alarabi_July-Comp
You also want an ePaper? Increase the reach of your titles
YUMPU automatically turns print PDFs into web optimized ePapers that Google loves.
العدد > 692 رمضان / شوال 1437 ه > يوليو 2016 م <strong>July</strong><br />
سالم الله على أهل<br />
سرنديب<br />
ISSN : 0258 - 3941
مجلة شهرية ثقافية مصورة يكتبها عرب ليقرأها كل العرب<br />
تأسست عام 1958، تصدرها وزارة اإلعالم بدولة الكويت<br />
AL-ARABI - A Cultural Illustrated Monthly Arabic Magazine, Published by<br />
Ministry of Information - State of Kuwait - P.O.Box: 748 - Safat, Kuwait<br />
Tel: )00965( 22512081/82/86 Fax: (00965) 22512044<br />
E.mail: arabimag@arabimag.net<br />
رئيس التحرير<br />
د. عادل سالم العبداجلادر<br />
العنوان في الكويت<br />
بنيد القار - قطعة - 2 شارع - 76 قسيمة - 105 هاتف البدالة )00965( 22512081/82/86<br />
> هاتف التحرير: Tel: 22512017 Editorial<br />
> اإلعالن والتوزيع: )00965( 22512043 > الفاكس: )00965( 22512044<br />
العنوان البريدي: ص ب - 748 الصفاة - الرمز البريدي 13008- الكويت.<br />
عناوين البريد اإللكتروني<br />
االشتراك مبجلة العربي: subscribe@<strong>alarabi</strong>.info<br />
املتابعة املالية: fin@<strong>alarabi</strong>.info<br />
املشاركات واملقاالت: <strong>alarabi</strong>@<strong>alarabi</strong>.info<br />
Editor in Chief<br />
Dr. Adel S. Al-Abdul Jader<br />
<strong>alarabi</strong>.kw <strong>alarabi</strong>_kw <strong>alarabi</strong>.kw<br />
شروط النشر في مجلة العربي<br />
> توجه املقاالت إلى رئيس حترير املجلة.<br />
تكتب املقاالت باللغة العربية وبخط واضح وترسل على البريد اإللكتروني، ومرفقة مبا يلي:<br />
- 1 تعهد خطي من املؤلف أو املترجم بعدم نشر املقالة سابقًا في أي مجلة أخرى.<br />
- 2 سيرة ذاتية مختصرة للمؤلف أو املترجم.<br />
- 3 األصل األجنبي للترجمة، إذا كانت املقالة مترجمة.<br />
- 4 يفضل أن تكون املقاالت الثقافية مدعمة بصور أصلية عالية النقاء، مع ذكر مصادر هذه<br />
الصور، ومراعاة ترجمة تعليقات وشروح الصور واجلداول إلى اللغة العربية.<br />
> املوضوعات التي ال تنشر ال تعاد إلى أصحابها.<br />
> يفضل أال تقل املقالة عن 150 كلمة وال تزيد على 1000 كلمة.<br />
> يحق للمجلة حذف أو تعديل أو إضافة أي فقرة من املقالة متاشيًا مع سياسة املجلة في النشر.<br />
> اخلرائط التي تنشر باملجلة مجرد خرائط توضيحية وال تعتبر مرجعا للحدود الدولية.<br />
> ال يجوز إعادة النشر بأي وسيلة ألي مادة نشرتها العربي منذ 1958 وحتى تاريخه دون موافقة<br />
خطية من اجلهات املختصة باملجلة وإال اعتبر خرقا لقانون امللكية الفكرية.<br />
> االسم الكامل حسب الوثائق الرسمية، واسم الدولة، واسم البنك، ورقم احلساب اخلاص<br />
باملستفيد، وكذلك رقم اآليبان )IBAN(<br />
> املواد املنشورة تعبر عن آراء كتابها وال تعبر بالضرورة عن رأي املجلة,<br />
ويتحمل كاتب املقال جميع احلقوق الفكرية املترتبة للغير.<br />
طبعت مبطبعة حكومة الكويت<br />
3
العدد - 692 رمضان، شوال 1437 ه<br />
يوليو )متوز( 2016م<br />
70<br />
73<br />
78<br />
86<br />
197<br />
89<br />
95<br />
99<br />
132<br />
140<br />
144<br />
154<br />
158<br />
163<br />
166<br />
172<br />
175<br />
8<br />
26<br />
36<br />
122<br />
103<br />
104<br />
110<br />
112<br />
113<br />
115<br />
116<br />
118<br />
31<br />
12<br />
19<br />
66<br />
حديث الشهر<br />
د. عادل سالم العبداجلادر... مقومات البناء<br />
احلضاري... العمل والعلم والثقافة والفن.<br />
فكر وقضايا عامة<br />
د. سعيد إسماعيل علي<br />
احلُصَ ري يحاور سالمة موسى<br />
استطالعات وحتقيقات<br />
إبراهيم املليفي... سلالم الله على أهل<br />
»سرنديب«... رحلة من كولومبو إلى بيرواال...<br />
جوامع وجامعات.<br />
رياض توفيق... كهوف عمرها 50 مليون سنة!<br />
ملف العدد<br />
مارجريت أوبانك... ناشرة بقدرات مؤسسة<br />
كاملة.<br />
حوار: إبراهيم فرغلي... مارجريت أوبانك... األدب<br />
العربي جزء جوهري من احلضارة اإلنسانية.<br />
فاضل العزاوي... حياة مكرسة من أجل األدب<br />
العربي.<br />
صبحي حديدي... »بانيبال«... حجر أساس أدبي<br />
ومعرفي.<br />
سيف الرحبي... احلفر عميقاً في تربة صعبة.<br />
محمود شقير... صديقة األدب العربي.<br />
طالب الرفاعي... عاشقة األدب العربي احلديث.<br />
ماذا قالوا عن »بانيبال«؟<br />
»العربي« في مثل هذا الشهر<br />
محمود تيمور... تشيكوف واألدب العربي احلديث.<br />
أدب ونقد ولغة<br />
فاروق شوشة... »أيها القمر« مع الشاعر املصري<br />
فوزي العنتيل وأحلان البدايات<br />
)جمال العربية(.<br />
د.جابر عصفور... عن شعرية أمل دنقل )أوراق أدبية(.<br />
د.إيهاب النجدي... االعتراف والهوية.<br />
عبدالواحد أبجطيط... البعد العجائبي في<br />
مجموعة »جني ليلتي« مليمون حرش.<br />
جهاد فاضل... مع أبي الطيب املتنبي<br />
د.أحمد اجلرطي... إدوار اخلراط منظراً<br />
للحساسية اجلديدة في السرد العربي.<br />
حتسني الناشئ... موت اللغات وانقراضها.<br />
عرض واختيار: د. مشاري املوسى...<br />
»قصص على الهواء« بالتعاون مع إذاعة »مونت<br />
كارلو« الدولية.<br />
تاريخ وتراث وشخصيات<br />
د. مصطفى محمد طه... حول الكون في التصور<br />
العراقي القدمي.<br />
د. عادل زيتون... فولتير و»رسالته في<br />
التسامح«.<br />
محمد عويس... أحمد شفيق اخلطيب... البيت<br />
العربي أشد فقراً في املعاجم.<br />
فن<br />
رشا عدلي... سنان باشا... فنان العمارة<br />
اإلسالمية.<br />
محمد الفقي... أندريه تاركوفسكي... صناعة<br />
األفالم تعني البحث عن اجلمال اخلالص.<br />
ماجد صالح السمرائي... فائق حسن... فنان<br />
الفضاء الطلق.<br />
علوم<br />
د. أبو بكر خالد سعدالله... كيف تتقدم<br />
الرياضيات؟<br />
د. أحمد شعالن... املد واجلزر... حكاية اختالف<br />
في قوى اجلذب الثقالي.<br />
البيت العربي<br />
عبدالغني كرم الله... العيد في جيب جلبابي.<br />
د. شيرين محمود... كذب األطفال وعالجه.<br />
نسرين البخشوجني.... العالج بالفن... عودة<br />
اإلنسان لفطرته.<br />
د. صفية فرجاني... الهناء الشخصي.<br />
العدد - 692 يوليو 2016<br />
4
200<br />
202<br />
طرائف<br />
صالح عبدالستار الشهاوي... )طرائف عربية(.<br />
محمد حسن أحمد... )طرائف غربية(.<br />
ص 36<br />
ص 147<br />
ص 166<br />
184<br />
186<br />
190<br />
192<br />
194<br />
6<br />
7<br />
34<br />
179<br />
182<br />
204<br />
206<br />
210<br />
مكتبة »العربي«<br />
عرض: هيا محمد... رواية »بيسان احلب<br />
والكراهية«... أتون الدمار والنار.<br />
)من املكتبة العربية(.<br />
عرض د.نزار العاني... اإلسالموفوبيا... املخاوف<br />
اجلديدة من اإلسالم في فرنسا<br />
)من املكتبة األجنبية(.<br />
كتب مختارة.<br />
املفكرة الثقافية<br />
محمد خليفة صديق... إعلالن الفائزين في<br />
الدورة السادسة جلائزة الطيب صالح العاملية<br />
لإلبداع.<br />
الزبير مهداد... اإلرهاب رديف اإلقصاء.<br />
أبواب ثابتة.<br />
كاريكاتير.<br />
عزيزي القارئ.<br />
قالوا.<br />
املسابقة الثقافية.<br />
مسابقة التصوير الفوتوغرافي.<br />
منتدى احلوار.<br />
عزيزي العربي.<br />
إلى أن نلتقي.<br />
االشتراكات<br />
قيمة االشتراك السنوي > داخل الكويت 8 د.ك > الوطن العربي 8 د.ك أو 30 دوالرا.<br />
> باقي دول العالم 10د.ك أو مايعادلها بالدوالر األمريكي أو اليورو األوربي:<br />
> ترسل قيمة االشتراك مبوجب حوالة مصرفية أو شيك بالعمالت املذكورة باسم وزارة اإلعالم على عنوان املجلة.<br />
Subscription: All Countries $ 40 or The Equivalent<br />
ثمن النسخة<br />
الكويت 500 فلس، األردن 500 فلس، البحرين 500 فلس، مصر 1.25 جنيه، السودان 500 جنيه، موريتانيا 120 أوقية، تونس دينار واحد،<br />
اجلزائر 80 دينارا، السعودية 7 رياالت، اليمن 70 رياال، قطر 7 رياالت، سلطنة عمان 500 بيسة، لبنان 2000 ليرة، سورية 30 ليرة،<br />
اإلمارات 7 دراهم، المغرب 10 دراهم، ليبيا 500 درهم، العراق 50 سنتاً<br />
Iran 4000 Riyal, Pakistan 75 Rupees, UK 2.5 Pound, Italy 2 € , France 2 € , Austria 2 € , Germany 2 € ,<br />
USA 2$, Canada .4.25 CD<br />
5<br />
الفهرس
الكويت عاصمة الثقافة اإلسالمية 2016<br />
عزيزي<br />
القارئ<br />
إرادة النجاة بالفن والتسامح<br />
ال يبدو كثيرون من شعوب العالم اليوم، سعداء، خصوصاً في عاملنا العربي، واألسباب<br />
عديدة ومشهودة، وبينها ما تتجلى سماته الرئيسة اليوم في غياب فضيلة التسامح،<br />
وانتشار موجات من االقتتال على اخلالفات العقائدية واملذهبية مع األسف، وشيوع<br />
هجمات مروعة على الفنون واآلداب والتراث احلضاري في دول عديدة ممن انتكبت<br />
باحلروب والدمار, وهو ما يشير إليه رئيس التحرير في حديثه الشهري، مؤكداً مفارقة<br />
مؤسية نرى فيها العالم يبني حضارته، بينما نسعى في ثقافتنا العربية إلى هدم كل ما<br />
أجنزناه.<br />
وإلميان »العربي« بخطورة هذه الصراعات وقدرتها على محو أي حضارة، ركزت في<br />
هذا العدد على مجموعة من املوضوعات التي تذكر وتؤرخ وتنبه ملفاهيم وقيم التسامح،<br />
في مقوالت غربية كشأنها لدى فولتير مثالً، أو عبر استطالع ارحتلت فيه »العربي« إلى<br />
سريالنكا تتأمل فيه كيفية تعايش املسلمني األقلية مع أغلبية البوذيني في هذا البلد.<br />
أو عبر التنويه بكهوف عمرها 50 مليون عام، دللت على أن الفنون جسدت داللة قدمية<br />
لرغبة اإلنسان في التعبير عن ذاته ورغبته في فهم العالم.<br />
وإذا كان التشاؤم مصدره العقل كما يقال، فإن التفاؤل مصدره اإلرادة، فال ميكن أن<br />
تواجه أي جماعة بشرية املخاطر التي حتيط بها إال إذا انتبهت لها، وقاومتها بإرادة<br />
صلبة، كتلك التي حركت السيدة البريطانية مارجريت أوبانك لترجمة ونشر األدب<br />
العربي في الغرب، بجهدها وحدها، فإذا به جهد يشبه ما تقوم به املؤسسات، وهو<br />
موضوع ملف حتتفي به »العربي« تكرمياً لها وتقديراً لهذا الدور الذي يؤكد أن الثقافة<br />
العربية لها دور كبير في العالم.<br />
وهكذا خصصت »العربي« في هذا العدد مجموعة من املوضوعات التي تدعو للتفاؤل،<br />
عارجة على تراثنا العربي اخلصب, نقداً وأدباً واستجالء حلوارات االستنارة بني رموزها،<br />
وفكراً يستعيد تصورات الكون في احلضارة العراقية القدمية، أو تسليطاً للضوء على<br />
تراث فنان تشكيلي عربي من العراق، أو جتوالً في حدائق التراث السردي املعاصر.<br />
وكما يقول رئيس التحرير إن كل من بنوا احلضارات في العالم انتبهوا إلى الفن<br />
باعتباره الوسيلة التي تبنى بها احلضارات، مشفوعا بالعلم والفهم والبحث واإلنتاج<br />
العلميني، فلننتبه، ولنبتهج بأعيادنا في هذا الشهر لكي نعود بإرادة صادقة للعمل الذي<br />
به تبنى احلضارات ><br />
7<br />
عزيزي القارئ
حديث الشهر<br />
مقومات البناء الحضاري...<br />
العمل والعلم والثقافة والفن<br />
د. عادل سالم العبدالجادر<br />
نحن في أواخر شهر كريم سيمضي، ويهلّ علينا هالل عيد الفطر<br />
السعيد، فنفرح به طاعة وعرفاناً وشكراً هلل سبحانه وتعالى،<br />
وندعوه أن يعم الخير والحب والسلالم جنبات العالم. في هذه<br />
األيام يتألم الماليين في البلالد العربية المنكوبة من التشرد<br />
والجوع والخوف، فلنسأل العلي القدير أن يردهم إلى ديارهم<br />
سالمين ويطعمهم من جوع ويأمنهم من خوف.<br />
ولعل ثقافتنا اإلسلامية، التي حتمل دولة<br />
الكويت بكل فخر شعارها كعاصمة لهذا العام<br />
2016م، قد وضح أثرها على أفراد الشعب<br />
واجلمعيات اخليرية واملؤسسات الرسمية<br />
فيها، للمساهمة في إنقاذ أشقائهم العرب من<br />
شتات الفُرقة ونكبات احلروب. فبينما جتاهد<br />
اجلمعيات اخليرية لتدعم األحبة السوريني في<br />
املخيمات خارج بادهم وتقدم لهم املساعدات<br />
اإلنسانية، تتحرك املؤسسات الرسمية في<br />
الكويت لرأب صدع اخلاف بني طرفي النزاع<br />
في اليمن الشقيق. لقد فتحت دولة الكويت<br />
ذراعيها واحتضنت طرفي النزاع اليمني في<br />
دارها، حتى يصل الطرفان إلى حلٍ سلمي<br />
مُرضٍ يُسعد الطرفني، بأمل عودة ديارهم<br />
كما عهدناها »اليمن السعيد«. وال نشكّ في<br />
أنّ مشاعر األخوة واحلب العربية راسخة في<br />
قلوبنا جميعا، وال يزال قبس األمل في العودة<br />
إلى نعيم السام يغمر الروح العربية.<br />
وإذا متعنّا اليوم في النزاعات والصراعات<br />
في الدول املنكوبة... سورية والعراق وليبيا<br />
واليمن، لرأينا أنّ النزاعات الطائفية واملذهبية<br />
مطية من أجل أغراض سياسية، وكل من<br />
األطراف يعتقد أنه صاحب حق وأنّ الطرف<br />
اآلخر على باطل، فتزيد الفرقة ويلتهب<br />
النزاع. حتت ظلّ هذه الظروف تنتشر سُ حُ ب<br />
الظام وتعلو صيحات الضال، لتغرس أظفار<br />
الشر في قلوب الناس، فلا تزيدها إال<br />
تعصباً وتطرفاً وانحرافاً، ليحل العنف محل<br />
العفو، ويجف من القلوب النفع ويغلفها العفن.<br />
هناك، لم يعد اإلحساس بالفرحة والسعادة في<br />
رمضان أو العيد كسابق عهده، فباتت تكدره<br />
اآلالم واألحزان، حتى صار احلزن عادة يومية،<br />
وتقهقرت السعادة فكانت نسياً منسياً.<br />
فقدت اخلطابات السياسية صدقيتها،<br />
ولم تستطع احملاكم الدولية العاملية أن تضع<br />
حلوالً جذرية ملعاناة الشعوب. أما اخلطابات<br />
العدد - 692 يوليو 2016<br />
8
الكويت عاصمة الثقافة اإلسالمية 2016<br />
9<br />
مقومات البناء احلضاري... العمل والعلم والثقافة والفن
إن قمة الهرم الحضاري<br />
هي اإلنتاج الفكري والثقافي،<br />
بما يحويه<br />
من إبداعات علمية<br />
وأدبية وفنية<br />
الدينية، التي كانت تعلي من شأن اإلنسان<br />
واحلياة، فقد ارتدَت رداء السواد واملوت،<br />
واندفعت لترفع رايات اجلهل وتهميش العقل،<br />
ولتحُبَشِّ ر وتحُ ذِّر وتزدري وتحُ َقِّر، وأكثر تلك<br />
الرايات تعكس أطروحات هامشية ركيكة<br />
بعيدة عن الواقع. وال ندري ملاذا تنادي تلك<br />
اخلطابات الدينية بالعذاب والنقمة واأللم<br />
والشقاء، لدين سالم يحُبشِّ ر بالثواب والرحمة<br />
واألمل والهناء، لينقلب بذلك اإلحساس باألمن<br />
إلى وسواس مِ حَ ن، يجري في دماء الغالة ملوثاً<br />
بالعنف والسبّ واللعن؟ كثيرون يشتكون بأنّ<br />
أعياد اليوم واملناسبات واالحتفاالت تغيرت<br />
عما كانت عليه في املاضي، وبأنها أصبحت<br />
مملة، بعد أن ححُ جبَت السعادة وتبرقع وجه<br />
الفرح عنها! وأصبح الكلّ في العيد بعيداً،<br />
فإما مواطن مسافر وإما مشرد مهاجر. أي<br />
أمل وأي عمل يستطيع أن يقوم به البائس<br />
الباكي؟! وأي ثقافة أو إبداع يستطيع أن يحُقدّمه<br />
اليائس الشاكي؟ ال نريد أن يكون أملنا »مَوْت«<br />
وعملنا »فَوْت« وثقافتنا »صَ وْت«. شعوب العالم<br />
تتقدم حتى تبني لها منزال وتكون لها منزلة في<br />
سحُ لّم احلضارات، ونحن نتراجع ونحُكسّ ر أعمدة<br />
ثقافتنا ونهدم أطالل إجنازات حضارتنا، لكي<br />
نبكي ويضحك على بكائنا اآلخرون. ما عاد<br />
العلم وحده طريقا للتقدم...<br />
وإنمّ ا األمم األخلاق ما بَقِ يَت<br />
فإنْ هُ مُ ذهبت أخلاقهم ذهبوا<br />
وأخلالق األمم تحُقاس مبنهجها في منظومة<br />
قِ يَم وسلوكيات، من أهمها إتقان العمل وححُ سْ ن<br />
التعامل. والعمل إنتاج املفيد فكرة وحرفة،<br />
صناعة وزراعة، أما التعامل، فهو عبارة عن<br />
دوائر تتسع حلقاتها باتساع عالقات الذات<br />
باحمليط: النفس، األسرة، ذوي القربى،<br />
األصدقاء، الزملالء، املجتمع، الدولة، اجلوار،<br />
اإلقليم، العالم. وإذا كانت دائرة العالم هي<br />
اإلطار األكبر، فالعالم الصغير إطاره النفس،<br />
كمثل املوجات الصوتية، كلما صَ غحُرت كانت<br />
األقرب مكاناً واألقوى أثراً. وال تستقيم<br />
حركة هذه الدوائر إال بالتراتب واحلبّ ، وال<br />
ينجح احلب إال إذا كان من الطرفني، وإال<br />
أصبح غراماً، يغرم فيه طرف عن طرف،<br />
شعوراً ووقتاً وماالً وحاالً. وال مجال فيها إلى<br />
العشق، فإنه اجنذاب كبير من طرفٍ إيجابي<br />
إلى طرفٍ سلبي، دون االكتراث إلى معرفة<br />
شعور اآلخر. وفي هذا املقام نذكر »الهوى«،<br />
الذي اشتق اسمه في لغة العرب من كلمة هواء،<br />
وهو متغير باجتاهاته، متغير بنوعه، ساخن أو<br />
بارد، عاصف أو ساكن. ودائرة النفس تعشق<br />
الفنّ، صوتا وصورة وحركة، بالسمع والبصر<br />
والفؤاد، وال بدّ أن يكون ذلك بلال إفراط أو<br />
تفريط، لقوله عزّ وجل: }إِ نَّ السَّ مْ عَ وَالْبَصَ رَ<br />
وَالْفُ ؤَادَ كُ لُّ أُولَئِ كَ كَانَ عَ نْهُ مَسْ ئُولاً } )اإلسراء -<br />
اآلية 36(.<br />
إنّ ترمي الفنّ ال ميكن أن يكون صحيحا<br />
إال في الضرر على دوائر التعامل املجتمعي<br />
التي ذكرناها. ومهما يكن من أمر، فالتحرمي ال<br />
يكون إال بنص؛ قطعي الداللة، قطعي الثبوت،<br />
ال ظنّ فيه. وترانا في مجتمعاتنا العربية<br />
موسومون بالتخلف احلضاري بجريرة خطاب<br />
العدد - 692 يوليو 2016<br />
10
الكويت عاصمة الثقافة اإلسالمية 2016<br />
ديني يحرم الفنّ والذي ظنّ معتنقوه ومتداولوه<br />
أنّه مفسدة لإلنسان واملجتمع، وأوّلوا نصوصاً<br />
من القرآن الكرمي والسنّة الشريفة وطوّعوها<br />
لتتماشى مع ظنّهم وهوى رأيهم. ولو تفحصنا<br />
مسيرة احلضارات اإلنسانية، للفت انتباهنا<br />
أنّ قمة الهرم احلضاري هي اإلنتاج الفكري<br />
والثقافي، مبا يحويه من إبداعات علمية وأدبية<br />
وفنية. إنّ حترمي احلالل أمر خطير، لم يتعلم<br />
منه كثيرون ممن ظنوا أنّ الورع هو الوسطية،<br />
وخلطوا بني العادات والتقاليد وبني التشريع<br />
الديني ومقاصده، ورفعوا العادات إلى مستوى<br />
العبادات، واستغلوا التقاليد كمقاليد، توصلهم<br />
إلى سلطة التشريع في التحرمي والتحليل، حتى<br />
عَدّوا كل إبداعٍ بدعة، وكل خطوة إلى األمَامِ<br />
خطيئة، وفسروا أمور الدنيا بتفاسير أرجعوها<br />
لنصوص دينية، وما كان كل هذا إال ألنهم أرادوا<br />
أن يَحكموا ويتحكموا.<br />
لذا نرى أنّ مرجعية العلوم كلها قد آلت<br />
إليهم، رغم عدم التخصص! فكل مرض له<br />
عندهم دواء؛ رقية أو عشبة أو حتى بول بعير!<br />
وإن تساءلت: هل بالنجاسة شفاء؟ أجابك<br />
بوجود نصّ ديني ليؤكد بذلك زعمه وادعائه،<br />
ومبا أنّ مع وجود النص ال مجال لالجتهاد، فال<br />
بدّ أال تُكذِّب ما ورد بهذا النصّ وإال خرجت<br />
من دائرة اإلميان واإلسالم، كل هذا حتى يَسُ دّ<br />
عليك طريق احلق ويقودك إلى درب اخلنوع<br />
واخلضوع واالستسالم لرأيه من دون مناقشة<br />
أو تفكير.<br />
في تاريخ احلضارة العربية اإلسالمية، كل<br />
روّاد العلوم قد كُفِّروا أو فُسِّ قوا، فمن األطباء<br />
كُفِّر أبو بكر محمد بن زكريا الرازي وابن<br />
سينا وأبو القاسم الزهراوي وابن النفيس،<br />
وفي الفيزياء احلسن بن الهيثم، وفي الفلسفة<br />
الكندي والفارابي وابن رشد، وفي علوم الفلك<br />
عمر اخليام. وفي تاريخنا املعاصر، حُ رّم<br />
الراديو والهاتف والسينما واملسرح والتلفاز<br />
والفيديو وأجهزة البث واالستقبال الفضائي<br />
وأجهزة الهواتف احملمولة! ثم ال أدري كيف<br />
أصبح احلرام حالالً من دون دليل أو نصٍّ من<br />
أخالق األمم تُقاس بمنهجها<br />
في منظومة<br />
قِيَم وسلوكيات،<br />
من أهمها إتقان العمل<br />
وحُ سْ ن التعامل<br />
أي قولٍ أو كتاب مبني.<br />
واليوم، أصبح الفنّ الهادف احملترف الرزين<br />
أشد أثراً في النفس من أي مجاالت التلقي<br />
األخرى، ليكون أصدق إنباء من الكتبِ . ولعل<br />
فيلما سينمائيا واحداً، إذا ما كُتِبَ وأُخرج<br />
بحرفية وموضوعية، يعطيك بساعات قليلة<br />
ما ال يستطيع أن يعطيك إياه مائة كتاب عن<br />
املوضوع نفسه. ولعل فكرة حتارب الطائفية<br />
والعنف واإلرهاب، تُعرض في حلقة تلفزيونية<br />
ملدة أقل من الساعة، تستحوذ على فِ عْلٍ في<br />
عقل املُتَلقي واملشاهد أكثر من ألف خطاب<br />
ديني أو سياسي. ومثل ذلك نراه واضحاً في<br />
الفنون األخرى، كالرسم والغناء.<br />
ولعل أغنية واحدة حترّك جماهير غفيرة<br />
للعمل والبناء اجلاد. لقد أدرك املتحضرون<br />
أهمية الفن فاستخدموه كوسيلة ناجحة<br />
وفاعلة ملخاطبة الشعوب اإلنسانية، وحتفيز<br />
نفوسهم إلى التقدم والبناء واإلنتاج العملي<br />
والبحث العلمي، واالرتقاء مبستواهم الثقافي<br />
واحلضاري ><br />
11<br />
مقومات البناء احلضاري... العمل والعلم والثقافة والفن
جمال العربية<br />
»أيها القمر«<br />
مع الشاعر المصري فوزي العنتيل<br />
وألحان البدايات<br />
فاروق شوشة<br />
بين عاميْ 1924 و1981، عاش الشاعر المصري فوزي العنتيل، الذي ينتمي<br />
إلى جيل الحداثة الشعرية ومعه صالح عبدالصبور وأحمد عبدالمعطي<br />
حجازي ومحمد الفيتوري وكمال نشأت. لكنه لم ينل من الشهرة – لدى<br />
النقاد والقراء – ما لقيه بعض أبناء جيله، الذين كانوا أكثر التصاقاً بالحياة<br />
الثقافية واالجتماعية، في حين كان هو أكثر ميالً للتوحُّ د واالنعزال، وإيثار<br />
الجو الهادئ والمتأمل، والعكوف على داخله ومكنونات وجدانه، المفعم<br />
بكثير من أشواق اإلنسان ومعاناته ومكابداته، وبخاصة اإلنسان الذي عاش<br />
معه عن كثب في قريته »علوان« – إحدى قرى محافظة أسيوط – حياة<br />
الفلالح المصري الكادح، المصفود في سالسل الفقر والجهل والمرض<br />
وهموم الحياة واألرض وقسوة الواقع الذي جعل منه صوت هذا اإلنسان،<br />
والناطق في شعره بما عجز عنه صريع القهر والعسف والمذلة والحرمان.<br />
العدد - 692 يوليو 2016<br />
أتيح للشاعر أن ينشر في حياته مجموعتَينْ<br />
شعريتَينْ : »عبير األرض« عام 1956 ثم »رحلة في<br />
أعماق الكلمات« عام 1980، بعد ربع قرن على<br />
صدور األولى، انشغل خالله الشاعر بدراسة األدب<br />
الشعبي من خالل منحة دراسية إلى أيرلندا ملدة<br />
عامي، عاد بعدهما إلى القاهرة ليوجِّ ه اهتمامه<br />
إلى حقل الدراسات الشعبية، حيث أصدر ثالثة<br />
كتب هي: »الفولكلور ما هو؟«، و»بين الفولكلور<br />
والثقافة الشعبية«، و»عالم احلكايات الشعبية«<br />
الذي صدر بعد رحيله بعامي.<br />
وقد كان أول بروز السم الشاعر فوزي العنتيل<br />
في احلياة األدبية والشعرية املصرية حي أصبح<br />
واحداً من الشعراء الثالثة الذين كونوا رابطة<br />
»النهر اخلالد«، وهم: محمد الفيتوري وكمال<br />
نشأت وفوزي العنتيل، وائتلف في هذه الرابطة<br />
شعراء مصريون وسودانيون جمع بينهم امليل إلى<br />
نهج حترري وجتديدي واضح في اخلروج من أفق<br />
جماعة أبولّو، واحلركة الشعرية الرومانسية إلى<br />
أعتاب احلركة الشعرية احلديثة، التي جاءت<br />
مبنزلة ثورة في كل من اللغة واملضمون والصورة<br />
الشعرية، وهي احلركة التي حلق بها الشعراء<br />
الثالثة بعد أن حققوا مزيداً من نضج التجربة<br />
الشعرية واكتمالها. وقد عكفت زوجة الشاعر<br />
ورفيقته في احلياة – بعد خمس وثالثي سنة<br />
12
الكويت عاصمة الثقافة اإلسالمية 2016<br />
13<br />
»أيها القمر« مع الشاعر املصري فوزي العنتيل وأحلان البدايات
من غيابه – على قصائده وأعماله الشعرية التي<br />
لم يتضمنها ديواناه األول والثاني، ورأت فيها ما<br />
يصلح إلضاءة البواكير األولى للشاعر، والطبيعة<br />
الغنائية التي الزمته في مفتتح مسيرته الشعرية،<br />
والتمهيد الالزم والضروري لكل من يقترب من<br />
عالم الشاعر بالتذوق والدراسة والتحليل، فكان<br />
ديوانه اجلديد »أيها القمر« الذي صدر أخيراً،<br />
والذي ميثل مفاجأة للحياة األدبية والشعرية،<br />
وإضاءة ملسيرة الشاعر منذ صباه املبكر ويفاعته<br />
وشبابه، وهو فيها وبها يقدم لقارئه حلم البدايات،<br />
ويكشف عن املفاتيح واألسرار األولى، ويقدم<br />
في كؤوس شعره املترعة جدلية الذات والوجود<br />
الذي متأله كائنات معذبة وأرواح هائمة، تنسكب<br />
عليها أوهام الشاعر وخياالته، حالماً بحياة تشبه<br />
اخلميلة لشدوه وطيرانه وحتليقه وذوبانه فيها،<br />
وسرعان ما يفيق على نبض شعب يكافح ويناضل<br />
في سبيل حريته، وانتصاره على قيوده وأغالله،<br />
مبدعاً هذه اللوحة الشعرية املعبرة عن احلالني:<br />
وهمي يُصوّر لي السعادة جدوال<br />
نشوان كالقيثار بالنغماتِ<br />
والزهر فوق ضفافه متعانق<br />
في لهفة مشبوبة الهمساتِ<br />
وهمي يصوّر لي السعادة جدوالً<br />
يُطفي بأدمعه لهيب شكاتي<br />
يحنو على روحي، فينضح جرحها<br />
وتذوب في أمواجه نفحاتي<br />
حتى إذا جمح احلنين وصفّ قت<br />
روحي، وصاح الشرق في جنباتي<br />
ودنوت أرشف من مباهج عرسه<br />
خمر املنى الوهاج كالقبلات<br />
أيْقَظتني من نشوتي، وبَعثتْني<br />
شبحاً، يئنّ احلزن في قسماتي<br />
وعندما جتتاحه مع رفيقيه في رابطة النهر<br />
اخلالد عاصفة ثورة يوليو عام 1952، وتشتعل<br />
فيهم حرارة توهجها ونيران إبداعها، يلقي الشاعر<br />
بنفسه وبشعره في حميّا هذا املعترك الوطني<br />
اجلديد هاتفاً:<br />
سمِّ ها ما تشاءُ ، لست أراها<br />
في فنون األسماء واألوصاف<br />
هي معنى في خاطري للبطوالتِ<br />
وللمجد واخللود الضافي<br />
وهي إن شئت »ابنة النيل« شبّت<br />
في الرياض العذراء فوق الضفافِ<br />
في رفيف الضياء، أنبتها الفجرُ<br />
على شاطئ الغدير الصافي<br />
وسقاها النبع اإللهيُّ خمراً<br />
من عبير اخلمائل الرفّ اف<br />
فسرى حلنها املعطّ رُ روحاً<br />
ذاب في خَ فْ قهِ النسيم الغافي<br />
زهرة النيل، وابنة الشاطئن،<br />
وجنوى الحمام للصفصافِ<br />
وهبت عمرها ملجدك يا مصرُ<br />
ملجد األجيال واألسلافِ<br />
***<br />
ودنا الفجر فاحتمى<br />
شبحُ الليل بالغصونْ<br />
وسرت نفحةُ الرُّ بى<br />
تنشرُ العطر والفنون<br />
ومضى الركبُ سابحاً<br />
في رؤى الشاطئ الحزين<br />
***<br />
أشرق الفجر بالضياء وطيف ال<br />
ليل يحبو على الضفاف احلبيبة<br />
وتهادى النشيد في مزهر األُف<br />
قِ ، وفي هدأة الليالي الرهيبة<br />
عانق النهر واخلمائل وهْ ناً<br />
فتغّ نت به املروج القشيبة<br />
ودنا موكب الصباح وهبّت<br />
قسماتُ مُ رنّحاتٌ رطيبة<br />
***<br />
ولعلّ أجمل ما يصور لنا فوزي العنتيل شاعراً<br />
وإنساناً، يكمن في هذه السطور التي كتبها عنه<br />
رفيقه في احلياة والشعر وفي رابطة النهر اخلالد<br />
الشاعر السوداني محمد الفيتوري حني يقول:<br />
»لو تصورت طفولة غريبة عرفت صرامة األبوة،<br />
العدد - 692 يوليو 2016<br />
14
الكويت عاصمة الثقافة اإلسالمية 2016<br />
وصرامة األرض، وصرامة الواقع، وصرامة<br />
الهزمية: فهذه الطفولة هي طفولة الشاعر. ولو<br />
تصورت مجتمعاً مقفالً، منغلقاً على نفسه، يكفر<br />
بكل القيم، وبكل شيء، ما عدا ماضيه العريق<br />
املشحون باخلرافات واملتناقضات والعقول<br />
الصفراء والوجوه العابسة في بالده، الراضي<br />
في خمول: فهذا هو املجتمع الثقافي الذي نشأ<br />
فيه. ولو تصوَّرت إنساناً طويلالً نحيالً، حزين<br />
الوجه، رقيق املزاج، يحمل داخل نفسه كلَّ تلك<br />
الظروف: إذن لتكونت لديك شخصية الشاعر<br />
فوزي العنتيل«.<br />
ثم يقول محمد الفيتوري في اللوحة القلمية<br />
البديعة التي رسمها لصديقه الشاعر: »وإذن<br />
فطبيعي جدّاً أن يكون مفتاح هذا الواقع شاعراً،<br />
وأن يكون شعره انعكاساً لواقعه، وأن يكون شعره<br />
مثله حبّاً للناس كلهم إال اجلانب الشرير فيهم،<br />
وعناقاً للطبيعة كلها إال اجلانب غير املضيء<br />
منها، وجتاوباً بعيداً عميقاً عُمق ما في هذه<br />
احلياة من جتاوب. والذى يلتقي عنده الدارسون<br />
لشعره، أنه ظاهرة شعرية منبئة، ونقلة فوقية<br />
رحبة للتعبير الشعبي اجلماعي املصري، من دور<br />
جتربة املوال احمللية إلى دور التجربة الشعرية<br />
اإلنسانية«.<br />
يكمل هذه اللوحة القلمية البديعة التي<br />
تنطق بروح الشعر وتوهجه، كما رسمها الشاعر<br />
املصور محمد الفيتوري لصديق ورفيق حياته في<br />
رابطة النهر اخلالد – ما عبر عنه الناقد الكبير<br />
د. محمد مندور في تقدميه للديوان األول للشاعر،<br />
وهو ديوانه »عبير األرض«. بعد أن شدّ انتباهه<br />
عكوف الشاعر على عالم القرية بهذا العمق<br />
والشمول، منحازاً إلى الفقراء املطحونني واألُجراء<br />
املستذلني قائالً: »لقد تقيد الشاعر مبذهب واحد<br />
هو صدق الوجدان وصدق التجربة البشرية، وإن<br />
يكن وجدان الشاعر من االتساع بحيث لم ينطو<br />
على نفسه، وال اقتصر على حياته اخلاصة، بل<br />
شمل األرض والسماء والريف وأهله. وتوحّ دت فيه<br />
مشاعر اجلمال واإلحساس به، سواء أكان هذا<br />
اجلمال شيئاً ميُ سّ ، أم شوقاً تهفو إليه الروح.<br />
وال غرابة في ذلك، فاحلب هو منبع الشعر<br />
األصيل، وهو ال يقتصر على حب املرأة أو حب<br />
الذات، بل ميتد إلى حب الطبيعة، بل وحب الله،<br />
فضلالً عن حب املجتمع، وحب الغير، واحلنوّ على<br />
آالم الناس وآمالهم«.<br />
يقول فوزي العنتيل في القصيدة التي حمل<br />
اسمها ديوانه األول »عبير األرض«:<br />
مازلت أشدو، وحلني يهزّ حولي القرونا<br />
لقد بذرت غنائي، في الكائنات، حنينا<br />
فأزهرت كلماتي، فوق الربى ياسمينا<br />
وشققّ ت صرخاتي، حناجرُ الثائرينا<br />
فإنَّ شعبيَ ما عادَ ضائعاً مستكينا<br />
لقد أحبَّ ضياء احلياة، يهدي العيونا<br />
أحبَّ فوق رباه، هذا التراب الثمينا<br />
***<br />
يا أرضُ ، يا أمُّ ، إني ظامٍ إلى فيض نورك<br />
فأنتِ أفراح عمرٍ ، عمّ قْ ته في جذورك<br />
إني خلطْ تُ دمائي وثورتي بعبيركْ<br />
فأَنْبتي في ضلوعي، نور الضحى، من بذورك<br />
ألشرب الفجر خمراً، عتَّقْ تُ ها في ضميركْ<br />
إني أحبُّ كِ ، إني أُحبُّ فيك وجودي<br />
يا أرض، يا أمُّ ، هبّت على صباي البعيد<br />
نسائمُ الفجر تندى، على خطايَ الشريدِ<br />
***<br />
إني هنا يا حقولي، يا جنتي يا خلودي<br />
مازلتُ ، كاألمسِ طفالً، يُحبّ كلَّ الوجودِ<br />
مازلتُ أنفخُ نايَ الضحى، لشعبي الشهيدِ<br />
حتى يُفيق وميضي، مدمدماً كالرعودِ<br />
ولنتأمل معاً، هذا التدفق الشعري اآلسر،<br />
وهذا االنسياب في التعبير والتصوير، وهذا<br />
اإليقاع املوسيقي اجلياش، الذي ظل يالزم شعر<br />
فوزي العنتيل، من بداياته حتى خواتيمه، وهذه<br />
اللغة الشفيفة الطيِّعة، التي يصنع منها – بكل<br />
يُسر ومهارة – أبهاء عامله الشعري، في تواضع<br />
الكبار، وأصالة البنائني العظام. وهو في هذه<br />
البواكير الشعرية، التي متثل إبداع البدايات،<br />
وجينات التكوين األول، وحتمل طقوس التقاليد<br />
والعادات واملوروثات الشعبية القدمية، وروح<br />
15<br />
»أيها القمر« مع الشاعر املصري فوزي العنتيل وأحلان البدايات
احلضارات املتعاقبة على مصر من فرعونية<br />
ومسيحية وإسلامية، يفصح عن وجدان استقر<br />
فيه مخزون ذكرياته األولى، وعن انتماء حميم<br />
إلى هذه البيئة املصرية الصميمة - في صعيد<br />
مصر - التي سبقه إلى التعبير عنها – ولكن بطريقته<br />
اخلاصة – الشاعر الكبير محمود حسن إسماعيل<br />
الذي يجمعه بالعنتيل انتماؤهما حملافظة أسيوط<br />
في قلب صعيد مصر.<br />
في قصيدته »أيها القمر« التي أصبحت عنواناً<br />
لديوانه اجلديد من شعر البواكير، يقول فوزي<br />
العنتيل:<br />
هل في سمائك للحزين العاني<br />
يا بدر، ترياقٌ من األشجان؟<br />
الكون حولك ساكنٌ متخشعٌ<br />
واألرض حتتك لُ َّ ةُ البركانِ<br />
تلهو وتسبح في مياهك ضاحكاً<br />
فتُ صفّ قُ األمواج للشطآنِ<br />
وجنومُ ك الزهراء غضّ ت طرْفها<br />
خجلاً ، ملطلع وجهك الفتانِ<br />
باح الوجود بسرِّها، فتحجّ بت<br />
واحلسنُ ال يخفى على الفنانِ<br />
***<br />
يا بدر أنت حقيقة طافت بها ال<br />
أوهام ترقصُ في الدجى الوسنانِ<br />
نبع من األنوارِ فجَّ رهُ الهوى<br />
أضحت به األشجارُ في فيضانِ<br />
عطرُ األزاهر في الرياض سكبْتَهُ<br />
فانساب بين جداولٍ ومغاني<br />
وخطرْتَ في ظلل الغمام على الرُّبا<br />
متلفعاً بقلائد املرجانِ<br />
مُ توشِّ حاً بالسّ حبِ تشرقُ باسماً<br />
بين اخلمائل، كالربيع احلاني<br />
والعاشقون لنور وجهك خُ شّ عاً<br />
يتقدمون إليك بالقربانِ<br />
ناجى األحبةُ بدرهم، فتمثلوا<br />
فيك احلبيبَ ، ومُ لهم التبيانِ<br />
أمؤذنٌ يا بدر، تهتف في السّ ما<br />
باسْ م العليِّ الواحدِ الدّ يانِ<br />
أم شاعرٌ سكب املساءُ املُزهرُ<br />
في روحه قبساً من التحنانِ<br />
فشدا بقيثارٍ تردّد حلنهُ<br />
عطراً، تضوّع في النسيم الواني<br />
أم عاشقٌ مسَّ الغرامُ جفونَهُ<br />
فطوى جوانحهُ على األحزانِ<br />
نشوان، ضاق الكون عن أحامه<br />
فسما بها عن عالم اإلنسانِ<br />
عَ برتْ ضفافكَ لوعتي، فتقاسَ متْ<br />
أمواج ضوئك حيرتي وحناني<br />
أنا شاعرٌ عصفت به ريحُ النّوى<br />
فرمتْهُ خلف حواجز النسيانِ !<br />
وفي قصيدة عنوانها »النسر اجلريح«، يقدم<br />
الشاعر صورة لذاته وما امتلأت به من أصداء<br />
احلياة وحتديات الزمن، وفواجع األيام، وهو يرى<br />
في النسر اجلريح مقابلاً فنيّاً له في رفرفته<br />
وحتليقه، وضعفه وانكساره، وجترؤ الطيور على<br />
نقْره واستغال مواطن ضعفه، فيقول:<br />
هبط النسر من رحاب سمائه<br />
مُ غلقاً روحهُ على أرزائه<br />
طاوياً قلبهُ الكبير على الرحِ<br />
مُ ذيباً أحزانهُ في إبائه<br />
غرَّ هُ السَّ فحُ ترقص الطير فيه<br />
بن أعشابه وسحر رُوائه<br />
غرّهُ الدولُ املرنّ ُ ،<br />
تسري همساتُ الغصون في أنحائه<br />
والعصافيرُ حُ وُّ مٌ ،<br />
واثباتٌ ، بن أضوائهِ وزُرقة مائه<br />
فانثنى خافق الناحنْ ، يطوي<br />
شاطئ األفق، سابحاً في رجائه<br />
فاحتوتهُ حُ بالةٌ<br />
أحكم الصائدُ إرسالها على أرجائهْ<br />
***<br />
والناح الذي يُصفّ ق للنجمِ<br />
ويروي أشواقهُ من ضيائهُ<br />
نقرتْهُ الطيورُ،<br />
***<br />
العدد - 692 يوليو 2016<br />
16
الكويت عاصمة الثقافة اإلسالمية 2016<br />
والطيرُ تُغْ رَى<br />
بالضعيف القويّ في بُرحائه<br />
وأطلّ الصباحُ من كُ وّة األفْ قِ<br />
على شاطئ الزمانِ السّ جنيِ<br />
شارباً أدمع الزهور، مُ ريقاً<br />
بسماتِ الطيور فوق الغصونِ<br />
ومشى النسرُ في القبور، فدوَّتْ<br />
زعقاتُ املُصفّ دِ احملزونِ<br />
غزلَ الضوءُ فوق جفنيْهِ حُ لماً<br />
ظامئَ الشوقِ ، مستهام احلننيِ<br />
مبهم اخلطوِ ، شاحباً، سكب النجمُ<br />
على ظلّه بقايا األننيِ<br />
***<br />
مدّ عينيّه للسماءِ ،<br />
وألقى<br />
ضعفهُ املستباحَ عبْرَ الظنونِ<br />
رفرفت روحُ ه، فشدَّ جناحا<br />
يضربُ الريح، عاصفاً في جنونِ<br />
ناسياً جرحهُ العميقُ ، وقيداً<br />
ضمَّ فكّ يْهِ – كانطباقِ املنونِ<br />
فهوى النسر خائراً يتلوّى<br />
فوق آالمه أسير الشجونِ<br />
واجلناح اجلبار أثقله اليأسُ<br />
فأودى بقلبه املطعونِ<br />
***<br />
ومضى النسرُ قصةً ردَّدتْها<br />
همساتُ األمواجِ بني الصخورِ<br />
في صباحٍ<br />
يغشى الضبابُ حوافيه<br />
فيهتزُّ بالسّ نا املقرورِ<br />
حطَّ مته األقدار، لم تُشفق الرِّيحُ<br />
على قلبه األبيِّ الكسيرِ<br />
ال، ولم تعطف الطيور عليه<br />
رُوحَ ها، في صراعهِ املقهورِ<br />
يا صباحَ األوهامِ<br />
مللمْ رفات النسرِ ؟<br />
وانضح جراحهُ بالعطورِ<br />
روِّ أحالمه اجلميلة، واسكبْ<br />
فوق أشواقه دموع الغديرِ<br />
بأغاني الطيور، ملْ ءَ لياليه،<br />
وعطِّ رْ أَجواءها بالزهورِ<br />
***<br />
إن يكن قد قضى،<br />
فإن أمانيه وأحالم صمته املسحورِ<br />
أطلقت رُوحَ هُ<br />
فأبحر في األفْ قِ<br />
إلى شاطئ الوجودِ الكبيرِ<br />
بشراع مُ نوَّ رٍ مستهامٍ<br />
دفَّ في هدأة السكون املثيرِ<br />
ناشراً في الغروب ظلَّ جناحِ<br />
شاعريٍّ يجوبُ ليل العصورِ !<br />
ونختتم هذه الرحلة الثرية مع بواكير شعر<br />
فوزي العنتيل، بزغرودته للحرية، واحتفاله<br />
بيوم التحرير، وفرحته الغامرة بانتصار الوطن،<br />
وسموق رايته في أيدي شعبه العريق. إنها فرحة<br />
النهر واألرض، فرحةُ الشرف والعِ رْض، وفرحة<br />
الذين كانوا مستضعفني في األرض، فهبوا<br />
ينشُ دون اخلالص، وأشرق يوم التحرير الذي<br />
يقول فيه:<br />
نورٌ على األفْ ق البعيدِ<br />
وغيمة بيضاءُ حفّ ت فجْ ركَ املوعودا<br />
ورؤى شراع سابحٍ<br />
يطوي على ثبج البحار عواصفاً ورعودا<br />
النهر صفّ ق هائماً، مُ ترنِّحاً<br />
والروض رفَّ أزاهراً وورودا<br />
واهتزَّ ليل الساهرينَ ،<br />
وضوّأت قمم اجلبالِ ،<br />
روابياً ونُ ودا<br />
يوم اخلالص طوى الوجود صباحُ ه<br />
شوقاً، ورفرف في الكنانةِ عيدا<br />
***<br />
يا طاملا عانقتهُ في خاطري<br />
حُ لماً على شغف اخليال وليدا<br />
***<br />
17<br />
»أيها القمر« مع الشاعر املصري فوزي العنتيل وأحلان البدايات
قبّلْتُ حلنك في شفاه مزاهري<br />
وعزْفتُ صُ بْحكَ للزمان نشيدا<br />
وهتفتُ باسمك شادياً مترنمِّ ا<br />
ونظمتهُ للملهمين عقودا<br />
يا حسن عوْدكَ ، بعد أن عصف األسى<br />
بالنيل، يرعش ضفتيْهِ شرودا<br />
***<br />
سبعون عاما في القيود، فما ترى<br />
إال أسيراً مُ جهداً مكدودا<br />
سبعون عاما يا زمان جتمَّ دتْ<br />
فيها السنون، فما نُحسُّ وجودا<br />
سبعون عاما من عذابك، ليلها<br />
سُ هْ دٌ ترامى خلْفنا مشدودا<br />
ضربت يد الفوالذ حول جراحنا<br />
سدّ اً، وشدَّ الظاملون قيودا<br />
سبعون عاما، كلَّما نضج األسى<br />
في وهمنا عاد الشقاءُ جديدا<br />
***<br />
والشعب، كان الشعب قصة تاجرٍ<br />
يقتاتُ أنّات الشعوب رغيدا<br />
عصر الدموع بكأسه، وبنى له<br />
قصراً على أرض اجلراح مَشِ يدا<br />
