنّ‏ مشاعر األخوة واحلب العربية راسخة في<br />

قلوبنا جميعا،‏ وال يزال قبس األمل في العودة<br />

إلى نعيم السام يغمر الروح العربية.‏<br />

وإذا متعنّا اليوم في النزاعات والصراعات<br />

في الدول املنكوبة...‏ سورية والعراق وليبيا<br />

واليمن،‏ لرأينا أنّ‏ النزاعات الطائفية واملذهبية<br />

مطية من أجل أغراض سياسية،‏ وكل من<br />

األطراف يعتقد أنه صاحب حق وأنّ‏ الطرف<br />

اآلخر على باطل،‏ فتزيد الفرقة ويلتهب<br />

النزاع.‏ حتت ظلّ‏ هذه الظروف تنتشر سُ‏ حُ‏ ب<br />

الظام وتعلو صيحات الضال،‏ لتغرس أظفار<br />

الشر في قلوب الناس،‏ فلا تزيدها إال<br />

تعصباً‏ وتطرفاً‏ وانحرافاً،‏ ليحل العنف محل<br />

العفو،‏ ويجف من القلوب النفع ويغلفها العفن.‏<br />

هناك،‏ لم يعد اإلحساس بالفرحة والسعادة في<br />

رمضان أو العيد كسابق عهده،‏ فباتت تكدره<br />

اآلالم واألحزان،‏ حتى صار احلزن عادة يومية،‏<br />

وتقهقرت السعادة فكانت نسياً‏ منسياً.‏<br />

فقدت اخلطابات السياسية صدقيتها،‏<br />

ولم تستطع احملاكم الدولية العاملية أن تضع<br />

حلوالً‏ جذرية ملعاناة الشعوب.‏ أما اخلطابات<br />

العدد - 692 يوليو 2016<br />

8


الكويت عاصمة الثقافة اإلسالمية 2016<br />

9<br />

مقومات البناء احلضاري...‏ العمل والعلم والثقافة والفن


إن قمة الهرم الحضاري<br />

هي اإلنتاج الفكري والثقافي،‏<br />

بما يحويه<br />

من إبداعات علمية<br />

وأدبية وفنية<br />

الدينية،‏ التي كانت تعلي من شأن اإلنسان<br />

واحلياة،‏ فقد ارتدَت رداء السواد واملوت،‏<br />

واندفعت لترفع رايات اجلهل وتهميش العقل،‏<br />

ولتحُبَشِّ‏ ‏ر وتحُ‏ ‏ذِّر وتزدري وتحُ‏ ‏َقِّر،‏ وأكثر تلك<br />

الرايات تعكس أطروحات هامشية ركيكة<br />

بعيدة عن الواقع.‏ وال ندري ملاذا تنادي تلك<br />

اخلطابات الدينية بالعذاب والنقمة واأللم<br />

والشقاء،‏ لدين سالم يحُبشِّ‏ ‏ر بالثواب والرحمة<br />

واألمل والهناء،‏ لينقلب بذلك اإلحساس باألمن<br />

إلى وسواس مِ‏ حَ‏ ن،‏ يجري في دماء الغالة ملوثاً‏<br />

بالعنف والسبّ‏ واللعن؟ كثيرون يشتكون بأنّ‏<br />

أعياد اليوم واملناسبات واالحتفاالت تغيرت<br />

عما كانت عليه في املاضي،‏ وبأنها أصبحت<br />

مملة،‏ بعد أن ححُ‏ جبَت السعادة وتبرقع وجه<br />

الفرح عنها!‏ وأصبح الكلّ‏ في العيد بعيداً،‏<br />

فإما مواطن مسافر وإما مشرد مهاجر.‏ أي<br />

أمل وأي عمل يستطيع أن يقوم به البائس<br />

الباكي؟!‏ وأي ثقافة أو إبداع يستطيع أن يحُقدّمه<br />

اليائس الشاكي؟ ال نريد أن يكون أملنا ‏»مَوْت«‏<br />

وعملنا ‏»فَوْت«‏ وثقافتنا ‏»صَ‏ وْت«.‏ شعوب العالم<br />

تتقدم حتى تبني لها منزال وتكون لها منزلة في<br />

سحُ‏ ‏لّم احلضارات،‏ ونحن نتراجع ونحُكسّ‏ ر أعمدة<br />

ثقافتنا ونهدم أطالل إجنازات حضارتنا،‏ لكي<br />

نبكي ويضحك على بكائنا اآلخرون.‏ ما عاد<br />

العلم وحده طريقا للتقدم...‏<br />

وإنمّ‏ ‏ا األمم األخلاق ما بَقِ‏ ‏يَت<br />

فإنْ‏ هُ‏ ‏مُ‏ ذهبت أخلاقهم ذهبوا<br />

وأخلالق األمم تحُقاس مبنهجها في منظومة<br />

قِ‏ يَم وسلوكيات،‏ من أهمها إتقان العمل وححُ‏ سْ‏ ن<br />

التعامل.‏ والعمل إنتاج املفيد فكرة وحرفة،‏<br />

صناعة وزراعة،‏ أما التعامل،‏ فهو عبارة عن<br />

دوائر تتسع حلقاتها باتساع عالقات الذات<br />

باحمليط:‏ النفس،‏ األسرة،‏ ذوي القربى،‏<br />

األصدقاء،‏ الزملالء،‏ املجتمع،‏ الدولة،‏ اجلوار،‏<br />

اإلقليم،‏ العالم.‏ وإذا كانت دائرة العالم هي<br />

اإلطار األكبر،‏ فالعالم الصغير إطاره النفس،‏<br />

كمثل املوجات الصوتية،‏ كلما صَ‏ غحُرت كانت<br />

األقرب مكاناً‏ واألقوى أثراً.‏ وال تستقيم<br />

حركة هذه الدوائر إال بالتراتب واحلبّ‏ ، وال<br />

ينجح احلب إال إذا كان من الطرفني،‏ وإال<br />

أصبح غراماً،‏ يغرم فيه طرف عن طرف،‏<br />

شعوراً‏ ووقتاً‏ وماالً‏ وحاالً.‏ وال مجال فيها إلى<br />

العشق،‏ فإنه اجنذاب كبير من طرفٍ‏ إيجابي<br />

إلى طرفٍ‏ سلبي،‏ دون االكتراث إلى معرفة<br />

شعور اآلخر.‏ وفي هذا املقام نذكر ‏»الهوى«،‏<br />

الذي اشتق اسمه في لغة العرب من كلمة هواء،‏<br />

وهو متغير باجتاهاته،‏ متغير بنوعه،‏ ساخن أو<br />

بارد،‏ عاصف أو ساكن.‏ ودائرة النفس تعشق<br />

الفنّ،‏ صوتا وصورة وحركة،‏ بالسمع والبصر<br />

والفؤاد،‏ وال بدّ‏ أن يكون ذلك بلال إفراط أو<br />

تفريط،‏ لقوله عزّ‏ وجل:‏ ‏}إِ‏ نَّ‏ السَّ‏ ‏مْ‏ عَ‏ وَالْبَصَ‏ رَ‏<br />

وَالْفُ‏ ‏ؤَادَ‏ كُ‏ لُّ‏ أُولَئِ‏ كَ‏ كَانَ‏ عَ‏ نْهُ‏ مَسْ‏ ‏ئُولاً‏ } ‏)اإلسراء -<br />

اآلية 36(.<br />

إنّ‏ ترمي الفنّ‏ ال ميكن أن يكون صحيحا<br />

إال في الضرر على دوائر التعامل املجتمعي<br />

التي ذكرناها.‏ ومهما يكن من أمر،‏ فالتحرمي ال<br />

يكون إال بنص؛ قطعي الداللة،‏ قطعي الثبوت،‏<br />

ال ظنّ‏ فيه.‏ وترانا في مجتمعاتنا العربية<br />

موسومون بالتخلف احلضاري بجريرة خطاب<br />

العدد - 692 يوليو 2016<br />

10


الكويت عاصمة الثقافة اإلسالمية 2016<br />

ديني يحرم الفنّ‏ والذي ظنّ‏ معتنقوه ومتداولوه<br />

أنّه مفسدة لإلنسان واملجتمع،‏ وأوّلوا نصوصاً‏<br />

من القرآن الكرمي والسنّة الشريفة وطوّعوها<br />

لتتماشى مع ظنّهم وهوى رأيهم.‏ ولو تفحصنا<br />

مسيرة احلضارات اإلنسانية،‏ للفت انتباهنا<br />

أنّ‏ قمة الهرم احلضاري هي اإلنتاج الفكري<br />

والثقافي،‏ مبا يحويه من إبداعات علمية وأدبية<br />

وفنية.‏ إنّ‏ حترمي احلالل أمر خطير،‏ لم يتعلم<br />

منه كثيرون ممن ظنوا أنّ‏ الورع هو الوسطية،‏<br />

وخلطوا بني العادات والتقاليد وبني التشريع<br />

الديني ومقاصده،‏ ورفعوا العادات إلى مستوى<br />

العبادات،‏ واستغلوا التقاليد كمقاليد،‏ توصلهم<br />

إلى سلطة التشريع في التحرمي والتحليل،‏ حتى<br />

عَدّوا كل إبداعٍ‏ بدعة،‏ وكل خطوة إلى األمَامِ‏<br />

خطيئة،‏ وفسروا أمور الدنيا بتفاسير أرجعوها<br />

لنصوص دينية،‏ وما كان كل هذا إال ألنهم أرادوا<br />

أن يَحكموا ويتحكموا.‏<br />

لذا نرى أنّ‏ مرجعية العلوم كلها قد آلت<br />

إليهم،‏ رغم عدم التخصص!‏ فكل مرض له<br />

عندهم دواء؛ رقية أو عشبة أو حتى بول بعير!‏<br />

وإن تساءلت:‏ هل بالنجاسة شفاء؟ أجابك<br />

بوجود نصّ‏ ديني ليؤكد بذلك زعمه وادعائه،‏<br />

ومبا أنّ‏ مع وجود النص ال مجال لالجتهاد،‏ فال<br />

بدّ‏ أال تُكذِّب ما ورد بهذا النصّ‏ وإال خرجت<br />

من دائرة اإلميان واإلسالم،‏ كل هذا حتى يَسُ‏ دّ‏<br />

عليك طريق احلق ويقودك إلى درب اخلنوع<br />

واخلضوع واالستسالم لرأيه من دون مناقشة<br />

أو تفكير.‏<br />

في تاريخ احلضارة العربية اإلسالمية،‏ كل<br />

روّاد العلوم قد كُفِّروا أو فُسِّ‏ ‏قوا،‏ فمن األطباء<br />

كُفِّر أبو بكر محمد بن زكريا الرازي وابن<br />

سينا وأبو القاسم الزهراوي وابن النفيس،‏<br />

وفي الفيزياء احلسن بن الهيثم،‏ وفي الفلسفة<br />

الكندي والفارابي وابن رشد،‏ وفي علوم الفلك<br />

عمر اخليام.‏ وفي تاريخنا املعاصر،‏ حُ‏ رّم<br />

الراديو والهاتف والسينما واملسرح والتلفاز<br />

والفيديو وأجهزة البث واالستقبال الفضائي<br />

وأجهزة الهواتف احملمولة!‏ ثم ال أدري كيف<br />

أصبح احلرام حالالً‏ من دون دليل أو نصٍّ‏ من<br />

أخالق األمم تُقاس بمنهجها<br />

في منظومة<br />

قِيَم وسلوكيات،‏<br />

من أهمها إتقان العمل<br />

وحُ‏ سْ‏ ن التعامل<br />

أي قولٍ‏ أو كتاب مبني.‏<br />

واليوم،‏ أصبح الفنّ‏ الهادف احملترف الرزين<br />

أشد أثراً‏ في النفس من أي مجاالت التلقي<br />

األخرى،‏ ليكون أصدق إنباء من الكتبِ‏ . ولعل<br />

فيلما سينمائيا واحداً،‏ إذا ما كُتِبَ‏ وأُخرج<br />

بحرفية وموضوعية،‏ يعطيك بساعات قليلة<br />

ما ال يستطيع أن يعطيك إياه مائة كتاب عن<br />

املوضوع نفسه.‏ ولعل فكرة حتارب الطائفية<br />

والعنف واإلرهاب،‏ تُعرض في حلقة تلفزيونية<br />

ملدة أقل من الساعة،‏ تستحوذ على فِ‏ عْلٍ‏ في<br />

عقل املُتَلقي واملشاهد أكثر من ألف خطاب<br />

ديني أو سياسي.‏ ومثل ذلك نراه واضحاً‏ في<br />

الفنون األخرى،‏ كالرسم والغناء.‏<br />

ولعل أغنية واحدة حترّك جماهير غفيرة<br />

للعمل والبناء اجلاد.‏ لقد أدرك املتحضرون<br />

أهمية الفن فاستخدموه كوسيلة ناجحة<br />

وفاعلة ملخاطبة الشعوب اإلنسانية،‏ وحتفيز<br />

نفوسهم إلى التقدم والبناء واإلنتاج العملي<br />

والبحث العلمي،‏ واالرتقاء مبستواهم الثقافي<br />

واحلضاري ><br />

11<br />

مقومات البناء احلضاري...‏ العمل والعلم والثقافة والفن


جمال العربية<br />

‏»أيها القمر«‏<br />

مع الشاعر المصري فوزي العنتيل<br />

وألحان البدايات<br />

فاروق شوشة<br />

بين عاميْ‏ 1924 و‎1981‎‏،‏ عاش الشاعر المصري فوزي العنتيل،‏ الذي ينتمي<br />

إلى جيل الحداثة الشعرية ومعه صالح عبدالصبور وأحمد عبدالمعطي<br />

حجازي ومحمد الفيتوري وكمال نشأت.‏ لكنه لم ينل من الشهرة – لدى<br />

النقاد والقراء – ما لقيه بعض أبناء جيله،‏ الذين كانوا أكثر التصاقاً‏ بالحياة<br />

الثقافية واالجتماعية،‏ في حين كان هو أكثر ميالً‏ للتوحُّ‏ ‏د واالنعزال،‏ وإيثار<br />