الشعب، كان الشعب دمية عابثٍ<br />
يلهو، وكان الكادحون عبيدا<br />
البؤس والشوك املدُ مَّ ى زادُ هم<br />
واليأس كان لهم لظً ى ووقودا<br />
***<br />
الهائمون بكلمِّ أرض، ال ترى<br />
إال شقيّاً منهمو، وشريدا<br />
الشاربون دموعهم في حرّها<br />
نارٌ تُ زمِّقهم، أسً ى وهمودا<br />
الكادحون املجهدون، هوى بهم<br />
لهبُ احلقول على احلقول حصيداً<br />
الكادحون على ضراعات الدجى<br />
النائمون على التراب قُ عودا<br />
كم من شقيٍّ بات قيْدَ دموعه<br />
ومُ شرَّ دٍ ، عبرَ احلياةَ شهيدا<br />
مات الصباح على شكاية نايهِ<br />
فمشى على أشلائهِ مصفودا<br />
لفّ الضبابُ شراعهُ ، يرمي به<br />
فوق العباب مُ شرَّ داً منكودا<br />
يتقاذف املوجُ العتيُّ مصيرهُ<br />
والريح تطوي حُ لمه املوءودا<br />
وهنا وراء الغيب كانت قصة<br />
حمراء، ينسجها القضاءُ بعيدا<br />
عاشت بآفاق النجوم على الذرى ال<br />
مجهولِ تصنع يومك املشهودا<br />
***<br />
فتيانُك األحرار حين دعوتهم<br />
طاروا على لهب احلتوف أسودا<br />
واستقبل الليل الرهيب كتائباً<br />
كالبحر ثار شواطئا وسدودا<br />
وطفت على األفق القتيم مشاعل<br />
نفضتْ عليك شعاعها املمدودا<br />
***<br />
في وثبة التحرير حين ترّدتْ<br />
آالم سجنك، فاحتوتْك خلوداً<br />
وهبتْك مجداً، أنت في قانونه<br />
شعب يسودُ ، وكنت قبلُ مَسُ وداً<br />
كسَّ رت قيدك، وانطلْقتَ مُ غرمِّداً<br />
نشوان حتتضن الوجود سعيداً<br />
غنَّتْ بثورتك احلياةُ ماحماً<br />
ملأت بها قمم الرُّ بى ترديداً<br />
دقَّ الصباحُ على شجيمِّ حلونها<br />
ومشى احلنينُ بها، فلفَّ البيدا<br />
وأضاءت الدنيا على أنغامها<br />
يوماً تألق في الزمان فريداً<br />
وشكراً لزوجة الشاعر ورفيقة حياته، التي<br />
استطاعت بعد رحيله بخمسة وثالثني عاماً،<br />
أن تبحث عن بواكيره الشعرية، وأن تُصنّفها<br />
وتُ قّقها، ليكون منها هذا الديوان اجلديد<br />
البديع ><br />
***<br />
العدد - 692 يوليو 2016<br />
18
أوراق أدبية<br />
الكويت عاصمة الثقافة اإلسالمية 2016<br />
عن شِ عْ رية أمل دنقل<br />
د. جابر عصفور<br />
تتميز صور أمل دنقل الشعرية بالغرابة والجسارة والجدة على السواء،<br />
ولهذا تفاجئنا قصائده بمفرداتها التي تبدو رمزية أحيانا، وواقعية في<br />
أحيان أخرى، وعلى المستوى البالغي تتراوح ما بين الكنائية واالستعارية<br />
واضعة مكاناً خاصاً للتشبيه.<br />
خذ مثالً هذه الصورة التي يستهل بها قصيدته<br />
»سفر ألف دال«، حيث نقرأ فيها:<br />
القطارات ترحل فوق قضيبين ما كان – ما<br />
سيكون<br />
والسماء رماد، به صنع املوت قهوته،<br />
ثم ذراه كي تتنشقه الكائنات<br />
فينسل بن الشراين واألفئدة<br />
وقارنها بالصورة التالية:<br />
على محطات القرى...<br />
ترسو قطارات السهاد<br />
فتنطوي أجنحة الغبار في استرخاءة الدنو<br />
والنسوة املتشحات بالسواد<br />
حتت املصابيح، على أرصفة الرسو<br />
ذابت عيونهن في التحديق والرنو<br />
على وجوه الغائبن منذ أعوام احلداد<br />
تشرق من دائرة األحزان والسلو<br />
ينتظرن... حتى تتآكل العيون<br />
تتآكل الليالى<br />
تتآكل القطارات من الرواح والغدو<br />
والغائبون في تراب الوطن - العدو<br />
ال يرجعون للبالد<br />
ال يخلعون معطف الوحشة عن مناكب األعياد!<br />
وإذا تأملنا هاتني الصورتني متكاملتني الحظنا<br />
أن كلتيهما تتحدث عن قطارات؛ األولى تتحدث<br />
عن قطارات ترحل بني املاضي واملستقبل، والثانية<br />
عن قطارات ترحل من محطات القرى. كأن<br />
العنصر املشترك بني الصورتني هو تصوير حلظة<br />
املا بني التي ميكن أن يتحقق ما بعدها إما سلباً أو<br />
إيجاباً. فهي صور تتراوح ما بني املاضي واملستقبل<br />
أو ما بني احللم والكابوس. واملوت عنصر تكويني<br />
أساسي في الصورتيني، ففي الصورة األولى<br />
السماء تتحول إلى رماد يصنع به املوت قهوته ثم<br />
يذروه كي تتنشقه الكائنات، فينسل بني الشرايني<br />
واألفئدة، وهو معنى رمزي يشير إلى أن املوت<br />
يتسرب في الهواء كالرماد، متخلالً كل شيء.<br />
ولذلك ال يبقى شيء حياً وال يبقى شيء ثابتاً،<br />
فكل شيء يفر خالل الزجاج الذي ينظر منه راكب<br />
القطار إلى ما هو خارج النافذة، سواء كان ما في<br />
اخلارج رذاذ غبار أو صوت الريح أو قنطرة النهر<br />
أو سرب العصافير واألعمدة، كل شيء مير سريعاً<br />
على العني املستقرة في القطار، فال يبقى شيء<br />
19<br />
عن شعرية أمل دنقل
ثابتاً وال تستطيع اليد أن متسك بأي شيء وال<br />
حتى أن متضي العين مع أحالمها. وأخيراً تظل<br />
رحلة القطارات مستمرة. لكنّ الراحلن يصلون<br />
وال يصلون. وليس القطار هنا سوى تعبير رمزي<br />
عن رحلة احلياة ما بن ماضي البشر ومستقبلهم،<br />
لكن من الواضح أن املستقبل يبدو معتماً إلى<br />
درجة تدني بينه واملوت، وهو املعنى الذي يحمله<br />
املقطع الثاني املرتبط مبحطات القرى، حيث<br />
تتحول القطارات إلى قطارات للسهاد الذي ال<br />
ترى فيه األعن النوم وال تلمح سوى أجنحة الغبار<br />
املتطاير الذي تهدأ حركته في استرخاءة الدنو،<br />
فال نرى في ما عداه سوى النسوة املتشحات<br />
بالسواد، ذابت أعينهن من التحديق والتطلع إلى<br />
وجوه الغائبين منذ أعوام احلداد. واملقصود هنا<br />
أعوام هزمية 1967 التي رسمت كل شيء بالسواد<br />
وأطلقت املوت كالغبار على كل محطات احلياة،<br />
حيث لم يبق سوى النسوة املتشحات بالسواد<br />
وهن يتطلعن إلى هذا القطار لعله يحمل أبناءهن<br />
الغائبين، ويطول انتظارهن حتى تتآكل العيون،<br />
كناية عن ال نهائية أيام االنتظار، وتتآكل الليالي<br />
التي ال تتوقف عن املرور بل تتآكل القطارات من<br />
الرواح والغدو، ولكن الغائبن عن تراب الوطن<br />
الذي أصبح كاجلمر، يضيق بأبنائه ويلقي بهم<br />
إلى املوت فيصبح صورة أخرى من العدو. ويطول<br />
االنتظار باألمهات املتشحات بالسواد، ولكن<br />
األبناء ال يرجعون إلى البالد وال يبعثون شيئاً من<br />
الفرح أو األمل في مناسبات األعياد. والفارق<br />
بن الصورتن هو الفارق بن قصيدة »سفر ألف<br />
دال« املتأخرة نسبياً وقصيدة »املوت في الفراش«<br />
التي كتبها أمل في أعوام سابقة، ونشرها في<br />
ديوانه األول، وما بن القصيدتن تتنوع صور أمل<br />
كالعادة، فلال يكتفي بالرمزية التي تفترش دوالها<br />
الصورتن األولين، بل متضي قصائده منطوية<br />
على غبار املوت الذي ينسل في كل قصائده.<br />
وميكن أن نضع إلى جانب هاتن الصورتن،<br />
صورة كنائية موجودة في قصيدة »املوت في<br />
الفراش«، خصوصاً املقطع الثاني منها، حيث<br />
نقرأ:<br />
نافورة حمراء<br />
طفل يبيع الفل بني العربات<br />
مقتولة تنتظر السيارة البيضاء<br />
كلب يحك أنفه على عمود النور<br />
مقهى، ومذياع، ونرد صاخب، وطاوالت<br />
ألوية ملوية األعناق فوق الساريات<br />
أندية ليلية<br />
كتابة ضوئية<br />
الصحف الدامية العنوان: بيض الصفحات.<br />
حوائط، وملصقات...<br />
تدعو لرؤية )األب اجلالس فوق الشجرة(<br />
والثورة املنتصرة!<br />
ومجمل األسطر السابقة يصنع كناية ضخمة،<br />
تتكون من مجموعة من الكنايات الصغيرة.<br />
والطابع البصري غالب عليها متاماً، فهي أسطر<br />
تخاطب العن وجتذبها إليها. وهذه من خصائص<br />
الكناية في البالغة العربية، فالكناية غالباً ما<br />
تنطوي على إحساس بصري، وال تخلو األسطر<br />
من سخرية )األب اجلالس فوق الشجرة( والثورة<br />
املنتصرة؛ فاألب اجلالس فوق الشجرة إشارة إلى<br />
فيلم شهير لعبداحلليم حافظ عن قصة إلحسان<br />
عبدالقدوس، مؤداها أن أحد اآلباء ذهب ابنه إلى<br />
اإلسكندرية لقضاء عطلة الصيف، وبلغ األب أن<br />
ابنه انحرف على يد راقصة في أحد املالهي،<br />
فيذهب األب لينقذ االبن، ولكنه بدالً من ذلك يقع<br />
هو في فخ الغواية. وهكذا أصبح كالطائر الذي وقع<br />
في شراك أحد الفخاخ املنصوبة فوق شجرة من<br />
أشجار الغابة. واملفارقة واضحة متاماً في الفارق<br />
الكبير والساخر ما بن فيلم يتحدث عن غواية<br />
أب وابنه والثورة املنتصرة التي لم تشهد انتصاراً<br />
حقيقياً قط، كما لو كانت حالها حال األب الذي<br />
ذهب إلنقاذ ابنه من الغواية فوقع فيها. ولو عاودنا<br />
النظر في مجموع األسطر السابقة الكتشفنا أنها<br />
مجموعة من املشاهد املتالصقة واملتجاورة على<br />
طريقة التقطيع السينمائي للمشاهد التي ترينا<br />
عدداً غير قليل من املشاهد املوصولة التي قصد<br />
بها أن تؤدي انطباعاً كلياً عما كان يحدث في عالم<br />
املدينة الكبيرة في سنوات الهزمية التي جاءت في<br />
أعقاب 1967. ولذلك فهي مشاهد يفترشها املوت<br />
بشكل أو آخر، فهناك – أوالً - مشهد املقتولة التي<br />
العدد - 692 يوليو 2016<br />
20
الكويت عاصمة الثقافة اإلسالمية 2016<br />
دهستها سيارة عجلى، وهناك – ثانياً - النافورة<br />
احلمراء كلون الدم املسفوح في هزمية 1967،<br />
وهناك – أخيراً - الصحف الدامية العنوان. وقد<br />
ال يكون املوت مذكوراً على نحو مباشر في الصور<br />
اجلزئية السابقة، ولكن احلمرة املالزمة للعناوين<br />
هي الزمة من لوازم صور املوت.<br />
هذا املوت يفترش الصور الشعرية ألمل دنقل،<br />
خصوصاً في ديوانه األول »البكاء بني يدي زرقاء<br />
اليمامة«، الذي جاء بعد هزمية 67 ليؤكد احتجاج<br />
الشاعر عليها، وإدانته لكل األسباب التي أدت<br />
إليها، ومنها غياب الدميقراطية، واالستبداد الذي<br />
لم يسمح بوصول األصوات الصادقة املخلصة<br />
للقيادة السياسية في ذلك الوقت، حتذيراً لها من<br />
السقوط في الفخ الذي كان منصوباً لها، ولذلك<br />
21<br />
عن شعرية أمل دنقل
فاحلزن والغضب هما النغمتان التحتيتان اللتان<br />
تستند إليهما أغلب صور ديوان »البكاء بني يدي<br />
زرقاء اليمامة«، وهو عنوان يلفت االنتباه بالكلمة<br />
االستهاللية فيه، وهي كلمة »البكاء« التي ليست<br />
بكاء على األطالل وإمنا بكاء على الشهداء الذين<br />
سقطوا في حرب 67، وسخرية من السياسات<br />
التي أدت إليها، ولذلك تتناثر في الديوان الصور<br />
الكنائية املوجوعة واحلزينة واإلنسانية في الوقت<br />
نفسه. ومن هذه الصور الدالة بالتأكيد، الصورة<br />
التالية التي تتصدرها أرملة أحد الشهداء في<br />
احلرب:<br />
من شرفتي كنت أراها في صباح العطلة الهادئ<br />
تنشر في شرفتها على خيوط النور والغناء<br />
ثياب طفليها، ثياب زوجها الرسمية الصفراء<br />
قمصانه املغسولة البيضاء<br />
تنشر حولها نقاء قلبها الهانئ وهي تروح وجتيء<br />
... ... ...<br />
واآلن بعد أشهر الصيف الرديء<br />
رأيتها... ذابلة العينني واألعضاء<br />
تنشر في شرفتها على حبال الصمت والبكاء<br />
ثيابها السوداء!<br />
وواضح أننا هنا إزاء كناية ممتدة تتكون من<br />
مقطعيني، املقطع األول مملوء بالبهجة والنور<br />
والغناء املقترن بالهناء واآلمال. وكلها صفات<br />
للعالم البهيج الذي تعيش فيه زوجة أحد الضباط<br />
الذين حاربوا في العام السابع والستني، ويأتي<br />
نقيض هذا القسم ختاماً للكناية املركبة عما<br />
حدث بعد أشهر الصيف الرديء الذي وقع في<br />
شهر يونيو 1967، فينقلب املشهد ونرى املرأة<br />
نفسها ذابلة العينيني واألعضاء. وذبول العني<br />
كناية عن كثرة البكاء واحلزن، أما ذبول األعضاء<br />
فكناية موازية عن هزال اجلسد بعد صدمة حزن<br />
موجعة إلى أبعد حد، وضياع الثقة في املستقبل،<br />
ولذلك تقترن باألسطر الكنائية استعارة مكنية<br />
نراها في حبال الصمت والبكاء التي يأتي بعدها<br />
ما يوضحها من إشارة إلى الثياب السوداء التي<br />
أصبحت ترتديها أرملة الشهيد بعد أن كانت<br />
ترتدي الثياب امللونة البهيجة. والسواد هنا هو<br />
لون املشهد، ولون املأساة على السواء. ومتتد<br />
الصور الكنائية املركبة عند أمل دنقل لتمأل<br />
قصيدة »فقرات من كتاب املوت«، حيث نقرأ:<br />
كل صباح..<br />
أفتح الصنبور في إرهاق<br />
مغتسالً في مائه الرقراق<br />
فيسقط املاء على يدي... دما!<br />
.. ... ...<br />
وعندما أجلس للطعام... مرغماً<br />
أبصر في دوائر األطباق<br />
جماجماً...<br />
جماجماً...<br />
مفغورة األفواه واألحداق!<br />
وإذا عدنا إلى تأمل الصورة الكنائية في<br />
مجملها، جند أن الواقعية فيها موجعة، فهي عن<br />
مواطن بائس، بؤسه مقترن بإرهاقه من كوارث<br />
احلياة اليومية التي يعيشها، ومن ثم يفتتح<br />
صباحه مرهقا، محطم األعضاء فال ميلك إال<br />
أن يفتح صنبور املاء كي يغسل وجهه في إرهاق،<br />
ولكن املاء بدل أن يسقط على وجهه، كما توقعنا،<br />
يتحول إلى دم. والصدمة مقصودة، ويراد بها<br />
إيقاظ وعي القارئ ولفت انتباهه إلى العالم الذي<br />
أصبح يعيش فيه، وهو عالم محاصر باملوت. ولكي<br />
يتأكد حضور هذا العالم منضي مع بقية الصورة<br />
الكنائية، فيجلس املواطن نفسه للطعام مرغماً<br />
من اآلخرين أو مرغماً من نفسه، فهو ال شهية<br />
له على وجه اليقني بسبب احلزن األسود الذي<br />
يعيش فيه. وتتكرر املفاجأة كما حدث في املقطع<br />
األول، فبدالً من أن يرى الطعام في األطباق،<br />
يرى جماجم املوتى الذين سقطوا في حرب 67،<br />
مفغورة األفواه واألحداق، كأنها تنقل إليه دهشتها<br />
وصرخة األلم الفظيع الذي عانته قبل موتها.<br />
وما أكثر الصور الدالة على املوت في الديوان<br />
األول ألمل دنقل، وقد سبق لي أن قدمت حتليالً<br />
نقدياً لقصائد من طراز »البكاء بني يدي زرقاء<br />
اليمامة« وغيرها من الصور في القصائد التي<br />
كانت ترهص بهزمية 67. ولكني أحب أن أتوقف<br />
عند قصيدة أجدها دالة على احلزن واملوت<br />
اللذين ينسربان في أغلب القصائد، إن لم يكن<br />
كل قصائد »البكاء بيني يدي زرقاء اليمامة«.<br />
العدد - 692 يوليو 2016<br />
22
الكويت عاصمة الثقافة اإلسالمية 2016<br />
ومن هذه القصائد قصيدة »صفحات من كتاب<br />
الصيف والشتاء«، التي تتكون من ثالثة مقاطع،<br />
املقطع األول بعنوان: »حمامة«، وميضي كالتالي:<br />
حني سرت في الشارع الضوضاء<br />
واندفعت سيارة مجنونة السائق<br />
تطلق صوت بوقها الزاعق<br />
في كبد األشياء<br />
تفزعت حمامة بيضاء<br />
)كانت تقف على متثال نهضة مصر...<br />
حتلم في استرخاء(<br />
... ... ...<br />
طارت وحطت فوق قبة اجلامعة النحاس<br />
الهثة تلتقط األنفاس<br />
وفجأة: دندنت الساعة<br />
ودقت األجراس<br />
فحلقت في األفق – مرتاعة<br />
... ... ...<br />
أيتها احلمامة التي استقرت<br />
فوق رأس اجلسر<br />
)وعندما أدار شرطي املرور يده<br />
ظننته ناطوراً... يصد الطير<br />
فامتألت رعبا!(<br />
أيتها احلمامة التعبى:<br />
دوري على قباب هذه املدينة احلزينة<br />
وأنشدي للموت فيها... واألسى... والذعر<br />
حتى نرى عند قدوم الفجر جناحك امللقى...<br />
على قاعدة التمثال في املدينة<br />
وتعرفني راحة السكينة!<br />
والصورة الكنائية املمتدة في هذا املقطع،<br />
تشير إلى حمامة فعلية على مستوى احلقيقة،<br />
ونرى ما يحدث لهذه احلمامة عندما تفزع من<br />
صوت بوق سيارة يقودها سائق ال يعرف التعقل<br />
وبأقصى سرعة دون أن يراعي شيئاً، فتفزع<br />
احلمامة البيضاء التي كانت ترقد فوق متثال<br />
نهضة مصر الذي يقبع في مدخل جامعة القاهرة<br />
ما بني حديقتي احليوان واألورمان. ويقضي فزع<br />
هذه احلمامة على أحالمها في استرخاءتها<br />
الهادئة فوق متثال نهضة مصر، فتطير مفزوعة<br />
إلى أن حتط فوق قبة جامعة القاهرة الهثة<br />
تلتقط أنفاسها، لكن قبة اجلامعة جتاور ساعتها<br />
التاريخية التي تدق دقات مزعجات، فتعاود<br />
احلمامة الطيران مرتاعة إلى أن تستقر فوق<br />
رأس اجلسر، أول كوبري اجلامعة، لكنها ترى<br />
شرطي املرور الذي يحرك يده لينظم السير،<br />
فتظنه حارساً يصد الطير، فتمتلئ رعباً وتعاود<br />
الطيران إلى أن يعاجلها املوت فترمتي مع قدوم<br />
الفجر محطمة على قاعدة متثال نهضة مصر.<br />
وينتهي فزعها مع املوت، ولكن هذه احلمامة<br />
من ناحية أخرى ينبغي أن نقرأها على املستوى<br />
الرمزي، فنرى فيها رمز األمان والسالم والهدوء<br />
والسكينة، وهي املفردات التي تواجه دائماً بكل ما<br />
يقطع أمامها طريق احلضور في احلياة، فتغادر<br />
املدينة السكينة ويرحل عنها األمان ويغيب في<br />
لهيبها السلالم فتغدو هذه املدينة بال سلالم وال<br />
هدوء وال سكينة وال حتى براءة، وكلها مجازات<br />
ملا ينسرب في شوارع مدينة ال تعرف سوى كل<br />
ما يطارد كل الدوال واملدلوالت التي تشير إليها<br />
رمزية احلمامة التي تدور على قباب مدينة حزينة<br />
كأنها تنشد فيها للموت واألسى والذعر، وسرعان<br />
ما نرى هذه احلمامة بكل ما ترمز إليه ملقاة عند<br />
قدوم الفجر على قاعدة متثال نهضة مصر، وكأن<br />
هذه احلمامة هي دوال ومدلوالت الرمز الذي ال<br />
يعرف راحة السكينة إال في املوت.<br />
ويأتي املقطع الثاني مبزيد من كنايات احلزن<br />
واملوت، وهو بعنوان: »ساق صناعية«، وميضي<br />
كالتالي:<br />
في الفندق الذي نزلت فيه قبل عام<br />
شاركني الغرفة<br />
فأغلق الشرفة<br />
وعلق »السترة« فوق املشجب املقام<br />
وعندما رأى كتاب »احلرب والسالم«<br />
بني يدي إربد وجهه<br />
ورف جفنه... رفة<br />
فغالب الرجفة<br />
وقص عن صبية طارحها الغرام<br />
وكان عائداً من احلرب... بال وسام<br />
فلم تطق ضعفه<br />
ولم يجد- حني صحا- إال بقايا اخلمر والطعام!<br />
23<br />
عن شعرية أمل دنقل
... ... ...<br />
ثم روى حكاية عن الدم احلرام<br />
)... الصحراء لم تطق رشفة:<br />
فظل فيها، يشتكي ربيعه صيفه...(<br />
وظل يروي قصصه احلزينة اخلتام<br />
حتى تالشى وجهه<br />
في سحب الدخان والكالم<br />
وعندما حتشرج الصوت به، وطالت الوقفة<br />
أدرت رأسي عنه...<br />
حتى ال أرى دمعته العفة<br />
ومن خاليا جسدي تفصد احلزن...<br />
... وبلل املسام<br />
... ... ...<br />
وحني ظن أنني أنام<br />
رأيته يخلع ساقه الصناعية في الظالم<br />
مصعداً تنهيدة...<br />
قد أحرقت جوفه!<br />
وما أكثر احلزن في هذا املقطع السردي<br />
الذي نرى فيه الصوت الذي ميثل الشاعر<br />
الذي ينام في إحدى غرف الفنادق الرخيصة،<br />
ويتصادف أن يشاركه الغرفة واحد من جرحى<br />
حرب 67 الذي يدخل الغرفة لينام فيها في<br />
سرير مواجه لسرير الشاعر، وتنفتح حدقتا<br />
عني الشاعر لتلتقط دقائق هذا املشهد الذي<br />
يربد فيه وجه اجلندي حيني يرى عنوان كتاب<br />
»احلرب والسلام« بني يدي ساكن الغرفة<br />
قبله، فقد ذكره العنوان باحلرب التي يسقط<br />
فيها مئات القتلى، إن لم يكن آالف من الذين<br />
تركهم صرعى من زمائه وأصدقائه على أرض<br />
احلرب، فغالب رجفته وحزنه، ولكي يتخلص<br />
من هذا احلزن، انطلق يحكي لزميله في الغرفة<br />
عن صبية أحبها بعد أن عاد من احلرب با<br />
شيء يشرفه، حاماً عار الهزمية، هذا العار<br />
الذي حتول إلى ضعف شديد أقرب ما يكون<br />
إلى العجز اجلنسي، ففارقته املرأة وهو نائم،<br />
فلم يجد حني صحا في الصباح، سوى بقايا<br />
وليمة املساء. وبعد ذلك انطلق يحكي عن<br />
الدماء احلرام التي ظلت مراقة على أرض<br />
الصحراء التي لم تستطع أن متتصها لكثرتها،<br />
وظل يروي قصص احلرب احلزينة اخلتام<br />
وينفث دخاناً مأل الغرفة كلها. وانتهت حكاياته<br />
بالدموع التي أخذت تترقرق من عينيه وحشرجة<br />
الصوت التي أوقفت كامه، فنقل حزنه إلى<br />
زميله في الغرفة الذي غرق بدوره في حزنه،<br />
وعندما ظن احملارب أن زميله في الغرفة قد<br />
نام، خلع ساقه الصناعية في الظام، مصعداً<br />
تنهيدة بدت كما لو كانت قد أحرقت جوفه.<br />
والرمزية منسربة في هذه الصورة الكنائية<br />
املركبة التي تبدو وكأنها أقرب إلى مشهد<br />
قصصي أو مشهد سينمائي، فالبصرية فيها<br />
غالبة وطاغية، والغرفة التي يقطنها احملارب<br />
املهزوم والراوي الشاعر نراها بعني اخليال، كما<br />
لو كنا نشاهدها على شاشة السينما. وال يتردد<br />
أمل دنقل في استخدام احليل السينمائية التي<br />
تعلم استخدامها في بناء قصائده من قطع أو<br />
وصل أو ترتيب أو تقريب up( ،)close حيث<br />
يجعلنا نحن القراء كما لو كنا نشاركه في هذه<br />
الغرفة ونشعر مبشاعره احلزينة ونتنهد أسى<br />
وحزناً على هذا احملارب املهزوم الذي يعدينا<br />
بانكساره وهزميته، ويتحدث عن املوت والدم<br />
املراق في الصحراء. لكن الرمزية املنسربة<br />
في الكناية جتعل من الرجل الذي فقد ساقه<br />
في احلرب مثاالً على غيره من الذين فقدوا<br />
أعضاءهم، واملثال دال على عديد غيره مبا<br />
يقودنا إلى التمثيل الذي يدخل مبمثوالته إلى<br />
دائرة الرموز.<br />
أما املقطع الثالث فهو بعنوان: »شتاء<br />
عاصف«، ويصف فيه الشاعر مدينة اإلسكندرية<br />
التي كتب فيها هذه القصيدة في ما يبدو، ونقرأ<br />
في هذا اجلزء:<br />
كان »ترام الرمل«<br />
منبعجا كامرأة في أخريات احلمل<br />
وكنت في الشارع أرى شتاء )الغضب الساطع(<br />
يكتسح األوراق واملعاطفا<br />
وكانت األحجار في سكونها الناصع<br />
مغسولة باملطر الذي توقفا<br />
وكان في املذياع<br />
أغنية حزينة اإليقاع<br />
العدد - 692 يوليو 2016<br />
24
الكويت عاصمة الثقافة اإلسالمية 2016<br />
عن )ظالم القيت منه ما كفى..(<br />
قد )علموه كيف يجفو... فجفا(<br />
وفي هذا املقطع نرى عدداً من التقنيات<br />
الالفتة التي كان يستغلها أو يستخدمها أمل<br />
دنقل في كتاباته، أوالها جسارة التشبيه حني<br />
نرى ترام الرمل، وهو اسم الترام الذي ينطلق<br />
ويعود إلى محطة الرمل في اإلسكندرية، منبعجاً<br />
كامرأة في أخريات احلمل. والتشبيه غريب وبالغ<br />
اجلسارة، من النوع الذي يطلق عليه البالغيون<br />
القدماء تشبيه االستطراف، ووجه الطرافة في<br />
التشبيه هو عدم اعتياد قراء الشعر على مثله،<br />
فمن ذا الذي فكر أو تخيل أن الترام املزدحم<br />
بالركاب الذين يقفون على أبوابه يبدو في<br />
انبعاجه كامرأة في أخريات احلمل؟! أما التقنية<br />
الثانية التي يستخدمها أمل، فهي التضمني على<br />
سبيل إيقاع املفارقة في الداللة، وهكذا نقرأ:<br />
»شتاء الغضب الساطع«، وهو تضمني ألغنية<br />
فيروز الشهيرة التي تتحدث عن غضب ساطع<br />
البد أن يدفع العرب إلى هزمية عدوهم، ولكن<br />
العدو لم ينهزم، وإمنا هزم العرب شر هزمية.<br />
ولم يبق سوى الغضب الساطع للهواء في مدينة<br />
اإلسكندرية، وهو يكتسح األوراق برياح اخلريف<br />
التي تشتد في الشتاء، فتنقلب الرياح إلى<br />
عواصف تتطاير معها معاطف املارين املرجتفني<br />
من برد الشتاء في اإلسكندرية، وهو األمر نفسه،<br />
الذي يقع في تضمني أغنية عن ذلك الظالم<br />
الذي يالقي منه العاشق ما يكفيه، فيقول عن<br />
حبيبه قد علموه كيف يجفو فجفا، فاإلشارة<br />
هنا إلى أغنية شهيرة من تأليف أحمد شوقي،<br />
وغناء محمد عبدالوهاب، يقلب الشاعر معناها<br />
كي ميضي في سياق مقطع القصيدة الذي<br />
ميتلئ بالسخرية، دون أن يتخلى عن اخلصائص<br />
الكنائية للمقطع كله، كما في غيره من املقطعني<br />
السابقني. وأخيراً تأتي خامتة القصيدة:<br />
جلست فوق الشاطئ اليابس<br />
وكان موج البحر يصفع خد الصخر<br />
وينطوي - حيناً - أمام وجهه العابس-<br />
... وترجع األمواج<br />
تنطحه برأسها املهتاج<br />
ودون أن تكف عن صراعها اليائس...!<br />
ويختم هذا املقطع األخير سياق القصيدة<br />
مبقاطعها الثالثة الدالة على نحو مباشر وغير<br />
مباشر على املوت الذي يفترش حتى الهواء.<br />
واملقطع يبدأ بجلسة فوق شاطئ البحر اليابس<br />
العاري من العشب أو الطحالب، فال شيء في<br />
هذا الشاطئ اليابس سوى الصخر الذي يندفع<br />
إليه موج البحر كما لو كان يصفعه أو كما لو<br />
كان يخيفه بوجه عابس. وتنطوي األبيات على<br />
ذلك التشخيص الذي يضم شاطئ البحر إلى<br />
موج البحر، فيبدو الصخر كما لو كان له خد،<br />
في مقابل املوج الذي ينطح هذا اخلد أو يتراجع<br />
اخلد من جديد أمام موجه املهتاج كي يرجع<br />
لينطح الشاطئ برأسه كالثور الهائج. ومتضي<br />
الصورة الشعرية على هذا النحو في صراع ما<br />
بني صخر اليابسة وموج البحر اليائس دون أن<br />
يتوقف كالهما عن الصراع اليائس والبائس،<br />
فالصورة مبا تنطوي عليه من صراع هي امتداد<br />
للمقاطع الثالثة السابقة التي نرى فيها املوت<br />
يضرب احلياة كما يضرب موج البحر خد<br />
الصخر، ولكن خد الصخر يتصدى ملوج البحر<br />
ويواجهه كما يقاومه، متاماً كما تقاوم احلياة<br />
املوت الذي يهزمها كما في املقاطع الثالثة<br />
السابقة. ولكن املوت ال يهزم احلياة دائماً<br />
وأبداً، فهناك ذلك الصراع الدائم واملستمر ما<br />
بني احلياة واملوت، وإذا كانت مقاطع القصيدة<br />
السابقة لم تُرِ نا سوى املوت، فإن اخلامتة التي<br />
تصف البحر في مواجهة الشاطئ تؤكد لنا أن<br />
احلياة ال تفنى وال تتبدد، وأنها تناطح املوت كما<br />
يناطح الصخر البحر، ما يجعلنا نعاود النظر في<br />
القصيدة وفي دالالت املوت التي تنسرب فيها،<br />
مدركني في النهاية أن احلياة مع كل مشاهد<br />
املوت السابقة تبقى، وإذا انهزمت في جبهة<br />
فإنها تصارع املوت في جبهة أخرى، ما يعطي<br />
نوعاً من األمل يضيفه املقطع األخير إلى املقاطع<br />
السابقة، فيبدو املقطع األخير في النهاية كما لو<br />
كان الداللة املضافة إلى الشتاء العاصف، كاحلياة<br />
التي تواجه املوت مهما بلغ حجمه وانتصاره أو<br />
تعددت مرات ضرباته ><br />
25<br />
عن شعرية أمل دنقل
فكر<br />
الحُصَ ري يحاور سالمة موسى<br />
د. سعيد إسماعيل علي أكادميي من مصر<br />
نحن هنا أمام عمالقين من عمالقة الفكر<br />
في الوطن العربي في القرن العشرين، كل<br />
منهما يمثل طرفاً مناقضاً للطرف اآلخر في<br />
الرأي، لكن المناخ الحاكم خالل فترة ما يسمى<br />
بعصر النهضة العربية الحديثة، إذ كان يحفل<br />
بالعديد من اآلراء واألفكار التي قد يشكل<br />
بعضها موقفاً مناقضاً ومضاداً لطرف آخر،<br />
يظل الخالف محصوراً في »الكلمة«، وسيادة<br />
»الحوار« باألفكار، وتلك عالمة دالة على درجة<br />
من التحضّ ر.<br />
نحن إذ نعرض لصورة من صور ما كان يجري<br />
من حوارات نبتغي من ذلك أن ننبه إلى صورة<br />
مشرفة لالختالف بين اآلراء، فمهما تباينت<br />
وتضادت، قلّما جند دعوة لإلقصاء والنفي،<br />
فضالً عن اإلعدام، سواء بشكله املعنوي أو<br />
املادي، حتى أننا نتذكر كيف أن علمانياً متطرفاً<br />
مثل إسماعيل مظهر كتب دراسة عنوانها »ملاذا<br />
أنا ملحد؟«، فال تُرفع عليه الدعاوى، وال تصدر<br />
فتاوى بإهدار دمه، وإمنا يبادر صاحب فكر<br />
مغاير وهو محمد فريد وجدي، ليعبر عن موقفه<br />
املغاير بدراسة عنوانها »ملاذا أنا مسلم؟«.<br />
وال نقصد باحلوار في قضيتنا احلالية<br />
بن ساطع احلصري وسلالمة موسى توافر<br />
أركان احلوار كلها، وإمنا هي جملة آراء ساقها<br />
احلصري، ضمّنها كتابه »أحاديث في التربية<br />
واالجتماع«، مناقشاً فيها ما سبق أن كتبه سالمة<br />
موسى، من دون مواجهة شخصية مباشرة.<br />
وساطع احلصري، من الشخصيات العجيبة<br />
حقا، حيث إنه قد توافرت له ظروف جتعله، ال<br />
زعيماً مرموقاً في الدعوة إلى »القومية العربية«<br />
فترة حياته، حتى وفاته عام 1968، وإمنا هو<br />
عاش هذه العروبة في نشأته وتكوينه، حيث توزع<br />
بن عدة بيئات عربية وإسالمية: فقد انتمى إلى<br />
عائلة أصلها من احلجاز، ولكنه وُلد في صنعاء<br />
باليمن، وتقلبت حياته، تعلماً وتعليماً وعمالً بن<br />
القاهرة، واألستانة، ودمشق، وبغداد، وفي كل<br />
موقع من هذه املواقع لم يكن مجرد »سائح« لفترة<br />
قصيرة، بل كان عنصراً قيادياً يعيش سنوات،<br />
العدد - 692 يوليو 2016<br />
26
الكويت عاصمة الثقافة اإلسالمية 2016<br />
ويحتل موقعاً مرموقاً، ويترك بصمات مؤثرة،<br />
تستمر زمناً طويالً.<br />
وسلالمة موسى، مصري »قح«، من<br />
الشخصيات النادرة، مثل عباس محمود العقاد،<br />
ممن لم يتلقوا قدراً ولو متوسطاً من التعليم في<br />
معاهده النظامية املعروفة، بل اعتمد على التثقف<br />
الذاتي، مثلما كان األمر لدى الكثرة الغالبة من<br />
علماء ومفكري احلضارة العربية اإلسالمية.<br />
وفي الوقت الذي كان فيه احلصري موغالً<br />
في التشيع لالجتاه القومي العربي، كان موسى<br />
موغالً في تشيعه الجتاه التغريب.<br />
كان سلالمة موسى قد دُعي إلى محاضرة<br />
ألقاها باجلامعة األمريكية بالقاهرة، ونشرتها<br />
جريدة السياسة األسبوعية التي كان يرأس<br />
27<br />
احلُ صَ ري يحاور سالمة موسى
حتريرها الدكتور محمد حسين هيكل، عن<br />
»أسس التجديد االجتماعي«.<br />
وعلى الرغم من أن اجلهة الداعية جامعة<br />
»أمريكية«، فإن سلامة موسى لم يجد أي حرج<br />
في أن يتحدث في اإلطار األيديولوجي الذي<br />
كان متشيعاً له، وهو »االشتراكية«، فيؤكد أن<br />
العامل االقتصادي هو القوة الدافعة واملهيمنة<br />
على جملة ما يشهده املجتمع من وقائع، وما<br />
يسير عليه من تنظيمات وتطورات، وهي املقولة<br />
املاركسية الشهيرة.<br />
وهو يفسر ما كان – واليزال طبعاً - من<br />
فروق هائلة بيننا في مختلف دول العالم العربي،<br />
بإرجاعها إلى درجة التقدم االقتصادي، فحيثما<br />
يكون تقدم من هذا النوع، يكون نهوض وتطور<br />
إيجابي في مختلف مناحي احلياة املجتمعية.<br />
من هنا استنتج سلامة موسى، أننا إذا<br />
أردنا جتديداً، حتى في األدب واألخاق، فا<br />
مفر لنا من أن نُحدث جتديداً مسبقاً في احلال<br />
االقتصادي.<br />
وهنا ينسب احلصري رأي سامة موسى<br />
- بحق - إلى وجهة النظر املاركسية، التي<br />
وُسمت أحياناً باملادية التاريخية، وكذلك »اجلبر<br />
االقتصادي«.<br />
ولم تكن تلك مجرد »مرة« يذهب فيها<br />
موسى إلى هذا املذهب، وقد أشار احلصري<br />
إلى سبق كتابة سامة موسى عن التشيع ملثل<br />
هذا االجتاه، في مجلة الهال، وإن حملت بعض<br />
التخفيف، حيث لم يكن هناك حتم وجزم في<br />
فاعلية العامل االقتصادي، وإمنا تأكيد على<br />
أولويته، وأسبقيته، وقوة في التأثير تفوق ما<br />
ميكن االعتراف به من عوامل أخرى.<br />
وهنا جند احلصري ال ينفي قوة العامل<br />
االقتصادي وفاعليته، لكن ينكر أن يكون هو<br />
العامل الوحيد، كما ثبت أخيراً بعد جتربة تطبيق<br />
النظرية املاركسية فترة ما يزيد على سبعن<br />
عاماً، ومن ثم لم تعد هناك مناقشات وحوارات<br />
حول هذه القضية، وإن كانت الكثرة الغالبة ال<br />
تستطيع التقليل من قدر وقيمة وفاعلية القوة<br />
االقتصادية في مسيرة احلضارة اإلنسانية.<br />
لكن سامة موسى وجد أمامه في وقائع<br />
التطور احلضاري مثاالً قد يهز ما كان عليه<br />
من يقن بالنسبة للفاعلية االقتصادية، أال وهو<br />
ما كانت عليه حضارة اإلغريق قدمياً من تألق<br />
ال ميكن أن ينكره أحد، حيث نظرات كل من<br />
سقراط، وأفاطون، وأرسطو، وغيرهم، ومع<br />
ذلك، فلم تكن لديهم »آالت«، كما ظهر لها من<br />
قوة تأثير وفاعلية في احلضارة الغربية احلديثة،<br />
تطبع االقتصاد القدمي بالسرعة واالزدهار،<br />
واالنتشار، فكيف ميكن تفسير هذا؟<br />
هنا يشير سامة موسى إلى ما كان من<br />
»عبيد« كانوا هم الذين يقومون مقام اآلالت في<br />
العصر احلديث.<br />
لكن احلصري سرعان ما ياحق هذا<br />
التفسير مبا ينقضه، باإلشارة إلى أن العبيد<br />
كانوا منتشرين في الكثرة الغالبة من البلدان،<br />
فلِمَ لم تقم بها حضارة مثل حضارة اإلغريق؟<br />
إن السر وراء مأزق هذا التفسير، هو<br />
االنحباس في ركن واحد من أركان احلياة<br />
اإلنسانية، أال وهو الركن االقتصادي.<br />
هذا احلوار غير املباشر بن احلصري<br />
وسلامة موسى حول فاعلية العامل االقتصادي<br />
في تطور األمم، والتقدم البشري، حسمته<br />
الوقائع التاريخية الكبرى التي شهدناها بدءاً<br />
من عام 1989، عند حتطيم جدار برلن الذي<br />
كان يفصل بين مجموعتي منظومة ما كان<br />
يُعرف باملنظومة االشتراكية، واملنظومة الغربية<br />
الرأسمالية، ثم تُوج األمر بتفكيك القوة العظمى<br />
التي كانت تسمى »االحتاد السوفييتي«.<br />
قضية أخرى ناقشها احلصري، كان سامة<br />
موسى قد أثارها على صفحات مجلة كان<br />
يصدرها ما كان يسمى في القاهرة في عقود<br />
ما قبل احلرب العاملية الثانية، وهي »الرابطة<br />
الشرقية«، حيث أظهر سامة موسى معارضته<br />
احلادة ملن كان ينسب مصر إلى الرابطة الشرقية،<br />
حاكماً عليها بالتخلف والرجعية، وأن األقرب<br />
إلى مصر أن ترنو بأبصارها إلى ما وراء البحر<br />
املتوسط، حيث الغرب عامة وأوربا خاصة، وهي<br />
الفكرة نفسها التي ألح عليها الدكتور طه حسن<br />
العدد - 692 يوليو 2016<br />
28
الكويت عاصمة الثقافة اإلسالمية 2016<br />
في كتابه الشهير »مستقبل الثقافة في مصر«.<br />
وكان سلامة موسى قد أرجع ما أكده من<br />
تخلف بلدان الشرق، إلى أن حضارته »زراعية«،<br />
بينما حضارة الغرب »صناعية«، فالزراعة، في<br />
تصوره بطبيعتها راكدة ال تتقدم، وإن تقدمت،<br />
فإنها تتقدم ببطء شديد، على عكس األمر<br />
بالنسبة للصناعة، التي يكون تطورها في صورة<br />
قفزات، وبسرعات مذهلة.<br />
ولم يكن سامة موسى قد شهد ما شهدته<br />
الزراعة في العقود األخيرة للقرن العشرين من<br />
اقتحام التقنيات العلمية املتقدمة، والتي بُنيت<br />
على أسس علمية متقدمة أيضا، فضاً عما<br />
عاشته العلوم البيولوجية من طفرات في الهندسة<br />
الوراثية، وآثارها التي يصعب حصرها، في إنتاج<br />
سلاالت نباتية وحيوانية جديدة، وتضاعف<br />
اإلنتاج، مما أكد أنه لم يعد من املقبول القول<br />
بحضارة زراعية في مقابل حضارة صناعية، من<br />
كثرة وتعدد وتنوع صور »الغزو« الصناعي، لعالم<br />
الزراعة.<br />
ودعم احلصري رأيه بإحصاءات متعددة عن<br />
كثير من الدول األوربية التي تشيع فيها الزراعة،<br />
ومع ذلك، فإنها تُعد من الدول املتقدمة، مثل<br />
إيطاليا، والواليات املتحدة األمريكية، وهولندا<br />
وبولندا وغيرها.<br />
ويخلص احلصري إلى قولة حق نتفق<br />
معه فيها بأن حالة الركود واجلمود ليست من<br />
خصائص األدب والزراعة، وال من لوازمهما،<br />
كما أن حالة التحول والتقدم أيضاً ليست من<br />
اخلصائص التي لم تفارق الصناعة والعلم،<br />
فالتجدد واجلمود، ال ينتج أي منهما من طبيعة<br />
العلم أو األدب وحدهما، وال من طبيعة الزراعة<br />
أو الصناعة، بل من حالة املجتمع الذي يتعاطاها<br />
ويتوغل بها. صحيح أن الصناعة سريعة التحول<br />
أكثر مما هو في الزراعة، لكن هذا ال ينهض<br />
دلياً قوياً على أن الصناعة تكون دائمة التحول،<br />
أو أن الزراعة تكون دائمة الركود.<br />
وكان أعجب ما ذهب إليه سلامة موسى،<br />
زعمه بأن األدب مثله مثل الزراعة، ال يقبل<br />
التطور والتقدم، وهو قول غريب حقاً، ال بالنسبة<br />
للحصري وحده، وإمنا بالنسبة لكثيرين منا،<br />
فالنهضة األوربية في مبدأ نشأتها كانت حتفل<br />
بأعمال أدبية شكلت »عامة« على طريق التطور<br />
احلضاري، ويضيق املقام عن مجرد اإلشارة<br />
العابرة إلى أبرز هذه األعمال.<br />
كذلك فإن احلضارة العربية اإلسلامية<br />
نفسها، كانت صفحات األدب فيها زاهرة، وثرية،<br />
مع أن هذه احلضارة لم يصفها أحد بأنها<br />
حضارة صناعية.<br />
ويضع احلصري يده على أبرز العوامل، وهو<br />
البنية املجتمعية نفسها، من حيث األسس التي<br />
تقوم عليها، وعاقات األبنية الداخلية بعضها<br />
ببعض، ومدى حرية احلركة املتاحة، فضاً<br />
عن املناخ العام، كما أكدت ذلك أيضاً مدرسة<br />
»فرانكفورت«، صاحبة النظرية النقدية في علم<br />
االجتماع. وينتقد احلصري أحد عناصر البنية<br />
املجتمعية، مركزاً عليها مبضع التحليل والنقد،<br />
أال وهو موضوع املرأة العربية، حتى أواسط<br />
القرن املاضي، حيث شاعت نظرة متدنية<br />
للمرأة، حترمها من القيام بدور رائد وملحوظ<br />
في احلركة االجتماعية، فضاً عن شيوع األمية<br />
بينها، وانعزالها عن عالم العمل الذي ميكن أن<br />
يكون »بيئة مُربية« و»مُثقفة«، وفرصة الكتسابها<br />
كثيراً من القيم واملفاهيم الازمة حلسن التفاعل<br />
االجتماعي.<br />
وال يتوقف سلامة موسى عن أطروحاته<br />
املباينة واملناقضة لكثير مما تعارف عليه الناس،<br />
ولعل أبرز تلك األفكار التي استثارت احلصري،<br />
من خال ما كتبه سلامة موسى في مجلة<br />
كانت تسمى ب»احلديث«، دعوته إلى القطيعة<br />
مع املاضي، من دون أن يدرك الفارق بني أن<br />
يرضى فريق من الناس أن يكونوا أسرى املاضي،<br />
يريدون عودته كما هو، لوهم أننا لن نتقدم إال<br />
وفق هذا السبيل، وبني أن يكون التاريخ، كما<br />
ذهب ابن خلدون، »للعظة واالعتبار«، وهي<br />
الوظيفة التي يستطيع أن ياحظها كل من يقرأ<br />
آيات القرآن الكرمي التي تشير إلى أقوام في<br />
العصور القدمية، وأحداث غابرة، حيث إن ذكر<br />
هذا وذاك كان مشفوعاً دائماً بدعوة لاتعاظ<br />
29<br />
احلُ صَ ري يحاور سالمة موسى
والتفكر، واالعتبار... وأمة تهمل تاريخها، لهي<br />
أشبه بإنسان يفقد ذاكرته؟!<br />
ومن أبلغ عبارات احلصري تعبيراً عن هذا<br />
الذي نذهب إليه قوله إن املطلوب هو أن نغير<br />
أسلوب نظرتنا إلى التاريخ، ال حتويل أذهاننا<br />
عنه!!<br />
إن التاريخ األوربي ال يخلو من عدد غير<br />
قليل من »السخافات« التي ركز على مثلها<br />
سلامة موسى، من حيث وجودها في تاريخنا<br />
العربي، ومع ذلك ال جند األوربيين يهملون<br />
دراسة هذا التاريخ، بل إن أي خطة تخطوها أمة<br />
من األمم إلى األمام، قد ال يستقيم أمر سيرها<br />
ويصح، إال باالستفادة مما سبق من خطوات،<br />
حتى ال تكرر األخطاء، ويكون الباء احلقيقي،<br />
هو – مرة أخرى - أن نقف عند حد التغني<br />
واإلشادة بأمجاد املاضي، ومن هنا كان القول<br />
املأثور، الذي ذهب إلى أن الفتى ليس هو من<br />
قال: أبي، ولكن هو من يقول: ها أنا ذا!!<br />
وكان سلامة موسى قد ساق أمثلة، بحيث<br />
إذا أردنا أن نشرع في خطط جديدة في األخاق<br />
واآلداب والعلوم، مثل احلديث عن الزواج، وجب<br />
أال نلتفت إلى ما كان يفعله أسلافنا قبل ألف<br />
عام، وإذا كتبنا في األدب، وجب أال نذكر ما<br />
كان يرتئيه اجلاحظ أو اجلرجاني، أما في<br />
العلوم، فيجب أن نعرف أننا نحرث أرضاً<br />
بكراً بالنسبة لبادنا، لم تشقها بعد سكة<br />
احملراث!!<br />
وعود على ذي بدء... ليس اجلوهري<br />
في هذا احلديث مجرد العلم مبا قاله سلامة<br />
موسى، وما ذهب إليه ساطع احلصري بالنسبة<br />
إليه، وإمنا يهمنا بالدرجة األولى أن نشعر ببعض<br />
اخلجل أن يتحاور مفكران، بالكلمة واملنطق،<br />
منذ ما يقرب من ثاثة أرباع القرن، حيث كانت<br />
أوطاننا على ما كانت عليه من تواضع التقدم<br />
املعرفي واحلضاري، بينما يشيع في بلداننا اليوم،<br />
أيضاً، بعد ما أصبح من صور مذهلة من التقدم<br />
احلضارى، من يتحاور بألفاظ خشنة، كأضعف<br />
اإلميان، إن جاز لنا أن نحل مثل هذا أصاً في<br />
أي مرتبة من مراتب اإلميان! أما أشهره، فهو<br />
التحاور بالتكفير أو التخوين، فضاً عن إزاحة<br />
التحاور بالكلمات ليحل محل هذا النهج حتاور<br />
بالسكن واملتفجرات! ><br />
شيخ »كاجوال«<br />
يروي د. محمد فؤاد شاكر أستاذ الدراسات اإلسلامية بجامعة عني<br />
شمس عن ذكرياته في رمضان، قائا:<br />
في بداية شبابي دُ عيت في شهر رمضان الفتتاح مسجد وكنت أيامها<br />
أرتدي الثياب الشبابية, وأضع على رأسي طاقية وحدثت بعض الظروف<br />
التي حالت دون أن أصل إلى املسجد مبكرا كعادتي، ووصلت بعد أن رفع<br />
األذان األول وهو ما يحتم علي أن أصعد إلى املنبر فور دخولي املسجد,<br />
وما إن بدأت الصعود حتى فوجئت برجل يهرول ورائي ويشدني طالبا مني<br />
النزول وهو يقول لي: كيف تفعل ذلك ونحن في انتظار الشيخ محمد فؤاد<br />
شاكر؟ فما كان من الذي دعاني إال أن قام مسرعا ووضع يده على فم هذا<br />
الرجل وهو يقول له إنه الشيخ فؤاد شاكر، فنظر لي الرجل متعجبا كيف<br />
أكون شيخا وأرتدي ما أرتديه من مابس شبابية!<br />
العدد - 692 يوليو 2016<br />
30
الكويت عاصمة الثقافة اإلسالمية 2016<br />
في مثل هذا الشهر منذ<br />
55 عامًا<br />
31<br />
«العربي« في مثل هذا الشهر منذ 55 عاماً
في مثل هذا الشهر منذ 55 عامًا<br />
العدد - 692 يوليو 2016<br />
32
الكويت عاصمة الثقافة اإلسالمية 2016<br />
في مثل هذا الشهر منذ<br />
55 عامًا<br />
33<br />
«العربي« في مثل هذا الشهر منذ 55 عاماً
قالوا<br />
»أميل إلى القول إننا في مرحلة من »فوضى<br />
إبداعية«، نتجت من طفرة في عالم الرواية،<br />
وخصوصاً في السنوات العشر األخيرة، حيث جتاوز<br />
جيل من الروائيني الشباب<br />
دوائر »االحتكار« التقليدي<br />
التي ربطت الرواية في كل<br />
بلد )مصر والعراق وسورية<br />
مناذج( بأسماء محددة وقفت<br />
على قمة هرم الرواية، بنتاج<br />
راوح بني الكالسيكية وتخوم<br />
احلداثة«.<br />
ربعي املدهون<br />
روائي من فلسطني<br />
»حني واصل األدب احلق السير في طريقه،<br />
فإن أدباً زائفاً يسمى - من دون دقة - أدباً<br />
جماهيرياً ظل يكتسب أهمية. وهو أدب متصل<br />
على نحو مباشر أو غير مباشر بأجهزة تشكيل<br />
وعي اجلماهير )أو التالعب بعقولها( في الغرب،<br />
بالتلفزيون والسينما والراديو واملسرح ودور النشر<br />
التجارية، وتساعدها الثورة التكنولوجية على نحو<br />
غير مباشر بترويج وسائل اتصال رخيصة الثمن<br />
تتيح إغراق السوق باألدب الزائف البديل، أدب<br />
التسلية واحلسية واإلثارة ألوسع املتلقني وجتعله<br />
على قارعة الطريق«.<br />
إبراهيم فتحي<br />
ناقد من مصر<br />
»عندما نضع أنفسنا داخل سُ ور املوسيقى وجدارها<br />
العازل، فإننا لسنا في سجن أبدا، بل على العكس<br />
من هذا، نحن في قلب احلياة<br />
األكثر حياة، فال موت داخل<br />
هذه العزلة، وال نوافذ مغلقة،<br />
بل إن كل شيء مفتوح إلى<br />
الهواء والشمس اخلفيفة،<br />
وقد يجتمع الشمس والقمر<br />
والنجوم بل الكواكب كلها<br />
لتلتحم في حياة خاصة داخل<br />
هذا السور«.<br />
نصير شمة<br />
موسيقي من العراق<br />
»أن نبدأ من املدرسة، باحلَثّ على القراءة، وبتقريب<br />
الكتاب من التالميذ، وتوفير املصادر واملراجع لهُم،<br />
وبإيجاد الفضاءات املُالئِمَة ملثل هذه الورشات، وحتفيز<br />
التالميذ والطلبة، وتشجيعهم، وتزويد املكتبات الصفِّيَة<br />
بالكتب واملراجع، من مختلف حقول املعرفة والعلم<br />
واإلبداع، وباملوسوعات، أن نبدأ من املدرسة، بهذه<br />
الصورة، معناه أننا وضعنا اإلنسان أمام فكره وعقله،<br />
وخرجْ نا به من وصايةِ غيره عليه، ألنَّ إنساناً من هذا<br />
القبيل، هو إنسان قارئ، شغوف باملعرفة، وبالبحث<br />
والشك والتساؤل، وهو إنسان مسؤول عن رأيه، وعن<br />
أفعاله«.<br />
صالح بوسريف<br />
شاعر من املغرب<br />
»ما حتتاج حكومات أمة العرب أن تعيه، أن اجلامعات<br />
هي أهم مصدر لتخريج علماء املستقبل في احلقول<br />
التي تهم األمة وترتبط بحاجاتها التنموية احلقيقية،<br />
وهي في طليعة املؤسسات املعنية بتجديد ثقافة األمة<br />
إلخراجها من تخلفها الثقافي، وهي بالتالي أهم مؤسسة<br />
لبناء املستقبل. فإذا سلمت تلك<br />
احلكومات وظيفة التعليم العالي<br />
ليقوم بها اخلارج، فهل تضمن<br />
أن تقوم مؤسسات اخلارج بتلك<br />
املهمات اجلسيمة التي ذكرناها،<br />
وبالطريقة واملقدار وااللتزام<br />
التي تخدم مجتمعاتها وثقافتها<br />
ومستقبل أجيالها؟«.<br />
د. علي فخرو، مفكر من<br />
البحرين، وزير تعليم أسبق<br />
»إن الكالم الشعري ليس كأي كالم. إذا كنا نكتفي<br />
بتوظيف وسائل النطق والسمع والفهم... في خطاباتنا<br />
اليومية، فإن اخلطاب الشعري ال تكفيه تلك الوسائل<br />
والقدرات. علينا لكي نكتب عبارة شعرية أن نهيب بكل<br />
كياننا الوجداني والعقلي، وأن نستحثّ مخيلتنا ومعارفنا<br />
وجتاربنا، وهي الوسائل نفسها التي علينا توظيفها<br />
لقراءة الشعر. الشاعر يفرغ كل كيانه في العبارة الشعرية<br />
ليرتفع بها عن مستوى اخلطاب اليومي ويكسبها ميزة<br />
صفة الشعر«.<br />
محمد امليموني<br />
شاعر من املغرب<br />
العدد - 692 يوليو 2016<br />
34
الكويت عاصمة الثقافة اإلسالمية 2016<br />
»منذ سقوط سور برلني حتى اليوم، لم نفعل سوى<br />
املشاركة في تشييد مجموعة من األسوار األخرى،<br />
وكلها أعلى من سور برلني وأكثر حصانة منه. هي<br />
أسوار من اخلرسانة واحلجارة واألسالك الشائكة،<br />
يواكبها - مع األسف - عديد<br />
من األسوار الثّقافيّة التي<br />
هي أكثر منعة وأشقّ على<br />
التحطيم. املثال الصارخ على<br />
هذه األسوار الشائهة هو ذلك<br />
الذي يفصل إسرائيل عن<br />
فلسطني التي يزيد امتهانها<br />
أكثر فأكثر«.<br />
إيزابيال كاميرا<br />
مترجمة ومستشرقة من إيطاليا<br />
»لم تكن الثقافة العربية - بالنسبة إليّ - صندوقاً<br />
للعجائب، بل عبارة عن كائن حسّ اس وعميق،<br />
قد حفر تأثيراته في نفسي، ومضى عميقاً،<br />
وأنا أكتب العربية، لكنني أفكّر، وأحلم، وأرى<br />
كوابيسي، باللغة الروسية، وربّ ا متثِّل هذه اللغة<br />
املزدوجة إضافة بالنسبة إلي، وأعتقد أن اجلمال<br />
يكمن بني لغتني، تسمحان بالرؤية واإلحساس،<br />
بصورة أكبر. إن نصفنا نحن- الروس- شرقي،<br />
كما هو معروف، وبوشكني ذاته نصفه عربي،<br />
ونصفه إثيوبي.<br />
دميتري ميكولسكي<br />
مستشرق ومترجم من روسيا<br />
»لن تصبح القراءة والكتابة في عداد األموات مع<br />
االقتحام الرقمي؛ بل على العكس، فمن ناحية أخرى<br />
تطرح - أيضاً - مسألة الكتاب. وهنا، ربّ ا، سأدهشك،<br />
لكني أعتقد أن حضارة احلاسوب واللوغاريتم لم جتد<br />
أصالتها، وهي تقتفي أثر<br />
الكتاب. يُفتح احلاسوب ككتاب،<br />
يقدّم صفحات بهوامش كما<br />
في الكتاب. الدعم تغيَّر، لكن<br />
األمنوذج الفكري للكتاب أو<br />
للقراطيس الورقية لم يتحرّك<br />
على اإلطالق«.<br />
ميشيل سير<br />
فيلسوف من فرنسا<br />
»ميكن مالحظة ظاهرة، ربّ ا تفاقمت منذ مَنْح<br />
جائزة نوبل لنجيب محفوظ سنة 1988، تاريخ<br />
بداية االهتمام األوربي باإلنتاج األدبي العربي.<br />
منذ ذلك احلني استحوذت رغبة الترجمة على<br />
عديد من الكتّاب العرب، رغبة لم تكن، في ما<br />
قبل، مسألة ذات أهمية قصوى، لم تكن - على<br />
األرجح - الشغل الشاغل لطه حسيني، وتوفيق<br />
احلكيم، ويحيى حقي، وال حتى جنيب محفوظ؛<br />
ذلك أنه كان لهؤالء قرّاء، وكانوا معترفاً بهم في<br />
لغتهم، ولم يكن لهم كبير مباالة بترحيل كتاباتهم<br />
إلى لغة أجنبية«.<br />
عبدالفتاح كيليطو<br />
مفكر وكاتب من املغرب<br />
»كتبت في البدء بضع قصائد عمودية، لكني ذات يوم<br />
قررت أن أمزّق هذه القصائد وأكتب شعراً ال يقيِّده قيد:<br />
ال قوافٍ وال أوزان، ألن هذه مجرَّد أشكال ال متتّ إلى<br />
الشعر بصلة، وألن الشعر هو احلرّية، فكيف نقيّده!<br />
متشيتُ على سطيحة بيتنا في شبطني مفكِّراً وحائراً:<br />
هل أمزِّق هذه القصائد أم ال؟ كنت حائراً ألني لم أكن<br />
أعرف، بعد، أن هناك من يكتب شعراً بال أوزان وقوافٍ ،<br />
فأنا كنت ال أزال فتى، وفي قرية<br />
ال كتبَ شعر حديث فيها. حتى<br />
انتقلتُ إلى بيروت عام 1968،<br />
وتعرَّفت إلى مجلة »شعر«<br />
املنادية بتجاوز القيود الشعرية<br />
التقليدية، فاطمأننت إلى أن<br />
خياري كان صحيحاً.<br />
وديع سعادة<br />
شاعر من لبنان<br />
»نحن لم نعرف جنيب محفوظ إال بعد حصوله<br />
على »نوبل«، ولكن محفوظ عاش حياة شبيهة جداً<br />
باحلياة التي نعيشها في تركيا. ومع األسف، فإن هذا<br />
األمر ينسحب على األدب اإليراني أيضاً. األتراك<br />
يقرأون الكاتب اإليراني أو الكاتب العربي عندما<br />
يكون مشهوراً في الغرب فقط. في رأيي السبب هو<br />
ألنه يشبههم؛ فهم يقولون: با أنه يشبهنا فهو ليس<br />
جيداً«.<br />
أورهان باموق<br />
كاتب روائي من تركيا<br />
35<br />
قالوا
استطالع<br />
استطالع<br />
سريالنكا<br />
سالم اهلل على أهل<br />
»سرنديب«<br />
رحلة من كولومبو إلى بيرواال جوامع وجامعات<br />
بقلم وعدسة: إبراهيم المليفي<br />
تستنشق كولومبو الهواء املنعش القادم من<br />
احمليط الهندي كل صباح وهو ما أعطاها<br />
نفحة من االعتدال في هوائها خصوصا بعد<br />
مغيب الشمس، أما فترة الظهيرة فيختلط<br />
فيها الهواء الساخن مع الرطوبة لساعات<br />
طويلة حتى متيل زاوية الشمس نحو األسفل<br />
وتستعيد نسمات الهواء برودتها<br />
العدد - 692 يوليو 2016<br />
36
الكويت عاصمة الثقافة اإلسالمية 2016<br />
ورشة بناء كبيرة تشيّد جباالً من األمل، فوق ركام ذكريات أليمة خلفتها حقبة طويلة من<br />
االحتراب الداخلي، صبغت سماء الجزيرة الخضراء بالكدر والعبوس، سريالنكا أرض الشاي<br />
وأشجار جوز الهند والشمس الدفيئة، تنهض بشموخ األسد الذي اختارته رسماً لعلم البالد،<br />
ساعية نحو مستقبل تريده بلون درجات اللون األخضر الذي يكسو الجبال المزروعة بالشاي.<br />
جزيرة الياقوت أو سرنديب - كما سماها العرب قديماً - تقف على أرض صلبة قوامها<br />
الموقع الجغرافي على طريق الحرير البحري وعطف الطبيعة الباذخ بموارد المتناهية، وأخيراً<br />
حالة مستقرة من التعايش بين مكوناتها المتنافرة في الدين والعرق والثقافة. داخل ورشة<br />
سريالنكا الكبيرة، اخترنا الترحال داخل حياة المسلمين فيها، والتقاط صور قريبة من مراكز<br />
وجودهم وسط المحيط البوذي، تلك الرحلة انطلقت من العاصمة كولومبو إلى قرية<br />
بيرواال ثم العودة مجدداً إلى نقطة البداية... كولومبو.<br />
37<br />
سالم الله على أهل »سرنديب« ... رحلة من كولومبو إلى بيرواال
استطالع<br />
سريالنكا<br />
هذا املسجد الكبير ذو اللون األبيض هو مسجد وضريح الشيخ عثمان صديقي ويعتبر أقدم من املسجد األحمر حيث بني قبل 150 سنة تقريبا<br />
معزوفة سباق احلياة<br />
وصلنا إلى مطار كولومبو وسط ظلمة حالكة<br />
لم تبدّدها غير أنوار مدرج الهبوط، كانت<br />
الطائرة في أثناء هبوطها التدريجي ترفع<br />
أغطية الظالم واحداً تلو اآلخر، حتى تلمّس<br />
قائدها أنوار املدرج ليهبط بنا معلناً نهاية<br />
الرحلة اجلوية وبدء الرحلة األرضية.<br />
مرت إجراءات ختم جواز السفر وتسلُّم<br />
األمتعة سريعاً، ولو امتد الوقت قليالً حتى<br />
تشرق الشمس لسعدنا بذلك، فما أجمل ترقب<br />
املدن وهي تتهيأ لبدء حياة الناس وهم في<br />
طريقهم طلباً للرزق! وما أبهى من التلصّ ص<br />
على الشوارع وهي تغتسل في الصباحات<br />
الباكرة بعد يوم مرهق من الدهس املتواصل!<br />
عند بوابة اخلروج بدّد تالحم لهفات الشوق<br />
باملشتاقني هدأة الهزيع األخير من الفجر،<br />
ثم ما لبث أن تبدّد هو اآلخر بفعل ابتعادنا<br />
املتسارع عن املطار لتبتلعنا ظلمة كولومبو<br />
اخلرساء.<br />
ال شيء يرى اآلن على ضفتي الطريق غير<br />
أضواء خافتة تنير طريقنا، ولم يدُر بخلدي<br />
أن اخلرس احمليط بنا يحمل لي هدية ثمينة<br />
أدخلتني في عمق القصة التي أسعى إليها من<br />
دون أي مقدمات، لم يحن الوقت لسردها،<br />
ولكنها ستأتي بعد دقائق.<br />
بدأت معزوفات عصافير الصباح املختبئة<br />
داخل كهوف األشجار ذات اجلذع العريض تعلن<br />
بداية سباق احلياة، نعيق الغربان املهتاج يغالب<br />
بقية األصوات الرقيقة مؤكداً حضور الغراب<br />
كأكثر طائر يُ كن رؤيته في سريالنكا.<br />
في بلدان القيادة »اليمينية«، أجلس في<br />
املكان الذي اعتدت عليه كمتفرج ال سائق،<br />
ألن نظام قيادة السيارة في سريالنكا مثله<br />
مثل بريطانيا والهند وأستراليا ونيوزيلندا<br />
وجنوب إفريقيا وإندونيسيا وماليزيا... إلخ،<br />
نظام »يني«، وهو ما يتطلب احلذر الدائم،<br />
سواء ملن يريد جتربة القيادة في تلك الدول<br />
أو مجرد السير على األقدام عكس االجتاهات<br />
التي اعتادها.<br />
شيء من االختالف طرأ على لون السماء،<br />
الفجر يقترب والليل ينسحب بهدوء، كولومبو<br />
في هذه األثناء بدت أكثر وضوحاً ونحن<br />
نوقظ طرقها اخلالية، أبلغني السائق، واسمه<br />
عبدالرزاق، أننا اقتربنا من مقر إقامتي،<br />
كانت نافذتي مفتوحة أشاهد منها اإلعالنات<br />
العدد - 692 يوليو 2016<br />
38
الكويت عاصمة الثقافة اإلسالمية 2016<br />
علم جمهورية سريالنكا<br />
الدميقراطية االشتراكية<br />
وميثل اخلط األخضر<br />
العريض فيه األقلية<br />
اإلسالمية فيها<br />
خريطة توضح مسار رحلة بعثة مجلة العربي من مدينة كولومبو إلى بيرواال والعكس<br />
التجارية املكتوبة باللغتني السنهالية والتاميلية،<br />
في هذه األثناء سمعت صوتاً أعرفه جيداً، كان<br />
واضحاً رغم تكسّ ر أحرفه العربية، لقد حان<br />
وقت الهدية الثمينة، إنه أذان الفجر األول.<br />
إن وقوع هذا احلدث أمر اعتيادي في<br />
البلدان التي تقطنها غالبية إسالمية، ولكن في<br />
سريالنكا التي يقدّر عدد املسلمني فيها مبليوني<br />
نسمة مقابل ثمانية عشر مليوناً غالبيتهم<br />
الساحقة من البوذييني، يعتبر مؤشراً على<br />
طبيعة العالقة السائدة بيني مكونات املجتمع<br />
السريالنكي، وفاحتة ملزيد من التساؤالت حول<br />
أبعاد وجذور تلك العالقة الفريدة، األمر لم ينته<br />
عند هذا احلد، فعندما دخلت غرفتي سمعت<br />
صوت األذان الثاني مرفوعاً من مسجد آخر<br />
39<br />
سالم الله على أهل »سرنديب« ... رحلة من كولومبو إلى بيرواال
استطالع<br />
سريالنكا<br />
صورة من األعلى تكشف بعض تفاصيل حداثة وعصرية مدينة كولومبو<br />
العدد - 692 يوليو 2016<br />
40
الكويت عاصمة الثقافة اإلسالمية 2016<br />
تعج املنطقة التجارية »بيتاه« - إحدى مناطق مدينة كولومبو - باملسلمني وأسواقهم احمليطة باملسجد األحمر الذي يقع في<br />
تلك املنطقة املهمة<br />
مجاور للفندق الذي أسكن فيه، مبا يوحي أن<br />
كثيراً من العمل ينتظرنا.<br />
مدينة غنية باخليارات<br />
بعد تكرار ما يقوم به الدليل محمد يونس<br />
من إغالق مؤقت ملذياع السيارة، أدركت ما<br />
ينتظرني، لقد أبدى يونس حرصاً شديداً على<br />
خفض صوت املذياع قبل املرور على أي مسجد<br />
يقع في طريقنا، حتى لو كان ذلك وقت نشرة<br />
األخبار، تلك اإلشارة السريعة عنت لي االنتباه<br />
وتقييم املكان القادم بسرعة، قبل أن أباغت يونس<br />
بطلب التوقف للنزول اللتقاط بعض الصور، هو<br />
أيضاً كان يبادلني االنتباه ألن مهمته في إيجاد<br />
مكان مناسب للتوقف في مدينة مزدحمة ليست<br />
باألمر الهينّ ، كنت وهو نخوض في جولة نهارية<br />
على أهم معالم مدينة كولومبو لنرى فيها ما لم<br />
يكن متاحاً وقت وصولي.<br />
تستنشق كولومبو الهواء املنعش القادم من<br />
احمليط الهندي كل صباح، وهو ما أعطاها نفحة<br />
من االعتدال في هوائها، خصوصاً بعد مغيب<br />
الشمس، أما فترة الظهيرة فيختلط فيها الهواء<br />
الساخن مع الرطوبة ساعات طويلة حتى متيل<br />
زاوية الشمس نحو األسفل وتستعيد نسمات<br />
الهواء برودتها.<br />
لم يكن ينقص تلك املدينة شيء من مالمح<br />
املدن العصرية التي تتمتع بشبكة مواصالت<br />
واتصاالت حديثة وفعالة، وأهم ما ميكن قوله<br />
عن كولومبو إنها مدينة نظيفة مرصوفة الشوارع<br />
ومظللة باألشجار الكثيفة، وهي مدينة غنية<br />
باخليارات في كل شيء، وهو الشرط الذي مييز<br />
بي املدن العاجزة عن حتفيز زوارها للبقاء فيها<br />
أياماً إضافية، واملدن التي تستوعب الزوار مهما<br />
كانت ميزانيتهم متواضعة، من هنا كان وجود<br />
»التكتك« كوسيلة مواصالت عنصراً حيوياً في<br />
توفير املال واالنتقال السلس داخل شرايي<br />
املدينة، أما اإلقامة فهي متوافرة بالنجوم ومن<br />
غيرها.<br />
كانت العالقة اجلدلية بي القدمي الشامخ<br />
واحلديث البرنّاق محتدمة، املراكز التجارية<br />
املكيفة تقضم من مساحات األسواق الشعبية<br />
املكشوفة، واللوحات اإلعالنية الضخمة ظلت<br />
نفسها على جدران املباني الهرمة، أما معاقل<br />
41<br />
سالم الله على أهل »سرنديب« ... رحلة من كولومبو إلى بيرواال
استطالع<br />
سريالنكا<br />
صورة عامة للمسجد األحمر )افتتح 1909م(<br />
الواقع في منطقة »بيتاه« وهو ميثل عمق<br />
الوجود اإلسالمي في مدينة كولومبو والعالقة<br />
املتينة بينه وبني مسلمي منطقة جنوب الهند<br />
الذين ساهم أحد جتارهم بشراء األرض التي<br />
بني عليها هذا املسجد<br />
العدد - 692 يوليو 2016<br />
42
الكويت عاصمة الثقافة اإلسالمية 2016<br />
43<br />
سالم الله على أهل »سرنديب« ... رحلة من كولومبو إلى بيرواال
استطالع<br />
سريالنكا<br />
اإلشعاع الروحي ملختلف الديانات فمازالت<br />
مزدهرة باملؤمنني.<br />
املسجد األحمر في »بيتاه«<br />
نعود مجدداً للدليل محمد يونس، الذي<br />
أعطاني خيارات عدة بخصوص املساجد<br />
واجلوامع املوجودة في كولومبو، أغلب ما<br />
رأيته كان مألوفاً وال يقدم صورة تعكس عمق<br />
الوجود اإلسالمي في سريالنكا، إلى أن وجدت<br />
ضالتي في املسجد األحمر باملنطقة التجارية<br />
»بيتاه«، التي تعج باملسلمني وأسواقهم احمليطة<br />
باملسجد.<br />
املسجد األحمر الذي افتتح عام 1909م، يعد<br />
حتفة معمارية جتتذب األنظار لغرابة تصميمه<br />
ولونه احملصور بني لونني فقط األبيض واألحمر،<br />
ويرجع ذلك إلى تأثر مهندس البناء سابيو ليبي<br />
يتوافر ماء الوضوء في املسجد األحمر على شكل بحيرة<br />
مستطيلة تكفي مرتادي املسجد خصوصا بعد عمليات<br />
الترميم والتوسعة األخيرة عام 2015م<br />
العدد - 692 يوليو 2016<br />
44
الكويت عاصمة الثقافة اإلسالمية 2016<br />
بالنمط املعماري الهندي – العربي.<br />
وميثل املسجد األحمر في »بيتاه« صورة من<br />
صور الوجود اإلسلامي في كولومبو، وكذلك<br />
العاقة املتينة بينهم وبني املسلمني في منطقة<br />
جنوب الهند، وفي يوم جمعة وبني صاتَي الظهر<br />
والعصر توجهنا لزيارة املسجد األحمر.<br />
عندما توقفت بنا السيارة خلف املسجد، لم<br />
أتوقع أن يكون بهذا االتساع من الداخل، سرت<br />
نحو املدخل الرئيس وخلعت حذائي الرياضي<br />
وسلمته لرجل يعمل على جمع أحذية املصلني،<br />
سألته: هل التصوير مسموح به هنا؟ ابتسم<br />
وأومأ برأسه مبا يعني املوافقة، ثم رفع يده<br />
اليمنى مشيراً بسبّابته إلى لوحة كتب عليها<br />
سنة افتتاح املسجد األحمر )1909م(.<br />
دخلنا باحة املسجد والتقطنا الصور وتبادلنا<br />
األحاديث مع مجموعة من روّاد املسجد الذين<br />
يستوعب املسجد األحمر اآلن ما يقرب من 15 ألف مصل في وقت واحد، وال تعطي السلطات السريالنكية تراخيص لبناء<br />
مساجد جديدة ولكنها ال متانع في إجراء عمليات ترميم أو توسعة لزيادة الطاقة االستيعابية للمساجد<br />
45<br />
سالم الله على أهل »سرنديب« ... رحلة من كولومبو إلى بيرواال
استطالع<br />
سريالنكا<br />
تعرفوا على مهمتنا في سريالنكا وأمدونا<br />
ببعض املعلومات عن آخر عمليات التوسعة<br />
في هذا املسجد، حيث دشّ نت في عام 2015م<br />
حملة تبرعات الستكمال عمليات التوسعة دعت<br />
إليها اجلمعية املعنية برعاية املسجد األحمر،<br />
وقد جُ مع ما يكفي إلمتام املطلوب، ويستوعب<br />
املسجد اآلن ما يقرب من خمسة عشر ألف<br />
مصلٍ في وقت واحد، بعد أن كان يستوعب عند<br />
بنائه ألفاً وخمسمائة فقط، وال تعطي السلطات<br />
السريالنكية تراخيص لبناء مساجد جديدة،<br />
ولكنها ال متانع في إجراء عمليات ترميم أو<br />
توسعة لزيادة الطاقة االستيعابية للمساجد.<br />
وتتلخص قصة بناء املسجد األحمر في<br />
تزايد أعداد املسلمني في منطقة »بيتاه«<br />
التجارية، وتنطق هكذا »بي تاه«، وقد أرادوا<br />
ألنفسهم مكاناً مناسباً يجمعهم ألداء الصلوات<br />
اخلمس بدالً من الصلالة فرادى، فأقدم تاجر<br />
مسلم من جنوب الهند على شراء قطعة من<br />
األرض وأهداها لبناء املسجد الذي يعرف اليوم<br />
باملسجد األحمر، وقد بُني أول األمر من طابقني<br />
ثم تواصلت عمليات التوسعة عبر الزمن وحتى<br />
التي جرت أخيراً عام 2015م.<br />
وعن عادات مسلمي سريالنكا في شهر<br />
رمضان املبارك، سألنا مَن أحاطونا مبشاعرهم<br />
الفيّاضة فأجابونا بأن عاداتهم ال تختلف عن<br />
بقية املسلمني في العالم، فجميع املطاعم التي<br />
ميلكونها تغلق أبوابها حتى موعد أذان املغرب،<br />
ولكنهم يستقبلون رمضان بالفرح والسرور<br />
وإشعال األنوار وحتضير بعض األطعمة، كما<br />
جتهز الساحات احمليطة باملساجد باملفروشات<br />
الالزمة استعداداً لتأدية صالة التراويح التي<br />
تشهد إقباالً يفوق مساحة املساجد الداخلية.<br />
حلم داخل علَم<br />
حتى نبدأ بفهم طبيعة التنوّع الثقافي<br />
والعرقي والديني في سريالنكا، ميكن االنطالق<br />
من محطتني، األولى هي مكوّنات العلم الرسمي<br />
للبلالد، واحملطة الثانية هي املوقع اجلغرافي<br />
جلزيرة سريالنكا وأهميته قدمياً وحديثاً<br />
في التجارة الدولية، أما في ما يخص مكانة<br />
املسلمني في الدولة بعد االستقالل، فيمكن<br />
القول إن خيار الطائفة اإلسالمية بالوقوف مع<br />
احلكومة السريالنكية في حربها ضد التاميل<br />
عزّز مواقعهم وأوضاعهم بشكل عام، ولعل<br />
وصول الشيخ محمد حنيفة محمد إلى رئاسة<br />
البرملان السريالنكي أكبر دليل على ذلك، وقد<br />
العدد - 692 يوليو 2016<br />
46
الكويت عاصمة الثقافة اإلسالمية 2016<br />
املسجد األكبر في كولومبو هو واحد من بني 2000 مسجد<br />
وجامع ينتشرون في مختلف أرجاء جزيرة سريالنكا<br />
التقينا به - رحمه الله - في املركز اإلسلامي<br />
في كولومبو قبل وفاته بأسابيع، وأهدانا كتاباً<br />
يضم سيرته الذاتية.<br />
يعتبر العلم السريانكي احلالي بعثاً مطوراً<br />
للعلم امللكي القدمي الذي أنهاه االستعمار<br />
البريطاني عام 1815م، بعد جناحه في الهيمنة<br />
على كامل أجزاء اجلزيرة وآخر معاقلها املتمثلة<br />
في مملكة كاندي الواقعة وسط سريانكا،<br />
ووضعت تفاصيل ذلك العلم لكي يعكس التنوع<br />
الثقافي والعرقي والديني املوجود، مع أفضلية<br />
واضحة للمكون السنهالي البوذي، كما يلخص<br />
ذلك العلم احلالة املأمولة لاستقرار في عهد<br />
االستقال، األمر الذي لم يتحقق في البداية<br />
بعد تفجّ ر األوضاع بني أقلية التاميل الهندوسية<br />
47<br />
سالم الله على أهل »سرنديب« ... رحلة من كولومبو إلى بيرواال
استطالع<br />
سريالنكا<br />
مدخل اجلامعة النظيمية اإلسالمية في قرية بيرواال<br />
فصل دراسي يتلقى فيه طالب اجلامعة النظيمية اإلسالمية دروسا في اللغة السنهالية وهي لغة غالبية الشعب السريالنكي<br />
العدد - 692 يوليو 2016<br />
48
الكويت عاصمة الثقافة اإلسالمية 2016<br />
لغة األقلية التاميلية اللغة الرسمية للبالد! مع<br />
جهد تبشيري اتسم بالقسوة لنشر الكاثوليكية<br />
بيني البوذيني، وأكمل الهولنديون ومن بعدهم<br />
البريطانيون سياسة التمييز في املعاملة، مع<br />
ملسة خاصة لإلجنليز متثلت في تغيير التركيبة<br />
السكانية ملصلحة التاميل من خالل جلب املزيد<br />
منهم من جنوب الهند للعمل في حقول الشاي<br />
بعد تطور تلك الصناعة وزيادة الطلب على<br />
الشاي في العالم.<br />
لقد بات العلم السريالنكي اليوم أكثر نضارة<br />
وتعبيراً من املعاني التي حملها، وهو قاطرة<br />
للعبور إلى املستقبل بقيادة األسد القابض على<br />
السيف.<br />
نائب رئيس اجلامعة النظيمية اإلسالمية الدكتور آغار<br />
محمد عبدالكرمي<br />
والغالبية البوذية ودخول سريالنكا في دوامة<br />
حرب أهلية طويلة لم تنته حتى عام 2009م.<br />
يشتمل علم سريالنكا على صورة األسد<br />
القابض بيمينه على سيف مشبّع بالرموز التي<br />
لم تستثن حتى حلية األسد، ولكن ما يهمنا هو<br />
معنى اخلطني العريضني األخضر والبرتقالي<br />
على يسار العلم، اللذين أدخلال للتعبير عن<br />
األقليتيني اإلسلالمية وميثلها اللون األخضر،<br />
والتاميلية وميثلها اللون البرتقالي.<br />
وليس لهذا العلم أو أي علم يلتمس شعارات<br />
ورموز الوحدة والتسامح أي جدوى ما لم يكن له<br />
تطبيق على أرض الواقع وأثر في النفوس، بدليل<br />
أن العلم السريالنكي لم مينع نشوب احلرب<br />
األهلية، بالرغم من أنه يعتبر - في نظري - خطوة<br />
كبيرة من غالبية ساحقة جتاه أقليات مجهرية،<br />
ولكن مسار األحداث واأللغام التي زرعها احملتل<br />
أوصلهم إلى حلظة الصدام اخلشن بني شعور<br />
سنهالي متراكم بالظلم عبر التاريخ، وانتفاضة<br />
منور التاميل دفاعاً عن امتيازاتهم التي متتعوا<br />
بها خالل أيام االحتالل.<br />
وكان البرتغاليون هم أول من زرع بذرة<br />
اخلالف بني السنهاليني والتاميل باعتمادهم<br />
على طريق احلرير البحري<br />
احملطة الثانية لفهم طبيعة التنوع الثقافي<br />
والعرقي والديني في سريالنكا تكمن في<br />
موقعها اجلغرافي كمحطة رئيسة على طريق<br />
احلرير البحري، وتتوسط كتلة اقتصادية<br />
ضخمة هي الصني شرقاً وموانئ جنوب شبه<br />
اجلزيرة العربية شرقاً ومن فوقها الهند بكل<br />
ثقلها، هذا اجلسر املمتد بني حضارات الشرق<br />
والغرب لم يحمل احلرير والتوابل والزعفران<br />
واللبان والقرفة واجللود وعشرات األصناف<br />
من البضائع، بل حمل معه األديان واألفكار<br />
والدعاة والغزاة.<br />
وتتضاعف أهمية محطة سريالنكا وجميع<br />
محطات طريق احلرير البحري في فترات تعطل<br />
خط احلرير البري نتيجة احلروب أو غياب<br />
األمان الكافي الستخدامه، ولوال ذلك املوقع<br />
اجلغرافي املميز على طريق احلرير البحري،<br />
لعاشت سريالنكا حياة العزلة املضاعفة، عزلة<br />
املاء احمليط بها من كل ناحية وعزلة اجلغرافيا<br />
التي حرمتها من قرب اجليران في ما عدا<br />
احلبل املرجاني الرفيع الذي يربطها مع الهند<br />
وشيء من القرب النسبي مع جزر املالديف،<br />
ومبعنى آخر لوال هبة املوقع اجلغرافي ملا<br />
عرفت سريالنكا شيئاً عن العالم اخلارجي<br />
سوى ما يأتيها من نافذة الهند.<br />
49<br />
سالم الله على أهل »سرنديب« ... رحلة من كولومبو إلى بيرواال
استطالع<br />
سريالنكا<br />
تضم مكتبة اجلامعة النظيمية اإلسالمية ما يقارب األربعني ألف كتاب وقد أنشئت بدعم من البنك اإلسالمي للتنمية<br />
ومقره مدينة جدة وتضم هذه املكتبة كل ما يخدم مناهج اجلامعة وتوسيع دائرة معارف طلبتها<br />
حرص املسؤول املساعد ملكتبة اجلامعة حسان سليمان<br />
على اصطحابنا إلى ركن املجالت الدورية كي يطلعنا على<br />
مجموعة املكتبة من أعداد مجلة العربي التي تشهد إقباال<br />
متواصال من طلبتها الذين يجدون في لغتها العربية<br />
امليسرة عونا لهم في دراستهم<br />
بيرواال... اجلامع واجلامعة<br />
ال تختلف قصة وصول اإلسالم إلى جزيرة<br />
سريالنكا عن بقية جزر جنوب شرق آسيا، قد<br />
تختلف في التفاصيل ولكن اجلوهر واحد:<br />
لم ينتشر اإلسلالم في إندونيسيا وماليزيا<br />
واملالديف والفلبني وغيرها من املناطق عن<br />
طريق احلمالت العسكرية، ولكن عن طريق<br />
التجار والدعاة واملهاجرين القادمني من منطقة<br />
حضرموت في اليمن في ما يعرف ب »هجرة<br />
احلضارمة«.<br />
احملطة األشهر لالستيطان العربي في<br />
سريالنكا هي قرية بيرواال، التي تقع على<br />
بعد 55 كلم جنوب كولومبو، وتعد رمزاً للفترة<br />
التي هيمن العرب فيها على خطوط التجارة<br />
البحرية، ومن خاللها نشأت عالقات قوية<br />
مع السنهاليني وملوكهم الذين رحبوا بالنشاط<br />
التجاري مع املسلمني من منطق ال يخلو من<br />
العدد - 692 يوليو 2016<br />
50
الكويت عاصمة الثقافة اإلسالمية 2016<br />
أستاذ اللغة العربية محمود عليان مستغرقاً هو وتالمذته في احلديث عن العناوين التي كتبها على »السبورة«: ( املسرح،<br />
اإلنشاد، األخبار، اخلطابة، الكتابة، القصة )<br />
»على أعتاب األندلس وخطط طارق بن زياد لفتحها«... دخلنا فصل التاريخ اإلسالمي الذي يدرس فيه الدكتور عالء الدين<br />
منصور عبدالغفار واحدة من أبرز محطات التاريخ اإلسالمي<br />
51<br />
سالم الله على أهل »سرنديب« ... رحلة من كولومبو إلى بيرواال
استطالع<br />
سريالنكا<br />
قرية بيرواال هي احملطة األشهر لالستيطان العربي في سريالنكا، ويؤرخ مسجد »كيتشيماالي« الذي بني فوق صخرة تطل<br />
على احمليط الهندي جانبا من ذلك التاريخ إذ مت بناؤه قبل ثمانية قرون<br />
بالقرب من مسجد »كيتشيماالي« تقع الكلية األشرفية العربية التي اشتق اسمها من »شيخ أشرف« املدفون في ذلك املسجد<br />
وهو شخصية حتظى بالكثير من التقدير بني مسلمي بيرواال ويعتبرونه من األولياء الصاحلني<br />
العدد - 692 يوليو 2016<br />
52
الكويت عاصمة الثقافة اإلسالمية 2016<br />
تلخص هذه الورقة تاريخ مسجد »كيتشيماالي« الذي بناه أعيان<br />
من اليمن لنشر الدعوة اإلسالمية وإقامة الصلوات اخلمس<br />
امام مسجد »كيتشيماالي« الشيخ غامن علوي من أحفاد<br />
أحفاد عرب حضرموت يقرأ ما تيسر من القرآن الكرمي<br />
السياسة، فمن يهيمن على تلك الطرق يهيمن<br />
على التجارة العاملية وتعلو كلمته على بقية القوى<br />
اإلقليمية، وفي بيرواال نزل التجار واملهاجرون<br />
والدعاة، ومنها انتشروا في أنحاء سريالنكا،<br />
ومنهم من استقر فيها إلى يومنا احلاضر.<br />
بيرواال تلك القرية املليئة بأشجار جوز الهند<br />
وجتارة األحجار الكرمية، محطة مهمة في<br />
رحلتنا، كونها حتتضن مجموعة من املساجد<br />
القدمية التي تؤرخ لوصول التجار املسلمني<br />
لتلك املنطقة بدليل مادي ملموس، كما توجد<br />
فيها اجلامعة النظيمية اإلسالمية التي اعتمدنا<br />
على كتيبها كمرجع ألغلب املعلومات عن تاريخ<br />
الوجود اإلسالمي في سريالنكا.<br />
قيل لنا عنها إن شهرتها تتمحور في بيع<br />
األحجار الكرمية وأعيانها من أغنى جتار هذا<br />
البلد، ومنهم صاحب اجلامعة التي اشتق اسمها<br />
من اسمه وهو الشيخ نظيم، في الطريق إليها<br />
دخلنا زقاقاً غص بالناس عند بوابة تراءت لنا<br />
كمدخل ملسجد وتركناه خلفنا، وفي طريق العودة<br />
عدنا إلى املكان نفسه، ولكن سرنا فيه بتمهل،<br />
لم يكن ذلك احلشد سوى مكان باعة األحجار<br />
الكرمية وقوفاً بال محال أو عربات، فصال في<br />
فصال وجدل قلَّما ينتهي ببيع وشراء.<br />
ذهبنا أوالً إلى كيتشيماالي الذي بُني على<br />
الصخرة البيضاء املطلة على احمليط الهندي،<br />
كان موقعه محفزاً للسؤال: ما الذي حصل هنا<br />
من دمار عندما هاج تسونامي؟ سألت املشرف<br />
الذي أجابني بأن هذا املسجد لم يتهدم ولكنه<br />
53<br />
سالم الله على أهل »سرنديب« ... رحلة من كولومبو إلى بيرواال
استطالع<br />
سريالنكا<br />
بني كولومبو وبيرواال ال يخلو الطريق من أشجار جوز الهند وظالل األشجار الكثيفة التي تخفف على املارة حرارة اجلو<br />
يعلن بعض أصحاب »التكاتك« عن هويتهم الدينية عن<br />
طريق إبرازها في مكان واضح، وهذا »التكتك« وضع كلمة<br />
التوحيد على النافذة اخللفية<br />
أصيب ببعض األضرار نتيجة دخول ماء البحر<br />
ألرضية املسجد.<br />
وأضاف: بالفعل تهدمت مساجد أخرى<br />
قريبة منا، خرج إلينا إمام املسجد وهو شيخ<br />
كبير في العمر يدعى غامن علوي من أحفاد<br />
أحفاد عرب حضرموت الذين هاجروا إلى<br />
سرنديب، لم يتحدث كثيراً ولكنه رحّ ب بنا<br />
وجلس ليقرأ علينا ما تيسر من القرآن الكرمي،<br />
ثم سمح لنا بتصوير املسجد من الداخل، أما<br />
املشرف فقد عاد إلينا ومعه ورقة كتبت باللغة<br />
العربية فيها معلومات مركزة عن تاريخ املسجد<br />
األبيض أهمها أنه بُني قبل ثمانية قرون.<br />
ومن املسجد توجهنا إلى اجلامعة النظيمية<br />
اإلسالمية، حيث كان ينتظرنا هناك نائب مدير<br />
اجلامعة د. آغار محمد عبدالكرمي، الذي<br />
أعطانا شرحاً وافياً عن تاريخ تلك اجلامعة<br />
ورسالتها وأهدافها، كما أهداني كتيباً تضمن<br />
العدد - 692 يوليو 2016<br />
54
الكويت عاصمة الثقافة اإلسالمية 2016<br />
بني األحرف السنهالية والتاميلية تكتب بالعربية كلمة »حالل« على أحد املطاعم جلذب الزبائن الذين يبحثون عن هذا<br />
النوع من الطعام<br />
تستعمل كلمة »عباية« بنفس معناها العربي للداللة على املالبس النسائية اخلاصة باملسلمات، وطاملا أن الطلب متوافر من<br />
أقلية يبلغ تعدادها مليوني نسمة فمن املؤكد أن العرض لن يتخلف عن تلبية املطلوب<br />
55<br />
سالم الله على أهل »سرنديب« ... رحلة من كولومبو إلى بيرواال
استطالع<br />
سريالنكا<br />
ال ينقص كولومبو شيء من مالمح املدن العصرية فهي<br />
غنية باخليارات في كل شيء وتتمتع بشبكة مواصالت<br />
واتصاالت حديثة وفعالة وحركة البناء ال تتوقف فيها وإلى<br />
جانب كل ذلك هي مدينة نظيفة مرصوفة الشوارع<br />
العدد - 692 يوليو 2016<br />
56
الكويت عاصمة الثقافة اإلسالمية 2016<br />
57<br />
سالم الله على أهل »سرنديب« ... رحلة من كولومبو إلى بيرواال
استطالع<br />
سريالنكا<br />
واجهة املركز اإلسالمي في كولومبو<br />
معلومات مهمة عن تاريخ وأحوال املسلمني في<br />
سريالنكا.<br />
اجلامعة النظيمية عضو في احتاد اجلامعات<br />
اإلسلالمية، وهي بيئة تعليمية متكاملة يتلقى<br />
فيها الطالب رعاية خاصة وفرصاً واعدة<br />
لتعلم مهارات متعددة تضمن له أفضلية القبول<br />
في وظائف القطاعني العام واخلاص، وفي<br />
هذه اجلامعة ذات الطابع الديني الواضح، ال<br />
يتلقى طالبها العلوم الشرعية فقط، ولكنهم<br />
يتعلمون لغات العمل واحلياة مثل اإلجنليزية<br />
والسنهالية، أما األولى فهي لغة عاملية، بينما<br />
الثانية فهي لغة الغالبية في سريالنكا وإجادتها<br />
تيسّ ر للطالب املسلمني سهولة االندماج معهم،<br />
ويوجد في اجلامعة معهد تكنولوجي لتعليم<br />
احلرف اليدوية.<br />
وقد سلط د. آغار محمد عبدالكرمي الضوء<br />
على الدور احليوي الذي يؤديه املسلمون في<br />
احلياة العامة واخلصوصية التي يتمتعون بها<br />
داخل الدولة، فهم يديرون محاكمهم القضائية<br />
اخلاصة بقضايا األحوال الشخصية ولديهم<br />
مدارس حكومية كثيرة، كما توجد لهم بعض<br />
البرامج في اإلذاعة والتلفزيون، وأخيراً تعتبر<br />
أعياد املسلمني عطالت رسمية في الدولة.<br />
ويبدو أن مشكلة اللغة هي التحدي الذي<br />
يواجهه املسلمون في سريالنكا بعد االستقالل،<br />
حيث إنهم يتكلمون بالتاميلية، وغالبية املؤلفات<br />
العدد - 692 يوليو 2016<br />
58
الكويت عاصمة الثقافة اإلسالمية 2016<br />
جانب من حفل تخريج دفعة جديدة من طلبة املركز اإلسالمي بحضور سفير دولة الكويت في سريالنكا خلف بوظهير<br />
صورة جتمع الشيخ محمد حنيفة أول رئيس مسلم للبرملان<br />
السريالنكي مع سفير الكويت لدى سريالنكا خلف بوظهير<br />
اإلسالمية لعلماء سريالنكا كتبت بهذة اللغة،<br />
في حني تعتبر اللغة السنهالية اللغة الرسمية<br />
للدولة، األمر الذي دفع الشباب املسلمني إلى<br />
تعلم السنهالية باعتبارها لغة احلياة اليومية<br />
والعمل.<br />
وتتجه األنظار اآلن إلى مشروع ضخم لترجمة<br />
جميع املؤلفات اإلسلالمية من اللغة التاميلية إلى<br />
السنهالية ولكنه اليزال على الورق الرتفاع التكاليف.<br />
كنا على موعد مع اللغة العربية ومجلة<br />
العربي، فبعد نهاية اللقاء مع د. آغار محمد<br />
عبد الكرمي، خرجنا برفقة أحد العاملني في<br />
اجلامعة النظيمية ويدعى محمد مصباح لزيارة<br />
بعض الفصول الدراسية التي تدرس اللغة<br />
العربية ورؤية ذلك على الطبيعة، الفصل األول<br />
كان مخصصاً لتدريس اللغة السنهالية )لغة<br />
الغالبية في سريالنكا( الفصل الذي يليه كان<br />
فيه درس في التاريخ باللغة العربية يشرحه<br />
د. علالء الدين منصور عبد الغفار وهو من<br />