الجو الهادئ والمتأمل،‏ والعكوف على داخله ومكنونات وجدانه،‏ المفعم<br />

بكثير من أشواق اإلنسان ومعاناته ومكابداته،‏ وبخاصة اإلنسان الذي عاش<br />

معه عن كثب في قريته ‏»علوان«‏ – إحدى قرى محافظة أسيوط – حياة<br />

الفلالح المصري الكادح،‏ المصفود في سالسل الفقر والجهل والمرض<br />

وهموم الحياة واألرض وقسوة الواقع الذي جعل منه صوت هذا اإلنسان،‏<br />

والناطق في شعره بما عجز عنه صريع القهر والعسف والمذلة والحرمان.‏<br />

العدد - 692 يوليو 2016<br />

أتيح للشاعر أن ينشر في حياته مجموعتَينْ‏<br />

شعريتَينْ‏ : ‏»عبير األرض«‏ عام 1956 ثم ‏»رحلة في<br />

أعماق الكلمات«‏ عام 1980، بعد ربع قرن على<br />

صدور األولى،‏ انشغل خالله الشاعر بدراسة األدب<br />

الشعبي من خالل منحة دراسية إلى أيرلندا ملدة<br />

عامي،‏ عاد بعدهما إلى القاهرة ليوجِّ‏ ه اهتمامه<br />

إلى حقل الدراسات الشعبية،‏ حيث أصدر ثالثة<br />

كتب هي:‏ ‏»الفولكلور ما هو؟«،‏ و»بين الفولكلور<br />

والثقافة الشعبية«،‏ و»عالم احلكايات الشعبية«‏<br />

الذي صدر بعد رحيله بعامي.‏<br />

وقد كان أول بروز السم الشاعر فوزي العنتيل<br />

في احلياة األدبية والشعرية املصرية حي أصبح<br />

واحداً‏ من الشعراء الثالثة الذين كونوا رابطة<br />

‏»النهر اخلالد«،‏ وهم:‏ محمد الفيتوري وكمال<br />

نشأت وفوزي العنتيل،‏ وائتلف في هذه الرابطة<br />

شعراء مصريون وسودانيون جمع بينهم امليل إلى<br />

نهج حترري وجتديدي واضح في اخلروج من أفق<br />

جماعة أبولّو،‏ واحلركة الشعرية الرومانسية إلى<br />

أعتاب احلركة الشعرية احلديثة،‏ التي جاءت<br />

مبنزلة ثورة في كل من اللغة واملضمون والصورة<br />

الشعرية،‏ وهي احلركة التي حلق بها الشعراء<br />

الثالثة بعد أن حققوا مزيداً‏ من نضج التجربة<br />

الشعرية واكتمالها.‏ وقد عكفت زوجة الشاعر<br />

ورفيقته في احلياة – بعد خمس وثالثي سنة<br />

12


الكويت عاصمة الثقافة اإلسالمية 2016<br />

13<br />

‏»أيها القمر«‏ مع الشاعر املصري فوزي العنتيل وأحلان البدايات


من غيابه – على قصائده وأعماله الشعرية التي<br />

لم يتضمنها ديواناه األول والثاني،‏ ورأت فيها ما<br />

يصلح إلضاءة البواكير األولى للشاعر،‏ والطبيعة<br />

الغنائية التي الزمته في مفتتح مسيرته الشعرية،‏<br />

والتمهيد الالزم والضروري لكل من يقترب من<br />

عالم الشاعر بالتذوق والدراسة والتحليل،‏ فكان<br />

ديوانه اجلديد ‏»أيها القمر«‏ الذي صدر أخيراً،‏<br />

والذي ميثل مفاجأة للحياة األدبية والشعرية،‏<br />

وإضاءة ملسيرة الشاعر منذ صباه املبكر ويفاعته<br />

وشبابه،‏ وهو فيها وبها يقدم لقارئه حلم البدايات،‏<br />

ويكشف عن املفاتيح واألسرار األولى،‏ ويقدم<br />

في كؤوس شعره املترعة جدلية الذات والوجود<br />

الذي متأله كائنات معذبة وأرواح هائمة،‏ تنسكب<br />

عليها أوهام الشاعر وخياالته،‏ حالماً‏ بحياة تشبه<br />

اخلميلة لشدوه وطيرانه وحتليقه وذوبانه فيها،‏<br />

وسرعان ما يفيق على نبض شعب يكافح ويناضل<br />

في سبيل حريته،‏ وانتصاره على قيوده وأغالله،‏<br />

مبدعاً‏ هذه اللوحة الشعرية املعبرة عن احلالني:‏<br />

وهمي يُصوّر لي السعادة جدوال<br />

نشوان كالقيثار بالنغماتِ‏<br />

والزهر فوق ضفافه متعانق<br />

في لهفة مشبوبة الهمساتِ‏<br />

وهمي يصوّر لي السعادة جدوالً‏<br />

يُطفي بأدمعه لهيب شكاتي<br />

يحنو على روحي،‏ فينضح جرحها<br />

وتذوب في أمواجه نفحاتي<br />

حتى إذا جمح احلنين وصفّ‏ قت<br />

روحي،‏ وصاح الشرق في جنباتي<br />

ودنوت أرشف من مباهج عرسه<br />

خمر املنى الوهاج كالقبلات<br />

أيْقَظتني من نشوتي،‏ وبَعثتْني<br />

شبحاً،‏ يئنّ‏ احلزن في قسماتي<br />

وعندما جتتاحه مع رفيقيه في رابطة النهر<br />

اخلالد عاصفة ثورة يوليو عام 1952، وتشتعل<br />

فيهم حرارة توهجها ونيران إبداعها،‏ يلقي الشاعر<br />

بنفسه وبشعره في حميّا هذا املعترك الوطني<br />

اجلديد هاتفاً:‏<br />

سمِّ‏ ها ما تشاءُ‏ ، لست أراها<br />

في فنون األسماء واألوصاف<br />

هي معنى في خاطري للبطوالتِ‏<br />

وللمجد واخللود الضافي<br />

وهي إن شئت ‏»ابنة النيل«‏ شبّت<br />

في الرياض العذراء فوق الضفافِ‏<br />

في رفيف الضياء،‏ أنبتها الفجرُ‏<br />

على شاطئ الغدير الصافي<br />

وسقاها النبع اإللهيُّ‏ خمراً‏<br />

من عبير اخلمائل الرفّ‏ ‏اف<br />

فسرى حلنها املعطّ‏ ‏رُ‏ روحاً‏<br />

ذاب في خَ‏ فْ‏ قهِ‏ النسيم الغافي<br />

زهرة النيل،‏ وابنة الشاطئن،‏<br />

وجنوى الحمام للصفصافِ‏<br />

وهبت عمرها ملجدك يا مصرُ‏<br />

ملجد األجيال واألسلافِ‏<br />

***<br />

ودنا الفجر فاحتمى<br />

شبحُ‏ الليل بالغصونْ‏<br />

وسرت نفحةُ‏ الرُّ‏ بى<br />

تنشرُ‏ العطر والفنون<br />

ومضى الركبُ‏ سابحاً‏<br />

في رؤى الشاطئ الحزين<br />

***<br />

أشرق الفجر بالضياء وطيف ال<br />

ليل يحبو على الضفاف احلبيبة<br />

وتهادى النشيد في مزهر األُف<br />

قِ‏ ، وفي هدأة الليالي الرهيبة<br />

عانق النهر واخلمائل وهْ‏ ناً‏<br />

فتغّ‏ نت به املروج القشيبة<br />

ودنا موكب الصباح وهبّت<br />

قسماتُ‏ مُ‏ رنّحاتٌ‏ رطيبة<br />

***<br />

ولعلّ‏ أجمل ما يصور لنا فوزي العنتيل شاعراً‏<br />

وإنساناً،‏ يكمن في هذه السطور التي كتبها عنه<br />

رفيقه في احلياة والشعر وفي رابطة النهر اخلالد<br />

الشاعر السوداني محمد الفيتوري حني يقول:‏<br />

‏»لو تصورت طفولة غريبة عرفت صرامة األبوة،‏<br />

العدد - 692 يوليو 2016<br />

14


الكويت عاصمة الثقافة اإلسالمية 2016<br />

وصرامة األرض،‏ وصرامة الواقع،‏ وصرامة<br />

الهزمية:‏ فهذه الطفولة هي طفولة الشاعر.‏ ولو<br />

تصورت مجتمعاً‏ مقفالً،‏ منغلقاً‏ على نفسه،‏ يكفر<br />

بكل القيم،‏ وبكل شيء،‏ ما عدا ماضيه العريق<br />

املشحون باخلرافات واملتناقضات والعقول<br />

الصفراء والوجوه العابسة في بالده،‏ الراضي<br />

في خمول:‏ فهذا هو املجتمع الثقافي الذي نشأ<br />

فيه.‏ ولو تصوَّرت إنساناً‏ طويلالً‏ نحيالً،‏ حزين<br />

الوجه،‏ رقيق املزاج،‏ يحمل داخل نفسه كلَّ‏ تلك<br />

الظروف:‏ إذن لتكونت لديك شخصية الشاعر<br />

فوزي العنتيل«.‏<br />

ثم يقول محمد الفيتوري في اللوحة القلمية<br />

البديعة التي رسمها لصديقه الشاعر:‏ ‏»وإذن<br />

فطبيعي جدّاً‏ أن يكون مفتاح هذا الواقع شاعراً،‏<br />

وأن يكون شعره انعكاساً‏ لواقعه،‏ وأن يكون شعره<br />

مثله حبّاً‏ للناس كلهم إال اجلانب الشرير فيهم،‏<br />

وعناقاً‏ للطبيعة كلها إال اجلانب غير املضيء<br />

منها،‏ وجتاوباً‏ بعيداً‏ عميقاً‏ عُمق ما في هذه<br />

احلياة من جتاوب.‏ والذى يلتقي عنده الدارسون<br />

لشعره،‏ أنه ظاهرة شعرية منبئة،‏ ونقلة فوقية<br />

رحبة للتعبير الشعبي اجلماعي املصري،‏ من دور<br />

جتربة املوال احمللية إلى دور التجربة الشعرية<br />

اإلنسانية«.‏<br />

يكمل هذه اللوحة القلمية البديعة التي<br />

تنطق بروح الشعر وتوهجه،‏ كما رسمها الشاعر<br />

املصور محمد الفيتوري لصديق ورفيق حياته في<br />

رابطة النهر اخلالد – ما عبر عنه الناقد الكبير<br />

د.‏ محمد مندور في تقدميه للديوان األول للشاعر،‏<br />

وهو ديوانه ‏»عبير األرض«.‏ بعد أن شدّ‏ انتباهه<br />

عكوف الشاعر على عالم القرية بهذا العمق<br />

والشمول،‏ منحازاً‏ إلى الفقراء املطحونني واألُجراء<br />

املستذلني قائالً:‏ ‏»لقد تقيد الشاعر مبذهب واحد<br />

هو صدق الوجدان وصدق التجربة البشرية،‏ وإن<br />

يكن وجدان الشاعر من االتساع بحيث لم ينطو<br />

على نفسه،‏ وال اقتصر على حياته اخلاصة،‏ بل<br />

شمل األرض والسماء والريف وأهله.‏ وتوحّ‏ دت فيه<br />

مشاعر اجلمال واإلحساس به،‏ سواء أكان هذا<br />

اجلمال شيئاً‏ ميُ‏ سّ‏ ، أم شوقاً‏ تهفو إليه الروح.‏<br />

وال غرابة في ذلك،‏ فاحلب هو منبع الشعر<br />

األصيل،‏ وهو ال يقتصر على حب املرأة أو حب<br />

الذات،‏ بل ميتد إلى حب الطبيعة،‏ بل وحب الله،‏<br />

فضلالً‏ عن حب املجتمع،‏ وحب الغير،‏ واحلنوّ‏ على<br />

آالم الناس وآمالهم«.‏<br />

يقول فوزي العنتيل في القصيدة التي حمل<br />

اسمها ديوانه األول ‏»عبير األرض«:‏<br />

مازلت أشدو،‏ وحلني يهزّ‏ حولي القرونا<br />

لقد بذرت غنائي،‏ في الكائنات،‏ حنينا<br />

فأزهرت كلماتي،‏ فوق الربى ياسمينا<br />

وشققّ‏ ت صرخاتي،‏ حناجرُ‏ الثائرينا<br />

فإنَّ‏ شعبيَ‏ ما عادَ‏ ضائعاً‏ مستكينا<br />

لقد أحبَّ‏ ضياء احلياة،‏ يهدي العيونا<br />

أحبَّ‏ فوق رباه،‏ هذا التراب الثمينا<br />

***<br />

يا أرضُ‏ ، يا أمُّ‏ ، إني ظامٍ‏ إلى فيض نورك<br />

فأنتِ‏ أفراح عمرٍ‏ ، عمّ‏ قْ‏ ته في جذورك<br />

إني خلطْ‏ تُ‏ دمائي وثورتي بعبيركْ‏<br />

فأَنْبتي في ضلوعي،‏ نور الضحى،‏ من بذورك<br />

ألشرب الفجر خمراً،‏ عتَّقْ‏ تُ‏ ها في ضميركْ‏<br />

إني أحبُّ‏ كِ‏ ، إني أُحبُّ‏ فيك وجودي<br />

يا أرض،‏ يا أمُّ‏ ، هبّت على صباي البعيد<br />

نسائمُ‏ الفجر تندى،‏ على خطايَ‏ الشريدِ‏<br />

***<br />

إني هنا يا حقولي،‏ يا جنتي يا خلودي<br />

مازلتُ‏ ، كاألمسِ‏ طفالً،‏ يُحبّ‏ كلَّ‏ الوجودِ‏<br />

مازلتُ‏ أنفخُ‏ نايَ‏ الضحى،‏ لشعبي الشهيدِ‏<br />

حتى يُفيق وميضي،‏ مدمدماً‏ كالرعودِ‏<br />

ولنتأمل معاً،‏ هذا التدفق الشعري اآلسر،‏<br />

وهذا االنسياب في التعبير والتصوير،‏ وهذا<br />

اإليقاع املوسيقي اجلياش،‏ الذي ظل يالزم شعر<br />

فوزي العنتيل،‏ من بداياته حتى خواتيمه،‏ وهذه<br />

اللغة الشفيفة الطيِّعة،‏ التي يصنع منها – بكل<br />

يُسر ومهارة – أبهاء عامله الشعري،‏ في تواضع<br />

الكبار،‏ وأصالة البنائني العظام.‏ وهو في هذه<br />

البواكير الشعرية،‏ التي متثل إبداع البدايات،‏<br />

وجينات التكوين األول،‏ وحتمل طقوس التقاليد<br />

والعادات واملوروثات الشعبية القدمية،‏ وروح<br />

15<br />

‏»أيها القمر«‏ مع الشاعر املصري فوزي العنتيل وأحلان البدايات


احلضارات املتعاقبة على مصر من فرعونية<br />

ومسيحية وإسلامية،‏ يفصح عن وجدان استقر<br />

فيه مخزون ذكرياته األولى،‏ وعن انتماء حميم<br />

إلى هذه البيئة املصرية الصميمة - في صعيد<br />

مصر - التي سبقه إلى التعبير عنها – ولكن بطريقته<br />

اخلاصة – الشاعر الكبير محمود حسن إسماعيل<br />

الذي يجمعه بالعنتيل انتماؤهما حملافظة أسيوط<br />

في قلب صعيد مصر.‏<br />

في قصيدته ‏»أيها القمر«‏ التي أصبحت عنواناً‏<br />

لديوانه اجلديد من شعر البواكير،‏ يقول فوزي<br />

العنتيل:‏<br />

هل في سمائك للحزين العاني<br />

يا بدر،‏ ترياقٌ‏ من األشجان؟<br />

الكون حولك ساكنٌ‏ متخشعٌ‏<br />

واألرض حتتك لُ‏ َّ ‏ةُ‏ البركانِ‏<br />

تلهو وتسبح في مياهك ضاحكاً‏<br />

فتُ‏ ‏صفّ‏ ‏قُ‏ األمواج للشطآنِ‏<br />

وجنومُ‏ ‏ك الزهراء غضّ‏ ‏ت طرْفها<br />

خجلاً‏ ، ملطلع وجهك الفتانِ‏<br />

باح الوجود بسرِّها،‏ فتحجّ‏ بت<br />

واحلسنُ‏ ال يخفى على الفنانِ‏<br />

***<br />

يا بدر أنت حقيقة طافت بها ال<br />

أوهام ترقصُ‏ في الدجى الوسنانِ‏<br />

نبع من األنوارِ‏ فجَّ‏ ‏رهُ‏ الهوى<br />

أضحت به األشجارُ‏ في فيضانِ‏<br />

عطرُ‏ األزاهر في الرياض سكبْتَهُ‏<br />

فانساب بين جداولٍ‏ ومغاني<br />

وخطرْتَ‏ في ظلل الغمام على الرُّبا<br />

متلفعاً‏ بقلائد املرجانِ‏<br />

مُ‏ توشِّ‏ ‏حاً‏ بالسّ‏ ‏حبِ‏ تشرقُ‏ باسماً‏<br />

بين اخلمائل،‏ كالربيع احلاني<br />

والعاشقون لنور وجهك خُ‏ شّ‏ ‏عاً‏<br />

يتقدمون إليك بالقربانِ‏<br />

ناجى األحبةُ‏ بدرهم،‏ فتمثلوا<br />

فيك احلبيبَ‏ ، ومُ‏ لهم التبيانِ‏<br />

أمؤذنٌ‏ يا بدر،‏ تهتف في السّ‏ ‏ما<br />

باسْ‏ ‏م العليِّ‏ الواحدِ‏ الدّ‏ يانِ‏<br />

أم شاعرٌ‏ سكب املساءُ‏ املُزهرُ‏<br />

في روحه قبساً‏ من التحنانِ‏<br />

فشدا بقيثارٍ‏ تردّد حلنهُ‏<br />

عطراً،‏ تضوّع في النسيم الواني<br />

أم عاشقٌ‏ مسَّ‏ الغرامُ‏ جفونَهُ‏<br />

فطوى جوانحهُ‏ على األحزانِ‏<br />

نشوان،‏ ضاق الكون عن أحامه<br />

فسما بها عن عالم اإلنسانِ‏<br />

عَ‏ برتْ‏ ضفافكَ‏ لوعتي،‏ فتقاسَ‏ ‏متْ‏<br />

أمواج ضوئك حيرتي وحناني<br />

أنا شاعرٌ‏ عصفت به ريحُ‏ النّوى<br />

فرمتْهُ‏ خلف حواجز النسيانِ‏ !<br />

وفي قصيدة عنوانها ‏»النسر اجلريح«،‏ يقدم<br />

الشاعر صورة لذاته وما امتلأت به من أصداء<br />

احلياة وحتديات الزمن،‏ وفواجع األيام،‏ وهو يرى<br />

في النسر اجلريح مقابلاً‏ فنيّاً‏ له في رفرفته<br />

وحتليقه،‏ وضعفه وانكساره،‏ وجترؤ الطيور على<br />

نقْره واستغال مواطن ضعفه،‏ فيقول:‏<br />

هبط النسر من رحاب سمائه<br />

مُ‏ غلقاً‏ روحهُ‏ على أرزائه<br />

طاوياً‏ قلبهُ‏ الكبير على الرحِ‏<br />

مُ‏ ذيباً‏ أحزانهُ‏ في إبائه<br />

غرَّ‏ هُ‏ السَّ‏ فحُ‏ ترقص الطير فيه<br />

بن أعشابه وسحر رُوائه<br />

غرّهُ‏ الدولُ‏ املرنّ‏ ُ ،<br />

تسري همساتُ‏ الغصون في أنحائه<br />

والعصافيرُ‏ حُ‏ وُّ‏ مٌ‏ ،<br />

واثباتٌ‏ ، بن أضوائهِ‏ وزُرقة مائه<br />

فانثنى خافق الناحنْ‏ ، يطوي<br />

شاطئ األفق،‏ سابحاً‏ في رجائه<br />

فاحتوتهُ‏ حُ‏ بالةٌ‏<br />

أحكم الصائدُ‏ إرسالها على أرجائهْ‏<br />

***<br />

والناح الذي يُصفّ‏ ق للنجمِ‏<br />

ويروي أشواقهُ‏ من ضيائهُ‏<br />

نقرتْهُ‏ الطيورُ،‏<br />

***<br />

العدد - 692 يوليو 2016<br />

16


الكويت عاصمة الثقافة اإلسالمية 2016<br />

والطيرُ‏ تُغْ‏ رَى<br />

بالضعيف القويّ‏ في بُرحائه<br />

وأطلّ‏ الصباحُ‏ من كُ‏ وّة األفْ‏ قِ‏<br />

على شاطئ الزمانِ‏ السّ‏ جنيِ‏<br />

شارباً‏ أدمع الزهور،‏ مُ‏ ريقاً‏<br />

بسماتِ‏ الطيور فوق الغصونِ‏<br />

ومشى النسرُ‏ في القبور،‏ فدوَّتْ‏<br />

زعقاتُ‏ املُصفّ‏ دِ‏ احملزونِ‏<br />

غزلَ‏ الضوءُ‏ فوق جفنيْهِ‏ حُ‏ لماً‏<br />

ظامئَ‏ الشوقِ‏ ، مستهام احلننيِ‏<br />

مبهم اخلطوِ‏ ، شاحباً،‏ سكب النجمُ‏<br />

على ظلّه بقايا األننيِ‏<br />

***<br />

مدّ‏ عينيّه للسماءِ‏ ،<br />

وألقى<br />

ضعفهُ‏ املستباحَ‏ عبْرَ‏ الظنونِ‏<br />

رفرفت روحُ‏ ه،‏ فشدَّ‏ جناحا<br />

يضربُ‏ الريح،‏ عاصفاً‏ في جنونِ‏<br />

ناسياً‏ جرحهُ‏ العميقُ‏ ، وقيداً‏<br />

ضمَّ‏ فكّ‏ يْهِ‏ – كانطباقِ‏ املنونِ‏<br />

فهوى النسر خائراً‏ يتلوّى<br />

فوق آالمه أسير الشجونِ‏<br />

واجلناح اجلبار أثقله اليأسُ‏<br />

فأودى بقلبه املطعونِ‏<br />

***<br />

ومضى النسرُ‏ قصةً‏ ردَّدتْها<br />

همساتُ‏ األمواجِ‏ بني الصخورِ‏<br />

في صباحٍ‏<br />

يغشى الضبابُ‏ حوافيه<br />

فيهتزُّ‏ بالسّ‏ نا املقرورِ‏<br />

حطَّ‏ مته األقدار،‏ لم تُشفق الرِّيحُ‏<br />

على قلبه األبيِّ‏ الكسيرِ‏<br />

ال،‏ ولم تعطف الطيور عليه<br />

رُوحَ‏ ها،‏ في صراعهِ‏ املقهورِ‏<br />

يا صباحَ‏ األوهامِ‏<br />

مللمْ‏ رفات النسرِ‏ ؟<br />

وانضح جراحهُ‏ بالعطورِ‏<br />

روِّ‏ أحالمه اجلميلة،‏ واسكبْ‏<br />

فوق أشواقه دموع الغديرِ‏<br />

بأغاني الطيور،‏ ملْ‏ ءَ‏ لياليه،‏<br />

وعطِّ‏ رْ‏ أَجواءها بالزهورِ‏<br />

***<br />

إن يكن قد قضى،‏<br />

فإن أمانيه وأحالم صمته املسحورِ‏<br />

أطلقت رُوحَ‏ هُ‏<br />

فأبحر في األفْ‏ قِ‏<br />

إلى شاطئ الوجودِ‏ الكبيرِ‏<br />

بشراع مُ‏ نوَّ‏ رٍ‏ مستهامٍ‏<br />

دفَّ‏ في هدأة السكون املثيرِ‏<br />

ناشراً‏ في الغروب ظلَّ‏ جناحِ‏<br />

شاعريٍّ‏ يجوبُ‏ ليل العصورِ‏ !<br />

ونختتم هذه الرحلة الثرية مع بواكير شعر<br />

فوزي العنتيل،‏ بزغرودته للحرية،‏ واحتفاله<br />

بيوم التحرير،‏ وفرحته الغامرة بانتصار الوطن،‏<br />

وسموق رايته في أيدي شعبه العريق.‏ إنها فرحة<br />

النهر واألرض،‏ فرحةُ‏ الشرف والعِ‏ رْض،‏ وفرحة<br />

الذين كانوا مستضعفني في األرض،‏ فهبوا<br />

ينشُ‏ ‏دون اخلالص،‏ وأشرق يوم التحرير الذي<br />

يقول فيه:‏<br />

نورٌ‏ على األفْ‏ ق البعيدِ‏<br />

وغيمة بيضاءُ‏ حفّ‏ ت فجْ‏ ركَ‏ املوعودا<br />

ورؤى شراع سابحٍ‏<br />

يطوي على ثبج البحار عواصفاً‏ ورعودا<br />

النهر صفّ‏ ق هائماً،‏ مُ‏ ترنِّحاً‏<br />

والروض رفَّ‏ أزاهراً‏ وورودا<br />

واهتزَّ‏ ليل الساهرينَ‏ ،<br />

وضوّأت قمم اجلبالِ‏ ،<br />

روابياً‏ ونُ‏ ودا<br />

يوم اخلالص طوى الوجود صباحُ‏ ه<br />

شوقاً،‏ ورفرف في الكنانةِ‏ عيدا<br />

***<br />

يا طاملا عانقتهُ‏ في خاطري<br />

حُ‏ لماً‏ على شغف اخليال وليدا<br />

***<br />

17<br />

‏»أيها القمر«‏ مع الشاعر املصري فوزي العنتيل وأحلان البدايات


قبّلْتُ‏ حلنك في شفاه مزاهري<br />

وعزْفتُ‏ صُ‏ بْحكَ‏ للزمان نشيدا<br />

وهتفتُ‏ باسمك شادياً‏ مترنمِّ‏ ‏ا<br />

ونظمتهُ‏ للملهمين عقودا<br />

يا حسن عوْدكَ‏ ، بعد أن عصف األسى<br />

بالنيل،‏ يرعش ضفتيْهِ‏ شرودا<br />

***<br />

سبعون عاما في القيود،‏ فما ترى<br />

إال أسيراً‏ مُ‏ جهداً‏ مكدودا<br />

سبعون عاما يا زمان جتمَّ‏ ‏دتْ‏<br />

فيها السنون،‏ فما نُحسُّ‏ وجودا<br />

سبعون عاما من عذابك،‏ ليلها<br />

سُ‏ ‏هْ‏ دٌ‏ ترامى خلْفنا مشدودا<br />

ضربت يد الفوالذ حول جراحنا<br />

سدّ‏ اً،‏ وشدَّ‏ الظاملون قيودا<br />

سبعون عاما،‏ كلَّما نضج األسى<br />

في وهمنا عاد الشقاءُ‏ جديدا<br />

***<br />

والشعب،‏ كان الشعب قصة تاجرٍ‏<br />

يقتاتُ‏ أنّات الشعوب رغيدا<br />

عصر الدموع بكأسه،‏ وبنى له<br />

قصراً‏ على أرض اجلراح مَشِ‏ ‏يدا<br />

الشعب،‏ كان الشعب دمية عابثٍ‏<br />

يلهو،‏ وكان الكادحون عبيدا<br />

البؤس والشوك املدُ‏ مَّ‏ ‏ى زادُ‏ هم<br />

واليأس كان لهم لظً‏ ‏ى ووقودا<br />

***<br />

الهائمون بكلمِّ‏ أرض،‏ ال ترى<br />

إال شقيّاً‏ منهمو،‏ وشريدا<br />

الشاربون دموعهم في حرّها<br />

نارٌ‏ تُ‏ زمِّقهم،‏ أسً‏ ‏ى وهمودا<br />

الكادحون املجهدون،‏ هوى بهم<br />

لهبُ‏ احلقول على احلقول حصيداً‏<br />

الكادحون على ضراعات الدجى<br />

النائمون على التراب قُ‏ عودا<br />

كم من شقيٍّ‏ بات قيْدَ‏ دموعه<br />

ومُ‏ شرَّ‏ دٍ‏ ، عبرَ‏ احلياةَ‏ شهيدا<br />

مات الصباح على شكاية نايهِ‏<br />

فمشى على أشلائهِ‏ مصفودا<br />

لفّ‏ الضبابُ‏ شراعهُ‏ ، يرمي به<br />

فوق العباب مُ‏ شرَّ‏ داً‏ منكودا<br />

يتقاذف املوجُ‏ العتيُّ‏ مصيرهُ‏<br />

والريح تطوي حُ‏ لمه املوءودا<br />

وهنا وراء الغيب كانت قصة<br />

حمراء،‏ ينسجها القضاءُ‏ بعيدا<br />

عاشت بآفاق النجوم على الذرى ال<br />

مجهولِ‏ تصنع يومك املشهودا<br />

***<br />

فتيانُك األحرار حين دعوتهم<br />

طاروا على لهب احلتوف أسودا<br />

واستقبل الليل الرهيب كتائباً‏<br />

كالبحر ثار شواطئا وسدودا<br />

وطفت على األفق القتيم مشاعل<br />

نفضتْ‏ عليك شعاعها املمدودا<br />

***<br />

في وثبة التحرير حين ترّدتْ‏<br />

آالم سجنك،‏ فاحتوتْك خلوداً‏<br />

وهبتْك مجداً،‏ أنت في قانونه<br />

شعب يسودُ‏ ، وكنت قبلُ‏ مَسُ‏ ‏وداً‏<br />

كسَّ‏ ‏رت قيدك،‏ وانطلْقتَ‏ مُ‏ غرمِّداً‏<br />

نشوان حتتضن الوجود سعيداً‏<br />

غنَّتْ‏ بثورتك احلياةُ‏ ماحماً‏<br />

ملأت بها قمم الرُّ‏ بى ترديداً‏<br />

دقَّ‏ الصباحُ‏ على شجيمِّ‏ حلونها<br />

ومشى احلنينُ‏ بها،‏ فلفَّ‏ البيدا<br />

وأضاءت الدنيا على أنغامها<br />

يوماً‏ تألق في الزمان فريداً‏<br />

وشكراً‏ لزوجة الشاعر ورفيقة حياته،‏ التي<br />

استطاعت بعد رحيله بخمسة وثالثني عاماً،‏<br />

أن تبحث عن بواكيره الشعرية،‏ وأن تُصنّفها<br />

وتُ‏ قّقها،‏ ليكون منها هذا الديوان اجلديد<br />

البديع ><br />

***<br />

العدد - 692 يوليو 2016<br />

18


أوراق أدبية<br />

الكويت عاصمة الثقافة اإلسالمية 2016<br />

عن شِ‏ عْ‏ رية أمل دنقل<br />

د.‏ جابر عصفور<br />

تتميز صور أمل دنقل الشعرية بالغرابة والجسارة والجدة على السواء،‏<br />

ولهذا تفاجئنا قصائده بمفرداتها التي تبدو رمزية أحيانا،‏ وواقعية في<br />

أحيان أخرى،‏ وعلى المستوى البالغي تتراوح ما بين الكنائية واالستعارية<br />

واضعة مكاناً‏ خاصاً‏ للتشبيه.‏<br />

خذ مثالً‏ هذه الصورة التي يستهل بها قصيدته<br />

‏»سفر ألف دال«،‏ حيث نقرأ فيها:‏<br />

القطارات ترحل فوق قضيبين ما كان – ما<br />

سيكون<br />

والسماء رماد،‏ به صنع املوت قهوته،‏<br />

ثم ذراه كي تتنشقه الكائنات<br />

فينسل بن الشراين واألفئدة<br />

وقارنها بالصورة التالية:‏<br />

على محطات القرى...‏<br />

ترسو قطارات السهاد<br />

فتنطوي أجنحة الغبار في استرخاءة الدنو<br />

والنسوة املتشحات بالسواد<br />

حتت املصابيح،‏ على أرصفة الرسو<br />

ذابت عيونهن في التحديق والرنو<br />

على وجوه الغائبن منذ أعوام احلداد<br />

تشرق من دائرة األحزان والسلو<br />

ينتظرن...‏ حتى تتآكل العيون<br />

تتآكل الليالى<br />

تتآكل القطارات من الرواح والغدو<br />

والغائبون في تراب الوطن - العدو<br />

ال يرجعون للبالد<br />

ال يخلعون معطف الوحشة عن مناكب األعياد!‏<br />

وإذا تأملنا هاتني الصورتني متكاملتني الحظنا<br />

أن كلتيهما تتحدث عن قطارات؛ األولى تتحدث<br />

عن قطارات ترحل بني املاضي واملستقبل،‏ والثانية<br />

عن قطارات ترحل من محطات القرى.‏ كأن<br />

العنصر املشترك بني الصورتني هو تصوير حلظة<br />

املا بني التي ميكن أن يتحقق ما بعدها إما سلباً‏ أو<br />

إيجاباً.‏ فهي صور تتراوح ما بني املاضي واملستقبل<br />

أو ما بني احللم والكابوس.‏ واملوت عنصر تكويني<br />

أساسي في الصورتيني،‏ ففي الصورة األولى<br />

السماء تتحول إلى رماد يصنع به املوت قهوته ثم<br />

يذروه كي تتنشقه الكائنات،‏ فينسل بني الشرايني<br />

واألفئدة،‏ وهو معنى رمزي يشير إلى أن املوت<br />

يتسرب في الهواء كالرماد،‏ متخلالً‏ كل شيء.‏<br />

ولذلك ال يبقى شيء حياً‏ وال يبقى شيء ثابتاً،‏<br />

فكل شيء يفر خالل الزجاج الذي ينظر منه راكب<br />

القطار إلى ما هو خارج النافذة،‏ سواء كان ما في<br />

اخلارج رذاذ غبار أو صوت الريح أو قنطرة النهر<br />

أو سرب العصافير واألعمدة،‏ كل شيء مير سريعاً‏<br />

على العني املستقرة في القطار،‏ فال يبقى شيء<br />

19<br />

عن شعرية أمل دنقل


ثابتاً‏ وال تستطيع اليد أن متسك بأي شيء وال<br />

حتى أن متضي العين مع أحالمها.‏ وأخيراً‏ تظل<br />

رحلة القطارات مستمرة.‏ لكنّ‏ الراحلن يصلون<br />

وال يصلون.‏ وليس القطار هنا سوى تعبير رمزي<br />

عن رحلة احلياة ما بن ماضي البشر ومستقبلهم،‏<br />

لكن من الواضح أن املستقبل يبدو معتماً‏ إلى<br />

درجة تدني بينه واملوت،‏ وهو املعنى الذي يحمله<br />

املقطع الثاني املرتبط مبحطات القرى،‏ حيث<br />

تتحول القطارات إلى قطارات للسهاد الذي ال<br />

ترى فيه األعن النوم وال تلمح سوى أجنحة الغبار<br />

املتطاير الذي تهدأ حركته في استرخاءة الدنو،‏<br />

فال نرى في ما عداه سوى النسوة املتشحات<br />

بالسواد،‏ ذابت أعينهن من التحديق والتطلع إلى<br />

وجوه الغائبين منذ أعوام احلداد.‏ واملقصود هنا<br />

أعوام هزمية 1967 التي رسمت كل شيء بالسواد<br />

وأطلقت املوت كالغبار على كل محطات احلياة،‏<br />

حيث لم يبق سوى النسوة املتشحات بالسواد<br />

وهن يتطلعن إلى هذا القطار لعله يحمل أبناءهن<br />

الغائبين،‏ ويطول انتظارهن حتى تتآكل العيون،‏<br />

كناية عن ال نهائية أيام االنتظار،‏ وتتآكل الليالي<br />

التي ال تتوقف عن املرور بل تتآكل القطارات من<br />

الرواح والغدو،‏ ولكن الغائبن عن تراب الوطن<br />

الذي أصبح كاجلمر،‏ يضيق بأبنائه ويلقي بهم<br />

إلى املوت فيصبح صورة أخرى من العدو.‏ ويطول<br />

االنتظار باألمهات املتشحات بالسواد،‏ ولكن<br />

األبناء ال يرجعون إلى البالد وال يبعثون شيئاً‏ من<br />

الفرح أو األمل في مناسبات األعياد.‏ والفارق<br />

بن الصورتن هو الفارق بن قصيدة ‏»سفر ألف<br />

دال«‏ املتأخرة نسبياً‏ وقصيدة ‏»املوت في الفراش«‏<br />

التي كتبها أمل في أعوام سابقة،‏ ونشرها في<br />

ديوانه األول،‏ وما بن القصيدتن تتنوع صور أمل<br />

كالعادة،‏ فلال يكتفي بالرمزية التي تفترش دوالها<br />

الصورتن األولين،‏ بل متضي قصائده منطوية<br />

على غبار املوت الذي ينسل في كل قصائده.‏<br />

وميكن أن نضع إلى جانب هاتن الصورتن،‏<br />

صورة كنائية موجودة في قصيدة ‏»املوت في<br />

الفراش«،‏ خصوصاً‏ املقطع الثاني منها،‏ حيث<br />

نقرأ:‏<br />

نافورة حمراء<br />

طفل يبيع الفل بني العربات<br />

مقتولة تنتظر السيارة البيضاء<br />

كلب يحك أنفه على عمود النور<br />

مقهى،‏ ومذياع،‏ ونرد صاخب،‏ وطاوالت<br />

ألوية ملوية األعناق فوق الساريات<br />

أندية ليلية<br />

كتابة ضوئية<br />

الصحف الدامية العنوان:‏ بيض الصفحات.‏<br />

حوائط،‏ وملصقات...‏<br />

تدعو لرؤية ‏)األب اجلالس فوق الشجرة(‏<br />

والثورة املنتصرة!‏<br />

ومجمل األسطر السابقة يصنع كناية ضخمة،‏<br />

تتكون من مجموعة من الكنايات الصغيرة.‏<br />

والطابع البصري غالب عليها متاماً،‏ فهي أسطر<br />

تخاطب العن وجتذبها إليها.‏ وهذه من خصائص<br />

الكناية في البالغة العربية،‏ فالكناية غالباً‏ ما<br />

تنطوي على إحساس بصري،‏ وال تخلو األسطر<br />

من سخرية ‏)األب اجلالس فوق الشجرة(‏ والثورة<br />

املنتصرة؛ فاألب اجلالس فوق الشجرة إشارة إلى<br />

فيلم شهير لعبداحلليم حافظ عن قصة إلحسان<br />

عبدالقدوس،‏ مؤداها أن أحد اآلباء ذهب ابنه إلى<br />

اإلسكندرية لقضاء عطلة الصيف،‏ وبلغ األب أن<br />

ابنه انحرف على يد راقصة في أحد املالهي،‏<br />

فيذهب األب لينقذ االبن،‏ ولكنه بدالً‏ من ذلك يقع<br />

هو في فخ الغواية.‏ وهكذا أصبح كالطائر الذي وقع<br />

في شراك أحد الفخاخ املنصوبة فوق شجرة من<br />

أشجار الغابة.‏ واملفارقة واضحة متاماً‏ في الفارق<br />

الكبير والساخر ما بن فيلم يتحدث عن غواية<br />

أب وابنه والثورة املنتصرة التي لم تشهد انتصاراً‏<br />

حقيقياً‏ قط،‏ كما لو كانت حالها حال األب الذي<br />

ذهب إلنقاذ ابنه من الغواية فوقع فيها.‏ ولو عاودنا<br />

النظر في مجموع األسطر السابقة الكتشفنا أنها<br />

مجموعة من املشاهد املتالصقة واملتجاورة على<br />

طريقة التقطيع السينمائي للمشاهد التي ترينا<br />

عدداً‏ غير قليل من املشاهد املوصولة التي قصد<br />

بها أن تؤدي انطباعاً‏ كلياً‏ عما كان يحدث في عالم<br />

املدينة الكبيرة في سنوات الهزمية التي جاءت في<br />

أعقاب 1967. ولذلك فهي مشاهد يفترشها املوت<br />

بشكل أو آخر،‏ فهناك – أوالً‏ - مشهد املقتولة التي<br />

العدد - 692 يوليو 2016<br />

20


الكويت عاصمة الثقافة اإلسالمية 2016<br />

دهستها سيارة عجلى،‏ وهناك – ثانياً‏ - النافورة<br />

احلمراء كلون الدم املسفوح في هزمية 1967،<br />

وهناك – أخيراً‏ - الصحف الدامية العنوان.‏ وقد<br />

ال يكون املوت مذكوراً‏ على نحو مباشر في الصور<br />

اجلزئية السابقة،‏ ولكن احلمرة املالزمة للعناوين<br />

هي الزمة من لوازم صور املوت.‏<br />

هذا املوت يفترش الصور الشعرية ألمل دنقل،‏<br />

خصوصاً‏ في ديوانه األول ‏»البكاء بني يدي زرقاء<br />

اليمامة«،‏ الذي جاء بعد هزمية 67 ليؤكد احتجاج<br />

الشاعر عليها،‏ وإدانته لكل األسباب التي أدت<br />

إليها،‏ ومنها غياب الدميقراطية،‏ واالستبداد الذي<br />

لم يسمح بوصول األصوات الصادقة املخلصة<br />

للقيادة السياسية في ذلك الوقت،‏ حتذيراً‏ لها من<br />

السقوط في الفخ الذي كان منصوباً‏ لها،‏ ولذلك<br />

21<br />

عن شعرية أمل دنقل


فاحلزن والغضب هما النغمتان التحتيتان اللتان<br />

تستند إليهما أغلب صور ديوان ‏»البكاء بني يدي<br />

زرقاء اليمامة«،‏ وهو عنوان يلفت االنتباه بالكلمة<br />

االستهاللية فيه،‏ وهي كلمة ‏»البكاء«‏ التي ليست<br />

بكاء على األطالل وإمنا بكاء على الشهداء الذين<br />

سقطوا في حرب 67، وسخرية من السياسات<br />

التي أدت إليها،‏ ولذلك تتناثر في الديوان الصور<br />

الكنائية املوجوعة واحلزينة واإلنسانية في الوقت<br />

نفسه.‏ ومن هذه الصور الدالة بالتأكيد،‏ الصورة<br />

التالية التي تتصدرها أرملة أحد الشهداء في<br />

احلرب:‏<br />

من شرفتي كنت أراها في صباح العطلة الهادئ<br />

تنشر في شرفتها على خيوط النور والغناء<br />

ثياب طفليها،‏ ثياب زوجها الرسمية الصفراء<br />

قمصانه املغسولة البيضاء<br />

تنشر حولها نقاء قلبها الهانئ وهي تروح وجتيء<br />

... ... ...<br />

واآلن بعد أشهر الصيف الرديء<br />

رأيتها...‏ ذابلة العينني واألعضاء<br />

تنشر في شرفتها على حبال الصمت والبكاء<br />

ثيابها السوداء!‏<br />

وواضح أننا هنا إزاء كناية ممتدة تتكون من<br />

مقطعيني،‏ املقطع األول مملوء بالبهجة والنور<br />

والغناء املقترن بالهناء واآلمال.‏ وكلها صفات<br />

للعالم البهيج الذي تعيش فيه زوجة أحد الضباط<br />

الذين حاربوا في العام السابع والستني،‏ ويأتي<br />

نقيض هذا القسم ختاماً‏ للكناية املركبة عما<br />

حدث بعد أشهر الصيف الرديء الذي وقع في<br />

شهر يونيو 1967، فينقلب املشهد ونرى املرأة<br />

نفسها ذابلة العينيني واألعضاء.‏ وذبول العني<br />

كناية عن كثرة البكاء واحلزن،‏ أما ذبول األعضاء<br />

فكناية موازية عن هزال اجلسد بعد صدمة حزن<br />

موجعة إلى أبعد حد،‏ وضياع الثقة في املستقبل،‏<br />

ولذلك تقترن باألسطر الكنائية استعارة مكنية<br />

نراها في حبال الصمت والبكاء التي يأتي بعدها<br />

ما يوضحها من إشارة إلى الثياب السوداء التي<br />

أصبحت ترتديها أرملة الشهيد بعد أن كانت<br />

ترتدي الثياب امللونة البهيجة.‏ والسواد هنا هو<br />

لون املشهد،‏ ولون املأساة على السواء.‏ ومتتد<br />

الصور الكنائية املركبة عند أمل دنقل لتمأل<br />

قصيدة ‏»فقرات من كتاب املوت«،‏ حيث نقرأ:‏<br />

كل صباح..‏<br />

أفتح الصنبور في إرهاق<br />

مغتسالً‏ في مائه الرقراق<br />

فيسقط املاء على يدي...‏ دما!‏<br />

.. ... ...<br />

وعندما أجلس للطعام...‏ مرغماً‏<br />

أبصر في دوائر األطباق<br />

جماجماً...‏<br />

جماجماً...‏<br />

مفغورة األفواه واألحداق!‏<br />

وإذا عدنا إلى تأمل الصورة الكنائية في<br />

مجملها،‏ جند أن الواقعية فيها موجعة،‏ فهي عن<br />

مواطن بائس،‏ بؤسه مقترن بإرهاقه من كوارث<br />

احلياة اليومية التي يعيشها،‏ ومن ثم يفتتح<br />

صباحه مرهقا،‏ محطم األعضاء فال ميلك إال<br />

أن يفتح صنبور املاء كي يغسل وجهه في إرهاق،‏<br />

ولكن املاء بدل أن يسقط على وجهه،‏ كما توقعنا،‏<br />

يتحول إلى دم.‏ والصدمة مقصودة،‏ ويراد بها<br />

إيقاظ وعي القارئ ولفت انتباهه إلى العالم الذي<br />

أصبح يعيش فيه،‏ وهو عالم محاصر باملوت.‏ ولكي<br />

يتأكد حضور هذا العالم منضي مع بقية الصورة<br />

الكنائية،‏ فيجلس املواطن نفسه للطعام مرغماً‏<br />

من اآلخرين أو مرغماً‏ من نفسه،‏ فهو ال شهية<br />

له على وجه اليقني بسبب احلزن األسود الذي<br />

يعيش فيه.‏ وتتكرر املفاجأة كما حدث في املقطع<br />

األول،‏ فبدالً‏ من أن يرى الطعام في األطباق،‏<br />

يرى جماجم املوتى الذين سقطوا في حرب 67،<br />

مفغورة األفواه واألحداق،‏ كأنها تنقل إليه دهشتها<br />

وصرخة األلم الفظيع الذي عانته قبل موتها.‏<br />

وما أكثر الصور الدالة على املوت في الديوان<br />

األول ألمل دنقل،‏ وقد سبق لي أن قدمت حتليالً‏<br />

نقدياً‏ لقصائد من طراز ‏»البكاء بني يدي زرقاء<br />

اليمامة«‏ وغيرها من الصور في القصائد التي<br />

كانت ترهص بهزمية 67. ولكني أحب أن أتوقف<br />

عند قصيدة أجدها دالة على احلزن واملوت<br />

اللذين ينسربان في أغلب القصائد،‏ إن لم يكن<br />

كل قصائد ‏»البكاء بيني يدي زرقاء اليمامة«.‏<br />

العدد - 692 يوليو 2016<br />

22


الكويت عاصمة الثقافة اإلسالمية 2016<br />

ومن هذه القصائد قصيدة ‏»صفحات من كتاب<br />

الصيف والشتاء«،‏ التي تتكون من ثالثة مقاطع،‏<br />

املقطع األول بعنوان:‏ ‏»حمامة«،‏ وميضي كالتالي:‏<br />

حني سرت في الشارع الضوضاء<br />

واندفعت سيارة مجنونة السائق<br />

تطلق صوت بوقها الزاعق<br />

في كبد األشياء<br />

تفزعت حمامة بيضاء<br />

‏)كانت تقف على متثال نهضة مصر...‏<br />

حتلم في استرخاء(‏<br />

... ... ...<br />

طارت وحطت فوق قبة اجلامعة النحاس<br />

الهثة تلتقط األنفاس<br />

وفجأة:‏ دندنت الساعة<br />

ودقت األجراس<br />

فحلقت في األفق – مرتاعة<br />

... ... ...<br />

أيتها احلمامة التي استقرت<br />

فوق رأس اجلسر<br />

‏)وعندما أدار شرطي املرور يده<br />

ظننته ناطوراً...‏ يصد الطير<br />

فامتألت رعبا!(‏<br />

أيتها احلمامة التعبى:‏<br />

دوري على قباب هذه املدينة احلزينة<br />

وأنشدي للموت فيها...‏ واألسى...‏ والذعر<br />

حتى نرى عند قدوم الفجر جناحك امللقى...‏<br />

على قاعدة التمثال في املدينة<br />

وتعرفني راحة السكينة!‏<br />

والصورة الكنائية املمتدة في هذا املقطع،‏<br />

تشير إلى حمامة فعلية على مستوى احلقيقة،‏<br />

ونرى ما يحدث لهذه احلمامة عندما تفزع من<br />

صوت بوق سيارة يقودها سائق ال يعرف التعقل<br />

وبأقصى سرعة دون أن يراعي شيئاً،‏ فتفزع<br />

احلمامة البيضاء التي كانت ترقد فوق متثال<br />

نهضة مصر الذي يقبع في مدخل جامعة القاهرة<br />

ما بني حديقتي احليوان واألورمان.‏ ويقضي فزع<br />

هذه احلمامة على أحالمها في استرخاءتها<br />

الهادئة فوق متثال نهضة مصر،‏ فتطير مفزوعة<br />

إلى أن حتط فوق قبة جامعة القاهرة الهثة<br />

تلتقط أنفاسها،‏ لكن قبة اجلامعة جتاور ساعتها<br />

التاريخية التي تدق دقات مزعجات،‏ فتعاود<br />

احلمامة الطيران مرتاعة إلى أن تستقر فوق<br />

رأس اجلسر،‏ أول كوبري اجلامعة،‏ لكنها ترى<br />

شرطي املرور الذي يحرك يده لينظم السير،‏<br />

فتظنه حارساً‏ يصد الطير،‏ فتمتلئ رعباً‏ وتعاود<br />

الطيران إلى أن يعاجلها املوت فترمتي مع قدوم<br />

الفجر محطمة على قاعدة متثال نهضة مصر.‏<br />

وينتهي فزعها مع املوت،‏ ولكن هذه احلمامة<br />

من ناحية أخرى ينبغي أن نقرأها على املستوى<br />

الرمزي،‏ فنرى فيها رمز األمان والسالم والهدوء<br />

والسكينة،‏ وهي املفردات التي تواجه دائماً‏ بكل ما<br />

يقطع أمامها طريق احلضور في احلياة،‏ فتغادر<br />

املدينة السكينة ويرحل عنها األمان ويغيب في<br />

لهيبها السلالم فتغدو هذه املدينة بال سلالم وال<br />

هدوء وال سكينة وال حتى براءة،‏ وكلها مجازات<br />

ملا ينسرب في شوارع مدينة ال تعرف سوى كل<br />

ما يطارد كل الدوال واملدلوالت التي تشير إليها<br />

رمزية احلمامة التي تدور على قباب مدينة حزينة<br />

كأنها تنشد فيها للموت واألسى والذعر،‏ وسرعان<br />

ما نرى هذه احلمامة بكل ما ترمز إليه ملقاة عند<br />

قدوم الفجر على قاعدة متثال نهضة مصر،‏ وكأن<br />

هذه احلمامة هي دوال ومدلوالت الرمز الذي ال<br />

يعرف راحة السكينة إال في املوت.‏<br />

ويأتي املقطع الثاني مبزيد من كنايات احلزن<br />

واملوت،‏ وهو بعنوان:‏ ‏»ساق صناعية«،‏ وميضي<br />

كالتالي:‏<br />

في الفندق الذي نزلت فيه قبل عام<br />

شاركني الغرفة<br />

فأغلق الشرفة<br />

وعلق ‏»السترة«‏ فوق املشجب املقام<br />

وعندما رأى كتاب ‏»احلرب والسالم«‏<br />

بني يدي إربد وجهه<br />

ورف جفنه...‏ رفة<br />

فغالب الرجفة<br />

وقص عن صبية طارحها الغرام<br />

وكان عائداً‏ من احلرب...‏ بال وسام<br />

فلم تطق ضعفه<br />

ولم يجد-‏ حني صحا-‏ إال بقايا اخلمر والطعام!‏<br />

23<br />

عن شعرية أمل دنقل


... ... ...<br />

ثم روى حكاية عن الدم احلرام<br />

)... الصحراء لم تطق رشفة:‏<br />

فظل فيها،‏ يشتكي ربيعه صيفه...(‏<br />

وظل يروي قصصه احلزينة اخلتام<br />

حتى تالشى وجهه<br />

في سحب الدخان والكالم<br />

وعندما حتشرج الصوت به،‏ وطالت الوقفة<br />

أدرت رأسي عنه...‏<br />

حتى ال أرى دمعته العفة<br />

ومن خاليا جسدي تفصد احلزن...‏<br />

... وبلل املسام<br />

... ... ...<br />

وحني ظن أنني أنام<br />

رأيته يخلع ساقه الصناعية في الظالم<br />

مصعداً‏ تنهيدة...‏<br />

قد أحرقت جوفه!‏<br />

وما أكثر احلزن في هذا املقطع السردي<br />

الذي نرى فيه الصوت الذي ميثل الشاعر<br />

الذي ينام في إحدى غرف الفنادق الرخيصة،‏<br />

ويتصادف أن يشاركه الغرفة واحد من جرحى<br />

حرب 67 الذي يدخل الغرفة لينام فيها في<br />

سرير مواجه لسرير الشاعر،‏ وتنفتح حدقتا<br />

عني الشاعر لتلتقط دقائق هذا املشهد الذي<br />

يربد فيه وجه اجلندي حيني يرى عنوان كتاب<br />

‏»احلرب والسلام«‏ بني يدي ساكن الغرفة<br />

قبله،‏ فقد ذكره العنوان باحلرب التي يسقط<br />

فيها مئات القتلى،‏ إن لم يكن آالف من الذين<br />

تركهم صرعى من زمائه وأصدقائه على أرض<br />

احلرب،‏ فغالب رجفته وحزنه،‏ ولكي يتخلص<br />

من هذا احلزن،‏ انطلق يحكي لزميله في الغرفة<br />

عن صبية أحبها بعد أن عاد من احلرب با<br />

شيء يشرفه،‏ حاماً‏ عار الهزمية،‏ هذا العار<br />

الذي حتول إلى ضعف شديد أقرب ما يكون<br />

إلى العجز اجلنسي،‏ ففارقته املرأة وهو نائم،‏<br />

فلم يجد حني صحا في الصباح،‏ سوى بقايا<br />

وليمة املساء.‏ وبعد ذلك انطلق يحكي عن<br />

الدماء احلرام التي ظلت مراقة على أرض<br />

الصحراء التي لم تستطع أن متتصها لكثرتها،‏<br />

وظل يروي قصص احلرب احلزينة اخلتام<br />

وينفث دخاناً‏ مأل الغرفة كلها.‏ وانتهت حكاياته<br />

بالدموع التي أخذت تترقرق من عينيه وحشرجة<br />

الصوت التي أوقفت كامه،‏ فنقل حزنه إلى<br />

زميله في الغرفة الذي غرق بدوره في حزنه،‏<br />

وعندما ظن احملارب أن زميله في الغرفة قد<br />

نام،‏ خلع ساقه الصناعية في الظام،‏ مصعداً‏<br />

تنهيدة بدت كما لو كانت قد أحرقت جوفه.‏<br />

والرمزية منسربة في هذه الصورة الكنائية<br />

املركبة التي تبدو وكأنها أقرب إلى مشهد<br />

قصصي أو مشهد سينمائي،‏ فالبصرية فيها<br />

غالبة وطاغية،‏ والغرفة التي يقطنها احملارب<br />

املهزوم والراوي الشاعر نراها بعني اخليال،‏ كما<br />

لو كنا نشاهدها على شاشة السينما.‏ وال يتردد<br />

أمل دنقل في استخدام احليل السينمائية التي<br />

تعلم استخدامها في بناء قصائده من قطع أو<br />

وصل أو ترتيب أو تقريب up( ،)close حيث<br />

يجعلنا نحن القراء كما لو كنا نشاركه في هذه<br />

الغرفة ونشعر مبشاعره احلزينة ونتنهد أسى<br />

وحزناً‏ على هذا احملارب املهزوم الذي يعدينا<br />

بانكساره وهزميته،‏ ويتحدث عن املوت والدم<br />

املراق في الصحراء.‏ لكن الرمزية املنسربة<br />

في الكناية جتعل من الرجل الذي فقد ساقه<br />

في احلرب مثاالً‏ على غيره من الذين فقدوا<br />

أعضاءهم،‏ واملثال دال على عديد غيره مبا<br />

يقودنا إلى التمثيل الذي يدخل مبمثوالته إلى<br />

دائرة الرموز.‏<br />

أما املقطع الثالث فهو بعنوان:‏ ‏»شتاء<br />

عاصف«،‏ ويصف فيه الشاعر مدينة اإلسكندرية<br />

التي كتب فيها هذه القصيدة في ما يبدو،‏ ونقرأ<br />

في هذا اجلزء:‏<br />

كان ‏»ترام الرمل«‏<br />

منبعجا كامرأة في أخريات احلمل<br />

وكنت في الشارع أرى شتاء ‏)الغضب الساطع(‏<br />

يكتسح األوراق واملعاطفا<br />

وكانت األحجار في سكونها الناصع<br />

مغسولة باملطر الذي توقفا<br />

وكان في املذياع<br />

أغنية حزينة اإليقاع<br />

العدد - 692 يوليو 2016<br />

24


الكويت عاصمة الثقافة اإلسالمية 2016<br />

عن ‏)ظالم القيت منه ما كفى..(‏<br />

قد ‏)علموه كيف يجفو...‏ فجفا(‏<br />

وفي هذا املقطع نرى عدداً‏ من التقنيات<br />

الالفتة التي كان يستغلها أو يستخدمها أمل<br />

دنقل في كتاباته،‏ أوالها جسارة التشبيه حني<br />

نرى ترام الرمل،‏ وهو اسم الترام الذي ينطلق<br />

ويعود إلى محطة الرمل في اإلسكندرية،‏ منبعجاً‏<br />

كامرأة في أخريات احلمل.‏ والتشبيه غريب وبالغ<br />

اجلسارة،‏ من النوع الذي يطلق عليه البالغيون<br />

القدماء تشبيه االستطراف،‏ ووجه الطرافة في<br />

التشبيه هو عدم اعتياد قراء الشعر على مثله،‏<br />

فمن ذا الذي فكر أو تخيل أن الترام املزدحم<br />

بالركاب الذين يقفون على أبوابه يبدو في<br />

انبعاجه كامرأة في أخريات احلمل؟!‏ أما التقنية<br />

الثانية التي يستخدمها أمل،‏ فهي التضمني على<br />

سبيل إيقاع املفارقة في الداللة،‏ وهكذا نقرأ:‏<br />

‏»شتاء الغضب الساطع«،‏ وهو تضمني ألغنية<br />

فيروز الشهيرة التي تتحدث عن غضب ساطع<br />

البد أن يدفع العرب إلى هزمية عدوهم،‏ ولكن<br />

العدو لم ينهزم،‏ وإمنا هزم العرب شر هزمية.‏<br />

ولم يبق سوى الغضب الساطع للهواء في مدينة<br />

اإلسكندرية،‏ وهو يكتسح األوراق برياح اخلريف<br />

التي تشتد في الشتاء،‏ فتنقلب الرياح إلى<br />

عواصف تتطاير معها معاطف املارين املرجتفني<br />

من برد الشتاء في اإلسكندرية،‏ وهو األمر نفسه،‏<br />

الذي يقع في تضمني أغنية عن ذلك الظالم<br />

الذي يالقي منه العاشق ما يكفيه،‏ فيقول عن<br />

حبيبه قد علموه كيف يجفو فجفا،‏ فاإلشارة<br />

هنا إلى أغنية شهيرة من تأليف أحمد شوقي،‏<br />

وغناء محمد عبدالوهاب،‏ يقلب الشاعر معناها<br />

كي ميضي في سياق مقطع القصيدة الذي<br />

ميتلئ بالسخرية،‏ دون أن يتخلى عن اخلصائص<br />

الكنائية للمقطع كله،‏ كما في غيره من املقطعني<br />

السابقني.‏ وأخيراً‏ تأتي خامتة القصيدة:‏<br />

جلست فوق الشاطئ اليابس<br />

وكان موج البحر يصفع خد الصخر<br />

وينطوي - حيناً‏ - أمام وجهه العابس-‏<br />

... وترجع األمواج<br />

تنطحه برأسها املهتاج<br />

ودون أن تكف عن صراعها اليائس...!‏<br />

ويختم هذا املقطع األخير سياق القصيدة<br />

مبقاطعها الثالثة الدالة على نحو مباشر وغير<br />

مباشر على املوت الذي يفترش حتى الهواء.‏<br />

واملقطع يبدأ بجلسة فوق شاطئ البحر اليابس<br />

العاري من العشب أو الطحالب،‏ فال شيء في<br />

هذا الشاطئ اليابس سوى الصخر الذي يندفع<br />

إليه موج البحر كما لو كان يصفعه أو كما لو<br />

كان يخيفه بوجه عابس.‏ وتنطوي األبيات على<br />

ذلك التشخيص الذي يضم شاطئ البحر إلى<br />

موج البحر،‏ فيبدو الصخر كما لو كان له خد،‏<br />

في مقابل املوج الذي ينطح هذا اخلد أو يتراجع<br />

اخلد من جديد أمام موجه املهتاج كي يرجع<br />

لينطح الشاطئ برأسه كالثور الهائج.‏ ومتضي<br />

الصورة الشعرية على هذا النحو في صراع ما<br />

بني صخر اليابسة وموج البحر اليائس دون أن<br />

يتوقف كالهما عن الصراع اليائس والبائس،‏<br />

فالصورة مبا تنطوي عليه من صراع هي امتداد<br />

للمقاطع الثالثة السابقة التي نرى فيها املوت<br />

يضرب احلياة كما يضرب موج البحر خد<br />

الصخر،‏ ولكن خد الصخر يتصدى ملوج البحر<br />

ويواجهه كما يقاومه،‏ متاماً‏ كما تقاوم احلياة<br />

املوت الذي يهزمها كما في املقاطع الثالثة<br />

السابقة.‏ ولكن املوت ال يهزم احلياة دائماً‏<br />

وأبداً،‏ فهناك ذلك الصراع الدائم واملستمر ما<br />

بني احلياة واملوت،‏ وإذا كانت مقاطع القصيدة<br />

السابقة لم تُرِ‏ نا سوى املوت،‏ فإن اخلامتة التي<br />

تصف البحر في مواجهة الشاطئ تؤكد لنا أن<br />

احلياة ال تفنى وال تتبدد،‏ وأنها تناطح املوت كما<br />

يناطح الصخر البحر،‏ ما يجعلنا نعاود النظر في<br />

القصيدة وفي دالالت املوت التي تنسرب فيها،‏<br />

مدركني في النهاية أن احلياة مع كل مشاهد<br />

املوت السابقة تبقى،‏ وإذا انهزمت في جبهة<br />

فإنها تصارع املوت في جبهة أخرى،‏ ما يعطي<br />

نوعاً‏ من األمل يضيفه املقطع األخير إلى املقاطع<br />

السابقة،‏ فيبدو املقطع األخير في النهاية كما لو<br />

كان الداللة املضافة إلى الشتاء العاصف،‏ كاحلياة<br />

التي تواجه املوت مهما بلغ حجمه وانتصاره أو<br />

تعددت مرات ضرباته ><br />

25<br />

عن شعرية أمل دنقل


فكر<br />

الحُصَ‏ ري يحاور سالمة موسى<br />

د.‏ سعيد إسماعيل علي أكادميي من مصر<br />

نحن هنا أمام عمالقين من عمالقة الفكر<br />

في الوطن العربي في القرن العشرين،‏ كل<br />

منهما يمثل طرفاً‏ مناقضاً‏ للطرف اآلخر في<br />

الرأي،‏ لكن المناخ الحاكم خالل فترة ما يسمى<br />

بعصر النهضة العربية الحديثة،‏ إذ كان يحفل<br />

بالعديد من اآلراء واألفكار التي قد يشكل<br />

بعضها موقفاً‏ مناقضاً‏ ومضاداً‏ لطرف آخر،‏<br />

يظل الخالف محصوراً‏ في ‏»الكلمة«،‏ وسيادة<br />

‏»الحوار«‏ باألفكار،‏ وتلك عالمة دالة على درجة<br />

من التحضّ‏ ر.‏<br />

نحن إذ نعرض لصورة من صور ما كان يجري<br />

من حوارات نبتغي من ذلك أن ننبه إلى صورة<br />

مشرفة لالختالف بين اآلراء،‏ فمهما تباينت<br />

وتضادت،‏ قلّما جند دعوة لإلقصاء والنفي،‏<br />

فضالً‏ عن اإلعدام،‏ سواء بشكله املعنوي أو<br />

املادي،‏ حتى أننا نتذكر كيف أن علمانياً‏ متطرفاً‏<br />

مثل إسماعيل مظهر كتب دراسة عنوانها ‏»ملاذا<br />

أنا ملحد؟«،‏ فال تُرفع عليه الدعاوى،‏ وال تصدر<br />

فتاوى بإهدار دمه،‏ وإمنا يبادر صاحب فكر<br />

مغاير وهو محمد فريد وجدي،‏ ليعبر عن موقفه<br />

املغاير بدراسة عنوانها ‏»ملاذا أنا مسلم؟«.‏<br />

وال نقصد باحلوار في قضيتنا احلالية<br />

بن ساطع احلصري وسلالمة موسى توافر<br />

أركان احلوار كلها،‏ وإمنا هي جملة آراء ساقها<br />

احلصري،‏ ضمّنها كتابه ‏»أحاديث في التربية<br />

واالجتماع«،‏ مناقشاً‏ فيها ما سبق أن كتبه سالمة<br />

موسى،‏ من دون مواجهة شخصية مباشرة.‏<br />

وساطع احلصري،‏ من الشخصيات العجيبة<br />

حقا،‏ حيث إنه قد توافرت له ظروف جتعله،‏ ال<br />

زعيماً‏ مرموقاً‏ في الدعوة إلى ‏»القومية العربية«‏<br />

فترة حياته،‏ حتى وفاته عام 1968، وإمنا هو<br />

عاش هذه العروبة في نشأته وتكوينه،‏ حيث توزع<br />

بن عدة بيئات عربية وإسالمية:‏ فقد انتمى إلى<br />

عائلة أصلها من احلجاز،‏ ولكنه وُلد في صنعاء<br />

باليمن،‏ وتقلبت حياته،‏ تعلماً‏ وتعليماً‏ وعمالً‏ بن<br />

القاهرة،‏ واألستانة،‏ ودمشق،‏ وبغداد،‏ وفي كل<br />

موقع من هذه املواقع لم يكن مجرد ‏»سائح«‏ لفترة<br />

قصيرة،‏ بل كان عنصراً‏ قيادياً‏ يعيش سنوات،‏<br />

العدد - 692 يوليو 2016<br />

26


الكويت عاصمة الثقافة اإلسالمية 2016<br />

ويحتل موقعاً‏ مرموقاً،‏ ويترك بصمات مؤثرة،‏<br />

تستمر زمناً‏ طويالً.‏<br />

وسلالمة موسى،‏ مصري ‏»قح«،‏ من<br />

الشخصيات النادرة،‏ مثل عباس محمود العقاد،‏<br />

ممن لم يتلقوا قدراً‏ ولو متوسطاً‏ من التعليم في<br />

معاهده النظامية املعروفة،‏ بل اعتمد على التثقف<br />

الذاتي،‏ مثلما كان األمر لدى الكثرة الغالبة من<br />

علماء ومفكري احلضارة العربية اإلسالمية.‏<br />

وفي الوقت الذي كان فيه احلصري موغالً‏<br />

في التشيع لالجتاه القومي العربي،‏ كان موسى<br />

موغالً‏ في تشيعه الجتاه التغريب.‏<br />

كان سلالمة موسى قد دُعي إلى محاضرة<br />

ألقاها باجلامعة األمريكية بالقاهرة،‏ ونشرتها<br />

جريدة السياسة األسبوعية التي كان يرأس<br />

27<br />

احلُ‏ صَ‏ ري يحاور سالمة موسى


حتريرها الدكتور محمد حسين هيكل،‏ عن<br />

‏»أسس التجديد االجتماعي«.‏<br />

وعلى الرغم من أن اجلهة الداعية جامعة<br />

‏»أمريكية«،‏ فإن سلامة موسى لم يجد أي حرج<br />

في أن يتحدث في اإلطار األيديولوجي الذي<br />

كان متشيعاً‏ له،‏ وهو ‏»االشتراكية«،‏ فيؤكد أن<br />

العامل االقتصادي هو القوة الدافعة واملهيمنة<br />

على جملة ما يشهده املجتمع من وقائع،‏ وما<br />

يسير عليه من تنظيمات وتطورات،‏ وهي املقولة<br />

املاركسية الشهيرة.‏<br />

وهو يفسر ما كان – واليزال طبعاً‏ - من<br />

فروق هائلة بيننا في مختلف دول العالم العربي،‏<br />

بإرجاعها إلى درجة التقدم االقتصادي،‏ فحيثما<br />

يكون تقدم من هذا النوع،‏ يكون نهوض وتطور<br />

إيجابي في مختلف مناحي احلياة املجتمعية.‏<br />

من هنا استنتج سلامة موسى،‏ أننا إذا<br />

أردنا جتديداً،‏ حتى في األدب واألخاق،‏ فا<br />

مفر لنا من أن نُحدث جتديداً‏ مسبقاً‏ في احلال<br />

االقتصادي.‏<br />

وهنا ينسب احلصري رأي سامة موسى<br />

- بحق - إلى وجهة النظر املاركسية،‏ التي<br />

وُسمت أحياناً‏ باملادية التاريخية،‏ وكذلك ‏»اجلبر<br />

االقتصادي«.‏<br />

ولم تكن تلك مجرد ‏»مرة«‏ يذهب فيها<br />

موسى إلى هذا املذهب،‏ وقد أشار احلصري<br />

إلى سبق كتابة سامة موسى عن التشيع ملثل<br />

هذا االجتاه،‏ في مجلة الهال،‏ وإن حملت بعض<br />

التخفيف،‏ حيث لم يكن هناك حتم وجزم في<br />

فاعلية العامل االقتصادي،‏ وإمنا تأكيد على<br />

أولويته،‏ وأسبقيته،‏ وقوة في التأثير تفوق ما<br />

ميكن االعتراف به من عوامل أخرى.‏<br />

وهنا جند احلصري ال ينفي قوة العامل<br />

االقتصادي وفاعليته،‏ لكن ينكر أن يكون هو<br />

العامل الوحيد،‏ كما ثبت أخيراً‏ بعد جتربة تطبيق<br />

النظرية املاركسية فترة ما يزيد على سبعن<br />

عاماً،‏ ومن ثم لم تعد هناك مناقشات وحوارات<br />

حول هذه القضية،‏ وإن كانت الكثرة الغالبة ال<br />

تستطيع التقليل من قدر وقيمة وفاعلية القوة<br />

االقتصادية في مسيرة احلضارة اإلنسانية.‏<br />

لكن سامة موسى وجد أمامه في وقائع<br />

التطور احلضاري مثاالً‏ قد يهز ما كان عليه<br />

من يقن بالنسبة للفاعلية االقتصادية،‏ أال وهو<br />

ما كانت عليه حضارة اإلغريق قدمياً‏ من تألق<br />

ال ميكن أن ينكره أحد،‏ حيث نظرات كل من<br />

سقراط،‏ وأفاطون،‏ وأرسطو،‏ وغيرهم،‏ ومع<br />

ذلك،‏ فلم تكن لديهم ‏»آالت«،‏ كما ظهر لها من<br />

قوة تأثير وفاعلية في احلضارة الغربية احلديثة،‏<br />

تطبع االقتصاد القدمي بالسرعة واالزدهار،‏<br />

واالنتشار،‏ فكيف ميكن تفسير هذا؟<br />

هنا يشير سامة موسى إلى ما كان من<br />

‏»عبيد«‏ كانوا هم الذين يقومون مقام اآلالت في<br />

العصر احلديث.‏<br />

لكن احلصري سرعان ما ياحق هذا<br />

التفسير مبا ينقضه،‏ باإلشارة إلى أن العبيد<br />

كانوا منتشرين في الكثرة الغالبة من البلدان،‏<br />

فلِمَ‏ لم تقم بها حضارة مثل حضارة اإلغريق؟<br />

إن السر وراء مأزق هذا التفسير،‏ هو<br />

االنحباس في ركن واحد من أركان احلياة<br />

اإلنسانية،‏ أال وهو الركن االقتصادي.‏<br />

هذا احلوار غير املباشر بن احلصري<br />

وسلامة موسى حول فاعلية العامل االقتصادي<br />

في تطور األمم،‏ والتقدم البشري،‏ حسمته<br />

الوقائع التاريخية الكبرى التي شهدناها بدءاً‏<br />

من عام 1989، عند حتطيم جدار برلن الذي<br />

كان يفصل بين مجموعتي منظومة ما كان<br />

يُعرف باملنظومة االشتراكية،‏ واملنظومة الغربية<br />

الرأسمالية،‏ ثم تُوج األمر بتفكيك القوة العظمى<br />

التي كانت تسمى ‏»االحتاد السوفييتي«.‏<br />

قضية أخرى ناقشها احلصري،‏ كان سامة<br />

موسى قد أثارها على صفحات مجلة كان<br />

يصدرها ما كان يسمى في القاهرة في عقود<br />

ما قبل احلرب العاملية الثانية،‏ وهي ‏»الرابطة<br />

الشرقية«،‏ حيث أظهر سامة موسى معارضته<br />

احلادة ملن كان ينسب مصر إلى الرابطة الشرقية،‏<br />

حاكماً‏ عليها بالتخلف والرجعية،‏ وأن األقرب<br />

إلى مصر أن ترنو بأبصارها إلى ما وراء البحر<br />

املتوسط،‏ حيث الغرب عامة وأوربا خاصة،‏ وهي<br />

الفكرة نفسها التي ألح عليها الدكتور طه حسن<br />

العدد - 692 يوليو 2016<br />

28


الكويت عاصمة الثقافة اإلسالمية 2016<br />

في كتابه الشهير ‏»مستقبل الثقافة في مصر«.‏<br />

وكان سلامة موسى قد أرجع ما أكده من<br />

تخلف بلدان الشرق،‏ إلى أن حضارته ‏»زراعية«،‏<br />

بينما حضارة الغرب ‏»صناعية«،‏ فالزراعة،‏ في<br />

تصوره بطبيعتها راكدة ال تتقدم،‏ وإن تقدمت،‏<br />

فإنها تتقدم ببطء شديد،‏ على عكس األمر<br />

بالنسبة للصناعة،‏ التي يكون تطورها في صورة<br />

قفزات،‏ وبسرعات مذهلة.‏<br />

ولم يكن سامة موسى قد شهد ما شهدته<br />

الزراعة في العقود األخيرة للقرن العشرين من<br />

اقتحام التقنيات العلمية املتقدمة،‏ والتي بُنيت<br />

على أسس علمية متقدمة أيضا،‏ فضاً‏ عما<br />

عاشته العلوم البيولوجية من طفرات في الهندسة<br />

الوراثية،‏ وآثارها التي يصعب حصرها،‏ في إنتاج<br />

سلاالت نباتية وحيوانية جديدة،‏ وتضاعف<br />

اإلنتاج،‏ مما أكد أنه لم يعد من املقبول القول<br />

بحضارة زراعية في مقابل حضارة صناعية،‏ من<br />

كثرة وتعدد وتنوع صور ‏»الغزو«‏ الصناعي،‏ لعالم<br />

الزراعة.‏<br />

ودعم احلصري رأيه بإحصاءات متعددة عن<br />

كثير من الدول األوربية التي تشيع فيها الزراعة،‏<br />

ومع ذلك،‏ فإنها تُعد من الدول املتقدمة،‏ مثل<br />

إيطاليا،‏ والواليات املتحدة األمريكية،‏ وهولندا<br />

وبولندا وغيرها.‏<br />

ويخلص احلصري إلى قولة حق نتفق<br />

معه فيها بأن حالة الركود واجلمود ليست من<br />

خصائص األدب والزراعة،‏ وال من لوازمهما،‏<br />

كما أن حالة التحول والتقدم أيضاً‏ ليست من<br />

اخلصائص التي لم تفارق الصناعة والعلم،‏<br />

فالتجدد واجلمود،‏ ال ينتج أي منهما من طبيعة<br />

العلم أو األدب وحدهما،‏ وال من طبيعة الزراعة<br />

أو الصناعة،‏ بل من حالة املجتمع الذي يتعاطاها<br />

ويتوغل بها.‏ صحيح أن الصناعة سريعة التحول<br />

أكثر مما هو في الزراعة،‏ لكن هذا ال ينهض<br />

دلياً‏ قوياً‏ على أن الصناعة تكون دائمة التحول،‏<br />

أو أن الزراعة تكون دائمة الركود.‏<br />

وكان أعجب ما ذهب إليه سلامة موسى،‏<br />

زعمه بأن األدب مثله مثل الزراعة،‏ ال يقبل<br />

التطور والتقدم،‏ وهو قول غريب حقاً،‏ ال بالنسبة<br />

للحصري وحده،‏ وإمنا بالنسبة لكثيرين منا،‏<br />

فالنهضة األوربية في مبدأ نشأتها كانت حتفل<br />

بأعمال أدبية شكلت ‏»عامة«‏ على طريق التطور<br />

احلضاري،‏ ويضيق املقام عن مجرد اإلشارة<br />

العابرة إلى أبرز هذه األعمال.‏<br />

كذلك فإن احلضارة العربية اإلسلامية<br />

نفسها،‏ كانت صفحات األدب فيها زاهرة،‏ وثرية،‏<br />

مع أن هذه احلضارة لم يصفها أحد بأنها<br />

حضارة صناعية.‏<br />

ويضع احلصري يده على أبرز العوامل،‏ وهو<br />

البنية املجتمعية نفسها،‏ من حيث األسس التي<br />

تقوم عليها،‏ وعاقات األبنية الداخلية بعضها<br />

ببعض،‏ ومدى حرية احلركة املتاحة،‏ فضاً‏<br />

عن املناخ العام،‏ كما أكدت ذلك أيضاً‏ مدرسة<br />

‏»فرانكفورت«،‏ صاحبة النظرية النقدية في علم<br />

االجتماع.‏ وينتقد احلصري أحد عناصر البنية<br />

املجتمعية،‏ مركزاً‏ عليها مبضع التحليل والنقد،‏<br />

أال وهو موضوع املرأة العربية،‏ حتى أواسط<br />

القرن املاضي،‏ حيث شاعت نظرة متدنية<br />

للمرأة،‏ حترمها من القيام بدور رائد وملحوظ<br />

في احلركة االجتماعية،‏ فضاً‏ عن شيوع األمية<br />

بينها،‏ وانعزالها عن عالم العمل الذي ميكن أن<br />

يكون ‏»بيئة مُربية«‏ و»مُثقفة«،‏ وفرصة الكتسابها<br />

كثيراً‏ من القيم واملفاهيم الازمة حلسن التفاعل<br />

االجتماعي.‏<br />

وال يتوقف سلامة موسى عن أطروحاته<br />

املباينة واملناقضة لكثير مما تعارف عليه الناس،‏<br />

ولعل أبرز تلك األفكار التي استثارت احلصري،‏<br />

من خال ما كتبه سلامة موسى في مجلة<br />

كانت تسمى ب»احلديث«،‏ دعوته إلى القطيعة<br />

مع املاضي،‏ من دون أن يدرك الفارق بني أن<br />

يرضى فريق من الناس أن يكونوا أسرى املاضي،‏<br />

يريدون عودته كما هو،‏ لوهم أننا لن نتقدم إال<br />

وفق هذا السبيل،‏ وبني أن يكون التاريخ،‏ كما<br />

ذهب ابن خلدون،‏ ‏»للعظة واالعتبار«،‏ وهي<br />

الوظيفة التي يستطيع أن ياحظها كل من يقرأ<br />

آيات القرآن الكرمي التي تشير إلى أقوام في<br />

العصور القدمية،‏ وأحداث غابرة،‏ حيث إن ذكر<br />

هذا وذاك كان مشفوعاً‏ دائماً‏ بدعوة لاتعاظ<br />

29<br />

احلُ‏ صَ‏ ري يحاور سالمة موسى


والتفكر،‏ واالعتبار...‏ وأمة تهمل تاريخها،‏ لهي<br />

أشبه بإنسان يفقد ذاكرته؟!‏<br />

ومن أبلغ عبارات احلصري تعبيراً‏ عن هذا<br />

الذي نذهب إليه قوله إن املطلوب هو أن نغير<br />

أسلوب نظرتنا إلى التاريخ،‏ ال حتويل أذهاننا<br />

عنه!!‏<br />

إن التاريخ األوربي ال يخلو من عدد غير<br />

قليل من ‏»السخافات«‏ التي ركز على مثلها<br />

سلامة موسى،‏ من حيث وجودها في تاريخنا<br />

العربي،‏ ومع ذلك ال جند األوربيين يهملون<br />

دراسة هذا التاريخ،‏ بل إن أي خطة تخطوها أمة<br />

من األمم إلى األمام،‏ قد ال يستقيم أمر سيرها<br />

ويصح،‏ إال باالستفادة مما سبق من خطوات،‏<br />

حتى ال تكرر األخطاء،‏ ويكون الباء احلقيقي،‏<br />

هو – مرة أخرى - أن نقف عند حد التغني<br />

واإلشادة بأمجاد املاضي،‏ ومن هنا كان القول<br />

املأثور،‏ الذي ذهب إلى أن الفتى ليس هو من<br />

قال:‏ أبي،‏ ولكن هو من يقول:‏ ها أنا ذا!!‏<br />

وكان سلامة موسى قد ساق أمثلة،‏ بحيث<br />

إذا أردنا أن نشرع في خطط جديدة في األخاق<br />

واآلداب والعلوم،‏ مثل احلديث عن الزواج،‏ وجب<br />

أال نلتفت إلى ما كان يفعله أسلافنا قبل ألف<br />

عام،‏ وإذا كتبنا في األدب،‏ وجب أال نذكر ما<br />

كان يرتئيه اجلاحظ أو اجلرجاني،‏ أما في<br />

العلوم،‏ فيجب أن نعرف أننا نحرث أرضاً‏<br />

بكراً‏ بالنسبة لبادنا،‏ لم تشقها بعد سكة<br />

احملراث!!‏<br />

وعود على ذي بدء...‏ ليس اجلوهري<br />

في هذا احلديث مجرد العلم مبا قاله سلامة<br />

موسى،‏ وما ذهب إليه ساطع احلصري بالنسبة<br />

إليه،‏ وإمنا يهمنا بالدرجة األولى أن نشعر ببعض<br />

اخلجل أن يتحاور مفكران،‏ بالكلمة واملنطق،‏<br />

منذ ما يقرب من ثاثة أرباع القرن،‏ حيث كانت<br />

أوطاننا على ما كانت عليه من تواضع التقدم<br />

املعرفي واحلضاري،‏ بينما يشيع في بلداننا اليوم،‏<br />

أيضاً،‏ بعد ما أصبح من صور مذهلة من التقدم<br />

احلضارى،‏ من يتحاور بألفاظ خشنة،‏ كأضعف<br />

اإلميان،‏ إن جاز لنا أن نحل مثل هذا أصاً‏ في<br />

أي مرتبة من مراتب اإلميان!‏ أما أشهره،‏ فهو<br />

التحاور بالتكفير أو التخوين،‏ فضاً‏ عن إزاحة<br />

التحاور بالكلمات ليحل محل هذا النهج حتاور<br />

بالسكن واملتفجرات!‏ ><br />

شيخ ‏»كاجوال«‏<br />

يروي د.‏ محمد فؤاد شاكر أستاذ الدراسات اإلسلامية بجامعة عني<br />

شمس عن ذكرياته في رمضان،‏ قائا:‏<br />

في بداية شبابي دُ‏ عيت في شهر رمضان الفتتاح مسجد وكنت أيامها<br />

أرتدي الثياب الشبابية,‏ وأضع على رأسي طاقية وحدثت بعض الظروف<br />

التي حالت دون أن أصل إلى املسجد مبكرا كعادتي،‏ ووصلت بعد أن رفع<br />

األذان األول وهو ما يحتم علي أن أصعد إلى املنبر فور دخولي املسجد,‏<br />

وما إن بدأت الصعود حتى فوجئت برجل يهرول ورائي ويشدني طالبا مني<br />

النزول وهو يقول لي:‏ كيف تفعل ذلك ونحن في انتظار الشيخ محمد فؤاد<br />

شاكر؟ فما كان من الذي دعاني إال أن قام مسرعا ووضع يده على فم هذا<br />

الرجل وهو يقول له إنه الشيخ فؤاد شاكر،‏ فنظر لي الرجل متعجبا كيف<br />

أكون شيخا وأرتدي ما أرتديه من مابس شبابية!‏<br />

العدد - 692 يوليو 2016<br />

30


الكويت عاصمة الثقافة اإلسالمية 2016<br />

في مثل هذا الشهر منذ<br />

55 عامًا<br />

31<br />

‏«العربي«‏ في مثل هذا الشهر منذ 55 عاماً‏


في مثل هذا الشهر منذ 55 عامًا<br />

العدد - 692 يوليو 2016<br />

32


الكويت عاصمة الثقافة اإلسالمية 2016<br />

في مثل هذا الشهر منذ<br />

55 عامًا<br />

33<br />

‏«العربي«‏ في مثل هذا الشهر منذ 55 عاماً‏


قالوا<br />

‏»أميل إلى القول إننا في مرحلة من ‏»فوضى<br />

إبداعية«،‏ نتجت من طفرة في عالم الرواية،‏<br />

وخصوصاً‏ في السنوات العشر األخيرة،‏ حيث جتاوز<br />

جيل من الروائيني الشباب<br />

دوائر ‏»االحتكار«‏ التقليدي<br />

التي ربطت الرواية في كل<br />

بلد ‏)مصر والعراق وسورية<br />

مناذج(‏ بأسماء محددة وقفت<br />

على قمة هرم الرواية،‏ بنتاج<br />

راوح بني الكالسيكية وتخوم<br />

احلداثة«.‏<br />

ربعي املدهون<br />

روائي من فلسطني<br />

‏»حني واصل األدب احلق السير في طريقه،‏<br />

فإن أدباً‏ زائفاً‏ يسمى - من دون دقة - أدباً‏<br />

جماهيرياً‏ ظل يكتسب أهمية.‏ وهو أدب متصل<br />

على نحو مباشر أو غير مباشر بأجهزة تشكيل<br />

وعي اجلماهير ‏)أو التالعب بعقولها(‏ في الغرب،‏<br />

بالتلفزيون والسينما والراديو واملسرح ودور النشر<br />

التجارية،‏ وتساعدها الثورة التكنولوجية على نحو<br />

غير مباشر بترويج وسائل اتصال رخيصة الثمن<br />

تتيح إغراق السوق باألدب الزائف البديل،‏ أدب<br />

التسلية واحلسية واإلثارة ألوسع املتلقني وجتعله<br />

على قارعة الطريق«.‏<br />

إبراهيم فتحي<br />

ناقد من مصر<br />

‏»عندما نضع أنفسنا داخل سُ‏ ور املوسيقى وجدارها<br />

العازل،‏ فإننا لسنا في سجن أبدا،‏ بل على العكس<br />

من هذا،‏ نحن في قلب احلياة<br />

األكثر حياة،‏ فال موت داخل<br />

هذه العزلة،‏ وال نوافذ مغلقة،‏<br />

بل إن كل شيء مفتوح إلى<br />

الهواء والشمس اخلفيفة،‏<br />

وقد يجتمع الشمس والقمر<br />

والنجوم بل الكواكب كلها<br />

لتلتحم في حياة خاصة داخل<br />

هذا السور«.‏<br />

نصير شمة<br />

موسيقي من العراق<br />

‏»أن نبدأ من املدرسة،‏ باحلَثّ‏ على القراءة،‏ وبتقريب<br />

الكتاب من التالميذ،‏ وتوفير املصادر واملراجع لهُم،‏<br />

وبإيجاد الفضاءات املُالئِمَة ملثل هذه الورشات،‏ وحتفيز<br />

التالميذ والطلبة،‏ وتشجيعهم،‏ وتزويد املكتبات الصفِّيَة<br />

بالكتب واملراجع،‏ من مختلف حقول املعرفة والعلم<br />

واإلبداع،‏ وباملوسوعات،‏ أن نبدأ من املدرسة،‏ بهذه<br />

الصورة،‏ معناه أننا وضعنا اإلنسان أمام فكره وعقله،‏<br />

وخرجْ‏ نا به من وصايةِ‏ غيره عليه،‏ ألنَّ‏ إنساناً‏ من هذا<br />

القبيل،‏ هو إنسان قارئ،‏ شغوف باملعرفة،‏ وبالبحث<br />

والشك والتساؤل،‏ وهو إنسان مسؤول عن رأيه،‏ وعن<br />

أفعاله«.‏<br />

صالح بوسريف<br />

شاعر من املغرب<br />

‏»ما حتتاج حكومات أمة العرب أن تعيه،‏ أن اجلامعات<br />

هي أهم مصدر لتخريج علماء املستقبل في احلقول<br />

التي تهم األمة وترتبط بحاجاتها التنموية احلقيقية،‏<br />

وهي في طليعة املؤسسات املعنية بتجديد ثقافة األمة<br />

إلخراجها من تخلفها الثقافي،‏ وهي بالتالي أهم مؤسسة<br />

لبناء املستقبل.‏ فإذا سلمت تلك<br />

احلكومات وظيفة التعليم العالي<br />

ليقوم بها اخلارج،‏ فهل تضمن<br />

أن تقوم مؤسسات اخلارج بتلك<br />

املهمات اجلسيمة التي ذكرناها،‏<br />

وبالطريقة واملقدار وااللتزام<br />

التي تخدم مجتمعاتها وثقافتها<br />

ومستقبل أجيالها؟«.‏<br />

د.‏ علي فخرو،‏ مفكر من<br />

البحرين،‏ وزير تعليم أسبق<br />

‏»إن الكالم الشعري ليس كأي كالم.‏ إذا كنا نكتفي<br />

بتوظيف وسائل النطق والسمع والفهم...‏ في خطاباتنا<br />

اليومية،‏ فإن اخلطاب الشعري ال تكفيه تلك الوسائل<br />

والقدرات.‏ علينا لكي نكتب عبارة شعرية أن نهيب بكل<br />

كياننا الوجداني والعقلي،‏ وأن نستحثّ‏ مخيلتنا ومعارفنا<br />

وجتاربنا،‏ وهي الوسائل نفسها التي علينا توظيفها<br />

لقراءة الشعر.‏ الشاعر يفرغ كل كيانه في العبارة الشعرية<br />

ليرتفع بها عن مستوى اخلطاب اليومي ويكسبها ميزة<br />

صفة الشعر«.‏<br />

محمد امليموني<br />

شاعر من املغرب<br />

العدد - 692 يوليو 2016<br />

34


الكويت عاصمة الثقافة اإلسالمية 2016<br />

‏»منذ سقوط سور برلني حتى اليوم،‏ لم نفعل سوى<br />

املشاركة في تشييد مجموعة من األسوار األخرى،‏<br />

وكلها أعلى من سور برلني وأكثر حصانة منه.‏ هي<br />

أسوار من اخلرسانة واحلجارة واألسالك الشائكة،‏<br />

يواكبها - مع األسف - عديد<br />

من األسوار الثّقافيّة التي<br />

هي أكثر منعة وأشقّ‏ على<br />

التحطيم.‏ املثال الصارخ على<br />

هذه األسوار الشائهة هو ذلك<br />

الذي يفصل إسرائيل عن<br />

فلسطني التي يزيد امتهانها<br />

أكثر فأكثر«.‏<br />

إيزابيال كاميرا<br />

مترجمة ومستشرقة من إيطاليا<br />

‏»لم تكن الثقافة العربية - بالنسبة إليّ‏ - صندوقاً‏<br />

للعجائب،‏ بل عبارة عن كائن حسّ‏ ‏اس وعميق،‏<br />

قد حفر تأثيراته في نفسي،‏ ومضى عميقاً،‏<br />

وأنا أكتب العربية،‏ لكنني أفكّر،‏ وأحلم،‏ وأرى<br />

كوابيسي،‏ باللغة الروسية،‏ وربّ‏ ا متثِّل هذه اللغة<br />

املزدوجة إضافة بالنسبة إلي،‏ وأعتقد أن اجلمال<br />

يكمن بني لغتني،‏ تسمحان بالرؤية واإلحساس،‏<br />

بصورة أكبر.‏ إن نصفنا نحن-‏ الروس-‏ شرقي،‏<br />

كما هو معروف،‏ وبوشكني ذاته نصفه عربي،‏<br />

ونصفه إثيوبي.‏<br />

دميتري ميكولسكي<br />

مستشرق ومترجم من روسيا<br />

‏»لن تصبح القراءة والكتابة في عداد األموات مع<br />

االقتحام الرقمي؛ بل على العكس،‏ فمن ناحية أخرى<br />

تطرح - أيضاً‏ - مسألة الكتاب.‏ وهنا،‏ ربّ‏ ا،‏ سأدهشك،‏<br />

لكني أعتقد أن حضارة احلاسوب واللوغاريتم لم جتد<br />

أصالتها،‏ وهي تقتفي أثر<br />

الكتاب.‏ يُفتح احلاسوب ككتاب،‏<br />

يقدّم صفحات بهوامش كما<br />

في الكتاب.‏ الدعم تغيَّر،‏ لكن<br />

األمنوذج الفكري للكتاب أو<br />

للقراطيس الورقية لم يتحرّك<br />

على اإلطالق«.‏<br />

ميشيل سير<br />

فيلسوف من فرنسا<br />

‏»ميكن مالحظة ظاهرة،‏ ربّ‏ ‏ا تفاقمت منذ مَنْح<br />

جائزة نوبل لنجيب محفوظ سنة 1988، تاريخ<br />

بداية االهتمام األوربي باإلنتاج األدبي العربي.‏<br />

منذ ذلك احلني استحوذت رغبة الترجمة على<br />

عديد من الكتّاب العرب،‏ رغبة لم تكن،‏ في ما<br />

قبل،‏ مسألة ذات أهمية قصوى،‏ لم تكن - على<br />

األرجح - الشغل الشاغل لطه حسيني،‏ وتوفيق<br />

احلكيم،‏ ويحيى حقي،‏ وال حتى جنيب محفوظ؛<br />

ذلك أنه كان لهؤالء قرّاء،‏ وكانوا معترفاً‏ بهم في<br />

لغتهم،‏ ولم يكن لهم كبير مباالة بترحيل كتاباتهم<br />

إلى لغة أجنبية«.‏<br />

عبدالفتاح كيليطو<br />

مفكر وكاتب من املغرب<br />

‏»كتبت في البدء بضع قصائد عمودية،‏ لكني ذات يوم<br />

قررت أن أمزّق هذه القصائد وأكتب شعراً‏ ال يقيِّده قيد:‏<br />

ال قوافٍ‏ وال أوزان،‏ ألن هذه مجرَّد أشكال ال متتّ‏ إلى<br />

الشعر بصلة،‏ وألن الشعر هو احلرّية،‏ فكيف نقيّده!‏<br />

متشيتُ‏ على سطيحة بيتنا في شبطني مفكِّراً‏ وحائراً:‏<br />

هل أمزِّق هذه القصائد أم ال؟ كنت حائراً‏ ألني لم أكن<br />

أعرف،‏ بعد،‏ أن هناك من يكتب شعراً‏ بال أوزان وقوافٍ‏ ،<br />

فأنا كنت ال أزال فتى،‏ وفي قرية<br />

ال كتبَ‏ شعر حديث فيها.‏ حتى<br />

انتقلتُ‏ إلى بيروت عام 1968،<br />

وتعرَّفت إلى مجلة ‏»شعر«‏<br />

املنادية بتجاوز القيود الشعرية<br />

التقليدية،‏ فاطمأننت إلى أن<br />

خياري كان صحيحاً.‏<br />

وديع سعادة<br />

شاعر من لبنان<br />

‏»نحن لم نعرف جنيب محفوظ إال بعد حصوله<br />

على ‏»نوبل«،‏ ولكن محفوظ عاش حياة شبيهة جداً‏<br />

باحلياة التي نعيشها في تركيا.‏ ومع األسف،‏ فإن هذا<br />

األمر ينسحب على األدب اإليراني أيضاً.‏ األتراك<br />

يقرأون الكاتب اإليراني أو الكاتب العربي عندما<br />

يكون مشهوراً‏ في الغرب فقط.‏ في رأيي السبب هو<br />

ألنه يشبههم؛ فهم يقولون:‏ با أنه يشبهنا فهو ليس<br />

جيداً«.‏<br />

أورهان باموق<br />

كاتب روائي من تركيا<br />

35<br />

قالوا


استطالع<br />

استطالع<br />

سريالنكا<br />

سالم اهلل على أهل<br />

‏»سرنديب«‏<br />

رحلة من كولومبو إلى بيرواال جوامع وجامعات<br />

بقلم وعدسة:‏ إبراهيم المليفي<br />

تستنشق كولومبو الهواء املنعش القادم من<br />

احمليط الهندي كل صباح وهو ما أعطاها<br />

نفحة من االعتدال في هوائها خصوصا بعد<br />

مغيب الشمس،‏ أما فترة الظهيرة فيختلط<br />

فيها الهواء الساخن مع الرطوبة لساعات<br />

طويلة حتى متيل زاوية الشمس نحو األسفل<br />

وتستعيد نسمات الهواء برودتها<br />

العدد - 692 يوليو 2016<br />

36


الكويت عاصمة الثقافة اإلسالمية 2016<br />

ورشة بناء كبيرة تشيّد جباالً‏ من األمل،‏ فوق ركام ذكريات أليمة خلفتها حقبة طويلة من<br />

االحتراب الداخلي،‏ صبغت سماء الجزيرة الخضراء بالكدر والعبوس،‏ سريالنكا أرض الشاي<br />

وأشجار جوز الهند والشمس الدفيئة،‏ تنهض بشموخ األسد الذي اختارته رسماً‏ لعلم البالد،‏<br />

ساعية نحو مستقبل تريده بلون درجات اللون األخضر الذي يكسو الجبال المزروعة بالشاي.‏<br />

جزيرة الياقوت أو سرنديب - كما سماها العرب قديماً‏ - تقف على أرض صلبة قوامها<br />

الموقع الجغرافي على طريق الحرير البحري وعطف الطبيعة الباذخ بموارد المتناهية،‏ وأخيراً‏<br />

حالة مستقرة من التعايش بين مكوناتها المتنافرة في الدين والعرق والثقافة.‏ داخل ورشة<br />

سريالنكا الكبيرة،‏ اخترنا الترحال داخل حياة المسلمين فيها،‏ والتقاط صور قريبة من مراكز<br />

وجودهم وسط المحيط البوذي،‏ تلك الرحلة انطلقت من العاصمة كولومبو إلى قرية<br />

بيرواال ثم العودة مجدداً‏ إلى نقطة البداية...‏ كولومبو.‏<br />

37<br />

سالم الله على أهل ‏»سرنديب«‏ ... رحلة من كولومبو إلى بيرواال


استطالع<br />

سريالنكا<br />

هذا املسجد الكبير ذو اللون األبيض هو مسجد وضريح الشيخ عثمان صديقي ويعتبر أقدم من املسجد األحمر حيث بني قبل 150 سنة تقريبا<br />

معزوفة سباق احلياة<br />

وصلنا إلى مطار كولومبو وسط ظلمة حالكة<br />

لم تبدّدها غير أنوار مدرج الهبوط،‏ كانت<br />

الطائرة في أثناء هبوطها التدريجي ترفع<br />

أغطية الظالم واحداً‏ تلو اآلخر،‏ حتى تلمّس<br />

قائدها أنوار املدرج ليهبط بنا معلناً‏ نهاية<br />

الرحلة اجلوية وبدء الرحلة األرضية.‏<br />

مرت إجراءات ختم جواز السفر وتسلُّم<br />

األمتعة سريعاً،‏ ولو امتد الوقت قليالً‏ حتى<br />

تشرق الشمس لسعدنا بذلك،‏ فما أجمل ترقب<br />

املدن وهي تتهيأ لبدء حياة الناس وهم في<br />

طريقهم طلباً‏ للرزق!‏ وما أبهى من التلصّ‏ ص<br />

على الشوارع وهي تغتسل في الصباحات<br />

الباكرة بعد يوم مرهق من الدهس املتواصل!‏<br />

عند بوابة اخلروج بدّد تالحم لهفات الشوق<br />

باملشتاقني هدأة الهزيع األخير من الفجر،‏<br />

ثم ما لبث أن تبدّد هو اآلخر بفعل ابتعادنا<br />

املتسارع عن املطار لتبتلعنا ظلمة كولومبو<br />

اخلرساء.‏<br />

ال شيء يرى اآلن على ضفتي الطريق غير<br />

أضواء خافتة تنير طريقنا،‏ ولم يدُر بخلدي<br />

أن اخلرس احمليط بنا يحمل لي هدية ثمينة<br />

أدخلتني في عمق القصة التي أسعى إليها من<br />

دون أي مقدمات،‏ لم يحن الوقت لسردها،‏<br />

ولكنها ستأتي بعد دقائق.‏<br />

بدأت معزوفات عصافير الصباح املختبئة<br />

داخل كهوف األشجار ذات اجلذع العريض تعلن<br />

بداية سباق احلياة،‏ نعيق الغربان املهتاج يغالب<br />

بقية األصوات الرقيقة مؤكداً‏ حضور الغراب<br />

كأكثر طائر يُ‏ كن رؤيته في سريالنكا.‏<br />

في بلدان القيادة ‏»اليمينية«،‏ أجلس في<br />

املكان الذي اعتدت عليه كمتفرج ال سائق،‏<br />

ألن نظام قيادة السيارة في سريالنكا مثله<br />

مثل بريطانيا والهند وأستراليا ونيوزيلندا<br />

وجنوب إفريقيا وإندونيسيا وماليزيا...‏ إلخ،‏<br />

نظام ‏»يني«،‏ وهو ما يتطلب احلذر الدائم،‏<br />

سواء ملن يريد جتربة القيادة في تلك الدول<br />

أو مجرد السير على األقدام عكس االجتاهات<br />

التي اعتادها.‏<br />

شيء من االختالف طرأ على لون السماء،‏<br />

الفجر يقترب والليل ينسحب بهدوء،‏ كولومبو<br />

في هذه األثناء بدت أكثر وضوحاً‏ ونحن<br />

نوقظ طرقها اخلالية،‏ أبلغني السائق،‏ واسمه<br />

عبدالرزاق،‏ أننا اقتربنا من مقر إقامتي،‏<br />

كانت نافذتي مفتوحة أشاهد منها اإلعالنات<br />

العدد - 692 يوليو 2016<br />

38


الكويت عاصمة الثقافة اإلسالمية 2016<br />

علم جمهورية سريالنكا<br />

الدميقراطية االشتراكية<br />

وميثل اخلط األخضر<br />

العريض فيه األقلية<br />

اإلسالمية فيها<br />

خريطة توضح مسار رحلة بعثة مجلة العربي من مدينة كولومبو إلى بيرواال والعكس<br />

التجارية املكتوبة باللغتني السنهالية والتاميلية،‏<br />

في هذه األثناء سمعت صوتاً‏ أعرفه جيداً،‏ كان<br />

واضحاً‏ رغم تكسّ‏ ‏ر أحرفه العربية،‏ لقد حان<br />

وقت الهدية الثمينة،‏ إنه أذان الفجر األول.‏<br />

إن وقوع هذا احلدث أمر اعتيادي في<br />

البلدان التي تقطنها غالبية إسالمية،‏ ولكن في<br />

سريالنكا التي يقدّر عدد املسلمني فيها مبليوني<br />

نسمة مقابل ثمانية عشر مليوناً‏ غالبيتهم<br />

الساحقة من البوذييني،‏ يعتبر مؤشراً‏ على<br />

طبيعة العالقة السائدة بيني مكونات املجتمع<br />

السريالنكي،‏ وفاحتة ملزيد من التساؤالت حول<br />

أبعاد وجذور تلك العالقة الفريدة،‏ األمر لم ينته<br />

عند هذا احلد،‏ فعندما دخلت غرفتي سمعت<br />

صوت األذان الثاني مرفوعاً‏ من مسجد آخر<br />

39<br />

سالم الله على أهل ‏»سرنديب«‏ ... رحلة من كولومبو إلى بيرواال


استطالع<br />

سريالنكا<br />

صورة من األعلى تكشف بعض تفاصيل حداثة وعصرية مدينة كولومبو<br />

العدد - 692 يوليو 2016<br />

40


الكويت عاصمة الثقافة اإلسالمية 2016<br />

تعج املنطقة التجارية ‏»بيتاه«‏ - إحدى مناطق مدينة كولومبو - باملسلمني وأسواقهم احمليطة باملسجد األحمر الذي يقع في<br />

تلك املنطقة املهمة<br />

مجاور للفندق الذي أسكن فيه،‏ مبا يوحي أن<br />

كثيراً‏ من العمل ينتظرنا.‏<br />

مدينة غنية باخليارات<br />

بعد تكرار ما يقوم به الدليل محمد يونس<br />

من إغالق مؤقت ملذياع السيارة،‏ أدركت ما<br />

ينتظرني،‏ لقد أبدى يونس حرصاً‏ شديداً‏ على<br />

خفض صوت املذياع قبل املرور على أي مسجد<br />

يقع في طريقنا،‏ حتى لو كان ذلك وقت نشرة<br />

األخبار،‏ تلك اإلشارة السريعة عنت لي االنتباه<br />

وتقييم املكان القادم بسرعة،‏ قبل أن أباغت يونس<br />

بطلب التوقف للنزول اللتقاط بعض الصور،‏ هو<br />

أيضاً‏ كان يبادلني االنتباه ألن مهمته في إيجاد<br />

مكان مناسب للتوقف في مدينة مزدحمة ليست<br />

باألمر الهينّ‏ ، كنت وهو نخوض في جولة نهارية<br />

على أهم معالم مدينة كولومبو لنرى فيها ما لم<br />

يكن متاحاً‏ وقت وصولي.‏<br />

تستنشق كولومبو الهواء املنعش القادم من<br />

احمليط الهندي كل صباح،‏ وهو ما أعطاها نفحة<br />

من االعتدال في هوائها،‏ خصوصاً‏ بعد مغيب<br />

الشمس،‏ أما فترة الظهيرة فيختلط فيها الهواء<br />

الساخن مع الرطوبة ساعات طويلة حتى متيل<br />

زاوية الشمس نحو األسفل وتستعيد نسمات<br />

الهواء برودتها.‏<br />

لم يكن ينقص تلك املدينة شيء من مالمح<br />

املدن العصرية التي تتمتع بشبكة مواصالت<br />

واتصاالت حديثة وفعالة،‏ وأهم ما ميكن قوله<br />

عن كولومبو إنها مدينة نظيفة مرصوفة الشوارع<br />

ومظللة باألشجار الكثيفة،‏ وهي مدينة غنية<br />

باخليارات في كل شيء،‏ وهو الشرط الذي مييز<br />

بي املدن العاجزة عن حتفيز زوارها للبقاء فيها<br />

أياماً‏ إضافية،‏ واملدن التي تستوعب الزوار مهما<br />

كانت ميزانيتهم متواضعة،‏ من هنا كان وجود<br />

‏»التكتك«‏ كوسيلة مواصالت عنصراً‏ حيوياً‏ في<br />

توفير املال واالنتقال السلس داخل شرايي<br />

املدينة،‏ أما اإلقامة فهي متوافرة بالنجوم ومن<br />

غيرها.‏<br />

كانت العالقة اجلدلية بي القدمي الشامخ<br />

واحلديث البرنّاق محتدمة،‏ املراكز التجارية<br />

املكيفة تقضم من مساحات األسواق الشعبية<br />

املكشوفة،‏ واللوحات اإلعالنية الضخمة ظلت<br />

نفسها على جدران املباني الهرمة،‏ أما معاقل<br />

41<br />

سالم الله على أهل ‏»سرنديب«‏ ... رحلة من كولومبو إلى بيرواال


استطالع<br />

سريالنكا<br />

صورة عامة للمسجد األحمر ‏)افتتح ‎1909‎م(‏<br />

الواقع في منطقة ‏»بيتاه«‏ وهو ميثل عمق<br />

الوجود اإلسالمي في مدينة كولومبو والعالقة<br />

املتينة بينه وبني مسلمي منطقة جنوب الهند<br />

الذين ساهم أحد جتارهم بشراء األرض التي<br />

بني عليها هذا املسجد<br />

العدد - 692 يوليو 2016<br />

42


الكويت عاصمة الثقافة اإلسالمية 2016<br />

43<br />

سالم الله على أهل ‏»سرنديب«‏ ... رحلة من كولومبو إلى بيرواال


استطالع<br />

سريالنكا<br />

اإلشعاع الروحي ملختلف الديانات فمازالت<br />

مزدهرة باملؤمنني.‏<br />

املسجد األحمر في ‏»بيتاه«‏<br />

نعود مجدداً‏ للدليل محمد يونس،‏ الذي<br />

أعطاني خيارات عدة بخصوص املساجد<br />

واجلوامع املوجودة في كولومبو،‏ أغلب ما<br />

رأيته كان مألوفاً‏ وال يقدم صورة تعكس عمق<br />

الوجود اإلسالمي في سريالنكا،‏ إلى أن وجدت<br />

ضالتي في املسجد األحمر باملنطقة التجارية<br />

‏»بيتاه«،‏ التي تعج باملسلمني وأسواقهم احمليطة<br />

باملسجد.‏<br />

املسجد األحمر الذي افتتح عام ‎1909‎م،‏ يعد<br />

حتفة معمارية جتتذب األنظار لغرابة تصميمه<br />

ولونه احملصور بني لونني فقط األبيض واألحمر،‏<br />

ويرجع ذلك إلى تأثر مهندس البناء سابيو ليبي<br />

يتوافر ماء الوضوء في املسجد األحمر على شكل بحيرة<br />

مستطيلة تكفي مرتادي املسجد خصوصا بعد عمليات<br />

الترميم والتوسعة األخيرة عام ‎2015‎م<br />

العدد - 692 يوليو 2016<br />

44


الكويت عاصمة الثقافة اإلسالمية 2016<br />

بالنمط املعماري الهندي – العربي.‏<br />

وميثل املسجد األحمر في ‏»بيتاه«‏ صورة من<br />

صور الوجود اإلسلامي في كولومبو،‏ وكذلك<br />

العاقة املتينة بينهم وبني املسلمني في منطقة<br />

جنوب الهند،‏ وفي يوم جمعة وبني صاتَي الظهر<br />

والعصر توجهنا لزيارة املسجد األحمر.‏<br />

عندما توقفت بنا السيارة خلف املسجد،‏ لم<br />

أتوقع أن يكون بهذا االتساع من الداخل،‏ سرت<br />

نحو املدخل الرئيس وخلعت حذائي الرياضي<br />

وسلمته لرجل يعمل على جمع أحذية املصلني،‏<br />

سألته:‏ هل التصوير مسموح به هنا؟ ابتسم<br />

وأومأ برأسه مبا يعني املوافقة،‏ ثم رفع يده<br />

اليمنى مشيراً‏ بسبّابته إلى لوحة كتب عليها<br />

سنة افتتاح املسجد األحمر ‏)‏‎1909‎م(.‏<br />

دخلنا باحة املسجد والتقطنا الصور وتبادلنا<br />

األحاديث مع مجموعة من روّاد املسجد الذين<br />

يستوعب املسجد األحمر اآلن ما يقرب من 15 ألف مصل في وقت واحد،‏ وال تعطي السلطات السريالنكية تراخيص لبناء<br />

مساجد جديدة ولكنها ال متانع في إجراء عمليات ترميم أو توسعة لزيادة الطاقة االستيعابية للمساجد<br />

45<br />

سالم الله على أهل ‏»سرنديب«‏ ... رحلة من كولومبو إلى بيرواال


استطالع<br />

سريالنكا<br />

تعرفوا على مهمتنا في سريالنكا وأمدونا<br />

ببعض املعلومات عن آخر عمليات التوسعة<br />

في هذا املسجد،‏ حيث دشّ‏ نت في عام ‎2015‎م<br />

حملة تبرعات الستكمال عمليات التوسعة دعت<br />

إليها اجلمعية املعنية برعاية املسجد األحمر،‏<br />

وقد جُ‏ مع ما يكفي إلمتام املطلوب،‏ ويستوعب<br />

املسجد اآلن ما يقرب من خمسة عشر ألف<br />

مصلٍ‏ في وقت واحد،‏ بعد أن كان يستوعب عند<br />

بنائه ألفاً‏ وخمسمائة فقط،‏ وال تعطي السلطات<br />

السريالنكية تراخيص لبناء مساجد جديدة،‏<br />

ولكنها ال متانع في إجراء عمليات ترميم أو<br />

توسعة لزيادة الطاقة االستيعابية للمساجد.‏<br />

وتتلخص قصة بناء املسجد األحمر في<br />

تزايد أعداد املسلمني في منطقة ‏»بيتاه«‏<br />

التجارية،‏ وتنطق هكذا ‏»بي تاه«،‏ وقد أرادوا<br />

ألنفسهم مكاناً‏ مناسباً‏ يجمعهم ألداء الصلوات<br />

اخلمس بدالً‏ من الصلالة فرادى،‏ فأقدم تاجر<br />

مسلم من جنوب الهند على شراء قطعة من<br />

األرض وأهداها لبناء املسجد الذي يعرف اليوم<br />

باملسجد األحمر،‏ وقد بُني أول األمر من طابقني<br />

ثم تواصلت عمليات التوسعة عبر الزمن وحتى<br />

التي جرت أخيراً‏ عام ‎2015‎م.‏<br />

وعن عادات مسلمي سريالنكا في شهر<br />

رمضان املبارك،‏ سألنا مَن أحاطونا مبشاعرهم<br />

الفيّاضة فأجابونا بأن عاداتهم ال تختلف عن<br />

بقية املسلمني في العالم،‏ فجميع املطاعم التي<br />

ميلكونها تغلق أبوابها حتى موعد أذان املغرب،‏<br />

ولكنهم يستقبلون رمضان بالفرح والسرور<br />

وإشعال األنوار وحتضير بعض األطعمة،‏ كما<br />

جتهز الساحات احمليطة باملساجد باملفروشات<br />

الالزمة استعداداً‏ لتأدية صالة التراويح التي<br />

تشهد إقباالً‏ يفوق مساحة املساجد الداخلية.‏<br />

حلم داخل علَم<br />

حتى نبدأ بفهم طبيعة التنوّع الثقافي<br />

والعرقي والديني في سريالنكا،‏ ميكن االنطالق<br />

من محطتني،‏ األولى هي مكوّنات العلم الرسمي<br />

للبلالد،‏ واحملطة الثانية هي املوقع اجلغرافي<br />

جلزيرة سريالنكا وأهميته قدمياً‏ وحديثاً‏<br />

في التجارة الدولية،‏ أما في ما يخص مكانة<br />

املسلمني في الدولة بعد االستقالل،‏ فيمكن<br />

القول إن خيار الطائفة اإلسالمية بالوقوف مع<br />

احلكومة السريالنكية في حربها ضد التاميل<br />

عزّز مواقعهم وأوضاعهم بشكل عام،‏ ولعل<br />

وصول الشيخ محمد حنيفة محمد إلى رئاسة<br />

البرملان السريالنكي أكبر دليل على ذلك،‏ وقد<br />

العدد - 692 يوليو 2016<br />

46


الكويت عاصمة الثقافة اإلسالمية 2016<br />

املسجد األكبر في كولومبو هو واحد من بني 2000 مسجد<br />

وجامع ينتشرون في مختلف أرجاء جزيرة سريالنكا<br />

التقينا به - رحمه الله - في املركز اإلسلامي<br />

في كولومبو قبل وفاته بأسابيع،‏ وأهدانا كتاباً‏<br />

يضم سيرته الذاتية.‏<br />

يعتبر العلم السريانكي احلالي بعثاً‏ مطوراً‏<br />

للعلم امللكي القدمي الذي أنهاه االستعمار<br />

البريطاني عام ‎1815‎م،‏ بعد جناحه في الهيمنة<br />

على كامل أجزاء اجلزيرة وآخر معاقلها املتمثلة<br />

في مملكة كاندي الواقعة وسط سريانكا،‏<br />

ووضعت تفاصيل ذلك العلم لكي يعكس التنوع<br />

الثقافي والعرقي والديني املوجود،‏ مع أفضلية<br />

واضحة للمكون السنهالي البوذي،‏ كما يلخص<br />

ذلك العلم احلالة املأمولة لاستقرار في عهد<br />

االستقال،‏ األمر الذي لم يتحقق في البداية<br />

بعد تفجّ‏ ر األوضاع بني أقلية التاميل الهندوسية<br />

47<br />

سالم الله على أهل ‏»سرنديب«‏ ... رحلة من كولومبو إلى بيرواال


استطالع<br />

سريالنكا<br />

مدخل اجلامعة النظيمية اإلسالمية في قرية بيرواال<br />

فصل دراسي يتلقى فيه طالب اجلامعة النظيمية اإلسالمية دروسا في اللغة السنهالية وهي لغة غالبية الشعب السريالنكي<br />

العدد - 692 يوليو 2016<br />

48


الكويت عاصمة الثقافة اإلسالمية 2016<br />

لغة األقلية التاميلية اللغة الرسمية للبالد!‏ مع<br />

جهد تبشيري اتسم بالقسوة لنشر الكاثوليكية<br />

بيني البوذيني،‏ وأكمل الهولنديون ومن بعدهم<br />

البريطانيون سياسة التمييز في املعاملة،‏ مع<br />

ملسة خاصة لإلجنليز متثلت في تغيير التركيبة<br />

السكانية ملصلحة التاميل من خالل جلب املزيد<br />

منهم من جنوب الهند للعمل في حقول الشاي<br />

بعد تطور تلك الصناعة وزيادة الطلب على<br />

الشاي في العالم.‏<br />

لقد بات العلم السريالنكي اليوم أكثر نضارة<br />

وتعبيراً‏ من املعاني التي حملها،‏ وهو قاطرة<br />

للعبور إلى املستقبل بقيادة األسد القابض على<br />

السيف.‏<br />

نائب رئيس اجلامعة النظيمية اإلسالمية الدكتور آغار<br />

محمد عبدالكرمي<br />

والغالبية البوذية ودخول سريالنكا في دوامة<br />

حرب أهلية طويلة لم تنته حتى عام ‎2009‎م.‏<br />

يشتمل علم سريالنكا على صورة األسد<br />

القابض بيمينه على سيف مشبّع بالرموز التي<br />

لم تستثن حتى حلية األسد،‏ ولكن ما يهمنا هو<br />

معنى اخلطني العريضني األخضر والبرتقالي<br />

على يسار العلم،‏ اللذين أدخلال للتعبير عن<br />

األقليتيني اإلسلالمية وميثلها اللون األخضر،‏<br />

والتاميلية وميثلها اللون البرتقالي.‏<br />

وليس لهذا العلم أو أي علم يلتمس شعارات<br />

ورموز الوحدة والتسامح أي جدوى ما لم يكن له<br />

تطبيق على أرض الواقع وأثر في النفوس،‏ بدليل<br />

أن العلم السريالنكي لم مينع نشوب احلرب<br />

األهلية،‏ بالرغم من أنه يعتبر - في نظري - خطوة<br />

كبيرة من غالبية ساحقة جتاه أقليات مجهرية،‏<br />

ولكن مسار األحداث واأللغام التي زرعها احملتل<br />

أوصلهم إلى حلظة الصدام اخلشن بني شعور<br />

سنهالي متراكم بالظلم عبر التاريخ،‏ وانتفاضة<br />

منور التاميل دفاعاً‏ عن امتيازاتهم التي متتعوا<br />

بها خالل أيام االحتالل.‏<br />

وكان البرتغاليون هم أول من زرع بذرة<br />

اخلالف بني السنهاليني والتاميل باعتمادهم<br />

على طريق احلرير البحري<br />

احملطة الثانية لفهم طبيعة التنوع الثقافي<br />

والعرقي والديني في سريالنكا تكمن في<br />

موقعها اجلغرافي كمحطة رئيسة على طريق<br />

احلرير البحري،‏ وتتوسط كتلة اقتصادية<br />

ضخمة هي الصني شرقاً‏ وموانئ جنوب شبه<br />

اجلزيرة العربية شرقاً‏ ومن فوقها الهند بكل<br />

ثقلها،‏ هذا اجلسر املمتد بني حضارات الشرق<br />

والغرب لم يحمل احلرير والتوابل والزعفران<br />

واللبان والقرفة واجللود وعشرات األصناف<br />

من البضائع،‏ بل حمل معه األديان واألفكار<br />

والدعاة والغزاة.‏<br />

وتتضاعف أهمية محطة سريالنكا وجميع<br />

محطات طريق احلرير البحري في فترات تعطل<br />

خط احلرير البري نتيجة احلروب أو غياب<br />

األمان الكافي الستخدامه،‏ ولوال ذلك املوقع<br />

اجلغرافي املميز على طريق احلرير البحري،‏<br />

لعاشت سريالنكا حياة العزلة املضاعفة،‏ عزلة<br />

املاء احمليط بها من كل ناحية وعزلة اجلغرافيا<br />

التي حرمتها من قرب اجليران في ما عدا<br />

احلبل املرجاني الرفيع الذي يربطها مع الهند<br />

وشيء من القرب النسبي مع جزر املالديف،‏<br />

ومبعنى آخر لوال هبة املوقع اجلغرافي ملا<br />

عرفت سريالنكا شيئاً‏ عن العالم اخلارجي<br />

سوى ما يأتيها من نافذة الهند.‏<br />

49<br />

سالم الله على أهل ‏»سرنديب«‏ ... رحلة من كولومبو إلى بيرواال


استطالع<br />

سريالنكا<br />

تضم مكتبة اجلامعة النظيمية اإلسالمية ما يقارب األربعني ألف كتاب وقد أنشئت بدعم من البنك اإلسالمي للتنمية<br />

ومقره مدينة جدة وتضم هذه املكتبة كل ما يخدم مناهج اجلامعة وتوسيع دائرة معارف طلبتها<br />

حرص املسؤول املساعد ملكتبة اجلامعة حسان سليمان<br />

على اصطحابنا إلى ركن املجالت الدورية كي يطلعنا على<br />

مجموعة املكتبة من أعداد مجلة العربي التي تشهد إقباال<br />

متواصال من طلبتها الذين يجدون في لغتها العربية<br />

امليسرة عونا لهم في دراستهم<br />

بيرواال...‏ اجلامع واجلامعة<br />

ال تختلف قصة وصول اإلسالم إلى جزيرة<br />

سريالنكا عن بقية جزر جنوب شرق آسيا،‏ قد<br />

تختلف في التفاصيل ولكن اجلوهر واحد:‏<br />

لم ينتشر اإلسلالم في إندونيسيا وماليزيا<br />

واملالديف والفلبني وغيرها من املناطق عن<br />

طريق احلمالت العسكرية،‏ ولكن عن طريق<br />

التجار والدعاة واملهاجرين القادمني من منطقة<br />

حضرموت في اليمن في ما يعرف ب ‏»هجرة<br />

احلضارمة«.‏<br />

احملطة األشهر لالستيطان العربي في<br />

سريالنكا هي قرية بيرواال،‏ التي تقع على<br />

بعد 55 كلم جنوب كولومبو،‏ وتعد رمزاً‏ للفترة<br />

التي هيمن العرب فيها على خطوط التجارة<br />

البحرية،‏ ومن خاللها نشأت عالقات قوية<br />

مع السنهاليني وملوكهم الذين رحبوا بالنشاط<br />

التجاري مع املسلمني من منطق ال يخلو من<br />

العدد - 692 يوليو 2016<br />

50


الكويت عاصمة الثقافة اإلسالمية 2016<br />

أستاذ اللغة العربية محمود عليان مستغرقاً‏ هو وتالمذته في احلديث عن العناوين التي كتبها على ‏»السبورة«:‏ ( املسرح،‏<br />

اإلنشاد،‏ األخبار،‏ اخلطابة،‏ الكتابة،‏ القصة )<br />

‏»على أعتاب األندلس وخطط طارق بن زياد لفتحها«...‏ دخلنا فصل التاريخ اإلسالمي الذي يدرس فيه الدكتور عالء الدين<br />

منصور عبدالغفار واحدة من أبرز محطات التاريخ اإلسالمي<br />

51<br />

سالم الله على أهل ‏»سرنديب«‏ ... رحلة من كولومبو إلى بيرواال


استطالع<br />

سريالنكا<br />

قرية بيرواال هي احملطة األشهر لالستيطان العربي في سريالنكا،‏ ويؤرخ مسجد ‏»كيتشيماالي«‏ الذي بني فوق صخرة تطل<br />

على احمليط الهندي جانبا من ذلك التاريخ إذ مت بناؤه قبل ثمانية قرون<br />

بالقرب من مسجد ‏»كيتشيماالي«‏ تقع الكلية األشرفية العربية التي اشتق اسمها من ‏»شيخ أشرف«‏ املدفون في ذلك املسجد<br />

وهو شخصية حتظى بالكثير من التقدير بني مسلمي بيرواال ويعتبرونه من األولياء الصاحلني<br />

العدد - 692 يوليو 2016<br />

52


الكويت عاصمة الثقافة اإلسالمية 2016<br />

تلخص هذه الورقة تاريخ مسجد ‏»كيتشيماالي«‏ الذي بناه أعيان<br />

من اليمن لنشر الدعوة اإلسالمية وإقامة الصلوات اخلمس<br />

امام مسجد ‏»كيتشيماالي«‏ الشيخ غامن علوي من أحفاد<br />

أحفاد عرب حضرموت يقرأ ما تيسر من القرآن الكرمي<br />

السياسة،‏ فمن يهيمن على تلك الطرق يهيمن<br />

على التجارة العاملية وتعلو كلمته على بقية القوى<br />

اإلقليمية،‏ وفي بيرواال نزل التجار واملهاجرون<br />

والدعاة،‏ ومنها انتشروا في أنحاء سريالنكا،‏<br />

ومنهم من استقر فيها إلى يومنا احلاضر.‏<br />

بيرواال تلك القرية املليئة بأشجار جوز الهند<br />

وجتارة األحجار الكرمية،‏ محطة مهمة في<br />

رحلتنا،‏ كونها حتتضن مجموعة من املساجد<br />

القدمية التي تؤرخ لوصول التجار املسلمني<br />

لتلك املنطقة بدليل مادي ملموس،‏ كما توجد<br />

فيها اجلامعة النظيمية اإلسالمية التي اعتمدنا<br />

على كتيبها كمرجع ألغلب املعلومات عن تاريخ<br />

الوجود اإلسالمي في سريالنكا.‏<br />

قيل لنا عنها إن شهرتها تتمحور في بيع<br />

األحجار الكرمية وأعيانها من أغنى جتار هذا<br />

البلد،‏ ومنهم صاحب اجلامعة التي اشتق اسمها<br />

من اسمه وهو الشيخ نظيم،‏ في الطريق إليها<br />

دخلنا زقاقاً‏ غص بالناس عند بوابة تراءت لنا<br />

كمدخل ملسجد وتركناه خلفنا،‏ وفي طريق العودة<br />

عدنا إلى املكان نفسه،‏ ولكن سرنا فيه بتمهل،‏<br />

لم يكن ذلك احلشد سوى مكان باعة األحجار<br />

الكرمية وقوفاً‏ بال محال أو عربات،‏ فصال في<br />

فصال وجدل قلَّما ينتهي ببيع وشراء.‏<br />

ذهبنا أوالً‏ إلى كيتشيماالي الذي بُني على<br />

الصخرة البيضاء املطلة على احمليط الهندي،‏<br />

كان موقعه محفزاً‏ للسؤال:‏ ما الذي حصل هنا<br />

من دمار عندما هاج تسونامي؟ سألت املشرف<br />

الذي أجابني بأن هذا املسجد لم يتهدم ولكنه<br />

53<br />

سالم الله على أهل ‏»سرنديب«‏ ... رحلة من كولومبو إلى بيرواال


استطالع<br />

سريالنكا<br />

بني كولومبو وبيرواال ال يخلو الطريق من أشجار جوز الهند وظالل األشجار الكثيفة التي تخفف على املارة حرارة اجلو<br />

يعلن بعض أصحاب ‏»التكاتك«‏ عن هويتهم الدينية عن<br />

طريق إبرازها في مكان واضح،‏ وهذا ‏»التكتك«‏ وضع كلمة<br />

التوحيد على النافذة اخللفية<br />

أصيب ببعض األضرار نتيجة دخول ماء البحر<br />

ألرضية املسجد.‏<br />

وأضاف:‏ بالفعل تهدمت مساجد أخرى<br />

قريبة منا،‏ خرج إلينا إمام املسجد وهو شيخ<br />

كبير في العمر يدعى غامن علوي من أحفاد<br />

أحفاد عرب حضرموت الذين هاجروا إلى<br />

سرنديب،‏ لم يتحدث كثيراً‏ ولكنه رحّ‏ ب بنا<br />

وجلس ليقرأ علينا ما تيسر من القرآن الكرمي،‏<br />

ثم سمح لنا بتصوير املسجد من الداخل،‏ أما<br />

املشرف فقد عاد إلينا ومعه ورقة كتبت باللغة<br />

العربية فيها معلومات مركزة عن تاريخ املسجد<br />

األبيض أهمها أنه بُني قبل ثمانية قرون.‏<br />

ومن املسجد توجهنا إلى اجلامعة النظيمية<br />

اإلسالمية،‏ حيث كان ينتظرنا هناك نائب مدير<br />

اجلامعة د.‏ آغار محمد عبدالكرمي،‏ الذي<br />

أعطانا شرحاً‏ وافياً‏ عن تاريخ تلك اجلامعة<br />

ورسالتها وأهدافها،‏ كما أهداني كتيباً‏ تضمن<br />

العدد - 692 يوليو 2016<br />

54


الكويت عاصمة الثقافة اإلسالمية 2016<br />

بني األحرف السنهالية والتاميلية تكتب بالعربية كلمة ‏»حالل«‏ على أحد املطاعم جلذب الزبائن الذين يبحثون عن هذا<br />

النوع من الطعام<br />

تستعمل كلمة ‏»عباية«‏ بنفس معناها العربي للداللة على املالبس النسائية اخلاصة باملسلمات،‏ وطاملا أن الطلب متوافر من<br />

أقلية يبلغ تعدادها مليوني نسمة فمن املؤكد أن العرض لن يتخلف عن تلبية املطلوب<br />

55<br />

سالم الله على أهل ‏»سرنديب«‏ ... رحلة من كولومبو إلى بيرواال


استطالع<br />

سريالنكا<br />

ال ينقص كولومبو شيء من مالمح املدن العصرية فهي<br />

غنية باخليارات في كل شيء وتتمتع بشبكة مواصالت<br />

واتصاالت حديثة وفعالة وحركة البناء ال تتوقف فيها وإلى<br />

جانب كل ذلك هي مدينة نظيفة مرصوفة الشوارع<br />

العدد - 692 يوليو 2016<br />

56


الكويت عاصمة الثقافة اإلسالمية 2016<br />

57<br />

سالم الله على أهل ‏»سرنديب«‏ ... رحلة من كولومبو إلى بيرواال


استطالع<br />

سريالنكا<br />

واجهة املركز اإلسالمي في كولومبو<br />

معلومات مهمة عن تاريخ وأحوال املسلمني في<br />

سريالنكا.‏<br />

اجلامعة النظيمية عضو في احتاد اجلامعات<br />

اإلسلالمية،‏ وهي بيئة تعليمية متكاملة يتلقى<br />

فيها الطالب رعاية خاصة وفرصاً‏ واعدة<br />

لتعلم مهارات متعددة تضمن له أفضلية القبول<br />

في وظائف القطاعني العام واخلاص،‏ وفي<br />

هذه اجلامعة ذات الطابع الديني الواضح،‏ ال<br />

يتلقى طالبها العلوم الشرعية فقط،‏ ولكنهم<br />

يتعلمون لغات العمل واحلياة مثل اإلجنليزية<br />

والسنهالية،‏ أما األولى فهي لغة عاملية،‏ بينما<br />

الثانية فهي لغة الغالبية في سريالنكا وإجادتها<br />

تيسّ‏ ر للطالب املسلمني سهولة االندماج معهم،‏<br />

ويوجد في اجلامعة معهد تكنولوجي لتعليم<br />

احلرف اليدوية.‏<br />

وقد سلط د.‏ آغار محمد عبدالكرمي الضوء<br />

على الدور احليوي الذي يؤديه املسلمون في<br />

احلياة العامة واخلصوصية التي يتمتعون بها<br />

داخل الدولة،‏ فهم يديرون محاكمهم القضائية<br />

اخلاصة بقضايا األحوال الشخصية ولديهم<br />

مدارس حكومية كثيرة،‏ كما توجد لهم بعض<br />

البرامج في اإلذاعة والتلفزيون،‏ وأخيراً‏ تعتبر<br />

أعياد املسلمني عطالت رسمية في الدولة.‏<br />

ويبدو أن مشكلة اللغة هي التحدي الذي<br />

يواجهه املسلمون في سريالنكا بعد االستقالل،‏<br />

حيث إنهم يتكلمون بالتاميلية،‏ وغالبية املؤلفات<br />

العدد - 692 يوليو 2016<br />

58


الكويت عاصمة الثقافة اإلسالمية 2016<br />

جانب من حفل تخريج دفعة جديدة من طلبة املركز اإلسالمي بحضور سفير دولة الكويت في سريالنكا خلف بوظهير<br />

صورة جتمع الشيخ محمد حنيفة أول رئيس مسلم للبرملان<br />

السريالنكي مع سفير الكويت لدى سريالنكا خلف بوظهير<br />

اإلسالمية لعلماء سريالنكا كتبت بهذة اللغة،‏<br />

في حني تعتبر اللغة السنهالية اللغة الرسمية<br />

للدولة،‏ األمر الذي دفع الشباب املسلمني إلى<br />

تعلم السنهالية باعتبارها لغة احلياة اليومية<br />

والعمل.‏<br />

وتتجه األنظار اآلن إلى مشروع ضخم لترجمة<br />

جميع املؤلفات اإلسلالمية من اللغة التاميلية إلى<br />

السنهالية ولكنه اليزال على الورق الرتفاع التكاليف.‏<br />

كنا على موعد مع اللغة العربية ومجلة<br />

العربي،‏ فبعد نهاية اللقاء مع د.‏ آغار محمد<br />

عبد الكرمي،‏ خرجنا برفقة أحد العاملني في<br />

اجلامعة النظيمية ويدعى محمد مصباح لزيارة<br />

بعض الفصول الدراسية التي تدرس اللغة<br />

العربية ورؤية ذلك على الطبيعة،‏ الفصل األول<br />

كان مخصصاً‏ لتدريس اللغة السنهالية ‏)لغة<br />

الغالبية في سريالنكا(‏ الفصل الذي يليه كان<br />

فيه درس في التاريخ باللغة العربية يشرحه<br />

د.‏ علالء الدين منصور عبد الغفار وهو من<br />

مصر،‏ أما الفصل الثالث فكان فيه درس في<br />

اللغة العربية يتناوله األستاذ محمود فتحي<br />

عليان لتالمذته،‏ وهو اآلخر من مصر.‏<br />

59<br />

سالم الله على أهل ‏»سرنديب«‏ ... رحلة من كولومبو إلى بيرواال


استطالع<br />

سريالنكا<br />

العالقة اجلدلية بني القدمي الشامخ واحلديث البراق<br />

محتدمة،‏ املراكز التجارية املكيفة تقضم من مساحات<br />

األسواق الشعبية املكشوفة،‏ واللوحات اإلعالنية الضخمة<br />

طلت على جدران املباني الهرمة،‏ أما معاقل اإلشعاع<br />

الروحي ملختلف الديانات فمازالت مزدهرة باملؤمنني<br />

العدد - 692 يوليو 2016<br />

60


الكويت عاصمة الثقافة اإلسالمية 2016<br />

مبنى بلدية كولومبو وهو ينتمي لعهد االستعمار اإلجنليزي جلزيرة سريالنكا<br />

بعد زيارة الفصول الدراسية ذهبنا إلى<br />

مكتبة اجلامعة التي تضم ما يقارب األربعني<br />

ألف كتاب،‏ وقد أنشئت بدعم من البنك<br />

اإلسالمي للتنمية ومقره مدينة جدة،‏ تضم هذه<br />

املكتبة كل ما يخدم مناهج اجلامعة وتوسيع<br />

دائرة معارف طلبتها،‏ مساعد أميني املكتبة<br />

حسان سليمان حرص على اصطحابنا إلى<br />

ركن املجالت الدورية كي يطلعنا على مجموعة<br />

املكتبة من أعداد مجلة العربي التي تشهد<br />

إقباالً‏ متواصالً‏ من طلبتها الذين يجدون في<br />

لغتها العربية امليسرة عوناً‏ لهم في دراستهم.‏<br />

يستند كتيب اجلامعة النظيمية بشكل<br />

كامل إلى رواية ابن برزك عن زمن وصول<br />

اإلسلالم إلى سريالنكا خالل فترة اخلليفة<br />

عمر بن اخلطاب . وملخص رواية برزك<br />

ابن شهريار التي أوردها في كتابه ‏»عجائب<br />

الهند...‏ برّه وبحره وجزائره«،‏ يشير إلى أن خبر<br />

اإلسالم وصل إلى سريالنكا في أيام اخلليفة<br />

عمر وقد أوفدوا إليه بعثة من شخصني،‏<br />

رسول وخادمه،‏ تستطلع تعاليم اإلسالم،‏ وقد<br />

التقى ذلك الرسول باخلليفة وأخذ منه ما مت<br />

إرساله ألجله،‏ وفي طريق العودة فاضت روحه<br />

إلى بارئها فأكمل خادمه املهمة في تبليغ ما<br />

عرفه عن تعاليم اإلسالم إلى أهل سريالنكا.‏<br />

وضمن الكتيب نفسه وردت إشارة عن<br />

سبب فتح بالد السند،‏ الذي يعود إلى استيالء<br />

مجموعة من القراصنة من ‏»الديبل«‏ التي تقع<br />

قرب مدينة كراتشي على عدد كبير من السفن<br />

التابعة ملسلمي ‏»سرنديب«‏ بكل ما فيها من هدايا<br />

وركاب،‏ وقد بلغ خبرهم احلجاج بن يوسف الذي<br />

أرسل إلى ملك الديبل ‏»داهر«‏ يطلب استرجاع<br />

ما أخذه القراصنة،‏ ولكن ‏»داهر«‏ تعذر بأنه ال<br />

سلطان له عليهم،‏ فغضب احلجاج وأرسل أكثر<br />

من حملة عسكرية مبوافقة اخلليفة األموي<br />

الوليد بن عبدامللك ولم تفلح،‏ لكن األخيرة<br />

بقيادة محمد بن القاسم كللت بالنجاح وقتل<br />

امللك داهر في أرض املعركة وفتحت بالد السند<br />

بكاملها.‏<br />

ولعبت العالقات الوطيدة بني مسلمي<br />

سريالنكا وجنوب الهند دوراً‏ كبيراً‏ في تعزيز<br />

وانتشار اإلسلالم في البالد،‏ كما حترص<br />

مجموعة من املسلمني العرب الذين استوطنوا<br />

61<br />

سالم الله على أهل ‏»سرنديب«‏ ... رحلة من كولومبو إلى بيرواال


استطالع<br />

سريالنكا<br />

كل وسائل املواصالت متاحة في شوارع كولومبو<br />

لكثرة أشجار جوز الهند األصفر في سريالنكا فإنه يندر أن يخلو مكان من بائع يروي عطش املارة مباء جوز الهند القريب<br />

من طعم املاء وبأسعار مبتناول اجلميع<br />

العدد - 692 يوليو 2016<br />

62


الكويت عاصمة الثقافة اإلسالمية 2016<br />

الساحل اجلنوبي الشرقي على تفقد أحوال املسلمني<br />

في سريالنكا،‏ ولعل قصة بناء املسجد األحمر في<br />

‏»بيتاه«‏ التي سبق ذكرها خير شاهد على ذلك.‏<br />

وأخيراً‏ انتهت رحلتنا إلى بيرواال،‏ وهي على<br />

صغر حجمها كانت غنية باملعلومات ومحطة<br />

متوهجة في هذه الرحلة.‏<br />

العمل مستمر على قدم وساق إلجناز برج كولومبو اجلديد<br />

لالتصاالت كي ينضم إلى قائمة أطول األبراج في العالم<br />

مركز كولومبو اإلسالمي<br />

لم يتبق لنا ضمن برنامج هذه الرحلة غير زيارة<br />

مركز كولومبو اإلسلالمي،‏ وقد أجلنا زيارته بتوصية من<br />

سفير دولة الكويت في سريالنكا السيد خلف بوظهير،‏<br />

حتى تتزامن زيارتنا مع احتفال يقيمه املركز مبناسبة<br />

تخريج دفعة جديدة قوامها 62 طالباً‏ وطالبة،‏ وألجل<br />

االلتقاء مع شخصية مهمة في التاريخ السريالنكي<br />

احلديث هي الشيخ محمد حنيفة محمد الذي سيحضر<br />

جانباً‏ من ذلك االحتفال رغم تقدمه في السن.‏<br />

لقد كان هذا املركز مبنزلة احللم الذي سعى الشيخ<br />

محمد لتحقيقه كي يكون محطة محورية للبحوث<br />

والتنمية الثقافية الدينية ونشر األدب اإلسالمي،‏ وبعد<br />

طول عناء مت في 17 ديسمبر ‎1986‎م افتتاح مركز كولومبو<br />

اإلسلالمي بدعم من البنك اإلسالمي للتنمية،‏ بحضور<br />

رئيس اجلمهورية آنذاك جونيوس ريتشارد جيوردين<br />

كمنظمة غير حكومية لتحقيق أهداف محددة تتمثل في<br />

تعزيز الهوية الدينية والثقافية واالجتماعية للمسلمني<br />

في سريالنكا وتقدمي أنشطة نوعية في جميع أرجاء<br />

البالد من بينها االحتفال مبيالد النبي .<br />

وقبل بداية احلفل بقليل جمعنا لقاء في مكتب<br />

الشيخ حنيفة وأعضاء مجلس اإلدارة والسفير بوظهير،‏<br />

ودار حوار حول أوضاع املسلمني في سريالنكا في الوقت<br />

احلالي،‏ وقد كانت اإلجابات بشكل عام تؤكد أن األمور<br />

بخير وأن حرية العبادة مكفولة واملساحة التي يتحرك<br />

فيها املسلمون جيدة،‏ كان الشيخ محمد متابعاً‏ للحوار<br />

وعلى يساره تبدو صورة قدمية له وهو يترأس إحدى<br />

جلسات البرملان السريالنكي،‏ كانت الصورة مبنزلة<br />

إجابة موازية لإلجابات السابقة،‏ قبل أن نخرج من<br />

املكتب طلب الشيخ محمد نسختني من سيرته،‏ واحدة<br />

للسفير والثانية لي.‏<br />

وتولى الشيخ محمد حنيفة مناصب مهمة<br />

عدة في الدولة،‏ أبرزها منصب رئيس البرملان<br />

63<br />

سالم الله على أهل ‏»سرنديب«‏ ... رحلة من كولومبو إلى بيرواال


استطالع<br />

سريالنكا<br />

تستقبلنا ‏»الغربان«‏ حلظة الوصول وترافقنا في رحلتنا وقبل الرحيل<br />

تودعنا،‏ الطائر هذا حاضر في تفاصيل اجلزيرة اخلضراء<br />

السريالنكي،‏ وكان وزيراً‏ في أكثر من حكومة<br />

لألشغال واإلسكان والنقل العام واخلاص<br />

والشؤون اإلسلالمية،‏ وقبل ذلك تولى رئاسة<br />

بلدية كولومبو ومنصب عمدة املدينة،‏ وقد<br />

سخّ‏ ر معظم حياته خلدمة العمل اإلسالمي<br />

واملسلمني في سريالنكا،‏ وفي أثناء كتابتنا<br />

لهذه األسطر بلغنا نبأ وفاته،‏ فله الرحمة<br />

واملغفرة.‏<br />

هي اللحظة وفي املستقبل اخلبر<br />

كل ما فات لم يكن غير تسجيل اللحظة<br />

واستحضار التاريخ بقدر احلاجة،‏ وبقدر<br />

ما أوحت وباحت لنا املعطيات عن أحوال<br />

املسلمني في سريالنكا،‏ فإننا نؤكد أنها<br />

معطيات اللحظة مع تسليمنا بوقوع مجموعة<br />

من املضايقات من بعض الرهبان البوذيني<br />

للمسلمني في أوقات سابقة،‏ ولكنها ال تدخل<br />

في إطار العمل املمنهج الذي يستهدف<br />

حتقيق أهداف معينة،‏ اللحظة تؤكد وجود<br />

2000 مسجد في مختلف أرجاء سريالنكا،‏<br />

واللحظة جمعتنا مع أناس كثيرين لم نسمع<br />

منهم ما يعكّر صفوها،‏ إذاً‏ لم يتبق لنا غير<br />

العدد - 692 يوليو 2016<br />

64


الكويت عاصمة الثقافة اإلسالمية 2016<br />

على الشريط الساحلي لكولومبو مر قطار ذكرني بأن الرحلة في سريالنكا مازالت في بدايتها وأمامنا الكثير مما يستحق<br />

إكمال الطريق ألجله<br />

املستقبل الذي يكمن فيه اخلبر،‏ والذي ال<br />

نتمنى إال أن يكون أجمل مما كان.‏<br />

أيّ‏ األسماء تليق بك؟<br />

سيالن،‏ سرنديب،‏ جزيرة الياقوت،‏ زيالن،‏ سيالو،‏<br />

تابروباني...‏ سريالنكا،‏ أعلم أن االسم األخير هو النهائي،‏<br />

ولكن أي األسماء تليق باجلزيرة اخلضراء؟<br />

بعكس ما كان متوقعاً‏ لم تندثر معظم األسماء السابقة<br />

وبقي منها ما بقي كأسماء لشركات ومحال وعالمات<br />

جتارية،‏ كان ‏»سرنديب«‏ أول األسماء التي وجدتها باقية<br />

على قيد احلياة،‏ فقد اختارته شركة اخلطوط اجلوية<br />

السريالنكية عنواناً‏ مشعاً‏ ملجلتها الشهرية كي يقرأه كل من<br />

جلس على أحد مقاعدها،‏ األمر نفسه تكرر مع ‏»سيالن«،‏<br />

ولكن بزخم أكبر،‏ فال يكاد يخلو مكان من ذلك االسم،‏ فما<br />

السبب؟ هل هو احلنني؟ أم هي إشكالية اجلمال الذي ال<br />

يحتمل اسماً‏ أو وصفاً‏ أو قصيدة واحدة؟<br />

جمال سريالنكا وسحر ابتسامة ناسها أوقعاني في<br />

حيرة ال أزال فيها،‏ ملخصها األسئلة التالية:‏ كيف لهذه<br />

األرواح اجلميلة أن تعرف طريق السالح والبارود والقتل؟<br />

وكيف على النقيض من ذلك جعلوا من أنفسهم أمنوذجاً‏<br />

للتعايش وومضة أمل بني أخبار العالم الكئيبة؟<br />

فسالم الله على ‏»سرنديب«‏ وأهلها


أدب<br />

االعتراف والهوية<br />

د.‏ إيهاب النجدي أكادميي من مصر مقيم في الكويت<br />

ال تنفصل السيرة الذاتية - بآفاقها السردية - لكاتب من الكتاب عن نصوصه<br />

األدبية األخرى،‏ ويمثل النص السيري في هذا اإلطار نصاً‏ موازياً،‏ وشارحاً،‏ ومحققاً،‏<br />

وقارئاً‏ ألدب صاحب السيرة،‏ ولمجتمعه في آن،‏ في فترة من فترات تاريخه.‏<br />

ومنطقة االعتراف في فضاء السيرة الذاتية أكثر المناطق تفاعلالً‏ وتوتراً،‏<br />

وكشفاً‏ وفائدة،‏ تتهاوى عندها أقنعة الشخوص الروائية،‏ ويتناءى عنها اليومي<br />

والعادي،‏ وتضحى مركز الضوء والحقيقة،‏ وبهدي من أشعة هذا المركز تُرصد<br />

حركة النصوص األدبية الموازية،‏ وتُسْ‏ تجلى بذور التكوين.‏<br />

السيرة الذاتية اخلالية من الصور االعترافية<br />

أقرب إلى أن تكون قصيدة في الفخر أو املديح,‏<br />

جتنح للمثال,‏ وتبعد عن واقع اإلنسان ‏»ذلك<br />

اخلطّ‏ ‏اء«‏ الذي تستبد به املنازع,‏ وتعتري نفسه<br />

شتى األحوال.‏ وفي االعتراف تكون زاوية الرؤية<br />

أو التبئير - Focalization بالتعبير السردي - في<br />

أعلى درجاته سطوعاً,‏ ويغلب أن يكون التبئير<br />

داخلياً,‏ فالسارد محدد ومعروف سلفاً,‏ وهو املؤلف,‏<br />

ال يقدم إال ما تعلمه الشخصية,‏ وما تدركه مبعنى<br />

من املعاني.‏<br />

ويسعى السارد إلى رفع االلتباس,‏ فتحضُ‏ ر<br />

الهوية صريحة,‏ وطبيعية بال رتوش,‏ ويتم التعرّف<br />

عليها,‏ والتعريف بها,‏ ولعلها أجلى فائدة ميكن<br />

الظفر بها من خالل االعتراف,‏ فالسارد يستدعي,‏<br />

ويستبطن,‏ ويفسّ‏ ‏ر,‏ ويحاول النفاذ إلى اجلوهر,‏<br />

وينقد الهوية نقداً‏ ذاتياً,‏ ثم يتجاوز األحداث العامة<br />

اخلامدة,‏ ليمسك بالوقائع املهمة,‏ وعند ذاك<br />

يحصل تعريف الهوية على أكثر من مستوى:‏ هوية<br />

الكاتب,‏ والكتابة,‏ وهوية املجتمع الذي يؤثر ويتأثر,‏<br />

ويحتضن سلباً‏ وإيجاباً‏ الهويتني معاً.‏<br />

جان جاك روسو<br />

وتنطلق املقاربة التي تصل الهوية بالسرد<br />

واالعتراف,‏ لدى الناقد عبدالله إبراهيم من النظر<br />

إلى الكتابة ‏»بوصفها حواراً,‏ وبحثاً,‏ واعترافاً,‏ وإعادة<br />

تعريف بالهوية«,‏ فالتركيز على البعد ‏»اجلوّاني«‏<br />

لشخصيات السيرة يراه ‏»املادة األكثر أهمية في<br />

أدب االعتراف,‏ وليس األحداث اخلارجية املشاعة<br />

بني اجلميع,‏ وقد نهلت اآلداب السردية من هذه<br />

املنطقة شبه احملرّمة,‏ وبيّنتْ‏ موقع الكاتب في<br />

مجتمعه,‏ وهويته,‏ ورؤيته للعالم«.‏<br />

وهذا القران احلاصل بني االعتراف,‏ وتعريف<br />

الهوية مبستوياتها الفردية واجلماعية - من منظور<br />

العدد - 692 يوليو 2016<br />

66


الكويت عاصمة الثقافة اإلسالمية 2016<br />

التلقي - في حركة دائبة,‏ وأخذ وردٍّ‏ بني حالة التوق<br />

إلى البوح والكشف,‏ وحالة الستر واإلخفاء,‏ ثم<br />

تردد صورة الهوية بني صورة الكاتب البطل املبرّأ<br />

من العيوب,‏ وصورة الشخصية البشرية حني تتعثر<br />

وتسقط,‏ وتضل الطريق,‏ وبهذا فإن هوية الكاتب<br />

ليست ثابتة في كل األحوال,‏ وال في كل املراحل,‏<br />

وما ينبغي لها أن تركن إلى اجلمود,‏ فالكاتب<br />

‏»صيرورة من التحوالت التي ال تنتهي,‏ وال يُعاب<br />

على املرء الوقوع في اخلطأ,‏ إمنا يعاب عليه نكرانه<br />

له,‏ أو عدم تخطّ‏ يه,‏ فال ينبغي اخلوف,‏ أو حتى<br />

اخلجل,‏ من اقتراف الكاتب للخطأ,‏ ولكن يحسب<br />

عليه تقبّله,‏ والتعايش معه,‏ فاالنزالق إلى اخلطأ<br />

أمر تصعب السيطرة عليه بسبب حتول الوعي<br />

اخلاص بالكاتب من درجة إلى أخرى,‏ وبني مرحلة<br />

وأخرى,‏ وصوالً‏ إلى ما يصطلح عليه لوكاش ب<br />

‏»الوعي األصيل«‏ بنفسه وعامله,‏ وذلك يتأخر كثيراً,‏<br />

وقد ال يأتي أبداً.‏<br />

لكن التلقي أيضا,‏ بآلياته اجلديدة,‏ وانفتاح<br />

آفاقه,‏ لم يعد جامداً,‏ أو ثابتاً‏ عند صورة منطية<br />

للكاتب,‏ واعتراه ما اعترى الكاتب من حتوالت,‏<br />

وصار في مقدور املتلقي التخلي عن صورة الكاتب<br />

الرمز,‏ والقبول بصورة الكاتب اإلنسان في حالي<br />

سقوطه وصعوده,‏ وعلى وجه أخص مع بروز ثورة<br />

املعرفة احلديثة,‏ التي انطلقت عبر آليات واسعة<br />

من التواصل,‏ واالتصال الرقمي,‏ وألفة التعرف<br />

على البعيد,‏ والعصي من حيوات اآلخرين.‏<br />

وقد حدث حتوّل بارز في عالقة<br />

االعتراف بالهوية مع اعترافات جان جاك روسو<br />

‏)ت.‏ ‎1778‎م(,‏ فبعد أن كانت االعترافات طقساً‏<br />

دينياً,‏ من أجل التطهر,‏ وإظهار عظمة خالق<br />

الوجود ‏)اعترافات القديس أوغسطينوس مثاالً(,‏<br />

أحدثت اعترافات األديب الفرنسي تغييراً‏ جوهرياً‏<br />

في مفهوم االعتراف وأسلوبه,‏ فأصبح اعترافاً‏<br />

إنسانياً,‏ يخاطب الناس في املقام األول,‏ ويهدف<br />

إلى جالء احلقيقة,‏ حقيقة الذات,‏ واملجتمع الذي<br />

تتحرك فيه,‏ يقول روسو في مستهل اعترافاته:‏<br />

‏»أنا اليوم قادم على أمر لم يسبق إليه سابق,‏ ولن<br />

يلحق به الحق,‏ أنا مزمع على أن أجلو إلخواني بني<br />

اإلنسان إنساناً‏ على حقيقته,‏ وفي صميم طينته,‏<br />

وهذا اإلنسان هو أنا..«.‏<br />

اتخذ روسو من ذاته معبراً‏ للنفاذ إلى الذات<br />

اإلنسانية,‏ وتقدمي العالم الداخلي للنفس,‏ وظلّ‏<br />

مشغوالً‏ بذلك زمناً‏ طويالً,‏ ففي نصه األخير<br />

‏»تأمالت ملتجول وحيد«‏ الذي نشر بعد وفاته,‏ بدا<br />

ذلك الباحث عن حقيقة نفسه,‏ الراغب في العزلة<br />

من أجل االكتشاف,‏ ودراسة شخصه,‏ وهكذا<br />

استسلم ‏»للذة التحاور مع الروح«‏ على حد تعبيره<br />

‏)د.‏ سليمان الشطي:‏ إضاءة,‏ مجلة الكويت,‏ يونيو<br />

.)2012<br />

خارج املكان<br />

إدوارد سعيد<br />

إن سؤال الذات ال يتوانى في الظهور بالسير<br />

الذاتية الصريحة,‏ فارتباك الهوية كان ماثالً‏ في<br />

‏»خارج املكان«‏ إلدوارد سعيد ‏)ت.‏ ‎2003‎م(,‏ وهي<br />

السيرة الذاتية أو املذكرات التي كتبها إثر إصابته<br />

بسرطان الدم,‏ وفي أثناء فترات العلالج,‏ بان<br />

االرتباك والتردد املُلحّ‏ ان الضاغطان على النفس,‏<br />

فرصدتهما افتتاحية الفصل األول,‏ بل أضاءتهما<br />

مقدمة املؤلف للطبعة العربية,‏ يقول في املقدمة:‏<br />

‏»أما في حالتي أنا,‏ فالفارق بني اإلجنليزية<br />

والعربية يتخذ شكل توتر حاد غير محسوم,‏<br />

بني عامليني مختلفني كلياً,‏ بل متعاديَنينْ‏ : العالم<br />

الذي تنتمي إليه عائلتي وتاريخي وبيئتي وذاتي<br />

األولية احلميمة - وهي كلها عربية - من جهة,‏<br />

وعالم تربيتي الكولونياليّ‏ , وأذواقي وحساسياتي<br />

املكتسبة,‏ ومجمل حياتي املهنية معلِّمًا وكاتباً‏ من<br />

67<br />

االعتراف والهوية


جهة أخرى.‏ لم يُعْفني هذا النزاعُ‏ منه يوماً‏ واحداً,‏<br />

ولم أحظَ‏ بلحظة راحةٍ‏ واحدةٍ‏ من ضغط واحدة<br />

من هاتني اللغتني على األخرى,‏ وال نعمتُ‏ مرةً‏<br />

بشعور من التناغم بني ماهيتي على صعيد أول,‏<br />

وصيرورتي على صعيد آخر,‏ وهكذا فالكتابة عندي<br />

فعلُ‏ استذكارٍ‏ , وهي إلى ذلك,‏ فعلُ‏ نسيان«.‏<br />

مت االستذكار والنسيان في آن واحد,‏ من<br />

أجل إجناز عملية البحث عن الهوية وحتققها,‏ مت<br />

ذلك حتت سقف التوتر واالرتباك,‏ والضغط<br />

والتنازع,‏ واملفارقة والتناقض,‏ ولم يتوقف هذا<br />

البحث عند مظهر التردد بني لغتني أو استبدال<br />

اللغة اجلديدة بالقدمية,‏ فقد امتد إلى مظاهر<br />

أخرى,‏ من أقربها اسم املؤلف ذاته أو اسم السارد,‏<br />

يقول:‏ ‏»هكذا كان يلزمني قرابة خمسيني سنة؛<br />

لكي أعتاد على إدوارد,‏ وأخفف من احلرج الذي<br />

يسببه لي هذا االسمُ‏ اإلجنليزيُّ‏ األخرق الذي وُضِ‏ ع<br />

كالنير على عاتق سعيد اسم العائلة العربيّ‏ القحّ.‏<br />

صحيح أن أمي أبلغتني أني سُ‏ مّيتُ‏ إدوارد على اسم<br />

أمير بالد الغال ‏)وارث العرش البريطاني(‏ الذي<br />

كان جنمه المعاً‏ عام 1935, وهو عام مولدي,‏ وأن<br />

سعيد هو اسم عدد من العمومة وأبناء العم,‏ وخالل<br />

سنوات من محاوالتي املزاوجةَ‏ بني اسمي اإلجنليزيّ‏<br />

املفخّ‏ م وشريكه العربيّ‏ , كنتُ‏ أجتاوز إدوارد،‏ وأؤكد<br />

على سعيد تبعاً‏ للظروف,‏ وأحياناً‏ أفعل العكس,‏ أو<br />

كنت أعمد إلى لفظ االسمني معاً‏ بسرعة فائقة<br />

بحيث يختلط األمرُ‏ على السامع,‏ واألمر الوحيد<br />

الذي لم أكن أطيقه,‏ مع اضطراري إلى حتمله,‏ هو<br />

ردود الفعل املتشككة واملدمِّرة التي كنت أتلقّاها:‏<br />

إدوارد؟ سعيد؟«.‏<br />

يتجه درس الهوية في ‏»خارج املكان«‏ إلى<br />

استيعاب أمرين مهمني,‏ بالنسبة ملؤلفها,‏ األول:‏<br />

حركية الهوية الشخصية؛ فهي تتكون من تيارات<br />

واجتاهات,‏ لم مير بها السارد دفعة واحدة,‏ بل عبر<br />

مراحل زمنية متعاقبة,‏ تعرّضت فيها كتاباته إلى<br />

انزياحات وحتوالت,‏ لم ينكر وجودها يوماً.‏<br />

أما األمر الثاني فهو الشك في فكرة الهوية<br />

األحادية,‏ خاصة أن املفارقة ظاهرة في عملية<br />

إنتاج السيرة أو املذكرات ذاتها,‏ إنه يستذكر نشأته<br />

العربية,‏ ليعيد صياغتها بلغة إجنليزية,‏ أي إن<br />

الذاكرة عربية,‏ والسرد إجنليزي,‏ وهذه العملية<br />

تطرح سؤاالً‏ عن كيفية استيعاب لغة اآلخر حلياة<br />

الذات,‏ وإلى أي مدى يكون هذا االستيعاب وافياً؟<br />

لكن التعدد في الهوية مثّل لديه نافذة لالنفتاح على<br />

اآلفاق الرحبة للحوار بني الثقافات.‏<br />

ليس هذا فحسب؛ فقد قاده هذا الدرس إلى<br />

منطقة االعتراف,‏ وإلى أن تكون الصراحة إحدى<br />

سمات ‏»خارج املكان«,‏ وهي السيرة التي تعقّبت<br />

حتوالت حياته منذ امليالد,‏ وحتى زمن حصوله<br />

على الدكتوراه في عام 1962.<br />

إسطنبول...‏ باموق<br />

أورهان باموق<br />

الكتابة هوية أيضاً,‏ من دون الوصول إلى<br />

ساحلها حوارات واعترافات,‏ وجتلّى ذلك لدى<br />

الروائي التركي احلاصل على ‏»نوبل«،‏ أورهان<br />

باموق,‏ في سيرته ‏»إسطنبول الذكريات واملدينة«,‏<br />

وعلى وجه أخص في الفصل السابع والثالثني<br />

الذي جاء بعنوان ‏»محادثة مع أمي:‏ الصبر واحلذر<br />

والفن«.‏ كان املستقبل الغامض لطالب الهندسة<br />

املعمارية أورهان هو موضوع احلوارات الليلية<br />

الطويلة للسارد مع أمه,‏ وما لبثت أن حتوّلت إلى<br />

جدل مرير,‏ وأزمة هوية.‏ إنه من صميم قلبه يقول:‏<br />

‏»إنني ال ميكن أن أكون مهندساً‏ معمارياً..«,‏<br />

وفي الوقت نفسه:‏ ‏»رأيتُ‏ حبي للرسم ميوت,‏<br />

وشعرتُ‏ باخلواء املؤلم الذي خلّفه وراءه«‏ و»ال ميكن<br />

أن أستمر إلى األبد في قراءة الكتب والروايات<br />

حتى الصباح,‏ أو قضاء الليالي في التجول في<br />

العدد - 692 يوليو 2016<br />

68


الكويت عاصمة الثقافة اإلسالمية 2016<br />

الشوارع«.‏<br />

وأمام فداحة األزمة وخطورتها على حياة السارد,‏<br />

تستعني األم بسرود استعادية,‏ لها أكثر من وجهة:‏<br />

سرد شخصي يخصُّ‏ حياتها التعليمية:‏ ‏»كنتُ‏ مثلك<br />

وأنا صغيرة,‏ كنت أهرب من احلياة...«،‏ سرد عائلي<br />

اعترافي يخصُّ‏ الزوج ‏)والد السارد(,‏ وخيانته الزوجية<br />

‏»بعد بحث طويل جنحت أمي في أن تعثر على املكان<br />

الذي يقابل فيه أبي عشيقته..«،‏ سرد غيري يخصُّ‏<br />

الرسام التركي املشهور,‏ وعبرة قصته مع الرسم ‏»لن<br />

تتمنى أن تصبح رساماً‏ في هذه البالد يا بنيّ‏ ...«.<br />

توسّ‏ ‏لت األم بكل هذه السرود إلقناع االبن بأن<br />

يكون ‏»طبيعياً,‏ وعادياً,‏ مثل اآلخرين«،‏ ومازالت األم<br />

تتحدث ‏»عليك أن تكون غنياً,‏ لذلك ال تتخلّ‏ عن دراسة<br />

العمارة يا بني..«,‏ ثم اقتضت اللحظة احلاسمة في<br />

حتديد املستقبل/‏ املصير/‏ الهوية احليوية,‏ حضور<br />

الداخل واخلارج,‏ الذكريات واملدينة,‏ فكانت أشبه<br />

بلحظة التنوير في دراما نفسية,‏ تتضافر فيها كل<br />

العناصر من أجل الوصول إليها,‏ وبها تُختتم سيرة<br />

أورهان باموق:‏<br />

‏»شوارع بيه أوغلو,‏ وزواياها املظلمة,‏ ورغبتي في<br />

أن أجري بعيداً,‏ وشعوري بالذنب،‏ كل ذلك كان يومض<br />

ويخبو مثل أضواء النيون في رأسي,‏ عرفت حينها<br />

أنني لن أتشاجر أنا وأمي في تلك الليلة,‏ وفي دقائق<br />

معدودات كنت أفتح الباب وأهرب إلى الشوارع املخزية<br />

في املدينة؛ وبعد أن جتولتُ‏ حتى منتصف الليل عدتُ‏<br />

إلى البيت,‏ وجلست أمام طاولتي,‏ وسجلّتُ‏ كيمياءها<br />

على الورق.‏ قلتُ‏ : ال أريد أن أكون رساماً,‏ سأكون<br />

كاتباً«.‏<br />

كان االعتراف جسراً‏ للوصول إلى هوية الكتابة,‏<br />

واستدعاه الصراع الواقع بني هويتني من مستويني<br />

مختلفني:‏ هوية اجتماعية,‏ وهوية ذاتية؛ فاألم من<br />

خالل سرد متشعب األلم تريدها هوية اجتماعية,‏<br />

تقليدية,‏ قادرة على التعايش مع الواقع التركي في<br />

ذلك الوقت.‏ أما االبن فقد أرادها هوية تخص<br />

الذات,‏ مغايرة,‏ متحققة في الرسم أو الكتابة,‏ وال<br />

بديل.‏<br />

هذا الصراع آزره حضور طاغ للمدينة إسطنبول<br />

‏)املوزعة بني آسيا وأوربا(,‏ مكان إقامة,‏ وموضوع كتابة,‏<br />

ورمبا كان النشغال باموق بالهوية الذاتية الكتابية,‏<br />

أثرٌ‏ في انشغاله بالهوية الكبرى في رواياته وكتاباته,‏<br />

أعني هوية وطنه تركيا,‏ ومبعنى أدق هوياتها املتعددة,‏<br />

املشدودة بني جناحي التراث واملعاصرة ><br />

خطيب على مائدة رمضانية<br />

دعا موسى بن جناح جماعة من جيرانه،‏ ليفطروا عنده في أحد أيام<br />

رمضان،‏ فلما وُ‏ ضعت مائدة الفطور،‏ قام فيهم خطيباً‏ فقال:‏ ‏»ال تعجلوا فإن<br />