مصر، أما الفصل الثالث فكان فيه درس في<br />
اللغة العربية يتناوله األستاذ محمود فتحي<br />
عليان لتالمذته، وهو اآلخر من مصر.<br />
59<br />
سالم الله على أهل »سرنديب« ... رحلة من كولومبو إلى بيرواال
استطالع<br />
سريالنكا<br />
العالقة اجلدلية بني القدمي الشامخ واحلديث البراق<br />
محتدمة، املراكز التجارية املكيفة تقضم من مساحات<br />
األسواق الشعبية املكشوفة، واللوحات اإلعالنية الضخمة<br />
طلت على جدران املباني الهرمة، أما معاقل اإلشعاع<br />
الروحي ملختلف الديانات فمازالت مزدهرة باملؤمنني<br />
العدد - 692 يوليو 2016<br />
60
الكويت عاصمة الثقافة اإلسالمية 2016<br />
مبنى بلدية كولومبو وهو ينتمي لعهد االستعمار اإلجنليزي جلزيرة سريالنكا<br />
بعد زيارة الفصول الدراسية ذهبنا إلى<br />
مكتبة اجلامعة التي تضم ما يقارب األربعني<br />
ألف كتاب، وقد أنشئت بدعم من البنك<br />
اإلسالمي للتنمية ومقره مدينة جدة، تضم هذه<br />
املكتبة كل ما يخدم مناهج اجلامعة وتوسيع<br />
دائرة معارف طلبتها، مساعد أميني املكتبة<br />
حسان سليمان حرص على اصطحابنا إلى<br />
ركن املجالت الدورية كي يطلعنا على مجموعة<br />
املكتبة من أعداد مجلة العربي التي تشهد<br />
إقباالً متواصالً من طلبتها الذين يجدون في<br />
لغتها العربية امليسرة عوناً لهم في دراستهم.<br />
يستند كتيب اجلامعة النظيمية بشكل<br />
كامل إلى رواية ابن برزك عن زمن وصول<br />
اإلسلالم إلى سريالنكا خالل فترة اخلليفة<br />
عمر بن اخلطاب . وملخص رواية برزك<br />
ابن شهريار التي أوردها في كتابه »عجائب<br />
الهند... برّه وبحره وجزائره«، يشير إلى أن خبر<br />
اإلسالم وصل إلى سريالنكا في أيام اخلليفة<br />
عمر وقد أوفدوا إليه بعثة من شخصني،<br />
رسول وخادمه، تستطلع تعاليم اإلسالم، وقد<br />
التقى ذلك الرسول باخلليفة وأخذ منه ما مت<br />
إرساله ألجله، وفي طريق العودة فاضت روحه<br />
إلى بارئها فأكمل خادمه املهمة في تبليغ ما<br />
عرفه عن تعاليم اإلسالم إلى أهل سريالنكا.<br />
وضمن الكتيب نفسه وردت إشارة عن<br />
سبب فتح بالد السند، الذي يعود إلى استيالء<br />
مجموعة من القراصنة من »الديبل« التي تقع<br />
قرب مدينة كراتشي على عدد كبير من السفن<br />
التابعة ملسلمي »سرنديب« بكل ما فيها من هدايا<br />
وركاب، وقد بلغ خبرهم احلجاج بن يوسف الذي<br />
أرسل إلى ملك الديبل »داهر« يطلب استرجاع<br />
ما أخذه القراصنة، ولكن »داهر« تعذر بأنه ال<br />
سلطان له عليهم، فغضب احلجاج وأرسل أكثر<br />
من حملة عسكرية مبوافقة اخلليفة األموي<br />
الوليد بن عبدامللك ولم تفلح، لكن األخيرة<br />
بقيادة محمد بن القاسم كللت بالنجاح وقتل<br />
امللك داهر في أرض املعركة وفتحت بالد السند<br />
بكاملها.<br />
ولعبت العالقات الوطيدة بني مسلمي<br />
سريالنكا وجنوب الهند دوراً كبيراً في تعزيز<br />
وانتشار اإلسلالم في البالد، كما حترص<br />
مجموعة من املسلمني العرب الذين استوطنوا<br />
61<br />
سالم الله على أهل »سرنديب« ... رحلة من كولومبو إلى بيرواال
استطالع<br />
سريالنكا<br />
كل وسائل املواصالت متاحة في شوارع كولومبو<br />
لكثرة أشجار جوز الهند األصفر في سريالنكا فإنه يندر أن يخلو مكان من بائع يروي عطش املارة مباء جوز الهند القريب<br />
من طعم املاء وبأسعار مبتناول اجلميع<br />
العدد - 692 يوليو 2016<br />
62
الكويت عاصمة الثقافة اإلسالمية 2016<br />
الساحل اجلنوبي الشرقي على تفقد أحوال املسلمني<br />
في سريالنكا، ولعل قصة بناء املسجد األحمر في<br />
»بيتاه« التي سبق ذكرها خير شاهد على ذلك.<br />
وأخيراً انتهت رحلتنا إلى بيرواال، وهي على<br />
صغر حجمها كانت غنية باملعلومات ومحطة<br />
متوهجة في هذه الرحلة.<br />
العمل مستمر على قدم وساق إلجناز برج كولومبو اجلديد<br />
لالتصاالت كي ينضم إلى قائمة أطول األبراج في العالم<br />
مركز كولومبو اإلسالمي<br />
لم يتبق لنا ضمن برنامج هذه الرحلة غير زيارة<br />
مركز كولومبو اإلسلالمي، وقد أجلنا زيارته بتوصية من<br />
سفير دولة الكويت في سريالنكا السيد خلف بوظهير،<br />
حتى تتزامن زيارتنا مع احتفال يقيمه املركز مبناسبة<br />
تخريج دفعة جديدة قوامها 62 طالباً وطالبة، وألجل<br />
االلتقاء مع شخصية مهمة في التاريخ السريالنكي<br />
احلديث هي الشيخ محمد حنيفة محمد الذي سيحضر<br />
جانباً من ذلك االحتفال رغم تقدمه في السن.<br />
لقد كان هذا املركز مبنزلة احللم الذي سعى الشيخ<br />
محمد لتحقيقه كي يكون محطة محورية للبحوث<br />
والتنمية الثقافية الدينية ونشر األدب اإلسالمي، وبعد<br />
طول عناء مت في 17 ديسمبر 1986م افتتاح مركز كولومبو<br />
اإلسلالمي بدعم من البنك اإلسالمي للتنمية، بحضور<br />
رئيس اجلمهورية آنذاك جونيوس ريتشارد جيوردين<br />
كمنظمة غير حكومية لتحقيق أهداف محددة تتمثل في<br />
تعزيز الهوية الدينية والثقافية واالجتماعية للمسلمني<br />
في سريالنكا وتقدمي أنشطة نوعية في جميع أرجاء<br />
البالد من بينها االحتفال مبيالد النبي .<br />
وقبل بداية احلفل بقليل جمعنا لقاء في مكتب<br />
الشيخ حنيفة وأعضاء مجلس اإلدارة والسفير بوظهير،<br />
ودار حوار حول أوضاع املسلمني في سريالنكا في الوقت<br />
احلالي، وقد كانت اإلجابات بشكل عام تؤكد أن األمور<br />
بخير وأن حرية العبادة مكفولة واملساحة التي يتحرك<br />
فيها املسلمون جيدة، كان الشيخ محمد متابعاً للحوار<br />
وعلى يساره تبدو صورة قدمية له وهو يترأس إحدى<br />
جلسات البرملان السريالنكي، كانت الصورة مبنزلة<br />
إجابة موازية لإلجابات السابقة، قبل أن نخرج من<br />
املكتب طلب الشيخ محمد نسختني من سيرته، واحدة<br />
للسفير والثانية لي.<br />
وتولى الشيخ محمد حنيفة مناصب مهمة<br />
عدة في الدولة، أبرزها منصب رئيس البرملان<br />
63<br />
سالم الله على أهل »سرنديب« ... رحلة من كولومبو إلى بيرواال
استطالع<br />
سريالنكا<br />
تستقبلنا »الغربان« حلظة الوصول وترافقنا في رحلتنا وقبل الرحيل<br />
تودعنا، الطائر هذا حاضر في تفاصيل اجلزيرة اخلضراء<br />
السريالنكي، وكان وزيراً في أكثر من حكومة<br />
لألشغال واإلسكان والنقل العام واخلاص<br />
والشؤون اإلسلالمية، وقبل ذلك تولى رئاسة<br />
بلدية كولومبو ومنصب عمدة املدينة، وقد<br />
سخّ ر معظم حياته خلدمة العمل اإلسالمي<br />
واملسلمني في سريالنكا، وفي أثناء كتابتنا<br />
لهذه األسطر بلغنا نبأ وفاته، فله الرحمة<br />
واملغفرة.<br />
هي اللحظة وفي املستقبل اخلبر<br />
كل ما فات لم يكن غير تسجيل اللحظة<br />
واستحضار التاريخ بقدر احلاجة، وبقدر<br />
ما أوحت وباحت لنا املعطيات عن أحوال<br />
املسلمني في سريالنكا، فإننا نؤكد أنها<br />
معطيات اللحظة مع تسليمنا بوقوع مجموعة<br />
من املضايقات من بعض الرهبان البوذيني<br />
للمسلمني في أوقات سابقة، ولكنها ال تدخل<br />
في إطار العمل املمنهج الذي يستهدف<br />
حتقيق أهداف معينة، اللحظة تؤكد وجود<br />
2000 مسجد في مختلف أرجاء سريالنكا،<br />
واللحظة جمعتنا مع أناس كثيرين لم نسمع<br />
منهم ما يعكّر صفوها، إذاً لم يتبق لنا غير<br />
العدد - 692 يوليو 2016<br />
64
الكويت عاصمة الثقافة اإلسالمية 2016<br />
على الشريط الساحلي لكولومبو مر قطار ذكرني بأن الرحلة في سريالنكا مازالت في بدايتها وأمامنا الكثير مما يستحق<br />
إكمال الطريق ألجله<br />
املستقبل الذي يكمن فيه اخلبر، والذي ال<br />
نتمنى إال أن يكون أجمل مما كان.<br />
أيّ األسماء تليق بك؟<br />
سيالن، سرنديب، جزيرة الياقوت، زيالن، سيالو،<br />
تابروباني... سريالنكا، أعلم أن االسم األخير هو النهائي،<br />
ولكن أي األسماء تليق باجلزيرة اخلضراء؟<br />
بعكس ما كان متوقعاً لم تندثر معظم األسماء السابقة<br />
وبقي منها ما بقي كأسماء لشركات ومحال وعالمات<br />
جتارية، كان »سرنديب« أول األسماء التي وجدتها باقية<br />
على قيد احلياة، فقد اختارته شركة اخلطوط اجلوية<br />
السريالنكية عنواناً مشعاً ملجلتها الشهرية كي يقرأه كل من<br />
جلس على أحد مقاعدها، األمر نفسه تكرر مع »سيالن«،<br />
ولكن بزخم أكبر، فال يكاد يخلو مكان من ذلك االسم، فما<br />
السبب؟ هل هو احلنني؟ أم هي إشكالية اجلمال الذي ال<br />
يحتمل اسماً أو وصفاً أو قصيدة واحدة؟<br />
جمال سريالنكا وسحر ابتسامة ناسها أوقعاني في<br />
حيرة ال أزال فيها، ملخصها األسئلة التالية: كيف لهذه<br />
األرواح اجلميلة أن تعرف طريق السالح والبارود والقتل؟<br />
وكيف على النقيض من ذلك جعلوا من أنفسهم أمنوذجاً<br />
للتعايش وومضة أمل بني أخبار العالم الكئيبة؟<br />
فسالم الله على »سرنديب« وأهلها
أدب<br />
االعتراف والهوية<br />
د. إيهاب النجدي أكادميي من مصر مقيم في الكويت<br />
ال تنفصل السيرة الذاتية - بآفاقها السردية - لكاتب من الكتاب عن نصوصه<br />
األدبية األخرى، ويمثل النص السيري في هذا اإلطار نصاً موازياً، وشارحاً، ومحققاً،<br />
وقارئاً ألدب صاحب السيرة، ولمجتمعه في آن، في فترة من فترات تاريخه.<br />
ومنطقة االعتراف في فضاء السيرة الذاتية أكثر المناطق تفاعلالً وتوتراً،<br />
وكشفاً وفائدة، تتهاوى عندها أقنعة الشخوص الروائية، ويتناءى عنها اليومي<br />
والعادي، وتضحى مركز الضوء والحقيقة، وبهدي من أشعة هذا المركز تُرصد<br />
حركة النصوص األدبية الموازية، وتُسْ تجلى بذور التكوين.<br />
السيرة الذاتية اخلالية من الصور االعترافية<br />
أقرب إلى أن تكون قصيدة في الفخر أو املديح,<br />
جتنح للمثال, وتبعد عن واقع اإلنسان »ذلك<br />
اخلطّ اء« الذي تستبد به املنازع, وتعتري نفسه<br />
شتى األحوال. وفي االعتراف تكون زاوية الرؤية<br />
أو التبئير - Focalization بالتعبير السردي - في<br />
أعلى درجاته سطوعاً, ويغلب أن يكون التبئير<br />
داخلياً, فالسارد محدد ومعروف سلفاً, وهو املؤلف,<br />
ال يقدم إال ما تعلمه الشخصية, وما تدركه مبعنى<br />
من املعاني.<br />
ويسعى السارد إلى رفع االلتباس, فتحضُ ر<br />
الهوية صريحة, وطبيعية بال رتوش, ويتم التعرّف<br />
عليها, والتعريف بها, ولعلها أجلى فائدة ميكن<br />
الظفر بها من خالل االعتراف, فالسارد يستدعي,<br />
ويستبطن, ويفسّ ر, ويحاول النفاذ إلى اجلوهر,<br />
وينقد الهوية نقداً ذاتياً, ثم يتجاوز األحداث العامة<br />
اخلامدة, ليمسك بالوقائع املهمة, وعند ذاك<br />
يحصل تعريف الهوية على أكثر من مستوى: هوية<br />
الكاتب, والكتابة, وهوية املجتمع الذي يؤثر ويتأثر,<br />
ويحتضن سلباً وإيجاباً الهويتني معاً.<br />
جان جاك روسو<br />
وتنطلق املقاربة التي تصل الهوية بالسرد<br />
واالعتراف, لدى الناقد عبدالله إبراهيم من النظر<br />
إلى الكتابة »بوصفها حواراً, وبحثاً, واعترافاً, وإعادة<br />
تعريف بالهوية«, فالتركيز على البعد »اجلوّاني«<br />
لشخصيات السيرة يراه »املادة األكثر أهمية في<br />
أدب االعتراف, وليس األحداث اخلارجية املشاعة<br />
بني اجلميع, وقد نهلت اآلداب السردية من هذه<br />
املنطقة شبه احملرّمة, وبيّنتْ موقع الكاتب في<br />
مجتمعه, وهويته, ورؤيته للعالم«.<br />
وهذا القران احلاصل بني االعتراف, وتعريف<br />
الهوية مبستوياتها الفردية واجلماعية - من منظور<br />
العدد - 692 يوليو 2016<br />
66
الكويت عاصمة الثقافة اإلسالمية 2016<br />
التلقي - في حركة دائبة, وأخذ وردٍّ بني حالة التوق<br />
إلى البوح والكشف, وحالة الستر واإلخفاء, ثم<br />
تردد صورة الهوية بني صورة الكاتب البطل املبرّأ<br />
من العيوب, وصورة الشخصية البشرية حني تتعثر<br />
وتسقط, وتضل الطريق, وبهذا فإن هوية الكاتب<br />
ليست ثابتة في كل األحوال, وال في كل املراحل,<br />
وما ينبغي لها أن تركن إلى اجلمود, فالكاتب<br />
»صيرورة من التحوالت التي ال تنتهي, وال يُعاب<br />
على املرء الوقوع في اخلطأ, إمنا يعاب عليه نكرانه<br />
له, أو عدم تخطّ يه, فال ينبغي اخلوف, أو حتى<br />
اخلجل, من اقتراف الكاتب للخطأ, ولكن يحسب<br />
عليه تقبّله, والتعايش معه, فاالنزالق إلى اخلطأ<br />
أمر تصعب السيطرة عليه بسبب حتول الوعي<br />
اخلاص بالكاتب من درجة إلى أخرى, وبني مرحلة<br />
وأخرى, وصوالً إلى ما يصطلح عليه لوكاش ب<br />
»الوعي األصيل« بنفسه وعامله, وذلك يتأخر كثيراً,<br />
وقد ال يأتي أبداً.<br />
لكن التلقي أيضا, بآلياته اجلديدة, وانفتاح<br />
آفاقه, لم يعد جامداً, أو ثابتاً عند صورة منطية<br />
للكاتب, واعتراه ما اعترى الكاتب من حتوالت,<br />
وصار في مقدور املتلقي التخلي عن صورة الكاتب<br />
الرمز, والقبول بصورة الكاتب اإلنسان في حالي<br />
سقوطه وصعوده, وعلى وجه أخص مع بروز ثورة<br />
املعرفة احلديثة, التي انطلقت عبر آليات واسعة<br />
من التواصل, واالتصال الرقمي, وألفة التعرف<br />
على البعيد, والعصي من حيوات اآلخرين.<br />
وقد حدث حتوّل بارز في عالقة<br />
االعتراف بالهوية مع اعترافات جان جاك روسو<br />
)ت. 1778م(, فبعد أن كانت االعترافات طقساً<br />
دينياً, من أجل التطهر, وإظهار عظمة خالق<br />
الوجود )اعترافات القديس أوغسطينوس مثاالً(,<br />
أحدثت اعترافات األديب الفرنسي تغييراً جوهرياً<br />
في مفهوم االعتراف وأسلوبه, فأصبح اعترافاً<br />
إنسانياً, يخاطب الناس في املقام األول, ويهدف<br />
إلى جالء احلقيقة, حقيقة الذات, واملجتمع الذي<br />
تتحرك فيه, يقول روسو في مستهل اعترافاته:<br />
»أنا اليوم قادم على أمر لم يسبق إليه سابق, ولن<br />
يلحق به الحق, أنا مزمع على أن أجلو إلخواني بني<br />
اإلنسان إنساناً على حقيقته, وفي صميم طينته,<br />
وهذا اإلنسان هو أنا..«.<br />
اتخذ روسو من ذاته معبراً للنفاذ إلى الذات<br />
اإلنسانية, وتقدمي العالم الداخلي للنفس, وظلّ<br />
مشغوالً بذلك زمناً طويالً, ففي نصه األخير<br />
»تأمالت ملتجول وحيد« الذي نشر بعد وفاته, بدا<br />
ذلك الباحث عن حقيقة نفسه, الراغب في العزلة<br />
من أجل االكتشاف, ودراسة شخصه, وهكذا<br />
استسلم »للذة التحاور مع الروح« على حد تعبيره<br />
)د. سليمان الشطي: إضاءة, مجلة الكويت, يونيو<br />
.)2012<br />
خارج املكان<br />
إدوارد سعيد<br />
إن سؤال الذات ال يتوانى في الظهور بالسير<br />
الذاتية الصريحة, فارتباك الهوية كان ماثالً في<br />
»خارج املكان« إلدوارد سعيد )ت. 2003م(, وهي<br />
السيرة الذاتية أو املذكرات التي كتبها إثر إصابته<br />
بسرطان الدم, وفي أثناء فترات العلالج, بان<br />
االرتباك والتردد املُلحّ ان الضاغطان على النفس,<br />
فرصدتهما افتتاحية الفصل األول, بل أضاءتهما<br />
مقدمة املؤلف للطبعة العربية, يقول في املقدمة:<br />
»أما في حالتي أنا, فالفارق بني اإلجنليزية<br />
والعربية يتخذ شكل توتر حاد غير محسوم,<br />
بني عامليني مختلفني كلياً, بل متعاديَنينْ : العالم<br />
الذي تنتمي إليه عائلتي وتاريخي وبيئتي وذاتي<br />
األولية احلميمة - وهي كلها عربية - من جهة,<br />
وعالم تربيتي الكولونياليّ , وأذواقي وحساسياتي<br />
املكتسبة, ومجمل حياتي املهنية معلِّمًا وكاتباً من<br />
67<br />
االعتراف والهوية
جهة أخرى. لم يُعْفني هذا النزاعُ منه يوماً واحداً,<br />
ولم أحظَ بلحظة راحةٍ واحدةٍ من ضغط واحدة<br />
من هاتني اللغتني على األخرى, وال نعمتُ مرةً<br />
بشعور من التناغم بني ماهيتي على صعيد أول,<br />
وصيرورتي على صعيد آخر, وهكذا فالكتابة عندي<br />
فعلُ استذكارٍ , وهي إلى ذلك, فعلُ نسيان«.<br />
مت االستذكار والنسيان في آن واحد, من<br />
أجل إجناز عملية البحث عن الهوية وحتققها, مت<br />
ذلك حتت سقف التوتر واالرتباك, والضغط<br />
والتنازع, واملفارقة والتناقض, ولم يتوقف هذا<br />
البحث عند مظهر التردد بني لغتني أو استبدال<br />
اللغة اجلديدة بالقدمية, فقد امتد إلى مظاهر<br />
أخرى, من أقربها اسم املؤلف ذاته أو اسم السارد,<br />
يقول: »هكذا كان يلزمني قرابة خمسيني سنة؛<br />
لكي أعتاد على إدوارد, وأخفف من احلرج الذي<br />
يسببه لي هذا االسمُ اإلجنليزيُّ األخرق الذي وُضِ ع<br />
كالنير على عاتق سعيد اسم العائلة العربيّ القحّ.<br />
صحيح أن أمي أبلغتني أني سُ مّيتُ إدوارد على اسم<br />
أمير بالد الغال )وارث العرش البريطاني( الذي<br />
كان جنمه المعاً عام 1935, وهو عام مولدي, وأن<br />
سعيد هو اسم عدد من العمومة وأبناء العم, وخالل<br />
سنوات من محاوالتي املزاوجةَ بني اسمي اإلجنليزيّ<br />
املفخّ م وشريكه العربيّ , كنتُ أجتاوز إدوارد، وأؤكد<br />
على سعيد تبعاً للظروف, وأحياناً أفعل العكس, أو<br />
كنت أعمد إلى لفظ االسمني معاً بسرعة فائقة<br />
بحيث يختلط األمرُ على السامع, واألمر الوحيد<br />
الذي لم أكن أطيقه, مع اضطراري إلى حتمله, هو<br />
ردود الفعل املتشككة واملدمِّرة التي كنت أتلقّاها:<br />
إدوارد؟ سعيد؟«.<br />
يتجه درس الهوية في »خارج املكان« إلى<br />
استيعاب أمرين مهمني, بالنسبة ملؤلفها, األول:<br />
حركية الهوية الشخصية؛ فهي تتكون من تيارات<br />
واجتاهات, لم مير بها السارد دفعة واحدة, بل عبر<br />
مراحل زمنية متعاقبة, تعرّضت فيها كتاباته إلى<br />
انزياحات وحتوالت, لم ينكر وجودها يوماً.<br />
أما األمر الثاني فهو الشك في فكرة الهوية<br />
األحادية, خاصة أن املفارقة ظاهرة في عملية<br />
إنتاج السيرة أو املذكرات ذاتها, إنه يستذكر نشأته<br />
العربية, ليعيد صياغتها بلغة إجنليزية, أي إن<br />
الذاكرة عربية, والسرد إجنليزي, وهذه العملية<br />
تطرح سؤاالً عن كيفية استيعاب لغة اآلخر حلياة<br />
الذات, وإلى أي مدى يكون هذا االستيعاب وافياً؟<br />
لكن التعدد في الهوية مثّل لديه نافذة لالنفتاح على<br />
اآلفاق الرحبة للحوار بني الثقافات.<br />
ليس هذا فحسب؛ فقد قاده هذا الدرس إلى<br />
منطقة االعتراف, وإلى أن تكون الصراحة إحدى<br />
سمات »خارج املكان«, وهي السيرة التي تعقّبت<br />
حتوالت حياته منذ امليالد, وحتى زمن حصوله<br />
على الدكتوراه في عام 1962.<br />
إسطنبول... باموق<br />
أورهان باموق<br />
الكتابة هوية أيضاً, من دون الوصول إلى<br />
ساحلها حوارات واعترافات, وجتلّى ذلك لدى<br />
الروائي التركي احلاصل على »نوبل«، أورهان<br />
باموق, في سيرته »إسطنبول الذكريات واملدينة«,<br />
وعلى وجه أخص في الفصل السابع والثالثني<br />
الذي جاء بعنوان »محادثة مع أمي: الصبر واحلذر<br />
والفن«. كان املستقبل الغامض لطالب الهندسة<br />
املعمارية أورهان هو موضوع احلوارات الليلية<br />
الطويلة للسارد مع أمه, وما لبثت أن حتوّلت إلى<br />
جدل مرير, وأزمة هوية. إنه من صميم قلبه يقول:<br />
»إنني ال ميكن أن أكون مهندساً معمارياً..«,<br />
وفي الوقت نفسه: »رأيتُ حبي للرسم ميوت,<br />
وشعرتُ باخلواء املؤلم الذي خلّفه وراءه« و»ال ميكن<br />
أن أستمر إلى األبد في قراءة الكتب والروايات<br />
حتى الصباح, أو قضاء الليالي في التجول في<br />
العدد - 692 يوليو 2016<br />
68
الكويت عاصمة الثقافة اإلسالمية 2016<br />
الشوارع«.<br />
وأمام فداحة األزمة وخطورتها على حياة السارد,<br />
تستعني األم بسرود استعادية, لها أكثر من وجهة:<br />
سرد شخصي يخصُّ حياتها التعليمية: »كنتُ مثلك<br />
وأنا صغيرة, كنت أهرب من احلياة...«، سرد عائلي<br />
اعترافي يخصُّ الزوج )والد السارد(, وخيانته الزوجية<br />
»بعد بحث طويل جنحت أمي في أن تعثر على املكان<br />
الذي يقابل فيه أبي عشيقته..«، سرد غيري يخصُّ<br />
الرسام التركي املشهور, وعبرة قصته مع الرسم »لن<br />
تتمنى أن تصبح رساماً في هذه البالد يا بنيّ ...«.<br />
توسّ لت األم بكل هذه السرود إلقناع االبن بأن<br />
يكون »طبيعياً, وعادياً, مثل اآلخرين«، ومازالت األم<br />
تتحدث »عليك أن تكون غنياً, لذلك ال تتخلّ عن دراسة<br />
العمارة يا بني..«, ثم اقتضت اللحظة احلاسمة في<br />
حتديد املستقبل/ املصير/ الهوية احليوية, حضور<br />
الداخل واخلارج, الذكريات واملدينة, فكانت أشبه<br />
بلحظة التنوير في دراما نفسية, تتضافر فيها كل<br />
العناصر من أجل الوصول إليها, وبها تُختتم سيرة<br />
أورهان باموق:<br />
»شوارع بيه أوغلو, وزواياها املظلمة, ورغبتي في<br />
أن أجري بعيداً, وشعوري بالذنب، كل ذلك كان يومض<br />
ويخبو مثل أضواء النيون في رأسي, عرفت حينها<br />
أنني لن أتشاجر أنا وأمي في تلك الليلة, وفي دقائق<br />
معدودات كنت أفتح الباب وأهرب إلى الشوارع املخزية<br />
في املدينة؛ وبعد أن جتولتُ حتى منتصف الليل عدتُ<br />
إلى البيت, وجلست أمام طاولتي, وسجلّتُ كيمياءها<br />
على الورق. قلتُ : ال أريد أن أكون رساماً, سأكون<br />
كاتباً«.<br />
كان االعتراف جسراً للوصول إلى هوية الكتابة,<br />
واستدعاه الصراع الواقع بني هويتني من مستويني<br />
مختلفني: هوية اجتماعية, وهوية ذاتية؛ فاألم من<br />
خالل سرد متشعب األلم تريدها هوية اجتماعية,<br />
تقليدية, قادرة على التعايش مع الواقع التركي في<br />
ذلك الوقت. أما االبن فقد أرادها هوية تخص<br />
الذات, مغايرة, متحققة في الرسم أو الكتابة, وال<br />
بديل.<br />
هذا الصراع آزره حضور طاغ للمدينة إسطنبول<br />
)املوزعة بني آسيا وأوربا(, مكان إقامة, وموضوع كتابة,<br />
ورمبا كان النشغال باموق بالهوية الذاتية الكتابية,<br />
أثرٌ في انشغاله بالهوية الكبرى في رواياته وكتاباته,<br />
أعني هوية وطنه تركيا, ومبعنى أدق هوياتها املتعددة,<br />
املشدودة بني جناحي التراث واملعاصرة ><br />
خطيب على مائدة رمضانية<br />
دعا موسى بن جناح جماعة من جيرانه، ليفطروا عنده في أحد أيام<br />
رمضان، فلما وُ ضعت مائدة الفطور، قام فيهم خطيباً فقال: »ال تعجلوا فإن<br />
العجلة من عمل الشيطان!«، ثم وقف وقفة، فقال لهم: وكيف ال تعجلون والله<br />
تعالى، يقول: }وَكَانَ اإلْ ِ نْسَ انُ عَ جُ والً } )اإلسراء: 11(؟ اسمعوا ما أقول لكم،<br />
فإن فيه حُ سن املؤاكلة، والعاقبة الرشيدة، والسيرة احملمودة، إذا مد أحدكم يده<br />
ليستقي ماء، فأمسكوا أيديكم حتى يفرغ، فإنكم جتمعون عليه خصاال: منها<br />
أنكم تنغصون عليه في شربه. ومنها أنه إذا أراد اللحاق بكم، فلعله يتسرع إلى<br />
لقمة حارة فيموت! وأدنى ذلك أن تبعثوه على احلرص، وعلى عظم اللُقم،<br />
ولهذا قال بعضهم وقد قيل له: لمَ تبدأ بأكل اللحم؟ قال: ألن اللحم ظاعن<br />
)راحل( والثريد )ما يُثرد من اخلبز( مُ قيم، وأنا وإن كان الطعام طعامي فإني<br />
كذلك أفعل، فإذا رأيتم قولي يخالف فعلي فال طاعة لي عليكم«!.<br />
69<br />
االعتراف والهوية
نقد<br />
البُعد العَ جائبي في مجموعة<br />
»نجِ يّ ليلتي« لميمون حِ رْش<br />
عبدالواحد ابجطيط<br />
كاتب من املغرب<br />
تندرج نصوص هذه المجموعة القصصية، الصادرة عام 2013 عن<br />
مطابع »الرباط نت«، ضمن ما اصطلح عليه، اليومَ ، في وطننا العربي<br />
ب»القصة القصيرة جدا«. وهو فنٌّ سَ رْدِيٌّ مُ ستحدَ ث في أدبنا العربي،<br />
يَعتمِ د الكثافة العالية، ويَستمِ د معظم مقوماته من فنون األدب<br />
األخرى، ويَستثمِ رُ جُ ملة من التقنيات الفنية واألسلوبية، التي تعين<br />
على تكثيف المعنى واختزاله.<br />
وعليه، فقد تراوحت أحجام نصوص المجموعة، بين أربعة أسطر،<br />
وتسعة عشر سَ طراً؛ كما في نصّ »العانس« الذي يُعد أطول نصّ في<br />
المجموعة؛ وذلك انضباطاً للحجم القصير الذي يُعَ د الميسم البارز<br />
لهذا الفن الوليد.<br />
يُالحَ ظ في هذه األضمومة، أن صاحبَها<br />
جلأ في كثير من أقاصيصه إلى توظيف العنصر<br />
الفانتاستيكي )العَجائبي(، الذي يَرتكز على<br />
عنصر املَسْ خ، وخَ رْق املألوف واملُعتاد في الواقع<br />
اإلنساني؛ حيث جند الشخصيات متارس أعماالً<br />
تعارض قوانين الواقع التجريبي؛ ممّا يُضفي<br />
غموضاً فنيّاً على النص القصصي، ويَسْ تدعِ ي<br />
ممارسة التأويل، وشد انتباه املتلقي. فاألدب<br />
»العجائبي«، عموماً، يَسْ تند إلى: »تداخل الواقع<br />
واخليال، وجتاوز السببية، وتوظيف االمتساخ<br />
والتحويل والتشويه ولعبة املرئي والالمرئي، من<br />
دون أن ننسى حيرة القارئ بن عاملن متناقضن:<br />
عالم احلقيقة احلسية وعالم التصور والوهم<br />
والتخييل. فهذه احليرة هي التي توقع املتلقي بن<br />
حالتي التوقع املنطقي واالستغراب غير الطبيعي،<br />
وذلك أمام حادث خارق للعادة، ال يخضع ألعراف<br />
العقل والطبيعة وقوانينهما«.<br />
حن نتصفح مجموعة »جنِ يّ ليلتي« لألستاذ<br />
حِ رْش، تستوقفنا ظاهرة العجائبية هذه، التي<br />
تبدو حاضرة حضوراً قويّاً في كثير من نصوصها؛<br />
مثل: جنيّ ليلتي، اللعبة، رؤوس متاسيح، داخل<br />
قلبي، أكباد مقروحة، لعنات... إلى جانب الواقعي<br />
طبعاً. فالقاص يُشغل االمتساخ الفانتاستيكي،<br />
ولغة التحوالت العجيبة، وينتقل من عالم األلفة<br />
إلى عالم الغرابة، إذ جنده في كثير من النصوص،<br />
يُوظف هذه الغرابة والالمعقول؛ كما يتجلى ذلك<br />
العدد - 692 يوليو 2016<br />
70
الكويت عاصمة الثقافة اإلسالمية 2016<br />
71<br />
البُعد العَجائبي في مجموعة »جنِ يّ ليلتي« مليمون حِ رْش
منذ العنوان اخلارجي للمجموعة: »جني ليلتي«،<br />
الذي هو عنوان أحد نصوصها في الوقت نفسه.<br />
فالنجيّ من النّجْ وى، والنّجْ وُ: السّ ّ رُ بني اثنني.<br />
يقال: جنَوْتُه جنَ ْوا أي سَ اروْته، وكذلك ناجيته.<br />
ويقال: فالنٌ ّ جنيُ فالن أي يناجيه دون سواه.<br />
فمن أجل أن يضفي الكاتبُ على نصّ ه بُعْداً<br />
فانتاستيكياً، يَلجأ أحياناً، إلى »األنسنة«؛ مثلما<br />
جند في قصة »اللعبة«، التي يقول فيها: »للحظة<br />
فقط تخيلتُ نفسِ ي فارساً مِ غوَاراً واثقاً... أوَاجهُ<br />
احلَيَاة... »العَبْتها الشطرَجن، واخليل ترَادفت«<br />
فرَسي جمُوح، عِ تقها يبنيُ من أصواتها أغار<br />
بها واتراً... فتعلن التحَ دي، وأقرّر االقتحام...<br />
تترَصّ دني، وأخاتلها نتماهَى ومنَثل دوراً ليسَ<br />
لنا... هكذا من لعبة ألخرَى...«.<br />
فالقاص هنا، يلجأ إلى أنسَ نَةِ احلياة، مِ ّا<br />
يُحيل املَشهد إلى الالمعقول؛ إذ جنده يُصور لنا<br />
احلياة، امرأة تتحداه وتترصده، ومع ذلك فإنه<br />
يقرّر االقتحام، فيخاتلها ويُالعبها الشطرجن.<br />
ويروم الكاتب من خلالل هذا التصوير الغرائبي<br />
املكثف اإلشارة إلى ما يلقاه اإلنسان الطموح من<br />
تعب ومعاناة وابتالء في احلياة. وهذا يذكرني<br />
بقول أبي العالء املعري:<br />
تعب كلها احلياة فما أعْ جَ <br />
بُ إال من راغب في ازدياد<br />
كما تبرز مالمح الكتابة العجائبية الدالة ع<br />
لى سريالية العوالم السردية عند ميمون حرش<br />
في قصة »لعنات«؛ حيث انتقل من الواقعية إلى<br />
الغرائبية ليجسد لنا رؤية امتساخية سوداوية،<br />
تعبر عن انحطاط اإلنسان كينونياً، وانبطاحه<br />
وجودياً وقيمياً وفضائياً. تقول القصة: »الناسُ<br />
من حَ وله ال مَالمِ ح لهم، يَ ْشون على رؤوسِ هم،<br />
أرجلهم ترسم عالمة النصر مُرسلة للسماء...<br />
على مقربة منه كلبٌ يَعْوي باملقلوب، وأمَامه<br />
مبَاشرة أثر أقدام مَ ْسوخة... يَبدو أنها سحقت<br />
طيراً.. يتطلع لنفسه، لم يعرف سرّ وجوده<br />
بينهم... وال مَن يكون؟... األشكال حوله ال شكل<br />
لها... وحده الفضاء كغول يفتح ذراعيْه له ليس<br />
بالهبات... لكن باللعنات...«.<br />
عمد الكاتب إلى جتريد شخصياته<br />
من تركيبتها اخللقية، ورسَ مَها مبَالمح<br />
أخرى غير مألوفة، اعتراها التغيير واملَسْ خ<br />
( ناس بال مالمح - يشون على رؤوسهم - كلب<br />
يعوي باملقلوب...(، ليشير بذلك إلى ما أصاب<br />
أخالق الناس من فساد وانحطاط. ثم اختتم<br />
الكاتب النص بقفلة مفاجئة لها فعل صادم تترك<br />
أثرها في املتلقي نفسه؛ نظراً ملعطياتها اخلارقة،<br />
مّا يجعلنا نسافر في تخيّل املشهد العجائبي<br />
الذي يصوره لنا بَحثاً عن املعنى املُستتر في<br />
النص.<br />
ومن أمثلة هذا التعجيب الفانتاستيكي،<br />
أيضاً، قصة »أكباد مقروحة« التي تقوم على<br />
عوالم غريبة، وأحداث غير مألوفة؛ حيث<br />
تتحدث عن التعب البشري، واضمحلالل<br />
اإلنسان، وانهياره وجودياً، وحتوله إلى إنسان<br />
غريب األحوال، مريض في هذا الكون الذي<br />
تسوده العبثية البشرية بفعل الظلم، وتناقض<br />
القيم، واشتداد الصراع املادي املبني على صراع<br />
القوة واملال. تقول القصة: »سَ مع عن سُ وق بَعيدة،<br />
يأتيها الناس من كلّ فجّ عَمِ يق، يتم فيها استبدال<br />
أكباد غير ذات قروح بأكبادهم املريضة. رحل<br />
إليها، وبعد مغامرات جلجامشية، يصِ لها، لكن<br />
متأخراً، لقد سَ بقه مَرْضَ ى آخرون، ولم يتبق غير<br />
كبد واحدة مكتوب عليها: »للنساء فقط« استقرّ<br />
رأيه على استبدالها بكبده، قالوا له: مستحيل!<br />
أنت رَجُ لٌ... وحني أصرّ طلبوا منه شهادة حسن<br />
السّ يرة والسلوك«.<br />
وأخيراً، يكننا القول: إن ظاهرة الغرائبية،<br />
التي نالمِ سُ ها في هذه املجموعة، التي بني<br />
أيدينا، قد ساهمت بنسبة كبيرة، في إضفاء<br />
غموض فنيّ على نصوصها؛ األمر الذي يجعل<br />
النص القصصي عند حِ رش نخبوياً بامتياز كما<br />
أكدت ذلك في كتابي: »خصائص القصة القصيرة<br />
جداً عند ميمون حِ رش«. وبهذا يكون األستاذ<br />
حِ رش، قد انحاز إلى املبدعيني الذين ارتضوا<br />
هذا األسلوب الغامض في كتاباتهم القصصية<br />
القصيرة جداً، ولعله أفضل من يُ ثل هذا االجتاه<br />
عندنا في شرق املغرب على األقل، إن لم نقل<br />
على املستوى الوطني والعربي عموماً ><br />
العدد - 692 يوليو 2016<br />
72
نقد<br />
الكويت عاصمة الثقافة اإلسالمية 2016<br />
مع أبي الطيب المتنبي<br />
جهاد فاضل<br />
مع أن عنوان كتاب الباحث السوداني الكبير<br />
الراحل، د. عبداهلل الطيّب »مع أبي الطيّب«،<br />
يشي بأنه كتاب وضعه صاحبه عن أبي الطيب<br />
المتنبي، إال أن من يقرأه يكتشف أنه عبارة عن<br />
جولة في أفق التراث الشعري العربي القديم<br />
بوجه عام، وعن أحكام شديدة الدقة والمتانة.<br />
وقد يعيد القارئ قراءة هذا الكتاب أكثر من<br />
مرة إذا كان يبحث عن دراسة غير مسبوقة عن<br />
المتنبي أراد بها صاحبها جوانب لم يردها سواه<br />
من الباحثين من قبل على كثرة ما كُ تب عن مالئ الدنيا وشاغل<br />
الناس.<br />
لعلّ القارئ سيفتقد، أكثر ما يفتقد، املجانية في<br />
النظر والتحليل التي يسهل العثور عليها في الكثير من<br />
الدراسات احلديثة، التي تتناول سير الشعراء املاضني<br />
أو غير املاضني. فلهذه اجلهة، لن يجد القارئ مثل<br />
هذه املجانية في كتاب عبدالله الطيب، ألن الكلمة فيه<br />
تنزل منزلها بال جور وال ارجتال.<br />
ومن البداية يجد املرء نفسه في حضرة أستاذ<br />
كبير يدقق كثيراً في صياغة عباراته وإطالق أحكامه.<br />
إنه ليس منحازاً للمتنبي كما كان محمود شاكر، وال<br />
منحازاً ضده كما كان طه حسني، وإمنا هو يبحث في<br />
أمره بحثاً مجرداً خالياً من األغراض. هو يرى بداية<br />
أن أكثر أسماء شعراء العرب دوراناً بينهم، امرؤ القيس<br />
وزهير وأبوالطيب، »وعسى أن يكون معهم جرير«. ثم<br />
في كل عصر يشتهر اسم فيغلب عليهم جميعاً ثم<br />
يختفي فيُنسى، أو يكاد، مثل البهاء زهير والوأواء<br />
الدمشقي وحافظ إبراهيم وإيليا أبي ماضي وهلمّ<br />
جرّا. وبني طبقات العامة قد ال يُعرف هؤالء، ولكن<br />
قد يُعرف عنترة الفوارس ألنه في القصص الشعبي،<br />
وحسّ ان والبوصيري والبرعي، ألنهم من مُدّاح الرسول<br />
عليه الصالة والسلالم. على أن العصر احلاضر رمبا<br />
بخس قدر زهير وأبي الطيب ألنهما من شعراء املديح،<br />
وخاصة املتنبي لتكسّ به بذلك واختالفه بني املمدوحني<br />
وجَ وْبِهِ األرض من أجل هذا الغرض.<br />
ويالحظ د.عبدالله الطيب أن مما أفسد على<br />
الناس رأيهم في احلكم على شعر املدح عامة وشعراء<br />
املديح قاطبة حسبانُهم أنه من التسوُّل، وأن أصحابه<br />
متسوّلون، وهذا خطأ في نظره. إذ الشعر ديوان<br />
العرب، كما اإلذاعة والتلفزيون والصحافة وشتى طرق<br />
اإلعالم والدعاية هي ديوان مجتمعنا احلاضر. واملدح<br />
والهجاء كانا من أساليب اإلعالم والدعاية املشروعة<br />
73<br />
مع أبي الطيب املتنبي
كما هما في هذا العصر.<br />
وكان امللوك ومن أشبههم يعلمون لهما ذلك<br />
فيرومون منهما ويتّقون. كما يفعل أولو األمر ومن<br />
أشبههم اآلن إزاء اإلذاعة والتلفزيون والصحافة وشتى<br />
طرق اإلعالم. وكان الشاعر القدمي ربّ ا مدح وهجا<br />
متكسّ باً كما يفعل أكثر القائمني باإلعالم في زماننا،<br />
وربا فعل ذلك ال يريد كسباً فأُجيز وعوقب.<br />
املتنبي كان من هؤالء الشعراء املدّاحني، وعندما<br />
صار إلى سيف الدولة احلمداني في حلب بات<br />
كاملوظف عنده:<br />
أسيرُ إلى إقطاعِ هِ في ثيابِ هِ<br />
على طِ رفِ هِ في دارِ هِ بحسامِ هِ<br />
ويصفه عبدالله الطيب ب»وزير دولة«، و»وكيل<br />
وزراء« لإلعلالم والدعاية بلغة عصرنا اليوم. وقد<br />
استمرّ في هذا املنصب تسع سنوات. بعدها شغل<br />
منصب وزير الدعاية عند كافور أربع سنوات، ليصبح<br />
بعد ذلك وزير الدعاية واإلعلالم عند عضد الدولة<br />
مدة عام. »كان وزيراً زائراً مفوّضاً من عند نفسه ذلك<br />
احلني القصير!«.<br />
وكان مع الدعاية واإلعالم على أبي الطيب واجب<br />
آخر ال يُكلّفهُ أكثر وزراء ووكالء وزارات الدعاية<br />
واإلعلالم في عصرنا احلاضر. وذلك أن يُبرز عمله<br />
بصورة فنية شعرية حتمل طابعه الشخصي، كما كانت<br />
كل دولة خدمها في ذلك الزمان إمارة من إمارات<br />
الطوائف حتمل طابع أميرها اخلاص الشخصي.<br />
سَ مْتُ دولة آل حمدان بحلب غيره باملوصل، وسَ مْتُ<br />
دولة اإلخشيد بالفسطاط غيرُ سَ مْتِ دولة آل بويه<br />
بأرجان أو بشيراز، غيرُ سَ مْتِ بني عُبيد باملغرب،<br />
من بعد وبالفسطاط. وكان أبوالطيب من بني وزراء<br />
اإلعالم في ذلك الزمان عجباً... كان وزيراً له سياسته<br />
اخلاصة ويخبر الناس أنه غير قادر على تنفيذها ألن<br />
الدولة التي تغدق عليه جوائزها: سيف الدولة، أو<br />
كافور، أو بدر بن عمّار، تسمع ملن يكيدون له وتعرقل<br />
عليه. وكان مع هذا ميجّ دها شكراً إلغداقها عليه<br />
وتنبيهاً على بهائها في ذات نفسها وتنويهاً به. وقد<br />
يجمع جمعاً غريباً بني امتعاضه من العرقلة ومتجيده<br />
وتنويهه بالبهاء، كقوله في كافور:<br />
يا أيُها امللكُ الغاني بتسمية<br />
في الشرقِ والغربِ عن نعتٍ وتلقيبِ<br />
أنت احلبيبُ ولكني أعوذُ به<br />
من أن أكون محباً غيرَ محبوب<br />
ويرى د.عبدالله الطيب أن مما أعان املتنبي على<br />
هذا املذهب مزاجه وطموحه وأحوال عصره وما جرّبه<br />
من ذلك، وكان قد خرج أول شبابه بدعوى ادّعاها ولو<br />
جنح لكان سبق الفاطميني إلى إنشاء دولة فاطمية،<br />
ولعلّه كان يدّعي نسباً علوياً، ولعلّه كان علوياً يكتم<br />
نسبه. »ومهما يكن من أمره فقد كان ال يرى إذ أذعنت<br />
نفسه إلى التماس السموّ من طريق طويل شاق هو<br />
خدمة األمراء بشعره، أنه دون أحد منهم، إذ كانوا في<br />
جملتهم بني مغامر وابن مغامر، ولعلّ أعرقهم لم يكن<br />
يزيد على أن كان حفيد مغامر مثل سيف الدولة، أو<br />
عبدا حلفيد مغامر مثل كافور«.<br />
املدح والتصوير الفني<br />
ولنتأمل كيف يصوّر عبدالله الطيب مهنة املدح<br />
في ذلك الزمان، فيعتبر أنها أشبه بهنة التصوير<br />
الفني، فتنافس األمراء إذ ذاك على الشعراء يشبه<br />
تنافس ملوك أوربا وأمرائها على استقدام املصوّرين<br />
البارعني واستخدامهم.<br />
»وينبغي أن ننظر إلى قصيدة املدح ال على أنها<br />
تسوّل، ولكن على أنها واجب أو عمل يُطلب من<br />
الشاعر فينجزه، كما كان املصوّرون في أوربا يؤدي<br />
أحدهم واجباً أو ينجز عمالً حني يُطلب منه أن يرسم<br />
هذا األمير أو تلك األميرة. وكان من أعظم ما ينبغي<br />
في الرسم إبراز األبّهة في اجلمال، وما كان كل أمير<br />
بذي أبّهة وال كل أميرة بحسناء، وكما كان شكسبير<br />
وأضرابه الروائيون يؤدي أحدهم واجباً أو ينجز عمالً<br />
حني يُطلب من فرقته متثيل قصة لتسلية امللكة ورجال<br />
القصر واللوردات الكبار«.<br />
فالباحث الكبير يشرح ظرف املتنبي التاريخي<br />
وظروف زمالئه شعراء املدح في تراثنا، معتبراً أننا<br />
نظلم هؤالء الشعراء عندما نعتبرهم مجرد متسوّلني،<br />
وهو االعتبار السائد عند الناس اليوم. بل إنه يجد<br />
في هذا اجلانب من الشعر القدمي، أي املدح، ما يعني<br />
الباحث املعاصر في دراسة أحوال الزمن املاضي. ذلك<br />
أن الناظر في أصناف املديح في الشعر العربي يجدها<br />
في جملتها تختلف من عصر إلى عصر كما تختلف<br />
أساليب التمثيل والتصوير والرقص. وقد نستطيع إن<br />
العدد - 692 يوليو 2016<br />
74
الكويت عاصمة الثقافة اإلسالمية 2016<br />
75<br />
مع أبي الطيب املتنبي
أقبلنا على ذلك أن ندرس أحوال املجتمعات العربية<br />
منذ أوائل عهدها إلى يومنا هذا عن طريق دراسة<br />
األصناف من أساليب قصائد املدح في جملتها من<br />
عصر إلى عصر, كما يفعل اآلن علماء احلفريات<br />
حني يستنبطون من أحوال األمم السالفات بدراسة<br />
أصناف أساليب اجلرار من عصر إلى عصر.<br />
وإذا لم يكن املتنبي متسوالً كما رآه طه حسيني<br />
وباحثون كثيرون، فإنه بالدرجة األولى فنّان ملهم<br />
خارق القدرة البيانية. »وقد أجمع النقاد أنه هو<br />
وأبومتام والبحتري أشعر احملدثني. وهو أشعر الثالثة<br />
بال أدنى ريب, ألن صاحبيه قد حلقهما غبار التاريخ،<br />
فصارت أشباحهما على عِ ظمها تهمّ باالختفاء وأن<br />
يغمرهما النسيان. بينما مازال شَ بَحُ ه باهراً مضيئاً<br />
جداً. وقد نبغ واللغة مرّت عليها منذ عهد امرئ<br />
القيس قرون ستة، وشهدت أمثال جرير والفرزدق<br />
والنابغة وأبي نواس. وكان في دهرها األول قائلها قد<br />
قال: »هل غادر الشعراء من متقدّم؟«. ومع هذا وجد<br />
أبوالطيب املتردّم بعد املتردّم، وفرض عبقريته فرضاً<br />
على اللغة العربية مبا أضاف إليها من ثروة طائلة في<br />
محض أساليب البيان مما ال تزال حيويته تنبض إلى<br />
اليوم. وقد قال:<br />
ما نال أهلُ اجلاهلية كلُّهم<br />
شعري وما سمعت بسحري بابلُ !<br />
ويقارن عبدالله الطيّب بيني املتنبي وبعض قمم<br />
الشعر العربي، فبينه وبني امرئ القيس تشابه، من<br />
حيث الشعور بوحشة االنفراد وجتشّ م األسفار وبعد<br />
املطلب وحسرات اإلخفاق وشدّة التصميم. وكان<br />
فؤاده من امللوك كما قال. ولكن بينهما فرق عظيم<br />
وهو أن أبا الطيّب طلب امللك حبّاً فيه، ولم ينشأ إال<br />
سوقةً يتيماً أو كيتيم. وامرؤ القيس فُرض عليه امللكُ<br />
وطلبُ الثأر بحكم الشرف القبلي العربي، ومازال<br />
دهرَهُ يجهد لو يجد سبيالً إلى أن يكون سوقهُ بال<br />
مسؤوليات فال يستطيع:<br />
بكى صاحبي ملا رأى الدرب دونه<br />
وأيقن أنّا الحقان بقيصرا<br />
فقلتُ له ال تبكِ عينُك إمنا<br />
نحاول مُ لكا أو منوت فنعذرا<br />
وقد روض امرؤ القيس لغة وحشية فأسلست<br />
وصفت له كل صفاء، وأصاب أبوالطيب غديراً منها<br />
راكداً فأثاره وأجرى فيه التيار.<br />
وقد حمل امرؤ القيس معه صحراء العرب:<br />
»تطاول الليلُ علينا دمّ ون<br />
دمّ ون إنّا معشر ميانون<br />
وإننا لقومنا محبّون«<br />
إلى قسطنطينية ومات عند عسيب وهو ينظر<br />
إلى اآلل يخفق من دون حوران. وقد حمل أبوالطيب<br />
ملتقاها بالسواد، وقيل من دون أن يبلغ حظّ ه من<br />
الري.<br />
أما زهير بن أبي سلمى، فقد كان شيخاً حكيماً<br />
قد سئم تكاليف احلياة.<br />
يُذكرون مادامت العربية<br />
هؤالء الشعراء الثالثة هم برأي العالّمة السوداني<br />
الكبير »يُذكرون ما دامت العربية«، ويستطرد: »وعسى<br />
أن يُذكر معهم جرير لقوة انفعاله وحرارة وجدانه«. وما<br />
فتنة العرب بأبي الطيب ألف عام إال ملا علموا من أمر<br />
نبوغه وما أحسّ وا من سحر إبداعه. وقد كان معاصروه<br />
أول من فُنت به وقد رام مماثلته مبحاكاته أو األخذ منه<br />
جماعةٌ كأبي فراس والسريّ فعجزوا، ثم انتقلت الفتنة<br />
به إلى اجليل الذي تالهم فرام مثل ذلك منهم جماعة<br />
فعجزوا كالشريف الرضي وأبي العلالء املعري، ثم لم<br />
يزل يُفنت به ويروم مثل شأنه أو التفوق عليه جماعة في<br />
كل عصر وجيل إلى زماننا هذا. ولعل أحمد شوقي مَن<br />
أظهر ما يتمثل به في هذا الباب. وقد عجز - رحمه<br />
الله - على ما أوتيه من قدرة. ولقد أوتي الشريف جزالة<br />
ورونقا ونبل أداء وشرف معان مع عزة النفس وعتق<br />
األرومة، ومع ذلك لم يصنع - رحمه الله - من حلاق<br />
غبار أبي الطيب كبير شيء. وقد أوتي أبوالعالء فطنة<br />
وعلماً وملكة وحذقا، وكان لنفسه ناقداً وبالشعر خبيراً<br />
وبفضيلة أبي الطيب وسبقه عارفاً، إال أنه مع ذلك قد<br />
ابتلي فجاراه وباراه واستعان بالذكاء، فأطال أبواب<br />
التأمل وشقّق املعاني وكانت فيه حالوة فكاهة وبداهة<br />
سخرية، وله مقدرة من جزالة وتصنيع فأحسن وأبدع ما<br />
شاء، ولكنه بعُد ما عدا أنه ألم به غبار الذي يريد حلاقه<br />
فشمله، فخُ يل لبعض النقاد، والسيما املستشرقون، أنه<br />
رصيفه أو يزيد عليه. »ولعمري إن أبا العالء قد يصفو<br />
غاية الصفاء ويجود أحسن اجلودة«، كما في عدد من<br />
قصائد »سقط الزند« وأبيات من اللزوميات، ولكنه<br />
العدد - 692 يوليو 2016<br />
76
الكويت عاصمة الثقافة اإلسالمية 2016<br />
تنقصه حيوية أبي الطيب.<br />
ذلك غيض من فيض ما يحتويه كتاب عبدالله<br />
الطيب عن بكر الزمان ومالئ الدنيا وشاغل الناس<br />
بعبارة األقدمين. نظرات نافذات لعالم كبير جليل<br />
متمكن من ثقافة القدمي واحلديث. فإذا وصل إلى حادثة<br />
مقتل املتنبي التي اختلف في حتليلها واملسؤولية عنها<br />
باحثون كُثُر، أدلى برأي لم يسبق إليه، مفاده أنه ليس<br />
من املستبعد أن يكون سيف الدولة احلمداني وراء ذلك<br />
التدبير. وهو رأي يفاجئ الكثيرين، نظراً لوشائج املودة<br />
العميقة التي كانت بن أبي الطيب وأمير حلب، وهي<br />
وشائج إن فترت حرارتها حيناً، فإنها لم تنقطع أبداً.<br />
وألن عبدالله الطيب هو الذي ال يستبعد أن يكون سيف<br />
الدولة وراء تصفية الشاعر الذي وهبه اخللود، فإننا<br />
نعرض لهذا الرأي اجلدير بأن يتابع النقاش بصدده,<br />
على النحو التالي: يبدي الباحث الكبير وجهة نظره:<br />
من قتل املتنبي؟<br />
قال الثعالبي في »اليتيمة«: »ملا أجنحت سفرته<br />
وربحت جتارته بحضرة عضد الدولة ووصل إليه أكثر<br />
من مائتي ألف درهم، أستأذنه في املسير منها ليقضي<br />
حوائج في نفسه ثم يعود إليها، فأذن له، وأمر بأن تُخلع<br />
عليه اخللع اخلاصة«... إلى أن قال: »فلما فارق أعمال<br />
فارس، حسب أن السالمة تستمرّ به كاستمرارها في<br />
مملكة عضد الدولة، ولم يقبل ما أشير به عليه من<br />
االحتياط باستصحاب اخلفراء، فجرى ما هو مشهور<br />
من خروج سرّية من األعراب عليه ومحاربتهم إياه<br />
وتكشف الواقعة عن قتله وابنه مُحَ سّ د ونفر من غلمانه.<br />
وفاز األعراب بأمواله، وذلك في سنة أربع وخمسين<br />
وثالثمائة«.<br />
من الباحثين مَن اتهم عضد الدولة بتصفية<br />
الشاعر، ومنهم من اتهم أعداء آخرين للشاعر، ولكن<br />
عبدالله الطيب، يقف عند قول الثعالبي: »فجرى ما هو<br />
مشهور... إلخ« ويتابع: »ومع شهرته ال ندري عمن تلقاه<br />
راووه. فمنهم قائل إن فاتكا الذي عرض ألبي الطيب<br />
في جماعة من األعراب، فعل ذلك غضباً من بائيته<br />
التي هجا بها ضبّة«. قال العكبري: »وقال يهجو ضبّة<br />
بن يزيد العيني وصرّح بتسميته فيها ألنه كان ال يفهم<br />
التعريض. كان جاهالً. وهذه القصيدة من أردأ شعر<br />
املتنبي«، وكأن العكبري قد غفل أن من مذهب البداوة<br />
في اإلفحاش بعض هذا وما يقاربه كالذي كان يقع عند<br />
الفرزدق وجرير مثالً.<br />
ومن قائل إن أبا الطيب فرّ، وذكّره غالمه قوله:<br />
»اخليل والليل والبيداء تعرفني...« فثبت وقُتل، أو قال<br />
للغالم قتلتني أو شيئاً من هذا املعنى. وإن صحّ هذا اخلبر،<br />
فهو أشبه مبا اعتاده أبوالطيب من االستعداد للحاربن<br />
واإلفالت منهم. ولعله جنا من هذا الذي ذكروا أن اسمه<br />
فاتك ثم أصيب من بعد. فكلّهم يجمعون أنه قد قُتل بدير<br />
العاقول، وهو بسواد بغداد، وال يُعقل أن يكون اعتراض<br />
األعراب ألبي الطيب قريباً من بغداد. وأرجح من ذلك<br />
أن يكون األعراب قد لقوه بعيداً عنها، وملا أفلت بعد<br />
قتال ما، أمن إلى النجاة وحسب أن السلالمة تستمر به<br />
من بعد - على حد تعبير الثعالبي - ولكن الذين أغروا<br />
به األعراب ليقتلوه يبدو أنهم أيضاً قد أوكلوا به آخرين<br />
يراقبون مقدمه عند دير العاقول، أو قل خارج بغداد غير<br />
حدّ بعيد عنها. فلما رأوه قادماً مطمئناً قد جنا، رموه<br />
بسهم وانتهبوا ماله. »وال يُستبعد أن يكون سيف الدولة<br />
وراء جميع ذلك التدبير«. فقد ذكروا أنه كان يغضبه أن<br />
يطول سكوت املتنبي عن مدحه، فكيف إذا انصرف عنه<br />
بالكليّة ومدح سواه؟. وال شك قياساً على الذي ذكروا من<br />
غضبه عليه حن تأخر مدحه عنه، أن يكون رأى أنه قد<br />
خانه بالصيرورة إلى كافور فعضد الدولة. وقد كان رفض<br />
أبي الطيب االستجابة إلى دعوته آخر األمر هو القاضية.<br />
وما كان ليعسر من بعد على أعداء أبي الطيب بحلب أن<br />
يتصلوا بأعدائه في بغداد وتتمّ املؤامرة. وقدمياً قد قال:<br />
إذا ترحّ لت عن قوم وقد قدروا<br />
أالّ تفارقهم فالراحلون هُ مُ<br />
لئن تركن ضُ ميرا عن ميامننا<br />
ليحدثنّ ملن ودّعتُ هم ندمُ<br />
أو »لسيف الدولة الندم« كما روى بعضهم. فهل<br />
كان ذلك الندم قبل دير العاقول أم بعده؟ الله أعلم<br />
أيّ ذلك كان.<br />
على هذا التحليل وإلى هذه األسباب يستند<br />
د.عبدالله الطيّب في توجيه اتهامه إلى سيف الدولة<br />
في تدبير مقتل شاعره األثير السابق وشاعر العرب<br />
السابق والالحق. وجهة نظر جديرة باالهتمام وجديرة<br />
بفتح حتقيق جديد حول مقتل الشاعر الذي لم يُدفن<br />
قرب دير العاقول وحسب، وإمنا في كل أرض عربية،<br />
إن لم يكن في وجدان كل عربي ><br />
77<br />
مع أبي الطيب املتنبي
نقد<br />
إدوار الخراط منظراً للحساسية الجديدة<br />
في السرد العربي<br />
د. أحمد الجرطي أكادميي من املغرب<br />
يتفرد الكاتب الراحل إدوار الخراط داخل المشهد الثقافي العربي بتعدد<br />
مواهبه األدبية، التي جعلته ينتج في مجاالت إبداعية مختلفة، بدءاً من<br />
فني الرواية والقصة، ومروراً بالشعر والترجمة، ووصوالً إلى حقل النقد<br />
األدبي، ونظراً لتنوع وغزارة عطاءات الخراط اإلبداعية، وتجاذب روافدها<br />
الفكرية والفنية، فإننا سنقتصر في هذه الدراسة التي نُعدُّ ها بمناسبة<br />
رحيله على الوقوف عند إسهاماته في مجال النقد األدبي.<br />
إدوار اخلراط<br />
اشتهر إدوار اخلراط لدى الباحثني والنقاد<br />
املتتبعيني لتحوالت اخلطاب السردي العربي<br />
باجتراحه مفهوم »احلساسية اجلديدة«،<br />
لتوصيف خصوصية الطفرة النوعية التي عرفها<br />
فنا القصة والرواية بعد هزمية يونيو 1967م،<br />
من جراء انعتاقهما من مد تيار الواقعية بشقيه<br />
النقدي واالشتراكي في مجال السرد العربي، وما<br />
متيز به من إغراق في محاكاة مجريات الواقع<br />
االجتماعي، وتشخيص جزئياته وتفاصيله، فضالً<br />
عن تشييد حبكة سردية قوامها نظام الوحدات<br />
الثالث، وخطية السرد والزمن، ومركزية السارد<br />
العالم بكل شيء، إضافة إلى مونولوجية الشكل<br />
الروائي والقصصي، وخضوع الشخصيات<br />
لسلطة الكاتب، وتوجهاته األيديولوجية والفكرية<br />
الناجزة، ويرى اخلراط أن خصوصية هذه<br />
املرحلة التي امتدت في مسار السرد العربي<br />
العدد - 692 يوليو 2016<br />
78
الكويت عاصمة الثقافة اإلسالمية 2016<br />
منذ بداية القرن العشرين إلى ستينياته، وينعتها<br />
ب»احلساسية التقليدية«، ال تشمل فقط نتاجات<br />
الكتَّاب الواقعيني الذين حركهم هاجس تسجيل<br />
ومتثيل متفصالت الواقع اخلارجي في حرفيتها<br />
وجهوزيتها، من أمثال محمود تيمور وجنيب<br />
محفوط، ويحيى حقي، ويوسف إدريس، وحنا<br />
مينا، وعبدالكرمي غالب، بل تنضوي حتت لوائها<br />
حتى نتاجات الكتَّاب الرومانسيني التي استوحت<br />
تيمات احلب والعاطفة والطبيعة، وتدثرت بغالئل<br />
ضافية من شاعرية اللغة، وفسحة اخليال،<br />
وكثافة البوح الذاتي، كما هو الشأن مع جبران<br />
خليل جبران، ومحمد عبداحلليم عبدالله،<br />
وإبراهيم عبدالقادر املازني... ولعل الباعث<br />
الكامن وراء توليف اخلراط بيني هذين اللونني<br />
من الكتابة السردية، ودمجهما حتت تيار واحد<br />
هو احلساسية التقليدية، يتجلى في وحدة املبدأ<br />
الفني الناظم لرؤيتهما لوظيفة األدب في احلياة،<br />
حيث تنظر كل من الرومانسية والواقعية إلى الفن<br />
باعتباره انعكاساً لواقع ما، هو نفسي ووجداني<br />
وداخلي بالنسبة للرومانسيني، ومعطى خارجي<br />
79<br />
إدوار اخلراط منظراً للحساسية اجلديدة في السرد العربي
ظاهري وثابت بالنسبة للواقعيني.<br />
وتأسيساً على هذه املعايير<br />
الفنية والفكرية التي طفحت<br />
بها احلساسية التقليدية، يحاول<br />
اخلراط استقصاء خصوصية<br />
التحوالت الفنية والداللية الفارقة<br />
التي اكتنفت صيرورة السرد<br />
العربي بعد هزمية 1967م، واختار<br />
اخلراط االصطلاح عليها مبفهوم<br />
»احلساسية اجلديدة« خافاً<br />
ملصطلحات ومفاهيم أخرى راجت<br />
في النقد العربي الروائي من قبيل<br />
»التجريب« أو »احلداثة« أو »الرواية<br />
العربية اجلديدة«.<br />
احلساسية والهزمية<br />
وهكذا يرى اخلراط أن تيار<br />
احلساسية اجلديدة الذي اجتاح<br />
السرد العربي أواخر ستينيات<br />
القرن املاضي، هو حصيلة لتضافر<br />
جملة من العوامل السياسية<br />
واالجتماعية واحلضارية، في<br />
مقدمتها هزمية يونيو 1967م، وما أبانت عنه من<br />
هشاشة في األنظمة السياسية العربية القائمة،<br />
وعجزها عن حماية األمة العربية من الضياع، ما<br />
فجر لدى املبدعني واملثقفني العرب رؤية غائمة<br />
للمستقبل، وأذكى بدواخلهم سخطاً عارماً على<br />
األوضاع السائدة، وتعطشاً للتجديد واملغايرة في<br />
مختلف املجاالت السياسية والثقافية واألدبية،<br />
كما تنضاف لهذه العوامل اجنلاء أوهام تلك<br />
األيديولوجيات وشعاراتها البراقة، التي كانت<br />
تطرز لإلنسان العربي التفاؤل السهل واحلماس<br />
الصاخب باجناء غد أفضل ومشرق يكون بدياً<br />
عن الواقع الكائن املغرق في الهزمية والسوداوية،<br />
وهي األيديولوجيات التي ارتبطت باملد القومي<br />
العروبي، والثورة االشتراكية الناصرية، ويتداخل<br />
مع هذه العوامل أيضاً من منظور اخلراط ما<br />
شهدته املجتمعات العربية من انفجارات طائفية<br />
وإثنية، وبروز لقيم استهاكية ومادية صاعدة<br />
ضاعفت من توسيع الهوات الطبقية،<br />
وتشييء ذوات املهمشني واملنبوذين،<br />
وتكريس انخزال وجودهم في دائرة<br />
اإلقصاء والنسيان.<br />
واملاحظ، انطاقاً من هذا<br />
الشق التنظيري اخلاص باستقراء<br />
اخلراط ألهم بواعث ظهور تيار<br />
احلساسية اجلديدة، هو تغييبه<br />
لرافد ثقافي أساسي ساهم في<br />
حتفيز الكتَّاب العرب لتكسير<br />
خطية السرد الواقعي الكاسيكي،<br />
وجمالياته االنعكاسية التمثيلية،<br />
وهو الرافد املتعلق بالتأثر مبوجة<br />
الرواية اجلديدة في فرنسا مع كل<br />
من ناتالي ساروت، وأالن روب غرييه،<br />
وميشيل بوتور، وكلود سيمون، التي<br />
جتاوزت تقاليد الرواية البلزاكية،<br />
ونزعتها احملاكاتية للواقع اخلارجي،<br />
مختطة في املقابل تقنيات سردية<br />
بديلة تنقل رؤية اإلنسان الغربي<br />
للعالم املثقلة بالشك واالرتيابية،<br />
والعدمية أحياناً، من جراء اكتوائه<br />
بنار احلروب وخيبة أمله في العلم والعقانية، أو<br />
ما يسميه جان فرانسوا ليوتار مببادئ »السرديات<br />
الكبرى« التي توهجت في القرن التاسع عشر<br />
مع فلسفة األنوار، وكانت تعد اإلنسانية بأفق<br />
حضاري مستنير مترع بقيم العدالة واحلرية،<br />
والتكافل البشري اخلاق.<br />
ومن هذا املنظور، إذا كانت احلساسية<br />
اجلديدة هي وليدة لهذا السياق احلضاري<br />
واالجتماعي العربي املأزوم، واجلياش بالهزائم<br />
واالنتكاسات، فقد كان من البديهي أن متتد<br />
انعكاساته للكتابة السردية العربية، وترتب<br />
عنها خلخلة القص الواقعي الكاسيكي املغرق<br />
في احلبكة السردية املتماسكة، ووثوقية الرؤية<br />
ملعطيات الواقع اخلارجي، ومن جتليات هذا<br />
التحول النوعي الذي عرفته الرواية العربية<br />
اجتراحها جملة من التقنيات السردية اجلديدة<br />
املتناغمة مع مرجعياتها احلبلى بإعادة تنسيب<br />
العدد - 692 يوليو 2016<br />
80
الكويت عاصمة الثقافة اإلسالمية 2016<br />
حقائق الواقع االجتماعي، وتفكيك<br />
مسلماته ومتعالياته، وجتسيد شروخ<br />
اإلنسان العربي بعد الهزائم، وما<br />
اعتمل بداخله من تشظ وانسحاق<br />
من جراء تداعي كثير من اليقينيات<br />
والثوابت التي كانت في املاضي<br />
جتجُ ذِّر وجوده الكياني، وترسم<br />
بوضوح واطمئنان آفاقه احلضارية<br />
املقبلة.<br />
وقوام هذه التقنيات السردية<br />
البديلة التي اكتنز بها تيار<br />
احلساسية اجلديدة، تقويض السرد<br />
املطرد، ومتاسك نظام الوحدات<br />
الثلاث، وإلغاء هيمنة السارد<br />
العليم بكل شيء، الستياد أساليب<br />
تعبيرية وفنية جديدة تتمثل في<br />
تشظي السرد، وتشذير الكتابة،<br />
وتهشيم وحدة احلكاية، وتوظيف<br />
تقنية التناص إلخصاب املتخيل<br />
الفني للسرد، فضلاً عن االمتياح<br />
من عالم الشعور والذاكرة، مما<br />
ساهم في هيمنة الزمن النفسي،<br />
واحلوار الداخلي، وأسلوب التداعي الذي يسعف<br />
الكتابة الروائية والقصصية في تبئير السرد<br />
حول املجرى النفسي لعالم الشخصيات، والتدفق<br />
العارم إلحساساتها وبواطنها، وفي هذا السياق<br />
يقول اخلراط: »إن الكتابة اإلبداعية قد أصبحت<br />
اختراقاً ال تقليداً، واستشكاالً ال مطابقة، وإثارة<br />
للسؤال ال تقدمياً لألجوبة، ومهاجمة للمجهول<br />
الرضا عن الذات بالعرفان. ومن هنا جتيء<br />
تقنيات احلساسية اجلديدة: كسر الترتيب<br />
السردي االطرادي، فك العقدة التقليدية، الغوص<br />
إلى الداخل ال التعلق بالظاهر... توسيع داللة<br />
الواقع لكي يعود إليها احللم واألسطورة والشعر،<br />
مساءلة - إن لم تكن مداهمة - الشكل االجتماعي<br />
القائم، تدمير سياق اللغة السائد املقبول، اقتحام<br />
مغاور ما حتت الوعي، واستخدام صيغة األنا ال<br />
للتعبير عن العاطفة والشجن، بل لتعرية أغوار<br />
الذات«.<br />
واستناداً إلى هذا املنعطف<br />
السردي اجلديد الذي توشحت<br />
به الكتابة الروائية والقصصية<br />
في العالم العربي بعد هزمية<br />
1967م، يلتقط اخلراط داخل<br />
مجرى احلساسية اجلديدة خمسة<br />
تيارات أساسية لها خصائصها<br />
الفنية والداللية املتميزة، من دون<br />
أن يعني هذا التصنيف من منظوره<br />
انتفاء حدود التقاطع والتداخل<br />
بينها، سواء عند مبدعني عدة،<br />
أو داخل النتاج األدبي ملبدع واحد،<br />
كما هي احلال مع اخلراط نفسه<br />
الذي يصنف كتابته السردية كما -<br />
سنرى الحقا - في أكثر من تيار.<br />
تيارات احلساسية اجلديدة<br />
في مقدمة هذه التيارات<br />
اخلمسة التي يستقصي اخلراط<br />
مواصفاتها الفنية النوعية يأتي<br />
تيار »التشييء« أو »التحييد« أو<br />
»التغريب« باصطاح صاحب كتاب<br />
احلساسية اجلديدة، وقد متيزت نتاجات كجُتَّابه<br />
من قبيل محمد البساطي، وجميل عطية إبراهيم،<br />
ويوسف أبورية، وإلياس خوري، وزكريا تامر<br />
وغيرهم، بتوظيف لغة سردية خالية من كل توشية<br />
واستطراد ودفق عاطفي، لنقل الواقع اخلارجي<br />
في صرامته وقسوته مجرداً من أي شاعرية في<br />
الرؤية، أو شطحات في اخليال، وكأن هذه اللغة<br />
السردية املتدثرة بالبرودة والنثرية التقريرية<br />
اجلافة، تشي باحتجاج مبدعي هذا التيار على<br />
ما يطول الذات اإلنسانية في كنف الواقع العربي<br />
من اغتراب وإحباط وتشييء.<br />
أما ثاني تيارات احلساسية اجلديدة وفق<br />
اخلراط، فهو »التيار الداخلي« أو »العضوي«،<br />
ومن سماته الداللية املغايرة للتيار السابق تاشي<br />
احلدود بني »الظاهر والباطن، الصحو واحللم،<br />
الواقع واخلاطرة، وبني الشيء واحلس«، بحثاً عن<br />
رؤية شمولية ملفاصل الواقع اخلارجي، واشتراطاته<br />
81<br />
إدوار اخلراط منظراً للحساسية اجلديدة في السرد العربي
الدنيوية واملجتمعية، فضالً عن<br />
توظيفه من الناحية الفنية للغة<br />
سردية مخضلة بالشعرية واحلرارة<br />
الوجدانية املتوثبة لإلمساك<br />
باملعيش في يناعته وطزاجته، ومن<br />
أعالم هذا التيار السردي كما يرى<br />
اخلراط جند مبدعني من قبيل<br />
محمد إبراهيم مبروك، وحيدر<br />
حيدر، وأحمد املديني، ومحمد<br />
حافظ رجب.<br />
وعلى نقيض التيارين السابقني<br />
يتوقف اخلراط عند اجتاه ثالث ينعته ب»التيار<br />
األسطوري املعاصر«، ومن مقوماته الفنية البارزة<br />
الطموح إلى تخصيص طرائق الكتابة السردية<br />
وتعضيد كثافتها التخييلية، انطالقاً من استيحاء<br />
املوروث السردي العربي القدمي، أو استدعاء<br />
اخلرافة واخليال واحلكاية الشعبية الستزراع<br />
وحتيني مرجعيات متواشجة مع أسئلة الواقع<br />
الراهن، ومنغرسة في أتون قضاياه املجتمعية<br />
والتاريخية، ويرى اخلراط في هذا السياق أنه<br />
إذا كان من مكتسبات هذا التيار املنتجة محاورة<br />
التراث بطريقة كشافة تتيح لينابيعه اإلنسانية<br />
والفنية األصيلة االمتداد في أساليب الكتابة<br />
السردية املعاصرة، مما يضع حداً ملوجة االنبهار<br />
واالفتتان املطلق بالتيارات الروائية والقصصية<br />
الغربية، فضالً عن لفت انتباه املبدعني العرب<br />
لثراء موروثهم السردي والشعبي، وإمكان االمتياح<br />
املتجدد من مخزونه الثر لتخضيب نسيج كتابتهم<br />
السردية بعبق التراث ونسوغه اجلمالية املائزة،<br />
إال أن هناك مخاطر فنية تتهدد أنصار هذا<br />
االجتاه، وتتجلى في كيفية النجاح أثناء استلهام<br />
لغات سردية مختلفة تنهل من ينبوع التراث<br />
الشعبي، أو التاريخي، أو الصوفي، أو األسطوري<br />
في تضفيرها وجتديلها داخل حبكة سردية<br />
متماسكة تتناسج في أعطافها اللغة مع الرؤية،<br />
ومن أعالم هذا التيار حسب اخلراط جمال<br />
الغيطاني، ويحيى الطاهر عبدالله، وإبراهيم<br />
عبداملجيد، والطيب صالح، وامليلودي شغموم،<br />
كما يصنف بعض رواياته مثل »رامة والتنني«<br />
و»يقني العطش« و»الزمن اآلخر«<br />
ضمن هذا االجتاه السردي.<br />
وبجانب التيارات الثالثة السابقة<br />
يضيف اخلراط اجتاهاً رابعاً<br />
يسمه ب »التيار الواقعي اجلديد«،<br />
الذي رغم استفادته من الواقعيني<br />
القدامى الذين هيمنوا على املشهد<br />
السردي العربي بأعمالهم في<br />
النصف األول من القرن العشرين،<br />
وانشغاله بدوره بكيفية اإلحالة على<br />
الواقع االجتماعي، فإنه متيز عنهم<br />
بطموحه إلى تطوير أساليب الكتابة السردية<br />
الواقعية، وتخصيب طاقاتها الفنية والتخييلية<br />
ببعض االستراتيجيات الفنية اجلديدة مثل<br />
لغة التوثيق وأسلوب الفانتازيا واللغة الشعرية<br />
املوجزة، ومن رموز هذا التيار من منظور اخلراط<br />
جند صنع الله إبراهيم، ويوسف القعيد، وجميل<br />
عطية إبراهيم، ومحمد املخزجني.<br />
أما آخر هذه التيارات فهو التوجه السردي<br />
الذي يسميه اخلراط ب »التيار الواقعي السحري«<br />
ومن قسماته الفنية الواضحة »سقوط احلدود<br />
بني ظاهرية الواقع العيني املرئي احملسوس،<br />
وشطحات اخليال واالستيهامات املضفورة أحياناً<br />
بنسيج الواقع برانياً أو جوانياً على السواء«، ومن<br />
الكتابات املمثلة لنزعته الفنية في املشهد العربي<br />
القصصي والروائي، يذكر اخلراط أعماله<br />
السردية، ونتاجات كل من إبراهيم عبداملجيد،<br />
وسعيد الكفراوي، ورفيق الفرماوي، وسمية<br />
رمضان، ورشيد بوجدرة اجلزائري، إضافة إلى<br />
بعض الكتَّاب املغاربة مثل مصطفى املسناوي،<br />
ومحمد الشركي، وأحمد املديني، ومحمد<br />
الهرادي.<br />
ونظراً حلرص إدوار اخلراط في تنظيره ملفهوم<br />
احلساسية اجلديدة وتياراتها على استقصاء أهم<br />
األساليب الفنية والتعبيرية التي أغنت بها الكتابة<br />
السردية العربية منذ بروزها أواخر الستينيات<br />
من القرن املاضي، يتوقف عند بعض الظواهر<br />
اجلديدة الفارقة التي افترعت بواسطتها منحى<br />
جديداً في خط السرد العربي املعاصر ينداح<br />
العدد - 692 يوليو 2016<br />
82
ّ<br />
الكويت عاصمة الثقافة اإلسالمية 2016<br />
عن اجلمالية االنعكاسية التمثيلية<br />
للواقعية.<br />
ويأتي في مقدمة هذه الظواهر<br />
الفنية اجلديدة واملهمة من منظور<br />
اخلراط ما يسميه بظاهرة »القصة<br />
القصيدة«، حيث نصيب السرد في<br />
العمل القصصي أو الروائي يتضاءل،<br />
ليفسح املجال لكثافة اللغة الشعرية<br />
وانسيابيتها ما يترتب عنه كتابة<br />
سردية عابرة للحدود، ومخلخلة<br />
ملفهوم نقاء النوع األدبي، وصفاء<br />
معاييره التجنيسية القارة، كما ينضاف لهذه<br />
التقنية املتصلة بتشييد كتابة عبر نوعية شديدة<br />
الغنى من حيث طاقاتها التناصية واإليحائية،<br />
تقنية حديثة أخرى تتمثل في دمج لغة التسجيل<br />
والتوثيق داخل البناء الفني للكتابة السردية من<br />
رواية وقصة، وتعد هذه االستراتيجية األسلوبية<br />
- وفق اخلراط - على قدر كبير من األهمية ملا<br />
يحركها من طموح خالق نحو تشبيك أسئلة السرد<br />
مع الواقع االجتماعي، واسترفاد عمق األسئلة<br />
والهموم والتحديات اآلنية املوارة في محاضنه<br />
التاريخية والدنيوية، وفضالً عن هاتني التقنيتني<br />
السابقتني يتوقف اخلراط عند تقنية ثالثة وأخيرة<br />
متصاعدة في الكتابة السردية اجلديدة ينعتها<br />
بتقنية »احملارفة« أو اإلصاتة، حيث االستخدام<br />
املتكرر للحروف، من أجل استيالد أنغام صوتية<br />
وموسيقية، وتشذير الكتابة، وإذا كانت هذه<br />
الظاهرة تشي بتطلع املبدعني الستثمار موسيقى<br />
األصوات اللغوية في اإليحاء بالداللة النصية،<br />
إال أنها تظل مهددة - وفق اخلراط - بتوريط<br />
الكتابة السردية العربية في الشكلية والزخرفة<br />
ومتاهات التجريب، وتغريب رهاناتها الفنية عن<br />
منابتها التاريخية والدنيوية.<br />
احلساسية اجلديدة وسؤال احلداثة<br />
واضح من خالل التنظيرات السابقة التي<br />
قدمها اخلراط لتيار احلساسية اجلديدة،<br />
وطفرتها الفنية في تاريخ الرواية العربية<br />
احلديثة، تداخلها الشديد مع مفهوم نقدي آخر<br />
وظفه مجموعة من النقاد العرب<br />
في توصيفهم لهذا التحول النوعي<br />
في مسار السرد العربي، ويتعلق<br />
األمر مبفهوم »احلداثة« الذي<br />
يعد أكثر شهرة وتداوالً في املشهد<br />
النقدي من مفهوم احلساسية<br />
اجلديدة، ويؤشر بدوره إلى جتاوز<br />
أساليب الكتابة الواقعية ونزعتها<br />
احملاكاتية التمثيلية، واختطاط في<br />
املقابل تقنيات جديدة هاجسها<br />
األساسي التقاط أسئلة الواقع<br />
في حتولها عما هو معطى وسائد، واستشرافها<br />
للمحتمل واآلتي واملغيب.<br />
واستناداً لهذا اإلشكال الذي يواجه اخلراط<br />
في تنظيره للحساسية اجلديدة نظراً للتقاطع<br />
والتشابك الشديدين بني ما يحيل عليه هذا<br />
املفهوم، ومفهوم احلداثة من خصائص فنية، ورؤى<br />
داللية متداخلة، يحرص اخلراط على استكشاف<br />
أوجه االختالف والتمايز بني احلساسية اجلديدة<br />
واحلداثة.<br />
وهكذا يرى اخلراط أن مفهوم احلساسية<br />
اجلديدة يعني أوالً وأساساً تلك النقلة النوعية<br />
في السرد العربي من رواية وقصة، التي تَ َ<br />
من خاللها جتاوز جماليات الكتابة الواقعية<br />
الكالسيكية، ورؤيتها الوثوقية لقضايا العالم<br />
اخلارجي، وحتديث وتطوير أساليب السرد ملعانقة<br />
رؤية جديدة مطبوعة باالرتياب والقلق واملساءلة<br />
ملا هو منوالي وسائد، وهو ما يجعل احلساسية<br />
اجلديدة تاريخية متعلقة بالزمن، وميكن ثانياً<br />
ملغايراتها وأنساقها التعبيرية والداللية النوعية<br />
- وقف اخلراط - أن يتجاوز الزمن ثوريتها<br />
لتتحجر، وتغذو بدورها تقليداً جديداً راسخاً في<br />
حاجة إلى التفكيك والتجاوز، وهو ما حدث مع<br />
العديد من كتابات احلساسية اجلديدة.<br />
أما احلداثة - وفق اخلراط - فليست قرينة<br />
للجدة أو املعاصرة، كما أنها ال تعد توصيفاً<br />
تاريخياً ملنعطف فارق في صيرورة اإلبداع األدبي<br />
مثلما هو الشأن مع احلساسية اجلديدة، بل هي<br />
قيمة في العمل الفني تتجاوز الزمن وتخلد عبر<br />
83<br />
إدوار اخلراط منظراً للحساسية اجلديدة في السرد العربي
التاريخ، وتظل مكتنزة بنوع من التساؤل املستمر<br />
املسكون بهدم ما هو قائم ومكرس، واالنفتاح<br />
على املستقبل واآلتي، ومن ثم فهي بهذا الفهم<br />
تنحاز دائماً إلى أحد طرفي »ثنائية مستمرة عبر<br />
الزمن، بني ما هو جاهز، معد، مكرس، شائع،<br />
مقبول اجتماعياً على املستوى العريض، وما هو<br />
متمرد، داحض، مقلق، هامشي، يسعى إلى نظام<br />
قيمي مستعصٍ بطبيعته على التحقق، ومتعدٍ<br />
دائماً«.<br />
إال أن السؤال الذي يستثيرنا في هذا<br />
السياق، وقد استوقف من قبل الناقد الفلسطيني<br />
فيصل دراج في دراسته اللماحة عن إدوار<br />
اخلراط املنشورة بكتابه »نظرية الرواية والرواية<br />
العربية«: أال يعد هذا التمييز بني احلساسية<br />
اجلديدة واحلداثة غير مقنع، وال يؤكد متاسكه<br />
املنهجي تاريخ اآلداب العاملية، ومن ضمنه تاريخ<br />
األدب العربي ألن الكثير من نتاج احلداثة الذي<br />
وُسم ب »الكونية والرؤيوية«، وأصر اخلراط<br />
على تعاليه على التاريخية والزمنية، واحتفاظه<br />
بطابعي »االختالف واملغايرة« قد حتول بدوره<br />
إلى نظام آخر من التقاليد املعتمدة املستوجبة<br />
للتجاوز والتخطي، الستيالد منعطف إبداعي<br />
جديد ممتد في الزمن والتاريخ، ومستغور<br />
لتحوالت احلضارة اإلنسانية في مختلف<br />
مجاالتها؟ كما أن اعتبار اخلراط للحداثة بكونها<br />
قيمة في العمل الفني تدمغه بالتجاوز لألشكال<br />
والصيغ اإلبداعية السائدة، يتجاهل أيضاً - وفق<br />
فيصل دراج - ما يكتنف مفهوم القيمة نفسه من<br />
حتول وجتدد دائمني يجعلها تتراوح بني البناء<br />
والهدم املستمرين تساوقاً مع آفاق انتظار القراء،<br />
وتشربهم بواسطتها خلصوصية سياقاتهم<br />
املجتمعية واحلضارية، وما جتيش به من طفرات<br />
نوعية على مختلف البنى املادية واالجتماعية<br />
والثقافية.<br />
وتأسيساً إذن على هذه اجلهود املعرفية<br />
والنقدية النفاذة التي اكتنز بها تنظير إدوار<br />
اخلراط ملفهوم احلساسية اجلديدة، وجتلياته<br />
في منعطفات السرد العربي من رواية وقصة بعد<br />
هزمية يونيو 1967م، ميكننا استخالص جملة من<br />
املالحظات املنهجية عن هذا التنظير، وما قدمه<br />
من اجتهادات طموحة وجريئة مسكونة بهاجس<br />
تخصيص وتفريد أسئلة النقد العربي في تفاعله<br />
مع املنجز اإلبداعي العربي، وتنسيب رهاناته<br />
املعرفية واملنهجية.<br />
في مقدمة هذه املالحظات املنهجية عدم<br />
وضوح مفهوم احلساسية اجلديدة نفسه، وقابليته<br />
ألن يتحول ملفهوم نقدي إجرائي وملموس داخل<br />
النصوص، ألن هذا التصور ينطبق بدوره حتى<br />
على التحوالت احلاصلة في مجاالت أخرى ال<br />
ترتبط فقط باألدب واللغة، بل تشمل املوسيقى<br />
واللباس وطرز العمارة، وهو ما يجعله ملتحفاً<br />
بالعمومية وأقل إقناعاً من مفاهيم أخرى<br />
احتفظت بنجاعتها املصطلحية كالتجريب،<br />
وأثبتت ارتهانها بحقل السرد العربي، وتوصيف<br />
متغيراته الصاعدة.<br />
وتضاف لهذه املالحظة خاصية أخرى تالزم<br />
استقراء وتصنيف اخلراط لتيارات احلساسية<br />
اجلديدة، وطموحه اجلاد الستقصاء أهم<br />
مالمحها األسلوبية والداللية الفارقة، وهي<br />
خاصية التذبذب والتداخل الشديدين في<br />
اإلمساك باملواصفات الفنية واملرجعية الدقيقة<br />
املفردة لكل تيار عن آخر، وهو ما ترتب عنه إدماج<br />
اخلراط ألكثر من مبدع في تيارات عدة، وتوزيع<br />
نتاجاته الروائية والقصصية نفسها على أكثر<br />
من تيار، حيث صنفها تارة في التيار العضوي<br />
املنحاز للرؤية الداخلية املستكنهة ملا هو باطني<br />
وحلمي، وتارة أخرى ضمن االجتاه األسطوري<br />
النزَّاع للتحرر من جاهزية األشكال الروائية<br />
والقصصية الغربية، وتخصيص طرائق الكتابة<br />
السردية العربية انطالقاً من استيحاء املوروث<br />
السردي واحلكائي العربي القدمي، أو توظيف<br />
ينابيع األسطورة واخلرافة لتعضيد الكثافة<br />
التناصية والتخييلية للعمل السردي.<br />
إال أنه ومهما يكن من شأن هذه املالحظات<br />
املنهجية التي نقدمها حول تنظير إدوار<br />
اخلراط للحساسية اجلديدة، ومحصالته<br />
املعرفية واجلمالية، يظل هذا التنظير يكشف<br />
عنده عن مجهود نقدي وفكري نفاذ الستقراء<br />
العدد - 692 يوليو 2016<br />
84
الكويت عاصمة الثقافة اإلسالمية 2016<br />
خصوصية اخلطاب السردي العربي اجلديد،<br />
بعيداً عن جاهزية املرجعيات النقدية الغربية،<br />
واإلسقاط اآللي واحلرفي ملفاهيمها وكشوفاتها<br />
على النصوص األدبية العربية، ما يكرس أزمة<br />
التغريب في النقد العربي، وامتثاليته املطلقة<br />
لسلطة اآلخر النقدية.<br />
وعلى هذا األساس فإن حرص اخلراط -<br />
كما يرى الناقد األردني فخري صالح في كتابه »في<br />
الرواية العربية اجلديدة« - على اجتراح مفاهيم<br />
ومنظورات جديدة إلعادة توصيف صيرورة املنجز<br />
األدبي العربي في حقل الرواية والقصة، انطالقاً من<br />
التمرس بالنصوص اإلبداعية، واإلنصات لنسوغها<br />
الفنية والداللية اخلاصة، هو عمل تنظيري جدير<br />
باالحتفاء والتعاطف والتقدير، ملا ينم عنه من<br />
انشغال بنَّاء ونير بهاجس تخصيص أسئلة النقد<br />
العربي، وتفريد رهاناته املنهجية والفكرية بعيداً عن<br />
شراك االفتتان مبعيارية احملمول النقدي الغربي،<br />
واحلرص على مطابقة هياكله التنظيرية الناجزة<br />
املشروطة دوماً مبحاضن فلسفية وتاريخية وثقافية<br />
محددة.<br />
كما ميكن التأكيد في هذا السياق ذاته، على أن<br />
من أبرز سمات التميز واإلنتاجية اخلالقة في هذا<br />
اجلهد التنظيري والتحليلي الذي اضطلع به اخلراط<br />
في قراءته النقدية التمحيصية للسرد العربي<br />
اجلديد، واملتابعة الدؤوبة لتحوالته، هي تفرده<br />
بخلفية معرفية ناظمة، وجهت اجتهاداته الكشافة،<br />
وتتجلى من منظور الناقد واملفكر املصري محمود<br />
أمني العالم في احلرص على »حتديد الكلي الكامن<br />
وراء اجلزئيات في قراءاته النقدية. أي حتديد ما هو<br />
جوهري وراء التفاصيل العارضة... وبذلك فاخلراط<br />
في نقده هو أقرب إلى رؤية فيلسوف اجلمال -<br />
أقصد االستاتيكا - منه إلى الناقد التحليلي، بالرغم<br />
مما في نقده أحياناً كثيرة من التصنيف والتحليل.<br />
فهو في احلقيقة فنان ذو رؤية مفهومية جمالية كلية<br />
خاصة حميمة تشكل - في حدودها - اختياراته<br />
للنصوص األدبية التي يراها أقرب للفن، وتشكل<br />
بالتالي قراءاته لهذه النصوص«.<br />
واستناداً إلى هذه اخلصائص املعرفية والفكرية<br />
اللماحة التي امناز بها التنظير النقدي إلدوار اخلراط،<br />
ميكننا اإلقرار بأنه في ضوء مكتسباتها النيِّرة، يفترع<br />
هذا املبدع الراحل لنفسه مكانة مائزة داخل تاريخ<br />
األدب العربي جتعله إحدى قاماته املرموقة، ومن<br />
الكتَّاب القالئل الذين يتفرد نتاجهم األدبي بهاجس<br />
االختالف واملغايرة، والتراسل الكشاف بني النشاط<br />
الفني املتقد، والكتابة التنظيرية املضيئة لتصوراتهم<br />
حول وظيفة اإلبداع والفن في احلياة، وهو ما يجعله<br />
يلتقي في هذا التوجه مع مبدعيني قالئل تفردوا<br />
في املشهد اإلبداعي العاملي مبزاوجتهم املثمرة<br />
بيني الروح اإلبداعية املتوثبة واخلالقة، والكتابة<br />
التنظيرية النفاذة، وأكتفي بذكر الروائي التشيكي<br />
ميالن كونديرا في الغرب، والشاعر أدونيس في<br />
العالم العربي ><br />
نظر ضعيف<br />
كان حافظ إبراهيم جالساً وحده على كرسي في حديقة، وأقبل صديقه<br />
عبدالعزيز البشري - وكالهما ظريف - فلما وصل قال حلافظ: والله من<br />
بعيد حسبتك امرأة! فأجاب حافظ: كالنا نظره ضعيف، وأنا من بعيد<br />
حسبتك رجالً!<br />
85<br />
إدوار اخلراط منظراً للحساسية اجلديدة في السرد العربي
لغة<br />
موت اللغات وانقراضها<br />
تحسين الناشئ<br />
فنان وناقد عراقي مقيم في أمريكا<br />
ما الذي يعنيه عمليًا انقراض لغة ما؟ ولماذا تضيع بعض اللغات وتندثر؟<br />
وهل أن لغات العالم في حالة انحسار وزوال مستمر؟<br />
اللغة بشكل عام هي علم قائم بذاته يسمى لكسيكولوجيا، وهي نظام<br />
من التعابير الصوتية المنطوقة نشأت كوسيلة للتعبير والتفاهم بين<br />
الشعوب، وهي ظاهرة اجتماعية في حالة تطور مستمر، ومفهوم اللغة<br />
يختلف عن مفهوم الكتابة، فاللغة المحكية عبارة عن أصوات منطوقة<br />
ذات معنى، تُفهم ويُدرك مغزاها من خالل السماع، أما الكتابة فهي إشارات<br />
أو رموز لألصوات المنطوقة، وتكون على شكل عالمات مكتوبة مؤلفة<br />
فقرات وعبارات تنتظم على هيئة مدونات، ويتم فهم مغزى تلك العالمات<br />
بصرياً عن طريق القراءة.<br />
إن تعبير »لغة ميتة« يعني عدم استخدام<br />
تلك اللغة متاماً، وعدم تداولها، سواء عن طريق<br />
التحدث أو عن طريق الكتابة والتدوين. أما تعبير<br />
»لغة آيلة إلى االنقراض«، فهو إشارة إلى اللغات<br />
غير املستخدمة استخداماً يومياً من قبل شعب<br />
من الشعوب، ونقص عدد الناطقني بتلك اللغة إلى<br />
حد كبير، فتدخل تلك اللغة في حالة االضمحالل<br />
واجلمود، ثم النسيان التدريجي من قبل الناطقني<br />
بها، وهنا تصل إلى مرحلة اخلطر الذي يعرضها<br />
لالنقراض.<br />
إن عاملنا احلالي ثري بأبجدياته ولغاته<br />
املختلفة باختالف األجناس واألعراق والقوميات،<br />
فعدد لغات العالم اليوم يبلغ 2700 لغة حية، منها<br />
860 لغة فاعلة ومهمة، ومن هذه اللغات الفاعلة<br />
يوجد 424 لغة في األمريكتني فقط، فقبائل الهنود<br />
احلمر وحدها تتكلم حوالي 200، لغة، أما في آسيا<br />
فتوجد 153 لغة فاعلة، بينما الشائع بني الناس<br />
أن في الهند وحدها توجد مئات اللغات، وهذا<br />
صحيح، لكن اإلحصاءات في هذا املجال تؤكد<br />
فقط اللغات املتداولة واملستخدمة استخداماً<br />
يومياً من فئة ال يقل عدد أفرادها عن ألفي<br />
نسمة. ومعنى ذلك أن لغات قدمية كالتدمرية<br />
والسبئية واألدموتية واألمهرية والبونية واحلبشية<br />
القدمية والفينيقية والنبطية واحلضرية واملندائية<br />
والبابلية والسومرية ومئات اللغات األخرى ال تقع<br />
ضمن اإلحصائية املذكورة )2700(، وتصنف ضمن<br />
»اللغات امليتة«.<br />
يذكر عالم اللغات برنارد كمري أنه بني عامي<br />
1490 و1990 انقرض حوالي نصف لغات العالم،<br />
ولو لم تنقرض تلك اللغات لكان لدينا اليوم بني<br />
10 آالف إلى 15 ألف لغة محكية. وتؤكد آخر<br />
الدراسات وجود حوالي 2000 لغة مهددة بالزوال<br />
معظمها في آسيا وأمريكا الالتينية، ويتوقع<br />
الباحثون انقراض 90 في املائة من لغات العالم<br />
العدد - 692 يوليو 2016<br />
86
الكويت عاصمة الثقافة اإلسالمية 2016<br />
خالل القرن احلادي والعشرين.<br />
ولكن ما هي األسباب الرئيسة التي تؤدي إلى<br />
انقراض اللغات؟<br />
هنالك جملة أسباب أهمها:<br />
أوالً: الكوارث الطبيعية، تعتبر الكوارث<br />
الطبيعية الكبرى عاملالً مهماً من عوامل<br />