العجلة من عمل الشيطان!«،‏ ثم وقف وقفة،‏ فقال لهم:‏ وكيف ال تعجلون والله<br />

تعالى،‏ يقول:‏ ‏}وَكَانَ‏ اإلْ‏ ِ نْسَ‏ ‏انُ‏ عَ‏ جُ‏ والً‏ } ‏)اإلسراء:‏ ‎11‎‏(؟ اسمعوا ما أقول لكم،‏<br />

فإن فيه حُ‏ سن املؤاكلة،‏ والعاقبة الرشيدة،‏ والسيرة احملمودة،‏ إذا مد أحدكم يده<br />

ليستقي ماء،‏ فأمسكوا أيديكم حتى يفرغ،‏ فإنكم جتمعون عليه خصاال:‏ منها<br />

أنكم تنغصون عليه في شربه.‏ ومنها أنه إذا أراد اللحاق بكم،‏ فلعله يتسرع إلى<br />

لقمة حارة فيموت!‏ وأدنى ذلك أن تبعثوه على احلرص،‏ وعلى عظم اللُقم،‏<br />

ولهذا قال بعضهم وقد قيل له:‏ لمَ‏ تبدأ بأكل اللحم؟ قال:‏ ألن اللحم ظاعن<br />

‏)راحل(‏ والثريد ‏)ما يُثرد من اخلبز(‏ مُ‏ قيم،‏ وأنا وإن كان الطعام طعامي فإني<br />

كذلك أفعل،‏ فإذا رأيتم قولي يخالف فعلي فال طاعة لي عليكم«!.‏<br />

69<br />

االعتراف والهوية


نقد<br />

البُعد العَ‏ جائبي في مجموعة<br />

‏»نجِ‏ يّ‏ ليلتي«‏ لميمون حِ‏ رْش<br />

عبدالواحد ابجطيط<br />

كاتب من املغرب<br />

تندرج نصوص هذه المجموعة القصصية،‏ الصادرة عام 2013 عن<br />

مطابع ‏»الرباط نت«،‏ ضمن ما اصطلح عليه،‏ اليومَ‏ ، في وطننا العربي<br />

ب»القصة القصيرة جدا«.‏ وهو فنٌّ‏ سَ‏ ‏رْدِيٌّ‏ مُ‏ ستحدَ‏ ث في أدبنا العربي،‏<br />