تهديد لغات العالم باالنقراض أو انحسارها<br />
إلى حد كبير، فمثال أدى إعصار تسونامي<br />
الرهيب عام 2004 إلى إبادة قبائل كاملة في<br />
إندونيسيا وتايالند والهند وسريالنكا كانت<br />
تتخذ من سواحل البحار أماكن لتجمعاتها،<br />
وبزوال هذه القبائل زالت لغاتها احمللية معها.<br />
كما أدت الزالزل املدمرة التي ضربت مدن<br />
العالم في املائة عام األخيرة إلى ضياع لغات<br />
بعض الشعوب املنكوبة، وهددت لغات أخرى<br />
باالنقراض، ذلك أن بعض اللغات ال يتجاوز<br />
عدد الناطقني بها بضعة آالف أو مئات<br />
من األشخاص فقط، وأن الغالب على تلك<br />
اجلماعات أو القبائل أو الطوائف أنها تعيش<br />
ضمن جتمعات سكانية متقاربة إلى بعضها ضمن<br />
حيز جغرافي واحد – مدينة أو قصبة أو قرية<br />
أو ما شابه ذلك - وهذا يؤدي إلى خطر الزوال<br />
اجلمعي أو الكلي في حال حدوث كارثة بيئية أو<br />
طبيعية أو عدوانية.<br />
ومن أبرز الكوارث التي أثّرت على اإلرث<br />
العاملي للغات، تلك الزالزل الكبرى التي سجلت<br />
خالل القرن العشرين، ومنها على سبيل املثال،<br />
زلزال مدينة كاتو اليابانية عام 1923 وزلزال<br />
تشيلي عام 1960 وزلزال مدينة تناغشان الصينية<br />
عام 1976 وزلزال مكسيكو سيتي عام 1985<br />
وزلزال أرمينيا الرهيب عام 1988 وزلزال مدينة<br />
غيالن اإليرانية عام 1990 وزلزال الهند عام 1993<br />
وزلزال جزيرة ساخالني الروسية عام 1995 وكوبي<br />
اليابانية 1995 أيضاً، إضافة إلى زالزل تركيا وبام<br />
اإليرانية وهايتي وغيرها من الزالزل والكوارث.<br />
إن حدوث مثل هذه الكوارث الكبرى إضافة<br />
إلى التدمير الصناعي للبيئة واستغالل الطبيعة<br />
للمد العمراني، التي بسببها يتم القضاء على<br />
جتمعات األقليات، أو ما يحصل أحياناً من<br />
انتشار عام وكثيف لألوبئة في مساحة محددة،<br />
ما يؤدي إلى وفيات بأعداد كبيرة أو تشتت أو<br />
تدهور للبيئة، كل ذلك يؤدي إلى تفكك املجتمعات<br />
التي حتيا فيها اللغات، واخلطر الكبير هنا هو<br />
حني تكون تلك املجتمعات املتفككة هي مجتمعات<br />
األقليات.<br />
إذن احلفاظ على لغات األقليات يرتبط<br />
باحلفاظ على دميومة بقاء واستمرار تلك<br />
األقليات في مناطق وجودها، وهذا يعني وجوب<br />
احملافظة على أمناط احلياة التقليدية السليمة<br />
لتلك األقليات واحلفاظ على البيئة التي حتيا<br />
فيها أيضاً.<br />
ثانياً: احلروب والصراعات العرقية واإلبادة<br />
اجلماعية لفئات معينة، فاحلروب والصراعات<br />
مبختلف أشكالها تؤدي إلى زوال بعض األعراق<br />
والقوميات والطوائف والفئات الصغيرة<br />
املستضعفة، وهذا يؤدي بدوره إلى موت أو اندثار<br />
لغات تلك الفئات. لقد أدت اإلبادة اجلماعية<br />
لقبائل الهنود احلمر من قبل املستوطنني الغربيني<br />
ألمريكا الشمالية إلى ضياع واندثار عديد من<br />
87<br />
موت اللغات وانقراضها
اللغات احمللية لتلك القبائل البدائية. فمع تشرد<br />
وتفرّق واختفاء تلك اجلماعات القبلية أو إبادتها،<br />
من الطبيعي أن تختفي لغاتها معها.<br />
واملعروف أن قبائل الهنود احلمر العديدة<br />
التي كانت تنتشر في أرجاء األراضي األمريكية<br />
املترامية األطراف، كان لديها عند حلول القرن<br />
السادس عشر حوالي 500 إلى 600 لغة متداولة،<br />
هذه اللغات لم يتبق منها في نهاية سبعينيات<br />
القرن املاضي سوى 18 عائلة لغوية، كل عائلة منها<br />
حتتوي من 1 إلى 20 لغة، أي إن ما تبقى منها<br />
اليوم ال يتجاوز 200 لغة، والبعض من تلك اللغات<br />
محدود التداول لقلة أعداد املستخدمني، وبالتالي<br />
فهي مهددة أيضاً باالنقراض. من جهة أخرى أدت<br />
حروب البلقان بداية القرن العشرين واحلربان<br />
العامليتان والنزاع العرقي في يوغسالفيا السابقة،<br />
إلى انحسار أعداد بعض األعراق والقوميات<br />
املتصارعة التي كانت اجلانب األضعف في تلك<br />
احلروب والنزاعات، وبالتالي اضمحالل لغاتها<br />
األصلية وتهديدها باالندثار.<br />
ثالثاً: التكتم على اللغة األم والعمل على تغييبها<br />
إرادياً، واتخاذ لغة ثانية سائدة بدالً عنها، خشية<br />
انكشاف الهوية ومن ثم التعرض إلى االضطهاد أو<br />
املالحقة أو التصفية الدينية أو العرقية على يد<br />
أغلبية سائدة تفرض أعرافها بالقوة على اآلخرين،<br />
أو تتعامل مع األفراد على أساس عنصري.<br />
إن أكثر من مييل إلى استخدام أسلوب التكتم<br />
على لغته هم أتباع الطوائف الضعيفة واألقليات<br />
الدينية )وأغلب الظن أن ما حصل من انحسار<br />
شديد للغات قدمية كاملندائية والسريانية يعود<br />
إلى هذا اجلانب(.<br />
رابعاً: الهجرات القسرية إلى وجهات متعددة،<br />
أي الهجرات غير املبرمجة وغير املنظمة بفعل<br />
ظروف قاهرة خارجة عن إرادة اجلماعة املهاجرة،<br />
تلك الهجرات بطبيعة احلال تؤدي إلى االختالط<br />
مع أمم جديدة وشعوب غريبة يصبح معها لزاماً<br />
على الفرد اتخاذ لغة تلك األمة أو البلد – أي لغة<br />
األكثرية - كلغة حديث وعمل ودراسة... أي لغة<br />
احلياة اجلديدة، وبسبب ذلك تنحسر اللغة األصلية<br />
وتضمحل ثم تتالشى بتتابع األجيال ومتوت،<br />
فاللغة األصلية قد تنتهي عند اجليل الثالث، أو<br />
الرابع على أبعد تقدير، فاجليل األول يكون أحادي<br />
اللغة )يستخدم لغته األم( ويتعلم قليالً من اللغة<br />
السائدة )لغة املجتمع اجلديد(. أما اجليل الثاني<br />
فيصبح ثنائي اللغة، إذ يتعلم أفراد هذا اجليل لغة<br />
األجداد من ذويهم، كما يتقنون اللغة السائدة من<br />
املجتمع احمليط. أما اجليل الثالث، فيتعلم فقط<br />
اللغة السائدة في املجتمع والبيت )ولغة البيت هنا<br />
تكون على األغلب هي لغة املجتمع(، وبهذا تنحسر<br />
اللغة األم شيئاً فشيئاً وتندثر.<br />
خامساً: سيادة اللغات الكبرى أو الرئيسة،<br />
وهذا األمر يؤدي بالنتيجة إلى انقراض اللغات<br />
احمللية، فحني تسود اللغة الكبرى وتصبح هي لغة<br />
التخاطب والدراسة والكتاب والصحيفة والتلفاز<br />
واإلنترنت، تصبح معها اللغات احمللية لغات ثانوية.<br />
واليوم هنالك إحدى عشرة لغة كبرى في العالم<br />
هي السائدة بقوة في كل وسائل االتصال والتواصل<br />
بيني 78 في املائة من سكان العالم، هذه اللغات<br />
هي: اإلجنليزية، الفرنسية، اإلسبانية، اإليطالية،<br />
األملانية، الصينية، الروسية، العربية، الهندية،<br />
الهولندية، البرتغالية.<br />
إن انقراض بعض اللغات سيؤدي حتما إلى<br />
ضياع التأريخ املدون وغير املدون بتلك اللغات<br />
على السواء، فاملدونات املكتوبة بلغات اضمحلت<br />
وماتت في ما بعد، تصبح بالنسبة لألجيال<br />
الالحقة عبارة عن طالسم ال غير، أي إنها رموز<br />
مبهمة املعنى والداللة، وتصبح عملية فك رموز<br />
تلك املدونات بحاجة إلى إيجاد الشفرة اخلاصة<br />
بتلك اللغة املنقرضة، أي متاماً كمسألة اكتشاف<br />
الشفرات التي مت من خاللها معرفة اللغتني<br />
املسمارية والهيروغليفية وبعض اللغات القدمية،<br />
بعد أن كانت تلك اللغات مبهمة وغريبة لفترة من<br />
الزمن.<br />
إن على الشعوب احلية والناهضة واجب<br />
احلفاظ على لغاتها من االندثار والتشويه، فاللغة<br />
هي هوية الشعب وسر متيزه، كما أنها عالمة على<br />
عنفوانه ودميومته، وهي وسيلة تدوين تاريخه<br />
ومسيرته وعطائه. وكما قال صموئيل جونسون<br />
»إن اللغة متثل أصالة األمم« ><br />
العدد - 692 يوليو 2016<br />
88
تاريخ وتراث<br />
الكويت عاصمة الثقافة اإلسالمية 2016<br />
حول الكون<br />
في التصور العراقي القديم<br />
د. مصطفى محمد طه أكادميي من العراق<br />
دراسة التصور الكوني في العراق القديم- أو في أي حضارة أخرى - ال<br />
تكتمل مالمحها البارزة إال بمعرفة ماهية الكون، وذلك حتى تتسنى لنا<br />
معرفة مدى مصداقية رؤية هذه الحضارة أو تلك للكون. وفي هذا نقول إن<br />
الكون هو كل موجود وما وجد وما سيوجد، أما عن كلمة الكون التي هي<br />
»cosmos« في اللغات األجنبية مثل: اإلنجليزية والفرنسية والروسية... إلى<br />
آخره فهي في األساس كلمة إغريقية تعني »نظام الكون« وهي بشكل<br />
ما عكس كلمة »cosmos« أي االختلالط والتشوش، أو بمعني آخر حالة<br />
الكون المختلطة قبل تكونه. وهي تتضمن العالقة المتبادلة العميقة<br />
لكل األشياء وتبعث الرهبة من الطريقة الدقيقة والماهرة، التي جمع فيها<br />
الكون بالشكل الراهن.<br />
وإذا كان ما سبق يختص بالكون، فإن مسائل<br />
الكونيات - أي النظر في أصل العالم - كانت<br />
مبعث حيرة للعقل البشري منذ فجر التاريخ،<br />
فقد اتصل التصور في أصل العالم عند القدماء<br />
بفكرة اخللق، حيث قام به - وفقاً لتصورهم –<br />
إله فصل بني النور والظلمة ورفع السماوات<br />
وثبتها من فوق األرض، وصور املجاالت األخرى،<br />
التي اختصت بها تلك الصورة الكونية الضيقة<br />
احملدودة، التي حتيزت في عقل اإلنسان األول،<br />
ومرت القرون، واستجمع اإلنسان مبرورها<br />
املعرفة مبختلف الظاهرات، التي يعايشها في<br />
العالم الذي تتألف منه بيئته، وتكيفت نظرياته<br />
الكونية في صورة أقرب إلى العلم. وعند دراسة<br />
مالمح التصور العراقي القدمي للكون، نرى أنه<br />
قد مر على العراق في تاريخه القدمي حضارات<br />
عدة علي النحو التالي:<br />
- 1 حضارة سومر:<br />
أ- من هم السومريون؟<br />
ثمة تساؤل حيوي من املنظار التاريخي<br />
يطرح نفسه على بساط البحث، مفاده من هم<br />
السومريون؟ ولإلجابة عن مثل هذا التساؤل<br />
نقول إن السومريني أو الشومريني، هم قوم<br />
حتدروا من األقوام التي قطنت العراق في عصور<br />
ما قبل التاريخ، وهي العصور التي سبقت عصر<br />
فجر السلالالت، وقد عرفوا باسم خاص، وهو<br />
اسم السومريني في األزمنة التاريخية نسبة إلى<br />
اجلزء اخلاص من العراق الذي متركزوا فيه،<br />
وهو القسم اجلنوبي الذي سمي باسم »شومر«<br />
أو »سومر«، ولعل أقوى ما يجعل هذه الفرضية<br />
89<br />
حول الكون في التصور العراقي القدمي
رأياً قريباً من الواقع، هو أن أسس احلضارة<br />
السومرية، التي ازدهرت في عصر السالالت،<br />
ميكن إرجاعها إلى األطوار احلضارية )عصور<br />
ما قبل السلالالت(، مما يشكل استمراراً<br />
حضارياً، أي إن أصول احلضارة السومرية<br />
نشأت في العراق، وبالتالي ميكن تتبع أسسها<br />
وأصولها فيه منذ أقدم األزمان. وكان ذلك في<br />
فترة، تراوحت تقديرات املؤرخني بشأنها، في<br />
ما بني أوائل القرن الثالثني قبل امليالد، والقرن<br />
الثامن والعشرين قبل امليالد.<br />
وخالصة القول، إنه مهما كان أصل<br />
السومريني واملهد الذي نزحوا منه، فاألمر<br />
املهم من الناحية احلضارية، هو أننا نعرف<br />
نشوء حضارتهم وتطورها ومراحل ذلك التطور<br />
وخصائصها، وأنها نشأت في القسم اجلنوبي<br />
من العراق. كما أن البحث في أصلهم وعرقهم<br />
من األمور التي ال تقود الباحث إلى شيء،<br />
وذلك على فرض أنه يستطيع أن يعرف ذلك<br />
في املستقبل.<br />
ب - الكون لدى السومريني<br />
يشي الواقع التاريخي ملعطيات حضارة<br />
سومر، في هذا املنحى العلمي الدقيق، بأن<br />
فقهاء سومر قد تخيلوا السماء واألرض في<br />
بداية أمرهما ملتصقتيني يحيط بهما محيط<br />
مائي عظيم، وكان في أولهما إله مذكر وهو »آن«<br />
أو »آنو« الذي اعتبروه اجلد األكبر للمعبودات،<br />
ثم إلهة مؤنثة »كي«، ونتج عن اتصال هذين<br />
الزوجني عنصر ثالث، وهو »إنليل« رب الهواء<br />
واألنفاس والفضاء الذي تدخل بينهما وفصلهما،<br />
ورفع أباه »آن« بسمائه إلى أعلى، وحط بأمه<br />
»كي« إلى أسفل حيث اختلط بها، وترتب على<br />
وجوده معها أن بدأ ظهور بقية األرباب، ومنهم<br />
من سموا باسم األنوناكي اخلمسني العظام<br />
والسبعة أصحاب املصائر، ثم بدأ خلق النباتات<br />
واألنعام والناس.<br />
إن التصور الكوني لدى السومريني، يجعل<br />
الباحث املعاصر يصل إلى قناعة عملية<br />
تاريخية مفادها، أن أرباب السماء واألرض<br />
والهواء - وفقاً لهذا التصور- قد تسنى لهم<br />
املشاركة في النشأة عند السومريني ف »إنكي«<br />
روح املاء احمليط بالسماء واألرض، وكان<br />
ابن هو »منو« الذي مثل عنصر األمومة في<br />
احمليط األزلي، وزوج هو »متاخ«، أي السيدة<br />
العظمى، التي لقبت أيضاً بلقب »نينتو« مبعنى<br />
السيدة الوالدة، ولهذا كان »إنكي« يعتبر إلها<br />
للماء وللحكمة ومقرراً ملصائر األقطار واملدن<br />
وحافظ نواميس احلضارة في كل مظاهرها<br />
املادية والروحية، واملوصي مبظاهر احلياة<br />
إلى أربابها، مثل »دوموزي« الذي عهد بخصوبة<br />
األنعام وخصوبة األرض و»إشكود« الذي عهد<br />
إليه بأمر الرياح، إن كل هؤالء اآللهة – وفقاً<br />
للتصور السومري – قد شاركوا في نشأة الكون<br />
وتكوينه.<br />
وفي التحليل األخير، نرى أن التصور<br />
السومري للكون، يؤكد لنا أن حضارة سومر قد<br />
عرفت آلهة متعددة، عرفت بآلهة الكون وهي<br />
على النحو التالي:<br />
اإلله األول: إله السماء: آن، آنوم، آن<br />
»An Anum An«<br />
و»أن« تعني أصلالً السماء في اللغة<br />
السومرية وتقابلها »شامو« في األكدية، ومن ثم<br />
فإن »آنو« أو »آنوم« هو إله السماء، وهو أيضاً<br />
أب السماوات وملكها، وعرشه على قمة قبة<br />
السماء، وحني حدث الطوفان جلأ إليه اآللهة<br />
مذعورين ليحتموا به، وجثوا كالكالب إلى<br />
جانب حائط السماء.<br />
وفي هذا السياق تشير املصادر التاريخية<br />
إلى أن هؤالء اآللهة قد ظلوا كذلك حتى قدم<br />
أهم »زيوسودرا« قرابيني التضحية فوصلت<br />
رائحتها إلى خياشيمهم وعنذئذ اطمأنت<br />
قلوبهم، وعلى عتبته، أي »آنو«، يقف »ذوموزي«<br />
و»جشزيدا« اإللهان الوحيدان اللذان ذاقا<br />
املوت، ويحكم »آنو« مجموعتني من اآللهة<br />
هما ال »أجيجي« في السماء، وال »أنوناكي«<br />
في األرض، وهم الذين يقتسمون التصرف في<br />
شؤون العالم بإشرافه وكان مقر عبادة »آنو«<br />
العدد - 692 يوليو 2016<br />
90
الكويت عاصمة الثقافة اإلسالمية 2016<br />
91<br />
حول الكون في التصور العراقي القدمي
الرئيس في »الوركاء«، حيث يعيش في معبده<br />
مع زوجته، وتشير نصوص من الوركاء إلى<br />
عديد من التضحيات التي كانت تقدم لهما في<br />
معبدهما.<br />
اإلله الثاني: إله األرض: إنليل، إليل Enlin ,Ellil<br />
إن »إن –ليل« بالسومرية هي »ال-ليل«<br />
باألكدية، وهي كلمة تعني »سيد«، وقد كان<br />
سيداً للمجمع السومري لآللهة، كما كان »بعال«<br />
له. وكلمة »إن –ليل« تعني أصالً »سيد الريح<br />
والروح« وهو لم يأخذ لقب سيد األرض إال<br />
فيما بعد. ومن لقبه كسيد للريح، التي تخرج<br />
من اجلبل وتدفع املياه جاء لقبة »إميهور ساج<br />
»imhu-sag أي »جبل الريح« كإله لزقورة<br />
»نيبور »Nippvr وقد اغتصب اإلله آشور في<br />
ما بعد هذه الصفة، التي علقت به »اجلبل<br />
العظيم«، أما معبده في مدينة نيبور فيدعى<br />
»أي كور »E-kur أي معبد اجلبل. وكانت ترافقه<br />
فيه اآللهة »نن هور ساج« سيدة اجلبل، وكان له<br />
منها ثمانية مواليد إلهية.<br />
اإلله الثالث: إله املاء: إنكي، أيا En- Ki, Ea<br />
كان ثالث أفراد الثالوث، الذي نلتقي به في<br />
أقدم النصوص هو »شوروباك« )فارة( و»جلش«<br />
)تللو( و»الرسا« )سكنرة(، ولهذا كان التمييز<br />
بين ثالثة أنواع من األرض: األرض العليا،<br />
حيث يحكم »انليل« واألرض السفلى، حيث<br />
»نرجال« واألرض الوسطى بن االثنن، حيث<br />
مملكة »أيا« Ea أو »إنكي« سيد املاء املقدس.<br />
ومتجده أقدم النصوص السومرية كملك لل<br />
ل »أبو« ومدينته املقدسة هي »إريدو »Eridu<br />
)أبو شهرين( ويحمل معبده بها لقب »إيابزو«<br />
Bit-apsi بالسومرية أو »بيت أبسي« E-abzu<br />
باألكدية )بيت أبسو(.<br />
اإلله الرابع: إله العالم السفلي: نرجال Nergal<br />
وهو رابع آلهة العالم الكبرى، أي األرض<br />
السفلية وتسمى عادة »األرض« أو »األرض<br />
الكبرى« وهي »كي جال« بالسومرية و»كي<br />
جاللو« باألكدية، وهي »األرض التي ال عودة<br />
منها« وبالسومرية: »كورنوجي آ«، وتعرف كذلك<br />
»أرا للو«، ويحكم هذه األرض »نرجال«، ومعناه<br />
»فوق املسكن العظيم« وهو يقرن باإلله »إيررا«<br />
،Irra وهو أصالً إله الوباء املنوط به تعمير<br />
العالم السفلي، ويعرف »إيررا« باسم »نرجال<br />
كوثا« وكوكب نرجال هو املريخ، وقد استطاع<br />
نرجال بقوته أن يسيطر على ال »ارا للو« أما<br />
ربة العالم السفلي فهي نن كي جال« وينطق<br />
اسمها أحياناً »إرشن كي جال« Ereshkigal أي<br />
»سيدة كيجاللو« أو سيدة األرض العظمى.<br />
من كل ما سبق نرى أن حضارة سومر، قد<br />
عرفت – كما أحملنا سابقاً - آلهة عدة خالقة<br />
لهذا الكون الهائل، وفي هذا داللة أكيدة على<br />
أن هذا التصور املتهافت خللق الكون إمنا ينافي<br />
التصور اإلسالمي احلق، الذي جاء بالوحدانية<br />
احلقة، التي ردت االعتبار للخالق األوحد لهذا<br />
الكون الرحيب، إنه الله جل جالله.<br />
- 2 التصور الكوني لدى حضارة بابل<br />
يالحظ الباحث العلمي الذي يريد أن يدرس<br />
مالمح تصور الكون في هذه احلضارة أن السماء<br />
واألرض )الكون( في اعتقاد البابلين إمنا كانتا<br />
عبارة عن صورتن متعادلتن ومتكاملتن، وقد<br />
خرج كالهما من املاء األزلي الذي هو احمليط<br />
األول األصلي، ورمبا كان اعتقاد البابلين في<br />
خروج األرض من البحر منبثقاً من الطريقة<br />
التي استخلص بها السومريون أرضهم من<br />
األنهار، وكان العالم في نظرهم محصوراً كله<br />
داخل قبة السماء التي اعتقدوا أن لها أعمدة<br />
في ما وراء البحار. أما مركز الكون فقد زعموه<br />
واقعاً عند منبع الفرات في جبال »طوروس«.<br />
وفي هذا السياق، يؤكد بعض املؤرخن أن<br />
ثمة تشابهاً واضحاً بن هذه األسطورة وما<br />
جاء في سفر التكوين من أنه في البداية، لم<br />
يكن يوجد سوى هيولي مظلم من املاء، لكن<br />
األسطورة تختلف عن الكتب السماوية عموماً<br />
في أنها جعلت املادة أزلية سبقت أي شيء آخر،<br />
ومع ذلك فإن األسطورة تعكس صورة ملا يدور<br />
العدد - 692 يوليو 2016<br />
92
عاصمة الثقافة اإلسالمية 2016<br />
الكويت<br />
في بيئة بالد ما بني النهرين من صراع بني<br />
عناصر الطبيعة واإلنسان وبيئته. ولذا فإنه<br />
ليس غريباً أن تأتي الكتب املقدسة مبثل هذه<br />
الفكرة، فلقد جاء في التوراة »في البدء خلق<br />
الله السماوات واألرض، وكانت األرض خاوية<br />
خالية، وعلى وجه القمر ظالم، وروح الله يرف<br />
على وجه املياه«.<br />
كذلك جند في ما بعد أن القرآن الكرمي<br />
نصت آيات كثيرة منه على مثل هذه األفكار<br />
واملعتقدات الكونية، فمن ذلك مثال قوله عز من<br />
قائل }أَنَّ السَّ مَ اوَاتِ وَالْ َرْضَ كَانَتَا رَتْقً ا فَفَتَقْ نَاهُ مَ ا<br />
وَجَ عَلْنَا مِ نَ الْ َاءِ كُ لَّ شَ يْ ءٍ حَ يٍّ أَفَلَ يُؤْمِ نُونَ{ )سورة<br />
النبياء/ آية 30(، وكذا قوله األقدس }خَ لَ قَ<br />
السَّ مَ اوَاتِ وَالْ َرْضَ فِ ي سِ تَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَ رْشُ هُ عَ لَى<br />
الْ َاء{، )سورة هود/آية 7(.<br />
ومن عجب أن يجيء العلم احلديث مبا<br />
يؤكد ذلك في النظرية التي قال بها العلماء<br />
املعاصرون بشأن خلق الكون، ومضمونها »أن<br />
تكون العالم بدأ منذ أن حتولت األبخرة األولى<br />
إلى ماء«.<br />
وفي التحليل األخير، نرى أن التصور<br />
الكوني البابلي يؤكد مبا ال يدع مجاالً للشك،<br />
أن التفكير في نشأة الوجود، أدى إلى ظهور<br />
أساطير مختلفة وصلت إلينا منها بعض النماذج<br />
وتعد األسطورة البابلية أقدم منوذج وصل إلينا<br />
كأسطورة طويلة، وهي مدونة على سبعة ألواح<br />
طينية تعرف لدى علماء اآلشوريات باسم »ألواح<br />
اخلليقة السبعة«، وحتتوي هذه األسطورة على<br />
نحو ألف بيت تقريباً وتشير إلى أنه لم يكن<br />
في البدء سوى املاء العذب »اإلله إيسو« واملاء<br />
املالح »اإللهة تيامة«، وكانا مختلطني، ثم ولدت<br />
منهما اآللهة اآلخرى متعاقبة، وفي ذلك ما<br />
يشير إلى أن املادة )املياه( أزلية، وهما في<br />
الوقت نفسه اإللهان اللذان جاءت منهما اآللهة<br />
ومن أعقابهما أعظم اآللهة لدى البابليني وهو<br />
»مردوخ«.<br />
واخلالصة أن هذه األسطورة البابلية<br />
بشأن خلق الكون تعتبر بوجه عام ضمن تلك<br />
األساطير التي سادتها فكرة عدم التكون الذاتي،<br />
أو النشأة الذاتية للكون، بل إن »الهيولي« الذي<br />
هو املادة األولى للكون، الذي كان على هيئة<br />
مياه )water( قد انقسم بقوة إلهية إلى مياه<br />
علوية وأخرى سفلية. ومن املياه السفلية برزت<br />
األرض كجزيرة، ومن ذلك يتضح أن املادة<br />
األولى للكون، واجلوهر واألوحد للوجود، في<br />
اعتقاد البابليني هو املاء الذي هو أصل كل<br />
شيء.<br />
3 -التصور الكوني لدى اآلشوريني<br />
كانت قصص خلق الكون عند اآلشوريني ال<br />
تزيد على تلك الروايات، التي تواترت إليهم من<br />
أقدم األزمنة، والسيما تلك التي أثبتتها األلواح<br />
السبعة، كما سبق أن أحملنا، وكان اآلشوريون<br />
يتقبلون احلكايات الواردة في نصوصها القدمية<br />
وكأنها قضية مسلمة ال يعتريها الشك وال الظن،<br />
والسيما بعد أن أدخلوا على نصوصها األصلية<br />
تغييرات جوهرية فظيعة، وقد نقلوا هذه<br />
األسطورة عن بابل حيث كان بطلها مردوك<br />
Merduk بابلياً محلياً، فلما نقلها اآلشوريون<br />
استبدلوا ببطل بابل هذا بطل إقليمهم وهو<br />
آشور، وكان هذا بالفعل انتحاالً مألوفاً عند<br />
طائفة من القسس. وإذا كان مردوك )Murduk(<br />
ابن آيا ،Ea كما ترويه األسطورة البابلية، فإن<br />
أسطورة آشور تذهب إلى أن اإلله احمللي، وهو<br />
آشور بن خلمو وال خامو.<br />
وفي هذا السياق، أي معرفة التصور الكوني<br />
لدى اآلشوريون، نرى أن أغلب األحداث الدنيوية<br />
في أحاديث الناس وعاداتهم، كانت مرتبطة<br />
باألحداث الكونية الكبيرة، ولعل املثال املثير<br />
في هذا املجال هو التعويذة ضد الدودة التي<br />
كان اآلشوريون في عام ألف قبل امليالد يرون<br />
فيها سبب األلم في األسنان، وتبدأ التعويذة من<br />
نشوء الكون وتختتم بعالج ألم األسنان.<br />
التصورات اخلتامية حول الكون في حضارة<br />
وادي الرافدين.<br />
نخلص من كل ما سبق إلى أن الصراع بني<br />
النظام الكوني والهيولي، كان مأساة تستحق<br />
93<br />
حول الكون في التصور العراقي القدمي
التسجيل لدى أهل بالد ما بني النهرين األقدمني<br />
تتجدد كل عام. ومن ثم كانت امللحمة التي تتناول<br />
هذه األحداث ذات داللة وأثر خاصني في األدب<br />
الديني، وهي في سبع لوحات تعرف باألكدية<br />
باسم »إنوماإليش« Enuma-Elish وتعني »في<br />
األعالي حني«، ولسنا ندري على التحقيق<br />
تاريخ جتميعها أو تأليفها، ويعيد املؤرخون<br />
إرجاع امللحمة إلى العهد البابلي القدمي حوالي<br />
األلف الثاني قبل امليالد. وامللحمة تشير إلى<br />
تكوين املادة األولى للكون من عنصرين ماء<br />
عذب )مذكر(، وماء مالح )مؤنث( هما: »أبو«<br />
و»تيامة« هما أصل كل شيء - كما أحملنا سابقاً<br />
- وبعد الصراع بينهما يحل النظام في الكون،<br />
ولعلنا نستشف من وراء ذلك، العراك ضد ماء<br />
البحر واالنتصار بكسب جزء من البحر.<br />
وفي هذا السياق يؤكد الواقع التاريخي<br />
واحلضاري، أن التصور السومري للكون قد<br />
امتد تأثيره إلى حضارة بابل، حيث أدخل علم<br />
تكوين اخللق عند الكلدانيني في أحد أرقى<br />
عناصر الرطوبة في أصل األشياء، ومن الزواج<br />
األول خرج أوالً »الهمو« وزوجه »الهامو« وهما<br />
معبودان لم يكن الدور الذي قاما به ملحوظاً،<br />
ثم مرت فترة غير محددة وانبثق من الزوج<br />
األصلي »انشار« و»كيشاري« وهما ميثالن في<br />
ذاتيتهما كل السماء واألرض، ومنهما جاء ثالثة<br />
آلهة آخرون هم مجموعة اآللهة البابلية: آنو<br />
وإنليل وأيا، وقد قسم هؤالء اآللهة الثالثة<br />
الكون في ما بينهم، ألنه طبقاً لآلراء السامية،<br />
لم يكن مبقدور الشيء أن يوجد دون أن يكون له<br />
سيد، وكان »آنو« اإلله األكبر يحكم في السماء،<br />
وكان »إنليل« سيد اجلو واألرض، وكانت »آيا«<br />
املسماة »إنكي« في السومرية - حتكم أمواه<br />
احمليط البدئي، وكان لكل منهم طريقه اخلاص<br />
على مدار الشمس، وكانت مساكنهم على قمة<br />
السماوات.<br />
وكان يلي هذا الثالوث ثالوث آخر يتألف<br />
من إله القمر »سن« وإله الشمس »شماش«<br />
وإلهة هي الزهرة »عشتار«، وكان إله القمر<br />
يقيس الزمن ويعاقب املذنبني من امللوك بقضاء<br />
حياتهم في التأوهات والدموع، وكان إله الشمس<br />
هو القاضي األعظم، الذي أملى قوانني العدالة<br />
على امللوك، أما »عشتار«، فكانت إلهة احلرب<br />
وإلهة اللذة التي تسعى لغواية البشر، كما أنها<br />
كانت تعد أخت إله الشمس وفي الوقت نفسه<br />
أخت إلهة العالم السفلي.<br />
من هنا نرى أن كل مدينة في هذه احلضارة<br />
العريقة، قد اتخذت في األصل لنفسها إلهاً وآلهة،<br />
ثم تعددت اآللهة مبرور الزمن، وعلى رأسها<br />
الثالوث الذي يتكون من آنو )السماء( وإنليل )اجلو<br />
واألرض(، وآيا )املاء(. ولذا ميكن الذهاب إلى أن<br />
ثمة قصص ميثولوجية شرحت أخبار قصة خلق<br />
العالم والطوفان والبحث عبثاً عن احلياة األزلية،<br />
التي لم يستطع اإلنسان القدمي - وال حتى احلديث<br />
- الوصول إلى بعض مالمحها العامة، إال في ضوء<br />
الهداية الربانية، التي جاءت األديان وفي مقدمتها<br />
اإلسالم، لبلورة هذه املالمح ><br />
من أخبار الكسالى<br />
قيل لسهل بن هارون: خادم القوم سيدهم، فقال: هذا من أخبار الكسالى.<br />
)أراد: أن الكسالى يوردون مثل هذا القول ليغتر به من يقوم باخلدمة(.<br />
العدد - 692 يوليو 2016<br />
94
شخصيات<br />
الكويت عاصمة الثقافة اإلسالمية 2016<br />
فولتير و»رسالته في التسامح«<br />
د. عادل زيتون كاتب وأكادميي من سورية<br />
أغراني بالكتابة عن األديب والفيلسوف الفرنسي فولتير أمران، أولهما أنه كان<br />
من صُ نَّاع عصر التنوير والعقل، أي القرن الثامن عشر، ال في فرنسا فحسب وإنما<br />
في أوربا عامة. واألمر الثاني هو أن المبادئ التي وهبَ فولتير حياته من أجلها،<br />
قوالً وفعالً، مازالت هي أهداف اإلنسانية إلى يومنا هذا، مثل الحرية والعدالة<br />
والتسامح والمساواة، ونبذ التعصب واالستبداد والخرافات.<br />
وُلد فرانسوا ماري أرويه )وهو اسم فولتير<br />
احلقيقي( في باريس عام 1694. ودرس في الكلية<br />
اليسوعية في باريس، التي كانت أفضل مدرسة في<br />
فرنسا آنذاك. وقد تلقى، خالل السنوات السبع التي<br />
قضاها فيها، تدريباتٍ على دراسة التراث الكالسيكي<br />
)اليوناني والروماني(، وأظهر نبوغاً مبكراً في ميادين<br />
األدب. ثم درس القانون بناء على رغبة والده، الذي<br />
يعمل محامياً، ولكن فولتير لم ميارس احملاماة، ألنه<br />
كان شغوفاً باألدب.<br />
فولتير في إجنلترا<br />
سُ جن فولتير في الباستيل أكثر من مرة، كانت<br />
األولى منها عام 1717 بتهمة أنه كتب قصيدة هجاء<br />
بالوصي على العرش الفرنسي، وهو فيليب دوق<br />
أورليان. وُنفي فولتير إلى إجنلترا عام 1726، حيث<br />
أمضى فيها ثالث سنوات ّ تُعدُ من أهم محطات حياته،<br />
فقد اطلع على تقاليد املجتمع اإلجنليزي ونظامه<br />
السياسي، وأُعجب بالدستور اإلجنليزي الذي منح<br />
امللك صالحيات مطلقة لفعل اخلير، وقيَ ّد يديه في<br />
فعل الشر. كما أُعجب بالتسامح الديني السائد، وقال:<br />
»هذا هو بلد امللل والنِّحل، والرجل اإلجنليزي، باعتباره<br />
حراً، يسلك إلى السماء الطريق الذي يختاره«. وتأثر<br />
فولتير بالعالم اإلجنليزي نيوتن وشارك في تشييع<br />
جنازته. كما ألَّف كتاباً بعنوان »رسائل عن اإلجنليز«.<br />
من باريس إلى برلني<br />
في عام 1734 نُشر كتابه اآلنف الذكر في باريس<br />
بعنوان »رسائل فلسفية«. ويتألف الكتاب من خمس<br />
وعشرين رسالة، وهي في ظاهرها وصف للمجتمع<br />
اإلجنليزي، في حين كانت حتمل نقداً للمجتمع<br />
الفرنسي بكل ما فيه من صور االستبداد. ولهذا<br />
سرعان ما قامت السلطات الفرنسية مبصادرة الكتاب<br />
وإحراقه بحجة مخالفته »الدين واألخالق«. كما صدر<br />
أمر بالقبض على املؤلف، ولكن فولتير متكن من الفرار<br />
إلى دوقية اللورين املستقلة. وتلقى بعدها دعوة من<br />
ملك بروسيا فردريك األكبر، الذي كان يحيط نفسه<br />
بالفالسفة واألدباء والفنانين، وكان فولتير يرى فيه<br />
منوذجاً للملك »املستبد املستنير«. وبالفعل وصل<br />
فولتير إلى برلن نحو عام 1750، وخصص له امللك<br />
جناحاً في قصره. وبعد أن غادر فولتير أملانيا استقر<br />
به املقام في قرية فيروني، الواقعة في ضواحي جنيف،<br />
بعيداً عن حكام أملانيا وفرنسا. وسرعان ما وفد إليه<br />
كبار علماء وأدباء أوربا.<br />
الوفاة<br />
كانت زيارة فولتير األخيرة إلى باريس قبل وفاته<br />
95<br />
فولتير و»رسالته في التسامح«
بعدة أشهر، وأعلنت باريس ذلك اليوم إجازة رسمية<br />
ّ ونصَ بته األكادميية الفرنسية رئيساً لها. وفي 30 مايو<br />
1778 مات فولتير، أي قبل الثورة الفرنسية بعام واحد.<br />
ودفن في »البانتيون« في باريس، وهي مقبرة عظماء<br />
األمة الفرنسية.<br />
قضية آل كاالس<br />
ترك فولتير تراثاً ضخماً في ميادين الشعر والرواية<br />
والفلسفة والتاريخ، كما ألَ ّف »املعجم الفلسفي« وشارك<br />
في املوسوعة »اإلنسكلوبيديا« مع نخبة من علماء<br />
فرنسا آنذاك. ّ ويُعدُ كتابه »رسالة في التسامح« من<br />
أهم مؤلفاته، وكان الدافع الرئيس لتأليفه هو إنصاف<br />
عائلة كاالس من الظلم الذي حاق بها على أيدي قضاة<br />
محكمة تولوز في عام 1762. وفحوى هذه الواقعة، كما<br />
عرضها فولتير في مستهل الكتاب، أن العائلة كانت<br />
تعيش في مدينة تولوز، وتتألف من األب جان كاالس<br />
وزوجته وولديه مارك وبيير وابنتيه وخادمة. وكانت<br />
العائلة على املذهب البروتستانتي، في حني كان معظم<br />
أهالي تولوز على املذهب الكاثوليكي. وكان بيير قد<br />
حتول إلى الكاثوليكية دون اعتراض والده، كما كانت<br />
اخلادمة التي تشرف على تربية أوالده منذ ثالثني<br />
عاماً كاثوليكية. وكان ابنه مارك مييل إلى االكتئاب،<br />
والسيما أنه لم يُفلح في التجارة، وال في االنضمام إلى<br />
سلك احملامني ألنه ليس كاثوليكياً، ولهذا قرر االنتحار<br />
في اليوم الذي خسر فيه كل ما كان بحوزته من نقود<br />
في القمار. وبالفعل شنقَ مارك نفسَ ه على أحد أبواب<br />
البيت. واحتشد أهل تولوز حول املنزل وصاح أحدُ<br />
الرعاع، قائالً إن والده جان هو الذي شنقه ليمنعه من<br />
التحول إلى الكاثوليكية. وسرعان ما صدَ ّق أهل تولوز<br />
هذه الفرية، وبلغت الشائعة قاضي املدينة فصدَ ّقها<br />
بدوره من دون دليل، ّ وزجَ بآل كاالس في السجن. ودُفن<br />
مارك في حفل مهيب في إحدى الكنائس الكاثوليكية،<br />
واعتبره بعضهم شهيداً وقديساً. وأخيراً قرر قضاة<br />
تولوز إعدام جان كاالس )وعمره 68 عاماً( بتقطيع<br />
أطرافه وعظامه على الدوالب، ونُفّذَ احلكم في التاسع<br />
من مارس 1762. كما أمرت احملكمة بنفي بيير إلى<br />
أحد األديرة وباحلجر على شقيقتيه داخل دير آخر.<br />
وأُضيف الحقاً فصلٌ آخر لكتاب »رسالة في التسامح«<br />
يتضمن عرضاً آلخر حكم صدر في قضية آل كاالس،<br />
وخالصته أن زوجة جان تشجعت وذهبت إلى باريس<br />
بحثاً عن املساعدة والعدالة.<br />
وتبنى قضيتها عدد من كبار احملامني من دون<br />
مقابل. وهناك رواية تقول إنها ذهبت إلى فيروني<br />
وقابلت فولتير الذي تبنى بدوره القضية. ومتكن<br />
احملامون من استصدار قرار بإعادة احملاكمة آلل<br />
كاالس في باريس، وأمر مجلس الدولة، مبوافقة امللك،<br />
بجلب ملف احملاكمة السابقة من تولوز إلى باريس.<br />
واستمرت جلساتُ إعادة احملاكمة ثالث سنوات.<br />
وفي التاسع من شهر مارس 1765 صدر قرار محكمة<br />
باريس بإجماع القضاة بتبرئة جان كاالس وأسرته،<br />
وأجازت آلل كاالس مقاضاة قضاة تولوز واحلصول<br />
على النفقات والتعويضات منهم، وعمَ ّت الفرحةُ أنحاء<br />
فرنسا. ومن املصادفة أن يكون قرار البراءة في اليوم<br />
نفسه الذي مت فيه إعدام جان قبل ثالث سنوات.<br />
رسالة التسامح<br />
ألَ ّفَ فولتير كتابَه »رسالة في التسامح« ونشره في<br />
الوقت الذي كانت تُتخذ فيه إجراءات إعادة محاكمة<br />
آل كاالس في باريس. وقد استهدف فولتير من ذلك<br />
التشهير باحلكم الذي صدر بحق آل كاالس من قِ بَل<br />
قضاة تولوز، وإيقاظ الشعور بالعدالة في فرنسا،<br />
وإعطاء دفع معنوي لقضاة باريس بفِ كْره وحتليله<br />
العميق لكل جوانب القضية، بغية حتقيق العدالة<br />
وإنصاف هذه األسرة املنكوبة، والتأكيد على أن جان<br />
كاالس ذهب ضحية التعصب الديني، وأن جرمية قتله<br />
قد اقترفت بسيف العدالة في مدينة تولوز، وأنه لم<br />
يكن بني يدي املتهم للدفاع عن نفسه سوى فضيلته.<br />
بعد أن عرض فولتير قضية آل كالس تناول، بالنقد<br />
والتحليل، بعض جوانب موضوع التسامح، التاريخية<br />
منها والفلسفية والدينية واإلنسانية، ومنها:<br />
- 1 يقول فولتير: لقد أعلن البروتستانت سابقاً<br />
العصيان املسلح في بعض املدن الفرنسية، وذلك<br />
عندما عاملهم الكاثوليك معاملة سيئة. والسؤال: هل<br />
سيعلنون العصيان ثانية عندما يعاملهم هؤالء معاملة<br />
حسنة؟ يجيب فولتير بالنفي، ألن ما حدث في ظرف<br />
معيني ليس بالضرورة أن يحدث في ظرف مغاير،<br />
والسيما أن أبناء اجليل احلالي ليسوا على همجية<br />
آبائهم، فعامل الزمن وتطور العقل وانتشار الثقافة<br />
العدد - 692 يوليو 2016<br />
96
الكويت عاصمة الثقافة اإلسالمية 2016<br />
97<br />
فولتير و»رسالته في التسامح«
واعتدال طبائع املجتمع، كل هذا فعل فعله، فقد<br />
تغيرت األزمان وتغيرت معها أساليب املعاجلة. لذلك<br />
من غير املعقول أن ندمر اليوم جامعة السوربون بحجة<br />
أنها تقدمت في القرن اخلامس عشر بعريضة طالبت<br />
فيها بحرق جان دارك.<br />
- 2 يتحدث فولتير عن التسامح الديني في بعض<br />
بلدان الشرق األقصى، ويقول، مثالً، إذا كان إمبراطور<br />
الصني يونغ )ت: 1735( قد طرد الرهبان اليسوعيني<br />
من بالده، فإن ذلك لم يكن نتيجة االضطهاد الديني،<br />
وإمنا ألن هؤالء أثاروا الشغب في البالد بسبب<br />
مشاحناتهم مع الرهبان الدومنيكان. وكذلك احلال في<br />
اليابان، التي كان أهلها أكثر الناس تسامحاً، وتعايشت<br />
فيها اثنتا عشرة ديانة بأمان وسالم، ولكن عندما جاء<br />
اليسوعيون رفضوا بقية األديان، وتسببوا في نشوب<br />
حرب أهلية، وبالتالي زالت املسيحية من اليابان،<br />
وأغلق اليابانيون إمبراطوريتهم في وجه بقية العالم.<br />
وهذا دليل على النتائج اخلطيرة للتعصب الديني.<br />
- 3 يقول فولتير: لو لم تُوفّْر معاهدة وستفاليا<br />
)التي عُقدت بني الدول األوربية في عام 1648 بعد<br />
حروب دينية استمرت عشرات السنوات( حريةَ<br />
املُعْتقد، لكانت أملانيا اليوم صحراء تغطيها بقايا<br />
عظام البروتستانت والكاثوليك، الذين ذبح بعضهم<br />
بعضاً. ويؤكد فولتير أن خير وسيلة للتخفيف<br />
من هوس املتعصبني دينياً اعتماد العقل الرشيد<br />
الذي يحث على خنق الفتنة في املهد والتمسك<br />
بالفضيلة.<br />
- 4 يرى فولتير أن التعصب الديني يخالف<br />
الطبيعة البشرية، فاملبدأ األساس لكل القوانني<br />
واحد في كل أرجاء املعمورة، وهو »عامل اآلخرين<br />
بالطريقة التي ترغب أن يعاملك اآلخرون بها«.<br />
وانطالقاً من هذا القانون، كما يقول فولتير، ال<br />
يحق إلنسان أن يقول إلنسان آخر: »تخلَّ عن دينك<br />
واعتنق ما أؤمن به وإال مصيرك القتل أو املوت«.<br />
- 5 يشير فولتير إلى التسامح الديني في<br />
العصور القدمية، ويقول إن الشعوب كانت حتترم<br />
آلهة بعضها حتى ولو كانت في حالة حرب،<br />
فالطرواديون كانوا يُصَ لون آللهة أعدائهم اإلغريقي<br />
في أثناء قتالهم. وعندما غزا اإلسكندر املقدوني<br />
مصر ذهب إلى الصحراء الليبية الستشارة اإلله<br />
املصري آمون. ويَخْ لص فولتير إلى القول: إن الدين<br />
كان في أوج احلرب يجمع بني البشر.<br />
- 6 يتحدث فولتير عن التسامح الديني في<br />
العصر الروماني، حيث ينفي تعرض املسيحيني<br />
لالضطهادات الدينية، ألن احلرية الدينية كانت<br />
مباحة في اإلمبراطورية. ويؤكد أن ما عانى منه<br />
املسيحيون من قتل وتعذيب لم يكن ألسباب دينية،<br />
بل ألمور تتعلق بأمن الدولة الرومانية، فبعض<br />
املسيحيني احتقروا آلهة الرومان وقوَ ّضوا معابدَهم<br />
ومزقوا مراسيم األباطرة. ويضيف فولتير: لو<br />
ّ صحَ أن الرومان اضطهدوا املسيحيني ملمِ َا وجدنا<br />
أساقفة الرومان األوائل ينعمون باألمن والسالمة،<br />
وملَا سمح الرومان بعقد املجالس الكنسية، وملمِ َا<br />
متكن املسيحيون من التبشير بدينهم في أرجاء<br />
اإلمبراطورية. ويقول: لو فرضنا أن األباطرة<br />
اضطهدوا املسيحيني بسبب دينهم، فالرومان في<br />
هذه احلالة مدانون، فهل نريد اقتراف مثل هذا<br />
الظلم بدورنا؟<br />
- 7 يؤكد فولتير أن السيد املسيح لم يضع<br />
قوانني دموية، ولم يأمر بالتعصب أو ببناء سجون<br />
محاكم التفتيش، ولم يُنصّ ب جالدي احملارق، بل<br />
توسل إلى الله كي يغفر ألعدائه.<br />
- 8 يختتم فولتير رسالته بدعوة املسيحيني في<br />
عصره إلى أن يكونوا متسامحني مع بعضهم ومع<br />
كل أصحاب األديان والعقائد، ويقول: إنها جسارة<br />
المتناهية أن نحكم باللعنة األبدية على كل من ال<br />
يفكر على منوالنا.<br />
لقد أحدث كتاب فولتير »رسالة في التسامح«<br />
تأثيراً عميقاً في املجتمع الفرنسي. وأسهم في<br />
تغيير كثير من مالمح احلياة في أوربا عامة، من<br />
خالل دعوته إلى التسامح واحلرية وحتكيم العقل<br />
ونبذ اخلرافات واألساطير، وبنيَّ أن التعصب<br />
يتنافى مع الطبيعة اإلنسانية وجوهر األديان.<br />
ولعبت أفكارُه وأفعالُه دوراً مهماً في التمهيد للثورة<br />
الفرنسية وصوغ أهدافها في احلرية واملساواة<br />
واإلخاء. وميثل قوله املشهور »إني أخالفك الرأي<br />
ولكني أدافع عن حقك في الكالم وحرية التعبير<br />
عن أفكارك حتى املوت«، دعوة دائمة للتسامح<br />
واحلرية ><br />
العدد - 692 يوليو 2016<br />
98
شخصيات<br />
الكويت عاصمة الثقافة اإلسالمية 2016<br />
أحمد شفيق الخطيب:<br />
البيت العربي أشدُّ فقراً في المعاجم<br />
محمد عويس<br />
كاتب من مصر<br />
أحمد شفيق اخلطيب<br />
بدأ أحمد شفيق الخطيب )2015-1929( حياته<br />
العملية مُ درساً للعلوم وطالباً جامعياً في الوقت<br />
نفسه - وبذلك تمكن من إتمام دراسته الجامعية<br />
وحصل على بكالوريوس في العلوم، ثم ماجستير<br />
في اآلداب. وفي عام 1964 بدأ العمل مستشاراً علمياً<br />
في دار النشر التابعة لمكتبة لبنان ومحرراً للسالسل<br />
التي نشرتها لتغطية البرامج المُ قررة المُ جددة في<br />
العلوم والرياضيات.<br />
ومع نشأة قسم املعاجم في املكتبة حتول إلى<br />
العمل املُعجمي حتريراً وتأليفاً, وكان رحمه الله يرى<br />
أن قضية املُعجم العربي ماضياً وحاضراً ومُستقبالً<br />
ليست مُنفصلة عن قضية اللغة العربية نفسها، بل<br />
عن قضية اإلنسان العربي والشعب العربي ككل،<br />
وأن مُثقفينا مع األسف ال يُقارنون إيجابياً حتى مع<br />
أشباه املثقفني في الغرب من حيث الوعي املُعجمي،<br />
فالكثير من أوالدنا وطُ البنا قد يُنهُون حتى تعليمهم<br />
اجلامعي دون أن يعُوا دور املعجم العربي أو يتعودوا<br />
استعماله روتينياً. ومما يؤمله »أنه على فقر البيت<br />
العربي في املكتبات, فإنه أشدُّ فقراً في املعاجم«.<br />
ولد اخلطيب في قرية القبية )على مقربة<br />
من نهر روبيني على بُعد حوالي 15 كم جنوبي يافا<br />
- فلسطني( عام 1929, وأمت تعليمه االبتدائي<br />
والثانوي في مدارس حكومة االنتداب ثم في<br />
كلية الفرندز في رام الله, ومنها التحق باجلامعة<br />
األمريكية. وفاجأته النكبة عام 1948م وكان قد<br />
أمت السنوات اجلامعية الثالث املؤهلة لدخول كلية<br />
الطب، فاضطر إلى االنقطاع عن الدراسة. وجعلته<br />
معاجم اخلطيب العلمية واللغوية معروفاً في حقل<br />
املُعجمية في شتى أرجاء الوطن العربي من املُ يط<br />
إلى اخلليج وجتاوزتها إلى ما وراء البحار ومن هذه<br />
السلسلة:<br />
< مُعجم املصطلحات العلمية والفنية والهندسية,<br />
إجنليزي - عربي, صدر عام 1970, وأُعيد طبعه<br />
عشر مرات قبل أن يُجدد ويُوسع ويصدر في<br />
نسختني: إجنليزي - عربي, ثم عربي - إجنليزي,<br />
ومنذ طبعاته األولى اختار احتاد املهندسني العرب<br />
هذا املُعجم أساساً لتعريب التعليم الهندسي في<br />
الوطن العربي.<br />
< مُعجم مصطلحات البترول والصناعة<br />
النفطية, إجنليزي - عربي.<br />
< مُعجم الشهابي في مصطلحات العلوم<br />
الزراعية, إجنليزي - عربي.<br />
99
اثنا عشر مُعجماً )إجنليزي - إجنليزي -<br />
عربي( في علوم الكيمياء واجليولوجيا والفيزيقا<br />
والنبات واحليوان واألحياء والفلك والفضائيات وعلم<br />
الكمبيوتر وعلم التغذية واجلغرافيا والرياضيات -<br />
بالتعاون مع شركة لونغمان, لندن 1994-1978م، ثم<br />
قاموس العلوم املصور/إجنليزي-عربي يشمل املادة<br />
العلمية في االثني عشر مُعجماً 2001م.<br />
< قاموس املُتعلم للجيب -إجنليزي-إجنليزي-<br />
عربي, يشمل ثالثة آالف كلمة هي األكثر شيوعاً في<br />
اللغة اإلجنليزية.<br />
تثقيف الناشئة علمياً<br />
وفي زحمة العمل واملسؤوليات املُعجمية،<br />
مارس اخلطيب الترجمة كهواية في مجاالت علمية<br />
تستهدف التثقيف العلمي للناشئة. وفي هذا املجال<br />
قدم ما يزيد على ثمانين كُتيباً في مجاالت العلوم<br />
مُختارة من سلسلة »ليدبيرد« العاملية, وسلسلة<br />
»الفراشة« املُتعددة املصادر. كما أجنز ما يزيد على<br />
اثني عشر عمالً علمياً موسوعي الطابع, تخدم<br />
الثقافة العلمية للعائلة العربية.<br />
وبتكليف من مؤسسات رسمية قام اخلطيب<br />
بترجمة مرجع اليونسكو في تعليم العلوم 1976م,<br />
ثم مرجع اليونسكو اجلديد في تعليم العلوم<br />
1977م, ثم التربية العلمية والتكنولوجية في التنمية<br />
الوطنية1984م. وبتكليف من منظمة األوابك<br />
)منظمة األقطار العربية املُصدرة للبترول( نقل إلى<br />
العربية: مسرد مصطلحات الطاقة املُتعدد اللغات<br />
1988م. ثم مُعجم الطاقة - إجنليزي - فرنسي -<br />
عربي 1994.<br />
وبحكم عمله وعالقاته مع املؤسسات املصطلحية<br />
في املنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم ومكتب<br />
تنسيق التعريب وسواها، شارك في عدد من<br />
الندوات واملؤمترات الدولية في املجاالت املعجمية<br />
واملصطلحات في تونس, القاهرة, دمشق, عمان,<br />
طرابلس, املنامة, الشارقة, باريس, بيروت... الخ.<br />
مجمع اللغة<br />
ومُنح اخلطيب العضوية الشرفية ملجمع اللغة<br />
العربية األردني عام 1981, واختاره مجمع اللغة<br />
العربية بالقاهرة عضواً مراسلالً من فلسطن عام<br />
1988, ثم عُن عضواً عامالً عام 2000م, كما عُن<br />
عضواً عامالً في مجمع اللغة العربية الفلسطينى<br />
عام 1995, واختير عضواً مُراسلالً في مجمع اللغة<br />
العربية بدمشق عام2000م.<br />
وللخطيب عدد من البحوث املعجمية الرائدة<br />
منشورة في مجلة مجمع اللغة العربية بالقاهرة,<br />
منها: »ألفاظ احلضارة بن العامي والفصيح,<br />
تعريب العلوم: القضية, التعريب حديث قدمي<br />
مُتجدد, من قضايا اللغة العربية: العربية ومشاكلها<br />
في مجال املصطلحات العلمية, القواميس فن وعلم,<br />
املُصطلحية واملُصطلحات: قراءة في مشروع مُعجم<br />
مصطلحات علم املياه, من مشروعات مكتب تنسيق<br />
التعريب - املغرب«.<br />
ووفق زوجته، فقد كانت تستحوذ عليه القواميس،<br />
ليس كمادة عمل فقط بل كهواية أيضاً - كمادة قراءة<br />
فيها ومنها وعنها, للفائدة أحياناً وللتسلية أحياناً.<br />
وكان يرى أنه من بسائط التقانة املُعجمية أن يلتزم<br />
القاموس شكالً واحداً للفظ الذي يُعاجله كمدخل<br />
أو كلفظة في مادة الشرح, باعتبار أن القاموس هو<br />
مرجع في املبنى, كما في املعنى. وهذا ال جندُه<br />
مُطبقاً دائماً في معاجمنا.<br />
ومما كان يتمنى اخلطيب رؤيته في معاجمنا<br />
اللغوية: إيراد معلومات عن اللفظة أكثر من مُرادفها<br />
ونقيضها وتفسيرها - كأن يُشار ليس فقط إلى<br />
طبيعة الكلمة نفسها, إن كانت من املعرب أو املولد<br />
أو الدخيل, بل أيضاً إلى مستواها من حيث أنه<br />
استعمال تأدبي أو رسمي أو فصيح أو عامي أو<br />
حُ وشي أو مهجور, وفي حال الفعل أن يُشار إلى<br />
لزومه أو تعديه, وإلى حروف اجلر التي تلحقُ به,<br />
وفي كثير من احلاالت تُغيرُ معناه مثل رغب, ورغب<br />
إلى, ورغب عن, ورغب ب, ورغب في. أيضاً ينبغي<br />
أن يشمل التطور التوسيعي ما جد أو يجدّ من<br />
األلفاظ العلمية واملصطلحات الواسعة االنتشار,<br />
إذ كان اخلطيب حريصاً في جلسات مؤمتر املجمع<br />
اللغوي في القاهرة التي تُعالج ما يُعرض من مواد<br />
املُعجم الكبير على اقتراح إدراج ما هو مُهم من املواد<br />
العلمية املعجمية املُجمعة لدى املجمع التي أقرها<br />
وغير الواردة في مواقعها من املعجم, وكان دائماً<br />
العدد - 692 يوليو 2016<br />
100
الكويت عاصمة الثقافة اإلسالمية 2016<br />
101<br />
أحمد شفيق اخلطيب: البيت العربي أشدُّ فقراً في املعاجم
ما يجد جتاوُباً حسناً من جلنة<br />
املُعجم فقد كان على قناعة بأن<br />
هذا التطور أو التطوير ضروري<br />
لبقاء اللغة العربية لُغة اتصال<br />
فعالة - نحققه بخلق مفهوم<br />
اللفظ من مفهوم لفظ يُقاربه<br />
بالتعريب ترجمةً. كما كان<br />
اخلطيب يتطلع إلى مُعجم عربي<br />
مبستوى لغوي وفني ومعلوماتي<br />
بتقانات معجمية حديثة<br />
يُضاهي معاجم OXFORD أو<br />
Larousse مثالً, معجم يوجد<br />
في كل بيت, ويُتهادى في كل<br />
مناسبة.<br />
شرح »معجم«<br />
ويشرح اخلطيب كلمة »مُعجم«، الفتاً إلى<br />
أنها سبقت لفظة »قاموس« للداللة على معناها<br />
املتعارف مبعنى كتاب يحوي مفردات اللغة أو<br />
مختارات منها، مرتبة وفق نظام معني، يشرح<br />
معانيها ويبني دالالتها. واللفظة »معجم« هي أصالً<br />
من اجلذر عجم: يُقال: عجم احلرف أو الكتاب أي<br />
أزال إبهامه بالنقط والشكل. وأعجم الشيء: أزال<br />
غموضه وأوضح مدلوله.<br />
ومن هذه الداللة جاءت تسمية احلروف<br />
الهجائية ب »حروف املعجم«، نظراً لكون النقط<br />
في كثير منها يزيل التباسها. ومنها أيضاً جاءت<br />
تسمية الكتاب الذي يزيل التباس معاني الكلمات<br />
وغموضها ب »املعجم«. وكلمة »قاموس« تعني لغوياً<br />
البحر. وإمنا اكتسبت معناها املتعارف أواخر القرن<br />
التاسع عشر مع بدايات عصر النهضة احلديثة,<br />
وقصتها تبدأ مع القاموس احمليط ملجد الدين<br />
أبوطاهر محمد بن يعقوب الفيروز آبادي )1329<br />
– 1415م(، وهو معجم لغوي يعد أشمل املعاجم<br />
املتوسطة احلجم، احتذى فيه الفيروز آبادي نهج<br />
الصحاح، أي بالترتيب األبجدي على أواخر أصول<br />
الكلمات – وهو في رأيي ورأي الكثيرين الترتيب<br />
األمثل الذي تقتضيه طبيعة اللغة العربية بسعتها<br />
االشتقاقية التي ال جتارى. وقد حظي »القاموس<br />
احمليط« باهتمام العلماء<br />
والدارسيني شرحاً ودرساً<br />
واختصاراً ونقداً وتعليقات<br />
مبا لم يحظ به أي موقف<br />
آخر.<br />
وفي بدايات عصر<br />
النهضة صدر القاموس<br />
احمليط مطبوعاً في الهند ثم<br />
في مصر عام 1872م، وكانت<br />
نسخ هذا املعجم تعد باآلالف<br />
قبل صدوره مطبوعاً. ونقده<br />
مطوالً أحمد فارس الشدياق<br />
)1804– 1888م( في »اجلاسوس<br />
على القاموس« وأحمد تيمور<br />
باشا )1871 – 1930( في »تصحيح القاموس«<br />
– فلال غرابة أن القى القاموس احمليط املطبوع<br />
انتشاراً واسعاً بني جماهير املتعلمني كأهم مرجع<br />
ملعرفة مفردات اللغة.<br />
واختصر االسم من القاموس احمليط إلى<br />
كلمة »القاموس« فقط، وأخذت اللفظة تشيع<br />
على ألسنة الناس مبعناها املتعارف اليوم، حتى<br />
طغت أو كادت على لفظة معجم. وعندنا ألف<br />
سعيد الشرتوني »أقرب املوارد« عام 1890<br />
أثبت فيه املعنى املولد – فقال: القاموس:<br />
البحر، والقاموس: كتاب الفيروز آبادى في<br />
اللغة العربية لقبه بالقاموس احمليط، ويطلقه<br />
أهل زماننا على كتاب في اللغة، فهو يرادف<br />
عندهم كلمة معجم. وبلغ من شيوع اللفظة أنك<br />
لو تطلب املدخل »معجم« في املوسوعة العربية<br />
امليسرة، الصادرة عام 1959، فلن جتد مقابل<br />
اللفظة إال اإلحالة – انظر: قاموس! وقد أقر<br />
مجمع اللغة العربية هذا املفهوم في املعجم<br />
الوسيط في طبعاته الثالث منذ 1962، حيث<br />
يقول: القاموس البحر العظيم، والقاموس علم<br />
على معجم الفيروز آبادي وكل معجم لغوي<br />
على التوسع. والالفت أن علماء العربية الذين<br />
دونوا مفردات اللغة وشرحوها في مؤلفاتهم لم<br />
يستخدموا لها لفظة »معجم«، بل حرصوا على<br />
تسميتها بأسماء مختلفة ><br />
العدد - 692 يوليو 2016<br />
102
ملف<br />
الكويت عاصمة الثقافة اإلسالمية 2016<br />
أسهمت في ترجمة ونشر األدب العربي في أرجاء أوربا<br />
ناشرة بقدرات مؤسسة كاملة<br />
رمبا يكون اهتمام الغرب اليوم<br />
باألدب العربي أكثر قليلاً مما كان<br />
عليه األمر سابقاً ألسباب عديدة<br />
تتعلق باملشكات التي متر بها املنطقة،<br />
وأزمات الاجئني الذين توافدوا على<br />
أوربا أخيراً، ولكن الافت أن أي درجة<br />
لتسويق األدب العربي في الغرب لم<br />
تتم عبر مؤسسات عربية، كما هو<br />
املفترض، بل عبر مبادرات فردية،<br />
ملترجميني أوربييني، أو حتى بعض<br />
مؤسسات الثقافة الغربية املهتمة<br />
بالتبادل واحلوار الثقافيني، بل إن<br />
هناك أفراداً يلعبون دوراً مياثل في<br />
قوته وتأثيره دور املؤسسات، ومع<br />
األسف ال نلتفت لهم في ثقافتنا<br />
العربية أو إعامنا العربي كثيراً.<br />
واليوم نقدم على صفحات<br />
»العربي« ملفاً عن واحدة من هؤالء<br />
املخلصني، الذين بذلوا جهداً كبيراً<br />
ورائداً في ترجمة األدب العربي<br />
في الغرب، وتسويقه ومحاولة<br />
التعريف به على مدى أكثر من<br />
عقدين.<br />
مارجريت أوبانك، الناشرة<br />
البريطانية، التي أسست مجلة<br />
»بانيبال« في لندن خال فبراير<br />
1998، قدمت على مدى العقدين السابقني قصصاً وأعماالً سردية لكبار الروائيني العرب، وكذلك<br />
في الشعر احلديث واملعاصر، للكتَّاب العرب من جميع األجيال، وعلى اتساع خريطة األدب العربي، من<br />
مصر واملغرب وسورية والسودان ولبنان ومنطقة اخلليج، بل إنها خصصت عدداً خاصاً من املجلة للتعريف<br />
فقط بأدباء الكويت، واملشهد الثقافي فيها. مع العلم بأن هذه املجلة شقت طريقها با دعم تقريباً من أي<br />
جهة، تأكيداً الستقالية املشروع، كما أن هذا اجلهد الهائل لم يقم به سوى فردين فقط، هما مارجريت<br />
أوبانك بالتعاون مع الكاتب العراقي صموئيل شمعون، الذي يساعدها في جميع تفاصيل التخطيط<br />
وجتهيز أعداد هذه املجلة واختيار املترجمني وحتى صدور العدد.<br />
»العربي«<br />
103
ملف<br />
مارجريت أوبانك: األدب العربي<br />
جزء جوهري من الحضارة اإلنسانية<br />
حوار: إبراهيم فرغلي<br />
نقدم في هذا الملف حواراً شامالً مع أوبانك حول تجربتها، ورأيها في أدب<br />
العالم العربي، ومدى انتشار األدب العربي اليوم في الغرب، مقارنة بما<br />
كان عليه األمر في السابق، إضافة إلى شهادات من بعض الكتَّاب العرب<br />
حول الدور الذي لعبته والتزال أوبانك و»بانيبال« في دعم األدب العربي في<br />
الغرب وللقارئ الغربي. وفي هذا الحوار نتعرّف على األسباب التي دعت<br />
سيدة بريطانية مشغولة باألدب اإلنجليزي والفلسفة إلى األدب العربي<br />
ليس قراءة فقط، بل وشغفاً جعلها راغبة في نشره إلوسع مجال ممكن.<br />
< كيف بدأت عالقتك باألدب العربي، وما<br />
الظروف التي جعلتك تتحمسين لدعم هذا األدب<br />
في الغرب بشكل عام؟<br />
- كنت محاطة منذ طفولتي برفوف من الكتب،<br />
فأنا ابنة رجل صحفي كان يعمل مديراً لتحرير<br />
صحيفة »األوبزفر« اللندنية، حيث كانت الكتب<br />
السياسية والفكرية واألدبية متوافرة في كل أرجاء<br />
املنزل. كان هناك كثير من كتب الشعر، أيضاً. وفي<br />
ما بعد حني درست األدب اإلجنليزي والفلسفة في<br />
جامعة ليدز، كان لدي عديد من األصدقاء العرب،<br />
وخصوصاً من العراقيني والفلسطينيني. ومن املؤكد<br />
أنني تأثرت بهؤالء األصدقاء وأحببت أن أعرف<br />
املزيد عن العالم العربي، وبخاصة أنني كنت متعاطفة<br />
دائماً مع القضية الفلسطينية، وهو أمر لم يدفعني<br />
فحسب إلى قراءة الروايات العربية املترجمة إلى<br />
اإلجنليزية، وإمنا أيضاً إلى تلقي دروس في تعلم<br />
اللغة العربية. أتذكر أنني قرأت حينذاك أعماالً<br />
مترجمة لنجيب محفوظ، إيتيل عدنان، إدوارد<br />
سعيد، نوال السعداوي، وبعض الترجمات األخرى،<br />
تفصيلة من لوحة للفنان العراقي فيصل لعيبي.<br />
التي كانت قليلة جداً. وهنا أستغل هذه الفرصة<br />
ألشكر املترجم الكبير دينيس جونسون ديفيز، الذي<br />
يعتبر رائد الترجمة من العربية إلى اإلجنليزية.<br />
العدد - 692 يوليو 2016<br />
104
الكويت عاصمة الثقافة اإلسالمية 2016<br />
الكاتبة البريطانية احلائزة على جائزة نوبل لأدب دوريس ليسينغ ومارجريت أوبانك<br />
< كيف نشأت فكرة »بانيبال«، وما الدور الذي<br />
تقومني به فيها، وكيف تطورت الفكرة تدريجياً؟<br />
- في عام 1996 تعرفت إلى الكاتب العراقي<br />
صموئيل شمعون، الذي كان يعمل في جريدة<br />
عربية أسبوعية تصدر في لندن، كنا نتحدث عن<br />
األدب باستمرار، وخصوصاً عن أسباب عدم توافر<br />
ترجمات للروايات العربية، هذه األحاديث انتهت<br />
ذات يوم بسؤال: ملاذا ال توجد مجلة مختصة في<br />
ترجمة األدب العربي؟ وهكذا قررنا أن نؤسس هذه<br />
املجلة، التي أسميناها »بانيبال« التي صدر العدد<br />
األول منها في فبراير1998، ومنذ ذلك احلني تصدر<br />
املجلة بانتظام، ثالث مرات في العام.<br />
ما دوري؟ حسناً. منذ البدء قسّ منا العمل في ما<br />
بيننا، يقوم صموئيل بقراءة واختيار املواد والتواصل<br />
مع املؤلفني، وبعد إرسالها إلى الترجمة، يبدأ عملي<br />
في برمجة املواد ومراجعة الترجمات وحتريرها<br />
لتكون صاحلة للنشر. ومبا أننا فريق صغير، وال<br />
منلك املال لتشغيل أشخاص آخرين معنا، كنت<br />
أقوم بكل املهام الفنية واإلدارية، مثل إخراج املجلة،<br />
وتوزيعها وعمل االشتراكات واملراسالت.<br />
< من خالل اطالعك على جتارب أدبية عربية<br />
مترجمة واختالطك بالوسط األدبي العربي، ما<br />
تقييمك للأدب العربي بشكل عام، وما تقديرك<br />
لوضع األدب العربي في خريطة األدب العاملي؟<br />
- أوالً البد أن أقول إنني معجبة باألدب العربي،<br />
وإال ملا كنت أنشئ مجلة تختص بترجمة األدب العربي<br />
وترويجه عاملياً. من خالل قراءاتي األولى وما أقرأه<br />
اليوم، الحظت أن اجليل السابق من األدباء العرب<br />
كان يكتب عن قضايا التحرر الوطني، أدب املقاومة،<br />
والصراع بيني الريف واملدينة والعدالة االجتماعية،<br />
بينما الروايات الراهنة اجلديدة متتلك مواضيع<br />
متنوعة جداً، ونسيجها غني جداً. هناك جرأة<br />
في طرح كثير من القضايا التي كانت محرمة في<br />
السابق، فضالً عن أن األدباء الذين ينتجون األدب<br />
العربي اآلن ينتمون إلى جميع الفئات العمرية.<br />
ال شك في أن األدب العربي جزء مهم من<br />
األدب العاملي، وصار يلفت انتباه واهتمام الناشرين<br />
الغربييني الذين توصلوا إلى ضرورة سماع جميع<br />
أصوات العالم. فعندما يعبر األديب عن روح<br />
الثقافة التي ينتمي إليها، فإمنا يعبّر في الوقت<br />
105<br />
مارجريت أوبانك: األدب العربي جزء جوهري من احلضارة اإلنسانية
جنيب محفوظ يتوسط مارجريت أوبانك والناقد روجر ألني وخلفهم املترجم راميوند ستوك<br />
ذاته عن صوت اإلنسانية بشكل عام. لقد كتبت<br />
في افتتاحية العدد األول من مجلة »بانيبال«<br />
في عام 1998، أن هذه املجلة اجلديدة التي تُعنى<br />
بترجمة األدب العربي إلى اإلجنليزية ترتكز على<br />
ثالثة أعمدة رئيسة، هي: أوال، األدب العربي جزء<br />
جوهري من الثقافة العاملية واحلضارة اإلنسانية؛<br />
وثانياً، ضرورة استمرار تعميق احلوار بني الثقافات<br />
املختلفة؛ وثالثاً، املتعة والتثقيف اللذان يحصل<br />
عليهما املرء من قراءة الشعر اجلميل ومن قراءة<br />
األعمال اإلبداعية، ضروريان من أجل الوجود<br />
اإلنساني.<br />
< عبر خبرتك في التعرف على األدب العربي<br />
املترجم، وكونك بريطانية تعرف ذائقة القارئ<br />
الغربي، والوسط الثقافي الغربي عموما، هل<br />
تعتقدين أن ما تبذلني من جهد، إضافة جلهود<br />
املؤسسات الداعمة لألدب العربي، أسهم في إحداث<br />
تغيير ما في إقبال القارئ الغربي على األدب<br />
العربي؟<br />
- لقد لعبت مجلة بانيبال دوراً كبيراً في إحداث<br />
تغيير هائل في مجال ترجمة األدب العربي إلى<br />
اللغة اإلجنليزية، وعبر اإلجنليزية إلى لغات أخرى،<br />
ولإلجابة عن هذا السؤال، سوف أحتاج إلى مجال<br />
أوسع لتعداد ما أجنزناه. ولكن لالختصار، دعنا<br />
نقرأ ما كتبه األكادميي البريطاني واملترجم املعروف<br />
روجر ألني عن مجلة بانيبال: »أما بالنسبة للناطقني<br />
باللغة اإلجنليزية فقد كان دور مجلة بانيبال محورياً<br />
وأساسياً في تعريف القراء الناطقني باإلجنليزية<br />
أوالً بأن الكتّاب العرب يكتبون أدباً ممتازاً، وثانياً<br />
بأن األدب العربي هو عنصر فعّال ومساهم بشكل<br />
أساسي في التراث األدبي والثقافي العاملي املعاصر.<br />
العدد - 692 يوليو 2016<br />
106
الكويت عاصمة الثقافة اإلسالمية 2016<br />
من أغلفة مجلة بانيبال.<br />
ومن دون إسهامات مجلة بانيبال، فإن عالم النشر<br />
كان سيواصل تقدمي أعذاره الواهية واملكررة عن<br />
عدم وجود قراء وغير ذلك من أعذار«.<br />
< هل تعتقدين أن حركة ترجمة األدب العربي<br />
إلى اللغات األجنبية تتناسب مع حجم هذا األدب،<br />
وما املعوقات التي حتد من اإلقبال على ترجمته؟<br />
- هناك تطور هائل في ترجمة األدب العربي<br />
إلى اللغات األخرى. بالنسبة لإلجنليزية، عندما<br />
انطلقت »بانيبال« في فبراير1998، كان عدد الكتب<br />
التي تترجم إلى اإلجنليزية يتراوح بين 6 و 10<br />
كتب في عام، ولكننا حن احتفلنا في عام 2008<br />
بالعيد العاشر للمجلة، كانت ترجمة األدب العربي<br />
قد تغيرت بصورة ملحوظة، حيث بلغ عدد األعمال<br />
املترجمة في تلك السنة من العربية إلى اإلجنليزية<br />
47 رواية، وهو أعلى رقم بلغته حتى اليوم.<br />
نعم، هناك منو مستمر في ترجمة األدب<br />
العربي. لكن إذا حتدثنا عن اخليارات املترجمة،<br />
فإنني أقول لك إن ذلك يعتمد على الناشرين<br />
الغربين أنفسهم واعتباراتهم، وهي خيارات قد ال<br />
تكون مرضية دائماً.<br />
شيء آخر عزيزي إبراهيم، أريد أن أذكره<br />
هنا، وهو أنني من خلال وجودي في معارض<br />
الكتب العاملية ولقاءاتي مع ناشرين وأدباء من<br />
مختلف البلدان، سمعت كثيراً من الشكاوى حول<br />
قلة الترجمات من عديد من اللغات األجنبية إلى<br />
اإلجنليزية أو األملانية وغيرهما. إذا نظرنا إلى »كم«<br />
الترجمات من األدب العربي، فأعتقد أنه مناسب<br />
في الوقت احلاضر، وسوف يرتفع مع تطور األدب<br />
مارجريت أوبانك مع الشاعر السوري الراحل<br />
محمد املاغوط في دمشق<br />
... ومع الناقد املصري الدكتور جابر عصفور<br />
107<br />
مارجريت أوبانك: األدب العربي جزء جوهري من احلضارة اإلنسانية
الكاتب اجلزائري رشيد بوجدرة ومارجريت أوبانك<br />
العربي نفسه.<br />
< في ظل الصورة الشائعة اليوم عن العرب<br />
كمصدرين لإلرهاب، هل تغيرت الفكرة العامة عن<br />
األدب العربي، هل يؤدي ذلك إلى انحسار اإلقبال<br />
على أدب العرب أم العكس؟<br />
- لقد الحظت في اآلونة األخيرة أن ثمة اهتماماً<br />
من بعض الناشرين الغربيني الكبار، بأدباء جيدين<br />
من العالم العربي، وهذه املسألة في بداياتها اآلن.<br />
في النهاية، أرى أن الناشرين الغربيني سيلجأون<br />
إلى األدب احلقيقي، وليس فقط إلى ما يدغدغ<br />
تصوراتهم املسبقة.<br />
وفي ظل هذا الوضع، يبقى الكتَّاب العرب الذين<br />
يكتبون بلغات أجنبية هم األكثر شهرة في العالم<br />
الغربي، مثل راوي احلاج، ربيع علم الدين، أمني<br />
معلوف، طاهر بن جلون، جمال محجوب، أنطون<br />
شماس، هشام مطر، بوعالم صنصال، رفيق شامي،<br />
خالد مطاوع، وآخرين.<br />
< من موقعك كمراقبة خلريطة واسعة من<br />
األدب املكتوب بلغة واحدة، لكنه ينتمي الثنتني<br />
وعشرين دولة، هل تشعرين أن هناك اختالفات في<br />
طبيعة النصوص السردية أو الشعرية بني البلدان<br />
التي تنتج هذه النصوص، وهل تشعرين أن الرواية<br />
العراقية مثلالً تختلف عن السورية أو املصرية أو<br />
السعودية؟<br />
- هذا سؤال يحتاج إلى دراسة متأنية. بالنسبة<br />
إلي أستطيع أن أعرف هوية الكاتب من خالل وجبات<br />
الطعام أو أسماء األلبسة، طبعاً باإلضافة إلى<br />
»املكان« في الرواية. إن كانت ثمة اختالفات أخرى<br />
في النصوص األصلية، فإن الترجمة »تقضي« على<br />
كثير منها، وإذا تبقى شيء ما، فإنه سيتبع أسلوب<br />
وهوية املترجم. هناك ترجمات إجنليزية بريطانية،<br />
وترجمات إجنليزية أمريكية، ومبا أن مجلتنا تصدر<br />
من لندن، فإننا نضطر في أحيان كثيرة إلى تغيير<br />
كثير من املفردات والتعابير األمريكية. منذ أيام<br />
قرأت قصيدة مترجمة من العربية إلى اإلجنليزية،<br />
فعرفت فوراً أن املترجمة من أستراليا.<br />
العدد - 692 يوليو 2016<br />
108
الكويت عاصمة الثقافة اإلسالمية 2016<br />
مارجريت في زيارة للكاتب السوري املقيم في أوكسفورد زكريا تامر<br />
هناك شيء آخر مييز بني الروايات العربية،<br />
وهو احلوار. كثير من املؤلفني يستخدمون العامية<br />
في رواياتهم، هذه العاميات، املصرية واملغربية<br />
والعراقية، تتحول إلى اللغة اإلجنليزية عند<br />
الترجمة.<br />
< هل اجلوائز اخلاصة بالترجمة تدعم ترجمة<br />
األدب العربي، وما رأيك في أثر اجلوائز العربية<br />
الدولية مثل »البوكر« في دعم انتشار األدب العربي<br />
بالغرب؟<br />
- نعم، نعم لقد لعبت اجلوائز دوراً كبيراً جداً،<br />
وخصوصاً اجلائزة العاملية للرواية العربية )البوكر<br />
العربية(، فهي منذ إنشائها في عام 2007، متكنت<br />
من لفت انتباه الناشرين العامليني إلى األدب العربي،<br />
وال أبالغ إن قلت لك إن كثيراً من الناشرين صاروا<br />
ينتظرون اإلعالن عن القائمة الطويلة والقصيرة.<br />
فاجلائزة العاملية للرواية العربية تسهم في حتمل<br />
بعض نفقات الترجمة، وهذا يشجع كثيراً على نشر<br />
األدب العربي.<br />
مع األسف الشديد يفتقر العالم العربي إلى<br />
صندوق لدعم ترجمة األدب العربي إلى اللغات<br />
العاملية.<br />
< ما خططك املستقبلية، وكيف ترين مستقبل<br />
»بانيبال«؟<br />
- خططي يا صديقي إبراهيم أن أتقاعد في<br />
أسرع وقت! فمنذ 19 عاماً وأنا أعمل يومياً إلصدار<br />
هذه املجلة بإمكاناتنا البسيطة. عملت بحماسة،<br />
واستطعت أن أحقق كثيراً من أهداف املجلة، ولكن<br />
لكي تواصل املجلة عملها بنجاح، فإنها حتتاج إلى<br />
دماء شابة. أشعر أن دوري قد انتهى والبد من جيل<br />
جديد يقود »بانيبال«. وأقول بكل صدق، مع وجود<br />
عديد من املواقع اإللكترونية ووسائل التواصل<br />
االجتماعي وغيرها، فإن املجلة بحاجة إلى برنامج<br />
وخطط جديدة. سنعقد اجتماعاً موسعاً لهيئة<br />
التحرير وبعض أصدقاء املجلة وسندرس سبل<br />
تطويرها لتواصل دورها احلضاري ><br />
109<br />
مارجريت أوبانك: األدب العربي جزء جوهري من احلضارة اإلنسانية
ملف<br />
حياة مكرسة من أجل األدب العربي<br />
فاضل العزاوي<br />
كاتب من العراق<br />
حين صدرت مجلة بانيبال<br />
قبل عقدين من الزمان، لم<br />
يكن أحد يتوقع، حتى من<br />
حلقة أقرب أصدقائها، أن<br />
تستمر أكثر من بضعة أعداد<br />
في أفضل األحوال قبل أن<br />
تتوقف مثلما حدث لعديد<br />
من المجالت التي سبقتها،<br />
التي ظلت في حدود<br />
الهواية. ولم تكن حتى<br />
مارجريت أوبانك وصموئيل<br />
شمعون، وهما المؤسسان<br />
لها، متأكدين من قدرتهما<br />
على قطع كل هذا الطريق<br />
الطويل الذي سلكاه حتى<br />
اآلن. ف»بانيبال« ليست مجلة<br />
مثل أي مجلة عادية أخرى. فلو كانت مجلة عربية أو إنجليزية فقط<br />
لهان األمر، إذ لن يكون حينذاك ثمة نقص في النصوص العربية<br />
التي يمكن أن يكتبها كتَّاب عرب أو في النصوص اإلنجليزية<br />
التي يضعها كتَّاب إنجليز، ولن تكون ثمة مشقة في االختيار<br />
أيضاً بالتأكيد.<br />
الكاتب العراقي فاضل العزاوي ومارجريت أوبانك اثناء<br />
املشاركة في مهرجان دارتنغتون األدبي<br />
العدد - 692 يوليو 2016<br />
110
الكويت عاصمة الثقافة اإلسالمية 2016<br />
ارتأت »بانيبال« سلوك طريق<br />
صعب عجزت عن سلوكه كل املؤسسات<br />
الثقافية العربية الرسمية القائمة،<br />
رغم األموال الطائلة املوضوعة حتت<br />
تصرفها، وهو أن تكون مجلة لألدب<br />
العربي، ولكن باللغة اإلجنليزية. واألكثر<br />
من ذلك أن تكون مجلة معاصرة تقدم<br />
للقارئ باللغة اإلجنليزية أفضل النصوص<br />
العربية احلديثة وأرقاها، ما جعلها تكون<br />
في الوقت ذاته أهم مجلة لألدب العربي<br />
احلديث أيضاً. فهي ليست مجلة ناقلة<br />
للنصوص العربية إلى اللغة اإلجنليزية<br />
فحسب، وإمنا مكتشفة أيضا للمواهب، إذ<br />
ال يكاد عدد من أعدادها يخلو من أسماء<br />
شابة ومواهب واعدة جتد نصوصها ألول مرة طريقها إلى<br />
القارئ اإلجنليزي.<br />
هناك في احلقيقة مرحلتان في نقل األدب العربي<br />
احلديث إلى العالم، وأنا أعني ذلك متاماً: مرحلة ما<br />
قبل »بانيبال« ومرحلة ما بعدها. فقبل »بانيبال« لم تكن<br />
هناك سوى ترجمات محدودة لعدد قليل من الكتاب الذين<br />
يعرفهم املهتمون باألدب العربي. ولم يكن هؤالء يعكسون<br />
في احلقيقة سوى حلظة معينة من تطور األدب العربي<br />
احلديث وليس املشهد كله، ولم يكن القارئ الغربي يعرف<br />
شيئاً حتى عن أسماء كبيرة في األدب العربي، فضالً عن<br />
نصوص الشبان اإلبداعية ومحاوالتهم التجديدية.<br />
مع »بانيبال« انهار هذا احلاجز متاما. ففي مقابل<br />
األسماء القليلة السابقة قدمت »بانيبال« العشرات، بل<br />
املئات من األسماء اجلديدة طوال أعوامها العشرين<br />
املاضية، بل إنها صارت تتصيد أي نص استثنائي، وأحياناً<br />
حتى قبل نشره بالعربية. وفي الوقت ذاته لم تتوقف عن<br />
نشر ملفات وافية عن كتَّاب بارزين أو تخصيص محاور<br />
آلداب كل البلدان العربية تقريباً.<br />
هذا العمل الكبير الرائد ما كان ميكن له أن يتم<br />
من دون حماسة وتضحية وجهد مارجريت أوبانك، التي<br />
كرست كل وقتها له، معتبرة إياه مشروع حياتها، فهي لم<br />
تتردد منذ البداية في املغامرة حتى مبدخراتها القليلة<br />
في اإلنفاق على املجلة التي لم حتظ )وهذا ليس غريباً<br />
في أزمنة اجلهل العربي!( بأي دعم من أي جهة ثقافية<br />
عربية رسمية. لم يكن األمر يتعلق بالطباعة والتوزيع<br />
ونفقات البريد، بل أيضاً وقبل كل شيء بالترجمة إلى<br />
اللغة اإلجنليزية من قبل مترجمني محترفني ومعروفني،<br />
يعتبرون ما يقومون به عملالً مثل أي عمل آخر، وهو<br />
حقهم بالطبع. وبالتأكيد ال ينتهي األمر مع الترجمة،<br />
فهناك التحرير الذي ال يتطلب مراجعة<br />
الترجمة وتدقيقها فحسب، وإمنا أيضاً<br />
حترير النص أسلوبياً ولغوياً. وهنا أيضاً<br />
تتجلى براعة أوبانك كمحررة نصوص<br />
من الدرجة األولى، بلغتها اإلجنليزية<br />
العالية وأسلوبها األدبي الرفيع. فلكي<br />
تفهم النصوص العربية جيداً تعلمت<br />
اللغة العربية أيضاً، فضالً عن معرفتها<br />
باللغة األملانية. وألنه كان لي شرف<br />
اإلسهام في التحرير منذ أعداد املجلة<br />
األولى، فقد كانت متعة كبيرة بالنسبة<br />
إلي دائماً مراجعة عشرات ورمبا مئات<br />
النصوص معها. فرغم أن القارئ كان<br />
يجد النص أمامه جاهزاً، فإننا كنا<br />
نتحاور أحيانا أياماً عدة حول املعادل اإلجنليزي لعبارة<br />
ما باللغة العربية مثالً. كان حتى بعض أفضل املترجمني<br />
يرتكب أحياناً أخطاء فاحشة في فهم املعنى، وبخاصة<br />
في الشعر. ولكن ذلك ما كان ليفوت على عيني أوبانك<br />
املدربتيني وعدم ترددها في استشارة العاملني معها<br />
ومناقشتها معهم.<br />
من أوبانك يتعلم املرء معنى التكريس، فهي غالباً ما<br />
تعمل ساعات طويلة بال انقطاع، بل وتظل أحياناً ساهرة<br />
أمام »كمبيوترها« حتى ساعة متأخرة من الليل. وأتذكر<br />
أنني كتبت ذات مرة نصاً باللغة األملانية عن مهرجان<br />
برليني األدبي، فأرادت »بانيبال« نشره أيضاً، ولكن ذلك<br />
كان يتطلب بعض الوقت مني حتى أجنز ترجمته إلى<br />
اإلجنليزية، فقامت مارجريت نفسها بترجمته بسرعة<br />
حتى ال يتأخر إرسال املجلة إلى املطبعة. وما أكثر ما<br />
قامت به دائماً مبثل هذه األعمال!<br />
وفي حني أن العالقات بني الكتَّاب العرب لم تكن تخلو<br />
كالعادة من املشاحنات والنميمة والتحاسد أحياناً، كانت<br />
أوبانك املالك الذي ينشر أجنحته على اجلميع، متعاملة<br />
مبهنية عالية وأخالق رفيعة، مترفعة عن الصغائر ومتفهمة<br />
لألوضاع النفسية الصعبة التي يعانيها أصدقاؤها العرب.<br />
فما كان يعنيها قبل كل شيء هو محاولة تقدميهم بأفضل<br />
ما تقدر عليه إلى العالم، مع نكران للذات قل نظيره، إذ لم<br />
أسمعها وال مرة واحدة متتدح نفسها أو عملها أو تهتم لذلك،<br />
وكأن كل ما تقوم به ال يتعلق بها بقدر ما يتعلق باآلخر.<br />
أعرف أن اخلراب العربي الراهن ليس سياسياً<br />
فحسب، وإمنا ثقافي أيضا، ولكنني لن أكف عن األمل في<br />
أن ندرك في يوم ما في املستقبل، حينما نستعيد أرواحنا<br />
التائهة، القيمة الثقافية احلقيقية ملا قامت به أوبانك من<br />
أجل إيصال األدب العربي احلقيقي إلى العالم ><br />
111<br />
حياة مكرسة من أجل األدب العربي
ملف<br />
»بانيبال«... حجر أساس أدبي ومعرفي<br />
صبحي حديدي<br />
ناقد ومترجم سوري مقيم في باريس<br />
حين بلغني نبأ اعتزام مارجريت أوبانك إصدار مجلة<br />
تختصّ بترجمة األدب العربي الحديث إلى اللغة<br />
اإلنجليزية؛ أشفقت على هذا المشروع الوليد من<br />
مآلين: أن يسير، أوالً، على منوال الدوريات األكاديمية<br />
التي تُعنى باآلداب األجنبية، ولكنها تظلّ نخبوية<br />
حبيسة المكتبات الجامعية ومراكز األبحاث، بعيدة<br />
بالتالي عن متناول القارئ العريض؛ وثانياً، أن<br />
تقع النماذج المختارة للترجمة في إسار النصوص<br />
الكالسيكية أو المدرسية، ونتاجات مشاهير الكتّاب،<br />
فتنأى بذلك عن المشهد الفعلي الحيّ ، وبخاصة<br />
تجارب الشباب.<br />
لكنّ العدد األول، الذي صدر في<br />
فبراير 1998، فاجأني على نحو<br />
مبهج متاماً، إذْ تضمّن حالة نادرة،<br />
وجديدة استطراداً، من التوازن<br />
في اختيار املوادّ: فيه جتاورت<br />
قصيدة أدونيس مع قصائد أمجد<br />
ناصر، ومع صوتين يكتبان أصالً<br />
باإلجنليزية، هما نتالي حنظل<br />
وخالد مطاوع؛ كما تُرجمت قصص<br />
قصيرة من املعلّم الكبير زكريا<br />
تامر، إلى جانب طارق الطيب<br />
وعبدالله صخي؛ وحاور التحرير<br />
الشاعر العراقي سركون بولص، مثلما استذكر<br />
املسرحي السوري سعدالله ونوس.<br />
اإلصدارات الالحقة سوف تنجز مستويات أعلى<br />
من ذلك التوازن، إياه، وحتديداً في األعداد<br />
اخلاصة التي تناولت أسماء فاعلة، مثل محمود<br />
درويش وأدونيس وسعدي يوسف وزكريا تامر<br />
ودنيس جونسون دافيز؛ أو<br />
األعداد املكرّسة آلداب معظم<br />
البلدان العربية، منفردة؛ أو أدب<br />
املرأة العربية، والقصة القصيرة،<br />
وأدب السجون، واألدب العربي -<br />
األمريكي... وهذه احلصيلة ترافقت<br />
مع تشجيع وإطالق جيل جديد من<br />
املترجمن متعددي اجلنسيات؛ كما<br />
انطوت على عنصر فنّي خاصّ متثّل<br />
في إسناد صورة الغلالف إلى عدد<br />
من كبار التشكيلين العرب، وإضفاء<br />
مسحة حيوية على اإلخراج من<br />
خالل استخدام الصورة والرسومات<br />
الداخلية.<br />
لم يعد املشروع مبادرة تثاقفية تخصّ الترجمة<br />
وحدها، بل صار حجر أساس أدبياً ومعرفياً ال غنى<br />
عنه؛ يستحقّ حتية كبيرة إلى الصديقة أوبانك،<br />
والفريق العامل معها كامالً ><br />
العدد - 692 يوليو 2016<br />
112
الكويت عاصمة الثقافة اإلسالمية 2016<br />
الحفر عميقاً في تربة صعبة<br />
سيف الرحبي<br />
كاتب وشاعر من سلطنة عُ مان<br />
أي حديث سريع عن مارجريت أوبانك الكاتبة<br />
والناشرة، ال يفيها حقّ ها، لما قدمتّه من إنجاز نوعي<br />
للثقافة العربيّة، من محيطها إلى خليجها كما<br />
درجت التسمية. وهي بمعيّة أحد أصدقاء الماضي<br />
الجميل و»المَ هاجر« بفتح الميم، األكثر حناناً وإدهاشاً<br />
من نقيضها وفق المتداول في الثقافة الثنائيّة،<br />
أسسّ ا بدأب وكدْ ح لجسْ ر الترجمة والتفاعل الخالّق<br />
بين العربيّة واإلنجليزيّة عبر مجلة »بانيبال«، التي<br />
قطعتْ شوطاً من الكمّ واإلنجاز بمكان محفوظ<br />
وأكيد في ذاكرة الثقافة واألدب.<br />
وإذ أؤجل احلديث عن<br />
الصديق )التاريخي( صموئيل<br />
شمعون؛ فإن مارجريت أوبانك<br />
اإلجنليزية األصيلة التي تتحدر<br />
من أسرة ناشرين وكتّاب<br />
إجنليز، وهبتْ نفسها ومالها<br />
وجهدَها لثقافة العرب وأدبهم<br />
في شتى املناحي والتجليّات.<br />
واإلشارة هنا إلى أصالة<br />
»ماجي« اإلجنليزية باملعنى<br />
اإلبداعي املفارق للكولونياليّة<br />
وقيم االستعمار اإلمبراطوري التي طبعتْ<br />
العالم بالقسوة واالستغالل وجتعلها »األصالة«<br />
لصيقة بتلك القيم القادمة من نهر املعرفة<br />
واألدب اإلجنليزيّين املنفتحة على املدار<br />
اإلنساني واجلمالي، أي ما هو نقيض تلك<br />
القيم.<br />
وإذ كانت »بانيبال« وما<br />
يتبعها من مطبوعات ونشاطات<br />
استطاعت عبر السنن، أن توجد<br />
مثل هذه املكانة في أوساط اللغة<br />
اإلجنليزية ومؤسساتها ومنتدياتها<br />
املختلفة األمكنة واألمناط، فيخال<br />
املرء أن وراء املشروع فريق عمل<br />
كبيراً، وليس »ماجي« مع صموئيل،<br />
ومثل هذه املكانة من الصعب<br />
إيجادها في أوساط اللغة املهيمنة<br />
على مفاصل العالم والتاريخ املعاصر، حتى من<br />
قبل مؤسسات مموّلة من دول ومبرمجة؛ إنه<br />
اإلصرار والصبْر في احلَفر عميقاً في التربة<br />
الصعبة، ليس في اإلجنليزية فحسب، بل في<br />
العربيّة التي ال تُولي أوساطُ ها ومؤسساتها<br />
113
سيف الرحبي مع الشاعر العراقي الراحل سركون بولوص وأوبانك<br />
الرسميّة أي أهميّة للثقافة<br />
واألدب، خارج الدعاية واإلعالم<br />
الرسمييّ . لكن مارجريت، ورثتْ<br />
روح التضحيّة واحملبّة لألسرة<br />
اإلنسانية، والعرب املنكوبي<br />
شعوباً وثقافة، وبخاصة في<br />
هذه اللحظة التراجيديّة<br />
التي يُستباح فيها ما تبقى<br />
من إنسان وقيم، فطرة<br />
وأخالق، حتت آلة الهمجيّة<br />
والسحَ ق، أمام أعي العالم<br />
املتحضر القادر والقوي، على وقف املجزرة في<br />
أي حلظة ومكان، لكن ال ضمير وال وجدان وال<br />
من يحزنون. وقبل توجيه الكَالم الدامي إلى<br />