يَعتمِ‏ ‏د الكثافة العالية،‏ ويَستمِ‏ د معظم مقوماته من فنون األدب<br />

األخرى،‏ ويَستثمِ‏ رُ‏ جُ‏ ملة من التقنيات الفنية واألسلوبية،‏ التي تعين<br />

على تكثيف المعنى واختزاله.‏<br />

وعليه،‏ فقد تراوحت أحجام نصوص المجموعة،‏ بين أربعة أسطر،‏<br />

وتسعة عشر سَ‏ طراً؛ كما في نصّ‏ ‏»العانس«‏ الذي يُعد أطول نصّ‏ في<br />

المجموعة؛ وذلك انضباطاً‏ للحجم القصير الذي يُعَ‏ د الميسم البارز<br />

لهذا الفن الوليد.‏<br />

يُالحَ‏ ظ في هذه األضمومة،‏ أن صاحبَها<br />

جلأ في كثير من أقاصيصه إلى توظيف العنصر<br />

الفانتاستيكي ‏)العَجائبي(،‏ الذي يَرتكز على<br />

عنصر املَسْ‏ ‏خ،‏ وخَ‏ رْق املألوف واملُعتاد في الواقع<br />

اإلنساني؛ حيث جند الشخصيات متارس أعماالً‏<br />

تعارض قوانين الواقع التجريبي؛ ممّا يُضفي<br />

غموضاً‏ فنيّاً‏ على النص القصصي،‏ ويَسْ‏ ‏تدعِ‏ ي<br />

ممارسة التأويل،‏ وشد انتباه املتلقي.‏ فاألدب<br />

‏»العجائبي«،‏ عموماً،‏ يَسْ‏ ‏تند إلى:‏ ‏»تداخل الواقع<br />

واخليال،‏ وجتاوز السببية،‏ وتوظيف االمتساخ<br />

والتحويل والتشويه ولعبة املرئي والالمرئي،‏ من<br />

دون أن ننسى حيرة القارئ بن عاملن متناقضن:‏<br />

عالم احلقيقة احلسية وعالم التصور والوهم<br />

والتخييل.‏ فهذه احليرة هي التي توقع املتلقي بن<br />

حالتي التوقع املنطقي واالستغراب غير الطبيعي،‏<br />

وذلك أمام حادث خارق للعادة،‏ ال يخضع ألعراف<br />

العقل والطبيعة وقوانينهما«.‏<br />

حن نتصفح مجموعة ‏»جنِ‏ يّ‏ ليلتي«‏ لألستاذ<br />

حِ‏ رْش،‏ تستوقفنا ظاهرة العجائبية هذه،‏ التي<br />

تبدو حاضرة حضوراً‏ قويّاً‏ في كثير من نصوصها؛<br />

مثل:‏ جنيّ‏ ليلتي،‏ اللعبة،‏ رؤوس متاسيح،‏ داخل<br />

قلبي،‏ أكباد مقروحة،‏ لعنات...‏ إلى جانب الواقعي<br />

طبعاً.‏ فالقاص يُشغل االمتساخ الفانتاستيكي،‏<br />

ولغة التحوالت العجيبة،‏ وينتقل من عالم األلفة<br />

إلى عالم الغرابة،‏ إذ جنده في كثير من النصوص،‏<br />

يُوظف هذه الغرابة والالمعقول؛ كما يتجلى ذلك<br />

العدد - 692 يوليو 2016<br />

70


الكويت عاصمة الثقافة اإلسالمية 2016<br />

71<br />

البُعد العَجائبي في مجموعة ‏»جنِ‏ يّ‏ ليلتي«‏ مليمون حِ‏ رْش


منذ العنوان اخلارجي للمجموعة:‏ ‏»جني ليلتي«،‏<br />

الذي هو عنوان أحد نصوصها في الوقت نفسه.‏<br />

فالنجيّ‏ من النّجْ‏ وى،‏ والنّجْ‏ وُ:‏ السّ‏ ّ ‏رُ‏ بني اثنني.‏<br />

يقال:‏ جنَوْتُه جنَ‏ ‏ْوا أي سَ‏ ‏اروْته،‏ وكذلك ناجيته.‏<br />

ويقال:‏ فالنٌ‏ ّ جنيُ‏ فالن أي يناجيه دون سواه.‏<br />

فمن أجل أن يضفي الكاتبُ‏ على نصّ‏ ‏ه بُعْداً‏<br />

فانتاستيكياً،‏ يَلجأ أحياناً،‏ إلى ‏»األنسنة«؛ مثلما<br />

جند في قصة ‏»اللعبة«،‏ التي يقول فيها:‏ ‏»للحظة<br />

فقط تخيلتُ‏ نفسِ‏ ي فارساً‏ مِ‏ غوَاراً‏ واثقاً...‏ أوَاجهُ‏<br />

احلَيَاة...‏ ‏»العَبْتها الشطرَجن،‏ واخليل ترَادفت«‏<br />

فرَسي جمُوح،‏ عِ‏ تقها يبنيُ‏ من أصواتها أغار<br />

بها واتراً...‏ فتعلن التحَ‏ ‏دي،‏ وأقرّر االقتحام...‏<br />

تترَصّ‏ دني،‏ وأخاتلها نتماهَى ومنَثل دوراً‏ ليسَ‏<br />

لنا...‏ هكذا من لعبة ألخرَى...«.‏<br />

فالقاص هنا،‏ يلجأ إلى أنسَ‏ ‏نَةِ‏ احلياة،‏ مِ‏ ‏ّا<br />

يُحيل املَشهد إلى الالمعقول؛ إذ جنده يُصور لنا<br />

احلياة،‏ امرأة تتحداه وتترصده،‏ ومع ذلك فإنه<br />

يقرّر االقتحام،‏ فيخاتلها ويُالعبها الشطرجن.‏<br />

ويروم الكاتب من خلالل هذا التصوير الغرائبي<br />

املكثف اإلشارة إلى ما يلقاه اإلنسان الطموح من<br />

تعب ومعاناة وابتالء في احلياة.‏ وهذا يذكرني<br />

بقول أبي العالء املعري:‏<br />

تعب كلها احلياة فما أعْ‏ جَ‏ <br />

بُ‏ إال من راغب في ازدياد<br />

كما تبرز مالمح الكتابة العجائبية الدالة ع<br />

لى سريالية العوالم السردية عند ميمون حرش<br />

في قصة ‏»لعنات«؛ حيث انتقل من الواقعية إلى<br />

الغرائبية ليجسد لنا رؤية امتساخية سوداوية،‏<br />

تعبر عن انحطاط اإلنسان كينونياً،‏ وانبطاحه<br />

وجودياً‏ وقيمياً‏ وفضائياً.‏ تقول القصة:‏ ‏»الناسُ‏<br />

من حَ‏ وله ال مَالمِ‏ ح لهم،‏ يَ‏ ‏ْشون على رؤوسِ‏ هم،‏<br />

أرجلهم ترسم عالمة النصر مُرسلة للسماء...‏<br />

على مقربة منه كلبٌ‏ يَعْوي باملقلوب،‏ وأمَامه<br />

مبَاشرة أثر أقدام مَ‏ ‏ْسوخة...‏ يَبدو أنها سحقت<br />

طيراً..‏ يتطلع لنفسه،‏ لم يعرف سرّ‏ وجوده<br />

بينهم...‏ وال مَن يكون؟...‏ األشكال حوله ال شكل<br />

لها...‏ وحده الفضاء كغول يفتح ذراعيْه له ليس<br />

بالهبات...‏ لكن باللعنات...«.‏<br />

عمد الكاتب إلى جتريد شخصياته<br />

من تركيبتها اخللقية،‏ ورسَ‏ ‏مَها مبَالمح<br />

أخرى غير مألوفة،‏ اعتراها التغيير واملَسْ‏ ‏خ<br />

( ناس بال مالمح - يشون على رؤوسهم - كلب<br />

يعوي باملقلوب...(،‏ ليشير بذلك إلى ما أصاب<br />

أخالق الناس من فساد وانحطاط.‏ ثم اختتم<br />

الكاتب النص بقفلة مفاجئة لها فعل صادم تترك<br />

أثرها في املتلقي نفسه؛ نظراً‏ ملعطياتها اخلارقة،‏<br />

مّا يجعلنا نسافر في تخيّل املشهد العجائبي<br />

الذي يصوره لنا بَحثاً‏ عن املعنى املُستتر في<br />

النص.‏<br />

ومن أمثلة هذا التعجيب الفانتاستيكي،‏<br />

أيضاً،‏ قصة ‏»أكباد مقروحة«‏ التي تقوم على<br />

عوالم غريبة،‏ وأحداث غير مألوفة؛ حيث<br />

تتحدث عن التعب البشري،‏ واضمحلالل<br />

اإلنسان،‏ وانهياره وجودياً،‏ وحتوله إلى إنسان<br />

غريب األحوال،‏ مريض في هذا الكون الذي<br />

تسوده العبثية البشرية بفعل الظلم،‏ وتناقض<br />

القيم،‏ واشتداد الصراع املادي املبني على صراع<br />

القوة واملال.‏ تقول القصة:‏ ‏»سَ‏ مع عن سُ‏ وق بَعيدة،‏<br />

يأتيها الناس من كلّ‏ فجّ‏ عَمِ‏ يق،‏ يتم فيها استبدال<br />

أكباد غير ذات قروح بأكبادهم املريضة.‏ رحل<br />

إليها،‏ وبعد مغامرات جلجامشية،‏ يصِ‏ لها،‏ لكن<br />

متأخراً،‏ لقد سَ‏ بقه مَرْضَ‏ ى آخرون،‏ ولم يتبق غير<br />

كبد واحدة مكتوب عليها:‏ ‏»للنساء فقط«‏ استقرّ‏<br />

رأيه على استبدالها بكبده،‏ قالوا له:‏ مستحيل!‏<br />

أنت رَجُ‏ لٌ...‏ وحني أصرّ‏ طلبوا منه شهادة حسن<br />

السّ‏ يرة والسلوك«.‏<br />

وأخيراً،‏ يكننا القول:‏ إن ظاهرة الغرائبية،‏<br />

التي نالمِ‏ سُ‏ ‏ها في هذه املجموعة،‏ التي بني<br />

أيدينا،‏ قد ساهمت بنسبة كبيرة،‏ في إضفاء<br />

غموض فنيّ‏ على نصوصها؛ األمر الذي يجعل<br />

النص القصصي عند حِ‏ رش نخبوياً‏ بامتياز كما<br />

أكدت ذلك في كتابي:‏ ‏»خصائص القصة القصيرة<br />

جداً‏ عند ميمون حِ‏ رش«.‏ وبهذا يكون األستاذ<br />

حِ‏ رش،‏ قد انحاز إلى املبدعيني الذين ارتضوا<br />

هذا األسلوب الغامض في كتاباتهم القصصية<br />

القصيرة جداً،‏ ولعله أفضل من يُ‏ ثل هذا االجتاه<br />

عندنا في شرق املغرب على األقل،‏ إن لم نقل<br />

على املستوى الوطني والعربي عموماً‏ ><br />

العدد - 692 يوليو 2016<br />

72


نقد<br />

الكويت عاصمة الثقافة اإلسالمية 2016<br />

مع أبي الطيب المتنبي<br />

جهاد فاضل<br />

مع أن عنوان كتاب الباحث السوداني الكبير<br />

الراحل،‏ د.‏ عبداهلل الطيّب ‏»مع أبي الطيّب«،‏<br />

يشي بأنه كتاب وضعه صاحبه عن أبي الطيب<br />

المتنبي،‏ إال أن من يقرأه يكتشف أنه عبارة عن<br />

جولة في أفق التراث الشعري العربي القديم<br />

بوجه عام،‏ وعن أحكام شديدة الدقة والمتانة.‏<br />

وقد يعيد القارئ قراءة هذا الكتاب أكثر من<br />

مرة إذا كان يبحث عن دراسة غير مسبوقة عن<br />

المتنبي أراد بها صاحبها جوانب لم يردها سواه<br />

من الباحثين من قبل على كثرة ما كُ‏ تب عن مالئ الدنيا وشاغل<br />

الناس.‏<br />

لعلّ‏ القارئ سيفتقد،‏ أكثر ما يفتقد،‏ املجانية في<br />

النظر والتحليل التي يسهل العثور عليها في الكثير من<br />

الدراسات احلديثة،‏ التي تتناول سير الشعراء املاضني<br />

أو غير املاضني.‏ فلهذه اجلهة،‏ لن يجد القارئ مثل<br />

هذه املجانية في كتاب عبدالله الطيب،‏ ألن الكلمة فيه<br />

تنزل منزلها بال جور وال ارجتال.‏<br />

ومن البداية يجد املرء نفسه في حضرة أستاذ<br />

كبير يدقق كثيراً‏ في صياغة عباراته وإطالق أحكامه.‏<br />

إنه ليس منحازاً‏ للمتنبي كما كان محمود شاكر،‏ وال<br />

منحازاً‏ ضده كما كان طه حسني،‏ وإمنا هو يبحث في<br />

أمره بحثاً‏ مجرداً‏ خالياً‏ من األغراض.‏ هو يرى بداية<br />

أن أكثر أسماء شعراء العرب دوراناً‏ بينهم،‏ امرؤ القيس<br />

وزهير وأبوالطيب،‏ ‏»وعسى أن يكون معهم جرير«.‏ ثم<br />

في كل عصر يشتهر اسم فيغلب عليهم جميعاً‏ ثم<br />

يختفي فيُنسى،‏ أو يكاد،‏ مثل البهاء زهير والوأواء<br />

الدمشقي وحافظ إبراهيم وإيليا أبي ماضي وهلمّ‏<br />

جرّا.‏ وبني طبقات العامة قد ال يُعرف هؤالء،‏ ولكن<br />

قد يُعرف عنترة الفوارس ألنه في القصص الشعبي،‏<br />

وحسّ‏ ان والبوصيري والبرعي،‏ ألنهم من مُدّاح الرسول<br />

عليه الصالة والسلالم.‏ على أن العصر احلاضر رمبا<br />

بخس قدر زهير وأبي الطيب ألنهما من شعراء املديح،‏<br />

وخاصة املتنبي لتكسّ‏ به بذلك واختالفه بني املمدوحني<br />

وجَ‏ وْبِهِ‏ األرض من أجل هذا الغرض.‏<br />

ويالحظ د.عبدالله الطيب أن مما أفسد على<br />

الناس رأيهم في احلكم على شعر املدح عامة وشعراء<br />

املديح قاطبة حسبانُهم أنه من التسوُّل،‏ وأن أصحابه<br />

متسوّلون،‏ وهذا خطأ في نظره.‏ إذ الشعر ديوان<br />

العرب،‏ كما اإلذاعة والتلفزيون والصحافة وشتى طرق<br />

اإلعالم والدعاية هي ديوان مجتمعنا احلاضر.‏ واملدح<br />

والهجاء كانا من أساليب اإلعالم والدعاية املشروعة<br />

73<br />

مع أبي الطيب املتنبي


كما هما في هذا العصر.‏<br />

وكان امللوك ومن أشبههم يعلمون لهما ذلك<br />

فيرومون منهما ويتّقون.‏ كما يفعل أولو األمر ومن<br />

أشبههم اآلن إزاء اإلذاعة والتلفزيون والصحافة وشتى<br />

طرق اإلعالم.‏ وكان الشاعر القدمي ربّ‏ ا مدح وهجا<br />

متكسّ‏ ‏باً‏ كما يفعل أكثر القائمني باإلعالم في زماننا،‏<br />

وربا فعل ذلك ال يريد كسباً‏ فأُجيز وعوقب.‏<br />

املتنبي كان من هؤالء الشعراء املدّاحني،‏ وعندما<br />

صار إلى سيف الدولة احلمداني في حلب بات<br />

كاملوظف عنده:‏<br />

أسيرُ‏ إلى إقطاعِ‏ هِ‏ في ثيابِ‏ هِ‏<br />

على طِ‏ رفِ‏ هِ‏ في دارِ‏ هِ‏ بحسامِ‏ هِ‏<br />

ويصفه عبدالله الطيب ب»وزير دولة«،‏ و»وكيل<br />

وزراء«‏ لإلعلالم والدعاية بلغة عصرنا اليوم.‏ وقد<br />

استمرّ‏ في هذا املنصب تسع سنوات.‏ بعدها شغل<br />

منصب وزير الدعاية عند كافور أربع سنوات،‏ ليصبح<br />

بعد ذلك وزير الدعاية واإلعلالم عند عضد الدولة<br />

مدة عام.‏ ‏»كان وزيراً‏ زائراً‏ مفوّضاً‏ من عند نفسه ذلك<br />

احلني القصير!«.‏<br />

وكان مع الدعاية واإلعالم على أبي الطيب واجب<br />

آخر ال يُكلّفهُ‏ أكثر وزراء ووكالء وزارات الدعاية<br />

واإلعلالم في عصرنا احلاضر.‏ وذلك أن يُبرز عمله<br />

بصورة فنية شعرية حتمل طابعه الشخصي،‏ كما كانت<br />

كل دولة خدمها في ذلك الزمان إمارة من إمارات<br />

الطوائف حتمل طابع أميرها اخلاص الشخصي.‏<br />

سَ‏ ‏مْتُ‏ دولة آل حمدان بحلب غيره باملوصل،‏ وسَ‏ مْتُ‏<br />

دولة اإلخشيد بالفسطاط غيرُ‏ سَ‏ ‏مْتِ‏ دولة آل بويه<br />

بأرجان أو بشيراز،‏ غيرُ‏ سَ‏ ‏مْتِ‏ بني عُبيد باملغرب،‏<br />

من بعد وبالفسطاط.‏ وكان أبوالطيب من بني وزراء<br />

اإلعالم في ذلك الزمان عجباً...‏ كان وزيراً‏ له سياسته<br />

اخلاصة ويخبر الناس أنه غير قادر على تنفيذها ألن<br />

الدولة التي تغدق عليه جوائزها:‏ سيف الدولة،‏ أو<br />

كافور،‏ أو بدر بن عمّار،‏ تسمع ملن يكيدون له وتعرقل<br />

عليه.‏ وكان مع هذا ميجّ‏ دها شكراً‏ إلغداقها عليه<br />

وتنبيهاً‏ على بهائها في ذات نفسها وتنويهاً‏ به.‏ وقد<br />

يجمع جمعاً‏ غريباً‏ بني امتعاضه من العرقلة ومتجيده<br />

وتنويهه بالبهاء،‏ كقوله في كافور:‏<br />

يا أيُها امللكُ‏ الغاني بتسمية<br />

في الشرقِ‏ والغربِ‏ عن نعتٍ‏ وتلقيبِ‏<br />

أنت احلبيبُ‏ ولكني أعوذُ‏ به<br />

من أن أكون محباً‏ غيرَ‏ محبوب<br />

ويرى د.عبدالله الطيب أن مما أعان املتنبي على<br />

هذا املذهب مزاجه وطموحه وأحوال عصره وما جرّبه<br />

من ذلك،‏ وكان قد خرج أول شبابه بدعوى ادّعاها ولو<br />

جنح لكان سبق الفاطميني إلى إنشاء دولة فاطمية،‏<br />

ولعلّه كان يدّعي نسباً‏ علوياً،‏ ولعلّه كان علوياً‏ يكتم<br />

نسبه.‏ ‏»ومهما يكن من أمره فقد كان ال يرى إذ أذعنت<br />

نفسه إلى التماس السموّ‏ من طريق طويل شاق هو<br />

خدمة األمراء بشعره،‏ أنه دون أحد منهم،‏ إذ كانوا في<br />

جملتهم بني مغامر وابن مغامر،‏ ولعلّ‏ أعرقهم لم يكن<br />

يزيد على أن كان حفيد مغامر مثل سيف الدولة،‏ أو<br />

عبدا حلفيد مغامر مثل كافور«.‏<br />

املدح والتصوير الفني<br />

ولنتأمل كيف يصوّر عبدالله الطيب مهنة املدح<br />

في ذلك الزمان،‏ فيعتبر أنها أشبه بهنة التصوير<br />

الفني،‏ فتنافس األمراء إذ ذاك على الشعراء يشبه<br />

تنافس ملوك أوربا وأمرائها على استقدام املصوّرين<br />

البارعني واستخدامهم.‏<br />

‏»وينبغي أن ننظر إلى قصيدة املدح ال على أنها<br />

تسوّل،‏ ولكن على أنها واجب أو عمل يُطلب من<br />

الشاعر فينجزه،‏ كما كان املصوّرون في أوربا يؤدي<br />

أحدهم واجباً‏ أو ينجز عمالً‏ حني يُطلب منه أن يرسم<br />

هذا األمير أو تلك األميرة.‏ وكان من أعظم ما ينبغي<br />

في الرسم إبراز األبّهة في اجلمال،‏ وما كان كل أمير<br />

بذي أبّهة وال كل أميرة بحسناء،‏ وكما كان شكسبير<br />

وأضرابه الروائيون يؤدي أحدهم واجباً‏ أو ينجز عمالً‏<br />

حني يُطلب من فرقته متثيل قصة لتسلية امللكة ورجال<br />

القصر واللوردات الكبار«.‏<br />

فالباحث الكبير يشرح ظرف املتنبي التاريخي<br />

وظروف زمالئه شعراء املدح في تراثنا،‏ معتبراً‏ أننا<br />

نظلم هؤالء الشعراء عندما نعتبرهم مجرد متسوّلني،‏<br />

وهو االعتبار السائد عند الناس اليوم.‏ بل إنه يجد<br />

في هذا اجلانب من الشعر القدمي،‏ أي املدح،‏ ما يعني<br />

الباحث املعاصر في دراسة أحوال الزمن املاضي.‏ ذلك<br />

أن الناظر في أصناف املديح في الشعر العربي يجدها<br />

في جملتها تختلف من عصر إلى عصر كما تختلف<br />

أساليب التمثيل والتصوير والرقص.‏ وقد نستطيع إن<br />

العدد - 692 يوليو 2016<br />

74


الكويت عاصمة الثقافة اإلسالمية 2016<br />

75<br />

مع أبي الطيب املتنبي


أقبلنا على ذلك أن ندرس أحوال املجتمعات العربية<br />

منذ أوائل عهدها إلى يومنا هذا عن طريق دراسة<br />

األصناف من أساليب قصائد املدح في جملتها من<br />

عصر إلى عصر,‏ كما يفعل اآلن علماء احلفريات<br />

حني يستنبطون من أحوال األمم السالفات بدراسة<br />

أصناف أساليب اجلرار من عصر إلى عصر.‏<br />

وإذا لم يكن املتنبي متسوالً‏ كما رآه طه حسيني<br />

وباحثون كثيرون،‏ فإنه بالدرجة األولى فنّان ملهم<br />

خارق القدرة البيانية.‏ ‏»وقد أجمع النقاد أنه هو<br />

وأبومتام والبحتري أشعر احملدثني.‏ وهو أشعر الثالثة<br />

بال أدنى ريب,‏ ألن صاحبيه قد حلقهما غبار التاريخ،‏<br />

فصارت أشباحهما على عِ‏ ظمها تهمّ‏ باالختفاء وأن<br />

يغمرهما النسيان.‏ بينما مازال شَ‏ بَحُ‏ ه باهراً‏ مضيئاً‏<br />

جداً.‏ وقد نبغ واللغة مرّت عليها منذ عهد امرئ<br />

القيس قرون ستة،‏ وشهدت أمثال جرير والفرزدق<br />

والنابغة وأبي نواس.‏ وكان في دهرها األول قائلها قد<br />

قال:‏ ‏»هل غادر الشعراء من متقدّم؟«.‏ ومع هذا وجد<br />

أبوالطيب املتردّم بعد املتردّم،‏ وفرض عبقريته فرضاً‏<br />

على اللغة العربية مبا أضاف إليها من ثروة طائلة في<br />

محض أساليب البيان مما ال تزال حيويته تنبض إلى<br />

اليوم.‏ وقد قال:‏<br />

ما نال أهلُ‏ اجلاهلية كلُّهم<br />

شعري وما سمعت بسحري بابلُ‏ !<br />

ويقارن عبدالله الطيّب بيني املتنبي وبعض قمم<br />

الشعر العربي،‏ فبينه وبني امرئ القيس تشابه،‏ من<br />

حيث الشعور بوحشة االنفراد وجتشّ‏ م األسفار وبعد<br />

املطلب وحسرات اإلخفاق وشدّة التصميم.‏ وكان<br />

فؤاده من امللوك كما قال.‏ ولكن بينهما فرق عظيم<br />

وهو أن أبا الطيّب طلب امللك حبّاً‏ فيه،‏ ولم ينشأ إال<br />

سوقةً‏ يتيماً‏ أو كيتيم.‏ وامرؤ القيس فُرض عليه امللكُ‏<br />

وطلبُ‏ الثأر بحكم الشرف القبلي العربي،‏ ومازال<br />

دهرَهُ‏ يجهد لو يجد سبيالً‏ إلى أن يكون سوقهُ‏ بال<br />

مسؤوليات فال يستطيع:‏<br />

بكى صاحبي ملا رأى الدرب دونه<br />

وأيقن أنّا الحقان بقيصرا<br />

فقلتُ‏ له ال تبكِ‏ عينُك إمنا<br />

نحاول مُ‏ لكا أو منوت فنعذرا<br />

وقد روض امرؤ القيس لغة وحشية فأسلست<br />

وصفت له كل صفاء،‏ وأصاب أبوالطيب غديراً‏ منها<br />

راكداً‏ فأثاره وأجرى فيه التيار.‏<br />

وقد حمل امرؤ القيس معه صحراء العرب:‏<br />

‏»تطاول الليلُ‏ علينا دمّ‏ ‏ون<br />

دمّ‏ ‏ون إنّا معشر ميانون<br />

وإننا لقومنا محبّون«‏<br />

إلى قسطنطينية ومات عند عسيب وهو ينظر<br />

إلى اآلل يخفق من دون حوران.‏ وقد حمل أبوالطيب<br />

ملتقاها بالسواد،‏ وقيل من دون أن يبلغ حظّ‏ ه من<br />

الري.‏<br />

أما زهير بن أبي سلمى،‏ فقد كان شيخاً‏ حكيماً‏<br />

قد سئم تكاليف احلياة.‏<br />

يُذكرون مادامت العربية<br />

هؤالء الشعراء الثالثة هم برأي العالّمة السوداني<br />

الكبير ‏»يُذكرون ما دامت العربية«،‏ ويستطرد:‏ ‏»وعسى<br />

أن يُذكر معهم جرير لقوة انفعاله وحرارة وجدانه«.‏ وما<br />

فتنة العرب بأبي الطيب ألف عام إال ملا علموا من أمر<br />

نبوغه وما أحسّ‏ وا من سحر إبداعه.‏ وقد كان معاصروه<br />

أول من فُنت به وقد رام مماثلته مبحاكاته أو األخذ منه<br />

جماعةٌ‏ كأبي فراس والسريّ‏ فعجزوا،‏ ثم انتقلت الفتنة<br />

به إلى اجليل الذي تالهم فرام مثل ذلك منهم جماعة<br />

فعجزوا كالشريف الرضي وأبي العلالء املعري،‏ ثم لم<br />

يزل يُفنت به ويروم مثل شأنه أو التفوق عليه جماعة في<br />

كل عصر وجيل إلى زماننا هذا.‏ ولعل أحمد شوقي مَن<br />

أظهر ما يتمثل به في هذا الباب.‏ وقد عجز - رحمه<br />

الله - على ما أوتيه من قدرة.‏ ولقد أوتي الشريف جزالة<br />

ورونقا ونبل أداء وشرف معان مع عزة النفس وعتق<br />

األرومة،‏ ومع ذلك لم يصنع - رحمه الله - من حلاق<br />

غبار أبي الطيب كبير شيء.‏ وقد أوتي أبوالعالء فطنة<br />

وعلماً‏ وملكة وحذقا،‏ وكان لنفسه ناقداً‏ وبالشعر خبيراً‏<br />

وبفضيلة أبي الطيب وسبقه عارفاً،‏ إال أنه مع ذلك قد<br />

ابتلي فجاراه وباراه واستعان بالذكاء،‏ فأطال أبواب<br />

التأمل وشقّق املعاني وكانت فيه حالوة فكاهة وبداهة<br />

سخرية،‏ وله مقدرة من جزالة وتصنيع فأحسن وأبدع ما<br />

شاء،‏ ولكنه بعُد ما عدا أنه ألم به غبار الذي يريد حلاقه<br />

فشمله،‏ فخُ‏ يل لبعض النقاد،‏ والسيما املستشرقون،‏ أنه<br />

رصيفه أو يزيد عليه.‏ ‏»ولعمري إن أبا العالء قد يصفو<br />

غاية الصفاء ويجود أحسن اجلودة«،‏ كما في عدد من<br />

قصائد ‏»سقط الزند«‏ وأبيات من اللزوميات،‏ ولكنه<br />

العدد - 692 يوليو 2016<br />

76


الكويت عاصمة الثقافة اإلسالمية 2016<br />

تنقصه حيوية أبي الطيب.‏<br />

ذلك غيض من فيض ما يحتويه كتاب عبدالله<br />

الطيب عن بكر الزمان ومالئ الدنيا وشاغل الناس<br />

بعبارة األقدمين.‏ نظرات نافذات لعالم كبير جليل<br />

متمكن من ثقافة القدمي واحلديث.‏ فإذا وصل إلى حادثة<br />

مقتل املتنبي التي اختلف في حتليلها واملسؤولية عنها<br />

باحثون كُثُر،‏ أدلى برأي لم يسبق إليه،‏ مفاده أنه ليس<br />

من املستبعد أن يكون سيف الدولة احلمداني وراء ذلك<br />

التدبير.‏ وهو رأي يفاجئ الكثيرين،‏ نظراً‏ لوشائج املودة<br />

العميقة التي كانت بن أبي الطيب وأمير حلب،‏ وهي<br />

وشائج إن فترت حرارتها حيناً،‏ فإنها لم تنقطع أبداً.‏<br />

وألن عبدالله الطيب هو الذي ال يستبعد أن يكون سيف<br />

الدولة وراء تصفية الشاعر الذي وهبه اخللود،‏ فإننا<br />

نعرض لهذا الرأي اجلدير بأن يتابع النقاش بصدده,‏<br />

على النحو التالي:‏ يبدي الباحث الكبير وجهة نظره:‏<br />

من قتل املتنبي؟<br />

قال الثعالبي في ‏»اليتيمة«:‏ ‏»ملا أجنحت سفرته<br />

وربحت جتارته بحضرة عضد الدولة ووصل إليه أكثر<br />

من مائتي ألف درهم،‏ أستأذنه في املسير منها ليقضي<br />

حوائج في نفسه ثم يعود إليها،‏ فأذن له،‏ وأمر بأن تُخلع<br />

عليه اخللع اخلاصة«...‏ إلى أن قال:‏ ‏»فلما فارق أعمال<br />

فارس،‏ حسب أن السالمة تستمرّ‏ به كاستمرارها في<br />

مملكة عضد الدولة،‏ ولم يقبل ما أشير به عليه من<br />

االحتياط باستصحاب اخلفراء،‏ فجرى ما هو مشهور<br />

من خروج سرّية من األعراب عليه ومحاربتهم إياه<br />

وتكشف الواقعة عن قتله وابنه مُحَ‏ سّ‏ د ونفر من غلمانه.‏<br />

وفاز األعراب بأمواله،‏ وذلك في سنة أربع وخمسين<br />

وثالثمائة«.‏<br />

من الباحثين مَن اتهم عضد الدولة بتصفية<br />

الشاعر،‏ ومنهم من اتهم أعداء آخرين للشاعر،‏ ولكن<br />

عبدالله الطيب،‏ يقف عند قول الثعالبي:‏ ‏»فجرى ما هو<br />

مشهور...‏ إلخ«‏ ويتابع:‏ ‏»ومع شهرته ال ندري عمن تلقاه<br />

راووه.‏ فمنهم قائل إن فاتكا الذي عرض ألبي الطيب<br />

في جماعة من األعراب،‏ فعل ذلك غضباً‏ من بائيته<br />

التي هجا بها ضبّة«.‏ قال العكبري:‏ ‏»وقال يهجو ضبّة<br />

بن يزيد العيني وصرّح بتسميته فيها ألنه كان ال يفهم<br />

التعريض.‏ كان جاهالً.‏ وهذه القصيدة من أردأ شعر<br />

املتنبي«،‏ وكأن العكبري قد غفل أن من مذهب البداوة<br />

في اإلفحاش بعض هذا وما يقاربه كالذي كان يقع عند<br />

الفرزدق وجرير مثالً.‏<br />

ومن قائل إن أبا الطيب فرّ،‏ وذكّره غالمه قوله:‏<br />

‏»اخليل والليل والبيداء تعرفني...«‏ فثبت وقُتل،‏ أو قال<br />

للغالم قتلتني أو شيئاً‏ من هذا املعنى.‏ وإن صحّ‏ هذا اخلبر،‏<br />

فهو أشبه مبا اعتاده أبوالطيب من االستعداد للحاربن<br />

واإلفالت منهم.‏ ولعله جنا من هذا الذي ذكروا أن اسمه<br />

فاتك ثم أصيب من بعد.‏ فكلّهم يجمعون أنه قد قُتل بدير<br />

العاقول،‏ وهو بسواد بغداد،‏ وال يُعقل أن يكون اعتراض<br />

األعراب ألبي الطيب قريباً‏ من بغداد.‏ وأرجح من ذلك<br />

أن يكون األعراب قد لقوه بعيداً‏ عنها،‏ وملا أفلت بعد<br />

قتال ما،‏ أمن إلى النجاة وحسب أن السلالمة تستمر به<br />

من بعد - على حد تعبير الثعالبي - ولكن الذين أغروا<br />

به األعراب ليقتلوه يبدو أنهم أيضاً‏ قد أوكلوا به آخرين<br />

يراقبون مقدمه عند دير العاقول،‏ أو قل خارج بغداد غير<br />

حدّ‏ بعيد عنها.‏ فلما رأوه قادماً‏ مطمئناً‏ قد جنا،‏ رموه<br />

بسهم وانتهبوا ماله.‏ ‏»وال يُستبعد أن يكون سيف الدولة<br />

وراء جميع ذلك التدبير«.‏ فقد ذكروا أنه كان يغضبه أن<br />

يطول سكوت املتنبي عن مدحه،‏ فكيف إذا انصرف عنه<br />

بالكليّة ومدح سواه؟.‏ وال شك قياساً‏ على الذي ذكروا من<br />

غضبه عليه حن تأخر مدحه عنه،‏ أن يكون رأى أنه قد<br />

خانه بالصيرورة إلى كافور فعضد الدولة.‏ وقد كان رفض<br />

أبي الطيب االستجابة إلى دعوته آخر األمر هو القاضية.‏<br />

وما كان ليعسر من بعد على أعداء أبي الطيب بحلب أن<br />

يتصلوا بأعدائه في بغداد وتتمّ‏ املؤامرة.‏ وقدمياً‏ قد قال:‏<br />

إذا ترحّ‏ لت عن قوم وقد قدروا<br />

أالّ‏ تفارقهم فالراحلون هُ‏ مُ‏<br />

لئن تركن ضُ‏ ميرا عن ميامننا<br />

ليحدثنّ‏ ملن ودّعتُ‏ هم ندمُ‏<br />

أو ‏»لسيف الدولة الندم«‏ كما روى بعضهم.‏ فهل<br />

كان ذلك الندم قبل دير العاقول أم بعده؟ الله أعلم<br />

أيّ‏ ذلك كان.‏<br />

على هذا التحليل وإلى هذه األسباب يستند<br />

د.عبدالله الطيّب في توجيه اتهامه إلى سيف الدولة<br />

في تدبير مقتل شاعره األثير السابق وشاعر العرب<br />

السابق والالحق.‏ وجهة نظر جديرة باالهتمام وجديرة<br />

بفتح حتقيق جديد حول مقتل الشاعر الذي لم يُدفن<br />

قرب دير العاقول وحسب،‏ وإمنا في كل أرض عربية،‏<br />

إن لم يكن في وجدان كل عربي ><br />

77<br />

مع أبي الطيب املتنبي


نقد<br />

إدوار الخراط منظراً‏ للحساسية الجديدة<br />

في السرد العربي<br />

د.‏ أحمد الجرطي أكادميي من املغرب<br />

يتفرد الكاتب الراحل إدوار الخراط داخل المشهد الثقافي العربي بتعدد<br />

مواهبه األدبية،‏ التي جعلته ينتج في مجاالت إبداعية مختلفة،‏ بدءاً‏ من<br />

فني الرواية والقصة،‏ ومروراً‏ بالشعر والترجمة،‏ ووصوالً‏ إلى حقل النقد<br />

األدبي،‏ ونظراً‏ لتنوع وغزارة عطاءات الخراط اإلبداعية،‏ وتجاذب روافدها<br />

الفكرية والفنية،‏ فإننا سنقتصر في هذه الدراسة التي نُعدُّ‏ ها بمناسبة<br />

رحيله على الوقوف عند إسهاماته في مجال النقد األدبي.‏<br />

إدوار اخلراط<br />

اشتهر إدوار اخلراط لدى الباحثني والنقاد<br />

املتتبعيني لتحوالت اخلطاب السردي العربي<br />

باجتراحه مفهوم ‏»احلساسية اجلديدة«،‏<br />

لتوصيف خصوصية الطفرة النوعية التي عرفها<br />

فنا القصة والرواية بعد هزمية يونيو ‎1967‎م،‏<br />

من جراء انعتاقهما من مد تيار الواقعية بشقيه<br />

النقدي واالشتراكي في مجال السرد العربي،‏ وما<br />

متيز به من إغراق في محاكاة مجريات الواقع<br />

االجتماعي،‏ وتشخيص جزئياته وتفاصيله،‏ فضالً‏<br />

عن تشييد حبكة سردية قوامها نظام الوحدات<br />

الثالث،‏ وخطية السرد والزمن،‏ ومركزية السارد<br />

العالم بكل شيء،‏ إضافة إلى مونولوجية الشكل<br />

الروائي والقصصي،‏ وخضوع الشخصيات<br />

لسلطة الكاتب،‏ وتوجهاته األيديولوجية والفكرية<br />

الناجزة،‏ ويرى اخلراط أن خصوصية هذه<br />

املرحلة التي امتدت في مسار السرد العربي<br />

العدد - 692 يوليو 2016<br />

78


الكويت عاصمة الثقافة اإلسالمية 2016<br />

منذ بداية القرن العشرين إلى ستينياته،‏ وينعتها<br />

ب»احلساسية التقليدية«،‏ ال تشمل فقط نتاجات<br />

الكتَّاب الواقعيني الذين حركهم هاجس تسجيل<br />

ومتثيل متفصالت الواقع اخلارجي في حرفيتها<br />

وجهوزيتها،‏ من أمثال محمود تيمور وجنيب<br />

محفوط،‏ ويحيى حقي،‏ ويوسف إدريس،‏ وحنا<br />

مينا،‏ وعبدالكرمي غالب،‏ بل تنضوي حتت لوائها<br />

حتى نتاجات الكتَّاب الرومانسيني التي استوحت<br />

تيمات احلب والعاطفة والطبيعة،‏ وتدثرت بغالئل<br />

ضافية من شاعرية اللغة،‏ وفسحة اخليال،‏<br />

وكثافة البوح الذاتي،‏ كما هو الشأن مع جبران<br />

خليل جبران،‏ ومحمد عبداحلليم عبدالله،‏<br />

وإبراهيم عبدالقادر املازني...‏ ولعل الباعث<br />

الكامن وراء توليف اخلراط بيني هذين اللونني<br />

من الكتابة السردية،‏ ودمجهما حتت تيار واحد<br />

هو احلساسية التقليدية،‏ يتجلى في وحدة املبدأ<br />

الفني الناظم لرؤيتهما لوظيفة األدب في احلياة،‏<br />

حيث تنظر كل من الرومانسية والواقعية إلى الفن<br />

باعتباره انعكاساً‏ لواقع ما،‏ هو نفسي ووجداني<br />

وداخلي بالنسبة للرومانسيني،‏ ومعطى خارجي<br />

79<br />

إدوار اخلراط منظراً‏ للحساسية اجلديدة في السرد العربي


ظاهري وثابت بالنسبة للواقعيني.‏<br />

وتأسيساً‏ على هذه املعايير<br />

الفنية والفكرية التي طفحت<br />

بها احلساسية التقليدية،‏ يحاول<br />

اخلراط استقصاء خصوصية<br />

التحوالت الفنية والداللية الفارقة<br />

التي اكتنفت صيرورة السرد<br />

العربي بعد هزمية ‎1967‎م،‏ واختار<br />

اخلراط االصطلاح عليها مبفهوم<br />

‏»احلساسية اجلديدة«‏ خافاً‏<br />

ملصطلحات ومفاهيم أخرى راجت<br />

في النقد العربي الروائي من قبيل<br />

‏»التجريب«‏ أو ‏»احلداثة«‏ أو ‏»الرواية<br />

العربية اجلديدة«.‏<br />

احلساسية والهزمية<br />

وهكذا يرى اخلراط أن تيار<br />

احلساسية اجلديدة الذي اجتاح<br />

السرد العربي أواخر ستينيات<br />

القرن املاضي،‏ هو حصيلة لتضافر<br />

جملة من العوامل السياسية<br />

واالجتماعية واحلضارية،‏ في<br />

مقدمتها هزمية يونيو ‎1967‎م،‏ وما أبانت عنه من<br />

هشاشة في األنظمة السياسية العربية القائمة،‏<br />

وعجزها عن حماية األمة العربية من الضياع،‏ ما<br />

فجر لدى املبدعني واملثقفني العرب رؤية غائمة<br />

للمستقبل،‏ وأذكى بدواخلهم سخطاً‏ عارماً‏ على<br />

األوضاع السائدة،‏ وتعطشاً‏ للتجديد واملغايرة في<br />

مختلف املجاالت السياسية والثقافية واألدبية،‏<br />

كما تنضاف لهذه العوامل اجنلاء أوهام تلك<br />

األيديولوجيات وشعاراتها البراقة،‏ التي كانت<br />

تطرز لإلنسان العربي التفاؤل السهل واحلماس<br />

الصاخب باجناء غد أفضل ومشرق يكون بدياً‏<br />

عن الواقع الكائن املغرق في الهزمية والسوداوية،‏<br />

وهي األيديولوجيات التي ارتبطت باملد القومي<br />

العروبي،‏ والثورة االشتراكية الناصرية،‏ ويتداخل<br />

مع هذه العوامل أيضاً‏ من منظور اخلراط ما<br />

شهدته املجتمعات العربية من انفجارات طائفية<br />

وإثنية،‏ وبروز لقيم استهاكية ومادية صاعدة<br />

ضاعفت من توسيع الهوات الطبقية،‏<br />

وتشييء ذوات املهمشني واملنبوذين،‏<br />

وتكريس انخزال وجودهم في دائرة<br />

اإلقصاء والنسيان.‏<br />

واملاحظ،‏ انطاقاً‏ من هذا<br />

الشق التنظيري اخلاص باستقراء<br />

اخلراط ألهم بواعث ظهور تيار<br />

احلساسية اجلديدة،‏ هو تغييبه<br />

لرافد ثقافي أساسي ساهم في<br />

حتفيز الكتَّاب العرب لتكسير<br />

خطية السرد الواقعي الكاسيكي،‏<br />

وجمالياته االنعكاسية التمثيلية،‏<br />

وهو الرافد املتعلق بالتأثر مبوجة<br />

الرواية اجلديدة في فرنسا مع كل<br />

من ناتالي ساروت،‏ وأالن روب غرييه،‏<br />

وميشيل بوتور،‏ وكلود سيمون،‏ التي<br />

جتاوزت تقاليد الرواية البلزاكية،‏<br />

ونزعتها احملاكاتية للواقع اخلارجي،‏<br />

مختطة في املقابل تقنيات سردية<br />

بديلة تنقل رؤية اإلنسان الغربي<br />

للعالم املثقلة بالشك واالرتيابية،‏<br />

والعدمية أحياناً،‏ من جراء اكتوائه<br />

بنار احلروب وخيبة أمله في العلم والعقانية،‏ أو<br />

ما يسميه جان فرانسوا ليوتار مببادئ ‏»السرديات<br />

الكبرى«‏ التي توهجت في القرن التاسع عشر<br />

مع فلسفة األنوار،‏ وكانت تعد اإلنسانية بأفق<br />

حضاري مستنير مترع بقيم العدالة واحلرية،‏<br />

والتكافل البشري اخلاق.‏<br />

ومن هذا املنظور،‏ إذا كانت احلساسية<br />

اجلديدة هي وليدة لهذا السياق احلضاري<br />

واالجتماعي العربي املأزوم،‏ واجلياش بالهزائم<br />

واالنتكاسات،‏ فقد كان من البديهي أن متتد<br />

انعكاساته للكتابة السردية العربية،‏ وترتب<br />

عنها خلخلة القص الواقعي الكاسيكي املغرق<br />

في احلبكة السردية املتماسكة،‏ ووثوقية الرؤية<br />

ملعطيات الواقع اخلارجي،‏ ومن جتليات هذا<br />

التحول النوعي الذي عرفته الرواية العربية<br />

اجتراحها جملة من التقنيات السردية اجلديدة<br />

املتناغمة مع مرجعياتها احلبلى بإعادة تنسيب<br />

العدد - 692 يوليو 2016<br />

80


الكويت عاصمة الثقافة اإلسالمية 2016<br />

حقائق الواقع االجتماعي،‏ وتفكيك<br />

مسلماته ومتعالياته،‏ وجتسيد شروخ<br />

اإلنسان العربي بعد الهزائم،‏ وما<br />

اعتمل بداخله من تشظ وانسحاق<br />

من جراء تداعي كثير من اليقينيات<br />

والثوابت التي كانت في املاضي<br />

جتجُ‏ ‏ذِّر وجوده الكياني،‏ وترسم<br />

بوضوح واطمئنان آفاقه احلضارية<br />

املقبلة.‏<br />

وقوام هذه التقنيات السردية<br />

البديلة التي اكتنز بها تيار<br />

احلساسية اجلديدة،‏ تقويض السرد<br />

املطرد،‏ ومتاسك نظام الوحدات<br />

الثلاث،‏ وإلغاء هيمنة السارد<br />

العليم بكل شيء،‏ الستياد أساليب<br />

تعبيرية وفنية جديدة تتمثل في<br />

تشظي السرد،‏ وتشذير الكتابة،‏<br />

وتهشيم وحدة احلكاية،‏ وتوظيف<br />

تقنية التناص إلخصاب املتخيل<br />

الفني للسرد،‏ فضلاً‏ عن االمتياح<br />

من عالم الشعور والذاكرة،‏ مما<br />

ساهم في هيمنة الزمن النفسي،‏<br />

واحلوار الداخلي،‏ وأسلوب التداعي الذي يسعف<br />

الكتابة الروائية والقصصية في تبئير السرد<br />

حول املجرى النفسي لعالم الشخصيات،‏ والتدفق<br />

العارم إلحساساتها وبواطنها،‏ وفي هذا السياق<br />

يقول اخلراط:‏ ‏»إن الكتابة اإلبداعية قد أصبحت<br />

اختراقاً‏ ال تقليداً،‏ واستشكاالً‏ ال مطابقة،‏ وإثارة<br />

للسؤال ال تقدمياً‏ لألجوبة،‏ ومهاجمة للمجهول<br />

الرضا عن الذات بالعرفان.‏ ومن هنا جتيء<br />

تقنيات احلساسية اجلديدة:‏ كسر الترتيب<br />

السردي االطرادي،‏ فك العقدة التقليدية،‏ الغوص<br />

إلى الداخل ال التعلق بالظاهر...‏ توسيع داللة<br />

الواقع لكي يعود إليها احللم واألسطورة والشعر،‏<br />

مساءلة - إن لم تكن مداهمة - الشكل االجتماعي<br />

القائم،‏ تدمير سياق اللغة السائد املقبول،‏ اقتحام<br />

مغاور ما حتت الوعي،‏ واستخدام صيغة األنا ال<br />

للتعبير عن العاطفة والشجن،‏ بل لتعرية أغوار<br />

الذات«.‏<br />

واستناداً‏ إلى هذا املنعطف<br />

السردي اجلديد الذي توشحت<br />

به الكتابة الروائية والقصصية<br />

في العالم العربي بعد هزمية<br />

‎1967‎م،‏ يلتقط اخلراط داخل<br />

مجرى احلساسية اجلديدة خمسة<br />

تيارات أساسية لها خصائصها<br />

الفنية والداللية املتميزة،‏ من دون<br />

أن يعني هذا التصنيف من منظوره<br />

انتفاء حدود التقاطع والتداخل<br />

بينها،‏ سواء عند مبدعني عدة،‏<br />

أو داخل النتاج األدبي ملبدع واحد،‏<br />

كما هي احلال مع اخلراط نفسه<br />

الذي يصنف كتابته السردية كما -<br />

سنرى الحقا - في أكثر من تيار.‏<br />

تيارات احلساسية اجلديدة<br />

في مقدمة هذه التيارات<br />

اخلمسة التي يستقصي اخلراط<br />

مواصفاتها الفنية النوعية يأتي<br />

تيار ‏»التشييء«‏ أو ‏»التحييد«‏ أو<br />

‏»التغريب«‏ باصطاح صاحب كتاب<br />

احلساسية اجلديدة،‏ وقد متيزت نتاجات كجُتَّابه<br />

من قبيل محمد البساطي،‏ وجميل عطية إبراهيم،‏<br />

ويوسف أبورية،‏ وإلياس خوري،‏ وزكريا تامر<br />

وغيرهم،‏ بتوظيف لغة سردية خالية من كل توشية<br />

واستطراد ودفق عاطفي،‏ لنقل الواقع اخلارجي<br />

في صرامته وقسوته مجرداً‏ من أي شاعرية في<br />

الرؤية،‏ أو شطحات في اخليال،‏ وكأن هذه اللغة<br />

السردية املتدثرة بالبرودة والنثرية التقريرية<br />

اجلافة،‏ تشي باحتجاج مبدعي هذا التيار على<br />

ما يطول الذات اإلنسانية في كنف الواقع العربي<br />

من اغتراب وإحباط وتشييء.‏<br />

أما ثاني تيارات احلساسية اجلديدة وفق<br />

اخلراط،‏ فهو ‏»التيار الداخلي«‏ أو ‏»العضوي«،‏<br />

ومن سماته الداللية املغايرة للتيار السابق تاشي<br />

احلدود بني ‏»الظاهر والباطن،‏ الصحو واحللم،‏<br />

الواقع واخلاطرة،‏ وبني الشيء واحلس«،‏ بحثاً‏ عن<br />

رؤية شمولية ملفاصل الواقع اخلارجي،‏ واشتراطاته<br />

81<br />

إدوار اخلراط منظراً‏ للحساسية اجلديدة في السرد العربي


الدنيوية واملجتمعية،‏ فضالً‏ عن<br />

توظيفه من الناحية الفنية للغة<br />

سردية مخضلة بالشعرية واحلرارة<br />

الوجدانية املتوثبة لإلمساك<br />

باملعيش في يناعته وطزاجته،‏ ومن<br />

أعالم هذا التيار السردي كما يرى<br />

اخلراط جند مبدعني من قبيل<br />

محمد إبراهيم مبروك،‏ وحيدر<br />

حيدر،‏ وأحمد املديني،‏ ومحمد<br />

حافظ رجب.‏<br />

وعلى نقيض التيارين السابقني<br />

يتوقف اخلراط عند اجتاه ثالث ينعته ب»التيار<br />

األسطوري املعاصر«،‏ ومن مقوماته الفنية البارزة<br />

الطموح إلى تخصيص طرائق الكتابة السردية<br />

وتعضيد كثافتها التخييلية،‏ انطالقاً‏ من استيحاء<br />

املوروث السردي العربي القدمي،‏ أو استدعاء<br />

اخلرافة واخليال واحلكاية الشعبية الستزراع<br />

وحتيني مرجعيات متواشجة مع أسئلة الواقع<br />

الراهن،‏ ومنغرسة في أتون قضاياه املجتمعية<br />

والتاريخية،‏ ويرى اخلراط في هذا السياق أنه<br />

إذا كان من مكتسبات هذا التيار املنتجة محاورة<br />

التراث بطريقة كشافة تتيح لينابيعه اإلنسانية<br />

والفنية األصيلة االمتداد في أساليب الكتابة<br />

السردية املعاصرة،‏ مما يضع حداً‏ ملوجة االنبهار<br />

واالفتتان املطلق بالتيارات الروائية والقصصية<br />

الغربية،‏ فضالً‏ عن لفت انتباه املبدعني العرب<br />

لثراء موروثهم السردي والشعبي،‏ وإمكان االمتياح<br />

املتجدد من مخزونه الثر لتخضيب نسيج كتابتهم<br />

السردية بعبق التراث ونسوغه اجلمالية املائزة،‏<br />

إال أن هناك مخاطر فنية تتهدد أنصار هذا<br />

االجتاه،‏ وتتجلى في كيفية النجاح أثناء استلهام<br />

لغات سردية مختلفة تنهل من ينبوع التراث<br />

الشعبي،‏ أو التاريخي،‏ أو الصوفي،‏ أو األسطوري<br />

في تضفيرها وجتديلها داخل حبكة سردية<br />

متماسكة تتناسج في أعطافها اللغة مع الرؤية،‏<br />

ومن أعالم هذا التيار حسب اخلراط جمال<br />

الغيطاني،‏ ويحيى الطاهر عبدالله،‏ وإبراهيم<br />

عبداملجيد،‏ والطيب صالح،‏ وامليلودي شغموم،‏<br />

كما يصنف بعض رواياته مثل ‏»رامة والتنني«‏<br />

و»يقني العطش«‏ و»الزمن اآلخر«‏<br />

ضمن هذا االجتاه السردي.‏<br />

وبجانب التيارات الثالثة السابقة<br />

يضيف اخلراط اجتاهاً‏ رابعاً‏<br />

يسمه ب ‏»التيار الواقعي اجلديد«،‏<br />

الذي رغم استفادته من الواقعيني<br />

القدامى الذين هيمنوا على املشهد<br />

السردي العربي بأعمالهم في<br />

النصف األول من القرن العشرين،‏<br />

وانشغاله بدوره بكيفية اإلحالة على<br />

الواقع االجتماعي،‏ فإنه متيز عنهم<br />

بطموحه إلى تطوير أساليب الكتابة السردية<br />

الواقعية،‏ وتخصيب طاقاتها الفنية والتخييلية<br />

ببعض االستراتيجيات الفنية اجلديدة مثل<br />

لغة التوثيق وأسلوب الفانتازيا واللغة الشعرية<br />

املوجزة،‏ ومن رموز هذا التيار من منظور اخلراط<br />

جند صنع الله إبراهيم،‏ ويوسف القعيد،‏ وجميل<br />

عطية إبراهيم،‏ ومحمد املخزجني.‏<br />

أما آخر هذه التيارات فهو التوجه السردي<br />

الذي يسميه اخلراط ب ‏»التيار الواقعي السحري«‏<br />

ومن قسماته الفنية الواضحة ‏»سقوط احلدود<br />

بني ظاهرية الواقع العيني املرئي احملسوس،‏<br />

وشطحات اخليال واالستيهامات املضفورة أحياناً‏<br />

بنسيج الواقع برانياً‏ أو جوانياً‏ على السواء«،‏ ومن<br />

الكتابات املمثلة لنزعته الفنية في املشهد العربي<br />

القصصي والروائي،‏ يذكر اخلراط أعماله<br />

السردية،‏ ونتاجات كل من إبراهيم عبداملجيد،‏<br />

وسعيد الكفراوي،‏ ورفيق الفرماوي،‏ وسمية<br />

رمضان،‏ ورشيد بوجدرة اجلزائري،‏ إضافة إلى<br />

بعض الكتَّاب املغاربة مثل مصطفى املسناوي،‏<br />

ومحمد الشركي،‏ وأحمد املديني،‏ ومحمد<br />

الهرادي.‏<br />

ونظراً‏ حلرص إدوار اخلراط في تنظيره ملفهوم<br />

احلساسية اجلديدة وتياراتها على استقصاء أهم<br />

األساليب الفنية والتعبيرية التي أغنت بها الكتابة<br />

السردية العربية منذ بروزها أواخر الستينيات<br />

من القرن املاضي،‏ يتوقف عند بعض الظواهر<br />

اجلديدة الفارقة التي افترعت بواسطتها منحى<br />

جديداً‏ في خط السرد العربي املعاصر ينداح<br />

العدد - 692 يوليو 2016<br />

82


ّ<br />

الكويت عاصمة الثقافة اإلسالمية 2016<br />

عن اجلمالية االنعكاسية التمثيلية<br />

للواقعية.‏<br />

ويأتي في مقدمة هذه الظواهر<br />

الفنية اجلديدة واملهمة من منظور<br />

اخلراط ما يسميه بظاهرة ‏»القصة<br />

القصيدة«،‏ حيث نصيب السرد في<br />

العمل القصصي أو الروائي يتضاءل،‏<br />

ليفسح املجال لكثافة اللغة الشعرية<br />

وانسيابيتها ما يترتب عنه كتابة<br />

سردية عابرة للحدود،‏ ومخلخلة<br />

ملفهوم نقاء النوع األدبي،‏ وصفاء<br />

معاييره التجنيسية القارة،‏ كما ينضاف لهذه<br />

التقنية املتصلة بتشييد كتابة عبر نوعية شديدة<br />

الغنى من حيث طاقاتها التناصية واإليحائية،‏<br />

تقنية حديثة أخرى تتمثل في دمج لغة التسجيل<br />

والتوثيق داخل البناء الفني للكتابة السردية من<br />

رواية وقصة،‏ وتعد هذه االستراتيجية األسلوبية<br />

- وفق اخلراط - على قدر كبير من األهمية ملا<br />

يحركها من طموح خالق نحو تشبيك أسئلة السرد<br />

مع الواقع االجتماعي،‏ واسترفاد عمق األسئلة<br />

والهموم والتحديات اآلنية املوارة في محاضنه<br />

التاريخية والدنيوية،‏ وفضالً‏ عن هاتني التقنيتني<br />

السابقتني يتوقف اخلراط عند تقنية ثالثة وأخيرة<br />

متصاعدة في الكتابة السردية اجلديدة ينعتها<br />

بتقنية ‏»احملارفة«‏ أو اإلصاتة،‏ حيث االستخدام<br />

املتكرر للحروف،‏ من أجل استيالد أنغام صوتية<br />

وموسيقية،‏ وتشذير الكتابة،‏ وإذا كانت هذه<br />

الظاهرة تشي بتطلع املبدعني الستثمار موسيقى<br />

األصوات اللغوية في اإليحاء بالداللة النصية،‏<br />

إال أنها تظل مهددة - وفق اخلراط - بتوريط<br />

الكتابة السردية العربية في الشكلية والزخرفة<br />

ومتاهات التجريب،‏ وتغريب رهاناتها الفنية عن<br />

منابتها التاريخية والدنيوية.‏<br />

احلساسية اجلديدة وسؤال احلداثة<br />

واضح من خالل التنظيرات السابقة التي<br />

قدمها اخلراط لتيار احلساسية اجلديدة،‏<br />

وطفرتها الفنية في تاريخ الرواية العربية<br />

احلديثة،‏ تداخلها الشديد مع مفهوم نقدي آخر<br />

وظفه مجموعة من النقاد العرب<br />

في توصيفهم لهذا التحول النوعي<br />

في مسار السرد العربي،‏ ويتعلق<br />

األمر مبفهوم ‏»احلداثة«‏ الذي<br />

يعد أكثر شهرة وتداوالً‏ في املشهد<br />

النقدي من مفهوم احلساسية<br />

اجلديدة،‏ ويؤشر بدوره إلى جتاوز<br />

أساليب الكتابة الواقعية ونزعتها<br />

احملاكاتية التمثيلية،‏ واختطاط في<br />

املقابل تقنيات جديدة هاجسها<br />

األساسي التقاط أسئلة الواقع<br />

في حتولها عما هو معطى وسائد،‏ واستشرافها<br />

للمحتمل واآلتي واملغيب.‏<br />

واستناداً‏ لهذا اإلشكال الذي يواجه اخلراط<br />

في تنظيره للحساسية اجلديدة نظراً‏ للتقاطع<br />

والتشابك الشديدين بني ما يحيل عليه هذا<br />

املفهوم،‏ ومفهوم احلداثة من خصائص فنية،‏ ورؤى<br />

داللية متداخلة،‏ يحرص اخلراط على استكشاف<br />

أوجه االختالف والتمايز بني احلساسية اجلديدة<br />

واحلداثة.‏<br />

وهكذا يرى اخلراط أن مفهوم احلساسية<br />

اجلديدة يعني أوالً‏ وأساساً‏ تلك النقلة النوعية<br />

في السرد العربي من رواية وقصة،‏ التي تَ‏ َ<br />

من خاللها جتاوز جماليات الكتابة الواقعية<br />

الكالسيكية،‏ ورؤيتها الوثوقية لقضايا العالم<br />

اخلارجي،‏ وحتديث وتطوير أساليب السرد ملعانقة<br />

رؤية جديدة مطبوعة باالرتياب والقلق واملساءلة<br />

ملا هو منوالي وسائد،‏ وهو ما يجعل احلساسية<br />

اجلديدة تاريخية متعلقة بالزمن،‏ وميكن ثانياً‏<br />

ملغايراتها وأنساقها التعبيرية والداللية النوعية<br />

- وقف اخلراط - أن يتجاوز الزمن ثوريتها<br />

لتتحجر،‏ وتغذو بدورها تقليداً‏ جديداً‏ راسخاً‏ في<br />

حاجة إلى التفكيك والتجاوز،‏ وهو ما حدث مع<br />

العديد من كتابات احلساسية اجلديدة.‏<br />

أما احلداثة - وفق اخلراط - فليست قرينة<br />

للجدة أو املعاصرة،‏ كما أنها ال تعد توصيفاً‏<br />

تاريخياً‏ ملنعطف فارق في صيرورة اإلبداع األدبي<br />

مثلما هو الشأن مع احلساسية اجلديدة،‏ بل هي<br />

قيمة في العمل الفني تتجاوز الزمن وتخلد عبر<br />

83<br />

إدوار اخلراط منظراً‏ للحساسية اجلديدة في السرد العربي


التاريخ،‏ وتظل مكتنزة بنوع من التساؤل املستمر<br />

املسكون بهدم ما هو قائم ومكرس،‏ واالنفتاح<br />

على املستقبل واآلتي،‏ ومن ثم فهي بهذا الفهم<br />

تنحاز دائماً‏ إلى أحد طرفي ‏»ثنائية مستمرة عبر<br />

الزمن،‏ بني ما هو جاهز،‏ معد،‏ مكرس،‏ شائع،‏<br />

مقبول اجتماعياً‏ على املستوى العريض،‏ وما هو<br />

متمرد،‏ داحض،‏ مقلق،‏ هامشي،‏ يسعى إلى نظام<br />

قيمي مستعصٍ‏ بطبيعته على التحقق،‏ ومتعدٍ‏<br />

دائماً«.‏<br />

إال أن السؤال الذي يستثيرنا في هذا<br />

السياق،‏ وقد استوقف من قبل الناقد الفلسطيني<br />

فيصل دراج في دراسته اللماحة عن إدوار<br />

اخلراط املنشورة بكتابه ‏»نظرية الرواية والرواية<br />

العربية«:‏ أال يعد هذا التمييز بني احلساسية<br />

اجلديدة واحلداثة غير مقنع،‏ وال يؤكد متاسكه<br />

املنهجي تاريخ اآلداب العاملية،‏ ومن ضمنه تاريخ<br />

األدب العربي ألن الكثير من نتاج احلداثة الذي<br />

وُسم ب ‏»الكونية والرؤيوية«،‏ وأصر اخلراط<br />

على تعاليه على التاريخية والزمنية،‏ واحتفاظه<br />

بطابعي ‏»االختالف واملغايرة«‏ قد حتول بدوره<br />

إلى نظام آخر من التقاليد املعتمدة املستوجبة<br />

للتجاوز والتخطي،‏ الستيالد منعطف إبداعي<br />

جديد ممتد في الزمن والتاريخ،‏ ومستغور<br />

لتحوالت احلضارة اإلنسانية في مختلف<br />

مجاالتها؟ كما أن اعتبار اخلراط للحداثة بكونها<br />

قيمة في العمل الفني تدمغه بالتجاوز لألشكال<br />

والصيغ اإلبداعية السائدة،‏ يتجاهل أيضاً‏ - وفق<br />

فيصل دراج - ما يكتنف مفهوم القيمة نفسه من<br />

حتول وجتدد دائمني يجعلها تتراوح بني البناء<br />

والهدم املستمرين تساوقاً‏ مع آفاق انتظار القراء،‏<br />

وتشربهم بواسطتها خلصوصية سياقاتهم<br />

املجتمعية واحلضارية،‏ وما جتيش به من طفرات<br />

نوعية على مختلف البنى املادية واالجتماعية<br />

والثقافية.‏<br />

وتأسيساً‏ إذن على هذه اجلهود املعرفية<br />

والنقدية النفاذة التي اكتنز بها تنظير إدوار<br />

اخلراط ملفهوم احلساسية اجلديدة،‏ وجتلياته<br />

في منعطفات السرد العربي من رواية وقصة بعد<br />

هزمية يونيو ‎1967‎م،‏ ميكننا استخالص جملة من<br />

املالحظات املنهجية عن هذا التنظير،‏ وما قدمه<br />

من اجتهادات طموحة وجريئة مسكونة بهاجس<br />

تخصيص وتفريد أسئلة النقد العربي في تفاعله<br />

مع املنجز اإلبداعي العربي،‏ وتنسيب رهاناته<br />

املعرفية واملنهجية.‏<br />

في مقدمة هذه املالحظات املنهجية عدم<br />

وضوح مفهوم احلساسية اجلديدة نفسه،‏ وقابليته<br />

ألن يتحول ملفهوم نقدي إجرائي وملموس داخل<br />

النصوص،‏ ألن هذا التصور ينطبق بدوره حتى<br />

على التحوالت احلاصلة في مجاالت أخرى ال<br />

ترتبط فقط باألدب واللغة،‏ بل تشمل املوسيقى<br />

واللباس وطرز العمارة،‏ وهو ما يجعله ملتحفاً‏<br />

بالعمومية وأقل إقناعاً‏ من مفاهيم أخرى<br />

احتفظت بنجاعتها املصطلحية كالتجريب،‏<br />

وأثبتت ارتهانها بحقل السرد العربي،‏ وتوصيف<br />

متغيراته الصاعدة.‏<br />

وتضاف لهذه املالحظة خاصية أخرى تالزم<br />

استقراء وتصنيف اخلراط لتيارات احلساسية<br />

اجلديدة،‏ وطموحه اجلاد الستقصاء أهم<br />

مالمحها األسلوبية والداللية الفارقة،‏ وهي<br />

خاصية التذبذب والتداخل الشديدين في<br />

اإلمساك باملواصفات الفنية واملرجعية الدقيقة<br />

املفردة لكل تيار عن آخر،‏ وهو ما ترتب عنه إدماج<br />

اخلراط ألكثر من مبدع في تيارات عدة،‏ وتوزيع<br />

نتاجاته الروائية والقصصية نفسها على أكثر<br />

من تيار،‏ حيث صنفها تارة في التيار العضوي<br />

املنحاز للرؤية الداخلية املستكنهة ملا هو باطني<br />

وحلمي،‏ وتارة أخرى ضمن االجتاه األسطوري<br />

النزَّاع للتحرر من جاهزية األشكال الروائية<br />

والقصصية الغربية،‏ وتخصيص طرائق الكتابة<br />

السردية العربية انطالقاً‏ من استيحاء املوروث<br />

السردي واحلكائي العربي القدمي،‏ أو توظيف<br />

ينابيع األسطورة واخلرافة لتعضيد الكثافة<br />

التناصية والتخييلية للعمل السردي.‏<br />

إال أنه ومهما يكن من شأن هذه املالحظات<br />

املنهجية التي نقدمها حول تنظير إدوار<br />

اخلراط للحساسية اجلديدة،‏ ومحصالته<br />

املعرفية واجلمالية،‏ يظل هذا التنظير يكشف<br />

عنده عن مجهود نقدي وفكري نفاذ الستقراء<br />

العدد - 692 يوليو 2016<br />

84


الكويت عاصمة الثقافة اإلسالمية 2016<br />

خصوصية اخلطاب السردي العربي اجلديد،‏<br />

بعيداً‏ عن جاهزية املرجعيات النقدية الغربية،‏<br />

واإلسقاط اآللي واحلرفي ملفاهيمها وكشوفاتها<br />

على النصوص األدبية العربية،‏ ما يكرس أزمة<br />

التغريب في النقد العربي،‏ وامتثاليته املطلقة<br />

لسلطة اآلخر النقدية.‏<br />

وعلى هذا األساس فإن حرص اخلراط -<br />

كما يرى الناقد األردني فخري صالح في كتابه ‏»في<br />

الرواية العربية اجلديدة«‏ - على اجتراح مفاهيم<br />

ومنظورات جديدة إلعادة توصيف صيرورة املنجز<br />

األدبي العربي في حقل الرواية والقصة،‏ انطالقاً‏ من<br />

التمرس بالنصوص اإلبداعية،‏ واإلنصات لنسوغها<br />

الفنية والداللية اخلاصة،‏ هو عمل تنظيري جدير<br />

باالحتفاء والتعاطف والتقدير،‏ ملا ينم عنه من<br />

انشغال بنَّاء ونير بهاجس تخصيص أسئلة النقد<br />

العربي،‏ وتفريد رهاناته املنهجية والفكرية بعيداً‏ عن<br />

شراك االفتتان مبعيارية احملمول النقدي الغربي،‏<br />

واحلرص على مطابقة هياكله التنظيرية الناجزة<br />

املشروطة دوماً‏ مبحاضن فلسفية وتاريخية وثقافية<br />

محددة.‏<br />

كما ميكن التأكيد في هذا السياق ذاته،‏ على أن<br />

من أبرز سمات التميز واإلنتاجية اخلالقة في هذا<br />

اجلهد التنظيري والتحليلي الذي اضطلع به اخلراط<br />

في قراءته النقدية التمحيصية للسرد العربي<br />

اجلديد،‏ واملتابعة الدؤوبة لتحوالته،‏ هي تفرده<br />

بخلفية معرفية ناظمة،‏ وجهت اجتهاداته الكشافة،‏<br />

وتتجلى من منظور الناقد واملفكر املصري محمود<br />

أمني العالم في احلرص على ‏»حتديد الكلي الكامن<br />

وراء اجلزئيات في قراءاته النقدية.‏ أي حتديد ما هو<br />

جوهري وراء التفاصيل العارضة...‏ وبذلك فاخلراط<br />

في نقده هو أقرب إلى رؤية فيلسوف اجلمال -<br />

أقصد االستاتيكا - منه إلى الناقد التحليلي،‏ بالرغم<br />

مما في نقده أحياناً‏ كثيرة من التصنيف والتحليل.‏<br />

فهو في احلقيقة فنان ذو رؤية مفهومية جمالية كلية<br />

خاصة حميمة تشكل - في حدودها - اختياراته<br />

للنصوص األدبية التي يراها أقرب للفن،‏ وتشكل<br />

بالتالي قراءاته لهذه النصوص«.‏<br />

واستناداً‏ إلى هذه اخلصائص املعرفية والفكرية<br />

اللماحة التي امناز بها التنظير النقدي إلدوار اخلراط،‏<br />

ميكننا اإلقرار بأنه في ضوء مكتسباتها النيِّرة،‏ يفترع<br />

هذا املبدع الراحل لنفسه مكانة مائزة داخل تاريخ<br />

األدب العربي جتعله إحدى قاماته املرموقة،‏ ومن<br />

الكتَّاب القالئل الذين يتفرد نتاجهم األدبي بهاجس<br />

االختالف واملغايرة،‏ والتراسل الكشاف بني النشاط<br />

الفني املتقد،‏ والكتابة التنظيرية املضيئة لتصوراتهم<br />

حول وظيفة اإلبداع والفن في احلياة،‏ وهو ما يجعله<br />

يلتقي في هذا التوجه مع مبدعيني قالئل تفردوا<br />

في املشهد اإلبداعي العاملي مبزاوجتهم املثمرة<br />

بيني الروح اإلبداعية املتوثبة واخلالقة،‏ والكتابة<br />

التنظيرية النفاذة،‏ وأكتفي بذكر الروائي التشيكي<br />

ميالن كونديرا في الغرب،‏ والشاعر أدونيس في<br />

العالم العربي ><br />

نظر ضعيف<br />

كان حافظ إبراهيم جالساً‏ وحده على كرسي في حديقة،‏ وأقبل صديقه<br />

عبدالعزيز البشري - وكالهما ظريف - فلما وصل قال حلافظ:‏ والله من<br />

بعيد حسبتك امرأة!‏ فأجاب حافظ:‏ كالنا نظره ضعيف،‏ وأنا من بعيد<br />

حسبتك رجالً!‏<br />

85<br />

إدوار اخلراط منظراً‏ للحساسية اجلديدة في السرد العربي


لغة<br />

موت اللغات وانقراضها<br />

تحسين الناشئ<br />

فنان وناقد عراقي مقيم في أمريكا<br />

ما الذي يعنيه عمليًا انقراض لغة ما؟ ولماذا تضيع بعض اللغات وتندثر؟<br />

وهل أن لغات العالم في حالة انحسار وزوال مستمر؟<br />

اللغة بشكل عام هي علم قائم بذاته يسمى لكسيكولوجيا،‏ وهي نظام<br />

من التعابير الصوتية المنطوقة نشأت كوسيلة للتعبير والتفاهم بين<br />

الشعوب،‏ وهي ظاهرة اجتماعية في حالة تطور مستمر،‏ ومفهوم اللغة<br />

يختلف عن مفهوم الكتابة،‏ فاللغة المحكية عبارة عن أصوات منطوقة<br />

ذات معنى،‏ تُفهم ويُدرك مغزاها من خالل السماع،‏ أما الكتابة فهي إشارات<br />

أو رموز لألصوات المنطوقة،‏ وتكون على شكل عالمات مكتوبة مؤلفة<br />

فقرات وعبارات تنتظم على هيئة مدونات،‏ ويتم فهم مغزى تلك العالمات<br />

بصرياً‏ عن طريق القراءة.‏<br />

إن تعبير ‏»لغة ميتة«‏ يعني عدم استخدام<br />

تلك اللغة متاماً،‏ وعدم تداولها،‏ سواء عن طريق<br />

التحدث أو عن طريق الكتابة والتدوين.‏ أما تعبير<br />

‏»لغة آيلة إلى االنقراض«،‏ فهو إشارة إلى اللغات<br />

غير املستخدمة استخداماً‏ يومياً‏ من قبل شعب<br />

من الشعوب،‏ ونقص عدد الناطقني بتلك اللغة إلى<br />

حد كبير،‏ فتدخل تلك اللغة في حالة االضمحالل<br />

واجلمود،‏ ثم النسيان التدريجي من قبل الناطقني<br />

بها،‏ وهنا تصل إلى مرحلة اخلطر الذي يعرضها<br />

لالنقراض.‏<br />

إن عاملنا احلالي ثري بأبجدياته ولغاته<br />

املختلفة باختالف األجناس واألعراق والقوميات،‏<br />

فعدد لغات العالم اليوم يبلغ 2700 لغة حية،‏ منها<br />

860 لغة فاعلة ومهمة،‏ ومن هذه اللغات الفاعلة<br />

يوجد 424 لغة في األمريكتني فقط،‏ فقبائل الهنود<br />

احلمر وحدها تتكلم حوالي 200، لغة،‏ أما في آسيا<br />

فتوجد 153 لغة فاعلة،‏ بينما الشائع بني الناس<br />

أن في الهند وحدها توجد مئات اللغات،‏ وهذا<br />

صحيح،‏ لكن اإلحصاءات في هذا املجال تؤكد<br />

فقط اللغات املتداولة واملستخدمة استخداماً‏<br />

يومياً‏ من فئة ال يقل عدد أفرادها عن ألفي<br />

نسمة.‏ ومعنى ذلك أن لغات قدمية كالتدمرية<br />

والسبئية واألدموتية واألمهرية والبونية واحلبشية<br />

القدمية والفينيقية والنبطية واحلضرية واملندائية<br />

والبابلية والسومرية ومئات اللغات األخرى ال تقع<br />

ضمن اإلحصائية املذكورة )2700(، وتصنف ضمن<br />

‏»اللغات امليتة«.‏<br />

يذكر عالم اللغات برنارد كمري أنه بني عامي<br />

1490 و‎1990‎ انقرض حوالي نصف لغات العالم،‏<br />

ولو لم تنقرض تلك اللغات لكان لدينا اليوم بني<br />

10 آالف إلى 15 ألف لغة محكية.‏ وتؤكد آخر<br />

الدراسات وجود حوالي 2000 لغة مهددة بالزوال<br />

معظمها في آسيا وأمريكا الالتينية،‏ ويتوقع<br />

الباحثون انقراض 90 في املائة من لغات العالم<br />

العدد - 692 يوليو 2016<br />

86


الكويت عاصمة الثقافة اإلسالمية 2016<br />

خالل القرن احلادي والعشرين.‏<br />

ولكن ما هي األسباب الرئيسة التي تؤدي إلى<br />

انقراض اللغات؟<br />

هنالك جملة أسباب أهمها:‏<br />

أوالً:‏ الكوارث الطبيعية،‏ تعتبر الكوارث<br />

الطبيعية الكبرى عاملالً‏ مهماً‏ من عوامل<br />

تهديد لغات العالم باالنقراض أو انحسارها<br />

إلى حد كبير،‏ فمثال أدى إعصار تسونامي<br />

الرهيب عام 2004 إلى إبادة قبائل كاملة في<br />

إندونيسيا وتايالند والهند وسريالنكا كانت<br />

تتخذ من سواحل البحار أماكن لتجمعاتها،‏<br />

وبزوال هذه القبائل زالت لغاتها احمللية معها.‏<br />

كما أدت الزالزل املدمرة التي ضربت مدن<br />

العالم في املائة عام األخيرة إلى ضياع لغات<br />

بعض الشعوب املنكوبة،‏ وهددت لغات أخرى<br />

باالنقراض،‏ ذلك أن بعض اللغات ال يتجاوز<br />

عدد الناطقني بها بضعة آالف أو مئات<br />

من األشخاص فقط،‏ وأن الغالب على تلك<br />

اجلماعات أو القبائل أو الطوائف أنها تعيش<br />

ضمن جتمعات سكانية متقاربة إلى بعضها ضمن<br />

حيز جغرافي واحد – مدينة أو قصبة أو قرية<br />

أو ما شابه ذلك - وهذا يؤدي إلى خطر الزوال<br />

اجلمعي أو الكلي في حال حدوث كارثة بيئية أو<br />

طبيعية أو عدوانية.‏<br />

ومن أبرز الكوارث التي أثّرت على اإلرث<br />

العاملي للغات،‏ تلك الزالزل الكبرى التي سجلت<br />

خالل القرن العشرين،‏ ومنها على سبيل املثال،‏<br />

زلزال مدينة كاتو اليابانية عام 1923 وزلزال<br />

تشيلي عام 1960 وزلزال مدينة تناغشان الصينية<br />

عام 1976 وزلزال مكسيكو سيتي عام 1985<br />

وزلزال أرمينيا الرهيب عام 1988 وزلزال مدينة<br />

غيالن اإليرانية عام 1990 وزلزال الهند عام 1993<br />

وزلزال جزيرة ساخالني الروسية عام 1995 وكوبي<br />

اليابانية 1995 أيضاً،‏ إضافة إلى زالزل تركيا وبام<br />

اإليرانية وهايتي وغيرها من الزالزل والكوارث.‏<br />

إن حدوث مثل هذه الكوارث الكبرى إضافة<br />

إلى التدمير الصناعي للبيئة واستغالل الطبيعة<br />

للمد العمراني،‏ التي بسببها يتم القضاء على<br />

جتمعات األقليات،‏ أو ما يحصل أحياناً‏ من<br />

انتشار عام وكثيف لألوبئة في مساحة محددة،‏<br />

ما يؤدي إلى وفيات بأعداد كبيرة أو تشتت أو<br />

تدهور للبيئة،‏ كل ذلك يؤدي إلى تفكك املجتمعات<br />

التي حتيا فيها اللغات،‏ واخلطر الكبير هنا هو<br />

حني تكون تلك املجتمعات املتفككة هي مجتمعات<br />

األقليات.‏<br />

إذن احلفاظ على لغات األقليات يرتبط<br />

باحلفاظ على دميومة بقاء واستمرار تلك<br />

األقليات في مناطق وجودها،‏ وهذا يعني وجوب<br />

احملافظة على أمناط احلياة التقليدية السليمة<br />

لتلك األقليات واحلفاظ على البيئة التي حتيا<br />

فيها أيضاً.‏<br />

ثانياً:‏ احلروب والصراعات العرقية واإلبادة<br />

اجلماعية لفئات معينة،‏ فاحلروب والصراعات<br />

مبختلف أشكالها تؤدي إلى زوال بعض األعراق<br />

والقوميات والطوائف والفئات الصغيرة<br />

املستضعفة،‏ وهذا يؤدي بدوره إلى موت أو اندثار<br />

لغات تلك الفئات.‏ لقد أدت اإلبادة اجلماعية<br />

لقبائل الهنود احلمر من قبل املستوطنني الغربيني<br />

ألمريكا الشمالية إلى ضياع واندثار عديد من<br />

87<br />

موت اللغات وانقراضها


اللغات احمللية لتلك القبائل البدائية.‏ فمع تشرد<br />

وتفرّق واختفاء تلك اجلماعات القبلية أو إبادتها،‏<br />

من الطبيعي أن تختفي لغاتها معها.‏<br />

واملعروف أن قبائل الهنود احلمر العديدة<br />

التي كانت تنتشر في أرجاء األراضي األمريكية<br />

املترامية األطراف،‏ كان لديها عند حلول القرن<br />

السادس عشر حوالي 500 إلى 600 لغة متداولة،‏<br />

هذه اللغات لم يتبق منها في نهاية سبعينيات<br />

القرن املاضي سوى 18 عائلة لغوية،‏ كل عائلة منها<br />

حتتوي من 1 إلى 20 لغة،‏ أي إن ما تبقى منها<br />

اليوم ال يتجاوز 200 لغة،‏ والبعض من تلك اللغات<br />

محدود التداول لقلة أعداد املستخدمني،‏ وبالتالي<br />

فهي مهددة أيضاً‏ باالنقراض.‏ من جهة أخرى أدت<br />

حروب البلقان بداية القرن العشرين واحلربان<br />

العامليتان والنزاع العرقي في يوغسالفيا السابقة،‏<br />

إلى انحسار أعداد بعض األعراق والقوميات<br />

املتصارعة التي كانت اجلانب األضعف في تلك<br />

احلروب والنزاعات،‏ وبالتالي اضمحالل لغاتها<br />

األصلية وتهديدها باالندثار.‏<br />

ثالثاً:‏ التكتم على اللغة األم والعمل على تغييبها<br />

إرادياً،‏ واتخاذ لغة ثانية سائدة بدالً‏ عنها،‏ خشية<br />

انكشاف الهوية ومن ثم التعرض إلى االضطهاد أو<br />

املالحقة أو التصفية الدينية أو العرقية على يد<br />

أغلبية سائدة تفرض أعرافها بالقوة على اآلخرين،‏<br />

أو تتعامل مع األفراد على أساس عنصري.‏<br />

إن أكثر من مييل إلى استخدام أسلوب التكتم<br />

على لغته هم أتباع الطوائف الضعيفة واألقليات<br />

الدينية ‏)وأغلب الظن أن ما حصل من انحسار<br />

شديد للغات قدمية كاملندائية والسريانية يعود<br />

إلى هذا اجلانب(.‏<br />

رابعاً:‏ الهجرات القسرية إلى وجهات متعددة،‏<br />

أي الهجرات غير املبرمجة وغير املنظمة بفعل<br />

ظروف قاهرة خارجة عن إرادة اجلماعة املهاجرة،‏<br />

تلك الهجرات بطبيعة احلال تؤدي إلى االختالط<br />

مع أمم جديدة وشعوب غريبة يصبح معها لزاماً‏<br />

على الفرد اتخاذ لغة تلك األمة أو البلد – أي لغة<br />

األكثرية - كلغة حديث وعمل ودراسة...‏ أي لغة<br />

احلياة اجلديدة،‏ وبسبب ذلك تنحسر اللغة األصلية<br />

وتضمحل ثم تتالشى بتتابع األجيال ومتوت،‏<br />

فاللغة األصلية قد تنتهي عند اجليل الثالث،‏ أو<br />

الرابع على أبعد تقدير،‏ فاجليل األول يكون أحادي<br />

اللغة ‏)يستخدم لغته األم(‏ ويتعلم قليالً‏ من اللغة<br />

السائدة ‏)لغة املجتمع اجلديد(.‏ أما اجليل الثاني<br />

فيصبح ثنائي اللغة،‏ إذ يتعلم أفراد هذا اجليل لغة<br />

األجداد من ذويهم،‏ كما يتقنون اللغة السائدة من<br />

املجتمع احمليط.‏ أما اجليل الثالث،‏ فيتعلم فقط<br />

اللغة السائدة في املجتمع والبيت ‏)ولغة البيت هنا<br />

تكون على األغلب هي لغة املجتمع(،‏ وبهذا تنحسر<br />

اللغة األم شيئاً‏ فشيئاً‏ وتندثر.‏<br />

خامساً:‏ سيادة اللغات الكبرى أو الرئيسة،‏<br />

وهذا األمر يؤدي بالنتيجة إلى انقراض اللغات<br />

احمللية،‏ فحني تسود اللغة الكبرى وتصبح هي لغة<br />

التخاطب والدراسة والكتاب والصحيفة والتلفاز<br />

واإلنترنت،‏ تصبح معها اللغات احمللية لغات ثانوية.‏<br />

واليوم هنالك إحدى عشرة لغة كبرى في العالم<br />

هي السائدة بقوة في كل وسائل االتصال والتواصل<br />

بيني 78 في املائة من سكان العالم،‏ هذه اللغات<br />

هي:‏ اإلجنليزية،‏ الفرنسية،‏ اإلسبانية،‏ اإليطالية،‏<br />

األملانية،‏ الصينية،‏ الروسية،‏ العربية،‏ الهندية،‏<br />

الهولندية،‏ البرتغالية.‏<br />

إن انقراض بعض اللغات سيؤدي حتما إلى<br />

ضياع التأريخ املدون وغير املدون بتلك اللغات<br />

على السواء،‏ فاملدونات املكتوبة بلغات اضمحلت<br />

وماتت في ما بعد،‏ تصبح بالنسبة لألجيال<br />

الالحقة عبارة عن طالسم ال غير،‏ أي إنها رموز<br />

مبهمة املعنى والداللة،‏ وتصبح عملية فك رموز<br />

تلك املدونات بحاجة إلى إيجاد الشفرة اخلاصة<br />

بتلك اللغة املنقرضة،‏ أي متاماً‏ كمسألة اكتشاف<br />

الشفرات التي مت من خاللها معرفة اللغتني<br />

املسمارية والهيروغليفية وبعض اللغات القدمية،‏<br />

بعد أن كانت تلك اللغات مبهمة وغريبة لفترة من<br />

الزمن.‏<br />

إن على الشعوب احلية والناهضة واجب<br />

احلفاظ على لغاتها من االندثار والتشويه،‏ فاللغة<br />

هي هوية الشعب وسر متيزه،‏ كما أنها عالمة على<br />

عنفوانه ودميومته،‏ وهي وسيلة تدوين تاريخه<br />

ومسيرته وعطائه.‏ وكما قال صموئيل جونسون<br />

‏»إن اللغة متثل أصالة األمم«‏ ><br />

العدد - 692 يوليو 2016<br />

88


تاريخ وتراث<br />

الكويت عاصمة الثقافة اإلسالمية 2016<br />

حول الكون<br />

في التصور العراقي القديم<br />

د.‏ مصطفى محمد طه أكادميي من العراق<br />

دراسة التصور الكوني في العراق القديم-‏ أو في أي حضارة أخرى - ال<br />

تكتمل مالمحها البارزة إال بمعرفة ماهية الكون،‏ وذلك حتى تتسنى لنا<br />

معرفة مدى مصداقية رؤية هذه الحضارة أو تلك للكون.‏ وفي هذا نقول إن<br />

الكون هو كل موجود وما وجد وما سيوجد،‏ أما عن كلمة الكون التي هي<br />

»cosmos« في اللغات األجنبية مثل:‏ اإلنجليزية والفرنسية والروسية...‏ إلى<br />

آخره فهي في األساس كلمة إغريقية تعني ‏»نظام الكون«‏ وهي بشكل<br />

ما عكس كلمة »cosmos« أي االختلالط والتشوش،‏ أو بمعني آخر حالة<br />

الكون المختلطة قبل تكونه.‏ وهي تتضمن العالقة المتبادلة العميقة<br />

لكل األشياء وتبعث الرهبة من الطريقة الدقيقة والماهرة،‏ التي جمع فيها<br />

الكون بالشكل الراهن.‏<br />

وإذا كان ما سبق يختص بالكون،‏ فإن مسائل<br />

الكونيات - أي النظر في أصل العالم - كانت<br />

مبعث حيرة للعقل البشري منذ فجر التاريخ،‏<br />

فقد اتصل التصور في أصل العالم عند القدماء<br />

بفكرة اخللق،‏ حيث قام به - وفقاً‏ لتصورهم –<br />

إله فصل بني النور والظلمة ورفع السماوات<br />

وثبتها من فوق األرض،‏ وصور املجاالت األخرى،‏<br />

التي اختصت بها تلك الصورة الكونية الضيقة<br />

احملدودة،‏ التي حتيزت في عقل اإلنسان األول،‏<br />

ومرت القرون،‏ واستجمع اإلنسان مبرورها<br />

املعرفة مبختلف الظاهرات،‏ التي يعايشها في<br />

العالم الذي تتألف منه بيئته،‏ وتكيفت نظرياته<br />

الكونية في صورة أقرب إلى العلم.‏ وعند دراسة<br />

مالمح التصور العراقي القدمي للكون،‏ نرى أنه<br />

قد مر على العراق في تاريخه القدمي حضارات<br />

عدة علي النحو التالي:‏<br />

- 1 حضارة سومر:‏<br />

أ-‏ من هم السومريون؟<br />

ثمة تساؤل حيوي من املنظار التاريخي<br />

يطرح نفسه على بساط البحث،‏ مفاده من هم<br />

السومريون؟ ولإلجابة عن مثل هذا التساؤل<br />

نقول إن السومريني أو الشومريني،‏ هم قوم<br />

حتدروا من األقوام التي قطنت العراق في عصور<br />

ما قبل التاريخ،‏ وهي العصور التي سبقت عصر<br />

فجر السلالالت،‏ وقد عرفوا باسم خاص،‏ وهو<br />

اسم السومريني في األزمنة التاريخية نسبة إلى<br />

اجلزء اخلاص من العراق الذي متركزوا فيه،‏<br />

وهو القسم اجلنوبي الذي سمي باسم ‏»شومر«‏<br />

أو ‏»سومر«،‏ ولعل أقوى ما يجعل هذه الفرضية<br />

89<br />

حول الكون في التصور العراقي القدمي


رأياً‏ قريباً‏ من الواقع،‏ هو أن أسس احلضارة<br />

السومرية،‏ التي ازدهرت في عصر السالالت،‏<br />

ميكن إرجاعها إلى األطوار احلضارية ‏)عصور<br />

ما قبل السلالالت(،‏ مما يشكل استمراراً‏<br />

حضارياً،‏ أي إن أصول احلضارة السومرية<br />

نشأت في العراق،‏ وبالتالي ميكن تتبع أسسها<br />

وأصولها فيه منذ أقدم األزمان.‏ وكان ذلك في<br />

فترة،‏ تراوحت تقديرات املؤرخني بشأنها،‏ في<br />

ما بني أوائل القرن الثالثني قبل امليالد،‏ والقرن<br />

الثامن والعشرين قبل امليالد.‏<br />

وخالصة القول،‏ إنه مهما كان أصل<br />

السومريني واملهد الذي نزحوا منه،‏ فاألمر<br />

املهم من الناحية احلضارية،‏ هو أننا نعرف<br />

نشوء حضارتهم وتطورها ومراحل ذلك التطور<br />

وخصائصها،‏ وأنها نشأت في القسم اجلنوبي<br />

من العراق.‏ كما أن البحث في أصلهم وعرقهم<br />

من األمور التي ال تقود الباحث إلى شيء،‏<br />

وذلك على فرض أنه يستطيع أن يعرف ذلك<br />

في املستقبل.‏<br />

ب - الكون لدى السومريني<br />

يشي الواقع التاريخي ملعطيات حضارة<br />

سومر،‏ في هذا املنحى العلمي الدقيق،‏ بأن<br />

فقهاء سومر قد تخيلوا السماء واألرض في<br />

بداية أمرهما ملتصقتيني يحيط بهما محيط<br />

مائي عظيم،‏ وكان في أولهما إله مذكر وهو ‏»آن«‏<br />

أو ‏»آنو«‏ الذي اعتبروه اجلد األكبر للمعبودات،‏<br />

ثم إلهة مؤنثة ‏»كي«،‏ ونتج عن اتصال هذين<br />

الزوجني عنصر ثالث،‏ وهو ‏»إنليل«‏ رب الهواء<br />

واألنفاس والفضاء الذي تدخل بينهما وفصلهما،‏<br />

ورفع أباه ‏»آن«‏ بسمائه إلى أعلى،‏ وحط بأمه<br />

‏»كي«‏ إلى أسفل حيث اختلط بها،‏ وترتب على<br />

وجوده معها أن بدأ ظهور بقية األرباب،‏ ومنهم<br />

من سموا باسم األنوناكي اخلمسني العظام<br />

والسبعة أصحاب املصائر،‏ ثم بدأ خلق النباتات<br />

واألنعام والناس.‏<br />

إن التصور الكوني لدى السومريني،‏ يجعل<br />

الباحث املعاصر يصل إلى قناعة عملية<br />

تاريخية مفادها،‏ أن أرباب السماء واألرض<br />

والهواء - وفقاً‏ لهذا التصور-‏ قد تسنى لهم<br />

املشاركة في النشأة عند السومريني ف ‏»إنكي«‏<br />

روح املاء احمليط بالسماء واألرض،‏ وكان<br />

ابن هو ‏»منو«‏ الذي مثل عنصر األمومة في<br />

احمليط األزلي،‏ وزوج هو ‏»متاخ«،‏ أي السيدة<br />

العظمى،‏ التي لقبت أيضاً‏ بلقب ‏»نينتو«‏ مبعنى<br />

السيدة الوالدة،‏ ولهذا كان ‏»إنكي«‏ يعتبر إلها<br />

للماء وللحكمة ومقرراً‏ ملصائر األقطار واملدن<br />

وحافظ نواميس احلضارة في كل مظاهرها<br />

املادية والروحية،‏ واملوصي مبظاهر احلياة<br />

إلى أربابها،‏ مثل ‏»دوموزي«‏ الذي عهد بخصوبة<br />

األنعام وخصوبة األرض و»إشكود«‏ الذي عهد<br />

إليه بأمر الرياح،‏ إن كل هؤالء اآللهة – وفقاً‏<br />

للتصور السومري – قد شاركوا في نشأة الكون<br />

وتكوينه.‏<br />

وفي التحليل األخير،‏ نرى أن التصور<br />

السومري للكون،‏ يؤكد لنا أن حضارة سومر قد<br />

عرفت آلهة متعددة،‏ عرفت بآلهة الكون وهي<br />

على النحو التالي:‏<br />

اإلله األول:‏ إله السماء:‏ آن،‏ آنوم،‏ آن<br />

»An Anum An«<br />

و»أن«‏ تعني أصلالً‏ السماء في اللغة<br />

السومرية وتقابلها ‏»شامو«‏ في األكدية،‏ ومن ثم<br />

فإن ‏»آنو«‏ أو ‏»آنوم«‏ هو إله السماء،‏ وهو أيضاً‏<br />

أب السماوات وملكها،‏ وعرشه على قمة قبة<br />

السماء،‏ وحني حدث الطوفان جلأ إليه اآللهة<br />

مذعورين ليحتموا به،‏ وجثوا كالكالب إلى<br />

جانب حائط السماء.‏<br />

وفي هذا السياق تشير املصادر التاريخية<br />

إلى أن هؤالء اآللهة قد ظلوا كذلك حتى قدم<br />

أهم ‏»زيوسودرا«‏ قرابيني التضحية فوصلت<br />

رائحتها إلى خياشيمهم وعنذئذ اطمأنت<br />

قلوبهم،‏ وعلى عتبته،‏ أي ‏»آنو«،‏ يقف ‏»ذوموزي«‏<br />

و»جشزيدا«‏ اإللهان الوحيدان اللذان ذاقا<br />

املوت،‏ ويحكم ‏»آنو«‏ مجموعتني من اآللهة<br />

هما ال ‏»أجيجي«‏ في السماء،‏ وال ‏»أنوناكي«‏<br />

في األرض،‏ وهم الذين يقتسمون التصرف في<br />

شؤون العالم بإشرافه وكان مقر عبادة ‏»آنو«‏<br />

العدد - 692 يوليو 2016<br />

90


الكويت عاصمة الثقافة اإلسالمية 2016<br />

91<br />

حول الكون في التصور العراقي القدمي


الرئيس في ‏»الوركاء«،‏ حيث يعيش في معبده<br />

مع زوجته،‏ وتشير نصوص من الوركاء إلى<br />

عديد من التضحيات التي كانت تقدم لهما في<br />

معبدهما.‏<br />

اإلله الثاني:‏ إله األرض:‏ إنليل،‏ إليل Enlin ,Ellil<br />

إن ‏»إن ‏–ليل«‏ بالسومرية هي ‏»ال-ليل«‏<br />

باألكدية،‏ وهي كلمة تعني ‏»سيد«،‏ وقد كان<br />

سيداً‏ للمجمع السومري لآللهة،‏ كما كان ‏»بعال«‏<br />

له.‏ وكلمة ‏»إن ‏–ليل«‏ تعني أصالً‏ ‏»سيد الريح<br />

والروح«‏ وهو لم يأخذ لقب سيد األرض إال<br />

فيما بعد.‏ ومن لقبه كسيد للريح،‏ التي تخرج<br />

من اجلبل وتدفع املياه جاء لقبة ‏»إميهور ساج<br />

»imhu-sag أي ‏»جبل الريح«‏ كإله لزقورة<br />

‏»نيبور »Nippvr وقد اغتصب اإلله آشور في<br />

ما بعد هذه الصفة،‏ التي علقت به ‏»اجلبل<br />

العظيم«،‏ أما معبده في مدينة نيبور فيدعى<br />

‏»أي كور »E-kur أي معبد اجلبل.‏ وكانت ترافقه<br />

فيه اآللهة ‏»نن هور ساج«‏ سيدة اجلبل،‏ وكان له<br />

منها ثمانية مواليد إلهية.‏<br />

اإلله الثالث:‏ إله املاء:‏ إنكي،‏ أيا En- Ki, Ea<br />

كان ثالث أفراد الثالوث،‏ الذي نلتقي به في<br />

أقدم النصوص هو ‏»شوروباك«‏ ‏)فارة(‏ و»جلش«‏<br />

‏)تللو(‏ و»الرسا«‏ ‏)سكنرة(،‏ ولهذا كان التمييز<br />

بين ثالثة أنواع من األرض:‏ األرض العليا،‏<br />

حيث يحكم ‏»انليل«‏ واألرض السفلى،‏ حيث<br />

‏»نرجال«‏ واألرض الوسطى بن االثنن،‏ حيث<br />

مملكة ‏»أيا«‏ Ea أو ‏»إنكي«‏ سيد املاء املقدس.‏<br />

ومتجده أقدم النصوص السومرية كملك لل<br />

ل ‏»أبو«‏ ومدينته املقدسة هي ‏»إريدو »Eridu<br />

‏)أبو شهرين(‏ ويحمل معبده بها لقب ‏»إيابزو«‏<br />

Bit-apsi بالسومرية أو ‏»بيت أبسي«‏ E-abzu<br />

باألكدية ‏)بيت أبسو(.‏<br />

اإلله الرابع:‏ إله العالم السفلي:‏ نرجال Nergal<br />

وهو رابع آلهة العالم الكبرى،‏ أي األرض<br />

السفلية وتسمى عادة ‏»األرض«‏ أو ‏»األرض<br />

الكبرى«‏ وهي ‏»كي جال«‏ بالسومرية و»كي<br />

جاللو«‏ باألكدية،‏ وهي ‏»األرض التي ال عودة<br />

منها«‏ وبالسومرية:‏ ‏»كورنوجي آ«،‏ وتعرف كذلك<br />

‏»أرا للو«،‏ ويحكم هذه األرض ‏»نرجال«،‏ ومعناه<br />

‏»فوق املسكن العظيم«‏ وهو يقرن باإلله ‏»إيررا«‏<br />

،Irra وهو أصالً‏ إله الوباء املنوط به تعمير<br />

العالم السفلي،‏ ويعرف ‏»إيررا«‏ باسم ‏»نرجال<br />

كوثا«‏ وكوكب نرجال هو املريخ،‏ وقد استطاع<br />

نرجال بقوته أن يسيطر على ال ‏»ارا للو«‏ أما<br />

ربة العالم السفلي فهي نن كي جال«‏ وينطق<br />

اسمها أحياناً‏ ‏»إرشن كي جال«‏ Ereshkigal أي<br />

‏»سيدة كيجاللو«‏ أو سيدة األرض العظمى.‏<br />

من كل ما سبق نرى أن حضارة سومر،‏ قد<br />

عرفت – كما أحملنا سابقاً‏ - آلهة عدة خالقة<br />

لهذا الكون الهائل،‏ وفي هذا داللة أكيدة على<br />

أن هذا التصور املتهافت خللق الكون إمنا ينافي<br />

التصور اإلسالمي احلق،‏ الذي جاء بالوحدانية<br />

احلقة،‏ التي ردت االعتبار للخالق األوحد لهذا<br />

الكون الرحيب،‏ إنه الله جل جالله.‏<br />

- 2 التصور الكوني لدى حضارة بابل<br />

يالحظ الباحث العلمي الذي يريد أن يدرس<br />

مالمح تصور الكون في هذه احلضارة أن السماء<br />

واألرض ‏)الكون(‏ في اعتقاد البابلين إمنا كانتا<br />

عبارة عن صورتن متعادلتن ومتكاملتن،‏ وقد<br />

خرج كالهما من املاء األزلي الذي هو احمليط<br />

األول األصلي،‏ ورمبا كان اعتقاد البابلين في<br />

خروج األرض من البحر منبثقاً‏ من الطريقة<br />

التي استخلص بها السومريون أرضهم من<br />

األنهار،‏ وكان العالم في نظرهم محصوراً‏ كله<br />

داخل قبة السماء التي اعتقدوا أن لها أعمدة<br />

في ما وراء البحار.‏ أما مركز الكون فقد زعموه<br />

واقعاً‏ عند منبع الفرات في جبال ‏»طوروس«.‏<br />

وفي هذا السياق،‏ يؤكد بعض املؤرخن أن<br />

ثمة تشابهاً‏ واضحاً‏ بن هذه األسطورة وما<br />

جاء في سفر التكوين من أنه في البداية،‏ لم<br />

يكن يوجد سوى هيولي مظلم من املاء،‏ لكن<br />

األسطورة تختلف عن الكتب السماوية عموماً‏<br />

في أنها جعلت املادة أزلية سبقت أي شيء آخر،‏<br />

ومع ذلك فإن األسطورة تعكس صورة ملا يدور<br />

العدد - 692 يوليو 2016<br />

92


عاصمة الثقافة اإلسالمية 2016<br />

الكويت<br />

في بيئة بالد ما بني النهرين من صراع بني<br />

عناصر الطبيعة واإلنسان وبيئته.‏ ولذا فإنه<br />

ليس غريباً‏ أن تأتي الكتب املقدسة مبثل هذه<br />

الفكرة،‏ فلقد جاء في التوراة ‏»في البدء خلق<br />

الله السماوات واألرض،‏ وكانت األرض خاوية<br />

خالية،‏ وعلى وجه القمر ظالم،‏ وروح الله يرف<br />

على وجه املياه«.‏<br />

كذلك جند في ما بعد أن القرآن الكرمي<br />

نصت آيات كثيرة منه على مثل هذه األفكار<br />

واملعتقدات الكونية،‏ فمن ذلك مثال قوله عز من<br />

قائل ‏}أَنَّ‏ السَّ‏ مَ‏ اوَاتِ‏ وَالْ‏ ‏َرْضَ‏ كَانَتَا رَتْقً‏ ا فَفَتَقْ‏ نَاهُ‏ مَ‏ ا<br />

وَجَ‏ عَلْنَا مِ‏ نَ‏ الْ‏ ‏َاءِ‏ كُ‏ لَّ‏ شَ‏ يْ‏ ءٍ‏ حَ‏ يٍّ‏ أَفَلَ‏ يُؤْمِ‏ نُونَ{‏ ‏)سورة<br />

النبياء/‏ آية 30(، وكذا قوله األقدس ‏}خَ‏ لَ‏ قَ‏<br />

السَّ‏ ‏مَ‏ اوَاتِ‏ وَالْ‏ ‏َرْضَ‏ فِ‏ ي سِ‏ ‏تَّةِ‏ أَيَّامٍ‏ وَكَانَ‏ عَ‏ رْشُ‏ ‏هُ‏ عَ‏ لَى<br />

الْ‏ ‏َاء{،‏ ‏)سورة هود/آية 7(.<br />

ومن عجب أن يجيء العلم احلديث مبا<br />

يؤكد ذلك في النظرية التي قال بها العلماء<br />

املعاصرون بشأن خلق الكون،‏ ومضمونها ‏»أن<br />

تكون العالم بدأ منذ أن حتولت األبخرة األولى<br />

إلى ماء«.‏<br />

وفي التحليل األخير،‏ نرى أن التصور<br />

الكوني البابلي يؤكد مبا ال يدع مجاالً‏ للشك،‏<br />

أن التفكير في نشأة الوجود،‏ أدى إلى ظهور<br />

أساطير مختلفة وصلت إلينا منها بعض النماذج<br />

وتعد األسطورة البابلية أقدم منوذج وصل إلينا<br />

كأسطورة طويلة،‏ وهي مدونة على سبعة ألواح<br />

طينية تعرف لدى علماء اآلشوريات باسم ‏»ألواح<br />

اخلليقة السبعة«،‏ وحتتوي هذه األسطورة على<br />

نحو ألف بيت تقريباً‏ وتشير إلى أنه لم يكن<br />

في البدء سوى املاء العذب ‏»اإلله إيسو«‏ واملاء<br />

املالح ‏»اإللهة تيامة«،‏ وكانا مختلطني،‏ ثم ولدت<br />

منهما اآللهة اآلخرى متعاقبة،‏ وفي ذلك ما<br />

يشير إلى أن املادة ‏)املياه(‏ أزلية،‏ وهما في<br />

الوقت نفسه اإللهان اللذان جاءت منهما اآللهة<br />

ومن أعقابهما أعظم اآللهة لدى البابليني وهو<br />

‏»مردوخ«.‏<br />

واخلالصة أن هذه األسطورة البابلية<br />

بشأن خلق الكون تعتبر بوجه عام ضمن تلك<br />

األساطير التي سادتها فكرة عدم التكون الذاتي،‏<br />

أو النشأة الذاتية للكون،‏ بل إن ‏»الهيولي«‏ الذي<br />

هو املادة األولى للكون،‏ الذي كان على هيئة<br />

مياه )water( قد انقسم بقوة إلهية إلى مياه<br />

علوية وأخرى سفلية.‏ ومن املياه السفلية برزت<br />

األرض كجزيرة،‏ ومن ذلك يتضح أن املادة<br />

األولى للكون،‏ واجلوهر واألوحد للوجود،‏ في<br />

اعتقاد البابليني هو املاء الذي هو أصل كل<br />

شيء.‏<br />

3 ‏-التصور الكوني لدى اآلشوريني<br />

كانت قصص خلق الكون عند اآلشوريني ال<br />

تزيد على تلك الروايات،‏ التي تواترت إليهم من<br />

أقدم األزمنة،‏ والسيما تلك التي أثبتتها األلواح<br />

السبعة،‏ كما سبق أن أحملنا،‏ وكان اآلشوريون<br />

يتقبلون احلكايات الواردة في نصوصها القدمية<br />

وكأنها قضية مسلمة ال يعتريها الشك وال الظن،‏<br />

والسيما بعد أن أدخلوا على نصوصها األصلية<br />

تغييرات جوهرية فظيعة،‏ وقد نقلوا هذه<br />

األسطورة عن بابل حيث كان بطلها مردوك<br />

Merduk بابلياً‏ محلياً،‏ فلما نقلها اآلشوريون<br />

استبدلوا ببطل بابل هذا بطل إقليمهم وهو<br />

آشور،‏ وكان هذا بالفعل انتحاالً‏ مألوفاً‏ عند<br />

طائفة من القسس.‏ وإذا كان مردوك )Murduk(<br />

ابن آيا ،Ea كما ترويه األسطورة البابلية،‏ فإن<br />

أسطورة آشور تذهب إلى أن اإلله احمللي،‏ وهو<br />

آشور بن خلمو وال خامو.‏<br />

وفي هذا السياق،‏ أي معرفة التصور الكوني<br />

لدى اآلشوريون،‏ نرى أن أغلب األحداث الدنيوية<br />

في أحاديث الناس وعاداتهم،‏ كانت مرتبطة<br />

باألحداث الكونية الكبيرة،‏ ولعل املثال املثير<br />

في هذا املجال هو التعويذة ضد الدودة التي<br />

كان اآلشوريون في عام ألف قبل امليالد يرون<br />

فيها سبب األلم في األسنان،‏ وتبدأ التعويذة من<br />

نشوء الكون وتختتم بعالج ألم األسنان.‏<br />

التصورات اخلتامية حول الكون في حضارة<br />

وادي الرافدين.‏<br />

نخلص من كل ما سبق إلى أن الصراع بني<br />

النظام الكوني والهيولي،‏ كان مأساة تستحق<br />

93<br />

حول الكون في التصور العراقي القدمي


التسجيل لدى أهل بالد ما بني النهرين األقدمني<br />

تتجدد كل عام.‏ ومن ثم كانت امللحمة التي تتناول<br />

هذه األحداث ذات داللة وأثر خاصني في األدب<br />

الديني،‏ وهي في سبع لوحات تعرف باألكدية<br />

باسم ‏»إنوماإليش«‏ Enuma-Elish وتعني ‏»في<br />

األعالي حني«،‏ ولسنا ندري على التحقيق<br />

تاريخ جتميعها أو تأليفها،‏ ويعيد املؤرخون<br />

إرجاع امللحمة إلى العهد البابلي القدمي حوالي<br />

األلف الثاني قبل امليالد.‏ وامللحمة تشير إلى<br />

تكوين املادة األولى للكون من عنصرين ماء<br />

عذب ‏)مذكر(،‏ وماء مالح ‏)مؤنث(‏ هما:‏ ‏»أبو«‏<br />

و»تيامة«‏ هما أصل كل شيء - كما أحملنا سابقاً‏<br />

- وبعد الصراع بينهما يحل النظام في الكون،‏<br />

ولعلنا نستشف من وراء ذلك،‏ العراك ضد ماء<br />

البحر واالنتصار بكسب جزء من البحر.‏<br />

وفي هذا السياق يؤكد الواقع التاريخي<br />

واحلضاري،‏ أن التصور السومري للكون قد<br />

امتد تأثيره إلى حضارة بابل،‏ حيث أدخل علم<br />

تكوين اخللق عند الكلدانيني في أحد أرقى<br />

عناصر الرطوبة في أصل األشياء،‏ ومن الزواج<br />

األول خرج أوالً‏ ‏»الهمو«‏ وزوجه ‏»الهامو«‏ وهما<br />

معبودان لم يكن الدور الذي قاما به ملحوظاً،‏<br />

ثم مرت فترة غير محددة وانبثق من الزوج<br />

األصلي ‏»انشار«‏ و»كيشاري«‏ وهما ميثالن في<br />

ذاتيتهما كل السماء واألرض،‏ ومنهما جاء ثالثة<br />

آلهة آخرون هم مجموعة اآللهة البابلية:‏ آنو<br />

وإنليل وأيا،‏ وقد قسم هؤالء اآللهة الثالثة<br />

الكون في ما بينهم،‏ ألنه طبقاً‏ لآلراء السامية،‏<br />

لم يكن مبقدور الشيء أن يوجد دون أن يكون له<br />

سيد،‏ وكان ‏»آنو«‏ اإلله األكبر يحكم في السماء،‏<br />

وكان ‏»إنليل«‏ سيد اجلو واألرض،‏ وكانت ‏»آيا«‏<br />

املسماة ‏»إنكي«‏ في السومرية - حتكم أمواه<br />

احمليط البدئي،‏ وكان لكل منهم طريقه اخلاص<br />

على مدار الشمس،‏ وكانت مساكنهم على قمة<br />

السماوات.‏<br />

وكان يلي هذا الثالوث ثالوث آخر يتألف<br />

من إله القمر ‏»سن«‏ وإله الشمس ‏»شماش«‏<br />

وإلهة هي الزهرة ‏»عشتار«،‏ وكان إله القمر<br />

يقيس الزمن ويعاقب املذنبني من امللوك بقضاء<br />

حياتهم في التأوهات والدموع،‏ وكان إله الشمس<br />

هو القاضي األعظم،‏ الذي أملى قوانني العدالة<br />

على امللوك،‏ أما ‏»عشتار«،‏ فكانت إلهة احلرب<br />

وإلهة اللذة التي تسعى لغواية البشر،‏ كما أنها<br />

كانت تعد أخت إله الشمس وفي الوقت نفسه<br />

أخت إلهة العالم السفلي.‏<br />

من هنا نرى أن كل مدينة في هذه احلضارة<br />

العريقة،‏ قد اتخذت في األصل لنفسها إلهاً‏ وآلهة،‏<br />

ثم تعددت اآللهة مبرور الزمن،‏ وعلى رأسها<br />

الثالوث الذي يتكون من آنو ‏)السماء(‏ وإنليل ‏)اجلو<br />

واألرض(،‏ وآيا ‏)املاء(.‏ ولذا ميكن الذهاب إلى أن<br />

ثمة قصص ميثولوجية شرحت أخبار قصة خلق<br />

العالم والطوفان والبحث عبثاً‏ عن احلياة األزلية،‏<br />

التي لم يستطع اإلنسان القدمي - وال حتى احلديث<br />

- الوصول إلى بعض مالمحها العامة،‏ إال في ضوء<br />

الهداية الربانية،‏ التي جاءت األديان وفي مقدمتها<br />

اإلسالم،‏ لبلورة هذه املالمح ><br />

من أخبار الكسالى<br />

قيل لسهل بن هارون:‏ خادم القوم سيدهم،‏ فقال:‏ هذا من أخبار الكسالى.‏<br />

‏)أراد:‏ أن الكسالى يوردون مثل هذا القول ليغتر به من يقوم باخلدمة(.‏<br />

العدد - 692 يوليو 2016<br />

94


شخصيات<br />

الكويت عاصمة الثقافة اإلسالمية 2016<br />

فولتير و»رسالته في التسامح«‏<br />

د.‏ عادل زيتون كاتب وأكادميي من سورية<br />

أغراني بالكتابة عن األديب والفيلسوف الفرنسي فولتير أمران،‏ أولهما أنه كان<br />

من صُ‏ نَّاع عصر التنوير والعقل،‏ أي القرن الثامن عشر،‏ ال في فرنسا فحسب وإنما<br />

في أوربا عامة.‏ واألمر الثاني هو أن المبادئ التي وهبَ‏ فولتير حياته من أجلها،‏<br />

قوالً‏ وفعالً،‏ مازالت هي أهداف اإلنسانية إلى يومنا هذا،‏ مثل الحرية والعدالة<br />

والتسامح والمساواة،‏ ونبذ التعصب واالستبداد والخرافات.‏<br />

وُلد فرانسوا ماري أرويه ‏)وهو اسم فولتير<br />

احلقيقي(‏ في باريس عام 1694. ودرس في الكلية<br />

اليسوعية في باريس،‏ التي كانت أفضل مدرسة في<br />

فرنسا آنذاك.‏ وقد تلقى،‏ خالل السنوات السبع التي<br />

قضاها فيها،‏ تدريباتٍ‏ على دراسة التراث الكالسيكي<br />

‏)اليوناني والروماني(،‏ وأظهر نبوغاً‏ مبكراً‏ في ميادين<br />

األدب.‏ ثم درس القانون بناء على رغبة والده،‏ الذي<br />

يعمل محامياً،‏ ولكن فولتير لم ميارس احملاماة،‏ ألنه<br />

كان شغوفاً‏ باألدب.‏<br />

فولتير في إجنلترا<br />

سُ‏ ‏جن فولتير في الباستيل أكثر من مرة،‏ كانت<br />

األولى منها عام 1717 بتهمة أنه كتب قصيدة هجاء<br />

بالوصي على العرش الفرنسي،‏ وهو فيليب دوق<br />

أورليان.‏ وُنفي فولتير إلى إجنلترا عام 1726، حيث<br />

أمضى فيها ثالث سنوات ّ تُعدُ‏ من أهم محطات حياته،‏<br />

فقد اطلع على تقاليد املجتمع اإلجنليزي ونظامه<br />

السياسي،‏ وأُعجب بالدستور اإلجنليزي الذي منح<br />

امللك صالحيات مطلقة لفعل اخلير،‏ وقيَ‏ ‏ّد يديه في<br />

فعل الشر.‏ كما أُعجب بالتسامح الديني السائد،‏ وقال:‏<br />

‏»هذا هو بلد امللل والنِّحل،‏ والرجل اإلجنليزي،‏ باعتباره<br />

حراً،‏ يسلك إلى السماء الطريق الذي يختاره«.‏ وتأثر<br />

فولتير بالعالم اإلجنليزي نيوتن وشارك في تشييع<br />

جنازته.‏ كما ألَّف كتاباً‏ بعنوان ‏»رسائل عن اإلجنليز«.‏<br />

من باريس إلى برلني<br />

في عام 1734 نُشر كتابه اآلنف الذكر في باريس<br />

بعنوان ‏»رسائل فلسفية«.‏ ويتألف الكتاب من خمس<br />

وعشرين رسالة،‏ وهي في ظاهرها وصف للمجتمع<br />

اإلجنليزي،‏ في حين كانت حتمل نقداً‏ للمجتمع<br />

الفرنسي بكل ما فيه من صور االستبداد.‏ ولهذا<br />

سرعان ما قامت السلطات الفرنسية مبصادرة الكتاب<br />

وإحراقه بحجة مخالفته ‏»الدين واألخالق«.‏ كما صدر<br />

أمر بالقبض على املؤلف،‏ ولكن فولتير متكن من الفرار<br />

إلى دوقية اللورين املستقلة.‏ وتلقى بعدها دعوة من<br />

ملك بروسيا فردريك األكبر،‏ الذي كان يحيط نفسه<br />

بالفالسفة واألدباء والفنانين،‏ وكان فولتير يرى فيه<br />

منوذجاً‏ للملك ‏»املستبد املستنير«.‏ وبالفعل وصل<br />

فولتير إلى برلن نحو عام 1750، وخصص له امللك<br />

جناحاً‏ في قصره.‏ وبعد أن غادر فولتير أملانيا استقر<br />

به املقام في قرية فيروني،‏ الواقعة في ضواحي جنيف،‏<br />

بعيداً‏ عن حكام أملانيا وفرنسا.‏ وسرعان ما وفد إليه<br />

كبار علماء وأدباء أوربا.‏<br />

الوفاة<br />

كانت زيارة فولتير األخيرة إلى باريس قبل وفاته<br />

95<br />

فولتير و»رسالته في التسامح«‏


بعدة أشهر،‏ وأعلنت باريس ذلك اليوم إجازة رسمية<br />

ّ ونصَ‏ بته األكادميية الفرنسية رئيساً‏ لها.‏ وفي 30 مايو<br />

1778 مات فولتير،‏ أي قبل الثورة الفرنسية بعام واحد.‏<br />

ودفن في ‏»البانتيون«‏ في باريس،‏ وهي مقبرة عظماء<br />

األمة الفرنسية.‏<br />

قضية آل كاالس<br />

ترك فولتير تراثاً‏ ضخماً‏ في ميادين الشعر والرواية<br />

والفلسفة والتاريخ،‏ كما ألَ‏ ‏ّف ‏»املعجم الفلسفي«‏ وشارك<br />

في املوسوعة ‏»اإلنسكلوبيديا«‏ مع نخبة من علماء<br />

فرنسا آنذاك.‏ ّ ويُعدُ‏ كتابه ‏»رسالة في التسامح«‏ من<br />

أهم مؤلفاته،‏ وكان الدافع الرئيس لتأليفه هو إنصاف<br />

عائلة كاالس من الظلم الذي حاق بها على أيدي قضاة<br />

محكمة تولوز في عام 1762. وفحوى هذه الواقعة،‏ كما<br />

عرضها فولتير في مستهل الكتاب،‏ أن العائلة كانت<br />

تعيش في مدينة تولوز،‏ وتتألف من األب جان كاالس<br />

وزوجته وولديه مارك وبيير وابنتيه وخادمة.‏ وكانت<br />

العائلة على املذهب البروتستانتي،‏ في حني كان معظم<br />

أهالي تولوز على املذهب الكاثوليكي.‏ وكان بيير قد<br />

حتول إلى الكاثوليكية دون اعتراض والده،‏ كما كانت<br />

اخلادمة التي تشرف على تربية أوالده منذ ثالثني<br />

عاماً‏ كاثوليكية.‏ وكان ابنه مارك مييل إلى االكتئاب،‏<br />

والسيما أنه لم يُفلح في التجارة،‏ وال في االنضمام إلى<br />

سلك احملامني ألنه ليس كاثوليكياً،‏ ولهذا قرر االنتحار<br />

في اليوم الذي خسر فيه كل ما كان بحوزته من نقود<br />

في القمار.‏ وبالفعل شنقَ‏ مارك نفسَ‏ ه على أحد أبواب<br />

البيت.‏ واحتشد أهل تولوز حول املنزل وصاح أحدُ‏<br />

الرعاع،‏ قائالً‏ إن والده جان هو الذي شنقه ليمنعه من<br />

التحول إلى الكاثوليكية.‏ وسرعان ما صدَ‏ ‏ّق أهل تولوز<br />

هذه الفرية،‏ وبلغت الشائعة قاضي املدينة فصدَ‏ ‏ّقها<br />

بدوره من دون دليل،‏ ّ وزجَ‏ بآل كاالس في السجن.‏ ودُفن<br />

مارك في حفل مهيب في إحدى الكنائس الكاثوليكية،‏<br />

واعتبره بعضهم شهيداً‏ وقديساً.‏ وأخيراً‏ قرر قضاة<br />

تولوز إعدام جان كاالس ‏)وعمره 68 عاماً(‏ بتقطيع<br />

أطرافه وعظامه على الدوالب،‏ ونُفّذَ‏ احلكم في التاسع<br />

من مارس 1762. كما أمرت احملكمة بنفي بيير إلى<br />

أحد األديرة وباحلجر على شقيقتيه داخل دير آخر.‏<br />

وأُضيف الحقاً‏ فصلٌ‏ آخر لكتاب ‏»رسالة في التسامح«‏<br />

يتضمن عرضاً‏ آلخر حكم صدر في قضية آل كاالس،‏<br />

وخالصته أن زوجة جان تشجعت وذهبت إلى باريس<br />

بحثاً‏ عن املساعدة والعدالة.‏<br />

وتبنى قضيتها عدد من كبار احملامني من دون<br />

مقابل.‏ وهناك رواية تقول إنها ذهبت إلى فيروني<br />

وقابلت فولتير الذي تبنى بدوره القضية.‏ ومتكن<br />

احملامون من استصدار قرار بإعادة احملاكمة آلل<br />

كاالس في باريس،‏ وأمر مجلس الدولة،‏ مبوافقة امللك،‏<br />

بجلب ملف احملاكمة السابقة من تولوز إلى باريس.‏<br />

واستمرت جلساتُ‏ إعادة احملاكمة ثالث سنوات.‏<br />

وفي التاسع من شهر مارس 1765 صدر قرار محكمة<br />

باريس بإجماع القضاة بتبرئة جان كاالس وأسرته،‏<br />

وأجازت آلل كاالس مقاضاة قضاة تولوز واحلصول<br />

على النفقات والتعويضات منهم،‏ وعمَ‏ ‏ّت الفرحةُ‏ أنحاء<br />

فرنسا.‏ ومن املصادفة أن يكون قرار البراءة في اليوم<br />

نفسه الذي مت فيه إعدام جان قبل ثالث سنوات.‏<br />

رسالة التسامح<br />

ألَ‏ ‏ّفَ‏ فولتير كتابَه ‏»رسالة في التسامح«‏ ونشره في<br />

الوقت الذي كانت تُتخذ فيه إجراءات إعادة محاكمة<br />

آل كاالس في باريس.‏ وقد استهدف فولتير من ذلك<br />

التشهير باحلكم الذي صدر بحق آل كاالس من قِ‏ بَل<br />

قضاة تولوز،‏ وإيقاظ الشعور بالعدالة في فرنسا،‏<br />

وإعطاء دفع معنوي لقضاة باريس بفِ‏ كْره وحتليله<br />

العميق لكل جوانب القضية،‏ بغية حتقيق العدالة<br />

وإنصاف هذه األسرة املنكوبة،‏ والتأكيد على أن جان<br />

كاالس ذهب ضحية التعصب الديني،‏ وأن جرمية قتله<br />

قد اقترفت بسيف العدالة في مدينة تولوز،‏ وأنه لم<br />

يكن بني يدي املتهم للدفاع عن نفسه سوى فضيلته.‏<br />

بعد أن عرض فولتير قضية آل كالس تناول،‏ بالنقد<br />

والتحليل،‏ بعض جوانب موضوع التسامح،‏ التاريخية<br />

منها والفلسفية والدينية واإلنسانية،‏ ومنها:‏<br />

- 1 يقول فولتير:‏ لقد أعلن البروتستانت سابقاً‏<br />

العصيان املسلح في بعض املدن الفرنسية،‏ وذلك<br />

عندما عاملهم الكاثوليك معاملة سيئة.‏ والسؤال:‏ هل<br />

سيعلنون العصيان ثانية عندما يعاملهم هؤالء معاملة<br />

حسنة؟ يجيب فولتير بالنفي،‏ ألن ما حدث في ظرف<br />

معيني ليس بالضرورة أن يحدث في ظرف مغاير،‏<br />

والسيما أن أبناء اجليل احلالي ليسوا على همجية<br />

آبائهم،‏ فعامل الزمن وتطور العقل وانتشار الثقافة<br />

العدد - 692 يوليو 2016<br />

96


الكويت عاصمة الثقافة اإلسالمية 2016<br />

97<br />

فولتير و»رسالته في التسامح«‏


واعتدال طبائع املجتمع،‏ كل هذا فعل فعله،‏ فقد<br />

تغيرت األزمان وتغيرت معها أساليب املعاجلة.‏ لذلك<br />

من غير املعقول أن ندمر اليوم جامعة السوربون بحجة<br />

أنها تقدمت في القرن اخلامس عشر بعريضة طالبت<br />

فيها بحرق جان دارك.‏<br />

- 2 يتحدث فولتير عن التسامح الديني في بعض<br />

بلدان الشرق األقصى،‏ ويقول،‏ مثالً،‏ إذا كان إمبراطور<br />

الصني يونغ ‏)ت:‏ 1735( قد طرد الرهبان اليسوعيني<br />

من بالده،‏ فإن ذلك لم يكن نتيجة االضطهاد الديني،‏<br />

وإمنا ألن هؤالء أثاروا الشغب في البالد بسبب<br />

مشاحناتهم مع الرهبان الدومنيكان.‏ وكذلك احلال في<br />

اليابان،‏ التي كان أهلها أكثر الناس تسامحاً،‏ وتعايشت<br />

فيها اثنتا عشرة ديانة بأمان وسالم،‏ ولكن عندما جاء<br />

اليسوعيون رفضوا بقية األديان،‏ وتسببوا في نشوب<br />

حرب أهلية،‏ وبالتالي زالت املسيحية من اليابان،‏<br />

وأغلق اليابانيون إمبراطوريتهم في وجه بقية العالم.‏<br />

وهذا دليل على النتائج اخلطيرة للتعصب الديني.‏<br />

- 3 يقول فولتير:‏ لو لم تُوفّْر معاهدة وستفاليا<br />

‏)التي عُقدت بني الدول األوربية في عام 1648 بعد<br />

حروب دينية استمرت عشرات السنوات(‏ حريةَ‏<br />

املُعْتقد،‏ لكانت أملانيا اليوم صحراء تغطيها بقايا<br />

عظام البروتستانت والكاثوليك،‏ الذين ذبح بعضهم<br />

بعضاً.‏ ويؤكد فولتير أن خير وسيلة للتخفيف<br />

من هوس املتعصبني دينياً‏ اعتماد العقل الرشيد<br />

الذي يحث على خنق الفتنة في املهد والتمسك<br />

بالفضيلة.‏<br />

- 4 يرى فولتير أن التعصب الديني يخالف<br />

الطبيعة البشرية،‏ فاملبدأ األساس لكل القوانني<br />

واحد في كل أرجاء املعمورة،‏ وهو ‏»عامل اآلخرين<br />

بالطريقة التي ترغب أن يعاملك اآلخرون بها«.‏<br />

وانطالقاً‏ من هذا القانون،‏ كما يقول فولتير،‏ ال<br />

يحق إلنسان أن يقول إلنسان آخر:‏ ‏»تخلَّ‏ عن دينك<br />

واعتنق ما أؤمن به وإال مصيرك القتل أو املوت«.‏<br />

- 5 يشير فولتير إلى التسامح الديني في<br />

العصور القدمية،‏ ويقول إن الشعوب كانت حتترم<br />

آلهة بعضها حتى ولو كانت في حالة حرب،‏<br />

فالطرواديون كانوا يُصَ‏ لون آللهة أعدائهم اإلغريقي<br />

في أثناء قتالهم.‏ وعندما غزا اإلسكندر املقدوني<br />

مصر ذهب إلى الصحراء الليبية الستشارة اإلله<br />

املصري آمون.‏ ويَخْ‏ لص فولتير إلى القول:‏ إن الدين<br />

كان في أوج احلرب يجمع بني البشر.‏<br />

- 6 يتحدث فولتير عن التسامح الديني في<br />

العصر الروماني،‏ حيث ينفي تعرض املسيحيني<br />

لالضطهادات الدينية،‏ ألن احلرية الدينية كانت<br />

مباحة في اإلمبراطورية.‏ ويؤكد أن ما عانى منه<br />

املسيحيون من قتل وتعذيب لم يكن ألسباب دينية،‏<br />

بل ألمور تتعلق بأمن الدولة الرومانية،‏ فبعض<br />

املسيحيني احتقروا آلهة الرومان وقوَ‏ ‏ّضوا معابدَهم<br />

ومزقوا مراسيم األباطرة.‏ ويضيف فولتير:‏ لو<br />

ّ صحَ‏ أن الرومان اضطهدوا املسيحيني ملمِ‏ ‏َا وجدنا<br />

أساقفة الرومان األوائل ينعمون باألمن والسالمة،‏<br />

وملَا سمح الرومان بعقد املجالس الكنسية،‏ وملمِ‏ ‏َا<br />

متكن املسيحيون من التبشير بدينهم في أرجاء<br />

اإلمبراطورية.‏ ويقول:‏ لو فرضنا أن األباطرة<br />

اضطهدوا املسيحيني بسبب دينهم،‏ فالرومان في<br />

هذه احلالة مدانون،‏ فهل نريد اقتراف مثل هذا<br />

الظلم بدورنا؟<br />

- 7 يؤكد فولتير أن السيد املسيح لم يضع<br />

قوانني دموية،‏ ولم يأمر بالتعصب أو ببناء سجون<br />

محاكم التفتيش،‏ ولم يُنصّ‏ ب جالدي احملارق،‏ بل<br />

توسل إلى الله كي يغفر ألعدائه.‏<br />

- 8 يختتم فولتير رسالته بدعوة املسيحيني في<br />

عصره إلى أن يكونوا متسامحني مع بعضهم ومع<br />

كل أصحاب األديان والعقائد،‏ ويقول:‏ إنها جسارة<br />

المتناهية أن نحكم باللعنة األبدية على كل من ال<br />

يفكر على منوالنا.‏<br />

لقد أحدث كتاب فولتير ‏»رسالة في التسامح«‏<br />

تأثيراً‏ عميقاً‏ في املجتمع الفرنسي.‏ وأسهم في<br />

تغيير كثير من مالمح احلياة في أوربا عامة،‏ من<br />

خالل دعوته إلى التسامح واحلرية وحتكيم العقل<br />

ونبذ اخلرافات واألساطير،‏ وبنيَّ‏ أن التعصب<br />

يتنافى مع الطبيعة اإلنسانية وجوهر األديان.‏<br />

ولعبت أفكارُه وأفعالُه دوراً‏ مهماً‏ في التمهيد للثورة<br />

الفرنسية وصوغ أهدافها في احلرية واملساواة<br />

واإلخاء.‏ وميثل قوله املشهور ‏»إني أخالفك الرأي<br />

ولكني أدافع عن حقك في الكالم وحرية التعبير<br />

عن أفكارك حتى املوت«،‏ دعوة دائمة للتسامح<br />

واحلرية ><br />

العدد - 692 يوليو 2016<br />

98


شخصيات<br />

الكويت عاصمة الثقافة اإلسالمية 2016<br />

أحمد شفيق الخطيب:‏<br />

البيت العربي أشدُّ‏ فقراً‏ في المعاجم<br />

محمد عويس<br />

كاتب من مصر<br />

أحمد شفيق اخلطيب<br />

بدأ أحمد شفيق الخطيب )2015-1929( حياته<br />

العملية مُ‏ درساً‏ للعلوم وطالباً‏ جامعياً‏ في الوقت<br />

نفسه - وبذلك تمكن من إتمام دراسته الجامعية<br />

وحصل على بكالوريوس في العلوم،‏ ثم ماجستير<br />

في اآلداب.‏ وفي عام 1964 بدأ العمل مستشاراً‏ علمياً‏<br />

في دار النشر التابعة لمكتبة لبنان ومحرراً‏ للسالسل<br />

التي نشرتها لتغطية البرامج المُ‏ قررة المُ‏ جددة في<br />

العلوم والرياضيات.‏<br />

ومع نشأة قسم املعاجم في املكتبة حتول إلى<br />

العمل املُعجمي حتريراً‏ وتأليفاً,‏ وكان رحمه الله يرى<br />

أن قضية املُعجم العربي ماضياً‏ وحاضراً‏ ومُستقبالً‏<br />

ليست مُنفصلة عن قضية اللغة العربية نفسها،‏ بل<br />

عن قضية اإلنسان العربي والشعب العربي ككل،‏<br />

وأن مُثقفينا مع األسف ال يُقارنون إيجابياً‏ حتى مع<br />

أشباه املثقفني في الغرب من حيث الوعي املُعجمي،‏<br />

فالكثير من أوالدنا وطُ‏ البنا قد يُنهُون حتى تعليمهم<br />

اجلامعي دون أن يعُوا دور املعجم العربي أو يتعودوا<br />

استعماله روتينياً.‏ ومما يؤمله ‏»أنه على فقر البيت<br />

العربي في املكتبات,‏ فإنه أشدُّ‏ فقراً‏ في املعاجم«.‏<br />

ولد اخلطيب في قرية القبية ‏)على مقربة<br />

من نهر روبيني على بُعد حوالي 15 كم جنوبي يافا<br />

- فلسطني(‏ عام 1929, وأمت تعليمه االبتدائي<br />

والثانوي في مدارس حكومة االنتداب ثم في<br />

كلية الفرندز في رام الله,‏ ومنها التحق باجلامعة<br />

األمريكية.‏ وفاجأته النكبة عام ‎1948‎م وكان قد<br />

أمت السنوات اجلامعية الثالث املؤهلة لدخول كلية<br />

الطب،‏ فاضطر إلى االنقطاع عن الدراسة.‏ وجعلته<br />

معاجم اخلطيب العلمية واللغوية معروفاً‏ في حقل<br />

املُعجمية في شتى أرجاء الوطن العربي من املُ‏ يط<br />

إلى اخلليج وجتاوزتها إلى ما وراء البحار ومن هذه<br />

السلسلة:‏<br />

< مُعجم املصطلحات العلمية والفنية والهندسية,‏<br />

إجنليزي - عربي,‏ صدر عام 1970, وأُعيد طبعه<br />

عشر مرات قبل أن يُجدد ويُوسع ويصدر في<br />

نسختني:‏ إجنليزي - عربي,‏ ثم عربي - إجنليزي,‏<br />

ومنذ طبعاته األولى اختار احتاد املهندسني العرب<br />

هذا املُعجم أساساً‏ لتعريب التعليم الهندسي في<br />

الوطن العربي.‏<br />

< مُعجم مصطلحات البترول والصناعة<br />

النفطية,‏ إجنليزي - عربي.‏<br />

< مُعجم الشهابي في مصطلحات العلوم<br />

الزراعية,‏ إجنليزي - عربي.‏<br />

99


اثنا عشر مُعجماً‏ ‏)إجنليزي - إجنليزي -<br />

عربي(‏ في علوم الكيمياء واجليولوجيا والفيزيقا<br />

والنبات واحليوان واألحياء والفلك والفضائيات وعلم<br />

الكمبيوتر وعلم التغذية واجلغرافيا والرياضيات -<br />

بالتعاون مع شركة لونغمان,‏ لندن ‎1994-1978‎م،‏ ثم<br />

قاموس العلوم املصور/إجنليزي-عربي يشمل املادة<br />

العلمية في االثني عشر مُعجماً‏ ‎2001‎م.‏<br />

< قاموس املُتعلم للجيب ‏-إجنليزي-إجنليزي-‏<br />

عربي,‏ يشمل ثالثة آالف كلمة هي األكثر شيوعاً‏ في<br />

اللغة اإلجنليزية.‏<br />

تثقيف الناشئة علمياً‏<br />

وفي زحمة العمل واملسؤوليات املُعجمية،‏<br />

مارس اخلطيب الترجمة كهواية في مجاالت علمية<br />

تستهدف التثقيف العلمي للناشئة.‏ وفي هذا املجال<br />

قدم ما يزيد على ثمانين كُتيباً‏ في مجاالت العلوم<br />

مُختارة من سلسلة ‏»ليدبيرد«‏ العاملية,‏ وسلسلة<br />

‏»الفراشة«‏ املُتعددة املصادر.‏ كما أجنز ما يزيد على<br />

اثني عشر عمالً‏ علمياً‏ موسوعي الطابع,‏ تخدم<br />

الثقافة العلمية للعائلة العربية.‏<br />

وبتكليف من مؤسسات رسمية قام اخلطيب<br />

بترجمة مرجع اليونسكو في تعليم العلوم ‎1976‎م,‏<br />

ثم مرجع اليونسكو اجلديد في تعليم العلوم<br />

‎1977‎م,‏ ثم التربية العلمية والتكنولوجية في التنمية<br />

الوطنية‎1984‎م.‏ وبتكليف من منظمة األوابك<br />

‏)منظمة األقطار العربية املُصدرة للبترول(‏ نقل إلى<br />

العربية:‏ مسرد مصطلحات الطاقة املُتعدد اللغات<br />

‎1988‎م.‏ ثم مُعجم الطاقة - إجنليزي - فرنسي -<br />

عربي 1994.<br />

وبحكم عمله وعالقاته مع املؤسسات املصطلحية<br />

في املنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم ومكتب<br />

تنسيق التعريب وسواها،‏ شارك في عدد من<br />

الندوات واملؤمترات الدولية في املجاالت املعجمية<br />

واملصطلحات في تونس,‏ القاهرة,‏ دمشق,‏ عمان,‏<br />

طرابلس,‏ املنامة,‏ الشارقة,‏ باريس,‏ بيروت...‏ الخ.‏<br />

مجمع اللغة<br />

ومُنح اخلطيب العضوية الشرفية ملجمع اللغة<br />

العربية األردني عام 1981, واختاره مجمع اللغة<br />

العربية بالقاهرة عضواً‏ مراسلالً‏ من فلسطن عام<br />

1988, ثم عُن عضواً‏ عامالً‏ عام ‎2000‎م,‏ كما عُن<br />

عضواً‏ عامالً‏ في مجمع اللغة العربية الفلسطينى<br />

عام 1995, واختير عضواً‏ مُراسلالً‏ في مجمع اللغة<br />

العربية بدمشق عام‎2000‎م.‏<br />

وللخطيب عدد من البحوث املعجمية الرائدة<br />

منشورة في مجلة مجمع اللغة العربية بالقاهرة,‏<br />

منها:‏ ‏»ألفاظ احلضارة بن العامي والفصيح,‏<br />

تعريب العلوم:‏ القضية,‏ التعريب حديث قدمي<br />

مُتجدد,‏ من قضايا اللغة العربية:‏ العربية ومشاكلها<br />

في مجال املصطلحات العلمية,‏ القواميس فن وعلم,‏<br />

املُصطلحية واملُصطلحات:‏ قراءة في مشروع مُعجم<br />

مصطلحات علم املياه,‏ من مشروعات مكتب تنسيق<br />

التعريب - املغرب«.‏<br />

ووفق زوجته،‏ فقد كانت تستحوذ عليه القواميس،‏<br />

ليس كمادة عمل فقط بل كهواية أيضاً‏ - كمادة قراءة<br />

فيها ومنها وعنها,‏ للفائدة أحياناً‏ وللتسلية أحياناً.‏<br />

وكان يرى أنه من بسائط التقانة املُعجمية أن يلتزم<br />

القاموس شكالً‏ واحداً‏ للفظ الذي يُعاجله كمدخل<br />

أو كلفظة في مادة الشرح,‏ باعتبار أن القاموس هو<br />

مرجع في املبنى,‏ كما في املعنى.‏ وهذا ال جندُه<br />

مُطبقاً‏ دائماً‏ في معاجمنا.‏<br />

ومما كان يتمنى اخلطيب رؤيته في معاجمنا<br />

اللغوية:‏ إيراد معلومات عن اللفظة أكثر من مُرادفها<br />

ونقيضها وتفسيرها - كأن يُشار ليس فقط إلى<br />

طبيعة الكلمة نفسها,‏ إن كانت من املعرب أو املولد<br />

أو الدخيل,‏ بل أيضاً‏ إلى مستواها من حيث أنه<br />

استعمال تأدبي أو رسمي أو فصيح أو عامي أو<br />

حُ‏ وشي أو مهجور,‏ وفي حال الفعل أن يُشار إلى<br />

لزومه أو تعديه,‏ وإلى حروف اجلر التي تلحقُ‏ به,‏<br />

وفي كثير من احلاالت تُغيرُ‏ معناه مثل رغب,‏ ورغب<br />

إلى,‏ ورغب عن,‏ ورغب ب,‏ ورغب في.‏ أيضاً‏ ينبغي<br />

أن يشمل التطور التوسيعي ما جد أو يجدّ‏ من<br />

األلفاظ العلمية واملصطلحات الواسعة االنتشار,‏<br />

إذ كان اخلطيب حريصاً‏ في جلسات مؤمتر املجمع<br />

اللغوي في القاهرة التي تُعالج ما يُعرض من مواد<br />

املُعجم الكبير على اقتراح إدراج ما هو مُهم من املواد<br />

العلمية املعجمية املُجمعة لدى املجمع التي أقرها<br />

وغير الواردة في مواقعها من املعجم,‏ وكان دائماً‏<br />

العدد - 692 يوليو 2016<br />

100


الكويت عاصمة الثقافة اإلسالمية 2016<br />

101<br />

أحمد شفيق اخلطيب:‏ البيت العربي أشدُّ‏ فقراً‏ في املعاجم


ما يجد جتاوُباً‏ حسناً‏ من جلنة<br />

املُعجم فقد كان على قناعة بأن<br />

هذا التطور أو التطوير ضروري<br />

لبقاء اللغة العربية لُغة اتصال<br />

فعالة - نحققه بخلق مفهوم<br />

اللفظ من مفهوم لفظ يُقاربه<br />

بالتعريب ترجمةً.‏ كما كان<br />

اخلطيب يتطلع إلى مُعجم عربي<br />

مبستوى لغوي وفني ومعلوماتي<br />

بتقانات معجمية حديثة<br />

يُضاهي معاجم OXFORD أو<br />

Larousse مثالً,‏ معجم يوجد<br />

في كل بيت,‏ ويُتهادى في كل<br />

مناسبة.‏<br />

شرح ‏»معجم«‏<br />

ويشرح اخلطيب كلمة ‏»مُعجم«،‏ الفتاً‏ إلى<br />

أنها سبقت لفظة ‏»قاموس«‏ للداللة على معناها<br />

املتعارف مبعنى كتاب يحوي مفردات اللغة أو<br />

مختارات منها،‏ مرتبة وفق نظام معني،‏ يشرح<br />

معانيها ويبني دالالتها.‏ واللفظة ‏»معجم«‏ هي أصالً‏<br />

من اجلذر عجم:‏ يُقال:‏ عجم احلرف أو الكتاب أي<br />

أزال إبهامه بالنقط والشكل.‏ وأعجم الشيء:‏ أزال<br />

غموضه وأوضح مدلوله.‏<br />

ومن هذه الداللة جاءت تسمية احلروف<br />

الهجائية ب ‏»حروف املعجم«،‏ نظراً‏ لكون النقط<br />

في كثير منها يزيل التباسها.‏ ومنها أيضاً‏ جاءت<br />

تسمية الكتاب الذي يزيل التباس معاني الكلمات<br />

وغموضها ب ‏»املعجم«.‏ وكلمة ‏»قاموس«‏ تعني لغوياً‏<br />

البحر.‏ وإمنا اكتسبت معناها املتعارف أواخر القرن<br />

التاسع عشر مع بدايات عصر النهضة احلديثة,‏<br />

وقصتها تبدأ مع القاموس احمليط ملجد الدين<br />

أبوطاهر محمد بن يعقوب الفيروز آبادي )1329<br />

– ‎1415‎م(،‏ وهو معجم لغوي يعد أشمل املعاجم<br />

املتوسطة احلجم،‏ احتذى فيه الفيروز آبادي نهج<br />

الصحاح،‏ أي بالترتيب األبجدي على أواخر أصول<br />

الكلمات – وهو في رأيي ورأي الكثيرين الترتيب<br />

األمثل الذي تقتضيه طبيعة اللغة العربية بسعتها<br />

االشتقاقية التي ال جتارى.‏ وقد حظي ‏»القاموس<br />

احمليط«‏ باهتمام العلماء<br />

والدارسيني شرحاً‏ ودرساً‏<br />

واختصاراً‏ ونقداً‏ وتعليقات<br />

مبا لم يحظ به أي موقف<br />

آخر.‏<br />

وفي بدايات عصر<br />

النهضة صدر القاموس<br />

احمليط مطبوعاً‏ في الهند ثم<br />

في مصر عام ‎1872‎م،‏ وكانت<br />

نسخ هذا املعجم تعد باآلالف<br />

قبل صدوره مطبوعاً.‏ ونقده<br />

مطوالً‏ أحمد فارس الشدياق<br />

)1804– ‎1888‎م(‏ في ‏»اجلاسوس<br />

على القاموس«‏ وأحمد تيمور<br />

باشا )1871 – 1930( في ‏»تصحيح القاموس«‏<br />

– فلال غرابة أن القى القاموس احمليط املطبوع<br />

انتشاراً‏ واسعاً‏ بني جماهير املتعلمني كأهم مرجع<br />

ملعرفة مفردات اللغة.‏<br />

واختصر االسم من القاموس احمليط إلى<br />

كلمة ‏»القاموس«‏ فقط،‏ وأخذت اللفظة تشيع<br />

على ألسنة الناس مبعناها املتعارف اليوم،‏ حتى<br />

طغت أو كادت على لفظة معجم.‏ وعندنا ألف<br />

سعيد الشرتوني ‏»أقرب املوارد«‏ عام 1890<br />

أثبت فيه املعنى املولد – فقال:‏ القاموس:‏<br />

البحر،‏ والقاموس:‏ كتاب الفيروز آبادى في<br />

اللغة العربية لقبه بالقاموس احمليط،‏ ويطلقه<br />

أهل زماننا على كتاب في اللغة،‏ فهو يرادف<br />

عندهم كلمة معجم.‏ وبلغ من شيوع اللفظة أنك<br />

لو تطلب املدخل ‏»معجم«‏ في املوسوعة العربية<br />

امليسرة،‏ الصادرة عام 1959، فلن جتد مقابل<br />

اللفظة إال اإلحالة – انظر:‏ قاموس!‏ وقد أقر<br />

مجمع اللغة العربية هذا املفهوم في املعجم<br />

الوسيط في طبعاته الثالث منذ 1962، حيث<br />

يقول:‏ القاموس البحر العظيم،‏ والقاموس علم<br />

على معجم الفيروز آبادي وكل معجم لغوي<br />

على التوسع.‏ والالفت أن علماء العربية الذين<br />

دونوا مفردات اللغة وشرحوها في مؤلفاتهم لم<br />

يستخدموا لها لفظة ‏»معجم«،‏ بل حرصوا على<br />

تسميتها بأسماء مختلفة ><br />

العدد - 692 يوليو 2016<br />

102


ملف<br />

الكويت عاصمة الثقافة اإلسالمية 2016<br />

أسهمت في ترجمة ونشر األدب العربي في أرجاء أوربا<br />

ناشرة بقدرات مؤسسة كاملة<br />

رمبا يكون اهتمام الغرب اليوم<br />

باألدب العربي أكثر قليلاً‏ مما كان<br />

عليه األمر سابقاً‏ ألسباب عديدة<br />

تتعلق باملشكات التي متر بها املنطقة،‏<br />

وأزمات الاجئني الذين توافدوا على<br />

أوربا أخيراً،‏ ولكن الافت أن أي درجة<br />

لتسويق األدب العربي في الغرب لم<br />

تتم عبر مؤسسات عربية،‏ كما هو<br />

املفترض،‏ بل عبر مبادرات فردية،‏<br />

ملترجميني أوربييني،‏ أو حتى بعض<br />

مؤسسات الثقافة الغربية املهتمة<br />

بالتبادل واحلوار الثقافيني،‏ بل إن<br />

هناك أفراداً‏ يلعبون دوراً‏ مياثل في<br />

قوته وتأثيره دور املؤسسات،‏ ومع<br />

األسف ال نلتفت لهم في ثقافتنا<br />

العربية أو إعامنا العربي كثيراً.‏<br />

واليوم نقدم على صفحات<br />

‏»العربي«‏ ملفاً‏ عن واحدة من هؤالء<br />

املخلصني،‏ الذين بذلوا جهداً‏ كبيراً‏<br />

ورائداً‏ في ترجمة األدب العربي<br />

في الغرب،‏ وتسويقه ومحاولة<br />

التعريف به على مدى أكثر من<br />

عقدين.‏<br />

مارجريت أوبانك،‏ الناشرة<br />

البريطانية،‏ التي أسست مجلة<br />

‏»بانيبال«‏ في لندن خال فبراير<br />

1998، قدمت على مدى العقدين السابقني قصصاً‏ وأعماالً‏ سردية لكبار الروائيني العرب،‏ وكذلك<br />

في الشعر احلديث واملعاصر،‏ للكتَّاب العرب من جميع األجيال،‏ وعلى اتساع خريطة األدب العربي،‏ من<br />

مصر واملغرب وسورية والسودان ولبنان ومنطقة اخلليج،‏ بل إنها خصصت عدداً‏ خاصاً‏ من املجلة للتعريف<br />

فقط بأدباء الكويت،‏ واملشهد الثقافي فيها.‏ مع العلم بأن هذه املجلة شقت طريقها با دعم تقريباً‏ من أي<br />

جهة،‏ تأكيداً‏ الستقالية املشروع،‏ كما أن هذا اجلهد الهائل لم يقم به سوى فردين فقط،‏ هما مارجريت<br />

أوبانك بالتعاون مع الكاتب العراقي صموئيل شمعون،‏ الذي يساعدها في جميع تفاصيل التخطيط<br />

وجتهيز أعداد هذه املجلة واختيار املترجمني وحتى صدور العدد.‏<br />

‏»العربي«‏<br />

103


ملف<br />

مارجريت أوبانك:‏ األدب العربي<br />

جزء جوهري من الحضارة اإلنسانية<br />

حوار:‏ إبراهيم فرغلي<br />

نقدم في هذا الملف حواراً‏ شامالً‏ مع أوبانك حول تجربتها،‏ ورأيها في أدب<br />

العالم العربي،‏ ومدى انتشار األدب العربي اليوم في الغرب،‏ مقارنة بما<br />

كان عليه األمر في السابق،‏ إضافة إلى شهادات من بعض الكتَّاب العرب<br />

حول الدور الذي لعبته والتزال أوبانك و»بانيبال«‏ في دعم األدب العربي في<br />

الغرب وللقارئ الغربي.‏ وفي هذا الحوار نتعرّف على األسباب التي دعت<br />

سيدة بريطانية مشغولة باألدب اإلنجليزي والفلسفة إلى األدب العربي<br />

ليس قراءة فقط،‏ بل وشغفاً‏ جعلها راغبة في نشره إلوسع مجال ممكن.‏<br />

< كيف بدأت عالقتك باألدب العربي،‏ وما<br />

الظروف التي جعلتك تتحمسين لدعم هذا األدب<br />

في الغرب بشكل عام؟<br />

- كنت محاطة منذ طفولتي برفوف من الكتب،‏<br />

فأنا ابنة رجل صحفي كان يعمل مديراً‏ لتحرير<br />

صحيفة ‏»األوبزفر«‏ اللندنية،‏ حيث كانت الكتب<br />

السياسية والفكرية واألدبية متوافرة في كل أرجاء<br />

املنزل.‏ كان هناك كثير من كتب الشعر،‏ أيضاً.‏ وفي<br />

ما بعد حني درست األدب اإلجنليزي والفلسفة في<br />

جامعة ليدز،‏ كان لدي عديد من األصدقاء العرب،‏<br />

وخصوصاً‏ من العراقيني والفلسطينيني.‏ ومن املؤكد<br />

أنني تأثرت بهؤالء األصدقاء وأحببت أن أعرف<br />

املزيد عن العالم العربي،‏ وبخاصة أنني كنت متعاطفة<br />

دائماً‏ مع القضية الفلسطينية،‏ وهو أمر لم يدفعني<br />

فحسب إلى قراءة الروايات العربية املترجمة إلى<br />

اإلجنليزية،‏ وإمنا أيضاً‏ إلى تلقي دروس في تعلم<br />

اللغة العربية.‏ أتذكر أنني قرأت حينذاك أعماالً‏<br />

مترجمة لنجيب محفوظ،‏ إيتيل عدنان،‏ إدوارد<br />

سعيد،‏ نوال السعداوي،‏ وبعض الترجمات األخرى،‏<br />

تفصيلة من لوحة للفنان العراقي فيصل لعيبي.‏<br />

التي كانت قليلة جداً.‏ وهنا أستغل هذه الفرصة<br />

ألشكر املترجم الكبير دينيس جونسون ديفيز،‏ الذي<br />

يعتبر رائد الترجمة من العربية إلى اإلجنليزية.‏<br />

العدد - 692 يوليو 2016<br />

104


الكويت عاصمة الثقافة اإلسالمية 2016<br />

الكاتبة البريطانية احلائزة على جائزة نوبل لأدب دوريس ليسينغ ومارجريت أوبانك<br />

< كيف نشأت فكرة ‏»بانيبال«،‏ وما الدور الذي<br />

تقومني به فيها،‏ وكيف تطورت الفكرة تدريجياً؟<br />

- في عام 1996 تعرفت إلى الكاتب العراقي<br />

صموئيل شمعون،‏ الذي كان يعمل في جريدة<br />

عربية أسبوعية تصدر في لندن،‏ كنا نتحدث عن<br />

األدب باستمرار،‏ وخصوصاً‏ عن أسباب عدم توافر<br />

ترجمات للروايات العربية،‏ هذه األحاديث انتهت<br />

ذات يوم بسؤال:‏ ملاذا ال توجد مجلة مختصة في<br />

ترجمة األدب العربي؟ وهكذا قررنا أن نؤسس هذه<br />

املجلة،‏ التي أسميناها ‏»بانيبال«‏ التي صدر العدد<br />

األول منها في فبراير‎1998‎‏،‏ ومنذ ذلك احلني تصدر<br />

املجلة بانتظام،‏ ثالث مرات في العام.‏<br />

ما دوري؟ حسناً.‏ منذ البدء قسّ‏ منا العمل في ما<br />

بيننا،‏ يقوم صموئيل بقراءة واختيار املواد والتواصل<br />

مع املؤلفني،‏ وبعد إرسالها إلى الترجمة،‏ يبدأ عملي<br />

في برمجة املواد ومراجعة الترجمات وحتريرها<br />

لتكون صاحلة للنشر.‏ ومبا أننا فريق صغير،‏ وال<br />

منلك املال لتشغيل أشخاص آخرين معنا،‏ كنت<br />

أقوم بكل املهام الفنية واإلدارية،‏ مثل إخراج املجلة،‏<br />

وتوزيعها وعمل االشتراكات واملراسالت.‏<br />

< من خالل اطالعك على جتارب أدبية عربية<br />

مترجمة واختالطك بالوسط األدبي العربي،‏ ما<br />

تقييمك للأدب العربي بشكل عام،‏ وما تقديرك<br />

لوضع األدب العربي في خريطة األدب العاملي؟<br />

- أوالً‏ البد أن أقول إنني معجبة باألدب العربي،‏<br />

وإال ملا كنت أنشئ مجلة تختص بترجمة األدب العربي<br />

وترويجه عاملياً.‏ من خالل قراءاتي األولى وما أقرأه<br />

اليوم،‏ الحظت أن اجليل السابق من األدباء العرب<br />

كان يكتب عن قضايا التحرر الوطني،‏ أدب املقاومة،‏<br />

والصراع بيني الريف واملدينة والعدالة االجتماعية،‏<br />

بينما الروايات الراهنة اجلديدة متتلك مواضيع<br />

متنوعة جداً،‏ ونسيجها غني جداً.‏ هناك جرأة<br />

في طرح كثير من القضايا التي كانت محرمة في<br />

السابق،‏ فضالً‏ عن أن األدباء الذين ينتجون األدب<br />

العربي اآلن ينتمون إلى جميع الفئات العمرية.‏<br />

ال شك في أن األدب العربي جزء مهم من<br />

األدب العاملي،‏ وصار يلفت انتباه واهتمام الناشرين<br />

الغربييني الذين توصلوا إلى ضرورة سماع جميع<br />

أصوات العالم.‏ فعندما يعبر األديب عن روح<br />

الثقافة التي ينتمي إليها،‏ فإمنا يعبّر في الوقت<br />

105<br />

مارجريت أوبانك:‏ األدب العربي جزء جوهري من احلضارة اإلنسانية


جنيب محفوظ يتوسط مارجريت أوبانك والناقد روجر ألني وخلفهم املترجم راميوند ستوك<br />

ذاته عن صوت اإلنسانية بشكل عام.‏ لقد كتبت<br />

في افتتاحية العدد األول من مجلة ‏»بانيبال«‏<br />

في عام 1998، أن هذه املجلة اجلديدة التي تُعنى<br />

بترجمة األدب العربي إلى اإلجنليزية ترتكز على<br />

ثالثة أعمدة رئيسة،‏ هي:‏ أوال،‏ األدب العربي جزء<br />

جوهري من الثقافة العاملية واحلضارة اإلنسانية؛<br />

وثانياً،‏ ضرورة استمرار تعميق احلوار بني الثقافات<br />

املختلفة؛ وثالثاً،‏ املتعة والتثقيف اللذان يحصل<br />

عليهما املرء من قراءة الشعر اجلميل ومن قراءة<br />

األعمال اإلبداعية،‏ ضروريان من أجل الوجود<br />

اإلنساني.‏<br />

< عبر خبرتك في التعرف على األدب العربي<br />

املترجم،‏ وكونك بريطانية تعرف ذائقة القارئ<br />

الغربي،‏ والوسط الثقافي الغربي عموما،‏ هل<br />

تعتقدين أن ما تبذلني من جهد،‏ إضافة جلهود<br />

املؤسسات الداعمة لألدب العربي،‏ أسهم في إحداث<br />

تغيير ما في إقبال القارئ الغربي على األدب<br />

العربي؟<br />

- لقد لعبت مجلة بانيبال دوراً‏ كبيراً‏ في إحداث<br />

تغيير هائل في مجال ترجمة األدب العربي إلى<br />

اللغة اإلجنليزية،‏ وعبر اإلجنليزية إلى لغات أخرى،‏<br />

ولإلجابة عن هذا السؤال،‏ سوف أحتاج إلى مجال<br />

أوسع لتعداد ما أجنزناه.‏ ولكن لالختصار،‏ دعنا<br />

نقرأ ما كتبه األكادميي البريطاني واملترجم املعروف<br />

روجر ألني عن مجلة بانيبال:‏ ‏»أما بالنسبة للناطقني<br />

باللغة اإلجنليزية فقد كان دور مجلة بانيبال محورياً‏<br />

وأساسياً‏ في تعريف القراء الناطقني باإلجنليزية<br />

أوالً‏ بأن الكتّاب العرب يكتبون أدباً‏ ممتازاً،‏ وثانياً‏<br />

بأن األدب العربي هو عنصر فعّال ومساهم بشكل<br />

أساسي في التراث األدبي والثقافي العاملي املعاصر.‏<br />

العدد - 692 يوليو 2016<br />

106


الكويت عاصمة الثقافة اإلسالمية 2016<br />

من أغلفة مجلة بانيبال.‏<br />

ومن دون إسهامات مجلة بانيبال،‏ فإن عالم النشر<br />

كان سيواصل تقدمي أعذاره الواهية واملكررة عن<br />

عدم وجود قراء وغير ذلك من أعذار«.‏<br />

< هل تعتقدين أن حركة ترجمة األدب العربي<br />

إلى اللغات األجنبية تتناسب مع حجم هذا األدب،‏<br />

وما املعوقات التي حتد من اإلقبال على ترجمته؟<br />

- هناك تطور هائل في ترجمة األدب العربي<br />

إلى اللغات األخرى.‏ بالنسبة لإلجنليزية،‏ عندما<br />

انطلقت ‏»بانيبال«‏ في فبراير‎1998‎‏،‏ كان عدد الكتب<br />

التي تترجم إلى اإلجنليزية يتراوح بين 6 و 10<br />

كتب في عام،‏ ولكننا حن احتفلنا في عام 2008<br />

بالعيد العاشر للمجلة،‏ كانت ترجمة األدب العربي<br />

قد تغيرت بصورة ملحوظة،‏ حيث بلغ عدد األعمال<br />

املترجمة في تلك السنة من العربية إلى اإلجنليزية<br />

47 رواية،‏ وهو أعلى رقم بلغته حتى اليوم.‏<br />

نعم،‏ هناك منو مستمر في ترجمة األدب<br />

العربي.‏ لكن إذا حتدثنا عن اخليارات املترجمة،‏<br />

فإنني أقول لك إن ذلك يعتمد على الناشرين<br />

الغربين أنفسهم واعتباراتهم،‏ وهي خيارات قد ال<br />

تكون مرضية دائماً.‏<br />

شيء آخر عزيزي إبراهيم،‏ أريد أن أذكره<br />

هنا،‏ وهو أنني من خلال وجودي في معارض<br />

الكتب العاملية ولقاءاتي مع ناشرين وأدباء من<br />

مختلف البلدان،‏ سمعت كثيراً‏ من الشكاوى حول<br />

قلة الترجمات من عديد من اللغات األجنبية إلى<br />

اإلجنليزية أو األملانية وغيرهما.‏ إذا نظرنا إلى ‏»كم«‏<br />

الترجمات من األدب العربي،‏ فأعتقد أنه مناسب<br />

في الوقت احلاضر،‏ وسوف يرتفع مع تطور األدب<br />

مارجريت أوبانك مع الشاعر السوري الراحل<br />

محمد املاغوط في دمشق<br />

... ومع الناقد املصري الدكتور جابر عصفور<br />

107<br />

مارجريت أوبانك:‏ األدب العربي جزء جوهري من احلضارة اإلنسانية


الكاتب اجلزائري رشيد بوجدرة ومارجريت أوبانك<br />

العربي نفسه.‏<br />

< في ظل الصورة الشائعة اليوم عن العرب<br />

كمصدرين لإلرهاب،‏ هل تغيرت الفكرة العامة عن<br />

األدب العربي،‏ هل يؤدي ذلك إلى انحسار اإلقبال<br />

على أدب العرب أم العكس؟<br />

- لقد الحظت في اآلونة األخيرة أن ثمة اهتماماً‏<br />

من بعض الناشرين الغربيني الكبار،‏ بأدباء جيدين<br />

من العالم العربي،‏ وهذه املسألة في بداياتها اآلن.‏<br />

في النهاية،‏ أرى أن الناشرين الغربيني سيلجأون<br />

إلى األدب احلقيقي،‏ وليس فقط إلى ما يدغدغ<br />

تصوراتهم املسبقة.‏<br />

وفي ظل هذا الوضع،‏ يبقى الكتَّاب العرب الذين<br />

يكتبون بلغات أجنبية هم األكثر شهرة في العالم<br />

الغربي،‏ مثل راوي احلاج،‏ ربيع علم الدين،‏ أمني<br />

معلوف،‏ طاهر بن جلون،‏ جمال محجوب،‏ أنطون<br />

شماس،‏ هشام مطر،‏ بوعالم صنصال،‏ رفيق شامي،‏<br />

خالد مطاوع،‏ وآخرين.‏<br />

< من موقعك كمراقبة خلريطة واسعة من<br />

األدب املكتوب بلغة واحدة،‏ لكنه ينتمي الثنتني<br />

وعشرين دولة،‏ هل تشعرين أن هناك اختالفات في<br />

طبيعة النصوص السردية أو الشعرية بني البلدان<br />

التي تنتج هذه النصوص،‏ وهل تشعرين أن الرواية<br />

العراقية مثلالً‏ تختلف عن السورية أو املصرية أو<br />

السعودية؟<br />

- هذا سؤال يحتاج إلى دراسة متأنية.‏ بالنسبة<br />

إلي أستطيع أن أعرف هوية الكاتب من خالل وجبات<br />

الطعام أو أسماء األلبسة،‏ طبعاً‏ باإلضافة إلى<br />

‏»املكان«‏ في الرواية.‏ إن كانت ثمة اختالفات أخرى<br />

في النصوص األصلية،‏ فإن الترجمة ‏»تقضي«‏ على<br />

كثير منها،‏ وإذا تبقى شيء ما،‏ فإنه سيتبع أسلوب<br />

وهوية املترجم.‏ هناك ترجمات إجنليزية بريطانية،‏<br />

وترجمات إجنليزية أمريكية،‏ ومبا أن مجلتنا تصدر<br />

من لندن،‏ فإننا نضطر في أحيان كثيرة إلى تغيير<br />

كثير من املفردات والتعابير األمريكية.‏ منذ أيام<br />

قرأت قصيدة مترجمة من العربية إلى اإلجنليزية،‏<br />

فعرفت فوراً‏ أن املترجمة من أستراليا.‏<br />

العدد - 692 يوليو 2016<br />

108


الكويت عاصمة الثقافة اإلسالمية 2016<br />

مارجريت في زيارة للكاتب السوري املقيم في أوكسفورد زكريا تامر<br />

هناك شيء آخر مييز بني الروايات العربية،‏<br />

وهو احلوار.‏ كثير من املؤلفني يستخدمون العامية<br />

في رواياتهم،‏ هذه العاميات،‏ املصرية واملغربية<br />

والعراقية،‏ تتحول إلى اللغة اإلجنليزية عند<br />

الترجمة.‏<br />

< هل اجلوائز اخلاصة بالترجمة تدعم ترجمة<br />

األدب العربي،‏ وما رأيك في أثر اجلوائز العربية<br />

الدولية مثل ‏»البوكر«‏ في دعم انتشار األدب العربي<br />

بالغرب؟<br />

- نعم،‏ نعم لقد لعبت اجلوائز دوراً‏ كبيراً‏ جداً،‏<br />

وخصوصاً‏ اجلائزة العاملية للرواية العربية ‏)البوكر<br />

العربية(،‏ فهي منذ إنشائها في عام 2007، متكنت<br />

من لفت انتباه الناشرين العامليني إلى األدب العربي،‏<br />

وال أبالغ إن قلت لك إن كثيراً‏ من الناشرين صاروا<br />

ينتظرون اإلعالن عن القائمة الطويلة والقصيرة.‏<br />

فاجلائزة العاملية للرواية العربية تسهم في حتمل<br />

بعض نفقات الترجمة،‏ وهذا يشجع كثيراً‏ على نشر<br />

األدب العربي.‏<br />

مع األسف الشديد يفتقر العالم العربي إلى<br />

صندوق لدعم ترجمة األدب العربي إلى اللغات<br />

العاملية.‏<br />

< ما خططك املستقبلية،‏ وكيف ترين مستقبل<br />

‏»بانيبال«؟<br />

- خططي يا صديقي إبراهيم أن أتقاعد في<br />

أسرع وقت!‏ فمنذ 19 عاماً‏ وأنا أعمل يومياً‏ إلصدار<br />

هذه املجلة بإمكاناتنا البسيطة.‏ عملت بحماسة،‏<br />

واستطعت أن أحقق كثيراً‏ من أهداف املجلة،‏ ولكن<br />

لكي تواصل املجلة عملها بنجاح،‏ فإنها حتتاج إلى<br />

دماء شابة.‏ أشعر أن دوري قد انتهى والبد من جيل<br />

جديد يقود ‏»بانيبال«.‏ وأقول بكل صدق،‏ مع وجود<br />

عديد من املواقع اإللكترونية ووسائل التواصل<br />

االجتماعي وغيرها،‏ فإن املجلة بحاجة إلى برنامج<br />

وخطط جديدة.‏ سنعقد اجتماعاً‏ موسعاً‏ لهيئة<br />

التحرير وبعض أصدقاء املجلة وسندرس سبل<br />

تطويرها لتواصل دورها احلضاري ><br />

109<br />

مارجريت أوبانك:‏ األدب العربي جزء جوهري من احلضارة اإلنسانية


ملف<br />

حياة مكرسة من أجل األدب العربي<br />

فاضل العزاوي<br />

كاتب من العراق<br />

حين صدرت مجلة بانيبال<br />

قبل عقدين من الزمان،‏ لم<br />

يكن أحد يتوقع،‏ حتى من<br />

حلقة أقرب أصدقائها،‏ أن<br />

تستمر أكثر من بضعة أعداد<br />

في أفضل األحوال قبل أن<br />

تتوقف مثلما حدث لعديد<br />

من المجالت التي سبقتها،‏<br />

التي ظلت في حدود<br />

الهواية.‏ ولم تكن حتى<br />

مارجريت أوبانك وصموئيل<br />

شمعون،‏ وهما المؤسسان<br />

لها،‏ متأكدين من قدرتهما<br />

على قطع كل هذا الطريق<br />

الطويل الذي سلكاه حتى<br />

اآلن.‏ ف»بانيبال«‏ ليست مجلة<br />

مثل أي مجلة عادية أخرى.‏ فلو كانت مجلة عربية أو إنجليزية فقط<br />

لهان األمر،‏ إذ لن يكون حينذاك ثمة نقص في النصوص العربية<br />

التي يمكن أن يكتبها كتَّاب عرب أو في النصوص اإلنجليزية<br />

التي يضعها كتَّاب إنجليز،‏ ولن تكون ثمة مشقة في االختيار<br />

أيضاً‏ بالتأكيد.‏<br />

الكاتب العراقي فاضل العزاوي ومارجريت أوبانك اثناء<br />

املشاركة في مهرجان دارتنغتون األدبي<br />

العدد - 692 يوليو 2016<br />

110


الكويت عاصمة الثقافة اإلسالمية 2016<br />

ارتأت ‏»بانيبال«‏ سلوك طريق<br />

صعب عجزت عن سلوكه كل املؤسسات<br />

الثقافية العربية الرسمية القائمة،‏<br />

رغم األموال الطائلة املوضوعة حتت<br />

تصرفها،‏ وهو أن تكون مجلة لألدب<br />

العربي،‏ ولكن باللغة اإلجنليزية.‏ واألكثر<br />

من ذلك أن تكون مجلة معاصرة تقدم<br />

للقارئ باللغة اإلجنليزية أفضل النصوص<br />

العربية احلديثة وأرقاها،‏ ما جعلها تكون<br />

في الوقت ذاته أهم مجلة لألدب العربي<br />

احلديث أيضاً.‏ فهي ليست مجلة ناقلة<br />

للنصوص العربية إلى اللغة اإلجنليزية<br />

فحسب،‏ وإمنا مكتشفة أيضا للمواهب،‏ إذ<br />

ال يكاد عدد من أعدادها يخلو من أسماء<br />

شابة ومواهب واعدة جتد نصوصها ألول مرة طريقها إلى<br />

القارئ اإلجنليزي.‏<br />

هناك في احلقيقة مرحلتان في نقل األدب العربي<br />

احلديث إلى العالم،‏ وأنا أعني ذلك متاماً:‏ مرحلة ما<br />

قبل ‏»بانيبال«‏ ومرحلة ما بعدها.‏ فقبل ‏»بانيبال«‏ لم تكن<br />

هناك سوى ترجمات محدودة لعدد قليل من الكتاب الذين<br />

يعرفهم املهتمون باألدب العربي.‏ ولم يكن هؤالء يعكسون<br />

في احلقيقة سوى حلظة معينة من تطور األدب العربي<br />

احلديث وليس املشهد كله،‏ ولم يكن القارئ الغربي يعرف<br />

شيئاً‏ حتى عن أسماء كبيرة في األدب العربي،‏ فضالً‏ عن<br />

نصوص الشبان اإلبداعية ومحاوالتهم التجديدية.‏<br />

مع ‏»بانيبال«‏ انهار هذا احلاجز متاما.‏ ففي مقابل<br />

األسماء القليلة السابقة قدمت ‏»بانيبال«‏ العشرات،‏ بل<br />

املئات من األسماء اجلديدة طوال أعوامها العشرين<br />

املاضية،‏ بل إنها صارت تتصيد أي نص استثنائي،‏ وأحياناً‏<br />

حتى قبل نشره بالعربية.‏ وفي الوقت ذاته لم تتوقف عن<br />

نشر ملفات وافية عن كتَّاب بارزين أو تخصيص محاور<br />

آلداب كل البلدان العربية تقريباً.‏<br />

هذا العمل الكبير الرائد ما كان ميكن له أن يتم<br />

من دون حماسة وتضحية وجهد مارجريت أوبانك،‏ التي<br />

كرست كل وقتها له،‏ معتبرة إياه مشروع حياتها،‏ فهي لم<br />

تتردد منذ البداية في املغامرة حتى مبدخراتها القليلة<br />

في اإلنفاق على املجلة التي لم حتظ ‏)وهذا ليس غريباً‏<br />

في أزمنة اجلهل العربي!(‏ بأي دعم من أي جهة ثقافية<br />

عربية رسمية.‏ لم يكن األمر يتعلق بالطباعة والتوزيع<br />

ونفقات البريد،‏ بل أيضاً‏ وقبل كل شيء بالترجمة إلى<br />

اللغة اإلجنليزية من قبل مترجمني محترفني ومعروفني،‏<br />

يعتبرون ما يقومون به عملالً‏ مثل أي عمل آخر،‏ وهو<br />

حقهم بالطبع.‏ وبالتأكيد ال ينتهي األمر مع الترجمة،‏<br />

فهناك التحرير الذي ال يتطلب مراجعة<br />

الترجمة وتدقيقها فحسب،‏ وإمنا أيضاً‏<br />

حترير النص أسلوبياً‏ ولغوياً.‏ وهنا أيضاً‏<br />

تتجلى براعة أوبانك كمحررة نصوص<br />

من الدرجة األولى،‏ بلغتها اإلجنليزية<br />

العالية وأسلوبها األدبي الرفيع.‏ فلكي<br />

تفهم النصوص العربية جيداً‏ تعلمت<br />

اللغة العربية أيضاً،‏ فضالً‏ عن معرفتها<br />

باللغة األملانية.‏ وألنه كان لي شرف<br />

اإلسهام في التحرير منذ أعداد املجلة<br />

األولى،‏ فقد كانت متعة كبيرة بالنسبة<br />

إلي دائماً‏ مراجعة عشرات ورمبا مئات<br />

النصوص معها.‏ فرغم أن القارئ كان<br />

يجد النص أمامه جاهزاً،‏ فإننا كنا<br />

نتحاور أحيانا أياماً‏ عدة حول املعادل اإلجنليزي لعبارة<br />

ما باللغة العربية مثالً.‏ كان حتى بعض أفضل املترجمني<br />

يرتكب أحياناً‏ أخطاء فاحشة في فهم املعنى،‏ وبخاصة<br />

في الشعر.‏ ولكن ذلك ما كان ليفوت على عيني أوبانك<br />

املدربتيني وعدم ترددها في استشارة العاملني معها<br />

ومناقشتها معهم.‏<br />

من أوبانك يتعلم املرء معنى التكريس،‏ فهي غالباً‏ ما<br />

تعمل ساعات طويلة بال انقطاع،‏ بل وتظل أحياناً‏ ساهرة<br />

أمام ‏»كمبيوترها«‏ حتى ساعة متأخرة من الليل.‏ وأتذكر<br />

أنني كتبت ذات مرة نصاً‏ باللغة األملانية عن مهرجان<br />

برليني األدبي،‏ فأرادت ‏»بانيبال«‏ نشره أيضاً،‏ ولكن ذلك<br />

كان يتطلب بعض الوقت مني حتى أجنز ترجمته إلى<br />

اإلجنليزية،‏ فقامت مارجريت نفسها بترجمته بسرعة<br />

حتى ال يتأخر إرسال املجلة إلى املطبعة.‏ وما أكثر ما<br />

قامت به دائماً‏ مبثل هذه األعمال!‏<br />

وفي حني أن العالقات بني الكتَّاب العرب لم تكن تخلو<br />

كالعادة من املشاحنات والنميمة والتحاسد أحياناً،‏ كانت<br />

أوبانك املالك الذي ينشر أجنحته على اجلميع،‏ متعاملة<br />

مبهنية عالية وأخالق رفيعة،‏ مترفعة عن الصغائر ومتفهمة<br />

لألوضاع النفسية الصعبة التي يعانيها أصدقاؤها العرب.‏<br />

فما كان يعنيها قبل كل شيء هو محاولة تقدميهم بأفضل<br />

ما تقدر عليه إلى العالم،‏ مع نكران للذات قل نظيره،‏ إذ لم<br />

أسمعها وال مرة واحدة متتدح نفسها أو عملها أو تهتم لذلك،‏<br />

وكأن كل ما تقوم به ال يتعلق بها بقدر ما يتعلق باآلخر.‏<br />

أعرف أن اخلراب العربي الراهن ليس سياسياً‏<br />

فحسب،‏ وإمنا ثقافي أيضا،‏ ولكنني لن أكف عن األمل في<br />

أن ندرك في يوم ما في املستقبل،‏ حينما نستعيد أرواحنا<br />

التائهة،‏ القيمة الثقافية احلقيقية ملا قامت به أوبانك من<br />

أجل إيصال األدب العربي احلقيقي إلى العالم ><br />

111<br />

حياة مكرسة من أجل األدب العربي


ملف<br />

‏»بانيبال«...‏ حجر أساس أدبي ومعرفي<br />

صبحي حديدي<br />

ناقد ومترجم سوري مقيم في باريس<br />

حين بلغني نبأ اعتزام مارجريت أوبانك إصدار مجلة<br />

تختصّ‏ بترجمة األدب العربي الحديث إلى اللغة<br />

اإلنجليزية؛ أشفقت على هذا المشروع الوليد من<br />

مآلين:‏ أن يسير،‏ أوالً،‏ على منوال الدوريات األكاديمية<br />

التي تُعنى باآلداب األجنبية،‏ ولكنها تظلّ‏ نخبوية<br />

حبيسة المكتبات الجامعية ومراكز األبحاث،‏ بعيدة<br />

بالتالي عن متناول القارئ العريض؛ وثانياً،‏ أن<br />

تقع النماذج المختارة للترجمة في إسار النصوص<br />

الكالسيكية أو المدرسية،‏ ونتاجات مشاهير الكتّاب،‏<br />

فتنأى بذلك عن المشهد الفعلي الحيّ‏ ، وبخاصة<br />

تجارب الشباب.‏<br />

لكنّ‏ العدد األول،‏ الذي صدر في<br />

فبراير 1998، فاجأني على نحو<br />

مبهج متاماً،‏ إذْ‏ تضمّن حالة نادرة،‏<br />

وجديدة استطراداً،‏ من التوازن<br />

في اختيار املوادّ:‏ فيه جتاورت<br />

قصيدة أدونيس مع قصائد أمجد<br />

ناصر،‏ ومع صوتين يكتبان أصالً‏<br />

باإلجنليزية،‏ هما نتالي حنظل<br />

وخالد مطاوع؛ كما تُرجمت قصص<br />

قصيرة من املعلّم الكبير زكريا<br />

تامر،‏ إلى جانب طارق الطيب<br />

وعبدالله صخي؛ وحاور التحرير<br />

الشاعر العراقي سركون بولص،‏ مثلما استذكر<br />

املسرحي السوري سعدالله ونوس.‏<br />

اإلصدارات الالحقة سوف تنجز مستويات أعلى<br />

من ذلك التوازن،‏ إياه،‏ وحتديداً‏ في األعداد<br />

اخلاصة التي تناولت أسماء فاعلة،‏ مثل محمود<br />

درويش وأدونيس وسعدي يوسف وزكريا تامر<br />

ودنيس جونسون دافيز؛ أو<br />

األعداد املكرّسة آلداب معظم<br />

البلدان العربية،‏ منفردة؛ أو أدب<br />

املرأة العربية،‏ والقصة القصيرة،‏<br />

وأدب السجون،‏ واألدب العربي -<br />

األمريكي...‏ وهذه احلصيلة ترافقت<br />

مع تشجيع وإطالق جيل جديد من<br />

املترجمن متعددي اجلنسيات؛ كما<br />

انطوت على عنصر فنّي خاصّ‏ متثّل<br />

في إسناد صورة الغلالف إلى عدد<br />

من كبار التشكيلين العرب،‏ وإضفاء<br />

مسحة حيوية على اإلخراج من<br />

خالل استخدام الصورة والرسومات<br />

الداخلية.‏<br />

لم يعد املشروع مبادرة تثاقفية تخصّ‏ الترجمة<br />

وحدها،‏ بل صار حجر أساس أدبياً‏ ومعرفياً‏ ال غنى<br />

عنه؛ يستحقّ‏ حتية كبيرة إلى الصديقة أوبانك،‏<br />

والفريق العامل معها كامالً‏ ><br />

العدد - 692 يوليو 2016<br />

112


الكويت عاصمة الثقافة اإلسالمية 2016<br />

الحفر عميقاً‏ في تربة صعبة<br />

سيف الرحبي<br />

كاتب وشاعر من سلطنة عُ‏ مان<br />

أي حديث سريع عن مارجريت أوبانك الكاتبة<br />

والناشرة،‏ ال يفيها حقّ‏ ها،‏ لما قدمتّه من إنجاز نوعي<br />

للثقافة العربيّة،‏ من محيطها إلى خليجها كما<br />

درجت التسمية.‏ وهي بمعيّة أحد أصدقاء الماضي<br />

الجميل و»المَ‏ هاجر«‏ بفتح الميم،‏ األكثر حناناً‏ وإدهاشاً‏<br />

من نقيضها وفق المتداول في الثقافة الثنائيّة،‏<br />

أسسّ‏ ‏ا بدأب وكدْ‏ ح لجسْ‏ ‏ر الترجمة والتفاعل الخالّق<br />

بين العربيّة واإلنجليزيّة عبر مجلة ‏»بانيبال«،‏ التي<br />

قطعتْ‏ شوطاً‏ من الكمّ‏ واإلنجاز بمكان محفوظ<br />

وأكيد في ذاكرة الثقافة واألدب.‏<br />

وإذ أؤجل احلديث عن<br />

الصديق ‏)التاريخي(‏ صموئيل<br />

شمعون؛ فإن مارجريت أوبانك<br />

اإلجنليزية األصيلة التي تتحدر<br />

من أسرة ناشرين وكتّاب<br />

إجنليز،‏ وهبتْ‏ نفسها ومالها<br />

وجهدَها لثقافة العرب وأدبهم<br />

في شتى املناحي والتجليّات.‏<br />

واإلشارة هنا إلى أصالة<br />

‏»ماجي«‏ اإلجنليزية باملعنى<br />

اإلبداعي املفارق للكولونياليّة<br />

وقيم االستعمار اإلمبراطوري التي طبعتْ‏<br />

العالم بالقسوة واالستغالل وجتعلها ‏»األصالة«‏<br />

لصيقة بتلك القيم القادمة من نهر املعرفة<br />

واألدب اإلجنليزيّين املنفتحة على املدار<br />

اإلنساني واجلمالي،‏ أي ما هو نقيض تلك<br />

القيم.‏<br />

وإذ كانت ‏»بانيبال«‏ وما<br />

يتبعها من مطبوعات ونشاطات<br />

استطاعت عبر السنن،‏ أن توجد<br />

مثل هذه املكانة في أوساط اللغة<br />

اإلجنليزية ومؤسساتها ومنتدياتها<br />

املختلفة األمكنة واألمناط،‏ فيخال<br />

املرء أن وراء املشروع فريق عمل<br />

كبيراً،‏ وليس ‏»ماجي«‏ مع صموئيل،‏<br />

ومثل هذه املكانة من الصعب<br />

إيجادها في أوساط اللغة املهيمنة<br />

على مفاصل العالم والتاريخ املعاصر،‏ حتى من<br />

قبل مؤسسات مموّلة من دول ومبرمجة؛ إنه<br />

اإلصرار والصبْر في احلَفر عميقاً‏ في التربة<br />

الصعبة،‏ ليس في اإلجنليزية فحسب،‏ بل في<br />

العربيّة التي ال تُولي أوساطُ‏ ها ومؤسساتها<br />

113


سيف الرحبي مع الشاعر العراقي الراحل سركون بولوص وأوبانك<br />

الرسميّة أي أهميّة للثقافة<br />

واألدب،‏ خارج الدعاية واإلعالم<br />

الرسمييّ‏ . لكن مارجريت،‏ ورثتْ‏<br />

روح التضحيّة واحملبّة لألسرة<br />

اإلنسانية،‏ والعرب املنكوبي<br />

شعوباً‏ وثقافة،‏ وبخاصة في<br />

هذه اللحظة التراجيديّة<br />

التي يُستباح فيها ما تبقى<br />

من إنسان وقيم،‏ فطرة<br />

وأخالق،‏ حتت آلة الهمجيّة<br />

والسحَ‏ ق،‏ أمام أعي العالم<br />

املتحضر القادر والقوي،‏ على وقف املجزرة في<br />

أي حلظة ومكان،‏ لكن ال ضمير وال وجدان وال<br />

من يحزنون.‏ وقبل توجيه الكَالم الدامي إلى<br />

‏»اآلخر«‏ املهيمن،‏ هو موجه بالدرجة األولى<br />

واأللف إلى قادة هذه األمة وشعوبها املفجوعة،‏<br />

الذين سمحوا للوصول إلى قعْر هذه الهاوية<br />

واحلضيض.‏<br />

قلت إن مارجريت أوبانك،‏ ورثت روح<br />

التضحية واجلَلد من تقاليد<br />

الثقافة اإلجنليزيّة واألوربية<br />

التنويريّة املؤمنة بقيم اخلير<br />

واجلمال واألخوّة،‏ مع غض<br />

النظر عن العرق والدين،‏ القوة<br />

والضعف...‏ إلخ.‏<br />

بعد هذه السني التي تراكمت<br />

بسرعة صاعقة تقصف أعمارنا<br />

من غير هوادة وليست الرحمة من<br />

طبيعتها،‏ وبعد إجناز مشروع ‏»بانيبال«،‏<br />

وكنت قد شهدت والدة املشروع الناجح،‏<br />

ال يسعني إال أن أوجه التحيّة عالية<br />

محلقّة كالطيور املهاجرة املرِ‏ حة من سماء عُمان<br />

إلى ‏»ماجي«‏ وصموئيل في لندن،‏ بذلك املنزل<br />

الواقع قرب مطار هيثرو قريباً‏ من قنوات ‏»التيمز«‏<br />

اخلصيبة دائماً،‏ والذي ما زلتُ‏ أمتلك وردة في<br />

حديقته،‏ وردة تقول ‏»ماجي«‏ إنها الوحيدة التي ال<br />

يكسرها البرد القارس وال الرياح الهوجاء.‏<br />

حتية ومحبّة ><br />

العدد - 692 يوليو 2016<br />

114


الكويت عاصمة الثقافة اإلسالمية 2016<br />

صديقة األدب العربي<br />

محمود شقير<br />

كاتب من فلسطني<br />

تعتبر الناشطة الثقافية مارجريت<br />

أوبانك خير صديقة للأدب العربي،‏<br />

بمختلف تجلياته في الرواية والقصة<br />

والشعر والمسرح والنقد األدبي،‏ وهي<br />

في الوقت نفسه صديقة دائمة<br />

لكاتبات عربيات ولكتَّاب عرب،‏ تتابع<br />

أخبار الجميع وتهتم بنتاجاتهم األدبية،‏<br />

وتقطع المسافات الطويلة لحضور<br />

معارض الكتب والمؤتمرات والندوات.‏<br />

التقيتها أول مرة في معرض<br />

لندن للكتاب عام 2005، وكان لي<br />

آنذاك شرف توقيع كتابي ‏»شاربا<br />

مردخاي وقطط زوجته«‏ الذي صدر<br />

باللغة اإلجنليزية عن دار بانيبال<br />

للنشر،‏ التي تشرف عليها مارجريت<br />

مع زوجها الناشط الثقافي والروائي<br />

صموئيل شمعون.‏ ثم التقينا في<br />

مهرجان األدب في برلني عام 2009،<br />

وفي معرض أبوظبي الدولي للكتاب<br />

عام 2011، وأخيراً‏ في معرض الدار<br />

البيضاء للكتاب عام 2015، الذي ترافق<br />

انعقاده مع إعالن القائمة القصيرة<br />

للجائزة العاملية للرواية العربية<br />

‏)البوكر(‏ في دورتها الثامنة،‏ حيث<br />

تشغل مارجريت عضوية مجلس أمناء<br />

اجلائزة.‏<br />

وبالطبع،‏ ثمة فعاليات ثقافية<br />

أخرى شاركت فيها أوبانك في غير<br />

بلد.‏<br />

ولعلّ‏ مجلة ‏»بانيبال«‏ الصادرة<br />

في لندن باللغة اإلجنليزية،‏<br />

برئاسة مارجريت أوبانك،‏ هي<br />

أبرز خدمة تسديها مارجريت<br />

لألدب العربي،‏ حيث املجلة<br />

متخصصة في تقدمي األدب<br />

العربي إلى العالم عبر<br />

ترجمة مناذجه املتميزة إلى<br />

اللغة اإلجنليزية.‏ وملارجريت<br />

أوبانك فضل كبير في هذا<br />

اإلجناز الذي تواصل ومازال<br />

يتواصل منذ سنوات.‏<br />

ولها علالوة على ذلك،‏<br />

مقاالت تعرض فيها لكتب<br />

مرموقة كتبها مؤلفون عرب،‏<br />

تكتب عنها وتنشر ما تكتبه<br />

في مجلتها،‏ وفي صحف أخرى<br />

صادرة باللغة اإلجنليزية في<br />

لندن،‏ ما يسمح بتوسيع انتشار<br />

األدب العربي في العالم.‏<br />

ملارجريت أوبانك الصحة<br />

وطول العمر ودوام العطاء ><br />

115


عاشقة األدب العربي الحديث<br />

طالب الرفاعي<br />

كاتب من الكويت<br />

ال أذكر متى كان لقائي األول بها،‏ لكن ما أذكره تماماً‏ أن تلك المرأة<br />

تغدق عليَّ‏ ، وفي كل لقاءٍ‏ ، ودّاً‏ صافياً‏ يربكني،‏ ودّاً‏ يجمع بين البساطة<br />

والصدق واالبتسام الذي يشع بوجهها وعينيها.‏<br />

كأي كاتب عربي كان ولم يزل يسعدني نشر<br />

قصة أو جزء من رواية لي باللغة اإلنجليزية،‏ ولذا<br />

كنتُ‏ سعيداً‏ لحظة عانقت عيناي نشر قصص<br />

لي بترجمة الصديقة د.زهرة حسين،‏ ود.ليلى<br />

المالح،‏ ربما قبل ما يزيد على العشر سنوات.‏ تلك<br />

الترجمات أخذتني للتعرف على مجلة ‏»بانيبال«،‏<br />

ألكتشف جهداً‏ ثقافياً‏ مخلصاً‏ قلّ‏ مثيله.‏ مجلة<br />

فصلية ناطقة باللغة اإلنجليزية تصدر في لندن،‏<br />

وتهتم باألدب العربي الحديث؛ شعراً‏ وقصة ورواية وأبحاثاً‏ ومسرحاً‏<br />

وسينما وتشكيالً.‏ أدب ذو سوية إبداعية فنية عالية وبمرامٍ‏ إنسانية<br />

النزعة والتوجه.‏<br />

اعتقدت لفترة أن خلف هذه املجلة األنيقة<br />

عدداً‏ كبيراً‏ من املترجمين واحملررين وإدارة<br />

حترير،‏ وأن هناك جهة رسمية أو شعبية عربية<br />

أو عاملية تصرف عليها مبالغ محترمة كي تأتي<br />

للقارئ بحلتها الرائعة.‏ لكن ما اكتشفته الحقاً،‏<br />

أثار تعجّ‏ بي واستعجابي،‏ وهو أن السيدة مارجريت<br />

أوبانك وزوجها األستاذ صموئيل شمعون،‏ وحدهما<br />

وبجهدهما الذاتي وبنفقتهما اخلاصة،‏ يقفان وراء<br />

هذا املشروع الفذ واملتفرد واملخلص لألدب العربي<br />

احلديث.‏<br />

رمبا كانت مجلة ‏»بانيبال«‏ في يوم ما تقدم ولع<br />

مارجريت وصموئيل بنصوص معينة،‏ لكن تاريخاً‏<br />

من العطاء واالستمرار والتراكم املعرفي واإلبداعي،‏<br />

جعل من ‏»بانيبال«‏ معلماً‏ الفتاً‏ لإلبداع العربي<br />

باللغة اإلجنليزية،‏ حتى أن عدداً‏ كبيراً‏ من جامعات<br />

أوربا واليابان وأمريكا،‏ صار يعتمد على املجلة في<br />

اتصاله ووصله باألدب العربي،‏ ويعتمدها مصدراً‏<br />

أساسياً‏ متفرداً‏ لنتاج األدب العربي احلديث.‏<br />

مجلة ‏»بانيبال«‏ بجهد العزيزين ‏»ماجي«‏<br />

و»سام«،‏ وبتضحياتهما ومثابرتهما صارت معلماً‏<br />

ثقافياً‏ عاملياً،‏ وسفيراً‏ لألدب والفن العربين لدى<br />

العالم اآلخر.‏ ومؤكد أن املجلة وعبر خبرة عريضة<br />

العدد - 692 يوليو 2016<br />

116


الكويت عاصمة الثقافة اإلسالمية 2016<br />

مع عالء حليحل ومنصورة عز الدين وعابد إسماعيل<br />

جتاوزت اخلمس عشرة سنة،‏<br />

قد حفرت لنفسها سمعة أدبية<br />

وحضوراً‏ ثقافياً‏ عنوانه املصداقية<br />

ولغته احلداثة.‏<br />

لقد حظيت املجلة في<br />

السنوات األخيرة مبوقع متميّز<br />

في وسط لندن،‏ يؤمن لها عملها<br />

اليومي في جوٍ‏ مريح وعملي،‏ لكن<br />

الواجب يتطلب منا نحن األدباء<br />

والفنانين واملثقفين العرب،‏<br />

أفراداً‏ ومؤسسات،‏ املؤمنين<br />

بأهمية وجدوى اإلبداع والثقافة،‏<br />

وأنهما اجلسر األوحد املتبقي لنا<br />

للتواصل مع اآلخر،‏ في زمن العنف<br />

والتوحش األعمى،‏ يتطلب منّا أن<br />

نقف إلى جانب املجلة وأن ندعم<br />

وجودها واستمرارها بشكل ملموس،‏<br />

وأال نبخل عليها باملداد املالي السخي،‏<br />

الذي يؤمن بقاءها واستمرار عطائها<br />

الباهر.‏<br />

الصديقان العزيزان مارجريت وصموئيل<br />

بعد توطد معرفتي بهما،‏ وتكرر زياراتي للندن،‏<br />

اكتشفت أنهما قد نذرا عمريهما للثقافة العربية<br />

واملبدع العربي.‏ وأنهما ترجما ويترجمان عشقها<br />

عبر أعداد املجلة األجمل،‏ وأنهما<br />

أكثر إخالصاً‏ وحرصاً‏ على الثقافة<br />

العربية ونتاج املبدع العربي،‏ من<br />

كثير من املؤسسات العربية الرسمية<br />

واألهلية.‏<br />

إن الكتابة عن الصديقة العزيزة<br />

مارجريت بالنسبة إلي تعني تقدمي<br />

شكر وتقدير واجبين لسيدة<br />

إجنليزية كانت ولم تزل مخلصة<br />

لإلبداع العربي والثقافة العربية،‏<br />

وأنها منذ تبدأ يومها باكراً‏ وإلى<br />

أن تأوي إلى فراشها ال يشغل بالها<br />

سوى مجلة ‏»بانيبال«‏ وكيفية تأمن<br />

صدور عددها املقبل على أفضل<br />

وجه.‏<br />

لك يا ‏»ماجي«‏ الغالية حتية<br />

تقدير وإعزاز،‏ ولك دائماً‏ حتية<br />

مودة خالصة،‏ ولك أهمس بسرٍّ‏<br />

يخصني،‏ فأنا وكلما دار ببالي<br />

اجلهد املتفاني الذي تقومن به<br />

للمبدع العربي وللثقافة العربية،‏ أردد في نفسي:‏<br />

أطال الله بعمر هذه املرأة الرائعة،‏ وجعلها<br />

منارة نور وعطاء لإلبداع العربي ووصله بالعالم<br />

اآلخر ><br />

117<br />

عاشقة األدب العربي احلديث


مؤلفون وأكاديميون يشيدون بتجربة المجلة<br />

ماذا قالوا عن ‏»بانيبال«؟<br />

< في أعقاب أحداث سبتمبر 2001 والتحول الكارثي في سوء التفاهم<br />

الذي استتبعها ما بني الثقافات،‏ صار الدور الذي تلعبه مجلة ‏»بانيبال«‏<br />

حيوياً‏ بصورة مطلقة.‏ ففي ظل التحرير املبدع ملارجريت أوبانك،‏ احتلت<br />

املجلة العاملة منذ أعوام عدة موقعاً‏ مهماً‏ لنشر األعمال املترجمة<br />

من األدب العربي احلديث ‏)حلبة جعلت هذه األعمال متوافرة باللغة<br />

اإلجنليزية أكثر من توافرها باللغات األوربية األخرى(.‏<br />

روجر ألني<br />

أستاذ اللغة العربية واألدب في جامعة بنسلفانيا،‏<br />

مترجم أدبي معروف<br />

روجر ألني<br />

< ما من مجلة غربية أخرى تتعامل مع العالم<br />

العربي أسهمت بقدر ما فعلت ‏»بانيبال«‏ في تقييمها<br />

الواسع لألدب العربي احلديث.‏ فقد جنحت خالل<br />

فترة قصيرة في أن تضع في متناول أيدي قرائها<br />

أعماالً‏ عربية ال عد لها في ترجمتها اإلجنليزية<br />

‏)قصائد،‏ قصص قصيرة،‏ مقاطع من روايات،‏<br />

نصوص أوتوبيوغرافية(.‏ ولكن ما هو بارز والفت<br />

للنظر في ‏»بانيبال«‏ هو أنها أظهرت مقدرتها على<br />

ضمان متثيل واسع،‏ ليس فقط لالجتاهات الرئيسة<br />

واألجناس األدبية واألجيال والنزعات املختلفة<br />

للكتاب العرب من مختلف األقطار،‏ وإمنا أيضاً‏<br />

في تقدمي عديد من األكادمييني العرب والغربيني<br />

واملترجمني امللتزمني تقدمي األدب العربي احلديث<br />

خارج حدوده القومية.‏<br />

صالح جواد الطعمة<br />

أستاذ دائم للغة العربية واألدب املقارن،‏ جامعة<br />

إنديانا<br />

< حماسة مارجريت أوبانك<br />

لألدب العربي احلديث،‏ التي عبرت<br />

عنها بكل بالغة في افتتاحية<br />

تقدمي العدد األول من ‏»بانيبال«‏<br />

في عام 1998 لم تخفت قط منذ<br />

ذلك احليني.‏ فبفضل تكريسها<br />

وسياستها الواضحة وجهودها<br />

التي ال تكل،‏ أفلحت ‏»بانيبال«‏<br />

عبر مقاالتها املركزة ومقابالتها<br />

املنورة وترجماتها املاهرة للشعر<br />

والنثر في أن تقدم جوانب شتى<br />

من األدب املعاصر في كل العالم<br />

العربي إلى اجلمهور القارئ باللغة<br />

اإلجنليزية...‏ إجناز رائع.‏<br />

د.‏ محمد بدوي<br />

أستاذ دائم،‏ كلية سانت أنتوني،‏<br />

جامعة أكسفورد<br />

‏)توفي أخيراً(‏<br />

العدد - 692 يوليو 2016<br />

118


الكويت عاصمة الثقافة اإلسالمية 2016<br />

< رغم العاقات التاريخية التي تربط بريطانيا بالعالم العربي،‏ واجلوهر الباقي من تلك<br />

العاقة ثقافي في حقيقته،‏ فإن أقل بلدان أوربا اهتماماً‏ بالثقافة العربية وإبداعاتها املعاصرة هي<br />

بريطانيا،‏ لذلك جاء صدور ‏»بانيبال«‏ في ظروف مناسبة متاماً،‏ آخذة على عاتقها،‏ باستمرارها<br />

البطولي،‏ مهمة التعريف باألدب العربي املعاصر والثقافة العربية.‏ ‏»بانيبال«‏<br />

املطبوعة الوحيدة التي تقوم بذلك اجلهد في العالم الغربي كله وليس<br />

بريطانيا فقط.‏ وألنها تصدر من موقع ميكن من خاله رؤية العالم العربي<br />

في مجمله،‏ وال تخضع حلساسيات محلية،‏ فإنها تقدم صورة دقيقة للثقافة<br />

العربية.‏<br />

ورغم صدور ‏»بانيبال«‏ باإلجنليزية،‏ فإنها مصدر مهم للعرب أنفسهم،‏<br />

ملا تتضمنه من شمولية الرؤية ودقة املتابعة.‏ هذا املنبر الثقافي املهم نتاج<br />

سعي دؤوب وجهد مخلص يتمان مببادرة شخصية،‏ مبادرة حققت ما لم<br />

تستطع أن حتققه وزارات الثقافة العربية واملؤسسات العاملة فيه مجتمعة،‏<br />

لذلك تستحق ‏»بانيبال«‏ بالفعل الدعمني املعنوي واملادي،‏ ومن قبل ومن بعد<br />

التحية.‏ بالنسبة إلي فإنني أشعر بامتنان عميق لكل من يسهم في هذا اإلصدار،‏ ليس بدافع<br />

شخصي ولكن بدافع انتمائي إلى تلك الثقافة التي ال يعرفها الغرب جيداً.‏<br />

جمال الغيطاني<br />

كاتب مصري،‏ رئيس حترير ‏»أخبار األدب«‏ ‏)توفي في 2015(.<br />

جمال الغيطاني<br />

< ‏»»بانيبال«‏ مجلة املغامرة العربية اإلبداعية<br />

احلديثة«،‏ هي اليوم صوتنا األصفى في عالم يزداد<br />

خراباً.‏ فالنصوص واألسماء التي تقدمها إلى القارئ<br />

باإلجنليزية تنقلنا إلى فضاءات مختلفة تفتتح األفق<br />

احلاضر فيما هي ال تتخلى<br />

عن موروثها اخلاق.‏<br />

و»بانيبال«‏ تكشف بعملها عن<br />

روح استكشافية جتاه أدباء<br />

من اجتاهات حتديثية في<br />

مشرق العالم العربي ومغربه<br />

ال يتنازلون عن اختيار أن<br />

يكتبوا بحرية ويرحلوا في<br />

محمد بنيس<br />

جهات األرض.‏ وهي بهذا أصبحت الطريق الذي<br />

نسلكه لننصت إلى أدب عربي هو جزء من العالم.‏<br />

محمد بنيس<br />

شاعر مغربي،‏ مدير دار نشر ‏»توبقال«‏<br />

< ال شيء أقدر من األدب العربي<br />

على استبصار ثقافة العرب وروحهم<br />

بالذات.‏ فقد أخذت ‏»بانيبال«‏ منذ<br />

عام 1998 على عاتقها مهمة نقل هذه<br />

الرؤية عبر ترجماتها اإلجنليزية إلى<br />

العالم املعاصر املتعطش لفهم أعمق<br />

للعرب.‏ وهكذا أسهمت بطريقة فائقة<br />

في تطمني هذه احلاجة،‏ حاثّةً‏ على<br />

احلوار بني الثقافات وزيادة احتماالت<br />

السام بني األمم.‏ لقد حظوت مبيزة<br />

أن أكون قادراً‏ على إسناد ‏»بانيبال«،‏<br />

وأرجو لها كل التوفيق في األعوام<br />

املقبلة.‏<br />

د.‏ عيسى بالطة<br />

مؤلف،‏ ناقد أدبي،‏ ومترجم معروف<br />

119<br />

ماذا قالوا عن ‏»بانيبال«؟


روجر ألني<br />

< منذ أن أطلقت مارجريت أوبانك ‏»بانيبال«‏ في عام 1998 وهي<br />

تتولى حتريرها ببراعة وأصالة.‏ ‏»بانيبال«‏ مجلة قريبة إلى قلب القارئ<br />

بصورها الفوتوغرافية،‏ مبقابالتها،‏ بأخبارها،‏ فضالً‏ عن ترجماتها لكل<br />

األجناس األدبية من جميع أنحاء العالم العربي.‏ وهي مجلة حافظت على<br />

استقالليتها.‏ معيار النشر فيها هو النوعية والوثوق وليس النفوذ.‏ إننا<br />

نحتاج إلى ‏»بانيبال«‏ اليوم كنافذة مطلة على الشرق األوسط احلديث أكثر<br />

من أي وقت مضى.‏<br />

د.‏ بيتر كالرك<br />

مترجم أدب،‏ مستشار في الشؤون الثقافية للشرق األوسط<br />

< في األعوام الستة األخيرة أوجدت مارجريت أوبانك وصموئيل<br />

شمعون مجلة أقامت مناقشة مستمرة في ما بني الكتَّاب العرب املعاصرين<br />

املتحدرين من أصول وطنية متنوعة أنفسهم - كتابة بالعربية والفرنسية<br />

واإلجنليزية - ومع جمهور اللغة اإلجنليزية الواسع.‏ ميكن العثور في<br />

صفحات ‏»بانيبال«‏ على أعمال عدد من الكتَّاب العرب املعروفني لبعض<br />

القراء األجنلوفرانكفونيني مثل سعدي يوسف وأدونيس ومحمود درويش،‏<br />

إلى جانب أعمال شعراء وروائيني من العراق واجلزائر والسعودية ولبنان<br />

وفلسطني ومصر،‏ تعتبر أسماؤهم جديدة بالنسبة ألولئك القراء متاماً‏ مارلني هاكر<br />

مثل تقنياتهم األدبية ووجهات نظرهم السياسية الثقافية.‏ ‏»بانيبال«‏ توفر<br />

للقارئ اإلجنليزي مدخالً‏ ال يقدر بثمن إلى اآلداب املتنوعة والنموذجية للشرق األوسط واملغرب<br />

العربي،‏ وهو أمر ال ميكن العثور عليه في أي مجلة أدبية أخرى صادرة باللغة اإلجنليزية.‏<br />

مارلني هاكر<br />

شاعرة معروفة ومترجمة أدب،‏ الواليات املتحدة<br />

< ‏»بانيبال«‏ هي مصدري الرئيس للمعلومات حول<br />

الكتابة العربية الراهنة واألحداث الثقافية.‏ من دون<br />

‏»بانيبال«‏ سأكون أفقر قراءة بكثير.‏ أعدادها السابقة<br />

تشكل أرشيفاً‏ ال يقارن.‏<br />

روبرت أروين<br />

مؤلف وصحافي،‏ اململكة املتحدة<br />

العدد - 692 يوليو 2016<br />

120


الكويت عاصمة الثقافة اإلسالمية 2016<br />

< إنها لمفارقة حقّاً‏ أن تكون ‏»بانيبال«‏<br />

بالنسبة لهذا القارئ أفضل املجالت<br />

العربيّة املعاصرة،‏ وما نشرها باللغة<br />

اإلجنليزية إال من محض املصادفة.‏ فمن<br />

الصعب أن نتخيّل هذا العدد من األصوات<br />

األدبيّة،‏ من جميع<br />

أنحاء العالم العربي،‏<br />

مجتمعة ومتحاورة<br />

في ما بينها حتت<br />

سقف واحد،‏ في أي<br />

مجلّة أخرى.‏ يكفي<br />

‏»بانيبال«‏ أنها منحت<br />

األدب العربي،‏ طوال<br />

األعوام السبعة<br />

أنطون شماس<br />

املاضية،‏ نبرة جديدة وحضوراً‏ طاغياً‏<br />

داخل اللغة اإلجنليزيّة.‏ ويكفيها،‏ أيضاً،‏<br />

أنها أثبتت،‏ وخالفاً‏ لالعتقاد السائد،‏ أن ال<br />

شيء على اإلطالق يضيع في الترجمة.‏<br />

أنطون شماس<br />

كاتب فلسطيني،‏ وأستاذ في آداب<br />

الشرق األوسط احلديث واألدب املقارن<br />

في جامعة مشيغان<br />

< األدب العربي احلديث الذي يصل<br />

إلى قراء اللغة اإلجنليزية يعتبر ضئيالً‏<br />

باملقارنة مع أدب األمم األخرى.‏ هذا<br />

اخللل جرى تالفيه إلى حد كبير من<br />

قبل مجلة ‏»بانيبال«‏ الصادرة في لندن،‏<br />

التي قدمت منذ تأسيسها في عام 1998<br />

الكتَّاب والشعراء والنقاد العرب وصارت<br />

جسراً‏ صلداً‏ يربط القراء اإلجنليز<br />

باألدب العربي احلديث.‏<br />

مهدي عيسى الصقر<br />

روائي عراقي راحل<br />

< كأكادميي يعمل في حقل األدب العربي احلديث،‏ أدرك<br />

متاماً‏ احلاجة إلى التعامل مع جمهور واسع عن طريق وضع<br />

كتَّاب العالم العربي في محط اهتمام القراء الغربيني خارج<br />

جو اجلامعة.‏ ‏»بانيبال«‏ قدمت إسهامة فريدة في هذا املسعى،‏<br />

وهناك خطط مثيرة للمزيد من التطور.‏ أمتنى لها كل النجاح<br />

في املستقبل.‏<br />

بول ستاركي<br />

بول ستاركي<br />

رئيس قسم اللغة العربية،‏ كلية اللغات احلديثة،‏ جامعة<br />

درام،‏ مترجم أدب،‏ اململكة املتحدة<br />

121<br />

ماذا قالوا عن ‏»بانيبال«؟


تحقيق مصور<br />

اكتشاف لغة اإلنسان األول فوق جدرانها...‏<br />

كهوف عمرها 50 مليون سنة!‏<br />

تحقيق وتصوير:‏ رياض توفيق<br />

كاتب من مصر<br />

فوق جدران عشرات من الكهوف يقترب عمرها من 50 مليون سنة،‏ صنعتها الطبيعة<br />

من تكوينات األلبستر الكريستالي،‏ تموج بالجمال األسطوري في قلب صحراء مصر<br />

الغربية،‏ تصبح الرحلة إليها درباً‏ من اإلبداع،‏ هناك حيث خط اإلنسان األول رسومات<br />

عمرها 20 ألف سنة،‏ استطاع العلماء فك رموزها أخيراً،‏ وتصنيفها من أوائل اللغات<br />

التي كتبها اإلنسان،‏ حتى قبل ظهور الهيروغليفية التي أبدعها الفراعنة،‏ ولعل أكثر<br />

ما يثير الشغف بهذه اللغة البالغة القدم،‏ هو معرفة ماذا كتب إنسان ذلك العصر من<br />

عبارات أراد بها أن تصل إلينا عبر عجلة الزمن التي ال تتوقف.‏<br />

العدد - 692 يوليو 2016<br />

122


الكويت عاصمة الثقافة اإلسالمية 2016<br />

العاشق لطعم الزمن،‏ البد أن يقف مبهوراً‏<br />

خالل رحلة عبر صحراء مصر الغربية،‏ وصوالً‏<br />

إلى مواقع تلك الكهوف صاحبة التكوينات<br />

اجلمالية التي أبدعتها الطبيعة من دون أي تدخل<br />

من اإلنسان.‏<br />

وإذا التحقت بإحدى رحالت السفاري عبر<br />

الصحراء،‏ فسوف تصل بك في البداية إلى موقع<br />

كهف وادي سنور،‏ جنوب مدينة بني سويف،‏ حيث<br />

يوجد الكهف على عمق 60 قدماً‏ حتت األرض،‏ وقد<br />

قدر العلماء سنوات عمره ب 50 مليون سنة،‏ ويبلغ<br />

طوله 275 متراً‏ باتساع 15 متراً‏ وارتفاع ‎15‎متراً،‏<br />

وقد تكون هذا الكهف نتيجة ذوبان خام األلبستر<br />

عبر آالف السنني،‏ وما أحدثته املياه اجلوفية التي<br />

تتجمع بعد سقوط األمطار وتتسرب إلى باطن<br />

األرض مكونة شبكات من األودية،‏ وبهذا يتكون<br />

جتويف داخل باطن األرض في ما يعرف بالكهوف،‏<br />

ونظراً‏ لوجود فراغ بني السطحني العلوي والسفلي<br />

بدأت تتكون الصواعد والهوابط،‏ عندما تتسرب<br />

مياه األمطار وتصل إلى سقف الكهف،‏ حيث تبدأ<br />

في التنقيط قطرة قطرة،‏ وعندما تتعرض هذه<br />

القطرات حلركة هواء الكهف الغني بثاني أكسيد<br />

الكربون،‏ يتم تركيز مادة كربونات الكالسيوم<br />

حولها على هيئة حلقة حتيط بالقطرات املائية<br />

مكونة هذه األجسام الكريستالية من الصواعد<br />

والهوابط داخل الكهف.‏<br />

ويعد كهف ‏»وادي سنور«‏ واحداً‏ من أبرز<br />

الكهوف العاملية بتكويناته الطبيعية التي ال يوجد<br />

مثيل لها في العالم،‏ وبذلك يصبح هذا الكهف<br />

لوحة جيولوجية عاملية من الصواعد والهوابط<br />

املكونة من األلبستر الكريستالي،‏ كما لو كانت<br />

تكوينات من ‏»األملاس«‏ التي تسقط عليها األشعة<br />

عاكسة تلك التكوينات الضوئية من ألوان الطيف<br />

على حدقة العني،‏ لترسم لنا في ذاكرتنا وذاكرة<br />

التاريخ لوحات فنية جيولوجية بديعة.‏<br />

كهوف وادي صورا<br />

متضي الرحلة عبر الصحراء القاحلة،‏<br />

التي شهدت على مر الزمان تقلبات مناخية<br />

يشرحها علماء احلفريات واجليولوجيا،‏ والتي<br />

ضربت هذه األرض منذ مالييني السنني،‏<br />

حيث مرت بعصور ثالثة كانت قاعاً‏ للبحر،‏ ثم<br />

عصور أربعة مطيرة،‏ ثم صحراء جرداء وقد<br />

خلف ذلك كماً‏ هائالً‏ من احلفريات املنتشرة في<br />

أرجائها،‏ فتوجد شجرات املاجنروف،‏ والشعاب<br />

املرجانية وهياكل القروش البحرية واحليتان،‏<br />

وأيضا الديناصورات العمالقة التي يبلغ وزن<br />

الواحد منها 80 طناً.‏<br />

كهف األرواح الطائرة<br />

تعتبر هضبة اجللف الكبير أكبر منتجع<br />

صحراوي ملا قبل التاريخ على املستوى العاملي،‏<br />

ولم يكن ذلك من فراغ،‏ فهذه الهضبة مترامية<br />

األطراف،‏ حيث تبلغ مساحتها 48 ألف كم مربع،‏<br />

وال حتتوي إال على رمال وجبال وصخور فقط<br />

وال يوجد منها أي نوع من مظاهر احلياة عدا<br />

قليل من الكائنات احلية التي تتكيف مع البيئة<br />

الصحراوية.‏<br />

وخالل سنوات احلرب العاملية الثانية لم يكن<br />

لدى األملان دراية كبيرة بالصحراء املصرية،‏ وألن<br />

اإلجنليز كانوا يحتلون مصر،‏ كان على األملان<br />

أن يستعينوا بأحد األدلة الصحراوية اخلبير<br />

في األودية الصحراوية املصرية،‏ ليرسم فكرة<br />

تطويق اجليوش اإلجنليزية من الناحية الغربية،‏<br />

وقد استعانوا بالكونت ‏»أملاس«‏ الذي استطاع أن<br />

ميدهم مبعلومات غاية في األهمية ساعدت رومل<br />

في الوصول إلى األراضي الليبية حتى ‏»العلمني«.‏<br />

وكان الكونت أملاس يجهز رحلة صحراوية<br />

كل خمس سنوات،‏ مصطحباً‏ معه عدداً‏ من<br />

اجلمال والعبيد،‏ متجهاً‏ من الواحات الداخلة عبر<br />

الصحراء وقد وصلت رحالته حتى وادي صورا،‏<br />

ووجد العديد من الكهوف املصورة بشكل رائع<br />

وغاية في األهمية،‏ فأسمى هذا الوادي باسم<br />

وادي صورا،‏ وأطلق على أحد هذه الكهوف كهف<br />

السابحني ‏)وحالياً‏ سمي بكهف األرواح الطائرة(.‏<br />

وادي صورا<br />

متضي رحالت السفاري في قلب الصحراء<br />

القاحلة حتى تصل إلى وادي صورا،‏ وسمي هذا<br />

123<br />

كهوف عمرها 50 مليون سنة!‏


الوادي بهذا االسم النتشار صور إنسان ما قبل<br />

التاريخ فيه.‏ والرحلة إلى هذه املنطقة تبدأ من<br />

الواحات البحرية أو الفرافرة أو الداخلة عند<br />

منطقة أبومنقار،‏ وبعد ثمانية أيام نصل إلى<br />

أحد األودية الفسيحة،‏ وفي صباح اليوم الثاني<br />

عشر تتضح أمامنا منطقة كهوف وادي صورا،‏<br />

وهي منطقة مليئة بالرسوم امللونة التي ال يوجد<br />

مثيل لها في العالم وتكاد تكون أكثر روعة وشهرة<br />

وجماالً‏ من كهوف السكو والتميرا،‏ وتعد كهوف<br />

وادي صورا سجالً‏ مصوراً‏ عن حياة اإلنسان<br />

البدائي،‏ فقد شمل أحد الكهوف أكثر من ألفي<br />

رسم ملون لإلنسان وحياته ورقصاته وطقوسه<br />

اجلنائزية وحملة القرابني،‏ ومناظر الغزالن التي<br />

تشرب من البحيرات الصغيرة،‏ إضافة إلى كثير<br />

من الطقوس اليومية اجلديدة مثل تطيير النعام،‏<br />

فضالً‏ عن العديد من النقوش التي تصور اإلنسان<br />

في وضع سابح،‏ ولذا سمي أحد هذه الكهوف<br />

بكهف السابحني،‏ ولكنه في احلقيقة كانت<br />

النقوش ملناظر اإلنسان في وضع حائر،‏ أي الروح،‏<br />

ومازالت الرمال في كهف وادي صورا حتتوي على<br />

آالف املناظر املخبأة حتتها.‏<br />

وعندما تقترب الرحلة من نهايتها فإنها<br />

تصل إلى ما يسمى بجبل العوينات،‏ ويوجد هذا<br />

اجلبل بني التقاء احلدود املصرية - السودانية<br />

- الليبية،‏ وهو عبارة عن جبل مساحته<br />

25 كم ينتشر به كم هائل من النقوش والرسوم<br />

الصخرية املهمة مثل ‏»الزراف والنعام واملاعز<br />

والكباش والكبش األروي والودان وكالب الصيد<br />

وخالفه«.‏<br />

مغارة ألكنترا<br />

ميكن الوصول إلى هذه املغارة أو الكهف<br />

كهف وادي سنور يتضمن تشكيالت كلسية جتعله من أجمل كهوف العالم<br />

العدد - 692 يوليو 2016<br />

124


الكويت عاصمة الثقافة اإلسالمية 2016<br />

موقع الكهوف في أقصى غرب الصحراء الغربية بجوار احلدود مع ليبيا<br />

الصغير بعد اليوم الرابع عشر من الرحلة الشاقة<br />

للصحراء الكبرى التي تبدأ من الواحات البحرية<br />

حتى نصل إلى مغارة ألكنترا وتطلق عليها مغارة<br />

القنطرة أحياناً،‏ ألنها أشبه بالقنطرة التي يعبر<br />

عليها الناس فوق ممر مائي،‏ وحتتوي هذه املغارة<br />

على نقوش ملونة لم تر عني أجمل منها على<br />

مستوى العالم كله،‏ منها تصوير كمية من األبقار<br />

البيضاء والزرقاء واحلمراء رسمت بشكل غاية<br />

في الدقة،‏ ولقد كان الفنان يعي متاماً‏ الفرق بني<br />

البقرة األنثى والثيران بقرونها الواضحة،‏ وتعد<br />

رسوم مغارة الكنترا من أجمل النقوش امللونة في<br />

هضبة اجللف الكبير،‏ وتسجيالً‏ جلياً‏ لطرق الفن<br />

البدائي.‏<br />

كهف األبيض<br />

يعتبر كهف األبيض واحداً‏ من أهم الكهوف<br />

املصرية،‏ ويوجد هذا الكهف في محيط<br />

سهل كراوييني على بعد 45 كم من كرز ومدينة<br />

الفرافرة،‏ ويوجد هذا الكهف في تكوينات العصر<br />

الطباشيري املكون تكوينات الصحراء البيضاء،‏<br />

التي يرجع عمر هذه التكوينات فيها ألكثر من<br />

30 مليون عام.‏<br />

وفي أحد جبال هذه التكوينات الطباشيرية<br />

يوجد كهف األبيض،‏ ويطلق عليه األُبيض ‏»بضم<br />

األلف«‏ نسبة لوجوده في أحد اجلبال البيضاء.‏<br />

وكشف خبراء اآلثار عن بعض املعالم املهمة<br />

داخل الكهف،‏ ومنها بصمة يد إلنسان ما قبل<br />

التاريخ,‏ تعود رمبا ألكثر من ثمانية آالف عام،‏<br />

كما مت العثور بالكهف على عديد من الندبات<br />

احلجرية املمثلة لبصمات حفريات رمبا فقارية،‏<br />

وتتم دراستها حالياً،‏ وميثل هذا الكهف حلقة<br />

وصل في الفنون البدائية إلنسان ما قبل التاريخ<br />

بني الصحراء الغربية وسكانها في فترة نهايات<br />

عصر السفانا وبدايات عصر اجلفاف وانتقال<br />

التجمعات البشرية إلنسان ما قبل التاريخ من<br />

الصحراء الغربية في اجتاه وادي النيل،‏ وذلك في<br />

125<br />

كهوف عمرها 50 مليون سنة!‏


رسوم من كهف األرواح الطائرة<br />

نهايات األلف السادس قبل امليالد.‏<br />

كهف اجلارة<br />

يعد كهف اجلارة من أشهر الكهوف املصرية<br />

وأقدمها كشفاً،‏ حيث مت الكشف عن هذا الكهف<br />

بواسطة جيرهارد روفلز عام 1873، وذلك أثناء<br />

قيامه برحلة من واحة الكفرة وعين دو في<br />

ليبيا،‏ مخترقاً‏ الصحراء الغربية باجلمال،‏ والتي<br />

استمرت أكثر من ثالثة أشهر،‏ وكانت القوافل ال<br />

متر من هذه األماكن نظراً‏ لوعورتها،‏ ولكن في<br />

الغالب نظراً‏ لتعرض قافلته لبعض العواصف،‏<br />

فقد اجتهت غرباً‏ فشرقاً‏ حتى وصلت إلى أحد<br />

األماكن املسطحة،‏ التي لم يكن يتوقع أن يكون<br />

فيها ملجأ من العواصف,‏ إال أنه عندما وجد<br />

الكهف احتمى به وكتبه في مذكراته.‏<br />

ويبدو أن جيرهارد لم يكن أول املكتشفن<br />

حيث عثر د.‏ خالد سعد مدير آثار ما قبل<br />

التاريخ على العديد من النقوش الصخرية<br />

داخل الكهف،‏ التي ترجع إلى أكثر من<br />

20 ألف عام،‏ وهذا يدل على أن إنسان ما قبل<br />

التاريخ كان يعلم جيداً‏ هذا الكهف،‏ واحتمى به<br />

ورسم فيه بعض نقوشه الصخرية التي توضح<br />

احلياة البيئية احمليطة به،‏ ومن الصعب بلوغ هذا<br />

الكهف بسهولة،‏ نظراً‏ لوقوعه أسفل سطح األرض،‏<br />

وال ميكن للعن املجردة مالحظته،‏ ودخوله يتم من<br />

خالل فجوة ضيقة تستدعي االنحناء والتحرك<br />

على اليدين والركبتن ملسافة قصيرة،‏ خالل نفق<br />

ضيق،‏ وفور بلوغ فسحة الكهف سيالحظ على<br />

جدران اجلانب األيسر نحت لبقر وإلنسان،‏ وهي<br />

منحوتات بالغة األهمية تاريخياً.‏ والكهف يقع على<br />

مسافة مائتي كيلومتر جنوب شرق الواحة البحرية،‏<br />

وهناك طريقتان لبلوغه،‏ إما من أعلى الهضبة<br />

اجليرية التي تفصل بين وادي النيل ومنخفضات<br />

الفرافرة والبحرية والداخلة،‏ وإما عن طريق واحة<br />

احلارة،‏ التي تقع جنوب الباويطي بواحة البحرية،‏<br />

ثم التحرك مبحاذاة شرق غرود أبومحرق حتى<br />

بلوغ الكهف.‏ وهو يقع بالصحراء الغربية على<br />

هضبة احلجر اجليري بجوار مدق اجلمال الذي<br />

يربط واحة الفرافرة مبحافظة أسيوط بوادي<br />

النيل.‏ وتنتشر على جدرانه منحوتات لإلنسان<br />

املصري األول الذي عاش بهذه املنطقة<br />

عندما كانت غنية باملياه منذ حوالي<br />

العدد - 692 يوليو 2016<br />

126


الكويت عاصمة الثقافة اإلسالمية 2016<br />

كشفت الكهوف وما رسم على جدرانها عن حضارة قدمية سكنت هذه الكهوف<br />

127<br />

كهوف عمرها 50 مليون سنة!‏


ثمانية آالف وستمائة عام قبل امليلاد،‏ وهي<br />

منحوتات تصور بشراً‏ وحيوانات وفنون الصيد<br />

في ذلك الوقت.‏ ومساحة قطاع جارة التي يقع<br />

بها الكهف ال تتعدى خمسة كيلومترات عرضاً‏ في<br />

عشرة كيلومترات طوالً.‏ فقد كانت احلياة محتملة<br />

في ذلك التاريخ،‏ نظراً‏ لتوافر كميات محدودة من<br />

املياه،‏ والثابت أن املياه كانت وفيرة في العصور<br />

السابقة لهذا التاريخ،‏ وهو ما أدى إلى تكوينات<br />

الصواعد والهوابط من أماح كربونات الكالسيوم<br />

داخل هذا الكهف.‏ وهناك حالياً‏ دراسات من علماء<br />

اآلثار والتاريخ منصبة على الربط بني حضارة<br />

وادي النيل وحضارات سكان واحات الصحراء<br />

املصرية الغربية تعتمد على فحص املخلفات،‏ مثل<br />

رؤوس األسهم واحلراب واخلناجر احلجرية.‏ فعلى<br />

مسافة خمسة عشر كيلومتراً‏ من غرود أبومحرق<br />

يقع هذا الكهف الذي اكتشف أعلاه أدوات<br />

ومخلفات اإلنسان األول،‏ وثبت وجود تشابه مؤكد<br />

بني اخلناجر احلجرية املكتشفة فيه وما اكتشف<br />

في مواقع فجر احلضارة الفرعونية بوادي النيل.‏<br />

التعبيرات التصويرية<br />

إذا كان عمر هذه الكهوف من عمر الزمان،‏<br />

إال أن تلك الرسومات التي تركها اإلنسان<br />

األول فوق جدرانها محل دراسات مهمة اآلن،‏<br />

وآخرها رسالة دكتوراه أثبتت أن هذه الرسومات<br />

كانت احملاولة األولى للكتابة،‏ حتى قبل اختراع<br />

‏»الهيروغليفية«,‏ وتقول الدراسات إن اإلنسان<br />

األول بدأ احلياة مبرحلة ‏»جمع القوت«،‏ حيث<br />

كان يسعى فيها إلى جمع قوته اليومي،‏ ثم تلتها<br />

مرحلة ‏»إنتاج القوت«،‏ التي تتمثل في طفرات<br />

حققها اإلنسان مثل استئناس احليوان ومعرفة<br />

الزراعة وإشعال النار،‏ وحتول من آكل اللحوم<br />

النيئة إلى اللحم املطهو بعد اكتشاف النار،‏<br />

وداخل الكهوف بدأ يظهر احتياج اإلنسان إلى<br />

اإلشباع الفكري والذهني والفني وإلى التفكير<br />

في خلق الكون.‏ وعندما فكر في أن يسجل<br />

أحداثه،‏ كانت الطبيعة من حوله هي املصدر<br />

الوحيد لإللهام،‏ فهداه تفكيره إلى أن ينقل<br />

بعضاً‏ مما في الطبيعة يعبر بالصورة عن املعاني<br />

التي يريد التعبير عنها،‏ وجاءت العامات ذات<br />

استخدام تصويري،‏ أي معبرة عن صورتها،‏ فإذا<br />

رسم إنساناً‏ فإنه يقصد التعبير عن اإلنسان،‏<br />

وكذلك احلال بالنسبة إلى أعضاء جسم اإلنسان،‏<br />

وكذلك الطيور والزواحف واحلشرات،‏ ومبرور<br />

مدخل كهف األرواح الطائرة<br />

العدد - 692 يوليو 2016<br />

128


الكويت عاصمة الثقافة اإلسالمية 2016<br />

األرواح الطائرة كما رسمها الفنان القدمي على جدران الكهف<br />

الوقت أدرك أن العالمات التصويرية غير كافية<br />

للتعبير عن أفكاره،‏ ولذلك أدخل دوراً‏ صوتياً‏ لهذه<br />

العالمات،‏ لتعطي كل عالمة صوتاً،‏ بل إنه جنح<br />

أيضاً‏ في صنع أدوات للكتابة وكذلك استطاع<br />

استخالص األلوان النباتية ليرسم بها على جدران<br />

الكهوف والتي مازالت زاهية حتى اآلن،‏ وتضمنت<br />

بعض الكهوف رسومات تعبر عن مكنون اإلنسان<br />

في ذلك الزمان،‏ حيث عبر بها عن عالقته األسرية،‏<br />

وهذا ما ترمز إليه رسومات لألسرة وأبناء ذلك<br />

اإلنسان،‏ يجلسون فوق رجليه أو في حضنه،‏ كما<br />

يعبر عن عالقته باملرأة وبالذات عالقاته الغرامية<br />

التي متثلت في رسومات يحتضن فيها املرأة.‏<br />

أقدم لغات العالم<br />

في واحدة من أحدث الدراسات العلمية التي<br />

ناقشتها كرسالة للدكتوراه بكلية اآلثار جامعة<br />

129<br />

كهوف عمرها 50 مليون سنة!‏


هذه الرسوم أدت إلى دراسات جديدة حول نشأة اللغة الهيروغليفية في مصر<br />

القاهرة للدكتور خالد سعد،‏ مت استخراج قاموس<br />

لنشأة اللغة املصرية القدمية وعديد من العالمات<br />

التصويرية التي تعد في األساس من أقدم لغات<br />

العالم.‏<br />

وقد أوضحت الدراسات العلمية التي أجريت<br />

على عديد من النقوش الصخرية والرسوم<br />

امللونة في الكهوف واملساقط اجلبلية،‏ أن اللغة<br />

املصرية القدمية بخطها املقدس ‏)الهيروغليفي(‏<br />

لم تكن وليدة املصادفة،‏ ولم تكن هي أقدم أنواع<br />

اخلطوط التي استخدمها اإلنسان في عصور ما<br />

قبل التاريخ.‏<br />

وأوضحت الدراسات أن النقوش الصخرية<br />

لم تكن حكراً‏ على مصر،‏ بل كانت منتشرة في<br />

عديد من بلدان العالم التي وجد فيها إنسان ما<br />

قبل التاريخ،‏ وأن هذه الرسوم أرجعها البعض<br />

إلى أنها من صناعة أحفاد إنسان ‏»النيزروتال«.‏<br />

كما أوضحت الدراسة املصرية أن املصريني<br />

القدماء هم أقدم شعوب العالم في استخدام<br />

العالمة التصويرية كمكوّن لغوي،‏ ثم أضافوا<br />

إليها داللة صوتية احتدوا عليها،‏ فأصبح الرجل<br />

يسمى ‏»أس«‏ والسيدة ‏»سي«‏ فنقول ‏»سي السيد،‏<br />

سي عمر«‏ واستمرت ‏»ست«‏ فنقول ‏»ست هامن«‏<br />

‏»ست البيت«‏ ‏»ست الدار«‏ وهكذا.‏<br />

وقد اعتمد علماء املصريات واللغة على<br />

مستوى العالم على عديد من الدراسات اللغوية<br />

والقواميس اخلاصة باللغة املصرية القدمية<br />

مثل قاموس ‏»اللغة املصرية القدمية«‏ للسير<br />

آالن جاردنر الذي يعد اقدم وأهم قواميس اللغة<br />

الفرعونية،‏ وشمل هذا القاموس جميع األشكال<br />

والعالمات التصويرية التي ظهرت في اآلثار<br />

املصرية.‏<br />

وأوضحت دراسة النقوش الصخرية<br />

والرسوم امللونة في الكهوف التي أجراها<br />

علماء اآلثار وجود كم كبير جداً‏ من العالمات<br />

التصويرية التي لم يجدها أي من علماء العالم،‏<br />

ولم تدرج في دراسات اللغة أو اآلثار املصرية،‏<br />

وكانت هي األساس في نشأة اللغة املصرية<br />

القدمية املقدسة ‏)الهيروغليفية(،‏ وسمي هذا<br />

القاموس باسم ‏»ما قبل الهيروغليفية«،‏ الذي<br />

اكتشف كثيراً‏ من العالمات التصويرية اجلديدة<br />

في احلضارة الفرعونية التي تعد بذلك أقدم<br />

لغات العالم ><br />

العدد - 692 يوليو 2016<br />

130


وزارة اإلعالم<br />

نستقبل إعالناتكم التجارية على صفحات مجلة العربي<br />

إدارة اإلعالن التجاري - وزارة اإلعالم<br />

بدالة )00965( 1802002 داخلي - 111 114 فاكس:‏ )00965( 24824131<br />

اإلعالن والتوزيع مبجلة العربي:‏ )00965( 22512043 - الفاكس:‏ )00965( 22512044<br />

العنوان البريدي:‏ ص ب - 748 الصفاة - الرمز البريدي 13008- الكويت.‏<br />

للتواصل مع مجلة العربي على املواقع املؤقتة التالية:‏<br />

E.mail: arabimag@arabimag.net<br />

E.mail: arabimag58@gmail.com


عمارة<br />

سنَّان باشا ...<br />

فنان العمارة اإلسالمية<br />

رشا عدلي<br />

كاتبة وباحثة في تاريخ الفن من مصر<br />

إن ما يميز العمارة اإلسلالمية هو تصميم هندسة المآذن والقباب،‏ فقد<br />

ارتبطت ارتباطاً‏ وثيقاً‏ بالعمارة اإلسلالمية،‏ وبخاصة عمارة المساجد،‏<br />

وقد شهدت المزيد من التطوير واإلبداع،‏ على أيدي طائفة كبيرة من<br />

المعماريين المسلمين إبان العصر الوسيط،‏ حتى صارت تُصنَّف ضمن<br />

طُ‏ ‏رز مُ‏ تعددة أقدمها الطراز األموي،‏ وأحدثها الطراز العثماني،‏ وهذا األخير<br />

تجسَّ‏ ‏د بكل مُ‏ قوماته وخصائصه الفنية والهندسية،‏ في المآذن والقِباب<br />

التاريخية،‏ التي تزدان بها المساجد الكبرى في مدينة اسطنبول التركية.‏<br />

العدد - 692 يوليو 2016<br />

132


الكويت عاصمة الثقافة اإلسالمية 2016<br />

املسجد األزرق في تركيا<br />

133<br />

سنَّان باشا ... فنان العمارة اإلسالمية


‏»نحن ال نشيِّد المباني<br />

التي تطفو في فضاء خاوٍ‏ بل<br />

نعكس انسجام الطبيعة<br />

وروح المكان«..‏<br />

سنَّان باشا<br />

مما ال شك فيه أن العمارة العثمانية فريدة<br />

جتمع ومتزج بني عدة فنون في وقت واحد،‏<br />

واستطاعت أن تطغى وتنتشر في سائر البالد<br />

التي مت فتحها في أيام اإلمبراطورية العثمانية،‏<br />

شرقاً‏ وغرباً.‏<br />

وأكثر ما تفرَّدَت به هذه العمارة وفرضته<br />

على جميع الدول والبلدان هو عمارة املساجد،‏<br />

وشاءت الظروف أن يعاصر معماري عبقري،‏<br />

وهو يوسف الرومي الذي سيعرف الحقاً‏ باسم<br />

سنان باشا،‏ اإلمبراطورية العثمانية في أوج<br />

قوتها وتألقها،‏ فقد أتاح له عمره الذي قارب<br />

املائة عام أن يعاصر العهد الذهبي لسلالطني<br />

عدة...‏ السلطان بايزيد والسلطان سليم األول،‏<br />

والسلطان سليمان القانوني،‏ والسلطان مراد،‏<br />

والسلطان سليم الثاني،‏ ويُعَد أحد أبرز وأشهر<br />

البنَّائني املسلمني في القرن العاشر الهجري/‏<br />

السادس عشر امليالدي.‏<br />

فقد متيَّزَت أعماله البنائية واملعمارية<br />

بالكثرة،‏ والقوة واملتانة والضخامة،‏ وبفيض من<br />

مسجد سنان باشا بحي بوالق بالقاهرة<br />

العدد - 692 يوليو 2016<br />

134


الكويت عاصمة الثقافة اإلسالمية 2016<br />

جامع السليمانية في إسطنبول<br />

ملسات اجلمال املعماري الالفت،‏ ومن ثَم أطلق<br />

األتراك عليه لقب ‏»أبو العمارة التركية«‏ وخالل<br />

رحلة عمره لم يحدث أن توقف يوماً‏ عن البناء<br />

والهندسة والتشييد والتخطيط.‏ وفي احلقيقة<br />

كانت هناك عوامل ومؤثرات عدة مبنزلة أدوات<br />

جناح لهذا الرجل،‏ ساعدته ليحقق كل هذه<br />

األعمال املعمارية الشامخة،‏ إنه يوسف بن خضر<br />

بك بن جالل الدين احلنفي الرومي،‏ الشهير ب<br />

‏»سنَّان باشا«،‏ سنَّان أغا،‏ ميمار سنَّان،‏ خوجة<br />

باشا،‏ ولد في إحدى قرى األناضول ويُطلق<br />

عليها ‏»أغريناس«‏ ألسرة مسيحية يقال إنها<br />

أناضولية،‏ وفي أخرى يونانية،‏ وقد ظهرت عليه<br />

موهبة البناء واإلنشاء منذ صغره،‏ فكان يجلس<br />

بالساعات منهمكاً‏ في بناء األكواخ والبيوت من<br />

الطني.‏<br />

ولم يكن أكمل العاشرة من عمره بعد،‏ عندما<br />

أُخِ‏ ذ عُنوة من أسرته وفق نظام ‏»الدوشيرمة«،‏<br />

وهو نظام يعمل على جمع الفتيان الصغار من<br />

جميع املدن التي تقع حتت سطوة اإلمبراطورية<br />

العثمانية،‏ ومن ثَم يتم إحلاقهم مبدارس خاصة<br />

يتعلمون فيها جميع العلوم والفنون،‏ ثم يتم<br />

إحلاقهم بعدها باملدرسة العسكرية ليصبحوا<br />

جنوداً‏ انكشاريني،‏ وكان الفتى سنَّان ضمن<br />

فتيان عدة من األناضول وقع عليهم االختيار<br />

ملِ‏ ‏َا كان يظهر عليه من نباهة وذكاء،‏ فالتحق<br />

أوالً‏ مبدرسة ابتدائية ثم استكمل تعليمه في<br />

‏»األوجاق«،‏ وهي مدرسة معمارية خاصة<br />

تخرج فيها كبار املعماريني،‏ ممن شيدوا أعظم<br />

اآلثار في تاريخ العمارة اإلسلالمية والعاملية،‏<br />

ثم انضم من بعدها للجيش ليتلقَّى هناك<br />

التعليم العسكري،‏ وخرج في حمالت عسكرية<br />

إلى بلدان عدة،‏ منها بلجراد واملجر والبلقان<br />

135<br />

سنَّان باشا ... فنان العمارة اإلسالمية


صحن مسجد السليمانية من الداخل<br />

وفارس والشام و العراق ومصر،‏ وقد حصل<br />

على مكانة كبيرة في اجليش نظراً‏ جلهوده<br />

في تصميمات بناء السفن احلربية واجلسور<br />

والقالع واحلصون احلربية.‏<br />

من العمارة العسكرية إلى املدنية<br />

جاء تفوقه كمعماري كبير في عهد السلطان<br />

سليمان القانوني،‏ وهو بال شك العصر الذهبي<br />

لإلمبراطورية العثمانية،‏ وفي إحدى احلمالت<br />

العسكرية مع السلطان سليمان أنشأ املعماري<br />

العبقري جسراً‏ فوق نهر بروت خالل 14 يوماً،‏ وبنى<br />

آخر على نهر الدانوب،‏ ولذا منحه السلطان لقب<br />

كبير مهندسي الدولة العثمانية،‏ وقد أدى خروج<br />

املعلم سنَّان لفتوحات احلربية األوربية مع اجليش<br />

العثماني إلى صقل موهبته،‏ فكانت هناك فرصة<br />

لالطلالع على العمائر األوربية والفنون املختلفة،‏<br />

وقد تأثر كثيراً‏ بفنون عصر النهضة،‏ الذي كان في<br />

أوجّ‏ شهرته وانتشاره وقتها،‏ وكانت أعمال مايكل<br />

أجنلو املختلفة نبراس نور له،‏ باإلضافة لتأثره<br />

مسبقاً‏ باجلانب الفني للعمارة السلجوقية،‏ حيث<br />

كل ما حوله من مبان وعمائر في األناضول ال يخلو<br />

منها،‏ ونشأت في عقلهِ‏ فكرة املزج بين العمارة<br />

األوربية الضخمة التي متتاز بالزخارف والتشكيل،‏<br />

واملدرسة السلجوقية املعمارية مبفهومها اإلسالمي.‏<br />

من جهة أخرى نشأ الفتى احملب للعمارة والتشييد<br />

أمام كاتدرائية آيا صوفيا بإسطنبول،‏ التي حتولت<br />

بعد فتح محمد الفاحت إلى مسجد إسالمي ضخم<br />

أمامه يحمل االسم نفسه،‏ ومن خالل هذا الصرح<br />

الضخم الذي كان دائماً،‏ فكر ملاذا ال يكون العمل<br />

الديني ضخماً‏ كما هي ضخامة آيا صوفيا،‏<br />

فالضخامة تعطي وقاراً‏ وجماالً؟ وميكننا أن نقول<br />

إن سنَّان باشا تأثر بأشكال عدة للعمارة األوربية،‏<br />

العدد - 692 يوليو 2016<br />

136


الكويت عاصمة الثقافة اإلسالمية 2016<br />

متثال سنّان باشا في تركيا<br />

اإلسلامية،‏ والسلجوقية،‏ ومر أيضاً‏ مبراحل عدة،‏<br />

هي مرحلة أن كان تلميذاً،‏ مرحلة املعماري املتمكن،‏<br />

وأخيراً‏ مرحلة األستاذ الذي يخطط للعمل ويشرف<br />

عليه.‏ وكان له أربعة من أمهر الطلبة تدربوا علي<br />

يديه وجتلت أعمالهم في أماكن مختلفة،‏ ومن<br />

تامذته أحمد أغا،‏ وداوود أغا،‏ ويتيم بابا علي،‏<br />

ويوسف،‏ وسنَّان الصغير،‏ وينسب إليه تشييد<br />

قصور الهور ودلهي وأكرا للسلطان املغولي الشهير<br />

جال الدين أكبر في الهند،‏ وعُينِّ‏ سنَّان باشا كبير<br />

املعماريي للدولة العثمانية بعد وفاة علي عجم<br />

وكان هذا عام )944 هجرية/‏‎1538‎م(.‏<br />

أسطورة القباب اإلسالمية<br />

إن القِ‏ باب هي أهم ما يُ‏ ‏َينِّز أعمال سنّان<br />

باشا،‏ وقِ‏ باب جمع قُبَّة،‏ وهي تستخدم للتسقيف<br />

وتُ‏ ثل نصف كرة مجوفة تقف على أعمدة<br />

وجدران،‏ وعُرِ‏ فَت في صورتها البدائية منذ<br />

أوائل األلفية الرابعة قبل املياد في شمال<br />

العراق وشرق سورية،‏ ثم في شمال إفريقيا،‏ ثم<br />

اقتبسها اإلغريق لتسقيف مقابرهم،‏ ووُجِ‏ دَت<br />

أيضاً‏ في أعمال املصريين القدماء،‏ وتطورت<br />

التطور احلقيقي لها عند الرومان،‏ كالتي تُزَينِّن<br />

آيا صوفيا في إسطنبول،‏ وهي بعدد من املآذن،‏<br />

وأشرف على بنائها عند حتويلها ملسجد سنَّان<br />

باشا،‏ وقبة املسجد األقصى ومسجد الرسول<br />

صلى الله عليه وسلم باملدينة املنورة،‏ إال أن<br />

مسجد شاه زاد هو التجربة األولى له في<br />

تصميم بناء القِ‏ باب.‏<br />

يُعْتَبَر مسجِ‏ د السُ‏ ‏لَيْمانية في أدرنة هو<br />

حتُ‏ فته املعمارية،‏ في حي تُعد عِ‏ مارة مَجْ‏ مَع<br />

السُ‏ لَيْمانية هي مرحلة النضوج في بناء القباب.‏<br />

ويقول سنَّان عن دواعي إبداعه في هذا<br />

137<br />

سنَّان باشا ... فنان العمارة اإلسالمية


املسجد:‏ ‏»إن املعماريين اآلخرين يقولون إننا<br />

متفوقون على املسلمن،‏ ألن عالم اإلسالم يخلو<br />

من قبة عظيمة مثل آيا صوفيا،‏ وإن بناء مثل<br />

هذه القبة الضخمة أمر غاية في الصعوبة،‏<br />

وكان لكالمهم هذا تأثيره املؤلم في قلب هذا<br />

العبد العاجز ‏)يقصد نفسه(،‏ لذلك بذلت<br />

الهمةَ‏ العالية في بِناءِ‏ هذا اجلامع،‏ وبعون الله<br />

ثم بتشجيع السلطان سليم خان،‏ قمت بإظهار<br />

املقدرة،‏ وأقمت قُبة هذا اجلامع أعلى من قُبة<br />

آيا صوفيا بست أذرع وأعمق بأربع أذرع«،‏ وفي<br />

حديثهِ‏ حول عبقرية الفن املعماري،‏ في جامع<br />

السُ‏ لَيْمَانِية،‏ يقول املؤرخ روبير مانتران،‏ إنه بكل<br />

تأكيد،‏ هو األروع واألجمل،‏ بن كل مساجد<br />

وجوامع مدينة إسطنبول،‏ ‏»إنه يبدو مُفعما<br />

بالوضوح،‏ وببساطة حتجب علماً‏ عميقاً،‏<br />

وتتطابق ترتيباته الداخلية،‏ تطابقاً‏ وثيقاً،‏ مع<br />

تراكيب اجلهاز الداخلي،‏ األكبر بكثير مما<br />

في آيا صوفيا«.‏ ويُضيف برنارد لويس ‏»إن<br />

جامع السُ‏ لَيْمانية،‏ الذي شُ‏ يّد بعد قرن من فتح<br />

إسطنبول،‏ يُصوّر هيكل بنائه،‏ وطريقة زخرفته،‏<br />

مدى التأثر بينابيع التقليد اإلسلالمي األولى،‏<br />

وأصالة حياته الدينية واجلمالية في جوهرها،‏<br />

ومتيزها في آن واحد«.‏<br />

ساحة اجلامع األزهر بالقاهرة<br />

سنان باشا ومايكل أجنلو<br />

وأيضاً‏ قال العالِم األملاني وأستاذ تاريخ<br />

العمارة في جامعة فيينا ‏»ه.‏ كلوك«‏ عن سنَّان<br />

باشا:‏ ‏»إنه يتفوق فنياً‏ علي مايكل أجنلو صاحب<br />

أكبر اسم فني في احلضارة األوربية«.‏<br />

وكان ‏»ميمار سنَّان«‏ ‏)‏‎1489‎م - ‎1580‎م(‏ معاصراً‏<br />

ملايكل أجنلو ‏)‏‎1564-1475‎م(،‏ وعاش كالهما عمراً‏<br />

طويلالً‏ امتد إلى 90 سنة تقريبا،‏ ما أتاح لهما<br />

حتقيق إجنازات.‏ وامتدت حياة سنَّان باشا حتى<br />

اقترب من املائة،‏ وعاصر خمسة من سلالطن<br />

الدولة العثمانية،‏ وبعد حياة مليئة بجالئل األعمال،‏<br />

تُوفِّيَ‏ سنَّان باشا في ‏)‏‎996‎ه / ‎1588‎م(‏ تاركاً‏ ذكرى<br />

ال تضيع،‏ وتقف أعماله التي تزيد على أربعمائة<br />

أثر معماري شاهدة على عبقريته في عالم البناء<br />

العدد - 692 يوليو 2016<br />

138


الكويت عاصمة الثقافة اإلسالمية 2016<br />

قبة مسجد السليمية من الداخل<br />

والتشييد،‏ واعتبرته دائرة املعارف اإلسالمية التي<br />

أصدرها املستشرقون واحداً‏ من أعظم املعماريني<br />

الذين ظهروا في التاريخ ، واألمر األكثر غرابة<br />

أنه كان في القرن السادس عشر اثنان من أعالم<br />

الدولة العثمانية باالسم واللقب نفسيهما ‏»سنان<br />

باشا«،‏ أولهما رائد العمارة العثمانية،‏ واآلخر قائد<br />

المع وسياسي عرف بدهائه،‏ وجنح في أن يصبح<br />

الرجل الثاني في الدولة العثمانية،‏ هما ‏»سنان باشا<br />

املعماري«‏ والوالي والسياسي احملنك سنان باشا بن<br />

علي بن عبدالرحمن«.‏ ويخلط البعض بني الرجلني<br />

ألن كالً‏ منهما كان له االسم والرتبة نفسيهما،‏ وكل<br />

منهما جاء في العصر نفسه وليس ذلك فقط،‏ ولكن<br />

سنان باشا الوالي كان أيضً‏ ا مولعاً‏ باملعمار،‏ وامتدت<br />

حياته لقرابة املائة عام،‏ فقد ولد عام 1506 وتوفي<br />

في 1596، وتقلد فيها والية مصر مرتني )1567 -<br />

1568( ومرة أخرى في )1571 – 1573( وقاد حمالت<br />

عدة لفتوحات عربية،‏ مثل اليمن وتونس،‏ وتولى<br />

منصب الصدر األعظم،‏ وتقلد والية دمشق.‏ ومن<br />

اآلثار التي أشرف عليها هذا القائد احملب للمعمار،‏<br />

إعادة فتح خليج اإلسكندرية وبناء قصر في حي<br />

الزيتون،‏ واألهم من كل ذلك هو املسجد الذي يحمل<br />

اسمه ويقع في شارع ‏»السنانية«‏ مبنطقة بوالق،‏<br />

ويعد ثاني جامع عثماني مت بناؤه في القاهرة بعد<br />

جامع سليمان بالقلعة،‏ ويبلغ طوله 35 متراً‏ وعرضه<br />

27، وميتاز بقبة مركزية كبيرة محاطة بكثير من<br />

األيقونات،‏ وكانت القبة مغطاة بالرصاص،‏ كما جاء<br />

في ‏»سياحة نامة«‏ ووصفها أُوليا جلبي بقوله:‏ ‏»إنها<br />

قبة جميلة كأنها صنعت في مصنع السماء«.‏ وقد<br />

جاء تصميم هذا املسجد على النهج املعماري لسنان<br />

باشا املعماري التركي،‏ وجتسدت فيه مظاهره<br />

البنائية،‏ ويطل على النيل مباشرة.‏<br />

وله أيضاً‏ مجموعة خيرية في ساحة باب اجلابية<br />

بدمشق،‏ تضم جامعاً‏ ومدرسة وسبيال للماء.‏ وميتاز<br />

اجلامع الذي شرع الوالي في بنائه عام ‎1586‎م عن<br />

غيره من مساجد دمشق مبناراته املستديرة واملكسوة<br />

بألواح القاشاني األخضر ><br />

139<br />

سنَّان باشا ... فنان العمارة اإلسالمية


سينما<br />

أندريه تاركوفسكي:‏<br />

صناعة األفالم تعني البحث عن الجمال الخالص<br />

محمد الفقي<br />

كاتب من مصر<br />

يتهيب المرء عند الكتابة عن أندريه تاركوفسكي،‏ فهناك أوالً‏<br />

اإلشفاق على النفس عند التفكير في الكتابة عن هذا الفنان العظيم،‏<br />

وهناك أيضاً‏ حشود األفكار التي تتالحق حين يُذكر تاركوفسكي أو أحد<br />

أعماله،‏ فضالً‏ عن الشك في أال تكون الكلمات هي الوسيلة األنسب<br />

للتعبير عن سينماه،‏ بثقلها البصري والروحي والميتافيزيقي.‏ لذلك<br />

اخترنا أسلوب المالحظات لكتابة هذا المقال،‏ آملين أن نبرز الفكرة أكثر<br />

من تجميل الصياغات،‏ سعياً‏ لتجنب االلتباس الذي قد يسببه استخدام<br />

جماليات اللغة عند الحديث عن سينما تاركوفسكي،‏ وهو التباس<br />

مطلوب في العمل الفني،‏ مكروه عند التصدي لقراءته.‏<br />

أندريه تاركوفسكي<br />

العدد - 692 يوليو 2016<br />

140


الكويت عاصمة الثقافة اإلسالمية 2016<br />

تاركوفسكي خالل إخراج أحد أفالمه<br />

ال يفوت القارئ الذي أوتي نفاذ البصيرة أن<br />

يدرك أن هذه املقدمة الزائدة،‏ إمنا تأتي من باب<br />

التماس العذر حملاولة الكتابة عن تاركوفسكي.‏<br />

أرثوذكسية الفن<br />

في البداية هناك ملمح الرجل امللتزم أشد االلتزام<br />

بعمله،‏ فتاركوفسكي ليس من طينة الكسالى امللهمني<br />

املنجرفني في أحالمهم.‏ كان الرجل ميقت تلك اخلرافة<br />

التي خلقها الفنان البوهيمي حول عملية اإلبداع،‏ وكان<br />

االلتزام عنده يعني صنع األفلالم بوعي كامل،‏ ويعني<br />

أيضاً‏ التضحية،‏ وواجب الفنان في التأثير على<br />

جمهوره إليقاظ اجلانبني اجلمالي والروحاني فيه،‏ ال<br />

تدميرهما.‏ أرثوذكسية الفن عند تاركوفسكي تبدو كما<br />

لو أن الفن يطالب بشروط قدسية املمارسة الدينية<br />

نفسها:‏ إميان،‏ وصبر،‏ ومواظبة،‏ وإخالص،‏ وتضحية.‏<br />

في محادثة له مع السيناريست اإليطالي تونينو جويرا،‏<br />

يقول تاركوفسكي:‏ ‏»السينما فن معقد ومهم جداً،‏<br />

وأعتقد أن علينا أن نقدم ذواتنا قرباناً‏ لهذا الفن«.‏<br />

ملمح آخر من أخالق الفن عند تاركوفسكي هو<br />

أن يكون السينمائي قادراً‏ على البحث املتواصل عن<br />

اجلمال اخلالص الذي هو مطمح كبار الفنانني كما<br />

كبار الصوفيني؛ ذلك اجلمال الذي يظل وفياً‏ لطبيعته<br />

اجلوهرية عندما تحُ‏ جب الصنعة والعمليات التقنية.‏<br />

كان عمله هو سعي دائم لإلمساك بهذا اجلمال؛ في<br />

كل فكرة،‏ ولقطة،‏ وتشكيل،‏ وتعبير،‏ ولون،‏ وحركة.‏ إن<br />

عبقرية تاركوفسكي هي عبقرية جمالية تتغذى على<br />

اجلمال،‏ وأصبحت معه السينما – للمرة األولى -<br />

موضوعاً‏ للجمال.‏ نتذكر في هذا املقام مقولة ستيفان<br />

تروفيموفيتش في رواية ‏»الشياطني«‏ لدوستويفسكي<br />

‏»والذي كان تاركوفسكي يحبه ويقدره كثيراً«:‏ ‏»هل<br />

تعلمون أن اإلنسانية تستطيع أن تستغني عن اخلبز،‏<br />

وعن العلم،‏ ولكنها ال تستطيع أن تستغني عن اجلمال؟!‏<br />

إن اجلمال وحده ال غنى لها عنه،‏ إذ من دون اجلمال<br />

ال يبقى لنا على األرض ما نعمله!‏ هذا هو السر كله!‏<br />

ذلكم هو كل التاريخ!«.‏<br />

رمبا يكون تاركوفسكي كذلك من أكثر السينمائيني<br />

الذين متسكوا بحريتهم في اإلبداع،‏ على الرغم من<br />

املعاناة واحلصار اللذين جوبه بهما داخل االتاد<br />

141<br />

أندريه تاركوفسكي:‏ صناعة األفالم تعني البحث عن اجلمال اخلالص


السوفييتي؛ من السياسيني والرقباء على حد سواء.‏<br />

كان يرى أن شرط الفنان السينمائي هو اإلخالص<br />

الكامل لفنه،‏ وكان تقديره ضئيالً‏ ملن هم ليسوا أهالً‏<br />

لذلك؛ أولئك الذين يضعون الفن في خدمة السياسي<br />

أو التاجر.‏ كان أيضاً‏ ميقت طريقة ‏»هوليوود«‏ في صنع<br />

األفالم التجارية بالطريقة نفسها التي يتم بها إنتاج<br />

السجائر واملياه الغازية،‏ ولكونه فناناً‏ حراً‏ كان يحتقر<br />

هذا النوع من النجاح،‏ وعرف أن الثمن الذي يُدفع<br />

للحصول على اجلمال اخلالص هو التضحية بالنفس<br />

قرباناً‏ للفن.‏<br />

الزمن في سينما تاركوفسكي<br />

آمن تاركوفسكي بأن املادة اخلام للسينما هي الزمن،‏<br />

فهو املادة األولية الوحيدة التي ال يستطيع السينمائي أن<br />

يخلقها؛ هو مكمن قوة وفخر السينما ‏»ونقطة ضعفها<br />

في آن واحد«،‏ فالسينما هي الوسيلة الفنية األكثر<br />

قدرة على عرض الزمن،‏ والوعي بجمالياته،‏ وبنائيته،‏<br />

وحتوالته.‏<br />

رمبا يكون فيلمه ‏»املرآة«‏ هو املثال األوضح<br />

على الفكرة املعقدة للزمن لدى تاركوفسكي،‏ وعلى<br />

طريقته في استخدام الزمن.‏ ف ‏»املرآة«‏ هو فيلم عن<br />

املخرج نفسه وعن ذكريات طفولته،‏ وبالتالي فإنه ال<br />

يتناول زماناً‏ واحداً،‏ بل يتراوح السرد فيه بني األمام<br />

واخللف،‏ في احلاضر واملاضي،‏ وعلى نحو يصبح<br />

فيه املاضي حاضراً،‏ وتذوب فيه اخلطوط الفاصلة<br />

بينهما،‏ بفكرة الدميومة نفسها عند الفيلسوف الكبير<br />

هنري برجسون؛ أي إن الزمن هنا هو الزمن النفسي<br />

الداخلي،‏ الذي يتكون من حلظات من املاضي<br />

واحلاضر متجددة دون انقطاع،‏ تتداخل مع بعضها<br />

بعضاً‏ لتشكل تياراً‏ واحداً،‏ وبهذا املعنى يكون الزمن<br />

هو دميومة حية ومعيشة،‏ يعيشها اإلنسان داخلياً،‏<br />

وتُبقي األحوال املاضية حية ومتجانسة وعضوية<br />

داخل األحوال احلاضرة.‏<br />

يتحرك فيلم ‏»املرآة«‏ بحرية محسوبة حساباً‏ دقيقاً،‏<br />

ما بني احلاضر واملاضي،‏ ما بني األلوان واألبيض<br />

واألسود،‏ ما بني الدراما واملادة التسجيلية وإعادة خلق<br />

الوقائع.‏ ولكنه في تناوله للماضي ليس فيلماً‏ عادياً‏<br />

من أفالم السير الذاتية للمخرجيني.‏ فحتى اجلزء<br />

التسجيلي في الفيلم،‏ الذي يتناول فترات:‏ ‎1935‎م،‏<br />

‎1943‎م،‏ ‎1969‎م،‏ يكون التذكر فيه تذكراً‏ موضوعياً‏ ال<br />

ذاكرة ذاتية.‏ وبقدر ما تبدو املشاهدة األولى صعبة<br />

ومربكة،‏ فإن املشاهدات التالية تثبت كم أن الفيلم<br />

شديد الطبيعية واالتساق والعضوية في حكي قصة<br />

الذكريات باستخدام األسلوب البصري.‏ إن فيلم<br />

‏»املرآة«‏ يطمح إلى احلب،‏ ولكن ليس من أول نظرة،‏<br />

بل من آخر نظرة.‏ فالفيلم اخلالي من الصدمات،‏<br />

يتسلل في املشاهدات التالية إلى وعي املتفرج،‏ فيصبح<br />

جزءًا من خبرته الشخصية،‏ وكأن مضي الزمن هنا<br />

هو احملدد لتقييم جمالية الفيلم،‏ مثلما تبدو قطعة<br />

موسيقية غريبة في البداية ثم تعتادها النفس حتى<br />

تصبح هي املثال على الطبيعية في الفن،‏ ألن فيها<br />

تتحقق قوانني اجلمال.‏<br />

إن كل شيء عند تاركوفسكي هو عن الزمن،‏<br />

واملكان عنده خادم في بلالط الزمن،‏ بل إنه يحل<br />

تعبيرياً‏ في كثير من األحيان محل الزمن الذي يكون<br />

هو من وراء القصد،‏ كما حتل املسافة املكانية محل<br />

املسافة الزمانية،‏ فيصبح النجم املذنّب الذي يقطع<br />

املسافة املكانية في الفضاء هو الرمز لتحقيق أمنية<br />

يتمناها املرء في زمن مقبل،‏ وبهذا املعنى يصبح<br />

املكان رمزاً‏ للزمن في فيلم ‏»سوالريس«،‏ الذي تدور<br />

أحداثه في محطة فضائية بعيدة عن األرض وقريبة<br />

من كوكب غريب يرسل الذكريات الشخصية لكل من<br />

يقترب منه،‏ فتمحى الفواصل بني املاضي واحلاضر،‏<br />

بل يصبح املاضي أقوى حضوراً‏ من احلاضر نفسه<br />

‏»في صورة الزوجة املتوفاة التي تعود مراراً‏ للحياة<br />

مع البطل في احملطة الفضائية«.‏ في ‏»سوالريس«،‏<br />

كما في ‏»نوستاجليا«،‏ الزمن ليس هو الزمن األرضي<br />

الدنيوي،‏ ليس هو زمن النسيان،‏ ولكنه زمن التذكر،‏<br />

زمن الدميومة.‏ وجعل الدميومة حاضرة على الدوام،‏<br />

واملاضي جزءاً‏ حيوياً‏ من احلاضر هو ما يُخلص الروح<br />

من وسواس الزمن،‏ وهو نفس ما حاول القيام به سابقاً‏<br />

مارسيل بروست في رائعته ‏»البحث عن الزمن الضائع«،‏<br />

التي أسسها على إعادة تخليق اخلبرة املاضية ضمن<br />

شروط احلاضر املعيش.‏<br />

هنا تتحد احلياة الفعلية مع احلياة التأملية،‏ ويكون<br />

كالهما في خدمة الذهن،‏ وتطيع الذاكرة نداءات الذهن<br />

وتستجيب له.‏ فزمن الدميومة متكامل وليس ممزقاً‏ وال<br />

متشظياً،‏ فاملاضي واحلاضر يدوران في تيار واحد،‏<br />

العدد - 692 يوليو 2016<br />

142


الكويت عاصمة الثقافة اإلسالمية 2016<br />

لقطة من فيلم أندريه روبليف<br />

لكنهما بالنسبة لتاركوفسكي،‏ كما كانا بالنسبة لبروست،‏<br />

ماض وحاضر منتقيان بعناية.‏<br />

إن تاركوفسكي ال ينفتح إال على القلة القليلة من<br />

األيام التي لها مغزى وداللة؛ التي تبدو كأيام تكتمل<br />

فيها دائرة الزمن،‏ إلى الدرجة التي تعيدنا فيها<br />

مشاهد التذكر إلى ما يشبه األزمنة القدمية،‏ واأليام<br />

البدائية،‏ في منطق أشبه باألحلالم،‏ وكأن أفالمه<br />

تريد تذكيرنا مبعطيات ما قبل التاريخ،‏ وكأن الصور<br />

السينمائية قادرة على ما لم تستطعه حتى اآلن أي<br />

خبرة إنسانية.‏<br />

‏»املرآة«‏ و»سوالريس«‏ و»نوستاجليا«‏ ال تبدو<br />

أفالماً‏ عن تأبني أزمنة أفلتت وانقضى أوانها بقدر<br />

ما هي أفالم عن التذكر،‏ ليس بوصفه تاريخاً،‏ بل<br />

بوصفه مما قبل التاريخ.‏ فااللتقاء باحليوات السابقة<br />

للبطل يجعلنا كأننا في أيام أعياد،‏ وما يجعل األعياد<br />

عظيمة هو االلتقاء بحيوات من احتفلوا بها سابقاً‏<br />

واإلنصات فيها إلى همهمة املاضي.‏ إن الزمن في<br />

أفالم تاركوفسكي يصبح محسوساً‏ على نحو فائق،‏<br />

رمبا ألن الزمن هنا خارج التاريخ،‏ إذا كان التاريخ<br />

يعني التسلسل الزمني الذي يترك عرشه ملفهوم<br />

الزمن بوصفه الدميومة؛ بوصفه األبدية.‏<br />

بعض اخلصائص البصرية لسينما تاركوفسكي<br />

يعارض تاركوفسكي براديكالية استخدام املخرج<br />

واملنظر الروسي سيرجي أيزنشتاين ألسلوب ‏»املونتاج<br />

الفكري«؛ أي جتميع لقطتني لهما فكرتان مختلفتان،‏<br />

مما يُنتج فكرة ثالثة جديدة في ذهن املُشاهد،‏ ويعارض<br />

أيضاً‏ ما يستتبع ذلك من أسلوب اإليقاع السريع.‏ كان<br />

تاركوفسكي يرى أن أسلوب أيزنشتاين ال يترك مساحة<br />

لروح املُشاهد،‏ وال مكاناً‏ ملا هو مسكوت عنه،‏ وال للصوت<br />

الداخلي في اإلنسان،‏ وال لاللتباس الذي هو أهم ما<br />

في الفن.‏<br />

لقطة للجماهير احملتشدة )+( تتبعها لقطة لتمثال<br />

ألسد يهم بالنهوض )=( تساوي فكرة أن اجلماهير<br />

ستقوم بثورة؛ كان تاركوفسكي يكره مثل هذا األسلوب<br />

في صنع السينما،‏ ألنه يرفض فرض نوع من امليكانيكية<br />

التي هي ليست من صلب العمل،‏ وألن تشظية الزمن،‏<br />

واملكان،‏ واحلدث،‏ ضد طبيعته،‏ ولذلك رفض أيضاً‏<br />

استخدام القطع املتوازي ‏)أي عرض حدثني يقعان في<br />

مكانني مختلفني في الزمن نفسه(.‏<br />

143<br />

أندريه تاركوفسكي:‏ صناعة األفالم تعني البحث عن اجلمال اخلالص


إن تاركوفسكي ال يستخدم التتابع السينمائي كما<br />

هو متعارف عليه كالسيكياً،‏ بل تبدو أفالمه وكأنها<br />

مضادة للسينما.‏ السينما التي أخضعت مركز احلس في<br />

عقل اإلنسان لنوع معقد من التدريب،‏ والتي راحت تشبع<br />

حاجة جديدة خلقتها إلى املثيرات،‏ في أفالم يؤسَ‏ ‏س<br />

اإلدراك فيها في شكل صدمات متتالية،‏ وكأن إيقاع<br />

اإلنتاج الصناعي الكبير على سير ناقل احلركة في خط<br />

التجميع قد انتقل هو أيضاً‏ إلى طريقة الفرجة،‏ وحدد<br />

إيقاع الفيلم.‏<br />

هنا يأتي تاركوفسكي ليطيح بكل ذلك بضربة<br />

جمالية واحدة،‏ وكأنه يبارز اإلنتاج الكبير بالعمل اليدوي<br />

احلرفي املرتبط بإرادة صانعه،‏ تلك اإلرادة التي تختفي<br />

في اإلنتاج الرأسمالي الفيلمي،‏ حيث اإلنتاج فيها<br />

مستقل عن إرادة السينمائي؛ يدخل الفيلم إلى مجال<br />

حركته ويبتعد في خط اإلنتاج من دون إرادته،‏ ويتعلم<br />

اجلميع تنسيق حركاتهم وحيواتهم وأفكارهم مع احلركة<br />

املنتظمة لإلنتاج السينمائي الكبير؛ الذي يعمل بدوره<br />

كمخدر،‏ وكوسادة المتصاص الصدمات في املجتمع<br />

االستهالكي؛ مثل العربات املتصادمة في مدينة املالهي<br />

التي تقوم بدور اإللهاء وتفريغ الصدمات للزبون.‏ وبهذا<br />

املعنى يصبح اإليقاع السريع في األفالم التجارية الزماً،‏<br />

وهو مياثل اإليقاع السريع حلركة يد موزع الورق في<br />

ألعاب احلظ والقمار،‏ والكدح الذي ميارسه العاملون<br />

في السينما هنا يشبه الكدح الذي ميارسه املقامر على<br />

طاولة اللعب؛ الالجدوى نفسها،‏ واخلواء،‏ ونفاد الصبر،‏<br />

واآللية،‏ والعجز عن القيام إال برد فعل انعكاسي،‏ وكأنهم<br />

شخصيات الزومبي اخليالية التي قضت متاماً‏ على<br />

ذاكرتها واستسلمت الستحواذ نهم احلواس.‏<br />

أما عمل تاركوفسكي املضاد فيؤسَ‏ س على استخدام<br />

اللقطة املشهدية الطويلة،‏ واإليقاع املتمهل ‏)الالزم<br />

للتأمل(،‏ مبا يستتبع ذلك من ‏»ميزانسني«‏ داخل اللقطة<br />

الواحدة ‏)أي حركة املمثليني واألكسسوار والكاميرا<br />

وعالقاتهم ببعضهم(،‏ وكأنه بهذه الطريقة ينفي املونتاج<br />

نفسه،‏ باإلضافة إلى حترمي املونتاج املتسارع ‏»الذي<br />

يعني اختزال الزمن«،‏ وحترمي القطع املتوازي ‏)أي<br />

حترمي اإلدراك املتزامن(،‏ وكأنه هنا يعمل ضد ما اعتُبر<br />

اإلجناز العظيم للسينما:‏ تسجيل حدثني في مكانني<br />

مختلفني في الزمن نفسه.‏<br />

من أهم اللقطات املشهدية التي ال ينساها املُشاهد؛<br />

مشهد أندريه احملتضر في ‏»نوستاجليا«‏ وهو يحاول<br />

عبور ينبوع املاء اجلاف من طرفه األقصى إلى طرفه<br />

اآلخر حامالً‏ شمعة يحاول احلفاظ على شعلتها.‏<br />

تنطفئ الشمعة لهبوب الريح،‏ فيعود أندريه إلى البداية<br />

ويعيد إشعال الشمعة ويلمس اجلدار ويشرع في العبور<br />

من جديد،‏ ويتكرر األمر وتنطفئ الشمعة مرة أخرى،‏<br />

وتستمر كاميرا تاركوفسكي مع محاوالت أندريه<br />

املتكررة في حماية نور الشمعة وإيصالها للجانب اآلخر،‏<br />

في لقطة مشهدية واحدة تقارب الثماني دقائق كاملة،‏<br />

متحركة بحرص ومتهل.‏ إيقاع الكاميرا املتمهل هنا<br />

في غاية األهمية؛ فالكاميرا تتبع أندريه وال تسبقه،‏<br />

وال تتوقع احلركة،‏ ما يحدد مهمة الكاميرا في سينما<br />

تاركوفسكي؛ إنها التأمل ال حتريك األحداث.‏<br />

وألن وظيفتها هي التأمل،‏ ترتفع الكاميرا عند<br />

تاركوفسكي أعلى من مستوى الشخصيات،‏ على عكس<br />

الكاميرا في هوليوود التي يجب أن ينخفض مستواها<br />

عن الشخصيات حتى تُبرز أعني النجوم،‏ وعلى عكس<br />

الكاميرا شديدة االنخفاض عند ياسوجيرو أوزو مثالً؛<br />

التي تلتحم باألرض لتصور روح الضجر في اإلنسان<br />

والعدمية في العالم.‏ ال،‏ إن كاميرا تاركوفسكي ليست<br />

كاميرا أرضية،‏ فهي متعالية في الفضاء؛ ترنو إلى<br />

األرض وتتأمل روح اإلنسان في شفقة.‏<br />

اللقطة املشهدية الطويلة هي كاحملقق الذي<br />

يُخضع العالم لالستجواب ليُدلي باعترافه ويكشف<br />

عن احلقيقة.‏ لكن اللقطة الطويلة لتاركوفسكي<br />

ليست هي اللقطة التسجيلية الطويلة نفسها لروبرت<br />

فالهيرتي مثالً‏ في فيلم ‏»نانوك رجل الشمال،‏<br />

‎1922‎‏«؛ فاألخيرة كان طموحها تسجيل الزمن<br />

الفعلي النتظار رجل اإلسكيمو وهو يصطاد الفقمة،‏<br />

وكان طموح فالهيرتي أن يجعل املُشاهد ينتظر<br />

الزمن نفسه الذي ينتظره اإلسكيمو للظفر بصيده.‏<br />

أما اللقطة الطويلة لتاركوفسكي فإن طموحها<br />

ليس تسجيل الواقع،‏ وال هو حتى طموح الشاعر<br />

الرومانسي في نقل جماليات العالم والطبيعة،‏ ولكنه<br />

طموح خلق عالم ذاتي باطني خاص.‏ إن تاركوفسكي<br />

ال يُسجل،‏ إنه يخلق،‏ إنه يستبعد العالم الواقعي من<br />

كادراته لتحل محله عوالم النفس البشرية،‏ والتذكر،‏<br />

وحاالت الروح،‏ ومتوجات األحلالم.‏ وبهذا املعنى<br />

يتيح اإليقاع املتمهل الفرصة ألن تنهض اللقطة<br />

العدد - 692 يوليو 2016<br />

144


الكويت عاصمة الثقافة اإلسالمية 2016<br />

مشهد من فيلم ستوكر ‏)الطواف(‏<br />

املشهدية الطويلة كعمل بصري فذ في حد ذاته؛<br />

كلحظة وجودية خالصة.‏<br />

الروح في سينما تاركوفسكي<br />

لم يوجد في تاريخ السينما من أوقف حياته للتعبير<br />

عن الروح اإلنسانية مثلما فعل تاركوفسكي،‏ الذي آمن<br />

بأن اإلنسان كائن روحاني باألساس.‏ هذا ما مييزه عن<br />

كبار مخرجي السينما اآلخرين الذين اهتموا أيضاً‏<br />

بالروح اإلنسانية،‏ ففي حني تناولوا هم الصراع الروحي<br />

كجزء من احلبكة،‏ نراه في أوقات فراغ الشخصيات<br />

املغروسة في القضايا السيكولوجية أو االجتماعية أو<br />

العاطفية،‏ كانت الروح عند تاركوفسكي هي احلبكة ال<br />

جزءًا من احلبكة؛ هي املعمار اخلفي الذي يشيد عليه<br />

الفيلم بأكلمه،‏ بل ويربط بني أفالمه وبعضها بعضاً.‏<br />

من أجمل أفالمه التي يبدو فيها ذلك جلياً‏ فيلم<br />

‏»الطواف«؛ الذي تخوض فيه ثالث شخصيات ‏»الطواف،‏<br />

والكاتب،‏ والعالم«‏ رحلة روحانية مكثفة في ما يسمى<br />

ب ‏»املنطقة«؛ وهي منطقة غريبة وخطرة حتدث فيها<br />

أشياء عجيبة وتوجد فيها ‏»حجرة األماني«‏ التي حتقق<br />

أعز أمنيات اإلنسان إلى قلبه.‏ إن هدف الرحلة لدى<br />

الشخصيات الثالث هو هدف شخصي،‏ لكن الصراع<br />

ذو طبيعة واحدة لهم جميعاً:‏ البحث عن اخلالص،‏<br />

عن النور،‏ عن احلقيقة،‏ عن اإلميان في أرواحهم<br />

التعبة.‏ والطواف هنا مبنزلة املرشد الذي يعرف<br />

‏»املنطقة«‏ ويقودهم خالل دروبها اخلطرة،‏ وهو يفعل<br />

ذلك باالستماع إلى الصوت الداخلي لروحه،‏ باستخدام<br />

حدسه ال معرفته،‏ ألن املعرفة ال قيمة لها في ‏»املنطقة«؛<br />

فالطرق تتغير وتتبدل،‏ وما يكون مأموناً‏ في حلظة<br />

يكون مميتاً‏ في اللحظة التالية؛ حواجز وشراك ال تنفع<br />

معها املعرفة،‏ وال سبيل ينجح إال الغنوصية،‏ واإلنصات<br />

للصوت الداخلي البدائي والفطري الذي فقده اإلنسان<br />

احلديث بالالمباالة؛ اإلنصات للحقيقة املدفونة داخل<br />

اإلنسان.‏ كان تاركوفسكي يعتقد أن مهمته هي إيقاظ<br />

ذلك الصوت الداخلي في أرواح املشاهدين،‏ مثله مثل<br />

الطواف الذي يحاول الوصول بالكاتب والعالم إلى حجرة<br />

األحالم،‏ وأيضاً‏ كمثل الشاعر املنفي في الغربة ميشي<br />

145<br />

أندريه تاركوفسكي:‏ صناعة األفالم تعني البحث عن اجلمال اخلالص


حامالً‏ شمعة يحاول احلفاظ على نورها<br />

في ‏»نوستاجليا«.‏<br />

سلوك الطواف يبدو لنا شاذاً‏<br />

كمشاهدين،‏ فبدالً‏ من أن يشق طريقه<br />

في ‏»املنطقة«‏ واثقاً‏ كمرشد يعرف<br />

طريقه،‏ فإنه على العكس يبدو متردداً،‏<br />

معوالً‏ على اإلميان الذي سيقوده إلى<br />

األمان،‏ حريصاً‏ على أال يشوش أو يؤذي<br />

أو يبعث االضطراب في أي شيء داخل<br />

‏»املنطقة«،‏ إنه ينصت إلى صوته الداخلي<br />

فيلم املرأة عام 1975<br />

وإلى صوت ‏»املنطقة«‏ في الوقت نفسه،‏<br />

ينصت لصوت احلقيقة،‏ لصوت اإلله عبر رحلة احلياة.‏<br />

متاماً‏ مثل صانع األجراس الصغير في فيلم ‏»أندريه<br />

روبليف«‏ الذي يقوده اإلميان واالستماع لصوت روحه<br />

الداخلي إلى التوصل إلى سر تركيب مادة جرس<br />

الكاتدرائية دون معرفة مسبقة.‏ إن املعرفة احلقيقية<br />

عند تاركوفسكي هي املعرفة الغنوصية،‏ هي النجاح<br />

في اإلنصات لصوت الروح.‏ قرب نهاية الفيلم،‏ يتشكك<br />

الطواف نفسه في وجود ‏»املنطقة«‏ وجوداً‏ مادياً‏ فعلياً،‏<br />

فيقول لزوجته متسائالً:‏ ‏»ال أحد يؤمن ب ‏»املنطقة«...‏<br />

مبن آتي إلى ‏»حجرة األحالم«‏ إن لم يوجد من يؤمن<br />

بها؟!«.‏ وتبني كلمات تاركوفسكي في مذكراته ‏»زمن<br />

داخل الزمن«‏ أن ‏»املنطقة«‏ رمبا لم توجد يوماً‏ إال في<br />

عقل الطواف فقط.‏ وهو ما يتوافق مع رؤية تاركوفسكي<br />

بأن ‏»غرفة احلقيقة«؛ يحملها كل إنسان داخل نفسه.‏<br />

هكذا كان تاركوفسكي منقباً‏ عن معنى الوجود<br />

اإلنساني،‏ عن األسئلة اخلاصة باحلقيقة،‏ واملطلق،‏<br />

واإلله،‏ ولذلك ال تقف أفالمه عند حدود<br />

سرد حكاية بسيطة،‏ بل نستطيع أن<br />

نغفل احلبكة ‏»احلكاية«‏ وتظل أفالمه<br />

لها األهمية نفسها.‏ وشخصيات أفالمه<br />

تتحمل كل ذلك؛ إنها شخصيات حتمل<br />

الوجود بأكمله على أكتافها،‏ حتمل،‏ كما<br />

حمل تاركوفسكي نفسه،‏ راية منقوشاً‏<br />

عليها:‏ الروح،‏ الزمن،‏ اخللود،‏ الغنوصية،‏<br />

وهو واقف على العتبة التي تفصله<br />

كفرد عن زحام السينما السائدة.‏ من<br />

املهم مالحظة أن أعمال تاركوفسكي<br />

حتمل عناوين فردية وذاتية:‏ ‏»طفولة<br />

بوستر فيلم طفولة إيفان عام<br />

1962 ونال عنة جائزة األسد<br />

الذهبي في مهرجان فينيسيا<br />

إيفان«،‏ ‏»أندريه روبليف«،‏ ‏»الطواف«،‏<br />

‏»املرآة«،‏ ‏»نوستاجليا«،‏ ‏»القربان«.‏<br />

إن شخصيات تاركوفسكي ممتلكة<br />

لفرديتها على الدوام،‏ وال ميتصها العالم<br />

اخلارجي بكل إلهاءاته،‏ وال هي تنسى<br />

نفسها فيه؛ إنها غير قابلة للبيع.‏ كما<br />

أننا نلمح تاركوفسكي نفسه حتت جلد<br />

كل شخصية من شخصياته،‏ بالرغم<br />

من أنهم بعيدون عن التشابه،‏ كتناقض<br />

اإلنسان وجتانسه في الوقت نفسه،‏<br />

كتناقض الفن العظيم وجتانسه في<br />

الوقت نفسه.‏ إن تاركوفسكي هو آخر شخص ميكن أن<br />

نلمس لديه شيئاً‏ من التظاهر أو االدعاء،‏ فلم يكن يسمح<br />

بافتعال أي شيء،‏ وال حتى شخصياته،‏ لم يكن يسمح<br />

باخلروج عن حدود أناه اخلاصة،‏ فمن خالل معرفته<br />

الدقيقة بذاته كان يلمس األوتار التي حترك أبطاله.‏<br />

املبارزة مع العمل<br />

الغنوصية واملعرفة القبلية واحلدس التي آمن<br />

بها لم تعن له إطالقاً‏ الركون إلى الكسل،‏ بل رافقها<br />

إميان راسخ بأن على الفنان أن ميلك قوة إرادة عظيمة<br />

حتى تكون جهوده مثمرة،‏ وحتى متنح أعماله طابع<br />

التفرد.‏ كان تاركوفسكي ال يكف عن التأمل بعناد لكل<br />

تفاصيل العمل،‏ وكان يعرف كم يكلف من اجلهد الشاق<br />

جعل عمل فني ينبثق من حلم يقظة.‏ املبارزات بني<br />

تاركوفسكي واملادة اخلام لم تتوقف أبداً‏ وهو يحولها<br />

إلى عناصر فنية،‏ متعقباً‏ تلك العناصر مبزيد من<br />

التركيز والتفحص في سلسلة متصلة<br />

من التنقيحات،‏ كأنه فنان يخوض نزاالً‏<br />

مع عمله الفني.‏ وهذا ما يتضح لنا من<br />

النسخ املعدلة من السيناريوهات التي<br />

كتبها ألفالمه،‏ والسيناريوهات الفنية<br />

للتصوير،‏ ومالحظات املونتاج،‏ فضالً‏<br />

عما ورد عن ذلك في كتابيه ‏»زمن<br />

داخل الزمن«‏ و»النحت في الزمن«،‏<br />

التي تبني أنه كان يعمل باستمرار،‏ وأنه<br />

كان مشغوالً‏ بالتعديالت باستمرار.‏ من<br />

األمثلة املهمة على ذلك؛ إعادة تصوير<br />

فيلم ‏»الطواف«‏ ثالث مرات كاملة.‏<br />

العدد - 692 يوليو 2016<br />

146


الكويت عاصمة الثقافة اإلسالمية 2016<br />

وأيضاً‏ مبارزاته مع املادة اخلام في فيلم ‏»املرآة«؛ حيث<br />

بدأت فكرة ‏»املرآة«‏ كمشروع كتابة رواية عن ذكريات<br />

الطفولة،‏ ثم تطورت إلى كتابة سيناريو بعنوان ‏»نهار<br />

أبيض«،‏ لكنه لم يرض عن الكتابة األولى،‏ فتحول<br />

إلى فكرة عمل مقابلات مع أمه تتحدث فيها عن<br />

ذكرياتها مع طفولته هو شخصياً،‏ ومقابات أخرى مع<br />

زوجته ماريا فيشينياكوفا،‏ ثم استقر على فكرة فيلم<br />

‏»املرآة«‏ كما صوره في النهاية.‏ وحتى بعد التصوير،‏<br />

كانت هناك تعديات دائمة،‏ واستبعاد لبعض اللقطات<br />

‏»كاللقطة الصريحة التي يظهر فيها تاركوفسكي نفسه<br />

في الفيلم«،‏ وقرارات بإعادة تصوير لقطات أخرى،‏<br />

وإضافة لقطات جديدة.‏<br />

أما تصوير اللقطة األخيرة في فيلمه األخير<br />

‏»القربان«،‏ فرمبا لم توجد واقعة تعبر عن املعاناة<br />

والكرب اللذين كان يتعرض لهما تاركوفسكي في<br />

حياته وعمله أكثر مما تعرض له في أثناء تصوير تلك<br />

اللقطة.‏ كان بطل تلك اللقطة هو البيت الذي سيقوم<br />

بطل الفيلم أندريه بإحراقه قرباناً‏ للبشرية التي مت<br />

إنقاذها من الكارثة احملققة.‏ وبعد طول إعداد وجتهيز،‏<br />

يعطي تاركوفسكي إشارة البدء للتصوير،‏ ويتم إحراق<br />

البيت على النحو الذي يتمناه،‏ لكن في حلظة فارقة<br />

حتدث الكارثة فتتوقف الكاميرا عن العمل لعطل غريب<br />

أصابها،‏ ويفسد تصوير املشهد.‏ ال شيء هنا ميكن<br />

عمله،‏ وال أحد ميكن لومه،‏ إنها ميكانيكا السينما ذاتها<br />

تخذله وتخونه،‏ وكأنها تذكره بأنه شخص غير مرحب<br />

به في مجالها.‏ يظل تاركوفسكي لدقيقتني مشلوالً‏ من<br />

املفاجأة،‏ ويفيق أخيراً‏ من الصدمة فيغطي عينيه بكلتا<br />

يديه؛ لقد أتته الضربة هذه املرة من آخر مكان ميكن<br />

توقعه.‏ يستغرق األمر ثاثة أيام كاملة إلعادة بناء<br />

الهيكل اخلارجي لديكور البيت وإلعادة تصوير مشهد<br />

احلريق،‏ ويتم البدء من جديد في تصوير املشهد الطويل<br />

الذي يستغرق حوالي ست دقائق كاملة على الشاشة،‏<br />

ويقوم أندريه بإشعال النار في البيت مجدداً،‏ وتشرع<br />

الكاميرا في احلركة كما هو مخطط لها،‏ ومرة ثانية<br />

يحدث الكابوس؛ هذه املرة اخلائن هو شريط السينما<br />

‏»النيجاتيف«‏ الذي علق داخل الكاميرا،‏ مرة أخرى<br />

السينما نفسها تعاند تاركوفسكي وتأبى إال أن تخرج<br />

له لسانها.‏ يضحك عمال التصوير من تكرار الكابوس<br />

نفسه مرتني بالشكل نفسه،‏ ويبدو على تاركوفسكي أنه<br />

على شفا املوت في تلك اللحظة،‏ من دون أن يعلم أحد،‏<br />

وال هو نفسه،‏ أنه كان يحتضر فعاً‏ من داء السرطان<br />

في تلك األثناء.‏ توفي أندريه تاركوفسكي في ما بعد<br />

بأواخر العام نفسه الذي صور فيه تلك اللقطة.‏<br />

توفي في منفاه بباريس عشية عيد املياد في<br />

29 ديسمبر 1986، بعد أن صنع سبعة أفام روائية<br />

طويلة كما تنبأت له روح بوريس باسترناك التي قام<br />

بتحضيرها له عرَّاف روسي،‏ وقالت له:‏ ‏»ستقوم بصنع<br />

سبعة أفام«،‏ رد تاركوفسكي الشاب الذي كان يدرس<br />

السينما:‏ ‏»سبعة أفام فقط؟!«،‏ وأجابت الروح:‏ ‏»نعم،‏<br />

سبعة أفام فقط...‏ لكن سبعة أفام عظيمة«‏ ><br />

فيلموجرافيا<br />

ولد أندريه آرسينيفيتش تاركوفسكي في بيالروسيا عام 1932، وتوفي في منفاه االختياري بباريس عام 1986،<br />

واحترف العمل السينمائي عام 1960. درس اللغة العربية أوالً،‏ ثم علم األحياء،‏ قبل أن يلتحق مبعهد الفيلم<br />

الشهير مبوسكو ‏»فجيك«‏ VGIK في الفترة ما بني عامي 1958 و‎1960‎‏،‏ حيث صنع 3 أفالم قصيرة لفتت إليه<br />

األنظار بشدة.‏<br />

صنع تاركوفسكي 7 أفالم روائية طويلة،‏ هي:‏<br />

< طفولة إيفان،‏ عام 1962، ونال عنه جائزة األسد الذهبي في مهرجان فينيسيا.‏<br />

< أندريه روبليف،‏ عام 1966.<br />

< سوالريس،‏ عام 1972.<br />

< املرآة،‏ عام 1975.<br />

< ستوكر ‏»الطواف«،‏ عام 1979.<br />

< نوستاجليا ‏»حنني«،‏ عام 1983، وهو أول أفالمه التي مت تصويرها خارج االحتاد السوفييتي في إيطاليا.‏<br />

< القربان،‏ عام 1986، ومت تصويره في السويد<br />

147<br />

أندريه تاركوفسكي:‏ صناعة األفالم تعني البحث عن اجلمال اخلالص


فن تشكيلي<br />

رائد االنطباعية في الفن العربي الحديث<br />

فائق حسن...‏ فنان الفضاء الطلق<br />

ماجد صالح السامرائي<br />

كاتب وناقد من العراق<br />

إذا كان لنا أن نتكلم عن فنان<br />

امتلك لغته الفنية بقدرة عالية،‏<br />

فإن الكالم سيكون عن فائق<br />

حسن،‏ الفنان الذي وضع اللبنة<br />

الفعلية في بناء ما تحقق من<br />

تطور في الفن العراقي الحديث<br />

إبان النصف األول من القرن<br />

العشرين،‏ ممتداً‏ بتطوره،‏ رؤية<br />

وأسلوباً،‏ إلى نهايات القرن.‏<br />

إذا كان فائق حسن قد دخل عالم الفن من<br />

باب الطبيعة،‏ فألنه وجد في فنانني كانوا قد<br />

سبقوه إلى هذا العالم ما يُعزز خطوته،‏ ومن<br />

بينهم من وجد ‏)كما وجد ‏»جيتيني«‏ عام 1437(<br />

أن ‏»الباب املظفّر الذي يُفضي إلى الرسم هو<br />

الطبيعة«...‏ فركّز منظوره الفني في األشياء<br />

املرئية.‏ ومن هنا نبع اعتداده بالطبيعة،‏ آخذاً‏<br />

نفسه،‏ وعمله الفني،‏ مبا أخذت به املثالية<br />

الكالسيكية،‏ التي ذهب فنانوها إلى تأكيد أن ‏»ال<br />

شيء جميالً‏ إال ما هو حقيقي«،‏ وأن احلقيقي<br />

وحده اجلدير باهتمام الرسَّ‏ ‏ام،‏ لنجد أعماله<br />

األولى مبنزلة جتديد للطبيعة التي لم يكن<br />

‏»ينظر إليها«‏ بقدر ما كان ‏»ينظر فيها«،‏ مستغوراً‏<br />

أعماقها احليّة.‏ ومن خالل الطبيعة،‏ مبشاهدها<br />

احلية،‏ كانت ‏»فورة اخللق«‏ عنده لتُحرّكه،‏ ذاتاً‏<br />

إبداعية،‏ باجتاه اصطناع ‏»مناذج«‏ تكون أكثر<br />

إغراءً‏ من الطبيعة نفسها بالنسبة للمشاهد.‏<br />

فهو حني رسم اخليول،‏ مثلالً،‏ جعلها جزءاً‏ من<br />

الطبيعة احمليطة بها.‏ وحتى حيني اجته بعمله<br />

الفني خارج الطبيعة بتكويناتها احليّة،‏ فإنه لم<br />

يتخلّص،‏ في أعماله تلك،‏ من مشكالتها.‏<br />

فهل كان في توجهه هذا يذهب مع ‏»غوتيه«‏<br />

في ما رأى من أن ‏»الفن ال يهدف إلى نقل<br />

العدد - 692 يوليو 2016<br />

148


الكويت عاصمة الثقافة اإلسالمية 2016<br />

الفنان فائق حسن<br />

149<br />

فائق حسن...‏ فنان الفضاء الطلق


الطبيعة،‏ وإمنا يجعل منها وسيلة للتعبير عن<br />

مَثَلٍ‏ أعلى داخلي«،‏ وأن ‏»الفنان يحمل في<br />

أعماقه عاملاً‏ مصغّراً‏ كامالً«؟<br />

لعله بدأ من هناك،‏ ولذلك صار يرسم من<br />

خالل ‏»منوذج«‏ حي ‏)الغابات الساكنة األشجار،‏<br />

واخليول بحركاتها النافرة(،‏ أو جامد ‏)الزقاق<br />

والبيت البغدادي القائم فيها بطُ‏ رز معمارية<br />

تراثية(،‏ وصار يرسم هذا كلّه بحساسية ميكن<br />

تسميتها ب»حساسية التلقي«،‏ مقدّما ما يسهل<br />

على مشاهد لوحته/‏ عمله الفني تعرّفه.‏ فهو<br />

ينقل ‏»جمالية الواقع«‏ الذي ذهب بعمله الفني<br />

إلى حدّ‏ املشاكلة معه،‏ وكانت براعته رائياً‏<br />

مصدر التنوع عنده،‏ حتى في املوضوع الواحد.‏<br />

واملهم في هذا ليست موضوعاته بذاتها،‏ وإمنا<br />

األسلوب الذي اتبعه في جتسيدها/‏ متثيلها<br />

أشكاالً‏ فنية لها خصوصيتها النابعة من<br />

خصوصية نظرته الذاتية فناناً.‏ فهو وإن يكن<br />

خرج إلى الواقع العاري،‏ لم يقدّم ‏»فناً‏ عارياً«.‏<br />

وإذا كان الفنان ‏»هو من يصنع الفن<br />

التصويري«،‏ وفق الفنان اإليطالي بوسكيني،‏<br />

فإن فائق حسن هو من أوجد ما ميكن أن يُعدّ‏<br />

معادلة بني ‏»الشكل«‏ املتفوّق تكويناً،‏ و»اللون«‏<br />

املتفرّد خاصية لونية.‏<br />

وإذا كان فائق حسن ‏»رسّ‏ ‏ام الطبيعة«‏<br />

املتميّز،‏ فإن متيّز هذه الطبيعة في عمله الفني<br />

متأتٍ‏ مما لها من أثر ذاتي عليه،‏ األمر الذي<br />

كان يندفع به إلى الكشف،‏ وبقوّة ذاتية عالية،‏<br />

عما لهذه الطبيعة من أعماق خفيّة،‏ جامعاً‏<br />

في لوحته هذه بني ‏»اخليال النافذ«‏ و»الرؤية<br />

املؤصّ‏ لة«‏ موضوعاً.‏<br />

وجهاً‏ لوجه مع الطبيعة<br />

عندما كان فائق حسن يخرج إلى الطبيعة<br />

كان يفعل ذلك ليراها بكليتها،‏ وليس بتمثله<br />

التخييلي لها:‏ بساتينها وما تقوم به من شجر<br />

وزرع،‏ وجبالها وما يُعرّش عليها من شجر،‏<br />

وأرضها الصحراوية املنبسطة وما عليها من<br />

خيول وساستها،‏ محققاً‏ من هذا كله جمالية<br />

اخللق الفني في لوحته التي لم يلتفت فيها إلى<br />

اآلراء التي عاصرتها بداياته،‏ التي كانت تقول<br />

إن توجّ‏ ه الفنان إلى الطبيعة،‏ والتعاطي معها،‏<br />

صورة ومشهداً،‏ ميثّالن ‏»محاكاة ذليلة«‏ لها،‏ بل<br />

أعمال الفنان لم تكن محكاة بل تعبيراً‏ فنياً‏ عن الواقع بأسلوب فني خاص<br />

العدد - 692 يوليو 2016<br />

150


الكويت عاصمة الثقافة اإلسالمية 2016<br />

مثلت الطبيعة عنصراً‏ رئيساً‏ في أعمال الفنان فائق حسن<br />

سيتجاوز ما قال به ‏»بودلير«،‏ أهمية حضوره<br />

في تلك املرحلة،‏ من أن ‏»الطبيعة مبتذلة«،‏ ال<br />

تعبير،‏ وال شيء من املطلق،‏ الذي رأى أن على<br />

الفنان البحث عنه،‏ فيها.‏<br />

لم يتوقف عند هذا،‏ على أهمية القائلني به،‏<br />

إذ كان موقناً‏ أنه ال يُعيد ‏»كتابتها«،‏ وال يُجسدها<br />

ب»لغة فنية«‏ بسيطة،‏ وإمنا يتخذ منها ‏»موضوعاً«‏<br />

يُعبّر به عما اكتسب من طرائق التعبير،‏ ال<br />

تطبيقاً‏ لقواعد اعتباطية،‏ وإمنا بهاجس فنّي<br />

يدعمه متثّلٌ‏ مُبدع.‏ وهل املطلوب من الفنان إال<br />

خلق رؤية جديدة لعالم قد يكون مألوفاً؟<br />

من هنا سيبتعد في عمله،‏ ما أمكن،‏ عن<br />

احملاكاة.‏ فهو وإن عبّر عن اخلاصية الطبيعية<br />

في ‏»الصورة/‏ املشهد«،‏ فإنه طبع ‏»تعبيره«‏ هذا<br />

بأسلوب تتحدد فيه سمته الشخصية فناناً‏ وقد<br />

ظل حريصاً‏ على تأكيدها،‏ بحيث تقف لوحته،‏<br />

التي تتخذ من ‏»الطبيعة«‏ موضوعًا،‏ بني حالتني<br />

جماليتيني،‏ وهما:‏ جمالية الطبيعة بذاتها،‏<br />

وجمالية اخلط واللون،‏ أو ‏»جمالية الفن«‏ الذي<br />

يعدّه ‏»بندتو كروتشه«:‏ ‏»اجلمال احلقيقي«،‏ فهو<br />

‏»ليس تقليداً،‏ بل خلق«،‏ وب»عملية اخللق«‏ هذه<br />

أمسك فائق حسن بالطبيعة جاعالً‏ منها شعلة<br />

إشعاع فني.‏<br />

فإن كان هناك من يرى أنه تناول هذه الطبيعة<br />

من اخلارج ‏)حيث الشجرة بتفرعات أغصانها<br />

وأوراقها الوارفة،‏ والنبات احمليط بها أرضاً،‏ أو<br />

احلصان الذي يقف مرفوع العنق شامخ الرأس،‏<br />

أو تلك اإلطاللة منه على زقاق قدمي تطلّ‏<br />

منه ‏»امرأة قدمية«‏ هي األخرى وكأنها تخرج<br />

لتتساءل كمن يتساءل عن ‏»وجود«‏ الفنان في هذا<br />

املكان...(،‏ فإنه،‏ في جميعها،‏ وفي سواها مما<br />

استأثر به عمله من مشاهد الطبيعة اإلنسانية،‏<br />

151<br />

فائق حسن...‏ فنان الفضاء الطلق


من أعمال فائق حسن<br />

كان كمن يعمل على ‏»توضيب نظام«‏ من الرؤية<br />

يبني بها/‏ ومن خاللها ‏»نظامه في الفن«‏ في<br />

عملية صعود مستمر مبا ‏»يرى«.‏ واملثير واملدهش<br />

في هذا أنه يحمل ‏»سؤال الطبيعة«‏ و»ما يقوله<br />

معناها«،‏ من دون نظر في ما هو خارجها.‏ وهو،‏<br />

هنا،‏ ال يُعيد وال يستعيد،‏ وإمنا يُبدع،‏ ناشراً‏ عبر<br />

اخلط وفي اللون كل ما له من براعة،‏ وإن كان،‏<br />

في عمله هذا،‏ أقرب إلى ‏»االرجتال«‏ منه إلى<br />

‏»التصميم املسبّق«.‏ لقد كان،‏ مثله مثل ‏»رينوار«‏<br />

الذي شكّل مثاالً‏ حياً‏ لالنطباعيني في عصره،‏<br />

ومن بعده،‏ وأخذ نفسه بحرية الرسم في فضاء<br />

مفتوح،‏ حيث ‏»سمة النبل والسموّ«،‏ كما يقول<br />

انطباعيو عصر ذلك الفنان الفرنسي،‏ فإن<br />

فناننا،‏ وعلى هديْ‏ خطاهم،‏ سيبذل كل ما في<br />

وسعه من أجل إرساء دعائم الرسم ضمن هذا<br />

التوجّ‏ ه،‏ وإظهار خصائصه الفنية في ما يُقدّم<br />

من أعمال لها جماليتها اخلاصة،‏ بل،‏ ووفق<br />

بعض دارسي االنطباعية،‏ أنهم من أرسى دعائم<br />

هذه اجلمالية في فن عصرهم.‏ وقد سلك فائق<br />

حسن مسلك أسلالفه من االنطباعيني بالرسم<br />

في الهواء الطلق،‏ من دون انشغال مبا هنالك<br />

من ‏»مسائل نظرية«‏ في الفن سينشغل بها غير<br />

فنان من معاصريه.‏<br />

فإن كان ‏»التجريد«‏ قد استهواه يوماً‏<br />

فاستأثر بشيء من عمله الفني،‏ فإنه لم ميكث<br />

معه طويالً،‏ وسرعان ما عاد إلى الزقاق القدمي،‏<br />

والوجوه التي تعرّف إليها فيه،‏ وإلى اخليول...‏<br />

وكأنها ‏»احلقائق املوضوعية«‏ التي جتلت بها<br />

مهارته الفنية،‏ وقد متثلت،‏ أكثر ما متثلت،‏ في<br />

التعاطي البارع مع اللون الذي احتشد عنده<br />

بدالالت ذاتية ذات عُمق في نفسه،‏ كما في<br />

ذاكرته التصويرية.‏<br />

التواصل...‏ ال االختالف<br />

من هنا ينبع االختالف اجلوهري في الرؤية<br />

الفنية بينه وبني أهم فنان عاصره:‏ جواد سليم،‏<br />

العدد - 692 يوليو 2016<br />

152


الكويت عاصمة الثقافة اإلسالمية 2016<br />

الذي نظر إلى احلياة من داخل ما لها من تاريخ،‏<br />

في حني أخذ فائق حسن نفسه وفنّه بالعيش في<br />

الطبيعة،‏ التي اجتذبه ألقها،‏ فراح يُبرز ما يرى<br />

فيها من خصائص برؤية جمالية متفوّقة عليها،‏<br />

في الوقت الذي عاش فيه جواد حتت سلطتني:‏<br />

سلطة الواقع مبا له من اندفاعات حيّة،‏ وسلطة<br />

التاريخ مبا له من متثيل خالد لإلنسان وجوداً‏<br />

ودوراً‏ إنسانياً،‏ متمثالً‏ ذلك مبا وجد في تراث<br />

وادي الرافدين مما أبدعته حضارته القدمية،‏<br />

إذ راح يبحث لالثنني عن ‏»زمان آخر«‏ يُجسدهما<br />

فيه،‏ كاشفاً‏ عما يحملالن من روح إنسانية<br />

جديدة.‏ في حني ظل فائق،‏ واستمرّ‏ يجلو ‏»صور<br />

الطبيعة«‏ كما تتمثل له،‏ أو تتخايل لرؤاه،‏ فمنها<br />

بدأ،‏ وإليها/‏ بها سينتهي.‏<br />

وعلى هذا ميكن القول:‏ إن لوحة الفنان<br />

فائق حسن ال تكتفي بأن تكون إدراكاً‏ مباشراً‏<br />

جلانب من العالم ‏»الطبيعي«،‏ فتُجسّ‏ ‏ده فنياً‏<br />

ببعد جمالي مضاف،‏ وإمنا هي عمل فنيّ‏<br />

يحمل وجهة نظر الفنان إلى العالم.‏ فعادة ما<br />

يُقال،‏ في مثل هذا املوقف،‏ إن ‏»الشيء«‏ الذي<br />

يرسمه الفنان ليس هو ‏»الشيء بذاته«‏ مُدرَكاً‏<br />

إدراكاً‏ حسياً‏ محضاً،‏ وإمنا هو ‏»شيء«‏ عبر<br />

فيه الفنان عن ‏»رؤية ذاتية«،‏ أو جاء نتيجة<br />

‏»متثّل ذهني«‏ ناقالً‏ إياه إلى عامله اجلمالي<br />

اخلاص من طريق اخلط واللون اللذين يُؤلف<br />

منهما ‏»الشكل الفني«،‏ مبا يأخذه هذا الشكل<br />

من أبعاد التعبير عنده.‏ وهو ما جعل من<br />

النقّاد من يذهب إلى أن الفن،‏ انطالقاً‏ من<br />

هذا وتأسيساً‏ عليه،‏ يصنع جماله من نسيج<br />

‏»لغته«‏ اخلاصة.‏ فإذا كانت ‏»الطبيعة«‏ و»الواقع«‏<br />

هما العالم اجلمالي اخلاص بهذا الفنان،‏ فقد<br />

جعل لكل منهما كيفياته في عمله الفني،‏ مبا<br />

اجتمع لهذه الكيفية من مظاهر،‏ وتأمالت،‏<br />

وأخيلة.‏<br />

فإذا أخذنا ‏»علم اجلمال«‏ بكونه ‏»علم<br />

التعبير«،‏ فإن النظر،‏ بهذا املعنى/‏ البُعد،‏ في<br />

عمل الفنان فائق حسن يقف بنا على أبعاد<br />

هذا العمل،‏ وأخصّ‏ ها:‏ إن الفن عيان،‏ وهو عنده<br />

عيان يأخذنا،‏ ومن قبلنا أخذ الفنان،‏ نحو جهة<br />

يتعنيّ‏ بها هذا ‏»العيان الشخصي«‏ الذي رأى.‏<br />

وبهذا فهو يُعيد تكوين ‏»الصورة في اللوحة«‏<br />

من خالل ذاته/‏ عيانه،‏ من دون أن نغفل<br />

اإلشارة هنا إلى طبيعة تكوينه فناناً‏ ‏)أعني:‏<br />

التمثُّل واخليال عنده(،‏ فبه/‏ ومن خالله يكون<br />

‏»التكوين اجلديد«.‏<br />

الفنان وخصائص هويته التجديدية<br />

في سياق هذه النظرة إلى عمل الفنان،‏ التي<br />

حاولت أن ّ تستشفَ‏ ما فيه من رؤية تكوينية،‏<br />

هل في مقدورنا الكالم عن ‏»هويّة الفنان«‏<br />

ومتييزها ثقافياً؟<br />

ميكن القول:‏ إن الفنان فائق حسن،‏ كما<br />

يبدو لنا من خلالل عمله،‏ كان فناناً‏ شديد<br />

التأكيد على الشعور الداخلي،‏ وعلى اإلحساس<br />

باألشياء في ما لها من طبيعة خاصة.‏ وكانت<br />

العالقة عنده بني ‏»الذات«‏ و»التعبير«‏ عالقة<br />

تكوينية،‏ وإن حضوره في عمله هو حضور<br />

الرؤية واخلبرة.‏<br />

قد يسأل مشاهد،‏ أو قارئ للوحته هنا،‏<br />

عن جتليات خياله املبدع في عمله الفني -<br />

كما يُفترض بعمل الفنان أن يقوم عليه - وما<br />

إذا كان بإمكان الفنان في ما له من مقدور<br />

فني،‏ حتويل املشاعر واألحاسيس التي تُداخله<br />

إلى االنتظام في ما يُعرف ب»اخليال املُبدع«،‏<br />

خصوصاً‏ أن عمله هذا ينزلق،‏ بحكم مدرسته<br />

االنطباعية،‏ إلى الواقع املتشخَ‏<br />

لقد كان فناناً‏ مجدِّداً‏ بانطباعيته هذه،‏ ولم<br />

يكن يعنيه كثيراً‏ أن تكون حتوالته الفنية،‏ عمالً،‏<br />

بطيئة،‏ في وقت كان فيه كل ما حوله،‏ كما في<br />

محيط الفن في العالم الذي لم يكن فناننا<br />

منقطعاً‏ عنه،‏ ميضي في اجتاهات الكشف عن<br />

تقنيات جديدة وإشاعتها بوصفها ما ينبغي أن<br />

يتمثّل فيه ‏»مستقبل الفن«.‏<br />

كانت أعماله تتعدد،‏ وكلما ازدادت عدداً‏<br />

ازداد عامله غنىً‏ بها/‏ ومن خاللها،‏ وكانت<br />

ألوانه أقوى من الكلمات استجابة لعوامله هذه<br />

‏)من وجه املقارنة بيني اللوحة منه،‏ والقصيدة<br />

من شاعر(‏ ><br />

ّ ص.‏<br />

153<br />

فائق حسن...‏ فنان الفضاء الطلق


علوم<br />

بين الشيخ إردوش والشاب تاو<br />

كيف تتقدم الرياضيات؟<br />

د.‏ أبو بكر خالد سعد اهلل<br />

أكادميي من اجلزائر<br />

العلوم بشتى فروعها في تطور<br />

مستمر،‏ وكل منها يتطور بطريقته<br />

ويتفاعل من خلالل آليات يرسمها<br />

التقليد العلمي لهذا االختصاص أو<br />

ذاك.‏ والرياضيات هي واحدة من هذه<br />

العلوم،‏ ولعلمائها تقاليد وإبداعات<br />

في التعامل االجتماعي والعلمي.‏<br />

نقدم في ما يلي عينة من هذا القبيل<br />

تركز على سلوك أحد أبرز رياضيي<br />

القرن العشرين،‏ وعبقرية آخر من القرن<br />

الحادي والعشرين.‏<br />

بول إردوش<br />

تيرنس تاو<br />

تختلف سيرة الرياضي املجري األصل بول<br />

إردوش (1996-1913) Paul Erdös عن سائر<br />

سير الرياضيني اآلخرين.‏ فقد لُقب ب ‏»ملك<br />

ملوك طارحي املسائل«،‏ ألنه كان يتميز بطرح<br />

مسائل ال تستدعي كثيراً‏ من املعارف األولية<br />

لفهمها،‏ وغالباً‏ ما تكون في متناول تالميذ<br />

املرحلة الثانوية.‏ لكن حلولها ليست بسيطة،‏<br />

ولذلك يحاول حلها كبار الرياضيني.‏ فمنها ما<br />

يُعمّر سنوات،‏ ومنها ما يُعمّر عقوداً‏ من الزمن<br />

قبل أن يأتي أحدهم باحلل.‏ وما ميّز إردوش<br />

أيضا أنه كان يكافئ من يجد حالً‏ إلحدى<br />

مسائله،‏ وفق درجة الصعوبة التي يراها في<br />

كل مسألة.‏ فمنها ما سعرها 50 دوالراً،‏ ومنها<br />

100 دوالر،‏ ومنها 500 دوالر.‏<br />

كما متيّز إردوش بكونه ‏»ابن بطوطة زمانه«،‏<br />

بالنظر إلى تعدد ترحاله،‏ فهو لم يتزوج ولم<br />

تكن له وظيفة.‏ وكان يقضي وقته متنقالً‏ بني<br />

اجلامعات عبر العالم ينشر املعارف العلمية.‏<br />

ويُذكر أنه لم يكن يقضي أكثر من 10 في املائة<br />

من وقته في بيته،‏ ولذلك بلغ إنتاجه في مجال<br />

الرياضيات 1500 بحث،‏ وهو رقم قياسي لم<br />

يبلغه غيره من العلماء.‏<br />

العدد - 692 يوليو 2016<br />

154


الكويت عاصمة الثقافة اإلسالمية 2016<br />

إردوش يشرح مسألة للطفل تيرنس تاو )10 سنوات(‏ في أستراليا عام 1985.<br />

ليس هذا فحسب،‏ بل متيّز باالشتراك<br />

مع غيره من الباحثني في كتابة املقاالت،‏<br />

وهكذا بلغ عدد الذين شاركوه النشر ووضعوا<br />

أسماءهم إلى جانب اسمه في املقاالت<br />

املنشورة رقماً‏ قياسياً‏ آخر،‏ وهو 500 باحث<br />

من مختلف بلدان العالم.‏ والطريف في هذا<br />

السياق أن اسمه اقترن بأرقام حتدد عالقة<br />

كل باحث في الرياضيات بإردوش من حيث<br />

تراتبية النشر،‏ فإذا كان أحدهم قد نشر<br />

مثالً‏ مع إردوش فسيحمل الرقم 1، وإن كان<br />

هذا الباحث ‏)الذي نشر مع إردوش(‏ قد نشر<br />

أيضاً‏ مع باحث ثان مقاالً‏ ما،‏ فهذا األخير<br />

سيحمل الرقم 2، وهكذا دواليك.‏<br />

ونشير إلى أن من بني النتائج املهمة في<br />

نظرية األعداد،‏ تلك املتعلقة مبواقع األعداد<br />

األولية ‏)أي األعداد الطبيعية التي ال تقسم<br />

على أي عدد سوى 1 أو العدد نفسه مثل 2<br />

و‎3‎ و‎7‎ و‎19‎‏...(،‏ وتوزيعها بني األعداد األخرى،‏<br />

وهي مسألة مازالت مطروحة إلى اليوم.‏<br />

لقد كان هذا املوضوع من جملة اهتمامات<br />

إردوش،‏ ومن املعلوم أن هناك مخمنة<br />

‏)أي تخمني رياضي لم يتم التوصل إلى إثباته(‏<br />

أُعلن عنها منذ القرن الثامن عشر تقول:‏ عندما<br />

يكبر العدد الطبيعي ‏)ن(‏ فإن عدد األعداد<br />

األولية األصغر من ‏)ن(‏ يقارب نسبة ‏)ن(‏<br />

على لوغاريتم ‏)ن(.‏ لكن هذه املخمنة لم تثبت إال<br />

عام 1896 على يدي الفرنسي جاك هادامار<br />

(1963-1865) Hadamard والبلجيكي دي<br />

فالي بوسان .(1962-1866) De Vallée Poussin<br />

والالفت في هذا املوضوع أن إردوش<br />

اكتشف مبعية النرويجي آتل سيلبرغ<br />

(1917-2007) Selberg عام 1949 برهانا<br />

يتسم بالبساطة على هذه املخمنة.‏ لكن<br />

سيلبرغ سارع إلى نشر هذا البرهان على<br />

انفراد من دون إذن من إردوش،‏ فنال بفضله<br />

ميدالية فيلدز ‏)أعلى وسام في الرياضيات،‏<br />

يعادل جائزة نوبل(‏ عام 1950. ولم ينزعج<br />

إردوش – املعروف بسخائه وتسامحه - من<br />

تصرف زميله.‏ وذلك هو نوع املسائل الذي<br />

اهتم به بول إردوش : املسائل البسيطة<br />

155<br />

بني الشيخ إردوش والشاب تاو ... كيف تتقدم الرياضيات؟


الطرح العويصة احلل.‏<br />

وقد توفي إردوش في وارسو،‏ عاصمة<br />

بولندا،‏ يوم 20 سبتمبر عام 1996 حني كان<br />

يشارك في مؤمتر دولي في الرياضيات.‏<br />

تاو يتألق في حل املسائل<br />

ولد تيرنس تاو عام 1975، وعائلته من<br />

أصل صيني،‏ رحلت من هوجن كوجن إلى<br />

أستراليا.‏ كان والده طبيب أطفال وأمه<br />

مدرّسة رياضيات في هوجن كوجن.‏ كان منذ<br />

نعومة أظفاره طفلاً‏ موهوباً‏ وظهر ذلك<br />

عندما كان يشرح العمليات احلسابية ألطفال<br />

كانوا يتجاوزونه سنًا.‏ وملا بلغ التاسعة من<br />

العمر كان يحضُ‏ ر دروساً‏ في الرياضيات<br />

باجلامعة.‏<br />

ومن أصعب املنافسات في مجال<br />

الرياضيات ما يعرف باملنافسات األوملبية<br />

العاملية السنوية التي يشارك فيها تاميذ<br />

املرحلة الثانوية ‏)دون املستوى اجلامعي(.‏<br />

وقد برع تيرنس تاو في هذه املنافسات التي<br />

شارك فيها 3 مرات متتالية خال السنوات<br />

1986 و‎1987‎ و‎1988‎‏،‏ وهي حالة فريدة من<br />

نوعها.‏ كان تاو الوحيد الذي شارك في هذه<br />

املنافسات ولم يتجاوز عمره 10 سنوات.‏ ومع<br />

ذلك نال في هذه املنافسات كل امليداليات،‏<br />

من البرونزية إلى الذهبية.‏<br />

حصل تاو على شهادة املاستر في أستراليا<br />

وعمره لم يتجاوز 17 سنة.‏ ثم حصل على منحة<br />

إلى جامعة برينستون Princton األمريكية<br />

الشهيرة،‏ فأحرز هناك شهادة الدكتوراه وكان<br />

عمره 20 سنة.‏ ونظراً‏ لتفوقه الباهر عُنيّ‏<br />

مدرساً‏ في اجلامعة ورُقي إلى رتبة أستاذ<br />

في جامعة كاليفورنيا بعد ذلك بسنة واحدة.‏<br />

وهي سابقة في تاريخ اجلامعات،‏ إذ لم ينل<br />

هذه املرتبة في هذه السن أحد قبله.‏<br />

ومعلوم أن أرقى جائزة في الرياضيات<br />

تسمى ميدالية فيلدز،‏ كما أسلفنا،‏ ومتنح مرة<br />

كل 4 سنوات ألبرز الرياضيني.‏ ومن حظ تاو<br />

أنه فاز بها عام 2006، وعمره 31 سنة،‏ سلمها<br />

له ملك إسبانيا حني انعقد في مدريد املؤمتر<br />

العاملي للرياضيات.‏ وتوالت عليه بعد ذلك<br />

االستحقاقات والتشريفات،‏ فصار عضواً‏ في<br />

أكادمييات علمية عاملية عدة،‏ كما نال جوائز<br />

عديدة،‏ منها جائزة امللك فيصل عام 2010.<br />

متيّز تاو بكونه يعمل في حقول رياضية<br />

وعلمية عدة،‏ وهو يتقن كيفية الربط بينها<br />

بطرق عجيبة،‏ فيستعمل النتائج املعروفة<br />

في هذا الفرع أو ذاك إلثبات نتائج عالقة<br />

في فروع أخرى لم تخطر على بال غيره<br />

من الباحثيني.‏ وهكذا،‏ برهن مثا عام 1999<br />

على مخمنة معقدة ظهرت عام 1962، تسمى<br />

‏»مخمنة التشبع«،‏ كما أثبت مخمنات أخرى<br />

من القبيل نفسه.‏<br />

يقول عنه الرياضي البريطاني الامع،‏<br />

األستاذ بجامعة كمبريدج ولْيَم تيموثي غورس<br />

William Timothy Gowers الذي نال بدوره<br />

ميدالية فيلدز عام 1998:<br />

‏»معارف تاو الرياضية لديها مزيج خارق<br />

من االتساع والعمق،‏ ميكن أن يكتب تاو بثقة<br />

كاملة وبإبداع حول موضوعات مختلفة<br />

اختافاً‏ كبيراً،‏ مثل املعادالت التفاضلية<br />

اجلزئية،‏ ونظرية األعداد التحليلية،‏ وهندسة<br />

املنوعات الثاثية،‏ والتحليل غير املعياري،‏<br />

ونظرية املجموعات،‏ ونظرية النمذجة،‏<br />

وميكانيكا الكم،‏ واالحتماالت،‏ والنظرية<br />

الطاقيّة ،ergodic والتحليل التوفيقي،‏<br />

والتحليل التوافقي،‏ ومعاجلة الصور،‏ والتحليل<br />

الدالي،‏ وغيرها الكثير.‏ بل إنه قدم إسهامات<br />

جوهرية في البعض من هذه الفروع العلمية.‏<br />

أما في الفروع األخرى،‏ فيبدو تاو مدركًا لها<br />

بعمق كما هو شأن اخلبراء،‏ على الرغم من<br />

أنه ال يشتغل في تلك احلقول بشكل رسمي.‏<br />

كيف يقوم بكل ذلك،‏ إضافة إلى كتابة<br />

أبحاث وتأليف كتب على نحو مذهل؟ كل<br />

هذا يعتبر لغزاً‏ قائماً.‏ لقد قيل إن هيلبرت<br />

(1943-1862) Hilbert كان آخر شخص يلمّ‏<br />

بكل ما يوجد في حقل الرياضيات؛ ولكنه<br />

ليس من السهل إيجاد ثغرات في معارف<br />

العدد - 692 يوليو 2016<br />

156


الكويت عاصمة الثقافة اإلسالمية 2016<br />

تاو الرياضية،‏ وإن وجدمت بعضاً‏ منها،‏ فتلك<br />

الفجوات ستكون في خبر كان بحلول العام<br />

التالي«.‏<br />

‏»مسألة التفاوت«...‏ عَ‏ مّ‏ رت 28 سنة!‏<br />

كان إردوش قد طرح مسألة،‏ عرفت<br />

ب»مسألة التفاوت«‏ عام 1632 تتناول األعداد<br />

الصحيحة،‏ وبالتحديد تبحث في خواص<br />

تقدير املجموع عندما جنمع 1 و-‏ 1 من دون<br />

انقطاع بشكل عشوائي،‏ أي من دون ضرورة<br />

التقيّد بخاصية تناوب العددين،‏ مثال ذلك:‏<br />

.+ 1-1+1+1-1-1+1+1<br />

وكما أسلفنا،‏ فمن عادة إردوش رصد<br />

مبلغ من املال يفوز به من يحل مسائله<br />

كمكافأة على االهتمام واجلهد املبذول.‏<br />

وهكذا خصص لهذه املسألة مبلغاً،‏ يُقَدر<br />

ب 500 دوالر،‏ ولصعوبتها،‏ وبحث في املسألة<br />

عديد املهتمني،‏ لكن من دون جدوى،‏ وظلت<br />

مطروحة طوال 82 سنة.‏<br />

غير أن تاو قدم بحثاً‏ أولياً‏ يوم 17 سبتمبر<br />

2015 في موقع حر مختص في الرياضيات،‏<br />

يزعم فيه أنه حل ‏»مسألة التفاوت«.‏ لم يتم<br />

حتى تاريخ كتابة هذه السطور التأكد من حل<br />

تاو،‏ لكن هناك مؤشرات تأتي من اخلبراء<br />

بآراء مطمئنة جداً.‏ وجدير بالذكر أن املسألة<br />

عرفت عديداً‏ من احملاوالت،‏ بل احلمالت<br />

لفك رموزها.‏ وآخر هذه احلمالت تلك التي<br />

برزت عام 2009 بعد أن جاء الرياضي غورس<br />

مببادرة تقترح على الباحثني االعتناء جماعياً‏<br />

بهذه املسألة لإلتيان عليها والتشاور والتعاون<br />

عبر اإلنترنت.‏ فشارك تاو في هذا اجلهد<br />

اجلماعي،‏ وقد سمح ذلك خالل هذه السنوات<br />

األخيرة بالبرهان على حاالت خاصة من<br />

النظرية،‏ واستعملوا في ذلك احلواسيب.‏<br />

وبدأت اجلهود تعرف بعض الفتور،‏<br />

وفجأة نشر تاو بحثه في منتصف سبتمبر<br />

2015 فأيقظ النائمني!‏ والطريف أن تاو كان<br />

منهمكاً‏ في البحث عن حل مسألة ال عالقة<br />

لها مبسألة التفاوت.‏ ومن عادته أن يسجل<br />

تيرنس تاو<br />

في مدوّنته على شبكة اإلنترنت أعماله<br />

اجلارية ويعقّب عليها،‏ كما يعقب عليها غيره<br />

من القراء.‏ وذات مرة علّق أحدهم على عمل<br />

تاو اخلاص باملسألة التي كانت تشغله،‏ مشيراً‏<br />

إلى أنها ليست عدمية الصلة مبسألة إردوش<br />

‏)مسألة التفاوت(.‏<br />

ولم يعر تاو لهذه املالحظة اهتماماً‏ في<br />

بداية األمر،‏ معتبراً‏ أن الربط الذي أشار إليه<br />

املعلق كان سطحياً.‏ ثم لفتت تلك املالحظة<br />

انتباهه مجدداً،‏ وكانت نتيجة هذا االنتباه أنه<br />

اهتدى إلى حل ‏»مسألة التفاوت«،‏ ثم نشره.‏<br />

وقد روى تاو هذه احلادثة في مقاله وشكر<br />

املعلق - وهو أستاذ للرياضيات في جامعة<br />

أملانية - على مالحظته القيمة التي مكنته<br />

من الوصول إلى احلل.‏<br />

هكذا يعمل تيرنس تاو،‏ وكذلك كان يعمل<br />

بول إردوش،‏ وكالهما أسهم ويسهم بطريقته<br />

اخلاصة في تقدم العلوم الرياضية.‏ ولوال<br />

هذين وأمثالهما ملا عرف التقدم العلمي هذه<br />

الوتيرة وهذه اإلجنازات ><br />

157<br />

بني الشيخ إردوش والشاب تاو ... كيف تتقدم الرياضيات؟


علوم<br />

المد والجزر...‏<br />

حكاية اختالف<br />

في قوى الجذب الثقالي<br />

د.‏ أحمد شعالن<br />

رئيس الهيئة الوطنية للعلوم والبحوث - لبنان<br />

حين يتقدم البحر في السواحل المنخفضة أمياالً‏ إلى الداخل باتجاه القمر،‏<br />

فذلك من مفاعيل ظاهرة المد والجزر.‏ لكن الظاهرة ال تقتصر على حركة<br />

المياه،‏ بل تتعداها إلى نتائج كثيرة أخرى.‏ فعندما تشظّ‏ ى مذنب ‏»آيزون«‏<br />

قبل ابتالعه من قبل الشمس مطلع عام 2014، كان ذلك من مفاعيل<br />

المد والجزر.‏ وعندما تشظّ‏ ى مذنّب ‏»شومخر-ليفي - 9« عام 1994<br />

قبل سقوط أجزائه على كوكب المشتري،‏ فذلك أيضاً‏ كان من مفعول<br />

‏»المد والجزر«،‏ الذي سلّطه الكوكب العمالق على المذنّب.‏<br />

العدد - 692 يوليو 2016<br />

158


الكويت عاصمة الثقافة اإلسالمية 2016<br />

وحين ننظر إلى القمر يدور حول األرض يوماً‏<br />

بعد يوم،‏ فال نرى منه سوى صفحة واحدة،‏ فذلك من<br />

مفعول املد واجلزر!‏<br />

وحن يدهشنا آيو،‏ القمر اجلليدي األقرب إلى<br />

كوكب املشتري،‏ بانبثاقاته البركانية،‏ فذلك أيضاً‏ بفعل<br />

املد واجلزر!‏<br />

هناك بالطبع عالقة أكيدة بن قوة اجلاذبية وقوى<br />

املد واجلزر،‏ فهل ندرك متاماً‏ ميكانيكية هذه الظاهرة<br />

وأسبابها التفصيلية وميادين فعلها وتأثيرها الفلكي؟!‏<br />

‏»املدّ‏ - جزر«‏ ليست اجلاذبية!‏<br />

من املعروف أن ظاهرة املد واجلزر - وأفضّ‏ ل<br />

تسميتها ‏»املد-‏ جزر«‏ - ترتبط باجلاذبية بشكل رئيس،‏<br />

لنأخذ مثالً‏ حادثة اقتراب مذنب ‏»شومخر - ليفي -<br />

9« من كوكب املشتري.‏ فبما أن قوة اجلاذبية تتراجع<br />

طرداً‏ مع مربع املسافة،‏ فإن قوى اجلاذبية التي يشد<br />

بها املشتري الناحية املواجهة من املذنّب هي بالطبع<br />

أكبر من القوة التي يشد بها القسم اخللفي األبعد<br />

من املذنّب.‏ هذا االختلالف لقوى اجلذب الثقالي<br />

بن أجزاء املذنّب يعمل على تشويهه ومتغيطه،‏ وإن<br />

لم حتتمل جزيئاته هذا التشوّه فسوف يتشظّ‏ ى أجزاءً‏<br />

ويتفتت،‏ وهذا ما حدث له بالفعل.‏ إذاً‏ ‏»املد - جزر«‏<br />

ينبغي حتديده كقوة اختالف اجلذب الثقالي على جسم<br />

ذي أبعاد.‏ وكلما كبر حجم اجلسم املجذوب،‏ كبر تأثير<br />

اختالف قوى اجلذب الثقالي عليه.‏<br />

جذب الشمس لكوكبنا أقوى من جذب القمر لكن<br />

‏»مد - جزر«‏ القمر أقوى!‏<br />

ويبرهن علم الفيزياء على أن قوة جاذبية كوكبٍ‏<br />

ما،‏ على مسافةٍ‏ ما،‏ تتناسب طرداً‏ مع كتلة الكوكب<br />

وتتعاكس مع مربع املسافة،‏ أما ‏»املد - جزر«‏ ‏)أو<br />

اختالف قوى اجلذب الثقالي(،‏ فيتناسب طرداً‏ مع<br />

كتلة الكوكب اجلاذب وقطر اجلسم املجذوب وكتلته<br />

ويتعاكس مع مكعب املسافة ال تربيعها.‏ وهذا ما يجعل<br />

مفعول ‏»املد - جزر«‏ للقمر على األرض أكبر ب 2.5 مرة<br />

من ‏»مد - جزر«‏ الشمس علينا،‏ رغم أن جذب الشمس<br />

لألرض هو أكبر ب 150 مرة من جذب القمر لألرض!‏<br />

‏)كتلة الشمس أكبر من كتلة القمر بحوالي 25 مليون<br />

مرة،‏ لكنها أبعد عنا من القمر بحوالي 400 مرة(.‏<br />

القوة الطاردة شريك في ‏»املد - جزر«‏<br />

من جهة أخرى،‏ فإن كوكب األرض يدور حول<br />

نفسه بسرعة كبيرة،‏ بحيث تكون سرعة جسم ما<br />

على خط االستواء حوالي 1675 كلم/ساعة،‏ أي أسرع<br />

مبرتن من حركة الطائرات املدنية،‏ وهذا يعني أن قوة<br />

الطرد املركزي مؤثّرة في ظاهرة املد واجلزر.‏ فالقوة<br />

الطاردة على القسم املواجه للقمر من األرض تكون<br />

باجتاه القمر،‏ وتضاف إلى قوة جاذبيته،‏ بينما تكون<br />

القوة الطاردة في القسم غير املواجه للقمر من األرض<br />

عكس اجتاه قوة جاذبية القمر،‏ وبالتالي تطرح منها.‏<br />

وهكذا تزيد القوة الطاردة الناجتة عن دوران األرض<br />

من اختالف اجلذب بين املنطقتن وبالتالي من قيمة<br />

مفاعيل ‏»املد - جزر«.‏<br />

حدود روش<br />

إحدى نتائج قوى ‏»املد - جزر«‏ ما يعرف<br />

ب ‏»حدود روش«،‏ وهي حدود افتراضية حول كوكب<br />

ما حتدد قدرة ‏»مد - جزر«‏ الكوكب على تفتيت<br />

مذنّب أو أي جسم آخر يقترب من الكوكب.‏ ويتعلق<br />

موقع هذا الشريط الوهمي حول الكوكب بقيمة<br />

قطر الكوكب وكتلته وكثافة مادة اجلسم املقترب منه<br />

وطبيعته.‏ فقطر كوكب املشتري مثلالً‏ يبلغ 143 ألف<br />

كلم،‏ وتصل حدود ‏»روش«‏ حول هذا الكوكب نسبة إلى<br />

بنية املذنبات حوالي 220 ألف كلم،‏ لذلك حتطم املذنب<br />

‏»شومخر - ليفي - 9« عام 1994 حين اقترابه إلى<br />

ما دون حدود روش،‏ إذ وصل إلى مسافة 100 ألف<br />

كلم فقط من سطحه،‏ ما تسبب بسحقه وتفتيته بقوة<br />

املد - جزر قبل أن يجذب املشتري شظاياه الكبيرة<br />

واحدة تلو أخرى.‏<br />

مفاعيل ‏»املد - جزر«‏ على كوكب األرض<br />

نظراً‏ لسرعة حركة القمر في السماء،‏ فإن مدّين<br />

اثنن يحدثان كل يوم،‏ يفرق بينهما مدة 12 ساعة و‎25‎<br />

دقيقة.‏ ويختلف ارتفاع مياه البحر بحسب املوقع،‏<br />

ويكون األكبر عند خط العرض 28.5 درجة شمالي<br />

خط االستواء،‏ أو عند خط العرض 28.5 درجة جنوبي<br />

خط االستواء،‏ وذلك بسبب ميالن املسطح االستوائي<br />

األرضي 23.5 درجة نسبة للمسطح املداري لألرض<br />

‏)إكليبتيك أو دائرة البروج(،‏ إضافة إلى ميالن مدار<br />

159<br />

املد واجلزر...‏ حكاية اختالف في قوى اجلذب الثقالي


القمر 5 درجات نسبة ملسطح دوران األرض )23.5 +<br />

.)28.5 = 5<br />

أما قيمة االرتفاع األقصى ملياه املدّ‏ فتتعلق بعوامل<br />

عدة،‏ بينها تداخل جذب الشمس على األرض وموقعها<br />

الهندسي نسبة ملوقع القمر،‏ وموقع الشمس والقمر<br />

بالنسبة إلى خط االستواء.‏ فحني يكون القمر واألرض<br />

والشمس على خط واحد - كما في خسوف القمر<br />

أو كسوف الشمس - يكون املد في أعلى مستوى له.‏<br />

وكذلك حني يكون القمر في احملاق أو في البدر.‏ أما<br />

في األسبوعني األول والثالث من كل شهر قمري،‏ فيكون<br />

املد ضعيفاً‏ بسبب وقوع كل من الشمس والقمر على<br />

ضلعي زاوية قائمة تقريباً،‏ ما يجعل مفعول جاذبية<br />

الشمس يتعاكس مع مفعول جاذبية القمر.‏<br />

ويكون املد أكبر على سواحل احمليطات وفي<br />

خلجانها التابعة.‏ ففي خليج ‏»مون سان - ميشال«‏<br />

الفرنسي قرب النورماندي،‏ يصل ارتفاع موج املد عند<br />

الذروة إلى 15 متراً،‏ وفي خليج ‏»فوندي«‏ ‏)كندا(‏ إلى<br />

17 متراً.‏ وتستخدم طاقة أمواج املد واجلزر إلنتاج<br />

الكهرباء كما في بريطانيا - فرنسا.‏<br />

جدير بالذكر أن عملية املد ال تقتصر على رفع<br />

املياه فقط - وإن كانت أكثر قابلية للحركة من األرض<br />

الصلبة - بل تتعداها إلى قشرة األرض ومعطفها األعلى<br />

اللذين ليسا خارج سلطة اختالف اجلذب الثقالي،‏ وهما<br />

يستجيبان لقوة املد-جزر،‏ حيث تصل استجابتهما إلى<br />

حدود متر واحد باجتاه القمر في أثناء املدّ‏ األقوى.‏<br />

مثل هذا التأثير يعني أن ظاهرة املد واجلزر تزيد في<br />

‏»خض«‏ قلب األرض وتتراكم فيها ديناميكية إضافية<br />

تزيد من احتمال البراكني والزالزل.‏<br />

مفاعيل املدّ‏ - جزر على منظومة األرض والقمر<br />

في أثناء تفقده تواريخ اخلسوفات املاضية للقمر<br />

عام 1695، ومقارنتها بتلك املرصودة خلالل القرن<br />

السابع عشر،‏ اكتشف الفلكي اإلجنليزي إدمون هالي<br />

‏)الذي كان أول من تنبأ بظهور املذنب - الذي حمل<br />

اسمه-‏ بعد 76 سنة من ظهوره(،‏ أن مدة دوران القمر<br />

حول األرض تتغير ببطء مع الزمن.‏<br />

أ-‏ إبطاء حركة دوران األرض وتباعد القمر<br />

في القرن الثامن عشر،‏ توصّ‏ ل الفيلسوف والعالم<br />

إميانويل كانط إلى شرح منطقي لتلك الظاهرة،‏ مفسراً‏<br />

األمر أنه بسبب مفعول املد - جزر،‏ فإن املنظومة<br />

الثنائية ‏»أرض - قمر«‏ تخسر من طاقتها بسبب اخلض<br />

الداخلي لكوكب األرض الذي يحول قسماً‏ من الطاقة<br />

احلركية إلى حرارة احتكاك داخل األرض،‏ وبالتالي فإن<br />

حركة دوران األرض حول نفسها تتباطأ تدريجياً،‏ ما<br />

يعني أن اليوم على كوكب األرض يطول بشكل تدريجي.‏<br />

ويقدّر علماء الفلك معدّل هذا االزدياد بحوالي 2.5<br />

ميللي ثانية في القرن ‏)جزءان ونصف اجلزء في األلف<br />

من الثانية كل 100 عام(،‏ أو مبعدل 25 ثانية كل مليون<br />

عام.‏ ومنذ مائة مليون عام،‏ في زمن الديناصور،‏ كانت<br />

السنة تعد 380 يوماً،‏ مبعدل 23 ساعة تقريبا لليوم<br />

الواحد.‏ وهذا يعني أنه في املاضي السحيق كان اليوم<br />

على األرض أقل مما هو اليوم،‏ وأن السنة ‏)املدة الثابتة<br />

لدوران األرض حول الشمس(‏ كانت حتتوي عدداً‏ أكبر<br />

من األيام.‏ وتفيد بعض األبحاث اجليولوجية،‏ أنه منذ<br />

400 مليون عام،‏ كانت السنة تعدّ‏ حوالي 400 يوم بطول<br />

22 ساعة لليوم الواحد تقريباً.‏<br />

كما أن خسارة منظومة األرض والقمر للطاقة<br />

بسبب املد - جزر تبطئ من سرعة دوران القمر<br />

حول األرض،‏ ما يتسبب في ابتعاده التدريجي عنها.‏<br />

ويقدّر العلماء أن القمر يبتعد عن األرض مبعدل 3.7<br />

سنتيمترات في السنة.‏ ومع ابتعاد القمر التدريجي عن<br />

األرض،‏ فإن قرصه الظاهري - الذي يوازي القرص<br />

الظاهري للشمس حالياً‏ - يصغر مع الزمن،‏ وسوف<br />

!<br />

#"<br />

!"<br />

$<br />

!"<br />

العدد - 692 يوليو 2016<br />

160


الكويت عاصمة الثقافة اإلسالمية 2016<br />

!<br />

!<br />

!"#$ %$&'( )*+ ",-.$ /0123' :<br />

!!<br />

! !<br />

!<br />

!!<br />

! !<br />

!<br />

!<br />

!!"#$<br />

%$"&' %( )*+,-.$ /'",0.$ /&1.$ :<br />

!<br />

!!<br />

!<br />

!! !!"#$%<br />

!!<br />

! !<br />

!!<br />

!<br />

!<br />

يأتي اليوم الذي يصبح فيه القمر عاجزاً‏ عن تغطية<br />

كامل قرص الشمس في أثناء مروره بينها وبني األرض،‏<br />

وبالتالي سوف يستحيل على األرضيني مشاهدة كسوف<br />

كلّي للشمس،‏ بل كسوف حلقي.‏<br />

ب - دوران القمر املتزامن<br />

إذا كان القمر قد تسبب مبوجات املد البحري<br />

الناجت عن املدّ-‏ جزر،‏ وبإبطاء حركة دوران األرض<br />

حول نفسها،‏ فاألرض أثرت ليس فقط في إبطاء<br />

دوران القمر حولها وحول نفسه،‏ بل في التحكم بهذا<br />

الدوران وجعله متزامناً،‏ أي جعل مدة دورانه حول<br />

نفسه مساوية ملدة دورانه حول األرض ‏)اليوم القمري<br />

= الشهر القمري فلكياً‏ = 27.33 يوماً(،‏ والنتيجة أننا<br />

ال نرى سوى صفحة واحدة من سطح القمر.‏ وميكن<br />

تشبيه األمر بتفاحة مربوطة بجذعها بخيط منسك<br />

طرفه اآلخر.‏ وحني جنعل التفاحة تدور حولنا بواسطة<br />

اخليط،‏ فإننا ال نرى منها سوى اجلزء الذي يحتوي<br />

على اجلذع.‏ هكذا يثبت مد-جزر األرض على القمر<br />

وضعية القمر وكأنه مربوط بخيط في دورانه حول<br />

األرض.‏ في هذا الوضع،‏ ينفذ القمر دوراناً‏ متزامناً‏<br />

حول نفسه وحول األرض.‏<br />

ج - ‏)مد جزر(‏ على أقمار أخرى<br />

في املجموعة الشمسية<br />

تزامنية دوران القمر نسبة إلى األرض ليست شأناً‏<br />

استثنائياً‏ في املنظومة الشمسية.‏<br />

ويكفي أن يكون القمر كبيراً‏ وقريباً‏ مبا فيه<br />

الكفاية نسبةً‏ إلى الكوكب اجلاذب،‏ حتى يتمكن ‏»مد<br />

- جزر«‏ الكوكب - خالل بضعة مليارات من السنني<br />

- من التحكم بتزامنية القمر.‏ وهناك عدد من أقمار<br />

املنظومة الشمسية تتصرف مثل قمر األرض وتنفذ<br />

دوراناً‏ متزامناً‏ حول كواكبها:‏ القمران فوبوس ودميوس<br />

حول املريخ،‏ األقمار الغاليلية ‏)آيو ويوروبا وغانيميد<br />

وكاليستو(‏ حول املشتري،‏ قمر ‏»أمالتيا«‏ الصغير حول<br />

املشتري أيضاً،‏ قمر ‏»جابيت«‏ حول زحل،‏ القمران<br />

ميرندا وآريل حول أورانوس،‏ قمر ترايتون حول نبتون.‏<br />

وهذا األخير،‏ ‏»ترايتون«‏ قمر كبير يبلغ قطره 4000<br />

كلم،‏ وهو يقترب بسرعة من كوكب نبتون في أثناء<br />

دورانه املداري حوله،‏ ويقدّر الفلكيون أنه خالل 100<br />

مليون عام فقط،‏ سوف يتخطّ‏ ى ترايتون ‏»حدود روش«‏<br />

اخلاصة بكوكب نبتون،‏ ما سيؤدّي لتشظّ‏ يه ثم سقوط<br />

أجزائه على الكوكب،‏ كما حصل ملذنب ‏»شومخر -<br />

ليفي - 9« مع كوكب املشتري.‏<br />

قسم من فتات القمر املتشظّ‏ ي قد ينجح فتات<br />

األقمار املتشظية في اكتساب طاقة حركية إضافية<br />

واجتاه مداري مناسب في أثناء انفجار القمر وبالتالي<br />

تنجح في تشكيل دوران مداري مناسب على مسافة<br />

مناسبة من الكوكب،‏ مشكلة بذلك نوعاً‏ من احللقة<br />

احمليطة بالكوكب،‏ تذكرنا بحلقات زحل الشهيرة.‏<br />

وباملناسبة فإن حلقات زحل قد تكون عائدة للسبب<br />

نفسه.‏<br />

وللتزامنية قصة أخرى بني بلوتو ‏)الذي أُقيل من<br />

161<br />

املد واجلزر...‏ حكاية اختالف في قوى اجلذب الثقالي


Moon<br />

Earth<br />

رتبة الكواكب(‏ وقمره األكبر ‏»شارون«.‏ فهذا القمر يؤثّر<br />

بدوره على ‏»كوكبه«‏ اجلاذب ‏)يبلغ قطر شارون 800<br />

كلم بينما قطر بلوتو 2400 كلم(.‏ وهنا تلعب التزامنية<br />

باالجتاهني،‏ إذ يعرض كل من اجلسمني الصفحة ذاتها<br />

لآلخر،‏ وكأنهما مربوطان بحبل ثابت في أثناء دورانهما<br />

حول نقطة مركزية.‏<br />

وقد ال ينجح املد - جزر بني جسمني فلكيني<br />

بتحقيق تزامنية كاملة،‏ وإمنا بظاهرة ‏»رنني ديناميكي«‏<br />

كما بني الشمس وكوكب عطارد القريب منها.‏ يدور<br />

عطارد حول نفسه مرة كل 59 يوماً‏ أرضياً،‏ بينما ينهي<br />

دورة حول الشمس كل 88 يوماً‏ أرضياً‏ ‏)املدة الدورانية<br />

تساوي ثلثي املدة املدارية(.‏ وهذا يعني أن عطارد يدور<br />

3 دورات حول نفسه،‏ بينما ينهي دورتني حول الشمس.‏<br />

ويكون اليوم الشمسي على عطارد ‏)أي من الشروق<br />

إلى الشروق في املنطقة عينها(‏ 176 يوماً‏ أرضياً.‏<br />

لنتخيّل أنفسنا في منطقة معينة على كوكب عطارد،‏<br />

فإن اليوم الشمسي عليه يساوي سنتني:‏ طوال السنة<br />

األولى نكون في ظالمٍ‏ دامس،‏ وطوال السنة الثانية<br />

نشهد نهاراً‏ حاراً.‏<br />

مفاعيل أخرى للمد - جزر<br />

يتسبب املد - جزر كما رأينا في تشوّه اجلسم<br />

املجذوب الذي يظهر كموجات مدّ‏ كبيرة على السطح<br />

في حال وجود املاء - كما على األرض - وفي خفق<br />

املكونات اجلوفية بني ذروة وأخرى.‏ وهذا ما يزرع<br />

احلرارة في جوف اجلسم املجذوب بسبب حترّك<br />

الكتل اجلوفية واحتكاكها.‏ فقمر ‏»آيو«‏ القريب من<br />

الكوكب العمالق ‏»املشتري«،‏ يشهد انبثاقات بركانية<br />

حيّة رغم قشرته اجلليدية السميكة.‏ وال يرى الفلكيون<br />

سبباً‏ لهذا النشاط البركاني إالّ‏ مد - جزر املشتري<br />

عليه.‏<br />

وقمر ‏»يوروبا«‏ حول كوكب املشتري أيضاً،‏ يشهد<br />

سطحه اجلليدي السميك ‏)سماكة 30 كلم تقريباً(‏<br />

تشققات طويلة وعريضة يعتقد أنها بسبب مد - جزر<br />

املشتري عليه.‏ وقد سجلت انبثاقات رذاذٍ‏ مائي من<br />

أكثر من موقع على سطحه،‏ ما يعني أنه حتت هذا<br />

الغطاء اجلليدي السميك هناك ماء سائل بسبب<br />

احلرارة اجلوفية التي يساهم بالطبع مد - جزر<br />

املشتري فيها.‏<br />

خامتة<br />

إن ظاهرة املد - جزر تصبح فاعلة،‏ فهناك<br />

جسمان فلكيان ال يكون حجماهما صغيرين جداً‏<br />

نسبة للمسافة بينهما.‏ وميكن لهذه الظاهرة أن تفعل<br />

بني النجوم وبني املجرّات.‏ فمجرّتنا العمالقة ‏»درب<br />

التبانة«‏ في صدد تشويه وابتالع املجرتني الصغيرتني<br />

‏»غيمة ماجالن الكبرى«‏ و»غيمة ماجالن الصغرى«.‏<br />

كما أن مجرّة ‏»أندروميدا«‏ بصدد التشوه واالقتراب<br />

التدريجي من مجرتنا،‏ ويحسب العلماء أن اصطدام<br />

املجرّتني سوف يبدأ بعد أقل من ملياري سنة من<br />

اليوم.‏<br />

ونرى في بعض أفالم اخليال العلمي،‏ تشوّه<br />

األجسام أو املركبات التي تتجرّأ من االقتراب من<br />

‏»ثقب أسود«،‏ حيث تكون اجلاذبية كبيرة جداً،‏ ما يفعل<br />

ليس فقط في األجسام الفلكية املقتربة،‏ بل حتى في<br />

املركبات الصغيرة ><br />

العدد - 692 يوليو 2016<br />

162


الكويت عاصمة الثقافة اإلسالمية 2016<br />

الطفولة والقرية والعيد<br />

العيد في جيب جلبابي!‏<br />

عبدالغني كرم اهلل<br />

كاتب وروائي من السودان.‏<br />

كنت أحسبه أجمل طقس من طقوس العيد،‏ أن يلطخ الناس جباههم بالرمل<br />

الذهبي الناعم،‏ وهم مقبلون على القرية،‏ من كل فج،‏ بعد صالة العيد الجماعية،‏<br />

تحت الشجرة البعيدة عن دارنا،‏ قرب النيل،‏ أمشي مثل معزتنا،‏ على أربع،‏ عمري<br />

دون الثالثة،‏ ولكن حين اشتد عودي،‏ وصرت ذا سبع سنين،‏ قربت الشجرة من<br />

الدار كثيرا،‏ كما صار النيل على مرمى حجر من كفي.‏<br />

تحت شجرة الجميز،‏ التي تمد غصونها عمداً،‏ إلى أقصى مدى،‏ وهذا فضل من<br />

اهلل،‏ الذي سخر الشمس والقمر والشجر والموز،‏ بنية خضراء،‏ كي تظلل القرية<br />

كلها،‏ على ضفاف النيل األزرق،‏ نصلي على الرمل،‏ تتزخرف كل الجباه بالقرب<br />

من اهلل،‏ وبالرمل الذهبي،‏ في الركعة األولى،‏ وفي الركعة الثانية،‏ وقد نز<br />

العرق،‏ بالشمس الوليدة،‏ المبتهجة أكثر منا،‏ يزيد وشم الرمل على جباه البنات<br />

واألطفال والجدات والرجال.‏<br />

حسبته في طفولتي طقسا من طقوس صالة<br />

العيد،‏ وأنا أتلفت في أثناء الصلالة،‏ ألخوالي<br />

وأهلي،‏ على مدى الصفوف الطويلة حولي،‏ وال<br />

أستطيع السجود،‏ فجيبي مليء باحللوى،‏ والبلح،‏<br />

و»طرادة،‏ وسبعة وثالثني قرشاً«،‏ محشورة فيه،‏<br />

جيبي منتفخ،‏ كخد سعيد،‏ مكور ببرتقالة بني<br />

ضروسه،‏ ‏)أحسبها كل دقيقة من يأمن مكر<br />

محاسن؟(،‏ وال محالة ستهوي ثروتي،‏ إن سجدت،‏<br />

وتخطفها أختي،‏ طريدتي محاسن،‏ وتفر كالصقر،‏<br />

فهل أقطع صالتي،‏ وأركض خلفها؟ فكنت أكتفي<br />

بالركوع فقط،‏ وبحرص عظيم على جيبي،‏ كم<br />

حكيم هو اخلياط،‏ أن وضع اجليب لصق القلب،‏<br />

في جلبابي،‏ نبضي يهدهد اجليب،‏ كي يغريه<br />

بشراء ما يريد ويرغب.‏<br />

رسخ في قلبي الصغير،‏ أن العيد هو جردل<br />

اخلبيز،‏ فوق دوالب أمي،‏ وأن تلبس اجلديد،‏<br />

مبكوة املصنع،‏ وتتوضأ،‏ وتزخرف جبهتك برمل<br />

ذهبي ناعم،‏ من اخلالء في اجلنوب الشرقي<br />

للقرية،‏ أسعدني ذلك،‏ ألن جدتي لن تستطيع أن<br />

تُعيِّرني مرة أخرى،‏ حني أتسخ،‏ بالرمل والطني،‏<br />

كلنا أطفال في العيد،‏ الرمل يعلو احلاجب،‏ رغم<br />

أنف حلم العني،‏ التي لن تعلوه،‏ أبداً.‏<br />

163<br />

العيد في جيب جلبابي!‏


العدد - 692 يوليو 2016<br />

164


الكويت عاصمة الثقافة اإلسالمية 2016<br />

أكتم ضحكتي،‏ ‏»اخلشوع وااااجب في<br />

الصالة«،‏ حين أنظر خلفي جلدتي،‏ وأجدها<br />

دون كل املصلن،‏ رسمت خطوطاً‏ بالرمل على<br />

جبهتها،‏ حتاكي موج النيل قربنا،‏ وتركت احلفر<br />

بين التجاعيد فارغة،‏ مثل فؤاد أم موسى،‏ كم<br />

تعددت رسومات الرمل على اجلباه،‏ كالغيم فوق<br />

السماء،‏ وكي ال أفسد مراسم العيد،‏ وقد حرمت<br />

جبهتي من السجود،‏ خوفاً‏ على ثروتي،‏ كنت أمد<br />

يدي،‏ وأقبض حفنة رمل،‏ وأدعك بها جبهتي،‏<br />

وشم العيد.‏<br />

ما نخلعه،‏ من مالبس رثة،‏ كي نرتدي ثياب<br />

العيد اجلديدة،‏ هي مالبس العيد الفائت،‏ خير<br />

خلف خلير سلف،‏ زهاد كالنبي،‏ عليه السلالم،‏<br />

وسقراط ‏)ما أكثر األشياء التي ال نحتاج إليها(،‏<br />

ولو تركوني وشأني،‏ فأجمل قميص لبسته في<br />

حياتي،‏ هو جلدي،‏ لكنهم يتدخلون في كل شيء<br />

في حياتي،‏ حتى شكل أنفي،‏ وملمس شعري،‏<br />

فرضته علي جيناتهم.‏<br />

أشم رائحة القطن،‏ وكي املصنع،‏ وكثيراً‏ ما<br />

يطعنني دبوس في جسمي النحيف،‏ ألني عجول<br />

في لبس مالبسي،‏ ال أقوى على الصبر مطلقا،‏<br />

مطلقا،‏ قبل إفراد القميص واستخراج الدبابيس،‏<br />

التي تلوي أكمام قميصي اجلديد،‏ على ظهره،‏<br />

مثل سجن خطير،‏ مقيدة يداه خلفه.‏<br />

كثيراً‏ ما يناديني أخي األكبر،‏ وأنا أركب<br />

الدراجة،‏ ‏)مزلط الركب،‏ مغبر الثياب(،‏ وقد<br />

أبت أن متضي مستقيمة،‏ ألني أقسمت لصاحب<br />

الدراجات أني أجيد سواقة الدراجة ‏)أظنني من<br />

أنصار أفالطون،‏ العلم كامن في النفس(،‏ فتهوي<br />

بي ذات اليمن،‏ وذات الشمال في كل متر أعبره،‏<br />

‏)أظنني نسيت السواقة،‏ كما ينسى أحدنا أموراً‏<br />

كثيرة يعرفها(،‏ إن لم أبرر لنفسي،‏ فلمن؟ أقترب<br />

من أخي،‏ يقفز جانبا،‏ كدت أصدمه،‏ كي يستخرج<br />

قصديرة من ‏»لياقتي«،‏ كانت تشدها لألعلى،‏ كي<br />

تستدرج الشاري،‏ بأن ‏»اللياقة قوية«،‏ وهي ألن<br />

من ماء،‏ وهو يهمهم ‏»العجلة من الشيطان«،‏<br />

أخطف القصديرة،‏ تشبه الهالل،‏ وبها ثقوب مثل<br />

أفالم السينما،‏ ألعب بها كسالح،‏ أهدد به أختي،‏<br />

وأحرس ثروتي.‏<br />

الويل ألمي إن وصلت مالبسي اجلديدة<br />

قبيل العيد بيوم،‏ كل ثانية أسألها ‏»متى يأتي<br />

العيد؟«،‏ فترد بكرة،‏ إن شاء الله،‏ ال أحب عبارة<br />

إن شاء الله هذه أبداً،‏ أحسها كذبة،‏ أريدها<br />

أن تقول ‏»سيأتي بكرة«،‏ ألنه قد يتأخر العيد<br />

مبا ال أضيق،‏ تتوالى أسئلة،‏ متى؟ لمَ‏ تأخر؟<br />

هل جرى له شيء؟،‏ أحس العيد تأخر قرناً‏<br />

ثم أغضب من العيد،‏ لمَ‏ يتأخر؟ ألم يعلم بأن<br />

مالبسي وصلت؟ وبأني أتوق إلى أن ألبسها من<br />

أجلي،‏ له؟ كنت أتصور العيد كائناً‏ حياً،‏ كنت<br />

مثل الشعراء العظام،‏ أحس وأتخيل أي شيء<br />

كائناً‏ حياً،‏ األعياد،‏ ورمضان،‏ كلها كائنات<br />

حية،‏ جميلة.‏ يحال غضبي للعيد،‏ أشتمه ‏»أنت<br />

متأخر مالك؟«،‏ أخاطبه،‏ وأحسه يركب حمارة<br />

كسلالااانة،‏ تقدم رجلالً‏ وتؤخر أخرى،‏ فار<br />

غضبي،‏ وقلت ألمي بصرامة،‏ وبوز ممدوووود<br />

‏»العيد جااااااء«،‏ وقف العيد قربي،‏ في قلب<br />

الليل.‏<br />

حن تشرق شمس العيد،‏ تتعجب من فتى<br />

صغير،‏ عاش عيده قبيل الناس،‏ ينام مبالبس<br />

العيد،‏ وحذاءه معه،‏ ولعابه بلل جيبه وحجره،‏<br />

ومن عجب يسير كل يومه حافياً،‏ وفي نومه<br />

لبس احلذاء،‏ من يأمن األحالم؟ قد تخلق شوكاً‏<br />

في كل مكان،‏ فقد ألبستني أمي هذه األشياء<br />

ليالً،‏ وكفى الله املؤمنن القتال،‏ والعناد.‏<br />

تساهر القرية،‏ كلها،‏ في الكنس،‏ والرش،‏<br />

والغسيل،‏ وأنوار فوانيس الترزية ‏)اخلياطن(،‏<br />

في سهر مع النجوم،‏ فوزية،‏ حسن ود أحمد،‏<br />

آمنة بت حواء،‏ تساهر فوانيسهم حتى الصبح،‏<br />

و»رتينة«‏ حسن تبدو كشمس صغيرة،‏ تتعجب<br />

منها األغنام،‏ والقطط،‏ شمس في منتصف<br />

الليل،‏ هل قامت القيامة؟ ويتعجب الدجاج لمَ‏<br />

طال النهار؟ وهي التي تنام عند الغروب،‏ متعبة،‏<br />

من صحو الفجر،‏ وحوامة عن رزق وقمح،‏ برسن<br />

حدسها في نواحي البيت.‏<br />

يظل العيد في الدار،‏ ال يفارقها،‏ إن العيد<br />

األحلى،‏ األسمر،‏ هي أمي،‏ عيد دائم،‏ عيد<br />

حولنا،‏ وفينا،‏ ولم تكن بالقرية كهرباء،‏ ولكن نور<br />

وجه أمي يضيء في سابع الظلمات ><br />

165<br />

العيد في جيب جلبابي!‏


كذب<br />

األطفال<br />

وعالجه<br />

د.‏ شيرين محمود<br />

أكادميية من مصر<br />

تنتشر مشكلة الكذب عند األطفال على نطاق<br />

واسع،‏ وهي ظاهرة يجب التعامل معها من قبل<br />

الوالدين بصورة جدية،‏ وذلك لحماية أبنائهما من<br />

هذه المشكلة التي تعود عليهم بالضرر،‏ ألنها قد<br />

تصبح عادة متأصلة في أقوالهم وأفعالهم.‏ وفي ما<br />

يلي سنعرض لمفهوم الكذب وأنواعه وأهم طرق<br />

الوقاية والعالج:‏<br />

العدد - 692 يوليو 2016<br />

166


الكويت عاصمة الثقافة اإلسالمية 2016<br />

167<br />

كذب األطفال وعالجه


الكذب خلق مذموم،‏ حترمه األديان السماوية،‏<br />

وهو جتنب قول احلقيقة وقول ما لم يحدث<br />

واختلاق وقائع لم حتدث مع املبالغة في نقل ما<br />

حدث.‏ وبالطبع ال يولد أحد كذاباً،‏ فالكذب سلوك<br />

متعلم ومكتسب مثل الصدق،‏ يتعلمه الطفل من<br />

البيئة التي ينشأ فيها.‏<br />

أنواع الكذب<br />

حتري الكذب أو اإلصرار عليه هو ما يجعله<br />

مشكلة،‏ وعلى اآلباء معرفة أن الكذب الذي يصدر<br />

عن أبنائهم ليس واحداً‏ وله تصنيفات عدة،‏ وهناك<br />

دائماً‏ غرض هو الذي يدفع الطفل إلى ممارسته<br />

وذلك على النحو التالي:‏<br />

< الكذب اخليالي<br />

هو شائع في الطفولة،‏ ألن هناك كثيراً‏ من<br />

األلعاب التي يلعبها األطفال قد تتضمن نوعاً‏ من<br />

التخيل،‏ وقد يكون حلماً‏ أو أمنية لدى الطفل،‏ أو<br />

ألنه سمع حكايات خيالية من الوالدين أو األجداد.‏<br />

وال نستطيع أن نصف هذه التخيلات بالكذب،‏<br />

فعادة ما يكون اخليال خصباً‏ لدى األطفال املبدعني<br />

واملوهوبني.‏ ويتمثل دور الوالدين في توجيه الطفل<br />

للتفرقة بني اخليال واحلقيقة مبا يتناسب مع منو<br />

الطفل.‏<br />

< الكذب التعويضي<br />

يظهر هذا النوع عندما يشعر الطفل بالنقص<br />

وبأنه أقل ممن حوله،‏ أو كمحاولة لكسب إعجاب<br />

الوالدين،‏ خاصة عندما يفشل في الوصول إلى<br />

توقعاتهما حول قدراته.‏ ويجب على الوالدين تفهم<br />

احتياجات طفلهما واالهتمام به،‏ ومحاولة إيجاد<br />

طرق واقعية لتحقيق هذه االحتياجات.‏<br />

< كذب احملاكاة<br />

يقلد فيه الطفل أحد الوالدين في أمور قد<br />

يعتقدان أنها بسيطة،‏ كأن يُطلب منه الرد على<br />

الهاتف أو إخبار املتحدث بأن ‏»بابا غير موجود«،‏ أو<br />

‏»ماما نائمة«،‏ أو اكتشاف الطفل أنه مت خداعه كأن<br />

تقول له والدته سنذهب إلى النادي،‏ ثم يكتشف أنه<br />

العدد - 692 يوليو 2016<br />

168


الكويت عاصمة الثقافة اإلسالمية 2016<br />

ذُهب به إلى طبيب األسنان،‏ أو أن يتم وعده بشراء<br />

هدية ومن ثم عدم الوفاء بهذا الوعد.‏<br />

< الكذب االدعائي<br />

يلجأ فيه الطفل إلى املبالغة في امتالكه أشياء<br />

كثيرة،‏ فيُحدّث األطفال أنه ميتلك ألعاباً‏ كثيرة أو<br />

يحدثهم عن ثروة أسرته،‏ ويبالغ في الوصف وذلك<br />

للمفاخرة أو ملسايرة زمالئه.‏ وكذلك فإن من صور<br />

هذا الكذب االدعائي التي تتكرر لدى األطفال<br />

التظاهر باملرض لعدم الذهاب إلى املدرسة،‏<br />

الستدرار العطف من الوالدين أو عندما يشعرون<br />

بالتفرقة بينهم وبني أخواتهم.‏<br />

< الكذب جلذب االنتباه<br />

هذا النوع يلجأ إليه الطفل األناني واملدلل الذي<br />

يرغب دائماً‏ في أن يكون موضع اهتمام والديه<br />

طوال الوقت،‏ لذلك فهو يكذب جلذب انتباههما،‏<br />

أو الطفل املهمل املنبوذ الذي يشعر بإهمال والديه<br />

له،‏ فيلجأ إلى الكذب جلذب انتباه والديه الغافلني<br />

عنه،‏ نظراً‏ النشغالهما مبشكالت احلياة.‏<br />

طرق الوقاية والعالج<br />

‏»حافظ على جنومك«‏<br />

هناك مجموعة من الوسائل واألساليب التي قد<br />

تساعد الوالدين على التغلب على مشكلة الكذب،‏<br />

وجدير بالذكر أنه قبل سن اخلامسة ال مييز الطفل<br />

كثيراً‏ بيني احلقيقة واخليال،‏ لذلك نظلمه إذا<br />

وصفناه بالكذاب.‏ وفي ما يلي عرض لهذه الطرق:‏<br />

< اللجوء إلى النصح املباشر عن طريق توجيه<br />

األبناء نحو ترك الكذب وتنفير الطفل منه وتعريفه<br />

مبساوئه العديدة وبأنه سلوك مذموم.‏<br />

< محاولة فهم األسباب املؤدية إلى الكذب لدى<br />

الطفل،‏ وحتديد نوع الكذب الذي ميارسه لتحديد<br />

كيفية التعامل معه.‏<br />

169<br />

كذب األطفال وعالجه


إتاحة الفرصة للطفل ليستطيع التعبير عن<br />

نفسه من دون خوف حتى ال يضطر إلى الكذب<br />

بسبب اخلوف.‏<br />

< االبتعاد عن استخدام عقوبة الضرب نهائياً‏<br />

عند التعامل مع الطفل.‏ وقد نطلب منه السكوت<br />

بعد كل كذبة مدة ربع ساعة كعقوبة.‏<br />

< عدم التشهير بالطفل،‏ سواء أمام العائلة<br />

أو األقارب أو األصدقاء،‏<br />

ألن ذلك قد يجعله<br />

يتمادى في كذبه أو يؤثر سلباً‏ على شخصيته.‏<br />

< النظر إلى املصادر األصلية للكذب في البيئة<br />

احمليطة بالطفل التي استقى منها هذا السلوك،‏<br />

والعمل على تنقية اجلو احمليط بالطفل من كل<br />

مصادر الكذب.‏<br />

< مداومة الوالدين على تصحيح املعلومات<br />

الكاذبة وكشفها والنهي عنها لدى أوالدهم،‏ بحيث<br />

ال ميثل ذلك سلوكاً‏ ثابتاً‏ لديهم.‏<br />

< إشعار الطفل بالثقة بأن الوالدين اللذين<br />

يقومان بدور املخبر السري قد يدفعان<br />

طفلهما إلى الكذب في مختلف املواقف.‏<br />

< منع شراء األشياء الغالية التي<br />

يرغب فيها الطفل والربط بني عدم<br />

شرائها والكذب.‏<br />

< إعلاء قيمة الصدق بني<br />

أفراد األسرة،‏ وأن يكون الوالدان<br />

قدوة حسنة لطفلهما،‏ وترسيخ<br />

فكرة أن الصدق سلوك محمود،‏<br />

ويجلب السعادة للجميع.‏<br />

< في حالة اللجوء إلى العقاب،‏<br />

يجب أن يكون معقوالً‏ ومتناسباً‏ مع<br />

اخلطأ،‏ وأن يشعر الطفل أن العقاب<br />

الذي وقع عليه بسبب سلوك الكذب،‏<br />

وليس ألنه هو نفسه سيئ.‏<br />

< محاولة توجيه سلوك الطفل<br />

نحو األمور التي تقع في دائرة قدراته<br />

الطبيعية،‏ ما يجعله يشعر بالسعادة،‏ وعدم<br />

تكليفه بأعمال تفوق قدراته حتى ال يشعر بالفشل<br />

واإلحباط.‏<br />

< إشباع حاجات الطفل املختلفة،‏ ألن<br />

عدم إشباعها رمبا يدفعه للكذب انتقاماً‏ أو<br />

هرباً‏ أو تعويضاً.‏<br />

< تأكيد أن الصدق يجلب له النفع<br />

ويخفف من وطأة العقاب في حالة ارتكابه<br />

اخلطأ.‏<br />

< تعليق لوحة في غرفته بها جنوم<br />

كثيرة،‏ وكلما كذب نطمس جنمة من<br />

اللوحة فيتحمس للمحافظة على<br />

النجوم.‏<br />

العدد - 692 يوليو 2016<br />

170


الكويت عاصمة الثقافة اإلسالمية 2016<br />

< أن يطلب منه دفع جزء من مصروفه كعقاب<br />

له في كل مرة يكذب فيها.‏<br />

< إقناع الطفل بأن الكذب يؤدي إلى فقد الثقة<br />

به وعدم احترام اآلخرين له.‏<br />

< جتنب التجريح باأللفاظ،‏ وفي حالة اكتشاف<br />

الوالدين كذب طفلهما واعتذر،‏ فمن األفضل قبول<br />

االعتذار.‏<br />

< أن يكون لديه علبة فيها حلويات ونزيدها<br />

كلما كان صادقاً.‏<br />

< محاولة الوفاء بوعودنا التي نقطعها على<br />

أنفسنا مع الطفل.‏<br />

< العمل على تلبية احتياجات الطفل البسيطة<br />

بقدر اإلمكان.‏<br />

< حتمل أخطاء الطفل وزالته والتسامح معه<br />

كلما أمكن ذلك.‏<br />

< عدم إظهار الريبة والشك في األوالد،‏ وعدم<br />

اللجوء إلى التحقيق معهم،‏ بل يتم إظهار قدر من<br />

الثقة عند التعامل معهم.‏<br />

< أن يتجنب الوالدان الكذب أمام الطفل<br />

للتخلص من املواعيد وااللتزامات وللهروب من<br />

اآلخرين.‏<br />

وختاماً،‏ فإن مشكلة الكذب من املشكالت<br />

السلوكية التي قد يتعرض لها أبناؤنا،‏ ويجب على<br />

الوالدين تفهم هذه املشكلة ومحاولة عالجها،‏<br />

ألن األطفال عماد املستقبل،‏ ونعمة من نعم الله،‏<br />

ورعايتهم واجبة وحمايتهم أمانة في أعناقنا ><br />

171<br />

كذب األطفال وعالجه


العالج بالفن...‏<br />

عودة اإلنسان لفطرته<br />

نسرين البخشونجي<br />

كاتبة من مصر مقيمة في السعودية<br />

مع تزايد تعقيدات المجتمع الحديث،‏ خصوصاً‏ في عالمنا العربي،‏ وما أفضت<br />

إليه من ضغوط نفسية على األفراد،‏ ارتفعت نسب تعرض األفراد ألزمات<br />

نفسية،‏ تتراوح ما بين االكتئاب والتغيرات المزاجية وتفاقمها،‏ إلى حاالت أكثر<br />

قسوة،‏ وهو ما يجعلنا نحاول البحث عن سبل العلالج المختلفة الهادفة إلى<br />

تجاوز أزماتنا النفسية وآالمنا الجسدية.‏ وباإلضافة إلى وسائل وسبل العالج<br />

التقليدية المتوافرة لدى المتخصصين من المعالجين النفسيين وأخصاء<br />

الطب النفسي،‏ هناك اليوم طفرة جديدة تحاول االستعانة بوسائل غير<br />

تقليدية لعلالج االضطرابات المزاجية والنفسية والسلوكية التي يعانيها<br />

اإلنسان المعاصر.‏<br />

يقول الطبيب النفسي فريتز بيرلز:‏ ‏»إن أصح<br />

شكل من أشكال اإلسقاط النفسي هو الفن«.‏ ويقول<br />

الرسام الشهير بيكاسو:‏ ‏»الفن وسيلة لغسل الروح<br />

من تراب احلياة اليومية«.‏ السؤال الذي ميكن أن<br />

نطرحه هنا هو:‏ هل ميكننا بالفعل استخدام الفن<br />

وسيلة عالجية ليس لها آثار جانبية؟ واإلجابة بكل<br />

تأكيد,‏ نعم.‏<br />

في البدء كان اإلبداع وسيلة اإلنسان األولى<br />

الكتشاف الذات والتعبير عنها،‏ والطريقة التي<br />

استخدمها لتدوين مفردات حياته البسيطة<br />

ومالمح حضارته العريقة.‏ لذا صارت أعماله<br />

جزءاً‏ من تاريخ البشرية الفطري األصيل.‏ ولكون<br />

الفنون جسدت جانباً‏ أصيالً‏ في تطور معرفة<br />

اإلنسان بنفسه ومحاولته للتعبير عنها،‏ فمن<br />

الصعب حتديد زمن دقيق أو فترة محددة بدأت<br />

بها عملية استخدام الفنون كعالج.‏<br />

لكن بعض املصادر تؤكد أن لهذا النوع من<br />

العالج جذوراً‏ تاريخية تعود إلى احلضارات<br />

القدمية كاحلضارة املصرية,‏ اليونانية والصينية.‏<br />

فالصينيون على سبيل املثال,‏ اعتمدوا على تقنية<br />

االستشفاء باللون في ‏»الفنج شوي«‏ Feng Shui<br />

حيث لكل لون طاقة تؤثر في احلالة النفسية<br />

واجلسدية لإلنسان,‏ بينما يرى آخرون أن نشأته<br />

تعود إلى فترة مرحلة التنوير في أوربا.‏<br />

وعلى الرغم من استخدام هذه التقنية<br />

العالجية منذ فترة طويلة،‏ فإنها لم تأخذ الشكل<br />

املنهجي،‏ وتصبح علماً‏ متخصصاً‏ قائماً‏ على<br />

األبحاث والدراسات حتى منتصف العشرينيات<br />

من القرن املاضي،‏ حيث سعى إلى تطبيقها<br />

عدد من األطباء النفسيني,‏ مثل سيجموند<br />

العدد - 692 يوليو 2016<br />

172


الكويت عاصمة الثقافة اإلسالمية 2016<br />

فرويد وكارل يوجن,‏ كوسيلة عالجية مؤثرة لفهم<br />

الصراعات النفسية وحتليلها,‏ فاهتم فرويد بدفع<br />

مرضاه لرسم أحالمهم,‏ بينما قدم يوجن لوحات<br />

فنية رائعة.‏<br />

كما أننا جند في سيرة الفنان الهولندي<br />

العبقري الراحل فان جوخ،‏ الذي كان يعاني<br />

مشكالت نفسية عديدة،‏ اضطرته إلى االستشفاء<br />

في مصحة نفسية في باريس مرات عدة،‏ أنه<br />

يشير إلى ارتباطه الشديد بأحد األطباء الذي<br />

كان يستخدم الفن عالجاً،‏ وجنح في تخفيف<br />

املشكالت النفسية لفان جوخ وعالجه،‏ إلى جوار<br />

مجموعة أخرى من مشاهير الكتَّاب والفنانني<br />

الذين عاجلهم ذلك الطبيب بول غاشيه )1828-<br />

1909(، وبينهم الفنان مانيه،‏ ورينوار وغيرهما.‏<br />

عالج األطفال<br />

بداية،‏ هناك تعريف لهذا النوع من العالج<br />

وضعته جمعية العلالج بالفن األمريكية بأنه<br />

االستخدام العالجي لصناعة الفن في إطار مهني<br />

ألولئك الذين يعانون املرض والصدمة أو التحديات<br />

في املعيشة،‏ أو الذين يسعون إلى تنمية الشخصية.‏<br />

وميكن للناس زيادة الوعي الذاتي وغيره حول<br />

التعامل مع األعراض واإلجهاد والتجارب املؤملة<br />

وتعزيز القدرات املعرفية والتمتع مبلذات احلياة<br />

من خلالل إنتاج الفن والتفكير في املنتجات<br />

والعمليات الفنية.‏ ويدمج العلالج بالفن مجاالت<br />

التنمية البشرية والفنون البصرية ‏)الرسم والتلوين<br />

والنحت وغيرها من األشكال الفنية(‏ والعملية<br />

الفنية مع مناذج من االستشارة والعالج النفسي.‏<br />

وتعد جتربة العلالج باأللوان من التجارب<br />

املهمة لعلالج األطفال،‏ خصوصاً‏ لكون األطفال<br />

ال يستطيعون التعبير عن أنفسهم بشكل جيد,‏<br />

إذ تعتبر تقنية العالج بالفن من أفضل الوسائل<br />

العالجية لهم.‏ فالطفل مبدع بفطرته،‏ لذا من<br />

السهل عليه أن يرسم,‏ على سبيل املثال,‏ ليعبر عن<br />

مشاعره.‏ واستطاع األطباء النفسيون أن يعاجلوا<br />

173<br />

العالج بالفن...‏ عودة اإلنسان لفطرته


حاالت كثيرة باستخدام العلاج بالفن فقط مثل<br />

الصدمات النفسية الناجتة عن االعتداء اجلنسي<br />

أو العنف,‏ القلق,‏ صعوبة التعلم,‏ ومشاعر الفقد<br />

الناجتة عن وفاة أحد أفراد العائلة املقربني.‏<br />

كما أظهرالعاج بالفن جناحاً‏ ملحوظاً‏ في عاج<br />

حاالت األمراض العقلية كعلاج تكميلي مثل<br />

الفصام ‏)الشيزوفرينيا(.‏ وعلى مستوى آخر طبقه<br />

بعض األطباء على مرضى السرطان وخصوصاً‏<br />

األطفال وجنح في تخفيف حدة األلم وجتديد روح<br />

األمل داخلهم.‏<br />

العاج بالفن ال يقتصر على الرسم والتلوين<br />

فقط،‏ بل تندرج حتته أساليب عاجية عدة أخرى,‏<br />

مثل العاج بالكتابة اإلبداعية,‏ الرقص,‏ املوسيقى<br />

والتمثيل.‏ لكن هذه التقنية العاجة تتم حتت<br />

إشراف املعالج املتخصص.‏<br />

ما يسترعي االنتباه هنا أن الفن كعاج هو أحد<br />

األساليب التي ميكن لآلباء واألمهات االستعانة بها<br />

وتطبيقها في املنزل بسهولة.‏ فمن السهل أن جند<br />

في البيت مجموعة أدوات متكننا من صنع أعمال<br />

إبداعية بسيطة وسهلة التنفيذ وجميلة تساهم<br />

في خلق حلقة تواصل مع أطفالنا وفي تنمية<br />

شخصيتهم فيما هم يقضون وقتاً‏ ممتعاً.‏<br />

ومن بني هذه الوسائل الرسم احلر مثاً،‏<br />

وطباعة األصابع امللونة على ورقة كبيرة,‏ أو تلوين<br />

كتاب الرسم,‏ واستخدام الصلصال في عمل أشكال<br />

وتكوينات تعجب الصغار،‏ وهي أفكار مناسبة جداً‏<br />

لألطفال الصغار بعمر ثاث سنوات حتى عشر<br />

سنوات.‏<br />

بينما ميكن تلوين ‏»املانداال«‏ Mandala وهي<br />

أشكال هندسية مصممة خصيصاً‏ بغرض تفريغ<br />

املشاعر السلبية.‏ وميكن أيضاً‏ عمل ‏»كوالج«‏<br />

‏)قصاصات(‏ من أوراق اجلرائد واملجات,‏ أو رسم<br />

األماكن التي يشعرون بالراحة فيها مثل الشاطئ أو<br />

احلديقة,‏ وكذلك من املمكن قص األوراق ولصقها<br />

لنصنع منها حيوانات,‏ أو كتابة كلمات إيجابية مثل<br />

‏»شكراً«‏ ثم تلوينها وإهدائها ملن نحب,‏ وأنشطة<br />

فنية مناسبة لألطفال األكبر سنا.‏<br />

كما ميكن للكبار أن يرسموا ‏»بورتريه«‏ ألنفسهم<br />

كتلك التي كانت ترسمها الفنانة املكسيكية فريدا<br />

كاهلو لتعبر عن مشاعرها الداخلية.‏ أو أن يصنعوا<br />

قطعة فنية صغيرة يستخدمونها طوال الوقت،‏<br />

مثل إسورة ملونة أو ميدالية للمفاتيح،‏ ورسم<br />

دائرة امتنان مكتوب داخلها أسماء من قدموا لك<br />

يد العون ذات يوم،‏ وسجل كل موقف جميل مر<br />

بحياتك.‏<br />

وبشكل عام،‏ وبالرغم من تشعب هذا العلم,‏<br />

تظل تقنية العلاج بالفن وسيلة فعالة للمؤمنني<br />

بضرورة عودة اإلنسان إلى فطرته كي يتخلص<br />

من الضغوط التي فرضتها احلياة املدنية<br />

عليه ><br />

منطقان<br />

نظر عبدامللك بن مروان إلى رجلني من جلسائه،‏ أحدهما شاب رأسه قبل<br />

حليته،‏ واآلخر شابت حليته قبل رأسه،‏ فأراد أن يعرف جواب كل واحد منهما<br />

عن حاله تلك،‏ فقال ألحدهما:‏ لم شاب رأسك قبل حليتك؟ قال:‏ ألن شعر<br />

رأسي خُ‏ لق قبل شعر حليتي،‏ والكبير يشيب قبل الصغير.‏ وقال لآلخر:‏ لم<br />

شابت حليتك قبل رأسك؟ قال:‏ ألنها أقرب إلى الصدر موضع الهم والغم.‏<br />

العدد - 692 يوليو 2016<br />

174


الكويت عاصمة الثقافة اإلسالمية 2016<br />

الهناء الشخصي<br />

د.‏ صفية فرجاني أكادميية من مصر<br />

يعتبر مارتن سيلجمان )M.Seligman( أبرز العلماء الذين اهتموا بالجوانب<br />

اإليجابية واإلبداعية في دراسة السلوك اإلنساني في ثمانينيات القرن<br />

العشرين.‏<br />

ويعزى إليه أنه أطلق مصطلح علم النفس اإليجابي ،Positive psychology<br />

فزادت الدراسات التي تناولت الجوانب اإليجابية اإلنسانية بعدما تغلبت<br />

على الدراسات التي تناولت الجوانب السلبية لمواضيع علم النفس.‏ ومن<br />

أهم المصطلحات الحديثة في مجال علم النفس اإليجابي مصطلح الهناء<br />

النفسي .Subjective well-being<br />

تعود اجلذور التاريخية للهناء الشخصي إلى<br />

العصر اليوناني,‏ عندما أطلق أرسطو نظريته<br />

،»Eudemonic« أي نظرية ‏»احلياة الطيبة«‏<br />

واأليدمونيا هي في أصلها اللغوي اليوناني<br />

»Demonia« وتعني امللاك احلارس أي وفرة<br />

النعمة،‏ فالهناء يرتبط بفضائل احلياة,‏ والعطاء،‏<br />

والوجود ذي املعنى.‏ ويعتبر إدوارد داينر وآخرون<br />

)2002 Diener, )Edward أول من أطلق مصطلح الهناء<br />

النفسي في بحوث علم النفس،‏ ويقصد به ‏»تقدير<br />

الشخص وتقوميه حلياته الشخصية من الناحيتني<br />

املعرفية والوجدانية في اللحظة احلالية«,‏ وهذا<br />

التقومي يشمل فترة طويلة من حياة الفرد،‏ تعتمد<br />

على سنة كاملة,‏ وتضمن ردود األفعال العاطفية<br />

للشخص جتاه األحداث,‏ ومزاجه الشخصي,‏ ومدى<br />

رضاه عن حياته،‏ وكذلك مدى رضاه عن مجاالت<br />

جودة احلياة مثل العمل والزواج،‏ ومن ثم يكون<br />

الهناء الشخصي مفهوماً‏ شاماً‏ يتضمن خبرة<br />

االنفعاالت السارة,‏ ومستوى منخفضاً‏ من املزاج<br />

السلبي,‏ ودرجة مرتفعة من الرضا عن احلياة.‏<br />

مكونات الهناء الشخصي<br />

يرى العلماء أن مكونات الهناء النفسي يتم<br />

تقسيمها إلى مكونني أساسيني هما:‏<br />

- املكون املعرفي :Cognitive هو رضا الشخص<br />

عن نفسه,‏ وأسرته,‏ ورفاقه وصحته،‏ وأمواله،‏<br />

وعمله،‏ ووقت فراغه.‏<br />

- املكون الوجداني اإليجابي :Positive affect<br />

هو وجود خبرات أو مشاعر إيجابية سارة مثل:‏<br />

السعادة,‏ واالبتهاج,‏ والنشوة,‏ واالعتداد بالنفس,‏<br />

واحلب,‏ والفرح،‏ والقناعة.‏ وغياب خبرات أو مشاعر<br />

سلبية غير سارة مثل:‏ الغضب واحلزن والشعور<br />

بالذنب واخلزي والقلق,‏ واحلسد وغيرها.‏<br />

ويوصف الشخص الذي يتمتع مبستوى عال<br />

من الهناء النفسي بأنه راض عن حياته وذو<br />

175<br />

الهناء الشخصي


مشاعر إيجابية متكررة من السرور والفرح،‏<br />

ونادراً‏ ما يواجه مشاعر سلبية كاالكتئاب واحلزن<br />

والقلق.‏<br />

ويتميز الهناء الشخصي كمتغير نفسي<br />

بخصائص أساسية أهمها:‏<br />

- 1 ينظر إليه من وجهة نظر الشخص<br />

نفسه.‏<br />

- 2 ال يهتم باالنفعاالت واملزاج الوقتي فقط،‏<br />

بل يفحص دالئل الهناء الشخصي للفرد عبر<br />

فترات أطول من الزمن.‏<br />

- 3 الهناء الشخصي يدرس أيضاً‏ من<br />

خالل طيف واسع ميتد من اليأس إلى االبتهاج<br />

لكي يكتمل الرضا عن احلياة،‏ وحيث إن جتنب<br />

البؤس ليس كافياً‏ لتحقيق الهناء الشخصي،‏ البد<br />

أن يجرب الناس الرضا عن احلياة واالنفعاالت<br />

السارة ويخبرونها،‏ لذا يعد الهناء الشخصي خبرة<br />

العدد - 692 يوليو 2016<br />

176


الكويت عاصمة الثقافة اإلسالمية 2016<br />

أساسية ميرون بها.‏<br />

الدالئل على متتع الفرد بالهناء الشخصي<br />

هناك عدد من الدالئل التي إذا توافرت دلت<br />

على أن الفرد يتمتع بالهناء النفسي،‏ هي:‏<br />

- الرضا عن احلياة :Satisfaction with life<br />

ويعني مدى تقبل الشخص واقتناعه بحياته بوجه<br />

عام,‏ اعتماداً‏ على حكمه الشخصي,‏ وميكن أن<br />

نتعرف على الرضا لدى األفراد عندما نسألهم<br />

عن جوانب مختلفة من حياتهم،‏ فنسألهم مثالً‏ عن:‏<br />

العائلة,‏ والزواج،‏ واملعيشة،‏ والعمل،‏ والصداقة،‏<br />

والصحة،‏ وتشير إجاباتهم إلى رضاهم عنها.‏<br />

- حب احلياة :Love of life هو اجتاه إيجابي<br />

لدى الشخص نحو حياته اخلاصة،‏ ويعكس شدة<br />

متسكه باحلياة والتعلق السار بها وتقديرها.‏<br />

- التفاؤل :Optimism يقصد به نظرة استبشار<br />

نحو املستقبل جتعل الشخص يتوقع األفضل وينتظر<br />

حدوث اخلير ويرنو إلى النجاح.‏<br />

- األمل :Hope هو التفكير املوجه نحو الهدف،‏<br />

حيث يستطيع الفرد الذي يحصل على درجة<br />

مرتفعة في مقياس األمل أن يدرك حدود قدرته<br />

ملواصلة السعي نحو هدف معني والسبل الكفيلة<br />

بذلك,‏ مع فكرة مفادها أن هذا الهدف سوف<br />

يتحقق،‏ ما يجعل الفرد يشعر بالرضا واالرتياح.‏<br />

وهناك نوعان لألمل،‏ هما:‏<br />

- األمل العام:‏ وهو الذي ميثل شعوراً‏ عاماً‏<br />

لدى الفرد بالقدرة على النجاح واإلجناز.‏<br />

- األمل اخلاص:‏ وهو املتعلق بالنجاح في<br />

موضوع معني خاص بالفرد مثل الدراسة أو<br />

العمل.‏<br />

- 5 السعادة:‏ :Happiness هي التي يقدر فيها<br />

الشخص نوعية حياته احلالية تقديراً‏ إيجابياً،‏<br />

وتشمل ثالثة عناصر هي:‏ الرضا عن احلياة<br />

ومجاالتها املختلفة ‏–االستمتاع والشعور بالبهجة<br />

– الغياب النسبي للعناء مبا يتضمنه من قلق<br />

واكتئاب.‏<br />

وأشارت نتائج عدد من الدراسات النفسية<br />

إلى الفوائد التي تعود على األشخاص املتمتعني<br />

مبستوى عالٍ‏ من الرضا الشخصي،‏ فهم أكثر<br />

جناحاً‏ في مجاالت احلياة املختلفة،‏ وعالقاتهم<br />

االجتماعية أقوى من الذين هم في مستوى أقل<br />

من الهناء الشخصي،‏ وتبني الدراسات كذلك<br />

أن األشخاص الذين يتمتعون مبستوى مرتفع<br />

من الهناء الشخصي غالباً‏ ما يكونون متزوجني،‏<br />

ويحظون بعالقات جيدة داخل العمل،‏ ولديهم<br />

القدرة على التعامل مع الضغوط،‏ وفرصتهم أكبر<br />

في الترقيات والراتب الوظيفي األفضل،‏ وهذه<br />

النوعية من األفراد تستطيع التغلب على الظروف<br />

الضاغطة،‏ باإلضافة إلى متيزها مبستوى منخفض<br />

من األفكار والسلوكيات السلبية.‏ وميكن القول<br />

إن ارتفاع مستوى الهناء الشخصي إحدى دالئل<br />

الصحة النفسية والشخصية السوية.‏<br />

تفسير العلماء لتمتع الشخص بالهناء الشخصي<br />

االجتاه األول:‏ االجتاه املعرفي ‏)منحى املتعة(‏<br />

Hedonistic Approach<br />

يرى العلماء أصحاب هذا االجتاه أن الذي يجعل<br />

الناس يشعرون بالهناء الشخصي هو إجنازاتهم<br />

ومواردهم الشخصية وتوقعاتهم بالتقدم.‏ وأن<br />

الهناء الشخصي يعود إلى مصادر عدة منها:‏<br />

الدخل وعدد األصدقاء والتدين والذكاء ودرجة<br />

اإلجناز التعليمي.‏<br />

االجتاه الثاني:‏ تكامل الهناء الشخصي<br />

‏)منحنى السعادة(‏ Eudemonia Approach<br />

اعتمد هذا االجتاه في تفسيره للهناء الشخصي<br />

على تكامل عدد من آراء علماء النفس مثل كارل<br />

روجرز وإبراهام ماسلوا وكارل يوجن،‏ الذين اتفقت<br />

نظرتهم في حتديد ستة أبعاد أساسية للهناء<br />

الشخصي وتشمل:‏ النظرة اإليجابية إلى الذات<br />

وماضيها،‏ اإلحساس بأن احلياة ذات هدف ومعنى،‏<br />

جودة العالقات مع اآلخرين،‏ الفعالية الذاتية في<br />

املجال الشخصي،‏ القدرة على اتباع قناعات الفرد<br />

الذاتية،‏ اإلحساس بتقدير وحتقيق الذات.‏<br />

االجتاه الثالث:‏ الهناء الوجودي Ontological<br />

Well-Being<br />

يشير هذا االجتاه إلى تفسير الهناء الشخصي<br />

177<br />

الهناء الشخصي


للفرد عبر فترة زمنية،‏ حيث يتضمن تقومي الفرد<br />

جلوانب النشاط العقلي جتاه خبرات احلياة املمتدة<br />

‏)سواء املاضي أو احلاضر أو املستقبل(.‏<br />

بعض العوامل التي تؤثر في الهناء الشخصي<br />

1- الثروة:‏<br />

تشير نتائج البحوث النفسية إلى أن الثروة<br />

والدخل املرتفع يرتبطان بعديد من النتائج اإليجابية<br />

في احلياة،‏ حيث يعتقد بعض الناس بأن الثروة تعطي<br />

للفرد الهناء الشخصي أكثر من أي عامل آخر.‏<br />

- 2 اإلميان بالله:‏<br />

يعتبر اإلميان بالله عاملاً‏ مهماً‏ في متتع<br />

الفرد بالهناء الشخصي,‏ فكلما كانت عاقة الفرد<br />

مبعتقداته الدينية قوية كان لديه شعور بالرضا عن<br />

احلياة،‏ مما ينعكس إيجابياً‏ على هنائه الشخصي.‏<br />

- 3 الصحة اجلسدية:‏<br />

هناك عاقة إيجابية بني الصحة اجلسدية والهناء<br />

الشخصي,‏ حيث إن االكتئاب مثلاً‏ يؤثر في الصحة<br />

اجلسدية على املدى الطويل،‏ في حيني أن العواطف<br />

اإليجابية مثل التفاؤل يكون لها تأثير إيجابي على<br />

صحة القلب والشرايني وعلى عمل جهاز املناعة.‏<br />

- 4 القيم:‏<br />

تعرف القيم بأنها ‏»أهداف نسبية مرغوبة،‏<br />

متفاوتة في األهمية«،‏ وتكون مبنزلة مبادئ توجيهية<br />

في حياة الناس.‏ وتعتبر القيم مؤثرة في رأي الفرد،‏<br />

وأحكامه وسلوكه,‏ وتصرفاته،‏ ومن هنا فالقيم التي<br />

يتبناها الفرد مؤثرة على حياته ورضاه عنها ومؤثرة<br />

أيضاً‏ في سعادته،‏ وبالتالي على هنائه الشخصي.‏<br />

- 5 الترفيه:‏<br />

يرى علماء النفس أن الترفيه والتمتع باحلياة<br />

يفضيان إلى الهناء الشخصي للفرد,‏ ويدعم ذلك<br />

من خال االستمتاع بأنشطة يرغبونها في أوقات<br />

فراغهم مثل مشاهدة السينما والقراءة وغيرها من<br />

هواياتهم املفضلة.‏<br />

ثقافة املجتمع والهناء الشخصي<br />

تعتبر ثقافة املجتمع عاملاً‏ مهماً‏ فى حتقيق<br />

الهناء الشخصي للفرد،‏ فلكل مجتمع ثقافته<br />

اخلاصة التي تنعكس على احلالة النفسية العامة<br />

ألفراده،‏ فاملجتمعات التي تسودها روح التعاون<br />

والعمل اجلماعي واحترام اآلخر تنعكس إيجابياً‏<br />

على الهناء الشخصي للفرد,‏ بعكس املجتمعات التي<br />

تسودها النزعة الفردية واألنانية والصراعات التي<br />

تنعكس سلباً‏ على الهناء الشخصي للفرد ><br />

أحسن من القمر<br />

كان أبوموسى بن محمد يحب زوجته حباً‏ شديداً،‏ فقال لها يوماً:‏ أنت<br />

طالق إن لم تكوني أحسن من القمر.‏ فنهضت،‏ واحتجبت عنه،‏ وقالت:‏ قد<br />

طلقتني.‏ اغتم أبوموسى وبات ليلته في سواد من األحزان،‏ فلما أصبح ذهب<br />

إلى املنصور،‏ وأخبره اخلبر،‏ وقال:‏ يا أمير املؤمنين،‏ إن مت طالقها،‏ تلفت<br />

نفسي غماً،‏ وكان املوت أحب إلي من احلياة.‏<br />

جزع املنصور وأحضر الفقهاء،‏ واستفتاهم فأفتوا بأنها قد طُ‏ لقت إال<br />

رجالً‏ من أصحاب أبي حنيفة فإنه قال:‏ بسم الله الرحمن الرحيم:‏ ‏»والتن<br />

والزيتون.‏ وطور سنن.‏ وهذا البلد األمن.‏ لقد خلقنا اإلنسان في أحسن<br />

تقومي«.‏ فال شيء أحسن من اإلنسان.‏ قال املنصور ألبي موسى:‏ لقد فرج الله<br />

تعالى عنك،‏ واألمر كما قال،‏ فأقم على زوجتك.‏<br />

العدد - 692 يوليو 2016<br />

178


المسابقة الثقافية<br />

الكويت عاصمة الثقافة اإلسالمية 2016<br />

جائزة نوبل للسالم<br />

5<br />

منظمة دولية حصلت على جائزة نوبل<br />

للسالم عام ‎1999‎؟<br />

أ-‏ منظمة األمم املتحدة.‏<br />

ب-‏ منظمة التجارة الدولية.‏<br />

ج-‏ منظمة أطباء بال حدود.‏<br />

زعيم عربي حصل على جائزة نوبل للسالم<br />

عام ‎1994‎؟<br />

أ-‏ أنور السادات.‏<br />

ب-‏ ياسر عرفات.‏<br />

ج-‏ احلسن الثاني بن محمد.‏<br />

1<br />

6<br />

مصرفي بنجالديشي حصل على جائزة نوبل<br />

للسالم عام ‎2006‎؟<br />

أ-‏ تاج الدين أحمد.‏<br />

ب-‏ محمد يونس.‏<br />

ج-‏ مجيب الرحمن.‏<br />

رئيس روسي حصل على جائزة نوبل للسالم<br />

عام ‎1990‎؟<br />

أ-‏ نيكيتا خروشوف.‏<br />

ب-‏ بوريس يلتسن.‏<br />

ج-‏ ميخائيل جورباتشوف.‏<br />

2<br />

رئيس أمريكي حصل على جائزة نوبل<br />

للسالم عام ‎2009‎؟<br />

أ-‏ باراك أوباما.‏<br />

ب-‏ جيمي كارتر.‏<br />

ج-‏ ليندون جونسون.‏<br />

3<br />

مسؤول دولي حصل على جائزة نوبل للسالم<br />

عام ‎2001‎؟<br />

أ-‏ كوفي عنان.‏<br />

ب-‏ بان كي مون.‏<br />

ج-‏ بطرس غالي.‏<br />

4<br />

179


9 7<br />

رئيس عربي حصل على جائزة نوبل للسالم<br />

عام ‎1978‎؟<br />

أ-‏ أنور السادات.‏<br />

ب-‏ احلسن الثاني بن محمد.‏<br />

ج-‏ ياسر عرفات.‏<br />

في هذا العام لم يفز أحد بجائزة نوبل<br />

للسالم.‏<br />

أ-‏ 1982.<br />

ب-‏‎1992‎‏.‏<br />

ج-‏ 1972.<br />

10<br />

سياسي أمريكي حصل على جائزة نوبل<br />

للسالم عام ‎1973‎؟<br />

أ-‏ مارتن لوثر كينج.‏<br />

ب-‏ هنري كيسنجر.‏<br />

ج-‏ وودرو ويلسون.‏<br />

ناشط أمريكي حصل على جائزة نوبل<br />

للسالم عام ‎1964‎؟<br />

أ-‏ مارتن لوثر كينج.‏<br />

ب-‏ هنري كيسنجر.‏<br />

ج-‏ ألبرت أينشتاين.‏<br />

8<br />

جوائز املسابقة<br />

اجلائزة األولى 100 دينار<br />

اجلائزة الثانية 75 دينارًا<br />

اجلائزة الثالثة 50 دينارًا<br />

باإلضافة إلى 8 جوائز تشجيعية قيمة كل منها<br />

40 دينارًا.‏<br />

شروط املسابقة<br />

اإلجابة عن تسعة أسئلة على األقل من األسئلة<br />

املنشورة،‏ يكتب على الظرف مجلة العربي ‏»مسابقة<br />

العربي العدد 692«. آخر موعد لوصول اإلجابات<br />

هو أول أكتوبر ‎2016‎م.‏ على أن يكون االسم ثالثياً‏<br />

‏)وباللغتني العربية واإلجنليزية(‏ والعنوان البريدي<br />

واضحني،‏ ورقم الهاتف،‏ وأن يرسل املشاركون من<br />

داخل الكويت صورة البطاقة املدنية.‏<br />

ولن تقبل اإلجابات التي ترد إلى املجلة بواسطة<br />

البريد اإللكتروني.‏<br />

العدد - 692 يوليو 2016<br />

180


الكويت عاصمة الثقافة اإلسالمية 2016<br />

لم يكتف أمير الشعراء أحمد شوقي بكتابة القصائد<br />

كسائر الشعراء الكبار.‏ لكنه ساهم في النهضة األدبية<br />

العربية بأن أدخل الشعر العربي إلى مجال املسرح،‏<br />

فكتب مسرحيات شعرية عدة،‏ بدأها بكتابة مسرحية<br />

‏»علي بك الكبير«،‏ في سنة:‏ ‎1893‎م.‏<br />

عندما مت تتويج شوقي أميراً‏ للشعراء عام 1927،<br />

قرر أن يعود إلى كتابة املسرحيات الشعرية،‏<br />

فأعاد كتابة مسرحيته األولى مرة أخرى،‏ وكتب<br />

مسرحيات شعرية أخرى جديدة،‏ عدا مسرحية<br />

واحدة كتبها نثراً‏ هي مسرحية ‏»أميرة األندلس«.‏<br />

اسم املسرحية التي بدأها شوقي كما يلي:‏<br />

سلي الصبح عني كيف يا عبل أصبح<br />

وأين يراني جنمه حني يلمح<br />

مسرحية ‏»عنترة«.‏<br />

اسم املسرحية التي بدأها شوقي كما يلي:‏<br />

دعي الغزل سلمى وحيي معي<br />

منار احلجاز فتى يثرب<br />

ويا هند هذا أديب احلجاز<br />

هلمي مبقدمه رحبي<br />

مسرحية ‏»مجنون ليلى«.‏<br />

اسم املسرحية التي كتب فيها شوقي:‏<br />

ولكن كيف جتري األمور إذا علمت فارس باخلبر<br />

وقيل لقمبيز فرعون خالف وابنة فرعون لم تأمتر؟<br />

مسرحية ‏»قمبيز«.‏<br />

حل مسابقة العدد 689 أبريل 2016<br />

6<br />

7<br />

8<br />

9<br />

10<br />

اسم املسرحية التي كتب فيها شوقي:‏<br />

ولكن لننس الذي قد مضى<br />

فمثلك تاب ومثلي عفا<br />

دع الذود عن مصر لي إنني<br />

أنا السيف واآلخرون العصا:‏<br />

مسرحية ‏»مصرع كليوباترا«.‏<br />

اسم املسرحية التي كتب فيها شوقي:‏<br />

لم تقبلي الرق منذ حني يا لك من حرة نبيلة<br />

واآلن تخشيني من زواج متشيني في ظله ذليلة<br />

مسرحية ‏»علي بك الكبير«.‏<br />

اسم املسرحية التي كتب فيها شوقي:‏<br />

وتلك فداديني الثالثون كلما تولى رجال جئنني برجال<br />

فما أكثر عشاقي وما أكثر خطابي<br />

ولوال املال ما جاءوا أذالء إلى بابي:‏ مسرحية الست هدى.‏<br />

اسم املسرحية التي كتب فيها شوقي:‏<br />

ذاك من السماسر<br />

يبيع كل عامر يصيبه وغامر<br />

وكم وكم زوج أو طلق من حرائر مسرحية ‏»البخيلة«.‏<br />

كتب أحمد شوقي مسرحية شعرية،‏ استلهم فيها كتاب<br />

كليلة ودمنة،‏ وتدور أحداثها بني األسد والنمر والثعلب<br />

والدب واحلمار،‏ حيث تتحرك أحداث املسرحية وفق<br />

قوة كل شخصية من هذه الشخصيات،‏ لتصيب الشخص<br />

األضعف،‏ وهو احلمار.‏ وهي:‏ مسرحية ‏»شريعة الغاب«.‏<br />

1<br />

2<br />

3<br />

4<br />

5<br />

أسماء الفائزين<br />

الفائز األول:‏<br />

عبداحلكيم علي القديحي - القطيف/اململكة العربية<br />

السعودية.‏<br />

الفائز الثاني:‏<br />

محمود حماد سالم - اإلسماعيلية/مصر.‏<br />

الفائز الثالث:‏<br />

عالء بن جمال عبدالله - بنان/تونس.‏<br />

الفائزون باجلوائز التشجيعية<br />

- 1 نور الدين عدنان نورالدين - أبوظبي/اإلمارات العربية<br />

املتحدة.‏<br />

- 2 رمي محمد عطية محمد - أسوان/مصر.‏<br />

- 3 فجر محمد علي إسماعيل - احملرق/البحرين.‏<br />

- 4 نقاش خليل بن العربي - ميلة/اجلزائر.‏<br />

- 5 صالح محمد إبراهيم صالح - جدة/اململكة العربية السعودية.‏<br />

181<br />

املسابقة الثقافية


للتصوير الفوتوغرافي<br />

ضمن سعيها الكتشاف طاقات إبداعية عربية،‏ تنشر ‏»العربي«‏ نتائج مسابقتها الشهرية ألفضل الصور<br />

الفوتوغرافية.‏ املسابقة مفتوحة لكل املصورين في الوطن العربي.‏ وتختار جلنة حتكيم في ‏»العربي«‏<br />

ثالث صور للحصول على ثالث جوائز شهرية.‏ على أن مينح الفائزون التالون اشتراكات مجانية مبجلة<br />

العربي كجوائز تشجيعية ملدة عام كامل،‏ كما تنشر الصور الفائزة باملراكز األولى.‏<br />

املشاركون في املسابقات الثقافية والفوتوغرافية والعربي الصغير<br />

من داخل دولة الكويت،‏ يجب أن ترفق رسائلهم بصور البطاقة املدنية<br />

والهاتف،‏ واملشاركون القصر يرسلون صور البطاقة املدنية ألحد األبوين.‏<br />

الفائز األول:‏<br />

1 ‏»قهوجي السعادة!«،‏ بعدسة:‏ أحمد حلمي إبراهيم عبدالهادي/‏ مصر.‏<br />

شروط املسابقة<br />

< املجاالت التي يتم التنافس فيها هي فنون الصور الشخصية،‏ جماليات الطبيعة اخلالبة ورصد احلياة البرية،‏ املدن والطرقات وحركة املجتمع في سعيه<br />

لبناء احلياة،‏ التصوير في اإلضاءة املتاحة وتباين األبيض واألسود،‏ توثيق العمارة العربية واإلسلالمية والتراث العاملي،‏ ويحق لكل متنافس االشتراك في<br />

هذه املجاالت.‏ < األعمال الفائزة تصبح ملكاً‏ ملجلة العربي،‏ ويجوز لها نشرها بأي وسيلة إلكترونية أو طباعية مع االحتفاظ بامللكية املعنوية للمصور،‏ وال<br />

يحق للمشارك املطالبة باسترجاع الصور غير الفائزة.‏ < على املشاركني مراعاة املعايير األخالقية والقانونية في الصور املقدمة،‏ ومبشاركة املتسابق يتعهد<br />

بتحمله حقوق امللكية الفكرية واخلصوصية للصور.‏ < تكون الصور األصلية املطبوعة بحجم مناسب ال يقل عن 5x7 ‏)أقصر ضلع 12 سم(،‏ مع ضرورة<br />

تسجيل جميع البيانات اخلاصة باملوضوع ‏)مثل مكان التصوير،‏ وتاريخ التصوير وموضوع الصورة(،‏ وعنوان املتسابق،‏ واسمه الثالثي ‏)باللغة اإلجنليزية(،‏<br />

ورقم هاتفه.‏ < الصور الرقمية املرسلة بالبريد اإللكتروني،‏ ال يقل طول ‏)أقصر ضلع(‏ في الصورة عن 1900 بكسل،‏ ‏)تعادل 5 ميجا بكسل تقريباً(‏ ويجب أن<br />

تكون صيغتها jpg. ، مع ذكر جميع البيانات السابقة.‏ < لن تقبل الصور التي حتتوي على إطارات إضافية أو توقيع أو تاريخ أو عبارات مطبوعة.‏ < ترسل<br />

الصور إلى عنوان ‏»العربي«:‏ صندوق بريد 748، الرمز البريدي،‏ 13008، الصفاة،‏ دولة الكويت.‏ ويكتب على املغلف بخط واضح:‏ مسابقة ‏»العربي«‏ الشهرية<br />

للتصوير الفوتوغرافي،‏ أو على البريد اإللكتروني <strong>alarabi</strong>@<strong>alarabi</strong>.info<br />

العدد - 692 يوليو 2016<br />

182


الكويت عاصمة الثقافة اإلسالمية 2016<br />

اجلائزة األولى<br />

100 د.ك<br />

اجلائزة الثانية<br />

75 د.ك<br />

اجلائزة الثالثة<br />

50 د.ك<br />

2<br />

الفائز الثاني:‏<br />

‏»جمال ميناء القل«،‏<br />

بعدسة:‏<br />

زعيمي شوقي بن نصيب/‏<br />

القل - اجلزائر.‏<br />

3<br />

الفائز الثالث:‏<br />

‏»ألعاب الفارس الصغير«،‏<br />

بعدسة:‏<br />

نبيل علي البواب/‏<br />

كرنفال املنستير -<br />

تونس.‏<br />

الفائزون باشتراكات مجانية في مجلة العربي:‏<br />

< ليلى احلميد بن املعطي/الغرب < محمد كامل أحمد خطاب/مصر < هادي قاسم حسني/البحرين.‏<br />

183<br />

مسابقة التصوير الفوتوغرافي


من المكتبة العربية<br />

رواية ‏»بيسان الحب والكراهية«‏<br />

أتون الدمار والنار<br />

تأليف:‏ عادل الرشيدي<br />

عرض:‏ هيا محمد<br />

في روايته الجديدة ‏»بيسان الحب والكراهية«‏<br />

يقدم عادل الرشيدي الروائي والمؤرخ<br />

الكويتي تجربة سردية خاصة،‏ تتحقق<br />

خصوصيتها من تسليط الضوء على<br />

الجانب الرهيف في حياة البشر خلالل تجارب<br />

الحياة شديدة القسوة،‏ فالكاتب يتطرق<br />

إلى الجانب الرومانسي والعاطفي في<br />

حياة شخصية قد نراها بعيدة كل البعد<br />

عن الحب والرومانسية،‏ حيث جمعت بين<br />

شخصين في أتون الدمار والنار في عالقة حب بريء.‏ وعلى الرغم<br />

من هذه المفارقة،‏ يشعر القارئ بأنه أمام عمل روائي واقعي<br />

ال يقل أهمية عن األعمال الروائية.‏<br />

الرواية تأخذ من الصراع اإلنساني أسلوباً‏ لها<br />

في السرد،‏ ففوضى املنطقة وتداعياتها الراهنة<br />

في بداية القرن احلادي والعشرين للميالد،‏<br />

يحوالن السرد إلى جهة غير متوقعة بلغة سردية<br />

سلسة،‏ كل هذا يساعد القارئ في رهن املاضي<br />

في حلظة الكالم.‏ ويستخدم الكاتب التاريخ بحيث<br />

يقوم بإسقاطه على ما يحدث في الزمن الواقعي<br />

الراهن.‏<br />

تتناول الرواية مساحة تاريخية طويلة تلقي<br />

الضوء على كثير من التفاصيل،‏ وعلى سبيل املثال<br />

نرى في حلظة وفاة اجلد كيف تتغير نظرة ضياء<br />

للحياة،‏ وتبهت ألوانها حتى تسود في عينيه،‏ أما<br />

األستاذ بديع الذي سجن معه،‏ فكان كالفاصلة<br />

للجمل أو كجسر عبره إلى ألوان احلياة،‏ بينما تبدو<br />

بيسان كأنها الغيمة املاطرة التي أزالت الغشاوة عن<br />

عينيه ليرى زخرف احلياة ونعيمها حني وقع في<br />

حبها.‏<br />

اعتمد الروائي على مفهوم ‏»امليتارواية«‏ إن<br />

جاز التعبير،‏ وذلك خللخلة قناعات القارئ وجعله<br />

أقرب إلى فهم حقيقة ضياء كسارد حقيقي وكأنه<br />

العدد - 692 يوليو 2016<br />

184


الكويت عاصمة الثقافة اإلسالمية 2016<br />

يقول:‏ أنت من كتب الرواية ال أنا,‏ و»امليتارواية«‏<br />

من الظواهر التي القت اهتمام النقد الروائي،‏<br />

فلها ردود أفعال مختلفة فيمن يراها أزمة للرواية<br />

وموتها،‏ ومن يراها ظاهرة أدبية جيدة ذات أبعاد<br />

ثقافية،‏ وهي في كل األحوال أسلوب سردي جديد<br />

يعتمد على منهج الرواية.‏<br />

داخل الرواية<br />

يبدو بطل الرواية الفتاً‏ في حتديه وقوة إميانه<br />

ومتكنه من الوصول إلى هدفه رغم األحداث التي<br />

سارت عليها الرحلة من تشويق وإثارة وصراع،‏ فقد<br />

استخدم الكاتب عناصر لغوية متعددة للوصول إلى<br />

الفكرة.‏<br />

كما أنه برع في تصوير شخصية بيسان،‏ تلك<br />

الفتاة املسيحية التي نشأت بني أبوين حنونني،‏ كان<br />

كل همها البحث عن حب آمن،‏ ثم أصبح همها<br />

البحث عن لقمة العيش في ظل الظروف القاسية<br />

التي عايشتها بداية من حلظة فقدانها ألهلها من<br />

جراء القصف حني نراها حتتضن اخلبز بحرارة.‏<br />

وهنا نرى الندم بادياً‏ على بديع،‏ أستاذ التاريخ<br />

الذي كان يعيش في سلام ببلده،‏ إال أن طمعه في<br />

اإلصاح ورفع الظلم جعله يشارك في التظاهرات،‏<br />

ولكنه لم يتخيل أن السلاح سيستخدم وتراق<br />

الدماء عندما خرج،‏ ووصل إلى قناعة أن اجلور<br />

أرحم من سفك الدماء.‏ وهي إشارة فنية إلى<br />

املأزق والتناقضات التي وقع فيها كثير من املثقفني<br />

السوريني في األحداث،‏ وفي هذا النص كما عبر<br />

عنه املؤلف ببراعة.‏<br />

وقد قسم املؤلف الروية إلى ثاثة فصول،‏<br />

هي:‏<br />

األول فصل اجلد،‏ حيث يتطرق فيه الكاتب<br />

إلى نشأة بطل الرواية،‏ سارداً‏ أحداثاً‏ تاريخية على<br />

لسان اجلد،‏ وكاشفاً‏ كيف يكون للتاريخ دور في<br />

حياة كل منا،‏ وال تنفك هذه الدائرة حتى نتخلص<br />

من أخطاء املاضي.‏<br />

أما الفصل الثاني،‏ فقد أسماه أستاذ بديع،‏ وهو<br />

الفصل الذي تبدأ فيه اإلثارة واحلبكة الروائية،‏<br />

وفيه يسلط الضوء على األزمة السورية التي ثارت<br />

نيرانها في الداخل وامتدت تأثيراتها إلى أرجاء<br />

واسعة في العالم،‏ ويرسم فيها الكاتب مسار بطل<br />

الرواية ضياء،‏ ومشاهدات الصراع الدموي بني<br />

الفرق املتخاصمة،‏ حتى يجد بديع الذي يكون أداة<br />

لتصحيح مساره الشائك.‏<br />

أما الفصل الثالث فهو بيسان،‏ وهنا تتجلى<br />

قدرات الكاتب على تشويق القارئ مبجريات<br />

األحداث ويتوق إلكمال الرواية آلخر صفحة من<br />

صفحاتها املفتوحة،‏ حيث يتطرق الكاتب ملعنى<br />

احلب،‏ ومفاهيمه اجلوهرية،‏ ويوضح كيف أنه<br />

الدرع املتينة للسمو باإلنسان لغايات النبل ومكارم<br />

اخللق،‏ كما يشير إلى أنه أصل كل خير ومعه تتفتق<br />

الرؤية الواضحة للحياة.‏<br />

الرواية تغوص عميقاً‏ في النفس اإلنسانية،‏<br />

تعري معتقدات وقناعات تتحكم في حياتنا،‏ وتدفع<br />

للسطح أفكاراً‏ متحررة من قيود اجتماعية عبر<br />

سرد يبدو للوهلة األولى بسيطاً‏ ومباشراً،‏ ولكنه<br />

في الوقت نفسه محبوك بشدة ><br />

لن تبلغ ما بلغه<br />

حُ‏ كي أنه ملا مات حامت الطائي تشبه به أخوه.‏ فقالت له أمه:‏ يا بني أتريد أن حتذو حذو أخيك؟<br />

فإنك لن تبلغ ما بلغه.‏ فال تتعبن في ما ال تناله.‏ فقال:‏ وما مينعني.‏ وقد كان شقيقي وأخي من أبي<br />

وأمي؟ فقالت:‏ إني ملا ولدته كنت كلما أرضعته أبى أن يرضع حتى آتيه مبن يشاركه.‏ فيرضع الثدي اآلخر.‏<br />

وكنت إذا أرضعتك ودخل آخر بكيت حتى يخرج!‏<br />

185<br />

رواية ‏»بيسان احلب والكراهية«‏ ... أتون الدمار والنار


من المكتبة األجنبية<br />

‏»اإلسالموفوبيا«‏<br />

المخاوف الجديدة من اإلسالم في فرنسا<br />

تأليف:‏ فنسان جيسير<br />

عرض:‏ د.‏ نزار العاني<br />

هذا الكتاب جاء متأخراً‏ جداً،‏ وخيراً‏ أنه جاء.‏ وكقارئ<br />

وكاتب تعود بي الذكرى إلى خمسينيات القرن<br />

الماضي،‏ وما ظهر حينذاك من كتب عربية<br />

ومترجمة لمستشرقين كبار تعيد النظر في<br />

موقع اإلسلالم وفكره وعقائده في عصرٍ‏ شديد<br />

االضطراب بعد الحربين العالميتين وانهيار<br />

اإلمبراطورية العثمانية التي تدثّرت وتحصنّت<br />

باإلسالم،‏ وترك انهيارها فراغاً‏ استجرَّ‏ قوى وأفكاراً‏<br />

وعوامل تحت عنوان ‏»الحداثة«‏ و»العصرنة«،‏<br />

أفضت إلى مشاعيّة سياسية وفكرية واجتماعية لم<br />

تنضبط أمورها في أنساق حضارية ومعرفية منتجة حتى يومنا هذا.‏<br />

ال يتسع املجال هنا لذكر عشرات عناوين الكتب<br />

التي تناولت اإلسلام في أواسط القرن املاضي،‏<br />

وأكتفي بذكر بعض األسماء من عرب وأجانب على<br />

سبيل املثال ال احلصر،‏ هم:‏ محمد أسد ‏)ليوبولد<br />

فايس(،‏ خالد محمد خالد،‏ املودودي،‏ مالك بن<br />

نبي،‏ الندوي،‏ األخوان سيد ومحمد قطب،‏ غارودي،‏<br />

رودنسون،‏ مصطفى السباعي.‏<br />

بني يدي الكتاب<br />

الطبعة األولى صدرت في الرياض عام 2009<br />

في سلسلة الكتب املترجمة التي تتوالها ‏»املجلة<br />

العربية«‏ السعودية للكاتب الفرنسي فنسان جيسير<br />

Vincent Geisser وللمترجمني د.‏ محمد الغامدي ود.‏<br />

قسم آدم بله مبدخل من أربع صفحات للمترجمني،‏<br />

ومقدمة وافية للمؤلف تنبسط على 34 صفحة من<br />

أصل 192 صفحة متوسطة القطع تشكل منت الكتاب،‏<br />

الذي يتوزع على أربعة أبواب،‏ وخامتة وملحق،‏ سنمر<br />

عليها تِباعاً.‏<br />

مقدمة املؤلف<br />

يبدأ الكاتب رحلته باالعتراف اجللي والصريح<br />

بوجود موجة كراهية لإلسلام في أوربا عموماً،‏<br />

وفي فرنسا خصوصاً،‏ تتداخل فيها عوامل عاطفية<br />

وعنصرية متثلت برصد ‏»خمسة عشر اعتداء على<br />

العدد - 692 يوليو 2016<br />

186


الكويت عاصمة الثقافة اإلسالمية 2016<br />

مسلمون يقيمون صلواتهم في مساجد أوربا<br />

أماكن عبادة إسالمية،‏ ص 18« في فرنسا خالل سنتني.‏<br />

وفي خلفية هذه الكراهية تكمن ضغائن تاريخية تبقى<br />

ظاللها في الذاكرة منذ أن خرجت فرنسا مطرودة<br />

من اجلزائر،‏ وتهيّؤات عن صعوبة اندماج األجانب<br />

املسلمني باملجتمع الفرنسي ونفورهم من التسليم بقيم<br />

اجلمهورية.‏ وتضغط االنتخابات باجتاه استقطاب<br />

األصوات أو اللعب مبقدراتها وتوجهاتها عبر استخدام<br />

قضية اإلسلالم وجتييش الرأي العام لقبول املسلمني<br />

أو إحداث القطيعة معهم.‏<br />

الباب األول<br />

حتت عناوين فرعية مختلفة،‏ يستقصي الكاتب<br />

أحداثاً‏ ووقائع وسجاالت ‏)احملجبات،‏ التفجيرات،‏<br />

اللحى،‏ جنوح فتيان الضواحي(‏ استدعت شعوراً‏<br />

عاماً‏ في فرنسا معادياً‏ لإلسالم،‏ الذي يشكل الديانة<br />

الثانية فيها من حيث العدد.‏ ويلقي الكاتب الضوء على<br />

‏»املاكينة اإلعالمية لصناعة الصور النمطية السالبة<br />

اجلاهزة عن اإلسلالم،‏ ص‎39‎‏،‏ التي دارت بكل طاقتها<br />

في صبيحة أحداث 11 سبتمبر،‏ وعلى فعل الشيطنة<br />

dibolisation اإلعالمية للمسلمني.‏ وترتكز املاكينة على<br />

مقاالت واستطالعات ومقابالت وأبحاث وكتب موجهة<br />

للرأي العام،‏ ويغيب عن هدفها الفهم البنيوي للفكر<br />

اإلسالمي،‏ ويغلب عليها إما التبجيل املفرط وإما الذم<br />

الالذع،‏ ويذهب الهدف إلى االتهام املجاني للشرق<br />

اإلسلالمي،‏ مع ابتعاد مقصود عن النقد املوضوعي<br />

احملايد والرصني،‏ وهكذا يصبح الرأي العام الفرنسي<br />

لقمة سائغة في فم املصالح واملآرب املشبوهة.‏<br />

في سياق اشتغال هذه املاكينة الشريرة،‏ يتم التضليل<br />

والتشويه املتعمد جلميع جوانب السمات االجتماعية<br />

للمسلمني املغاربة،‏ الذين يعملون في نقابات تتحرك<br />

سياسياً‏ مبفاتيح خفية،‏ ويتم بقصد إهمال شروط<br />

حياتهم املعيشية وظروف تعليمهم القاسية،‏ وهكذا<br />

يُحشرون في زوايا حياتية صعبة وقاهرة،‏ ولذا يَسْ‏ هل<br />

على دعاة التطرُّف واألصولية اصطيادهم والزجّ‏ بهم<br />

في مواجهات غير محسوبة،‏ ويجعلون من املساجد<br />

منصات وأمكنة لتعميق عزلتهم عن مجتمعهم الفرنسي<br />

العلماني الليبرالي املفتوح.‏ وتتفاقم املعضلة بانقسام<br />

الفرنسيني أنفسهم إلى يساري ومييني ومحافظ،‏<br />

واختالف نظرة كل منهم إلى األقلية املسلمة،‏ ما يخلق<br />

حالة هوس ورعب من ‏»الشكل اإلسلالمي للفاشية«،‏<br />

‏)ص 60(، ورُهاب حقيقي من مشروع أسلمة فرنسا.‏ وفي<br />

أتون هذا الغليان واالضطراب وقصور الرؤية واآلثام<br />

املُضمرة والنوايا والغرائز الرعناء،‏ تبدو حقيقة اإلسالم<br />

منزوية ومهانة كأنها وصمة غير قابلة للصفح.‏<br />

الباب الثاني<br />

يتناول الكاتب في هذا الباب دور خبراء<br />

اخلوف اجلدد،‏ ودور املتخصصني االستراتيجيني<br />

187<br />

املخاوف اجلديدة من اإلسالم في فرنسا


فتيات مسلمات يدافعن عن الهوية<br />

ّ ن<br />

واجليوبوليتيكيين واخلبراء األمنيين،‏ وكتاباتهم<br />

وإطالالتهم اإلعالمية،‏ وما تنشره دور النشر من<br />

كتب ودراسات،‏ يخرج بعضها من أقبية أجهزة<br />

االستخبارات وجماعات الضغط السياسي،‏ لتغدو<br />

ظاهرة ‏»اإلسلالموفوبيا«‏ متشابكة وغامضة ومعقدة،‏<br />

وألعوبة بيد املتحكمن مبفاتيح اإلعلالم واألحزاب<br />

والتجمعات السياسية وأغراضها املتضاربة،‏ وبذلك<br />

يتحول اإلسلالم واخلوف منه إلى كرة تتقاذفها حتى<br />

األسماء املُستعارة ‏)نشر أحدهم كتاباً‏ بعنوان ‏»ملاذا<br />

أنا لستُ‏ مُسلماً؟«‏ ملؤلف يسمّي نفسه ‏»ابن الورّاق«،‏<br />

ص‎93‎‏(.‏ ويذهب الشطط بالكاتب رينيه مارشاند عام<br />

2002 إلى إطالق دعوة صارخة حللٍ‏ جذري ملا يسميه<br />

‏»املسألة اإلسلالمية«،‏ يتلخص في طرد كل املسلمن<br />

لبلدانهم األصلية ‏)ص 95(. ويهبط التحليل السياسي<br />

عند أحد مقدمي البرامج احلوارية التلفزيونية إلى<br />

تخيُّل مؤامرة يحيكها األمريكيون واإلسلالمويون<br />

ضد أوربا املوحدة ‏)ص‎99‎‏(‏ والتحضير ملذبحة كونية<br />

‏)ص‎113‎‏(.‏ ويصل الكاتب إلى قناعة مفادها أن التفكير<br />

العام والسطحي لفئة اخلبراء غير املتخصصن في<br />

حقل الدراسات اإلسلالمية املعمقة هو الذي همَ‏ ‏ّش<br />

التفكير العميق والرشيد ‏)ص 102(.<br />

الباب الثالث<br />

احملور الثالث في الكتاب يأخذ طابعاً‏ فكرياً‏<br />

وثقافياً‏ وسجاالً‏ حول صراع محتمل في فرنسا ضد<br />

املسلمن يأخذ شكل املعاداة اجلديدة للسامية،‏ أو<br />

شكل الصراع الذي حتدث عنه املفكر هنتنجتون،‏<br />

قائلالً:‏ ‏»إن معاداة السامية املوجهة نحو العرب قد<br />

حلت بقدر كبير في أوربا محل تلك التي كانت<br />

مصوبة نحو اليهود،‏ ص‎122‎‏«.‏ وحتت هذا العنوان<br />

يرصد املؤلف مجموعة واسعة من الكتب واملقاالت<br />

والدراسات التي حتفر وتنقب عن جذر هذه املعضلة،‏<br />

هل هو الهوتي أو عرقي أو اجتماعي أو سياسي،‏ أم<br />

إن هذا اجلذر وهمي وناشئ من املقابلة بن ‏»من<br />

يحسنون التفكير ومن يجيدون اخلطاب،‏ ص‎126‎‏«،‏<br />

بهدف رسم اخلطوط الفارقة لنظام أخالقي يتحصَ‏<br />

وراءه املجتمع الفرنسي،‏ أو إنه يسار ومين وعلمانية<br />

ودين وعوملة أو أسلمة؟<br />

ويتناول املؤلف قضايا شائكة ال يخرج<br />

منها بطائل،‏ أهمها على اإلطلالق دور املثقفن<br />

والصحفيين واإلعالمين اليهود في صب الزيت<br />

على النار،‏ وتصوير اليهود الفرنسين كضحايا<br />

إلرهاب املسلمن،‏ ويستشهد مبقولة ش.‏ تريجانو<br />

Shmuel Trigano ‏»احملرقة ال تثار من اآلن فصاعداً‏<br />

إال من أجل قضية العرب - املسلمن املُستَعمِ‏ رين،‏<br />

ص‎133‎‏«.‏<br />

إن التشكيك بفرنسيّة ذوي الثقافة اإلسالمية،‏<br />

واخلوف من بلقنة فرنسا،‏ ووصف شباب الضواحي<br />

من املغاربة بالنازين اجلُدُد،‏ والهَوَس بتهيّؤات<br />

تآمرية إسلالمية ضد الغرب،‏ كلها أوهام تخفي<br />

اخلبث الشديد الذي يُضمره أهل املصالح واملآرب<br />

في السياسة ومشاريعها املتداخلة.‏<br />

العدد - 692 يوليو 2016<br />

188


الكويت عاصمة الثقافة اإلسالمية 2016<br />

الباب الرابع<br />

في هذه املساحة من اجلدل واملواجهات<br />

والتناقضات،‏ يولد السؤال املهم واخلطير:‏ أين يقف<br />

املسلمون الفرنسيون من النُخَ‏ ب ومن الناس العاديني<br />

في هذا املخاض الصعب؟<br />

مؤلف الكتاب فنسان جيسير يوزع أفراد هذه<br />

الشريحة إلى ليبراليني وأصوليني مُلتحني ومعتدلني<br />

وخطباء مساجد ومُفتيني مرتبطيني باحلكومة<br />

اجلزائرية ‏)ص‎151‎‏(،‏ والعبيني إعالمييني وحزبيني<br />

فاعلني وانتهازيني وشباب الضواحي،‏ ويتوزع اهتمام<br />

هؤالء على برامج ومشاريع،‏ وبعضهم ملكيون أكثر<br />

من امللك في تخويف الرأي العام من ‏»اإلسلالموية«،‏<br />

وبعضهم يدعم التطرف ويغذيه ويحشد النضواء<br />

الشباب املسلم في املجموعات اجلهادية.‏<br />

ويذكر املؤلف عديداً‏ من األسماء العاملة في هذا<br />

املجال،‏ وتقومي نشاط هؤالء وحضورهم واصطفافاتهم،‏<br />

وعالقة بعضهم السرية برعاة حكومييني محليني<br />

أو خارجييني،‏ وعمل البعض لوضع اليد على ضبط<br />

هذه القوة املسلمة املتعاظمة والترويج لفكرة ‏»وضع<br />

اإلسلالم في فرنسا حتت الرعاية،‏ ص 164«، واقتراح<br />

حلول لفرنسا املريضة بداء اإلسالموية والوصول إلى<br />

أوضاع أمنية مريحة في األحياء الشعبية من دون املس<br />

بقيم احلرية والدميقراطية.‏<br />

كلمة أخيرة<br />

الكتاب جيد،‏ وإذا كان قد صدر قبل اندالع<br />

األحداث - النص الفرنسي صدر في خريف عام<br />

2003 والترجمة العربية صدرت عام - 2009 في<br />

أكثر من بلد عربي،‏ وقبل صعود اإلسلالم األصولي<br />

إلى واجهة األحداث العاملية،‏ فإنه في كثير من فقراته<br />

يتنبأ مبوجة عنف إسالموية متطرفة محتملة ستجتاح<br />

فرنسا،‏ األمر الذي حدث عام 2015.<br />

وأمام التمادي في السلوك واإلدارة الذي مارسه<br />

تنظيم ‏»القاعدة«‏ وميارسه ‏»داعش«‏ بشكل أشد عنفاً‏<br />

وضراوة،‏ صار لزاماً‏ على املسلمني أن يعيدوا النظر<br />

ويتأملوا ظاهرة تنامي خوف الغرب من اإلسلالموية<br />

واإلسالم واخللط بينهما،‏ ما جعل املرشح اجلمهوري<br />

األمريكي لرئاسة بالده دونالد ترامب يجاهر بالطلب<br />

علناً‏ مبنع املسلمني من الدخول إلى أمريكا،‏ وانطالق<br />

دعوات في فرنسا لتجريد املسلمني الفرنسيني من<br />

جنسياتهم!‏ املسلمون اليوم في الغرب،‏ وفي كل مكان،‏<br />

أمام معضلة تتفاقم شرورها مبرور السنوات،‏ وستكون<br />

ارتداداتها خطيرة جداً‏ على بالدنا ومجتمعاتنا ما<br />

لم نسارع إلى وضع ضوابط وحلول للشكل الناشز<br />

املتطرف لإلسلالموية،‏ الذي يهدد باحتالل روما<br />

ولندن وباريس،‏ وفي كتاب فنسان جيسير ما يعني<br />

على تلمُّس طبيعة هذه احللول ><br />

أحسن الغناء<br />

جلس أشعب مرة في سمر مع جاريته رشا فغنت،‏ فقال لها:‏<br />

- ما لي ال أسمع للطعام ذكراً؟<br />

فتغير وجهها وقالت:‏<br />

- سبحان الله،‏ أما تستحي يا شيخ؟ أما في وجهي من احلسن ما يشغلك عن هذا؟<br />

وحني سكت أشعب،‏ طلبت إليه أن يغني،‏ وسألته:‏<br />

- ما أحسن الغناء عندك؟<br />

قال بغير تردد:‏<br />

- هو نشيش املقلى.‏<br />

‏)نشيش:‏ نش اللحم:‏ سُ‏ مع له صوتٌ‏ على املقلى أو في القدر(‏<br />

189<br />

املخاوف اجلديدة من اإلسالم في فرنسا


كتب مختارة<br />

الثقافة في الكويت<br />

إعداد وحترير:‏ د.‏ محمد يوسف<br />

جنم - إشراف:‏ د.‏ سعاد الصباح<br />

دار سعاد الصباح للنشر - الكويت،‏<br />

1997<br />

موسوعة في ثالثة أجزاء شارك في<br />

تأليفها عدد كبير من املتخصصني في<br />

كل ما يتعلق بالثقافة والفن بالكويت،‏<br />

من العمارة والتاريخ إلى املؤسسات<br />

الثقافية واملراسيم األميرية املتعلقة<br />

بالثقافة وغيرها.‏<br />

البيت األوالني ‏)قصص(‏<br />

أمل رضوان<br />

دار العني للنشر - القاهرة،‏ 2014<br />

مجموعة قصصية تتناول حاالت<br />

إنسانية تلتقطها الكاتبة من<br />

شخوص الواقع ببراعة وتكثف<br />

بتركيز شديد على احلاالت<br />

الوجدانية التي تعيشها هذه<br />

الشخصيات من جراء واقعها<br />

العجائبي.‏<br />

ملف داخل كمبيوتر محمول<br />

عبداحلميد البرنس<br />

دار شرقيات - القاهرة،‏ 2011<br />

مجموعة قصصية<br />

حاالت سردية تأخذ شكالً‏<br />

قصصياً‏ تتناول شخصيات تتوزع<br />

إقامتها بني القاهرة والسودان<br />

وكندا،‏ يتأملها الكاتب ويقدمها<br />

للقارئ في قالب سردي مكثف.‏<br />

الفستان<br />

يارا مدحت الشيخ علي<br />

دار احلوار - دمشق،‏ 2014<br />

رواية حتكي قصة فتاة تفقد أمها<br />

وهي صغيرة،‏ ويصيبها الوهم<br />

بأنها لعنة على كل من حتب،‏<br />

وتتناول تفاصيل حياتها بني<br />

الطفولة واملراهقة في محاربتها<br />

للعنتها والكتابة عنها.‏<br />

سيكولوجية الضغوط املهنية<br />

للمحامني ووكالء النيابة<br />

د.‏ سعود محمد احلميدان - ناصر<br />

حمود الكريوين<br />

طبعة خاصة - الكويت،‏ 2016<br />

يشتمل الكتاب على مجموعة من<br />

املقاييس واالختبارات اخلاصة<br />

بالضغوط النفسية ذات الصلة في<br />

ما يتعلق مبهنة احملاماة والسلك<br />

القضائي.‏<br />

في قاع البئر<br />

فرج بن دغيم الظفيري<br />

االنتشار العربي - بيروت - نادي<br />

تبوك األدبي،‏ 2016<br />

مجموعة قصصية للناشئة،‏ تسرد<br />

مواقف حياتية متنوعة استمد<br />

القاص بعضها من سيرته،‏ وانتقل<br />

في عدد منها إلى شرق العالم<br />

وغربه،‏ يسد بها ثغرة في املكتبة<br />

العربية املتخصصة في هذا العمر.‏<br />

باجتاه الطريق<br />

حمزة قناوي<br />

دار الثقافة اجلديدة - القاهرة،‏<br />

2015<br />

مجموعة قصصية يصفها<br />

الكاتب صنع الله إبراهيم بقوة<br />

التعبير ومتانة اللغة وعمق<br />

اإلحساس من كاتبٍ‏ إبداعاته<br />

مستوحاة من جتارب حياتية<br />

عميقة ومتنوعة.‏<br />

قناص جبل الرماد ‏)شعر(‏<br />

محمد مهدي حميدة<br />

دائرة الثقافة واإلعالم - الشارقة،‏<br />

2015<br />

مجموعة شعرية من أجوائها:‏<br />

‏»أتخفف من تصوراتي القدمية /<br />

عن احلياة/‏ فأنزع املخالب/‏ وأمحو<br />

األنياب/‏ وأمضي محتشدا/‏ بخفة<br />

فجائية/‏ تهمس لي في مودة/‏<br />

احلياة ليست غابة«.‏<br />

العدد - 692 يوليو 2016<br />

190


الكويت عاصمة الثقافة اإلسالمية 2016<br />

أصول التخطيط االستراتيجي<br />

د.‏ هيثم عبدالله ذيب<br />

دار اليازوري العلمية للنشر<br />

والتوزيع - عمّ‏ ان،‏ 2016<br />

يتناول مفهوم إدارة التخطيط<br />

االستراتيجي ومكوناتها وأهميتها<br />

ومتطلبات تطبيقها واخلطوات<br />

العلمية والعملية الواجب اتباعها<br />

ضمن عملية متكاملة من<br />

الدراسات والتطبيقات.‏<br />

عندما رأسك في طريق واسمك<br />

في طريق أخرى<br />

إسماعيل فهد إسماعيل<br />

بالتينيوم للنشر - الكويت،‏ 2015<br />

جتربة نثرية وجدانية على تخوم<br />

السرد والتأمل والشعر،‏ يستعير<br />

الكاتب فيها نصوصاً‏ من أشعار<br />

قاسم حداد تأتي كجزء من املنت،‏<br />

تتحاور فيه أسئلة الروائي والشاعر<br />

حول هموم اإلنسانية.‏<br />

في بالد الغسق<br />

أستريد ليندجرين – ت:‏ إبراهيم<br />

عبدامللك<br />

دار املنى - السويد،‏ 2013<br />

مجموعة من القصص القصيرة<br />

للكاتبة السويدية ليندجرين،‏ أشهر<br />

كاتبة أطفال في السويد،‏ وهو كتاب<br />

ميتلئ بالشعر والسحر والطرافة<br />

واجلدية في قالب سردي بالغ<br />

التشويق.‏<br />

خير الله اجلبل ‏)رواية(‏<br />

عالء فرغلي<br />

دار العني للنشر - القاهرة،‏ 2016<br />

تأريخ فني إلحدى املناطق<br />

العشوائية في أحد أحياء<br />

القاهرة،‏ التي جتمع الصعيدي<br />

بالقاهري بالبدوي والغريب<br />

التائه واحللبي الذي ال أصل<br />

له في إطار روائي بكل قيمها<br />

املتناقضة.‏<br />

حكايات احلسن واحلزن<br />

أحمد شوقي علي<br />

دار اآلداب - بيروت،‏ 2015<br />

رواية تعبر بقارئها النهر إلى<br />

جنائن اخليال واللغة،‏ حيث<br />

يتحول غريب اإلنسان إلى<br />

عفريت رغماً‏ عنه،‏ فيختلق جنيَّة<br />

ألحالمه في مغامرة البحث عن<br />

الذات.‏<br />

احلياة كما أردتها ‏)من أوراق علي<br />

الفايز(‏<br />

أحمد الدوسري<br />

منشورات مؤسسة الدوسري للطباعة<br />

والنشر - املنامة،‏ 2016<br />

رواية تتناول ما يبدو سيرة ذاتية<br />

لسارد يدعى علي الفايز،‏ مقدمة<br />

أسئلة وجودية وذاتية لفرد ال يستقر<br />

في مكان،‏ وتتوزع سيرته بني ربوع مدن<br />

عديدة في الشرق العربي خصوصاً.‏<br />

مذكرات فتاة<br />

تأليف:‏ أمل فرح<br />

رسوم:‏ مجدي الكفراوي<br />

دار شجرة للنشر - القاهرة،‏<br />

2015<br />

مذكرات فتاة تسرد ذكرياتها<br />

ويومياتها عن جدتها التي تعيش<br />

في قرية بعيدة بجنوب أسوان،‏<br />

وحكايتها عن القرية وناسها<br />

وتراثها الشعبي وخرافاتها.‏<br />

هنا واآلن ‏)رسائل(‏<br />

بول أوستر-‏ جي إم كوتزي ، ت:‏ أحمد<br />

شافعي<br />

الكتب خان للنشر والتوزيع - القاهرة،‏<br />

2016<br />

الرسائل املتبادلة بني الكاتب األمريكي<br />

بول أوستر،‏ واجلنوب إفريقي حائز<br />

‏»نوبل«‏ جون كوتزي،‏ التي تبادالها على<br />

مدى سنوات عن الثقافة والفلسفة<br />

واألبوة والعائلة واحلب.‏<br />

191<br />

كتب مختارة


المفكرة الثقافية<br />

إعالن الفائزين في الدورة السادسة لجائزة<br />

الطيب صالح العالمية لإلبداع الكتابي<br />

في احتفال كبير ووسط حضور<br />

ثقافي مشهود،‏ أعلنت في العاصمة<br />

السودانية اخلرطوم أسماء الفائزين<br />

بجائزة الطيب صالح في نسختها<br />

السادسة،‏ ووزعت اجلوائز في<br />

محاور اجلائزة الثالثة:‏ الرواية،‏<br />

القصة القصيرة،‏ وقصص األطفال.‏<br />

وأقيم تكرمي شخصية اجلائزة<br />

الثقافية لهذا العام في حفل بقاعة<br />

الصداقة،‏ بحضور النائب األول<br />

لرئيس اجلمهورية بكري حسن<br />

صالح،‏ وضيف الشرف الشيخ نهيان<br />

بن مبارك آل نهيان،‏ وزير الثقافة<br />

وتنمية املعرفة اإلماراتي.‏<br />

وقال رئيس مجلس أمناء<br />

اجلائزة،‏ البروفيسور علي محمد<br />

شمو:‏ إن اجلائزة تدور حول ثالثة<br />

محاور:‏ الرواية،‏ القصة القصيرة،‏<br />

واحملور الثالث هو محور متحرك<br />

يتغير كل عام،‏ وقد اختار مجلس<br />

أمناء اجلائزة أن يكون محور<br />

الدورة السادسة ‏»قصص األطفال«.‏<br />

وأضاف أن هذا احملور استضاف<br />

في الدورات السابقة الشعر،‏ النقد،‏<br />

والترجمة للروايات العربية إلى اللغة<br />

اإلجنليزية.‏<br />

وذكر شمو أن األعمال املشاركة<br />

في محور قصص األطفال 63،<br />

القصة القصيرة 232، وفي محور<br />

الرواية كانت املشاركات 421 رواية،‏<br />

وارتفع عدد الدول املشاركة إلى<br />

الشيخ نهيان بن مبارك آل نهيان وزير الثقافة وتنمية املعرفة اإلماراتي متحدثا<br />

أثناء الدورة<br />

60 دولة،‏ عوضاً‏ عن 27 دولة في<br />

الدورة السابقة.‏ وأوضح أن اجلائزة<br />

اختارت شخصية العام البروفيسور<br />

يوسف فضل حسن،‏ وذلك ملا قدمه<br />

من تراث أدبي يضيء الدرب ألجيال<br />

عدة من بعده.‏<br />

وقال شمو:‏ إن املجلس اختار<br />

جلان التحكيم من شتى بقاع العالم<br />

العربي حتى يضمن شفافية ونزاهة<br />

اجلائزة،‏ مشيرا إلى أن اجللسات<br />

العلمية والندوات املصاحبة للجائزة<br />

ناقشت عدداً‏ من املوضوعات التي<br />

تدور حول عالقة املثقف وسلطة<br />

الفكر التي حتكم سلوك املبدعني.‏<br />

من جهته أكد،‏ ضيف شرف<br />

اجلائزة الشيخ نهيان بن مبارك آل<br />

نهيان وزير الثقافة وتنمية املعرفة،‏<br />

أن دولة اإلمارات حترص على تنمية<br />

العالقات مع أبناء الوطن العربي،‏<br />

مشيرا إلى أن ألبناء السودان<br />

النصيب األوفر من هذا احلرص<br />

واالهتمام والتعاون والتضامن على<br />

نحو مثمر ونافع ملا فيه املصلحة<br />

العربية املشتركة،‏ وأردف مشيداً‏<br />

بصاحب اجلائزة األديب الطيب<br />

صالح،‏ الذي اعترف اجلميع<br />

بقدراته اإلبداعية كأديب سوداني<br />

رائد وعبقري ارتقت أعماله ملصاف<br />

األعمال األدبية العاملية اخلالدة.‏<br />

وقال:‏ ‏»استطاع الطيب صالح عرض<br />

العالقات احلضارية واإلنسانية بني<br />

الشرق والغرب مبوهبة أصيلة وإبداع<br />

ذكي،‏ وإن اجلائزة التي حتمل اسمه<br />

مبادرة وطنية متميزة للوفاء الصادق<br />

العدد - 692 يوليو 2016<br />

192


الكويت عاصمة الثقافة اإلسالمية 2016<br />

الشيخ نهيان بن مبارك آل نهيان يتوسط القائمني على جائزة الطيب الصالح<br />

ألبناء السودان واألمة العربية«.‏<br />

وأثنى الوزير على جهود<br />

القائمين على اجلائزة،‏ التي تهدف<br />

إلى تشكيل وجدان األمة وتعزيز روح<br />

االنتماء والوالء لها،‏ والتعامل بذكاء<br />

مع كل التحديات واحلفاظ على<br />

تراث السودان وهويته وإعالء سقف<br />

الثقافة العربية.‏<br />

ووجه ممثل جلنة التحكيم<br />

األديب والروائي املصري محمد<br />

املنسي قنديل التحية إلى احلضور،‏<br />

وثمّن تنظيم فعاليات جائزة عاملية<br />

وفاءً‏ لألديب الراحل،‏ مشيداً‏ بدقة<br />

التواصل الذي مت خلالل الدورة<br />

والشفافية والتقدير اللذين مكّنا<br />

احملكمن من أداء دورهم.‏<br />

وأشاد قنديل باحلضور الكبير<br />

للمثقفين السودانين جللسات<br />

وبرامج فعاليات اجلائزة،‏ داعياً‏<br />

األمانة العامة للجائزة ملواصلة بث<br />

اإلشعاع الثقافي،‏ وجعل اجلائزة<br />

تواصل تقدمها في مصاف اجلوائز<br />

العاملية الرفيعة،‏ مؤكداً‏ أن األعمال<br />

التي شاركت تقاربت في املستوى<br />

بصدق يضاف للثقافة العربية في<br />

إثراء األدب العربي.‏<br />

ومت تكرمي شخصية العام<br />

البروفيسور يوسف فضل حسن،‏<br />

مدير جامعة اخلرطوم األسبق؛<br />

وهو مؤرخٌ‏ ثَبْتٌ‏ ، أفنى ستة عقود<br />

من عمرهِ‏ في خدمة األكادميية<br />

السودانية،‏ والعربية،‏ واإلفريقية،‏<br />

واإلسلالمية،‏ فكان عطاؤه متميزاً‏<br />

ومنبسطاً‏ في فضاءات التدريس<br />

اجلامعي،‏ والبحث العلمي،‏ وخدمة<br />

املجتمع.‏<br />

فاز باجلائزة األولى في الرواية،‏<br />

السوري سومر شحادة عن ‏»حقول<br />

الذرة«،‏ في حين حصد الكاتب<br />

والروائي املصري عمار علي حسن<br />

اجلائزة الثانية عن ‏»بيت السناري«،‏<br />

والسوداني حمد املصطفى الطيب<br />

بشار اجلائزة الثالثة عن ‏»جتليات<br />

يعقوب الفينيق«.‏<br />

وفي القصة القصيرة،‏ فاز<br />

السوداني الهادي علي محمد راضي<br />

باجلائزة األولى عن ‏»فانتازيا أنثي<br />

الشط«،‏ والسعودي مقبل العلوي<br />

باجلائزة الثانيه عن ‏»النجاب«،‏<br />

والسوداني معاوية محمد احلسن<br />

قيلي عن ‏»بورتريه المرأة ال تنظر<br />

أحداً«.‏<br />

وذهبت اجلائزة األولى في<br />

قصص األطفال للجزائرية أسمهان<br />

منور عن ‏»عالم أجمل«،‏ واجلائزة<br />

الثانية للسوري جنيب كيالي عن<br />

‏»العيد واألرجوحة«،‏ واجلائزة الثالثة<br />

للسورية حنان املصري عن ‏»حكايات<br />

جيري«.‏<br />

وقال الروائي السوداني أمير<br />

193<br />

إعالن الفائزين في الدورة السادسة جلائزة الطيب صالح


الفائزون في الدورة السادسة جلائزة الطيب صالح<br />

تاج السر،‏ ‏»نحن منسك بجائزة<br />

أعتبرها مهمة،‏ فهي إضافة إلى<br />

مميزاتها العديدة التي ذكرتها،‏ تعد<br />

أيام فعالياتها موسم لقاء ثقافي<br />

ضخماً،‏ يلم املثقفني من كل مكان،‏<br />

ومينح اخلرطوم أياماً‏ مبهجة«.‏<br />

وأكد عضو مجلس أمناء<br />

اجلائزة الروائي إبراهيم إسحق،‏ أن<br />

‏»جائزة الطيب صالح العاملية لإلبداع<br />

الكتابي«‏ أصبحت إحدى منارات<br />

احلركة الثقافية بالعالم العربي،‏<br />

مبيناً‏ أن اللغة العربية سادس لغة<br />

في العالم من ناحية عدد املتحدثني<br />

وحجمها،‏ مثنياً‏ على املنافسة التي<br />

أعادت البلاد إلى علوها بعد<br />

انخفاض صوتها الثقافي،‏ مشيراً‏<br />

إلى مشاركة العلماء والبارعني<br />

واملفكرين من أدباء العرب فيها<br />

خال دوراتها الست،‏ وقالت األديبة<br />

األردنية احملكمة في مجال القصة<br />

القصيرة في اجلائزة هذه الدورة<br />

سميحة خريس:‏ إن ‏»جائزة الطيب<br />

صالح«‏ حتمل اسم علم عربي عاملي<br />

نعتز به وننتسب له،‏ مضيفة أنها<br />

جائزة لها قيمتها املعنوية واإلنسانية<br />

ملا لها من مصداقية.‏ يذكر أنه يتمّ‏<br />

تنظيم جائزة الطيب صالح لإلبداع<br />

الكتابي سنوياً‏ منذ عام 2011، ويعلن<br />

عن اجلائزة في يوم 18 فبراير<br />

من كل عام في ذكرى وفاة الكاتب<br />

الراحل ><br />

محمد خليفة صديق/‏<br />

السودان<br />

اإلرهاب رديف اإلقصاء<br />

رغبة في اإلسهام في إثراء<br />

النقاش حول موضوع جتفيف منابع<br />

اإلرهاب،‏ نظمت مؤسسة فرديريش<br />

إيبرت األملانية بالعاصمة األردنية<br />

عمّان في 14 يونيو 2015 مؤمتراً‏<br />

دولياً‏ عنوانه ‏»سر اجلاذبية:‏ الدعاية<br />

والتجنيد لدى داعش«،‏ قدم خاله<br />

باحثون أردنيون وعرب وغربيون،‏<br />

أوراقاً‏ وبحوثاً‏ على درجة كبيرة من<br />

األهمية،‏ بحثت في األسباب التي<br />

جتذب الشباب املسلم لانضمام إلى<br />

تنظيم داعش وتبني فكره.‏<br />

ورقة الباحث التونسي سامي<br />

برهام،‏ حاول فيها اإلجابة عن السؤال<br />

املؤرق:‏ ملاذا يهاجر شباب تونس<br />

إلى ‏»دولة داعش«؟ من خال بحث<br />

ميداني أجنزه شمل مئات احلاالت.‏<br />

وتوصل الباحث إلى نتيجة مفادها أن<br />

تونس على الرغم من أنّها جنحت في<br />

اجتياز مدخل التحول الدميقراطي،‏<br />

وتوفرت على دور قوي لإلسلام<br />

السياسي السلمي املعتدل،‏ فإن فشل<br />

مشروع املزاوجة بني احلداثة والقيم<br />

اإلسلامية للمجتمع،‏ وفي بناء تنمية<br />

عادلة،‏ أدى إلى تهميش وإقصاء<br />

فئات واسعة من السكان،‏ نتيجة غياب<br />

العدالة االجتماعية وفشل التنمية.‏<br />

ويؤكد الباحث أن ‏»خريطة<br />

اإلرهاب هي نفسها خريطة التهميش<br />

االجتماعي؛ واإلرهابيون ينتمون إلى<br />

املناطق احملرومة املهمشة،‏ التي لم<br />

متهدها قدماً‏ الدولة.‏ فهناك مناطق<br />

ال تدخلها التنمية وال املاء النقي<br />

وال املرافق االجتماعية اخلدماتية،‏<br />

وحيث تغيب الدولة ينشط دعاة<br />

داعش،‏ ويجد املواطنون أنفسهم مع<br />

خطاب االستقطاب الداعشي،‏ الذي<br />

يوفر حاجات نفسية واجتماعية<br />

واقتصادية«.‏<br />

العدد - 692 يوليو 2016<br />

194


الكويت عاصمة الثقافة اإلسالمية 2016<br />

هذه الشقوق التي تركتها الدولة،‏<br />

حترك فيها هذا النموذج بسرعة ليمأل<br />

الفراغ.‏ فداعش ليس تنظيماً‏ عسكرياً‏<br />

في تونس،‏ بل هو ظاهرة اجتماعية،‏<br />

نفسية،‏ سياسية،‏ واقتصادية،‏ وحتى<br />

إعالمية،‏ واألهم شبابية؛ يجد فيها<br />

كثير من الشباب احللم/الوهم الذي<br />

يبحثون عنه.‏ فاملهاجرون التونسيون<br />

إلى داعش يبحثون عن ‏»دولة جديدة،‏<br />

تنتدب شعباً‏ جديداً،‏ من دون املرور<br />

عبر طابور طويل من املناظرات<br />

واملصعد االجتماعي الطويل«؛ وهي<br />

هجرة جماعية من مشاعر التهميش<br />

والفقر واحتقار الذات،‏ إلى ‏»مشاعر<br />

الفخر واالعتزاز بالذات،‏ واالنتقال<br />

من الهامش إلى قادة في املركز<br />

اجلديد!«.‏<br />

وغير بعيد عن تونس،‏ فإن<br />

نتائج حتقيقات اجتماعية حول<br />

ظروف وأصول الشباب اإلرهابيني<br />

في املغرب،‏ تدعم وتؤكد النتيجة التي<br />

توصل إليها برهام بخصوص تونس.‏<br />

فأكثر اإلرهابيني يتحدرون من أحياء<br />

هامشية فقيرة تعاني كثافة سكانية<br />

هائلة،‏ ويشكل النازحون القرويون 80<br />

في املائة من سكانها.‏ أحياء تنتشر فيها<br />

البطالة،‏ تعاني التهميش واإلقصاء،‏<br />

واالفتقار إلى املرافق والفضاءات التي<br />

تتيح للشباب استثمار أوقات فراغه<br />

وتطوير إمكاناته وقدراته،‏ ما يجعلهم<br />

أسهل استقطاباً‏ إلى اجلماعات<br />

املتشددة،‏ التي جتد في أحزمة الفقر<br />

تربة خصبة ألفكارها ومعتقداتها.‏<br />

األحياء الفقيرة املنتجة للتطرف<br />

بشتى أنواعه،‏ سواء كان تطرفاً‏ دينياً،‏<br />

أو تطرفا في السلوك واالنحراف،‏<br />

من قبيل تفشي اجلرائم واملخدرات،‏<br />

الوعي املتدني الذي ميس كثيراً‏ هذه<br />

الفئات،‏ الذي يجعل بنيتها هشة قابلة<br />

لالستقطاب من أي جهة متطرفة،‏<br />

فضلالً‏ عن اإلغراءات املادية التي<br />

تستقطب بها هذه التنظيمات هؤالء<br />

الشباب،‏ ما يجعلهم يرون في االلتحاق<br />

خالصاً‏ دنيوياً‏ وأخروياً‏ معاً.‏<br />

فالشباب الذين يتجهون نحو<br />

اإلرهاب والعنف عموماً،‏ يجسدون<br />

العالقة املفترضة بيني أحزمة الفقر<br />

في األحياء املهمشة،‏ واإلرهاب<br />

والعنف الديني،‏ على الرغم من أنهم<br />

قد ال ميثلون احلقيقة كلها،‏ لوجود<br />

حاالت لشباب في وضعية اجتماعية<br />

واقتصادية جيدة وقعوا أيضا في<br />

براثن العنف الديني.‏ إال أن التجارب<br />

دلت على أن املدمجني اجتماعياً‏ من<br />

أقل الناس التحاقاً‏ بالتطرف،‏ وبخاصة<br />

في الدول اإلسالمية.‏<br />

الدولة اإلسالمية املغذية لداعش<br />

فشلت تنمويًا وثقافيًا،‏ ولم تنجح في<br />

دمج الشباب في اللعبة السياسية،‏<br />

وال إقناعهم باملؤسسات التمثيلية<br />

االنتخابية لتحسني ظروفهم،‏ فتفشّ‏ ت<br />

القناعة بأنّ‏ هذه األنظمة وصلت<br />

إلى مرحلة من االستبداد والفساد<br />

واإلقطاع السياسي والتوريث في<br />

املصالح بني فئة محدودة،‏ مع استبعاد<br />

الشريحة االجتماعية الواسعة من<br />

الكعكة االقتصادية والسياسية.‏<br />

فثقافة العنف واإلرهاب نشأت وأينعت<br />

في ظل عوامل اقتصادية - اجتماعية<br />

متدنية.‏<br />

البنية الثقافية للفقر<br />

سلوك العنف أو التسامح،‏<br />

واملشاركة السياسية،‏ وقبول االختالف<br />

وغير ذلك،‏ هي أمور حتددها البنية<br />

الثقافية للمجتمع،‏ فاملجتمع يتكون<br />

من بنية أساسية تشكل القاعدة<br />

االقتصادية،‏ ويشمل البنية االقتصادية<br />

مبا حتويه من الوسائل واألدوات التي<br />

تنتج بها نفسها وثروتها،‏ وبنية فوقية<br />

تشمل كل ما هو ثقافي باملفهوم الواسع<br />

للثقافة،‏ من عقائد وسياسات وفنون<br />

وآداب وأعراف وتعليم وقوانني،‏ حتدد<br />

طرق التفكير وأساليب احلياة ومناذج<br />

السلوك التي تنشأ نتيجة األساس<br />

االقتصادي من ناحية،‏ وتستخدم في<br />

إنتاج وإعادة إنتاج هذا األساس من<br />

ناحية أخرى.‏<br />

فالثقافة بنية فوقية لقاعدة<br />

اقتصادية،‏ فإذا كانت هناك بنية<br />

حتتية اقتصادية قوية،‏ فبالتأكيد<br />

سيزدهر الوعي والثقافة بني الناس.‏<br />

إن املمارسة الثقافية واملنتج الثقافي<br />

ليسا مجرد أجزاء اشتقت من نظام<br />

اجتماعي،‏ أو بعض عناصر انفصلت<br />

عن نسق مت تشكيله مبعزل عنها،‏ وإمنا<br />

هما عناصر أساسية وبنى جوهرية في<br />

تشكيل هذا النظام وبنية ذلك النسق.‏<br />

إن األحياء السكنية الفقيرة التي<br />

تعاني احلرمان والبطالة املتشابكة مع<br />

مستويات متدنية في الصحة واإلسكان<br />

والتعليم،‏ تكتسب سمات أكثر خطورة،‏<br />

منها:‏ السمعة السيئة،‏ مستويات<br />

اجلرمية املرتفعة،‏ وكثرة االضطرابات<br />

الناجتة عن سوء التفاعل االجتماعي،‏<br />

وهذه السمات السلبية حتد من<br />

الفرص املتاحة أمام السكان،‏ وتخفض<br />

نوعية حياتهم،‏ وتخلق في نفوسهم<br />

مشاعر العجز واالغتراب،‏ وتغذي<br />

سلوكيات العنف والالتسامح.‏<br />

فحني يعجز األب الفقير احملبط<br />

عن رفع الظلم االجتماعي عن أسرته،‏<br />

يحاول أن يستبدل به أفعاالً‏ وتصرفات<br />

استحواذية،‏ تعيد إليه بعضاً‏ من<br />

كرامته املفقودة،‏ ويتجلى هذا في<br />

استخدام العنفيني املعنوي واملادي<br />

جتاه الزوجة واألبناء وغيرهم،‏ بهدف<br />

195<br />

اإلرهاب رديف اإلقصاء


ستر عار التخاذل،‏ واستعادة جزء من<br />

قوة الشخصية واملهابة،‏ فاإلنسان<br />

املصاب بالعجز القهري،‏ يشعر بعقدة<br />

ذنب عميقة تتحكم بصورة الشعورية<br />

في توجيه أفعاله.‏ لذلك فالعنف<br />

األسري شائع في أوساط الفقراء مثل<br />

ضرب الزوجة واألوالد،‏ حتى عنف<br />

األبناء جتاه األصول،‏ وضد بعضهم<br />

البعض،‏ باإلضافة إلى عنف األطفال<br />

ضد بعضهم في احلارات وساحات<br />

املدارس والطرقات.‏ وتتم ممارسة<br />

العنف بصورة مباشرة عند االختالف،‏<br />

أو لدى الشعور بأي نوع من اإلهانة،‏<br />

حتى لو كانت شكلية وبسيطة.‏ وجند<br />

التباهي بالقوة اجلسدية والقدرة<br />

على الضرب والتغني بضرب الناس،‏<br />

أو التهديد مبمارسة العنف بأشكاله<br />

للمعارضني واملخالفني لهم بالرأي،‏ أو<br />

للحصول أو استرداد ما يعتبرونه حقاً‏<br />

لهم.‏<br />

فالسلوك العنيف يزدهر ويزداد<br />

في املنظومات املتخلفة،‏ والثقافة<br />

املتخلفة تفرز وتغذي ثقافة العنف،‏<br />

وإذا أخذنا في االعتبار أن حوالي 80<br />

في املائة من السكان فقراء يعيشون<br />

دون مستوى الرفاه،‏ فسيعني ذلك أن<br />

هذا الفقر املتفشي ينتج ثقافة متخلفة،‏<br />

ويالزمه عنف اجتماعي وفردي،‏<br />

مادي ومعنوي،‏ سائد في كل جوانب<br />

احلياة االجتماعية أيضا؛ يزداد حدة<br />

وانتشاراً‏ في األحياء الهامشية،‏ التي<br />

تضم الكثافة السكانية العشوائية<br />

والفقيرة،‏ في هذا املناخ،‏ تزدهر<br />

مفاهيم الرجولة والشرف والتباهي<br />

بالقوة العضلية،‏ وسائر مفاهيم ثقافة<br />

احلارة.‏ وتتعدد مظاهر العنف من<br />

األشكال القمعية اللفظية إلى العنف<br />

اجلسدي والبدني واجلنسي،‏ والغلو<br />

والتطرف باستخدام القوة إللغاء الغير<br />

وتدميره،‏ وفي أعلى حاالته وأخطرها<br />

يتحول إلى إرهاب مدمر.‏ إن سلوكاً‏ أو<br />

نظرة حذرة موجهة نحو شخص غريب<br />

مثالً،‏ تفسر استعدادنا ملواجهة أي<br />

سلوك صادر منه نحونا،‏ بكلمة عنف<br />

أو حتى نظرة توحي بأنها هجوم ودفاع<br />

في اآلن نفسه.‏<br />

في ظل الفقر ال تستطيع<br />

املجتمعات أن توفر املقومات البنيوية<br />

للبناء النفسي املسالم،‏ الذي يؤمن<br />

مببدأ سيادة القانون،‏ ومببادئ املساواة<br />

والدميقراطية،‏ فاألسرة الفقيرة،‏ وهي<br />

املجموعة األولى األساسية في تكوين<br />

املنظومة الفكرية للفرد،‏ ال تستطيع<br />

أن توفر املناخ النفسي املالئم إلشاعة<br />

مناخ مناهض للعنف،‏ وهي بالكاد<br />

تستطيع توفير الطعام أو الكساء<br />

وشروط البقاء على قيد احلياة في<br />

حدودها الدنيا.‏<br />

التفاوتات مصدر الشرور<br />

الدول املغذية لداعش هي<br />

دول نامية ذات كثافة سكانية عالية<br />

وناجت قومي منخفض،‏ ومن ثم دخل<br />

منخفض،‏ وحتى على مستوى الدولة<br />

الواحدة،‏ جند تفاوتاً‏ في متوسط<br />

نصيب األفراد من الدخل القومي،‏<br />

ووجود طبقة واسعة من الفقراء جنباً‏<br />

إلى جنب مع فئة قليلة فاحشة الثراء<br />

داخل الدولة،‏ وهذا التفاوت يكون<br />

في الغالب في مصلحة بعض الفئات<br />

الساكنة في املدن أو بعض األسر دون<br />

غيرها‎‏،‏ بينما تظل الغالبية العظمى<br />

من املسلمني تعيش في فقر.‏<br />

هذا التفاوت في الدخل بني أفراد<br />

املجتمع يقابله غياب برامج حلماية<br />

أصحاب الدخل احملدود باملساعدات<br />

املالية كالضمان االجتماعي،‏ وكذلك<br />

توفير الرعاية التعليمية والصحية،‏<br />

ما يدمي الفقر ويجعل تأثيراته<br />

االجتماعية واالقتصادية والسياسية<br />

والبيئية تتفاقم،‏ ويدل على غياب<br />

املساواة بني أفراد املجتمع،‏ وغياب<br />

العدالة في توزيع الثروة الوطنية.‏<br />

يرى األكادميي البريطاني<br />

ريتشارد ولكنسون في محاضرة<br />

ألقاها بالرباط في مارس 2015، أن<br />

التفاوتات االجتماعية مدخل لكل<br />

الشرور التي ميكن أنْ‏ تطفوَ‏ على<br />

سطح مجتمعٍ‏ من املجتمعات،‏ فاتساع<br />

الفوارق االجتماعية،‏ تترتب عليه آثار<br />

وخيمة على البناء النفسي والصحة<br />

العقلية للمواطنني،‏ نتيجة إحساسهم<br />

باإلحباط والدونية.‏ ويفتح الباب<br />

أمام ارتفاع معدالت اجلرمية.‏ ففي<br />

املجتمعات التي تتسع الهوة فيها بني<br />

األغنياء والفقراء،‏ يتراجع متوسط<br />

عمر اإلنسان بحوالي عشر سنوات،‏<br />

وترتفع نسبة األمراض النفسية<br />

وعلى األخص القلق والكآبة،‏ وتنتشر<br />

التشوهات االجتماعية،‏ مثل ظواهر<br />

العنف واجلرمية واإلدمان واالنتحار<br />

وضعف احلراك االجتماعي وضعف<br />

ثقة الناس ببعضهم البعض.‏ واألنكى<br />

من ذلك،‏ أن التفاوتات االجتماعية<br />

تسمِّمُ‏ العالقات االجتماعية داخل<br />

البلد الواحد،‏ وتخلق جوا من عدم<br />

الثقة لدى الناس.‏ وهي السبب األول<br />

لكثير من األمراض االجتماعية<br />

واملفاسد املالية والسياسية،‏ كالعنف<br />

السياسي واالجتماعي والفردي،‏<br />

ومن ذلك اإلرهاب والسرقة والسطو،‏<br />

البغاء،‏ الفساد السياسي،‏ الهجرة،‏<br />

الغش،‏ والرشوة،‏ وهلم جرا.‏<br />

لذا،‏ فتجفيف منابع اإلرهاب<br />

يبدأ مبحاربة الفقر واإلقصاء<br />

االجتماعي والقضاء عليهما ><br />

الزبير مهداد - املغرب<br />

العدد - 692 يوليو 2016<br />

196


الكويت عاصمة الثقافة اإلسالمية 2016<br />

قصص على الهواء<br />

قصص ألصوات شابة تنشر بالتعاون<br />

مع إذاعة ‏»مونت كارلو«‏ الدولية *<br />

ملاذا اخترت هذه القصص?‏<br />

عرض واختيار د.‏ مشاري الموسى - أكاديمي من الكويت<br />

إنه ملن دواعي سروري أن أستجيب لرغبة مجلة العربي العريقة في أن أقوم بقراءة وحتكيم عدد من القصص<br />

القصيرة التي أرسلها كتَّاب من مختلف األقطار العربية.‏ امتازت هذه القصص القصيرة بأنها تتناول قضايا<br />

يعيشها اإلنسان العربي،‏ ومن ثم فإن هذه القصص حتمل على أكتافها قضايا اإلنسان العربي وحتاول أن تسهم<br />

في عالجها وتسليط الضوء عليها.‏ ومن بني هذه القصص القصيرة فازت أربعٌ‏ بالصدارة.‏<br />

املركز األول:‏ ‏»غياب«‏ إلبراهيم حسني مصطفى/مصر<br />

تدور أحداث قصة ‏»غياب«‏ في قرية صغيرة،‏ يعرف أهلها بعضهم البعض،‏ يستيقظ بطل القصة،‏ وهو غالم<br />

صغير،‏ صباحاً‏ ليجد أن القرية ترتدي ثياباً‏ جديدة:‏ شوارع نظيفة وأرصفة مرتبة ّ مشجَ‏ رة وواجهات جميلة.‏<br />

ورغم جمال هذه الثياب يشعر بطل القصة بأنها ثياب ال تناسب قريته.‏ يعيش البطل في حالة من االستغراب<br />

والدهشة من تغير أحوال القرية وأهلها بني ليلة وضحاها،‏ ليكتشف السبب الحقاً،‏ وهو القضية التي حتاول<br />

القصة معاجلتها من دون التصريح بها،‏ إنه النفاق مبفهومه الواسع الذي يشمل كل أنواعه.‏ أعجبني في النص<br />

أنه لم يكن مجرد نص ذكي فحسب،‏ وإمنا هو نص يحفز القارئ على التفكير في عدة مواضع،‏ انظرْ‏ إلى قوله:‏<br />

‏»تستيقظ ذات صباح...‏ وجتد أشجاراً‏ طويلة ذات أوراق قد نبتت فجأة،‏ الشوارع رصفت وصارت جديدة...«.‏<br />

األساليب البالغية من تشبيهات واستعارات وكنايات أضفت على لغة القصة جماالً،‏ مثل:‏ ‏»نبتسم بداخلنا<br />

كلما زارته أعيننا«،‏ ّ ‏»حتسَ‏ سْ‏ نبض قلبك جيدا،‏ فلرمبا جتده باليمني«.‏ تفوق الكاتب في توظيف ضمائر السارد<br />

وتنويعها ما بني ضمير املتكلم والغائب واملخاطب.‏ كما أنه جنح في وصف شخصياته بجانبيها اخلَلقي واخلِ‏ لقي،‏<br />

فرسم لنا بعض تفاصيل الشخصيات الدقيقة كقوله:‏ ‏»اخلارجون من بيوتهم بخروج الشمس،‏ السائرون وراء<br />

بهائمهم،‏ بهائمهم التي تشاركهم مسكنهم...«،‏ ورصد لنا خصائص الشخصيات النفسية،‏ كقوله:‏ ‏»الشجرة...‏<br />

حلاؤها املليء باالعوجاج كأمنا نفسك املضطربة«.‏ أدعو الكاتب إلى ضرورة مراعاة استخدام عالمات الترقيم<br />

استخداما صحيحا.‏<br />

املركز الثاني:‏ ‏»املنحوتة األرجوانية«‏ لسريعة حديد/سورية<br />

أما قصة ‏»املنحوتة األرجوانية«‏ فإنها تنجح في جذب انتباه القارئ منذ العتبة األولى للنص التي تتمثل<br />

في العنوان ‏»املنحوتة األرجوانية«.‏ هذه املنحوتة التي بسببها تقع بطلة القصة في مأزق تتصاعد وتيرته كلما<br />

استمررنا في قراءة أحداث القصة،‏ فتجد بطلة القصة نفسها بني سندان الفضيحة ومطرقة التواري.‏ فهذه<br />

* تُنشر القصة األولى الفائزة في هذا العدد،‏ بينما تنشر بقية القصص الفائزة على موقع مجلة العربي وتُبث في إذاعة<br />

‏»مونت كارلو الدولية«‏ على مدار شهر يوليو 2016.<br />

197


املنحوتة رغم جمالها جتلب الشر على البطلة،‏ فنظرة اإلعجاب األولى التي كانت حتملها البطلة جتاه املنحوتة<br />

تتحول في نهاية القصة إلى نظرة كرهٍ‏ وعداء.‏ الكاتبة جنحت في مواضع عديدة بتصوير مشاعر الشخصيات<br />

وخلق إحساس لدى القارئ بتلك املشاعر،‏ كقولها:‏ ‏»نظرت إليه بارتباك،‏ تهز رأسها...‏ فاحمرت وجنتاها وفاض<br />

اإلبريق بني يديها...«.‏ ووقعت في أكثر من موضع بأخطاء إمالئية ولغوية،‏ ميكنها أن يتجنب الوقوع في مثلها<br />

مستقبالً‏ إذا التزمت مراجعة النص وقراءته أكثر من مرة قبل تسليمه النهائي.‏<br />

املركز الثالث:‏ ‏»القروي«‏ لعبداللطيف عبدالله/اجلزائر<br />

أما قصة ‏»القروي«،‏ فإن بطلها رجل قروي يخسر أرضه التي هي أغلى ما ميلك،‏ يحاول أن يحافظ على<br />

تلك األرض غير أن ‏»البيلدوزرات«‏ الصفراء واملعدات الثقيلة تهزمه رغم أن السماء والتراب والطيور والنباتات<br />

تشهد أنه صاحب األرض.‏ ال حتمل أحداث القصة أي مفاجآت،‏ بل رمبا يستطيع القارئ تخمني أحداث القصة<br />

ونهايتها من مجرد قراءة عنوانها ‏»القروي«.‏ تتمتع القصة بأسلوب لغوي جميل وقدرة سردية واضحة،‏ انظر<br />

معي مثالً‏ إلى قوله:‏ ‏»دخل إلى حجرته ال يلوي على شيء،‏ وجد نفسه بني أربعة جدران تقطر صمتاً‏ وجماداً،‏<br />

وفي حركة عصبية خلع العمامة امللفوفة فوق رأسه كخرطوم مثلجات لم يلعقه صبي...«.‏ لم يسلم الكاتب من<br />

الوقوع في بعض األخطاء اللغوية إمالئية كانت أو نحوية،‏ مثل:‏ ‏»لم متضي فترة«،‏ ‏»معبرتاً‏ عن مشاعرها«.‏<br />

املركز الرابع:‏ ‏»الكاتب الستيني«‏ ملهدي زلزلي/لبنان<br />

أما قصة ‏»الكاتب الستيني«‏ التي حازت املركز الرابع،‏ فإنها تدور حول كاتب أديب بليغ يتجاوز عمره ستني<br />

عاما،‏ مير مبوقف يغير حياته وينقله من اليأس إلى األمل،‏ وعلى الرغم مما يبدو عليه ذلك املوقف من بساطة،‏<br />

فإنه جنح في أن يجعل ذلك األديب يعيد النظر في حياته.‏ بعبارة أخرى،‏ لم يتغير شيء ذو قيمة في أحداث<br />

حياة ذلك الكاتب،‏ وإمنا تغيرت الزاوية التي كان يشكل من خاللها منظوره للحياة.‏ ولم يحدث هذا التغير إال<br />

محض الصدفة حينما طلب منه أحدهم أن يلتقط له صورة ليرسلها إلى محبوبته.‏ أما أسلوب الكاتب،‏ فقد<br />

كان متواضعاً،‏ يخلو من جمال اللغة والتصوير،‏ ومن ثم فإنني أدعو الكاتب إلى ضرورة االهتمام بجمال اللغة،‏<br />

كما أنني أدعوه إلى االهتمام بعنوان القصة واختيار عنوان جذاب مناسب حملتوى القصة،‏ باعتبار أن العنوان<br />

عتبة رئيسة وأولى من عتبات النص األدبي.‏<br />

غياب<br />

إبراهيم حسين مصطفى - مصر<br />

ألنهم ضخام جداً‏<br />

وأحذيتهم ضخمة جداً‏ فإنهم<br />

ال مييزون جيداً‏ ما حتت<br />

أقدامهم...‏ األشياء مشوشة،‏<br />

فهي رمبا أناس أو حشرات أو<br />

ال شيء!‏<br />

عندما سمعنا كبيرهم<br />

نحذر بعضنا أن يدهسونا لم<br />

يبتسم كسليمان...‏ بل كان<br />

متوتراً‏ وقال:‏ ‏»األمر لن يستمر<br />

طويالً،‏ فقط نرجو الهدوء«.‏<br />

تبدأ األحداث كإشاعة<br />

يتلقفها الناس يحاولون بلعها<br />

تتوقف لثوان في بلعومهم ثم<br />

تنزل بصعوبة معتادة.‏<br />

اخلارجون من بيوتهم<br />

بخروج الشمس...‏ السائرون<br />

وراء بهائمهم...‏ بهائمهم<br />

التي تشاركهم مسكنهم وفي<br />

حالتهم اخلاصة جداً‏ ليالً...‏<br />

يتناثر عليهم رذاذ بولها...‏<br />

األوالد الذاهبون ملدارسهم...‏<br />

بكتب بال أغلفة...‏ كل هؤالء<br />

يتبادلون اخلبر.‏<br />

أصبح الكل يعرف ولكنهم<br />

مازالوا يتكلمون!‏ رمبا ألنهم<br />

يريدون أن يصدقوا ما يقولون،‏<br />

العدد - 692 يوليو 2016<br />

198


الكويت عاصمة الثقافة اإلسالمية 2016<br />

أو رمبا ألنهم ال يجدون شيئاً‏<br />

آخر يتحدثون عنه.‏<br />

سوف تتعجب قليالً‏ عندما<br />

تستيقظ ذات صباح حار بالَ‏<br />

سبب،‏ وجتد أشجاراً‏ طويلة<br />

ذات أوراق قد نبتت فجأة...‏<br />

الشوارع رصفت وصارت<br />

جديدة...‏ أكوام القمامة التي<br />

عمرها من عمر اإلنسان هنا<br />

اختفت فجأة ووضعت مكانها<br />

الفتة كُتب عليها ‏»إننا نرحب<br />

بالزائرين«،‏ احلوائط ووجهات<br />

البيوت طُ‏ ليت كلها بلون<br />

واحد...‏ ذهبت بقايا كتاباتنا<br />

الطباشيرية،‏ رسومنا الركيكة،‏<br />

أيادينا املغموسة في دم<br />

األضاحي...‏ شيء من طفولتنا<br />

البعيدة،‏ نبتسم بداخلنا كلما<br />

زارته أعيننا،‏ اخلطوات التي<br />

اعتدنا أن منشيها بسبب<br />

وبال سبب نضطر اآلن إلى<br />

تغييرها.‏<br />

يسارك،‏ احذر...‏ يقف<br />

عسكري ينظر إليك في شك<br />

ال مبرر له.‏<br />

تحدث ‏»عبدالغفار«‏<br />

احملامي عن التنمية والتقدم<br />

الذي يعم الوطن,‏ الناس<br />

أحياناً‏ يفهمون وأحايني كثيرة<br />

ال يفهمون،‏ وفي كل مرة يهزون<br />

رؤوسهم في صمت,‏ ويؤكد أن<br />

هنا ستكون لنا مدرسة للبنات<br />

وعيادة لتنظيم األسرة,‏ ‏)الكل<br />

مُسيّر ملا خلق له(،‏ هكذا<br />

حتدث الشيخ ‏»قرني«‏ وقال<br />

في خطبة اجلمعة إن طاعة<br />

ولي األمر من طاعة الله.‏<br />

‏»وهذه الشجرة تعوق<br />

الرؤية«،‏ قالها الضابط<br />

كتبرير ال يقبل النقاش,‏ اآللة<br />

الصماء حتفر وتقلع كأمنا<br />

في أحشائك...‏ من كثرة ما<br />

عاشرت تلك الشجرة كأن<br />

بها شيئاً‏ منك أو أن بك شيئاً‏<br />

منها...‏ صالبتها...‏ أعشاش<br />

اليمام فوقها...‏ أصوات<br />

العصافير...‏ حلاؤها املليء<br />

باالعوجاج كأمنا نفسك<br />

املضطربة...‏ صعدوا إلى<br />

السطح،‏ بنية احلمام أيضاً‏<br />

كانت عائقاً،‏ طار احلمام بعيداً‏<br />

ما لم يجد ما يسكن إليه.‏ كل<br />

أشيائك اخلاصة التي تبادلك<br />

النقاش أصابها اخلرس،‏<br />

ترفض التواصل معك،‏ رمبا<br />

متد يدك إلى حبة التوت<br />

فتنوء بنفسها عنك،‏ كنت تسير<br />

مغمضاً‏ اآلن فلتفتح عينيك<br />

جيداً‏ فثمة أشياء ليست في<br />

مكانها الطبيعي،‏ أشياؤك<br />

تنكرك وال تعرفك...‏ حتسس<br />

نبض قلبك جيداً‏ فلرمبا جتده<br />

باليمني...‏ أو ال جتده!‏<br />

عندما توقف الضابط أمام<br />

الباب انكمشت وحدات اللحم<br />

احلي في ركن واحد،‏ كنت أنظر<br />

إلى أحذيتهم الضخمة بها<br />

قطع من حديد،‏ وطأ أحدهم<br />

مرقد أبي،‏ أبي يرتعد من دون<br />

داع،‏ عرفت بعد ذلك أنه يفعل<br />

ذلك كلما رأى أُناساً‏ بالزي<br />

الرسمي،‏ دبت حركة غريبة<br />

وسريعة...‏ الوجوه متوترة<br />

ومشدودة...‏ عربات ذات<br />

زجاج غامق جاءت تصطحبها<br />

عاصفة من التراب.‏<br />

‏»فليلزم اجلميع بيته«،‏<br />

اليوم االمتحان الشهري.‏<br />

‏»إياك والحركة يا<br />

أحمد«‏ تهمس أمي...‏ أناس<br />

بأسمائهم يحضرون لوضع<br />

حجر األساس.‏<br />

‏»ال تنظر من الشباك يا<br />

أحمد«‏ أناس آخرون يقتلهم<br />

الفضول ولكن فضولهم يظل<br />

داخل حدود اجلمجمة.‏<br />

‏»االمتحان الشهري يا<br />

أمي«...‏<br />

‏»ال تقترب من الباب يا<br />

أحمد«...‏ كان صادقاً‏ وانتهى<br />

كل شيء سريعاً.‏<br />

سُ‏ مح للعائدين من املدينة<br />

بالدخول...‏ ذاقوا طويلالً‏<br />

حبات عرقهم املر وهم واقفون<br />

أمام القرية...‏ حتت الشمس..‏<br />

لم يحسوا أبداً‏ باملهانة<br />

وهم ممنوعون من الدخول,‏<br />

جلسوا ميسحون أعينهم من<br />

بقايا إشعاعات الشمس وهم<br />

يبتسمون ويقولون ‏»احلركة<br />

كانت موقوفة في املدينة أثناء<br />

مرور املوكب«.‏<br />

‏»إياك أن تتحرك يا أحمد«‏<br />

صوت أمي اليزال.‏<br />

االمتحان الشهري...‏ بدالً‏<br />

من الدرجات سيوضع حرف<br />

‏»غ«‏ كبير,‏ لن تنظرَ‏ لي ‏»نشوى«‏<br />

بإعجاب ككل شهر,‏ لن تكون<br />

ابتسامتها الرائعة بانتظاري,‏<br />

اقتلع الهواء الالفتة...‏ عاودت<br />

أكوام القمامة االرتفاع,‏ تكلم<br />

الشيخ قرني مرة أخرى عن<br />

عذاب النار,‏ والناس وراء<br />

بهائمهم يبحثون عن شيء آخر<br />

يتحدثون عنه,‏ وأنا أبحث عن<br />

أشيائي,‏ وعن التوتة,‏ ونشوى,‏<br />

واحلمام ><br />

199


طرائف عربية<br />

أيذبح بين املسلمن مؤذن<br />

مقيم على دين النبي محمد؟<br />

فقلت له يا ديك إنك صادق<br />

وإنك في ما قلت غير مفند<br />

وال ذنب لألضياف إن نالك األذى<br />

فإن املنايا للديوك مبرصد<br />

تَ‏ ذكِ‏ ية<br />

داس رجل نبتاً‏ ألعرابي وقال:‏ باسم الله.‏ فقال:‏<br />

لم ترضَ‏ بذبحها حتى تَذْكِ‏ يَتهَا.‏<br />

يدعُ‏ نا التطفل<br />

من أظرف اعتذارات الطفيليين قول<br />

شاعرهم:‏<br />

نحن قوم إذا دعينا أجبنا<br />

ومتى ننس يدعنا التطفل<br />

ونقول علنا دعينا فغبنا<br />

وأتانا فلم يجدنا الرسولُ‏<br />

ديك يرثي ديكاً‏<br />

يقول ديك اجلن احلمصي في ديك ألبي عمرو<br />

عمير بن جعفر،‏ وكان هذا قد ذبح ديكاً‏ وعمل<br />

عليه دعوة:‏<br />

دعانا أبو عمرو عمير بن جعفر<br />

على حلم ديك دعوة بعد دعوة<br />

فقدم ديكاً‏ عُ‏ ‏دّ‏ دهراً‏ ذملقاً‏<br />

مؤنس أبيات مؤذن مسجد<br />

يحدثنا عن قوم هود وصالح<br />

وأغرب ما القاه عمرو بن مرثد<br />

وقال:‏ لقد سبحت دهراً‏ مهلالً‏<br />

وأسهرت بالتأذين أعين هجّ‏ د<br />

ال أدري؟<br />

قال أبو عبدالله اجلماز الشاعر:‏ رأيت بحمص<br />

مجنوناً‏ يقول:‏ يا قوم،‏ من يتعلم:‏ ال أدري؟ يا هذا<br />

تعلَّم:‏ ‏»ال أدري«،‏ فإنك إذا قلت ال أدري علموك<br />

حتى تدري،‏ وإذا قلت:‏ أدري سألوك حتى ال<br />

تدري.‏<br />

اللص املُستَ‏ خْ‏ دَ‏ مْ‏<br />

دخل لص إلى دار وصاحبها منتبه،‏ فلم يجد<br />

في البيت شيئاً،‏ فلما هم باخلروج قال له صاحب<br />

الدار:‏ رد الباب من البرد.‏ فقال اللص:‏ إي والله،‏<br />

من كثرة ما أخذتُ‏ لك تستخدمني.‏<br />

اقتباس<br />

يُحكى عن الشاعر العباسي أبي متام أنه توقف<br />

عند هذا الشطر من قصيدته البائية التي مدح فيها<br />

الشاعر أبا دلف العجلي:‏ ‏»وأحسن من نور يفتحه<br />

ّ الصَ‏ با«،‏ وظل يردده حتى وقف ببابه فجأة سائل<br />

يقول:‏ ‏»من بياض عطاياكم في سواد مطالبنا«،‏ ففرح<br />

أبومتام وأمت صدر البيت الذي كان يردده من كالم<br />

السائل بقوله:‏ ‏»بياض العطايا في سواد املطالب«.‏<br />

ترحيب<br />

كان ابن مسعود،‏ ، إذا رأى طالبي العلم<br />

قال:‏ مرحباً‏ بكم ينابيع احلكمة ومصابيح الظلمة<br />

خلقان الثياب جدد القلوب رياحن كل قبيلة.‏<br />

العدد - 692 يوليو 2016<br />

200


الكويت عاصمة الثقافة اإلسالمية 2016<br />

ومضى!‏<br />

ملا صنف احلسن بن الهيثم كتابه الذي بينَّ‏ فيه<br />

حيلة إجراء نيل مصر عند نُقصانه في املزارع<br />

‏)ببناء سد عند جنوب مصر،‏ شبيه بالسد العالي(،‏<br />

قصد القاهرة حامالً‏ كتابه،‏ فنزل في خان.‏ فلما<br />

ألقى عصاه قيل له إن صاحب مصر امللقب<br />

باحلاكم بأمر الله على الباب يطلبك.‏ فخرج ابن<br />

الهيثم ومعه كتابه.‏ وكان ابن الهيثم قصير القامة،‏<br />

فصعد على دكة عند باب اخلان ودفع الكتاب<br />

إلى احلاكم،‏ واحلاكم راكب حماراً.‏ فلما نظر في<br />

الكتاب قال له:‏ أخطأت!‏ ألن مؤنة هذه احليلة<br />

أكثر من منافع الزرع!‏ ومضى.‏<br />

يكذب على نفسه<br />

حضر قوم إلى اجلاحظ فحضر إليهم غالمه<br />

فسألوه عن سيده؟ فأجابهم:‏<br />

إنه في الدار،‏ فقالوا:‏ وماذا يصنع؟ فقال:‏ إنه<br />

يكذب على نفسه!‏<br />

فقالوا له:‏ وكيف ذلك؟ فقال:‏ إنه نظر في املرآة<br />

مليّاً‏ ثم قال:‏ أحمدك ربي ألنك صورتني جميال!‏<br />

‏)من املعروف عن اجلاحظ أنه كان دميماً(.‏<br />

ثالث خالل<br />

أحضر الرشيد رجالً‏ ليوليه القضاء،‏ فقال<br />

له،‏ إني ال أحسن القضاء،‏ وال أنا فقيه،‏ فقال<br />

الرشيد:‏ فيك ثالث خالل:‏ لك شرف،‏ والشرف<br />

مينع صاحبه من الدناءة،‏ ولك حلم مينعك من<br />

العجلة،‏ ومن لم يعجل قل خطؤه،‏ وأنت رجل<br />

تشاور في أمرك،‏ ومن شاور كثر صوابه.‏ وأما<br />

الفقه فسنضم إليك من تتفقه به،‏ فولي فما<br />

وجدوا فيه مطعناً.‏<br />

لو تركته<br />

أنشد رجل أبا عثمان املازني شعراً‏ له،‏<br />

وقال:‏ كيف تراه؟ قال:‏ أراك قد عملت عمالً‏<br />

بإخراج هذا من صدرك،‏ ألنك لو تركته<br />

ألورثك السل.‏<br />

اسمان<br />

قال ميوت بن املزرع:‏ قال لي سهل بن صدقة<br />

وكانت بيننا مداعبة:‏ ضربك الله باسمك.‏ فقلت<br />

له مسرعاً:‏ أحوجك الله إلى اسم أبيك!‏<br />

أذى<br />

تضجر عمر بن عبدالعزيز من كالم رجل،‏<br />

فقال شرطي على رأسه:‏ قم فقد ‏»أوذيت«‏ أمير<br />

املؤمني.‏ فقال عمر:‏ أنت والله أشد أذى بكالمك<br />

هذا منه.‏<br />

العي واإلعياء<br />

لقي أبوزيد البلخي أحمد بن سهل،‏ األمير،‏<br />

في طريق،‏ وقد أجهد البلخي في السير،‏ فقال<br />

له األمير:‏ عييت أيها الشيخ!‏ فقال أبوزيد:‏ نعم<br />

أعييت أيها األمير.‏<br />

‏)نبه أبوزيد األمير إلى أنه حلن في قوله:‏<br />

أعييت،‏ إذ العي في الكالم،‏ واإلعياء في<br />

املشي(.‏<br />

201


طرائف غربية<br />

معطفاً‏ جديداً.‏<br />

فقال أينشتاين بدهشة:‏<br />

- وما ضرورة ذلك،‏ وأنا هنا في بلد ال<br />

يعرفني فيه أحد؟!‏<br />

ألبرت أينشتاين<br />

النسبية في كل شيء!‏<br />

اشتهر ألبرت أينشتاين بإهماله الشديد في<br />

مظهره وثيابه بالرغم من شهرته العاملية.‏<br />

وذات مرة قابله صديق له في برلني فرآه<br />

مرتدياً‏ معطفاً‏ بالياً‏ تقريباً،‏ فقال له:‏<br />

- أال تعتقد أنك بحاجة إلى معطف<br />

جديد؟<br />

فضحك صاحب نظرية النسبية وقال:‏<br />

- وما لزوم املعطف اجلديد وكل الناس هنا<br />

يعرفون مَن أنا؟ املعطف اجلديد لن يقدم<br />

أو يؤخر في نظرتهم إلى شخصي.‏ وبعد<br />

سنوات،‏ هاجر أينشتاين إلى نيويورك،‏<br />

وهناك قابله الصديق نفسه،‏ ورآه يرتدي<br />

املعطف نفسه وقد ازداد رثاثة،‏ فقال له:‏<br />

- أظن أنه آن لك يا صديقي أن تشتري<br />

مَ‏ ن هو املتفائل؟<br />

سُ‏ ‏ئل األديب األمريكي الساخر مارك توين<br />

)1910-1853( عن تعريفه للشخص املتفائل،‏<br />

فأجاب:‏ ‏»املتفائل هو هذا الرجل الذي ذهب إلى<br />

أحد املطاعم الفخمة وهو مفلس،‏ فطلب وجبة<br />

كاملة من السمك،‏ على أمل أن يكون السلطان قد<br />

استقل زورقاً‏ للنزهة في عرض البحر،‏ فسقط<br />

خامته املاسي في املاء،‏ فابتلعته إحدى األسماك،‏<br />

فصادها أحد الصيادين،‏ فجاء بها وباعها لهذا<br />

املطعم،‏ فيقدمها النادل إلى صاحبنا املتفائل،‏<br />

فيجد فيها خامت السلطان،‏ فيدفع منه ثمن<br />

الوجبة،‏ ويعيش بالباقي غنياً‏ سعيداً!«‏<br />

سبب العقوبة<br />

كتب الكولونيل ستيفن بونسال كتاباً‏ عن مؤمتر<br />

فرساي عنوانه ‏»عمل لم يتم«.‏ وقد روى فيه كيف<br />

عمد شخص يدعى كوتان إلى محاولة اغتيال<br />

كليمانصو رئيس وزراء فرنسا في أوائل القرن<br />

العشرين،‏ ولم تصبه رصاصات مسدسه.‏<br />

فلما اجتمعت هيئة احملكمة الستجواب كوتان<br />

وسماع أقوال الشهود واملتهم والسياسي اجلريح،‏<br />

قال كليمانصو أمام القاضي وهو يشير إلى املتهم:‏<br />

- ما لفت نظري هو سوء رمايته،‏ فهذا فرنسي<br />

يخطئ هدفه ست مرات أو سبعاً،‏ على قصر<br />

املسافة.‏ يجب أن يعاقب ألنه أساء استعمال<br />

سلاحه،‏ وألنه لم يحسن الرماية،‏ وأقترح بعد أن<br />

العدد - 692 يوليو 2016<br />

202


الكويت عاصمة الثقافة اإلسالمية 2016<br />

يقضي مدة سجنه أن يتم تدريبه على الرماية<br />

تدريباً‏ محكماً!‏<br />

نصيحة خبير<br />

هرع أحد سكان بوسطن إلى حكيمها الدكتور<br />

إدوارد إيفريت كي يستشيره وقد مأله الغيظ<br />

من مقال تعرض فيه لنقد الذع وهجوم على<br />

شخصه،‏ وسأل احلكيم:‏ ماذا أفعل؟ هل أطلب<br />

نشر اعتذار بالصحيفة نفسها وفق القانون أم<br />

أرفع دعوى قضائية وأطالب بتعويض؟<br />

فأصغى إليه الدكتور إيفريت،‏ ثم قال:‏<br />

- لو كنت مكانك يا سيدي ملا فعلت شيئاً،‏<br />

فنصف الناس الذين يقرأون هذه الصحيفة<br />

لم يقع نظرهم على املقال،‏ ونصف الذين وقع<br />

نظرهم عليه لن يقرأوه،‏ ونصف الذين قرأوه<br />

لم يفهموه،‏ ونصف الذين فهموه لم يصدقوه،‏<br />

ونصف الذين صدقوه ال خطر منهم،‏ وال شأن<br />

على أي حال.‏<br />

خطاب سياسي<br />

قال مستشار لرئيسه:‏ ‏»إن إلقاءك هذا<br />

اخلطاب هو من قبيل االنتحار السياسي«.‏<br />

وأضاف مستشار آخر:‏ ‏»احلق معه يا معالي<br />

الوزير...‏ فاخلطاب من الدقة والوضوح<br />

بحيث ال يصلح سياسياً!«.‏<br />

ملاذا غادر؟<br />

كان البريطاني نيجل بروس جنماً‏ ذائع<br />

الصيت في النصف األول من القرن العشرين،‏<br />

تخصص في أدواره الكوميدية،‏ ومن طرائف<br />

ما ذكر أن ظروفاً‏ غريبة دفعته للقيام برحلته<br />

األولى إلى أمريكا،‏ إذ بينما كان يقضي عطلة<br />

مارك توين<br />

نهاية األسبوع في ضيافة إحدى األسر بإحدى<br />

مقاطعات بريطانيا،‏ قرر أن يقوم بنزهة وحده<br />

في حديقة املنزل قبل اإلفطار.‏ وبينما كان<br />

يسير وقعت عينه على ثمرة خوخ ناضجة<br />

تتدلى من شجرة،‏ فمد يده وقطفها والتهمها،‏<br />

ثم صعد إلى الدار لتناول قدح من القهوة.‏<br />

وسمع ربة الدار وهي تتحدث عن احلدائق،‏<br />

ثم قالت:‏ ‏»إننا نتلهف على مواجهة احملكمني<br />

في معرض البساتني الذي سيقام بعد ظهر<br />

اليوم،‏ فقد ظللنا عشرين عاماً‏ نحاول<br />

إقناعهم بأن زراعة اخلوخ اجليد ممكنة في<br />

هذا الطقس من دون جدوى،‏ واآلن حمداً‏ لله،‏<br />

فقد أثمرت الشجرة ثمرة طيبة ندخل بها<br />

املسابقة بثقة«.‏<br />

ولم ينتظر بروس أكثر من ذلك،‏ فجمع ثيابه<br />

وتسلل من باب جانبي!‏<br />

203


منتدى الحوار<br />

حكاية الجثة وسياسة الكلب<br />

وحكاية أخرى<br />

حسين عبد العزيز - مصر<br />

عندما تستقل سيارة من اإلسكندرية إلى القاهرة – أو من القاهرة إلى<br />

المنصورة – تمر على عدد ال بأس به من القرى،‏ وعند إحدى القرى قد يقع<br />

حادث سيارة يسفر عن مقتل رجل،‏ أو شاب ‏)من النادر أن تموت المرأة في<br />

حادث سيارة(،‏ وبسرعة البرق يخرج أهالي تلك القرية،‏ لتكن منية سندوب<br />

‏)قريتي أنا(‏ مثالً،‏ وأهل المتوفى أو المصاب وتحدث صدمة ينتج عنها،‏ لو<br />

لم يفر السائق،‏ الفتك به وبسيارته،‏ ويقومون بغلق الطريق بواسطة جمع<br />

قش وأخشاب وإطارات قديمة لحرقها.‏ وفي بعض األحيان يحدث هجوم<br />

على السيارات الواقفة لو تأخرت سيارة اإلسعاف!!‏<br />

ماذا يحدث لو كان هذا املتوفى غريباً‏ وليس من<br />

أهل القرية؟ يخرج بعض أهالي القرية الستطالع<br />

األمر،‏ وعندما يتضح أن املصاب الذي حتول إلى<br />

متوفى ليس من أهل القرية تهدأ األعصاب،‏ ويحاول<br />

البعض،‏ لو كان لديهم املقدرة،‏ نقل اجلثة من عرض<br />

الطريق ووضعها بجوار إحدى األشجار القريبة<br />

ووضع كومة قش عليها وتسير السيارات في حالها<br />

وتستمر احلياة،‏ ألن املتوفى غريب وليس من أهل<br />

القرية.‏<br />

هذا ما يحدث مع العرب على مستوى العالم،‏<br />

فهم غرباء عن العالم مبا فعلوه في أنفسهم وما<br />

سمحوا به أن يحدث لهم.‏ انظر إلى فلسطني،‏ انظر<br />

إلى العراق،‏ انظر إلى لبنان،‏ انظر إلى السودان،‏ انظر<br />

إلى الصومال،‏ التي خرجت من التاريخ،‏ ال ميكن أن<br />

يحدث لبقرة في الهند،‏ أو لكلب في فرنسا...‏ أو<br />

لشاذ في أمريكا،‏ أو سحاقية في هولندا سياسة<br />

الكلب،‏ مبعنى أنه عندما يقابلك كلب في الطريق<br />

- أي طريق – وهذا الكلب مسعور ويرى ويحس أن<br />

اخلوف متلك منك،‏ فإنه يكون شجاعاً‏ مخيفاً‏ ويأخذ<br />

في نفسه مقلباً‏ بأنه شجاع مخيف حتى لو كنت فتوة<br />

أو بطل حرب،‏ فهنا بسبب اخلوف تتحول إلى طفل،‏<br />

لكن ‏)ولكن هذه مهمة جداً‏ وتساوي عمرنا(‏ عندما<br />

يراك الكلب داخالً‏ عليه ولست خائفاً‏ منه وال تعيره<br />

أي اهتمام،‏ بل إنك تكاد تهرسه وأنت متر،‏ هنا يخاف<br />

الكلب بل يحتله اخلوف والقلق ويفسح لك الطريق<br />

وهو يهز ذيله معلناً‏ رغبته في أن يبقى كلباً.‏<br />

هذا ما يفعله اليهود معنا،‏ حيث إنهم يطبقون<br />

فلسفة الكلب،‏ وفي أحيان أخرى يطبقون حكاية<br />

الذئب واحلمل.‏<br />

وحكاية الذئب واحلمل توضح لنا متاماً‏ كيف<br />

تفكر وتعمل وحتتل أمريكا وإسرائيل دول العرب.‏<br />

وها هي احلكاية ‏)احلمل - العرب(‏ تشرب<br />

العدد - 692 يوليو 2016<br />

204


الكويت عاصمة الثقافة اإلسالمية 2016<br />

من جدول صاف وفي اللحظة نفسها يصل ذئب<br />

‏)إسرائيل - أمريكا(‏ جائعاً‏ باحثاً‏ عن فريسة إلى حيث<br />

احلمل يشرب،‏ فيقول له في غضب،‏ من يجعلك بهذه<br />

اجلرأة فتعكر مشربي؟ يجب أن تعاقب على تهورك،‏<br />

فيرد احلمل ‏)العرب(:‏ ‏»موالي يجب أال تغضب ولكن<br />

األحرى بجاللتك;‏ أن تتأمل أني أشرب من اجلدول<br />

وأنا بعيد مبسافة عشرين خطوة عن جاللتك...‏ وهذا<br />

يعني أنني ال أستطيع أن أعكر مشربك بأي شكل«.‏<br />

يرد الذئب ‏)إسرائيل - أمريكا(:‏ ‏»أنت تعكره وأنا<br />

أعرف أنك أنت الذي عكرت اجلدول العام املاضي،‏<br />

وهناك رواية تقول بأنك الذي عكرته العام قبل<br />

املاضي«.‏<br />

يرد احلمل ‏)العرب(:‏ كيف أستطيع أن أفعل هذا<br />

وأنا لم أكن مولودًا بعد،‏ فيرد الذئب ‏)إسرائيل -<br />

أمريكا(:‏ إذا لم تكن أنت فهو أخوك.‏<br />

يرد احلمل ‏)العرب(:‏ ليس لي أي أخ.‏<br />

يرد الذئب ‏)إسرائيل-‏ أمريكا(:‏ إذاً‏ فهو أحد<br />

أفراد عشيرتك،‏ ولهذا يجب أن أنتقم لنفسي.‏<br />

واستناداً‏ إلى مبدأ القوة،‏ يحمل الذئب ‏)إسرائيل<br />

- أمريكا(‏ احلمل ‏)العرب(،‏ مبتعداً‏ إلى عمق<br />

‏)املشاكل(‏ الغابة ثم يأكله ‏)يحتله(.‏<br />

هل نفهم من حكاية الذئب واحلمل حتمية<br />

األحداث والتاريخ،‏ مبعنى أننا وافقنا نحن على أن<br />

نلعب دور احلمل ‏)الضحية(‏ وصمتنا ووافقنا على<br />

إسناد دور البطولة ‏)القوة(‏ ألمريكا وإسرائيل بحكم<br />

أنهما ميلكان العلم ومن ميلك العلم ميلك القوة،‏ ومن<br />

ميلك القوة له احلق في ما يفعله،‏ ألنه منذ أن قالها<br />

ميكافيللي ‏»البقاء لألقوى«‏ وهي سارية املفعول؟!‏<br />

لكن نحن العرب نقول قول ديكارت ‏»دعه<br />

يخدعني بقدر ما يرغب،‏ فإنه لن يفلح بأن يحولني<br />

إلى ال شيء،‏ ما دمت أفكر بأنني شيء ما«...‏ ونكتفي<br />

بهذا ><br />

205<br />

حكاية اجلثة وسياسة الكلب وحكاية أخرى


وتريات<br />

القمر األعشى<br />

تذرف الروح ضحكاتٍ‏ ضامرة<br />

وتتكدس في احللق حجارةً‏ من ملح<br />

فالشموعُ‏ تنفد والليل مازال في مطلعه<br />

واجلرار تفرغ والقيظ مازال في أوله<br />

ما عاد هناك فخرٌ‏ ألحد<br />

انتهى زمن السيف والترس<br />

ما عاد سوى منازل التكاثر املتوجسة<br />

وقلقٌ‏ يعلوه قلق<br />

أيها املنجل األعمى<br />

دع الشوكَ‏ في محنته وأمراضه السارية<br />

وانْهِ‏ وطرَك من الربيع<br />

فالزهرُ‏ املغرور اعتلى الثرى<br />

يدعوكَ‏ بعطره<br />

فاستَجِ‏ بْ‏ لدعوته<br />

يا عيون األمعاء الفارغة<br />

كيف ترجني النور من قمرٍ‏ أعشى؟!‏<br />

أغمضي جفنيكِ‏ ونامي على سُ‏ ررِ‏ الكوابيس<br />

مسملةَ‏ الرجاء<br />

إني ألدعوكِ‏ :<br />

أدعوك للنوم أيتها النائمة<br />

للحلم أيتها احلاملة<br />

أيتها البلبلة في جوقةِ‏ الغربان ابقي نائيةً‏ هكذا<br />

وال تلجي مطاف النفس<br />

فأنفاسكِ‏ الباردة لن ينهي ارجتافها<br />

أغطيةٌ‏ من ثلج...‏<br />

وجسدكِ‏ املُدمّ‏ ‏ى لن يوقف نزفَه عقاقير<br />

املشعوذات.‏<br />

أوس عطا أبو العطا - سورية<br />

العدد - 692 يوليو 2016<br />

206


الكويت عاصمة الثقافة اإلسالمية 2016<br />

عزيزي العربي<br />

من خواطر عاشق لمجلة العربي<br />

إن كاتب هذه السطور من<br />

قرَّاء مجلة العربي الدائمني منذ<br />

صدورها،‏ وفي البداية أتذكر مقولة<br />

سجلتموها وكتبتم عنها في افتتاحية<br />

‏»عزيزي القارئ«‏ في أحد أعداد شهر<br />

يناير منذ زمن بعيد،‏ وألنها مفيدة<br />

وطريفة معاً،‏ فإنني أتذكر ملخصها<br />

في ما يلي،‏ ألنني هنا أعتمد على<br />

الذاكرة بفضل الله تعالى:‏<br />

‏»إذا كان في العالم ألف شخص<br />

صالح،‏ فيجب أن تكون واحداً‏ منهم،‏<br />

وإذا كان في العالم مائة شخص<br />

صالح،‏ فيجب أن تكون واحداً‏ منهم،‏<br />

أما إذا لم يكن في هذا العالم إال<br />

شخص واحد صالح،‏ فيجب عليك<br />

أن تكون أنت هذا الشخص«.‏<br />

هذه املقولة رغم مثاليتها فقد<br />

أسعدتني كثيراً،‏ ليس بالنسبة<br />

إلي شخصياً‏ فقط بل وأيضاً‏ في<br />

ما يخص مجلتنا الغرّاء العزيزة<br />

على قلوبنا والقريبة من عقولنا،‏<br />

ألنها فعلالً‏ فريدة بيني مثيالتها<br />

على مستوى اإلصدارات الثقافية<br />

احملترمة في لغة الضاد.‏<br />

وأذكر أنني ذهبت ألحد األطباء<br />

املعاجليني لي،‏ وفوجئت بوجود<br />

مجلة العربي من بيني الصحف<br />

واملجالت أمام املرضى املنتظرين<br />

في االستراحة،‏ وقبل الدخول في<br />

تفاصيل ما أعاني منه،‏ كانت البداية<br />

في احلديث معه أنني أرى ألول<br />

مرة مجلة العربي في عيادة أحد<br />

األطباء فضحكنا من القلب،‏ وأخذ<br />

كل منا يتبارى في الثناء على املجلة<br />

ومكانتها لديه.‏<br />

وعندما ذهبت لالستشارة بعد<br />

ذلك،‏ أخذت معي أربعة أعداد<br />

حديثة الصدور لتكون حتت رغبة<br />

القرّاء املترددين على العيادة،‏ وكذلك<br />

E.mail: subscribe@<strong>alarabi</strong>.info<br />

قسيمة جتديد اشتراك / اشتراك جديد<br />

االسم الثالثي<br />

العنوان البريدي<br />

العنوان اإللكتروني<br />

الهاتف:‏ ‏)املنزل(‏<br />

‏)العمل(‏<br />

الهاتف اجلوال<br />

207<br />

عزيزي العربي


األطباء الذين أتعامل معهم.‏<br />

من هنا كانت هذه السطور<br />

وهذا املقال كتعبير صادق وعملي<br />

عن عشقي لهذه املجلة كسفيرة<br />

فوق العادة – كما يقولون – للغة<br />

العربية،‏ ورافد جيد لألدب الرصني<br />

في كل فروعه من شعر وقصة مع<br />

استطالعات جغرافية توسع املدارك<br />

مبا يشكل بحيرة مياه عذبة ثقافية<br />

يرتشف منها كل مثقف وهو مطمئن<br />

من دون التطرق ملا في الساحة من<br />

النماذج إياها،‏ بل يكفي أنك عندما<br />

جتد شخصاً‏ يشتريها من بائع<br />

الصحف،‏ من السهل أن تصفه بأنه<br />

قارئ غير عادي يبحث عن ثقافة<br />

جادة هادفة تنمي الذوق األدبي.‏<br />

وكثيراً‏ ما يزورني أحد األصدقاء<br />

ويرى املجلة بعد انتهائي من االطالع<br />

عليها فأعطيها له كهدية ثقافية<br />

لتشجيعه على االستفادة منها.‏<br />

رغم حصولي على املجلة عن<br />

طريق إدارة االشتراكات بجريدة<br />

األهرام،‏ فمع ذلك تصلني متأخرة<br />

عن موعد صدورها شهرين ورمبا<br />

ثالثة شهور،‏ وكان هذا من العوامل<br />

املساعدة لكتابة هذه السطور<br />

للسادة املسؤولني في املجلة وللقرّاء<br />

أيضاً،‏ وأكتب ما أكتبه بدافع احلب<br />

واحلرص على املجلة.‏<br />

بعض املالحظات<br />

نبدأ باملالحظات السريعة التي<br />

من السهل تالفيها لراحة القرّاء<br />

األعزاء:‏<br />

امللحوظة األولى:‏ نقرأ التعليق<br />

على بعض الصور في االستطالع<br />

الصحفي املفيد،‏ وكتابة التعريف<br />

بهذه الصور واملناظر التي تسجلها<br />

من األفضل أن تكون في سطور<br />

مستقلة بعيدة عن هذه الصور لبقاء<br />

جمال الصورة واحلفاظ عليها،‏ حيث<br />

قال كونفوشيوس إن الصورة اجليدة<br />

تُغني عن ألف كلمة،‏ هذا إلى جانب<br />

سهولة القراءة وفهم املقصود منها.‏<br />

امللحوظة الثانية:‏ نقرأ بعض<br />

السطور كمقدمة للمقال أو<br />

لالستطالع الصحفي ببنط ال<br />

أتذكر نوعه اآلن،‏ ليس من السهل<br />

قراءته وفهم معناه بالنسبة لكثير من<br />

القرّاء،‏ وكتابة هذه املقدمة بالبنط<br />

العادي مثل بقية املقال أفضل كثيراً،‏<br />

حيث تيسر على حزب مستخدمي<br />

نظارات القراءة وما أكثرهم في هذه<br />

األيام.‏<br />

وأخيراً:‏ ليتكم تتكرمون بعمل<br />

استبيان – ولو كل فترة - الستطالع<br />

آراء القرّاء وما لديهم من مالحظات<br />

ضع عالمة ✓ أمام املطبوعة املطلوب االشتراك فيها<br />

)1( قيمة االشتراك السنوي ل ‏»العربي«‏ للمشتركني من الوطن العربي:‏<br />

8 دنانير أو ما يعادلها بالدوالر األمريكي.‏<br />

باقي دول العالم 10 دنانير أو ما يعادلها بالدوالر األمريكي أو اليورو األوربي.‏<br />

)2( قيمة االشتراك السنوي ل ‏»العربي الصغير«‏ للمشتركني من الوطن العربي:‏<br />

6 دنانير أو ما يعادلها بالدوالر األمريكي.‏<br />

باقي دول العالم 8 دنانير أو ما يعادلها بالدوالر األمريكي أو اليورو األوربي.‏<br />

)3( قيمة االشتراك في كتاب العربي:‏ 5 دنانير أو ما يعادلها بالدوالر األمريكي<br />

باقي دول العالم 16 دوالرًا أمريكيًا.‏<br />

توقيع طالب االشتراك:‏<br />

ترسل قيمة االشتراك مبوجب حوالة مصرفية أو شيك بالدينار الكويتي باسم وزارة اإلعالم<br />

مع القسيمة على العنوان التالي:‏<br />

مجلة العربي - قسم االشتراكات<br />

دولة الكويت - ص.ب:‏ - 748 الصفاة - الرمز البريدي - 13008 بدالة:‏ )00965( 22512086/82/81 - فاكس:‏ )00965( 22512044<br />

State of Kuwait - P.O. Box: 748 Safat 13008-Tel.: (00965) 22512086/82/81-Fax: (00965) 22512044<br />

العدد - 692 يوليو 2016<br />

208


الكويت عاصمة الثقافة اإلسالمية 2016<br />

أو اقتراحات ميكن االستفادة منها.‏<br />

بعض االقتراحات<br />

تبقى بعض االقتراحات املهمة<br />

والهادفة واملفيدة لكل من القارئ<br />

واملجلة على حد سواء،‏ وليسمح لي<br />

القارئ العزيز بتركيزها في النقاط<br />

اآلتية:‏<br />

األولى:‏ املجلة حالياً‏ ثمنها مائة<br />

وخمسة وعشرون قرشاً‏ في جمهورية<br />

مصر العربية كما هو مدون في صدر<br />

املجلة حتى عدد أبريل 2016، ولكن<br />

ما املانع من حتريك السعر قليالً‏<br />

ليكون ثالثة جنيهات مثالً.‏<br />

صحيح أن دولة الكويت الشقيقة<br />

تعتبر املجلة هدية مدعومة مالياً‏ لكل<br />

املثقفين العرب،‏ لكنني أعتقد أن<br />

جميع القرّاء ال مانع لديهم من هذه<br />

الزيادة في السعر ويوافقون عليها<br />

نظراً‏ الرتفاع أسعار الورق واألحبار<br />

وتكاليف الشحن والطبع والتوزيع<br />

وعموالت املوزعين احمللين في كل<br />

قُطر.‏<br />

الثانية:‏ ليتكم تفكرون جدياً‏<br />

في إعادة طبع املجلة بالقاهرة ليتم<br />

توزيعها بسهولة بجمهورية مصر<br />

العربية وجميع دول املغرب العربي<br />

توفيراً‏ للوقت واجلهد.‏<br />

الثالثة:‏ كان املتبع من زمن بعيد<br />

إصدار هدية سنوية مع عدد يناير<br />

من كل عام،‏ ولقد توقفت مع األسف<br />

هذه الهدايا،‏ ومن الضروري إعادة<br />

إصدارها بشكل منظم ومدروس<br />

جيداً‏ كاخلرائط مبختلف أنواعها<br />

وألوانها وأشكالها،‏ مع مراعاة أن<br />

يُلحق باخلرائط اإلدارية قائمة<br />

بأسماء كل املدن على مستوى العالم<br />

العربي،‏ ثم بعد ذلك صور بحجم كبير<br />

للحرمن الشريفن واملسجد األقصى<br />

واجلامع األزهر...‏ وهكذا.‏<br />

من املفيد أيضاً‏ إرشاد القراء<br />

لكيفية احلفاظ على أعداد املجلة<br />

لالستفادة منها،‏ وال بأس من إنقاص<br />

عدد صفحاتها ولو 10 صفحات على<br />

األقل ملواجهة احلاجة إلى اللوحات<br />

اجلميلة املنتظرة بإذن الله تعالى،‏<br />

مع مراعاة أن يتم التنفيذ من اآلن<br />

فصاعداً‏ وبصفة شهرية.‏<br />

الرابعة واألخيرة:‏ كما نرى أن<br />

املجلة خالية متاماً‏ من اإلعالنات<br />

التجارية املدفوعة األجر،‏ وأعتقد أنه<br />

ال مانع وال حرج في أن تتحرك إدارة<br />

اإلعالنات في املجلة وتركز بصفة<br />

خاصة على شركات ودور النشر<br />

الثقافية على اعتبار أن هذا هو<br />

املجال الطبيعي للتسويق الثقافي أمام<br />

قرّاء املجلة الذين هم – واحلمد لله<br />

– ليسوا قرّاء عادين وهم في حاجة<br />

إلعالمهم بآخر اإلصدارات احلديثة<br />

في مجال الكتب واملراجع املهمة،‏ ومن<br />

القواعد العامة واملرعية في اإلعالم<br />

أال تزيد املساحة اإلعالنية على<br />

40 في املائة من مساحة املطبوعة<br />

كصحيفة أو مجلة،‏ وخصوصاً‏ أن<br />

أرقام التوزيع مرتفعة في ما أعتقد،‏<br />

حيث إنني أعرف أن عدد النسخ<br />

التي يتم توزيعها في جمهورية مصر<br />

العربية وحدها يصل إلى خمسين<br />

ألف نسخة على األقل بخالف بقية<br />

الدول العربية واألجنبية.‏<br />

وفي هذا الصدد،‏ ال أتذكر أنكم<br />

قمتم بنشر بيان عن توزيع عدد نسخ<br />

املجلة مع أن نشره في هذه الظروف<br />

يفيد كثيراً.‏<br />

... وختاماً‏<br />

من فضلكم سرعة االستجابة<br />

لتحقيق الفائدة املرجوة وأيضاً‏<br />

الباب مفتوح على مصراعيه أمام كل<br />

من لديه اقتراح بناء أو رأي مفيد.‏<br />

وأخيراً،‏ نرجو أن تكون هذه<br />

السطور محل دراسة للتنفيذ<br />

القريب وأيضاً‏ نضعها أمام السادة<br />

املتخصصين في املجلة وخارجها<br />

لإلضافة إليها والبناء عليها.‏<br />

والله من وراء القصد وهو<br />

الهادي إلى سواء السبيل.‏<br />

عثمان علي اجلوهري<br />

نائب مدير حترير<br />

جريدة األهرام - مصر<br />

رسائلكم<br />

وصلتنا<br />

أشرف سعد/مصر،‏ د.هواش عمر الصالح/سورية،‏ محمود<br />

أحمد الورداني/مصر،‏ مراد تازي/املغرب،‏ بدرالدين مجاود/‏<br />

اجلزائر،‏ عبدالله محمد/العراق،‏ أبوعدنان القاضي/اليمن،‏<br />

أحمد املجيني/سلطنة عُ‏ مان،‏ زكريا موسى الخضر/سان<br />

فرانسيسكو.‏<br />

209<br />

عزيزي العربي


الكويت عاصمة الثقافة اإلسالمية 2016<br />

إلى أن<br />

نلتقي<br />

فاطمة حسين العيسى *<br />

كاتبة من الكويت<br />

من أحالم اليقظة<br />

من النادر جداً‏ أال يتفاعل اإلنسان مع الطبيعة،‏ فمثلما نتحرك نحن قياماً‏ وقعوداً،‏ ثباتاً‏ وحركة،‏ صمتاً‏ وضجيجاً،‏<br />

تستوعبنا الطبيعة ونستوعبها مرة أخرى،‏ ألن الله تعالى أوجدنا وأوجدها وأوجد احلركة التي تربطنا بها،‏ فمعها<br />

نعيش الصوت والصدى،‏ ونعيش اجلمود واحلركة،‏ متاماً‏ كما نستوعب الليل والنهار.‏<br />

ومثلما متلك الطبيعة حركتها اخلاصة التي تفرضها علينا،‏ فإننا كذلك منلك طبيعتنا اخلاصة التي نفرضها<br />

عليها،‏ وهكذا تستوي عالقتنا بالطبيعة بني شدّ‏ وجذب،‏ وأخذ وعطاء،‏ ونقص وكمال،‏ نقص ميثل احلاجة،‏ وكمال<br />

يؤدي واجبه في السدّاد.‏<br />

إنها غذاء الشعراء واألدباء والفالسفة وكل من يحمل على كتفيه رأساً‏ يفكر أو يحلم،‏ ثم يرسم اللوحة<br />

اإلنسانية.‏<br />

لذا،‏ وجدتني أتوسطها على ساحل البحر،‏ تغوص قدماي في الرمل،‏ وينطلق ناظري جتاه املوج سارقاً‏ اهتمامي،‏<br />

فأبدأ في عدّ‏ األمواج مع شهيقي بالبهجة وأبتسم لها مع الزفير،‏ وأترك الزَبَد يعبث بأصابع قدمي وأطلق أذناي<br />

في تركيز محبب مع ‏»سوناتا«‏ املدّ‏ واجلزر،‏ ثم أصلّي معلقة ناظري بشروق الشمس وابتسامتها اخلجولة,‏ وأبدأ<br />

يومي.‏<br />

ومثلما يقال عن الهواء إنه إكسير احلياة،‏ فإن املاء إكسيره اآلخر،‏ حلوه ومرّه،‏ لقد حبا الله تعالى كرتنا األرضية<br />

ببقع من املياه كبيرها وصغيرها،‏ فمن احمليطات تتولد البحار،‏ والبحار تلد اخللجان،‏ واخللجان ترنو من اإلنسان<br />

بسواحلها التي تناديه دوماً‏ لالستمتاع بها واالستفادة طعاماً‏ ومتعةً،‏ وما علينا نحن - البشر - إال أن نُعمل العقل<br />

بأساليب االستفادة واملتعة.‏<br />

فمن االستفادة غذاء،‏ ومن املتعة مساحات للراحة تصل اجلهد باجلهد لتكمل دورة احلياة.‏ فالعيش على هذه<br />

األرض يحتاج إلى ‏»احليوية«‏ حتى يستمر ويعطي سعادة لإلنسان تساهم في منو الوجود واستمراره...‏ سعادة<br />

تشكّل نبعاً‏ ال ينضب من العطاء الرباني يأخذ بيد الكون مبن فيه إلى السمو.‏<br />

واملوج - فن الصوت والصورة معاً‏ - يحوّل ‏»السوناتا«‏ إلى ‏»كونشيرتو«،‏ وهو حلن األخذ والردّ،‏ وال يلبث مع<br />

صبرنا عليه - متعة - وصبره علينا - استمتاعاً‏ - حتى يتحول إلى موقع ‏»السيمفونية«‏ بأجزائها األربعة الرائعة،‏<br />

تأخذنا إلى عالم الواقع واحلقيقة واحللم،‏ مستذكرين رواية املبدعة غادة السمان ‏»ال بحر في بيروت«،‏ وكذلك<br />

أغنية ليلى مراد:‏<br />

يا ساكني مطروح<br />

جنيّة في بحركم<br />

الناس جتي وتروح<br />

وأنا عاشقة حيّكم<br />

العدد - 692 يوليو 2016<br />

210

Hooray! Your file is uploaded and ready to be published.

Saved successfully!

Ooh no, something went wrong!