»اآلخر« املهيمن، هو موجه بالدرجة األولى<br />
واأللف إلى قادة هذه األمة وشعوبها املفجوعة،<br />
الذين سمحوا للوصول إلى قعْر هذه الهاوية<br />
واحلضيض.<br />
قلت إن مارجريت أوبانك، ورثت روح<br />
التضحية واجلَلد من تقاليد<br />
الثقافة اإلجنليزيّة واألوربية<br />
التنويريّة املؤمنة بقيم اخلير<br />
واجلمال واألخوّة، مع غض<br />
النظر عن العرق والدين، القوة<br />
والضعف... إلخ.<br />
بعد هذه السني التي تراكمت<br />
بسرعة صاعقة تقصف أعمارنا<br />
من غير هوادة وليست الرحمة من<br />
طبيعتها، وبعد إجناز مشروع »بانيبال«،<br />
وكنت قد شهدت والدة املشروع الناجح،<br />
ال يسعني إال أن أوجه التحيّة عالية<br />
محلقّة كالطيور املهاجرة املرِ حة من سماء عُمان<br />
إلى »ماجي« وصموئيل في لندن، بذلك املنزل<br />
الواقع قرب مطار هيثرو قريباً من قنوات »التيمز«<br />
اخلصيبة دائماً، والذي ما زلتُ أمتلك وردة في<br />
حديقته، وردة تقول »ماجي« إنها الوحيدة التي ال<br />
يكسرها البرد القارس وال الرياح الهوجاء.<br />
حتية ومحبّة ><br />
العدد - 692 يوليو 2016<br />
114
الكويت عاصمة الثقافة اإلسالمية 2016<br />
صديقة األدب العربي<br />
محمود شقير<br />
كاتب من فلسطني<br />
تعتبر الناشطة الثقافية مارجريت<br />
أوبانك خير صديقة للأدب العربي،<br />
بمختلف تجلياته في الرواية والقصة<br />
والشعر والمسرح والنقد األدبي، وهي<br />
في الوقت نفسه صديقة دائمة<br />
لكاتبات عربيات ولكتَّاب عرب، تتابع<br />
أخبار الجميع وتهتم بنتاجاتهم األدبية،<br />
وتقطع المسافات الطويلة لحضور<br />
معارض الكتب والمؤتمرات والندوات.<br />
التقيتها أول مرة في معرض<br />
لندن للكتاب عام 2005، وكان لي<br />
آنذاك شرف توقيع كتابي »شاربا<br />
مردخاي وقطط زوجته« الذي صدر<br />
باللغة اإلجنليزية عن دار بانيبال<br />
للنشر، التي تشرف عليها مارجريت<br />
مع زوجها الناشط الثقافي والروائي<br />
صموئيل شمعون. ثم التقينا في<br />
مهرجان األدب في برلني عام 2009،<br />
وفي معرض أبوظبي الدولي للكتاب<br />
عام 2011، وأخيراً في معرض الدار<br />
البيضاء للكتاب عام 2015، الذي ترافق<br />
انعقاده مع إعالن القائمة القصيرة<br />
للجائزة العاملية للرواية العربية<br />
)البوكر( في دورتها الثامنة، حيث<br />
تشغل مارجريت عضوية مجلس أمناء<br />
اجلائزة.<br />
وبالطبع، ثمة فعاليات ثقافية<br />
أخرى شاركت فيها أوبانك في غير<br />
بلد.<br />
ولعلّ مجلة »بانيبال« الصادرة<br />
في لندن باللغة اإلجنليزية،<br />
برئاسة مارجريت أوبانك، هي<br />
أبرز خدمة تسديها مارجريت<br />
لألدب العربي، حيث املجلة<br />
متخصصة في تقدمي األدب<br />
العربي إلى العالم عبر<br />
ترجمة مناذجه املتميزة إلى<br />
اللغة اإلجنليزية. وملارجريت<br />
أوبانك فضل كبير في هذا<br />
اإلجناز الذي تواصل ومازال<br />
يتواصل منذ سنوات.<br />
ولها علالوة على ذلك،<br />
مقاالت تعرض فيها لكتب<br />
مرموقة كتبها مؤلفون عرب،<br />
تكتب عنها وتنشر ما تكتبه<br />
في مجلتها، وفي صحف أخرى<br />
صادرة باللغة اإلجنليزية في<br />
لندن، ما يسمح بتوسيع انتشار<br />
األدب العربي في العالم.<br />
ملارجريت أوبانك الصحة<br />
وطول العمر ودوام العطاء ><br />
115
عاشقة األدب العربي الحديث<br />
طالب الرفاعي<br />
كاتب من الكويت<br />
ال أذكر متى كان لقائي األول بها، لكن ما أذكره تماماً أن تلك المرأة<br />
تغدق عليَّ ، وفي كل لقاءٍ ، ودّاً صافياً يربكني، ودّاً يجمع بين البساطة<br />
والصدق واالبتسام الذي يشع بوجهها وعينيها.<br />
كأي كاتب عربي كان ولم يزل يسعدني نشر<br />
قصة أو جزء من رواية لي باللغة اإلنجليزية، ولذا<br />
كنتُ سعيداً لحظة عانقت عيناي نشر قصص<br />
لي بترجمة الصديقة د.زهرة حسين، ود.ليلى<br />
المالح، ربما قبل ما يزيد على العشر سنوات. تلك<br />
الترجمات أخذتني للتعرف على مجلة »بانيبال«،<br />
ألكتشف جهداً ثقافياً مخلصاً قلّ مثيله. مجلة<br />
فصلية ناطقة باللغة اإلنجليزية تصدر في لندن،<br />
وتهتم باألدب العربي الحديث؛ شعراً وقصة ورواية وأبحاثاً ومسرحاً<br />
وسينما وتشكيالً. أدب ذو سوية إبداعية فنية عالية وبمرامٍ إنسانية<br />
النزعة والتوجه.<br />
اعتقدت لفترة أن خلف هذه املجلة األنيقة<br />
عدداً كبيراً من املترجمين واحملررين وإدارة<br />
حترير، وأن هناك جهة رسمية أو شعبية عربية<br />
أو عاملية تصرف عليها مبالغ محترمة كي تأتي<br />
للقارئ بحلتها الرائعة. لكن ما اكتشفته الحقاً،<br />
أثار تعجّ بي واستعجابي، وهو أن السيدة مارجريت<br />
أوبانك وزوجها األستاذ صموئيل شمعون، وحدهما<br />
وبجهدهما الذاتي وبنفقتهما اخلاصة، يقفان وراء<br />
هذا املشروع الفذ واملتفرد واملخلص لألدب العربي<br />
احلديث.<br />
رمبا كانت مجلة »بانيبال« في يوم ما تقدم ولع<br />
مارجريت وصموئيل بنصوص معينة، لكن تاريخاً<br />
من العطاء واالستمرار والتراكم املعرفي واإلبداعي،<br />
جعل من »بانيبال« معلماً الفتاً لإلبداع العربي<br />
باللغة اإلجنليزية، حتى أن عدداً كبيراً من جامعات<br />
أوربا واليابان وأمريكا، صار يعتمد على املجلة في<br />
اتصاله ووصله باألدب العربي، ويعتمدها مصدراً<br />
أساسياً متفرداً لنتاج األدب العربي احلديث.<br />
مجلة »بانيبال« بجهد العزيزين »ماجي«<br />
و»سام«، وبتضحياتهما ومثابرتهما صارت معلماً<br />
ثقافياً عاملياً، وسفيراً لألدب والفن العربين لدى<br />
العالم اآلخر. ومؤكد أن املجلة وعبر خبرة عريضة<br />
العدد - 692 يوليو 2016<br />
116
الكويت عاصمة الثقافة اإلسالمية 2016<br />
مع عالء حليحل ومنصورة عز الدين وعابد إسماعيل<br />
جتاوزت اخلمس عشرة سنة،<br />
قد حفرت لنفسها سمعة أدبية<br />
وحضوراً ثقافياً عنوانه املصداقية<br />
ولغته احلداثة.<br />
لقد حظيت املجلة في<br />
السنوات األخيرة مبوقع متميّز<br />
في وسط لندن، يؤمن لها عملها<br />
اليومي في جوٍ مريح وعملي، لكن<br />
الواجب يتطلب منا نحن األدباء<br />
والفنانين واملثقفين العرب،<br />
أفراداً ومؤسسات، املؤمنين<br />
بأهمية وجدوى اإلبداع والثقافة،<br />
وأنهما اجلسر األوحد املتبقي لنا<br />
للتواصل مع اآلخر، في زمن العنف<br />
والتوحش األعمى، يتطلب منّا أن<br />
نقف إلى جانب املجلة وأن ندعم<br />
وجودها واستمرارها بشكل ملموس،<br />
وأال نبخل عليها باملداد املالي السخي،<br />
الذي يؤمن بقاءها واستمرار عطائها<br />
الباهر.<br />
الصديقان العزيزان مارجريت وصموئيل<br />
بعد توطد معرفتي بهما، وتكرر زياراتي للندن،<br />
اكتشفت أنهما قد نذرا عمريهما للثقافة العربية<br />
واملبدع العربي. وأنهما ترجما ويترجمان عشقها<br />
عبر أعداد املجلة األجمل، وأنهما<br />
أكثر إخالصاً وحرصاً على الثقافة<br />
العربية ونتاج املبدع العربي، من<br />
كثير من املؤسسات العربية الرسمية<br />
واألهلية.<br />
إن الكتابة عن الصديقة العزيزة<br />
مارجريت بالنسبة إلي تعني تقدمي<br />
شكر وتقدير واجبين لسيدة<br />
إجنليزية كانت ولم تزل مخلصة<br />
لإلبداع العربي والثقافة العربية،<br />
وأنها منذ تبدأ يومها باكراً وإلى<br />
أن تأوي إلى فراشها ال يشغل بالها<br />
سوى مجلة »بانيبال« وكيفية تأمن<br />
صدور عددها املقبل على أفضل<br />
وجه.<br />
لك يا »ماجي« الغالية حتية<br />
تقدير وإعزاز، ولك دائماً حتية<br />
مودة خالصة، ولك أهمس بسرٍّ<br />
يخصني، فأنا وكلما دار ببالي<br />
اجلهد املتفاني الذي تقومن به<br />
للمبدع العربي وللثقافة العربية، أردد في نفسي:<br />
أطال الله بعمر هذه املرأة الرائعة، وجعلها<br />
منارة نور وعطاء لإلبداع العربي ووصله بالعالم<br />
اآلخر ><br />
117<br />
عاشقة األدب العربي احلديث
مؤلفون وأكاديميون يشيدون بتجربة المجلة<br />
ماذا قالوا عن »بانيبال«؟<br />
< في أعقاب أحداث سبتمبر 2001 والتحول الكارثي في سوء التفاهم<br />
الذي استتبعها ما بني الثقافات، صار الدور الذي تلعبه مجلة »بانيبال«<br />
حيوياً بصورة مطلقة. ففي ظل التحرير املبدع ملارجريت أوبانك، احتلت<br />
املجلة العاملة منذ أعوام عدة موقعاً مهماً لنشر األعمال املترجمة<br />
من األدب العربي احلديث )حلبة جعلت هذه األعمال متوافرة باللغة<br />
اإلجنليزية أكثر من توافرها باللغات األوربية األخرى(.<br />
روجر ألني<br />
أستاذ اللغة العربية واألدب في جامعة بنسلفانيا،<br />
مترجم أدبي معروف<br />
روجر ألني<br />
< ما من مجلة غربية أخرى تتعامل مع العالم<br />
العربي أسهمت بقدر ما فعلت »بانيبال« في تقييمها<br />
الواسع لألدب العربي احلديث. فقد جنحت خالل<br />
فترة قصيرة في أن تضع في متناول أيدي قرائها<br />
أعماالً عربية ال عد لها في ترجمتها اإلجنليزية<br />
)قصائد، قصص قصيرة، مقاطع من روايات،<br />
نصوص أوتوبيوغرافية(. ولكن ما هو بارز والفت<br />
للنظر في »بانيبال« هو أنها أظهرت مقدرتها على<br />
ضمان متثيل واسع، ليس فقط لالجتاهات الرئيسة<br />
واألجناس األدبية واألجيال والنزعات املختلفة<br />
للكتاب العرب من مختلف األقطار، وإمنا أيضاً<br />
في تقدمي عديد من األكادمييني العرب والغربيني<br />
واملترجمني امللتزمني تقدمي األدب العربي احلديث<br />
خارج حدوده القومية.<br />
صالح جواد الطعمة<br />
أستاذ دائم للغة العربية واألدب املقارن، جامعة<br />
إنديانا<br />
< حماسة مارجريت أوبانك<br />
لألدب العربي احلديث، التي عبرت<br />
عنها بكل بالغة في افتتاحية<br />
تقدمي العدد األول من »بانيبال«<br />
في عام 1998 لم تخفت قط منذ<br />
ذلك احليني. فبفضل تكريسها<br />
وسياستها الواضحة وجهودها<br />
التي ال تكل، أفلحت »بانيبال«<br />
عبر مقاالتها املركزة ومقابالتها<br />
املنورة وترجماتها املاهرة للشعر<br />
والنثر في أن تقدم جوانب شتى<br />
من األدب املعاصر في كل العالم<br />
العربي إلى اجلمهور القارئ باللغة<br />
اإلجنليزية... إجناز رائع.<br />
د. محمد بدوي<br />
أستاذ دائم، كلية سانت أنتوني،<br />
جامعة أكسفورد<br />
)توفي أخيراً(<br />
العدد - 692 يوليو 2016<br />
118
الكويت عاصمة الثقافة اإلسالمية 2016<br />
< رغم العاقات التاريخية التي تربط بريطانيا بالعالم العربي، واجلوهر الباقي من تلك<br />
العاقة ثقافي في حقيقته، فإن أقل بلدان أوربا اهتماماً بالثقافة العربية وإبداعاتها املعاصرة هي<br />
بريطانيا، لذلك جاء صدور »بانيبال« في ظروف مناسبة متاماً، آخذة على عاتقها، باستمرارها<br />
البطولي، مهمة التعريف باألدب العربي املعاصر والثقافة العربية. »بانيبال«<br />
املطبوعة الوحيدة التي تقوم بذلك اجلهد في العالم الغربي كله وليس<br />
بريطانيا فقط. وألنها تصدر من موقع ميكن من خاله رؤية العالم العربي<br />
في مجمله، وال تخضع حلساسيات محلية، فإنها تقدم صورة دقيقة للثقافة<br />
العربية.<br />
ورغم صدور »بانيبال« باإلجنليزية، فإنها مصدر مهم للعرب أنفسهم،<br />
ملا تتضمنه من شمولية الرؤية ودقة املتابعة. هذا املنبر الثقافي املهم نتاج<br />
سعي دؤوب وجهد مخلص يتمان مببادرة شخصية، مبادرة حققت ما لم<br />
تستطع أن حتققه وزارات الثقافة العربية واملؤسسات العاملة فيه مجتمعة،<br />
لذلك تستحق »بانيبال« بالفعل الدعمني املعنوي واملادي، ومن قبل ومن بعد<br />
التحية. بالنسبة إلي فإنني أشعر بامتنان عميق لكل من يسهم في هذا اإلصدار، ليس بدافع<br />
شخصي ولكن بدافع انتمائي إلى تلك الثقافة التي ال يعرفها الغرب جيداً.<br />
جمال الغيطاني<br />
كاتب مصري، رئيس حترير »أخبار األدب« )توفي في 2015(.<br />
جمال الغيطاني<br />
< »»بانيبال« مجلة املغامرة العربية اإلبداعية<br />
احلديثة«، هي اليوم صوتنا األصفى في عالم يزداد<br />
خراباً. فالنصوص واألسماء التي تقدمها إلى القارئ<br />
باإلجنليزية تنقلنا إلى فضاءات مختلفة تفتتح األفق<br />
احلاضر فيما هي ال تتخلى<br />
عن موروثها اخلاق.<br />
و»بانيبال« تكشف بعملها عن<br />
روح استكشافية جتاه أدباء<br />
من اجتاهات حتديثية في<br />
مشرق العالم العربي ومغربه<br />
ال يتنازلون عن اختيار أن<br />
يكتبوا بحرية ويرحلوا في<br />
محمد بنيس<br />
جهات األرض. وهي بهذا أصبحت الطريق الذي<br />
نسلكه لننصت إلى أدب عربي هو جزء من العالم.<br />
محمد بنيس<br />
شاعر مغربي، مدير دار نشر »توبقال«<br />
< ال شيء أقدر من األدب العربي<br />
على استبصار ثقافة العرب وروحهم<br />
بالذات. فقد أخذت »بانيبال« منذ<br />
عام 1998 على عاتقها مهمة نقل هذه<br />
الرؤية عبر ترجماتها اإلجنليزية إلى<br />
العالم املعاصر املتعطش لفهم أعمق<br />
للعرب. وهكذا أسهمت بطريقة فائقة<br />
في تطمني هذه احلاجة، حاثّةً على<br />
احلوار بني الثقافات وزيادة احتماالت<br />
السام بني األمم. لقد حظوت مبيزة<br />
أن أكون قادراً على إسناد »بانيبال«،<br />
وأرجو لها كل التوفيق في األعوام<br />
املقبلة.<br />
د. عيسى بالطة<br />
مؤلف، ناقد أدبي، ومترجم معروف<br />
119<br />
ماذا قالوا عن »بانيبال«؟
روجر ألني<br />
< منذ أن أطلقت مارجريت أوبانك »بانيبال« في عام 1998 وهي<br />
تتولى حتريرها ببراعة وأصالة. »بانيبال« مجلة قريبة إلى قلب القارئ<br />
بصورها الفوتوغرافية، مبقابالتها، بأخبارها، فضالً عن ترجماتها لكل<br />
األجناس األدبية من جميع أنحاء العالم العربي. وهي مجلة حافظت على<br />
استقالليتها. معيار النشر فيها هو النوعية والوثوق وليس النفوذ. إننا<br />
نحتاج إلى »بانيبال« اليوم كنافذة مطلة على الشرق األوسط احلديث أكثر<br />
من أي وقت مضى.<br />
د. بيتر كالرك<br />
مترجم أدب، مستشار في الشؤون الثقافية للشرق األوسط<br />
< في األعوام الستة األخيرة أوجدت مارجريت أوبانك وصموئيل<br />
شمعون مجلة أقامت مناقشة مستمرة في ما بني الكتَّاب العرب املعاصرين<br />
املتحدرين من أصول وطنية متنوعة أنفسهم - كتابة بالعربية والفرنسية<br />
واإلجنليزية - ومع جمهور اللغة اإلجنليزية الواسع. ميكن العثور في<br />
صفحات »بانيبال« على أعمال عدد من الكتَّاب العرب املعروفني لبعض<br />
القراء األجنلوفرانكفونيني مثل سعدي يوسف وأدونيس ومحمود درويش،<br />
إلى جانب أعمال شعراء وروائيني من العراق واجلزائر والسعودية ولبنان<br />
وفلسطني ومصر، تعتبر أسماؤهم جديدة بالنسبة ألولئك القراء متاماً مارلني هاكر<br />
مثل تقنياتهم األدبية ووجهات نظرهم السياسية الثقافية. »بانيبال« توفر<br />
للقارئ اإلجنليزي مدخالً ال يقدر بثمن إلى اآلداب املتنوعة والنموذجية للشرق األوسط واملغرب<br />
العربي، وهو أمر ال ميكن العثور عليه في أي مجلة أدبية أخرى صادرة باللغة اإلجنليزية.<br />
مارلني هاكر<br />
شاعرة معروفة ومترجمة أدب، الواليات املتحدة<br />
< »بانيبال« هي مصدري الرئيس للمعلومات حول<br />
الكتابة العربية الراهنة واألحداث الثقافية. من دون<br />
»بانيبال« سأكون أفقر قراءة بكثير. أعدادها السابقة<br />
تشكل أرشيفاً ال يقارن.<br />
روبرت أروين<br />
مؤلف وصحافي، اململكة املتحدة<br />
العدد - 692 يوليو 2016<br />
120
الكويت عاصمة الثقافة اإلسالمية 2016<br />
< إنها لمفارقة حقّاً أن تكون »بانيبال«<br />
بالنسبة لهذا القارئ أفضل املجالت<br />
العربيّة املعاصرة، وما نشرها باللغة<br />
اإلجنليزية إال من محض املصادفة. فمن<br />
الصعب أن نتخيّل هذا العدد من األصوات<br />
األدبيّة، من جميع<br />
أنحاء العالم العربي،<br />
مجتمعة ومتحاورة<br />
في ما بينها حتت<br />
سقف واحد، في أي<br />
مجلّة أخرى. يكفي<br />
»بانيبال« أنها منحت<br />
األدب العربي، طوال<br />
األعوام السبعة<br />
أنطون شماس<br />
املاضية، نبرة جديدة وحضوراً طاغياً<br />
داخل اللغة اإلجنليزيّة. ويكفيها، أيضاً،<br />
أنها أثبتت، وخالفاً لالعتقاد السائد، أن ال<br />
شيء على اإلطالق يضيع في الترجمة.<br />
أنطون شماس<br />
كاتب فلسطيني، وأستاذ في آداب<br />
الشرق األوسط احلديث واألدب املقارن<br />
في جامعة مشيغان<br />
< األدب العربي احلديث الذي يصل<br />
إلى قراء اللغة اإلجنليزية يعتبر ضئيالً<br />
باملقارنة مع أدب األمم األخرى. هذا<br />
اخللل جرى تالفيه إلى حد كبير من<br />
قبل مجلة »بانيبال« الصادرة في لندن،<br />
التي قدمت منذ تأسيسها في عام 1998<br />
الكتَّاب والشعراء والنقاد العرب وصارت<br />
جسراً صلداً يربط القراء اإلجنليز<br />
باألدب العربي احلديث.<br />
مهدي عيسى الصقر<br />
روائي عراقي راحل<br />
< كأكادميي يعمل في حقل األدب العربي احلديث، أدرك<br />
متاماً احلاجة إلى التعامل مع جمهور واسع عن طريق وضع<br />
كتَّاب العالم العربي في محط اهتمام القراء الغربيني خارج<br />
جو اجلامعة. »بانيبال« قدمت إسهامة فريدة في هذا املسعى،<br />
وهناك خطط مثيرة للمزيد من التطور. أمتنى لها كل النجاح<br />
في املستقبل.<br />
بول ستاركي<br />
بول ستاركي<br />
رئيس قسم اللغة العربية، كلية اللغات احلديثة، جامعة<br />
درام، مترجم أدب، اململكة املتحدة<br />
121<br />
ماذا قالوا عن »بانيبال«؟
تحقيق مصور<br />
اكتشاف لغة اإلنسان األول فوق جدرانها...<br />
كهوف عمرها 50 مليون سنة!<br />
تحقيق وتصوير: رياض توفيق<br />
كاتب من مصر<br />
فوق جدران عشرات من الكهوف يقترب عمرها من 50 مليون سنة، صنعتها الطبيعة<br />
من تكوينات األلبستر الكريستالي، تموج بالجمال األسطوري في قلب صحراء مصر<br />
الغربية، تصبح الرحلة إليها درباً من اإلبداع، هناك حيث خط اإلنسان األول رسومات<br />
عمرها 20 ألف سنة، استطاع العلماء فك رموزها أخيراً، وتصنيفها من أوائل اللغات<br />
التي كتبها اإلنسان، حتى قبل ظهور الهيروغليفية التي أبدعها الفراعنة، ولعل أكثر<br />
ما يثير الشغف بهذه اللغة البالغة القدم، هو معرفة ماذا كتب إنسان ذلك العصر من<br />
عبارات أراد بها أن تصل إلينا عبر عجلة الزمن التي ال تتوقف.<br />
العدد - 692 يوليو 2016<br />
122
الكويت عاصمة الثقافة اإلسالمية 2016<br />
العاشق لطعم الزمن، البد أن يقف مبهوراً<br />
خالل رحلة عبر صحراء مصر الغربية، وصوالً<br />
إلى مواقع تلك الكهوف صاحبة التكوينات<br />
اجلمالية التي أبدعتها الطبيعة من دون أي تدخل<br />
من اإلنسان.<br />
وإذا التحقت بإحدى رحالت السفاري عبر<br />
الصحراء، فسوف تصل بك في البداية إلى موقع<br />
كهف وادي سنور، جنوب مدينة بني سويف، حيث<br />
يوجد الكهف على عمق 60 قدماً حتت األرض، وقد<br />
قدر العلماء سنوات عمره ب 50 مليون سنة، ويبلغ<br />
طوله 275 متراً باتساع 15 متراً وارتفاع 15متراً،<br />
وقد تكون هذا الكهف نتيجة ذوبان خام األلبستر<br />
عبر آالف السنني، وما أحدثته املياه اجلوفية التي<br />
تتجمع بعد سقوط األمطار وتتسرب إلى باطن<br />
األرض مكونة شبكات من األودية، وبهذا يتكون<br />
جتويف داخل باطن األرض في ما يعرف بالكهوف،<br />
ونظراً لوجود فراغ بني السطحني العلوي والسفلي<br />
بدأت تتكون الصواعد والهوابط، عندما تتسرب<br />
مياه األمطار وتصل إلى سقف الكهف، حيث تبدأ<br />
في التنقيط قطرة قطرة، وعندما تتعرض هذه<br />
القطرات حلركة هواء الكهف الغني بثاني أكسيد<br />
الكربون، يتم تركيز مادة كربونات الكالسيوم<br />
حولها على هيئة حلقة حتيط بالقطرات املائية<br />
مكونة هذه األجسام الكريستالية من الصواعد<br />
والهوابط داخل الكهف.<br />
ويعد كهف »وادي سنور« واحداً من أبرز<br />
الكهوف العاملية بتكويناته الطبيعية التي ال يوجد<br />
مثيل لها في العالم، وبذلك يصبح هذا الكهف<br />
لوحة جيولوجية عاملية من الصواعد والهوابط<br />
املكونة من األلبستر الكريستالي، كما لو كانت<br />
تكوينات من »األملاس« التي تسقط عليها األشعة<br />
عاكسة تلك التكوينات الضوئية من ألوان الطيف<br />
على حدقة العني، لترسم لنا في ذاكرتنا وذاكرة<br />
التاريخ لوحات فنية جيولوجية بديعة.<br />
كهوف وادي صورا<br />
متضي الرحلة عبر الصحراء القاحلة،<br />
التي شهدت على مر الزمان تقلبات مناخية<br />
يشرحها علماء احلفريات واجليولوجيا، والتي<br />
ضربت هذه األرض منذ مالييني السنني،<br />
حيث مرت بعصور ثالثة كانت قاعاً للبحر، ثم<br />
عصور أربعة مطيرة، ثم صحراء جرداء وقد<br />
خلف ذلك كماً هائالً من احلفريات املنتشرة في<br />
أرجائها، فتوجد شجرات املاجنروف، والشعاب<br />
املرجانية وهياكل القروش البحرية واحليتان،<br />
وأيضا الديناصورات العمالقة التي يبلغ وزن<br />
الواحد منها 80 طناً.<br />
كهف األرواح الطائرة<br />
تعتبر هضبة اجللف الكبير أكبر منتجع<br />
صحراوي ملا قبل التاريخ على املستوى العاملي،<br />
ولم يكن ذلك من فراغ، فهذه الهضبة مترامية<br />
األطراف، حيث تبلغ مساحتها 48 ألف كم مربع،<br />
وال حتتوي إال على رمال وجبال وصخور فقط<br />
وال يوجد منها أي نوع من مظاهر احلياة عدا<br />
قليل من الكائنات احلية التي تتكيف مع البيئة<br />
الصحراوية.<br />
وخالل سنوات احلرب العاملية الثانية لم يكن<br />
لدى األملان دراية كبيرة بالصحراء املصرية، وألن<br />
اإلجنليز كانوا يحتلون مصر، كان على األملان<br />
أن يستعينوا بأحد األدلة الصحراوية اخلبير<br />
في األودية الصحراوية املصرية، ليرسم فكرة<br />
تطويق اجليوش اإلجنليزية من الناحية الغربية،<br />
وقد استعانوا بالكونت »أملاس« الذي استطاع أن<br />
ميدهم مبعلومات غاية في األهمية ساعدت رومل<br />
في الوصول إلى األراضي الليبية حتى »العلمني«.<br />
وكان الكونت أملاس يجهز رحلة صحراوية<br />
كل خمس سنوات، مصطحباً معه عدداً من<br />
اجلمال والعبيد، متجهاً من الواحات الداخلة عبر<br />
الصحراء وقد وصلت رحالته حتى وادي صورا،<br />
ووجد العديد من الكهوف املصورة بشكل رائع<br />
وغاية في األهمية، فأسمى هذا الوادي باسم<br />
وادي صورا، وأطلق على أحد هذه الكهوف كهف<br />
السابحني )وحالياً سمي بكهف األرواح الطائرة(.<br />
وادي صورا<br />
متضي رحالت السفاري في قلب الصحراء<br />
القاحلة حتى تصل إلى وادي صورا، وسمي هذا<br />
123<br />
كهوف عمرها 50 مليون سنة!
الوادي بهذا االسم النتشار صور إنسان ما قبل<br />
التاريخ فيه. والرحلة إلى هذه املنطقة تبدأ من<br />
الواحات البحرية أو الفرافرة أو الداخلة عند<br />
منطقة أبومنقار، وبعد ثمانية أيام نصل إلى<br />
أحد األودية الفسيحة، وفي صباح اليوم الثاني<br />
عشر تتضح أمامنا منطقة كهوف وادي صورا،<br />
وهي منطقة مليئة بالرسوم امللونة التي ال يوجد<br />
مثيل لها في العالم وتكاد تكون أكثر روعة وشهرة<br />
وجماالً من كهوف السكو والتميرا، وتعد كهوف<br />
وادي صورا سجالً مصوراً عن حياة اإلنسان<br />
البدائي، فقد شمل أحد الكهوف أكثر من ألفي<br />
رسم ملون لإلنسان وحياته ورقصاته وطقوسه<br />
اجلنائزية وحملة القرابني، ومناظر الغزالن التي<br />
تشرب من البحيرات الصغيرة، إضافة إلى كثير<br />
من الطقوس اليومية اجلديدة مثل تطيير النعام،<br />
فضالً عن العديد من النقوش التي تصور اإلنسان<br />
في وضع سابح، ولذا سمي أحد هذه الكهوف<br />
بكهف السابحني، ولكنه في احلقيقة كانت<br />
النقوش ملناظر اإلنسان في وضع حائر، أي الروح،<br />
ومازالت الرمال في كهف وادي صورا حتتوي على<br />
آالف املناظر املخبأة حتتها.<br />
وعندما تقترب الرحلة من نهايتها فإنها<br />
تصل إلى ما يسمى بجبل العوينات، ويوجد هذا<br />
اجلبل بني التقاء احلدود املصرية - السودانية<br />
- الليبية، وهو عبارة عن جبل مساحته<br />
25 كم ينتشر به كم هائل من النقوش والرسوم<br />
الصخرية املهمة مثل »الزراف والنعام واملاعز<br />
والكباش والكبش األروي والودان وكالب الصيد<br />
وخالفه«.<br />
مغارة ألكنترا<br />
ميكن الوصول إلى هذه املغارة أو الكهف<br />
كهف وادي سنور يتضمن تشكيالت كلسية جتعله من أجمل كهوف العالم<br />
العدد - 692 يوليو 2016<br />
124
الكويت عاصمة الثقافة اإلسالمية 2016<br />
موقع الكهوف في أقصى غرب الصحراء الغربية بجوار احلدود مع ليبيا<br />
الصغير بعد اليوم الرابع عشر من الرحلة الشاقة<br />
للصحراء الكبرى التي تبدأ من الواحات البحرية<br />
حتى نصل إلى مغارة ألكنترا وتطلق عليها مغارة<br />
القنطرة أحياناً، ألنها أشبه بالقنطرة التي يعبر<br />
عليها الناس فوق ممر مائي، وحتتوي هذه املغارة<br />
على نقوش ملونة لم تر عني أجمل منها على<br />
مستوى العالم كله، منها تصوير كمية من األبقار<br />
البيضاء والزرقاء واحلمراء رسمت بشكل غاية<br />
في الدقة، ولقد كان الفنان يعي متاماً الفرق بني<br />
البقرة األنثى والثيران بقرونها الواضحة، وتعد<br />
رسوم مغارة الكنترا من أجمل النقوش امللونة في<br />
هضبة اجللف الكبير، وتسجيالً جلياً لطرق الفن<br />
البدائي.<br />
كهف األبيض<br />
يعتبر كهف األبيض واحداً من أهم الكهوف<br />
املصرية، ويوجد هذا الكهف في محيط<br />
سهل كراوييني على بعد 45 كم من كرز ومدينة<br />
الفرافرة، ويوجد هذا الكهف في تكوينات العصر<br />
الطباشيري املكون تكوينات الصحراء البيضاء،<br />
التي يرجع عمر هذه التكوينات فيها ألكثر من<br />
30 مليون عام.<br />
وفي أحد جبال هذه التكوينات الطباشيرية<br />
يوجد كهف األبيض، ويطلق عليه األُبيض »بضم<br />
األلف« نسبة لوجوده في أحد اجلبال البيضاء.<br />
وكشف خبراء اآلثار عن بعض املعالم املهمة<br />
داخل الكهف، ومنها بصمة يد إلنسان ما قبل<br />
التاريخ, تعود رمبا ألكثر من ثمانية آالف عام،<br />
كما مت العثور بالكهف على عديد من الندبات<br />
احلجرية املمثلة لبصمات حفريات رمبا فقارية،<br />
وتتم دراستها حالياً، وميثل هذا الكهف حلقة<br />
وصل في الفنون البدائية إلنسان ما قبل التاريخ<br />
بني الصحراء الغربية وسكانها في فترة نهايات<br />
عصر السفانا وبدايات عصر اجلفاف وانتقال<br />
التجمعات البشرية إلنسان ما قبل التاريخ من<br />
الصحراء الغربية في اجتاه وادي النيل، وذلك في<br />
125<br />
كهوف عمرها 50 مليون سنة!
رسوم من كهف األرواح الطائرة<br />
نهايات األلف السادس قبل امليالد.<br />
كهف اجلارة<br />
يعد كهف اجلارة من أشهر الكهوف املصرية<br />
وأقدمها كشفاً، حيث مت الكشف عن هذا الكهف<br />
بواسطة جيرهارد روفلز عام 1873، وذلك أثناء<br />
قيامه برحلة من واحة الكفرة وعين دو في<br />
ليبيا، مخترقاً الصحراء الغربية باجلمال، والتي<br />
استمرت أكثر من ثالثة أشهر، وكانت القوافل ال<br />
متر من هذه األماكن نظراً لوعورتها، ولكن في<br />
الغالب نظراً لتعرض قافلته لبعض العواصف،<br />
فقد اجتهت غرباً فشرقاً حتى وصلت إلى أحد<br />
األماكن املسطحة، التي لم يكن يتوقع أن يكون<br />
فيها ملجأ من العواصف, إال أنه عندما وجد<br />
الكهف احتمى به وكتبه في مذكراته.<br />
ويبدو أن جيرهارد لم يكن أول املكتشفن<br />
حيث عثر د. خالد سعد مدير آثار ما قبل<br />
التاريخ على العديد من النقوش الصخرية<br />
داخل الكهف، التي ترجع إلى أكثر من<br />
20 ألف عام، وهذا يدل على أن إنسان ما قبل<br />
التاريخ كان يعلم جيداً هذا الكهف، واحتمى به<br />
ورسم فيه بعض نقوشه الصخرية التي توضح<br />
احلياة البيئية احمليطة به، ومن الصعب بلوغ هذا<br />
الكهف بسهولة، نظراً لوقوعه أسفل سطح األرض،<br />
وال ميكن للعن املجردة مالحظته، ودخوله يتم من<br />
خالل فجوة ضيقة تستدعي االنحناء والتحرك<br />
على اليدين والركبتن ملسافة قصيرة، خالل نفق<br />
ضيق، وفور بلوغ فسحة الكهف سيالحظ على<br />
جدران اجلانب األيسر نحت لبقر وإلنسان، وهي<br />
منحوتات بالغة األهمية تاريخياً. والكهف يقع على<br />
مسافة مائتي كيلومتر جنوب شرق الواحة البحرية،<br />
وهناك طريقتان لبلوغه، إما من أعلى الهضبة<br />
اجليرية التي تفصل بين وادي النيل ومنخفضات<br />
الفرافرة والبحرية والداخلة، وإما عن طريق واحة<br />
احلارة، التي تقع جنوب الباويطي بواحة البحرية،<br />
ثم التحرك مبحاذاة شرق غرود أبومحرق حتى<br />
بلوغ الكهف. وهو يقع بالصحراء الغربية على<br />
هضبة احلجر اجليري بجوار مدق اجلمال الذي<br />
يربط واحة الفرافرة مبحافظة أسيوط بوادي<br />
النيل. وتنتشر على جدرانه منحوتات لإلنسان<br />
املصري األول الذي عاش بهذه املنطقة<br />
عندما كانت غنية باملياه منذ حوالي<br />
العدد - 692 يوليو 2016<br />
126
الكويت عاصمة الثقافة اإلسالمية 2016<br />
كشفت الكهوف وما رسم على جدرانها عن حضارة قدمية سكنت هذه الكهوف<br />
127<br />
كهوف عمرها 50 مليون سنة!
ثمانية آالف وستمائة عام قبل امليلاد، وهي<br />
منحوتات تصور بشراً وحيوانات وفنون الصيد<br />
في ذلك الوقت. ومساحة قطاع جارة التي يقع<br />
بها الكهف ال تتعدى خمسة كيلومترات عرضاً في<br />
عشرة كيلومترات طوالً. فقد كانت احلياة محتملة<br />
في ذلك التاريخ، نظراً لتوافر كميات محدودة من<br />
املياه، والثابت أن املياه كانت وفيرة في العصور<br />
السابقة لهذا التاريخ، وهو ما أدى إلى تكوينات<br />
الصواعد والهوابط من أماح كربونات الكالسيوم<br />
داخل هذا الكهف. وهناك حالياً دراسات من علماء<br />
اآلثار والتاريخ منصبة على الربط بني حضارة<br />
وادي النيل وحضارات سكان واحات الصحراء<br />
املصرية الغربية تعتمد على فحص املخلفات، مثل<br />
رؤوس األسهم واحلراب واخلناجر احلجرية. فعلى<br />
مسافة خمسة عشر كيلومتراً من غرود أبومحرق<br />
يقع هذا الكهف الذي اكتشف أعلاه أدوات<br />
ومخلفات اإلنسان األول، وثبت وجود تشابه مؤكد<br />
بني اخلناجر احلجرية املكتشفة فيه وما اكتشف<br />
في مواقع فجر احلضارة الفرعونية بوادي النيل.<br />
التعبيرات التصويرية<br />
إذا كان عمر هذه الكهوف من عمر الزمان،<br />
إال أن تلك الرسومات التي تركها اإلنسان<br />
األول فوق جدرانها محل دراسات مهمة اآلن،<br />
وآخرها رسالة دكتوراه أثبتت أن هذه الرسومات<br />
كانت احملاولة األولى للكتابة، حتى قبل اختراع<br />
»الهيروغليفية«, وتقول الدراسات إن اإلنسان<br />
األول بدأ احلياة مبرحلة »جمع القوت«، حيث<br />
كان يسعى فيها إلى جمع قوته اليومي، ثم تلتها<br />
مرحلة »إنتاج القوت«، التي تتمثل في طفرات<br />
حققها اإلنسان مثل استئناس احليوان ومعرفة<br />
الزراعة وإشعال النار، وحتول من آكل اللحوم<br />
النيئة إلى اللحم املطهو بعد اكتشاف النار،<br />
وداخل الكهوف بدأ يظهر احتياج اإلنسان إلى<br />
اإلشباع الفكري والذهني والفني وإلى التفكير<br />
في خلق الكون. وعندما فكر في أن يسجل<br />
أحداثه، كانت الطبيعة من حوله هي املصدر<br />
الوحيد لإللهام، فهداه تفكيره إلى أن ينقل<br />
بعضاً مما في الطبيعة يعبر بالصورة عن املعاني<br />
التي يريد التعبير عنها، وجاءت العامات ذات<br />
استخدام تصويري، أي معبرة عن صورتها، فإذا<br />
رسم إنساناً فإنه يقصد التعبير عن اإلنسان،<br />
وكذلك احلال بالنسبة إلى أعضاء جسم اإلنسان،<br />
وكذلك الطيور والزواحف واحلشرات، ومبرور<br />
مدخل كهف األرواح الطائرة<br />
العدد - 692 يوليو 2016<br />
128
الكويت عاصمة الثقافة اإلسالمية 2016<br />
األرواح الطائرة كما رسمها الفنان القدمي على جدران الكهف<br />
الوقت أدرك أن العالمات التصويرية غير كافية<br />
للتعبير عن أفكاره، ولذلك أدخل دوراً صوتياً لهذه<br />
العالمات، لتعطي كل عالمة صوتاً، بل إنه جنح<br />
أيضاً في صنع أدوات للكتابة وكذلك استطاع<br />
استخالص األلوان النباتية ليرسم بها على جدران<br />
الكهوف والتي مازالت زاهية حتى اآلن، وتضمنت<br />
بعض الكهوف رسومات تعبر عن مكنون اإلنسان<br />
في ذلك الزمان، حيث عبر بها عن عالقته األسرية،<br />
وهذا ما ترمز إليه رسومات لألسرة وأبناء ذلك<br />
اإلنسان، يجلسون فوق رجليه أو في حضنه، كما<br />
يعبر عن عالقته باملرأة وبالذات عالقاته الغرامية<br />
التي متثلت في رسومات يحتضن فيها املرأة.<br />
أقدم لغات العالم<br />
في واحدة من أحدث الدراسات العلمية التي<br />
ناقشتها كرسالة للدكتوراه بكلية اآلثار جامعة<br />
129<br />
كهوف عمرها 50 مليون سنة!
هذه الرسوم أدت إلى دراسات جديدة حول نشأة اللغة الهيروغليفية في مصر<br />
القاهرة للدكتور خالد سعد، مت استخراج قاموس<br />
لنشأة اللغة املصرية القدمية وعديد من العالمات<br />
التصويرية التي تعد في األساس من أقدم لغات<br />
العالم.<br />
وقد أوضحت الدراسات العلمية التي أجريت<br />
على عديد من النقوش الصخرية والرسوم<br />
امللونة في الكهوف واملساقط اجلبلية، أن اللغة<br />
املصرية القدمية بخطها املقدس )الهيروغليفي(<br />
لم تكن وليدة املصادفة، ولم تكن هي أقدم أنواع<br />
اخلطوط التي استخدمها اإلنسان في عصور ما<br />
قبل التاريخ.<br />
وأوضحت الدراسات أن النقوش الصخرية<br />
لم تكن حكراً على مصر، بل كانت منتشرة في<br />
عديد من بلدان العالم التي وجد فيها إنسان ما<br />
قبل التاريخ، وأن هذه الرسوم أرجعها البعض<br />
إلى أنها من صناعة أحفاد إنسان »النيزروتال«.<br />
كما أوضحت الدراسة املصرية أن املصريني<br />
القدماء هم أقدم شعوب العالم في استخدام<br />
العالمة التصويرية كمكوّن لغوي، ثم أضافوا<br />
إليها داللة صوتية احتدوا عليها، فأصبح الرجل<br />
يسمى »أس« والسيدة »سي« فنقول »سي السيد،<br />
سي عمر« واستمرت »ست« فنقول »ست هامن«<br />
»ست البيت« »ست الدار« وهكذا.<br />
وقد اعتمد علماء املصريات واللغة على<br />
مستوى العالم على عديد من الدراسات اللغوية<br />
والقواميس اخلاصة باللغة املصرية القدمية<br />
مثل قاموس »اللغة املصرية القدمية« للسير<br />
آالن جاردنر الذي يعد اقدم وأهم قواميس اللغة<br />
الفرعونية، وشمل هذا القاموس جميع األشكال<br />
والعالمات التصويرية التي ظهرت في اآلثار<br />
املصرية.<br />
وأوضحت دراسة النقوش الصخرية<br />
والرسوم امللونة في الكهوف التي أجراها<br />
علماء اآلثار وجود كم كبير جداً من العالمات<br />
التصويرية التي لم يجدها أي من علماء العالم،<br />
ولم تدرج في دراسات اللغة أو اآلثار املصرية،<br />
وكانت هي األساس في نشأة اللغة املصرية<br />
القدمية املقدسة )الهيروغليفية(، وسمي هذا<br />
القاموس باسم »ما قبل الهيروغليفية«، الذي<br />
اكتشف كثيراً من العالمات التصويرية اجلديدة<br />
في احلضارة الفرعونية التي تعد بذلك أقدم<br />
لغات العالم ><br />
العدد - 692 يوليو 2016<br />
130
وزارة اإلعالم<br />
نستقبل إعالناتكم التجارية على صفحات مجلة العربي<br />
إدارة اإلعالن التجاري - وزارة اإلعالم<br />
بدالة )00965( 1802002 داخلي - 111 114 فاكس: )00965( 24824131<br />
اإلعالن والتوزيع مبجلة العربي: )00965( 22512043 - الفاكس: )00965( 22512044<br />
العنوان البريدي: ص ب - 748 الصفاة - الرمز البريدي 13008- الكويت.<br />
للتواصل مع مجلة العربي على املواقع املؤقتة التالية:<br />
E.mail: arabimag@arabimag.net<br />
E.mail: arabimag58@gmail.com
عمارة<br />
سنَّان باشا ...<br />
فنان العمارة اإلسالمية<br />
رشا عدلي<br />
كاتبة وباحثة في تاريخ الفن من مصر<br />
إن ما يميز العمارة اإلسلالمية هو تصميم هندسة المآذن والقباب، فقد<br />
ارتبطت ارتباطاً وثيقاً بالعمارة اإلسلالمية، وبخاصة عمارة المساجد،<br />
وقد شهدت المزيد من التطوير واإلبداع، على أيدي طائفة كبيرة من<br />
المعماريين المسلمين إبان العصر الوسيط، حتى صارت تُصنَّف ضمن<br />
طُ رز مُ تعددة أقدمها الطراز األموي، وأحدثها الطراز العثماني، وهذا األخير<br />
تجسَّ د بكل مُ قوماته وخصائصه الفنية والهندسية، في المآذن والقِباب<br />
التاريخية، التي تزدان بها المساجد الكبرى في مدينة اسطنبول التركية.<br />
العدد - 692 يوليو 2016<br />
132
الكويت عاصمة الثقافة اإلسالمية 2016<br />
املسجد األزرق في تركيا<br />
133<br />
سنَّان باشا ... فنان العمارة اإلسالمية
»نحن ال نشيِّد المباني<br />
التي تطفو في فضاء خاوٍ بل<br />
نعكس انسجام الطبيعة<br />
وروح المكان«..<br />
سنَّان باشا<br />
مما ال شك فيه أن العمارة العثمانية فريدة<br />
جتمع ومتزج بني عدة فنون في وقت واحد،<br />
واستطاعت أن تطغى وتنتشر في سائر البالد<br />
التي مت فتحها في أيام اإلمبراطورية العثمانية،<br />
شرقاً وغرباً.<br />
وأكثر ما تفرَّدَت به هذه العمارة وفرضته<br />
على جميع الدول والبلدان هو عمارة املساجد،<br />
وشاءت الظروف أن يعاصر معماري عبقري،<br />
وهو يوسف الرومي الذي سيعرف الحقاً باسم<br />
سنان باشا، اإلمبراطورية العثمانية في أوج<br />
قوتها وتألقها، فقد أتاح له عمره الذي قارب<br />
املائة عام أن يعاصر العهد الذهبي لسلالطني<br />
عدة... السلطان بايزيد والسلطان سليم األول،<br />
والسلطان سليمان القانوني، والسلطان مراد،<br />
والسلطان سليم الثاني، ويُعَد أحد أبرز وأشهر<br />
البنَّائني املسلمني في القرن العاشر الهجري/<br />
السادس عشر امليالدي.<br />
فقد متيَّزَت أعماله البنائية واملعمارية<br />
بالكثرة، والقوة واملتانة والضخامة، وبفيض من<br />
مسجد سنان باشا بحي بوالق بالقاهرة<br />
العدد - 692 يوليو 2016<br />
134
الكويت عاصمة الثقافة اإلسالمية 2016<br />
جامع السليمانية في إسطنبول<br />
ملسات اجلمال املعماري الالفت، ومن ثَم أطلق<br />
األتراك عليه لقب »أبو العمارة التركية« وخالل<br />
رحلة عمره لم يحدث أن توقف يوماً عن البناء<br />
والهندسة والتشييد والتخطيط. وفي احلقيقة<br />
كانت هناك عوامل ومؤثرات عدة مبنزلة أدوات<br />
جناح لهذا الرجل، ساعدته ليحقق كل هذه<br />
األعمال املعمارية الشامخة، إنه يوسف بن خضر<br />
بك بن جالل الدين احلنفي الرومي، الشهير ب<br />
»سنَّان باشا«، سنَّان أغا، ميمار سنَّان، خوجة<br />
باشا، ولد في إحدى قرى األناضول ويُطلق<br />
عليها »أغريناس« ألسرة مسيحية يقال إنها<br />
أناضولية، وفي أخرى يونانية، وقد ظهرت عليه<br />
موهبة البناء واإلنشاء منذ صغره، فكان يجلس<br />
بالساعات منهمكاً في بناء األكواخ والبيوت من<br />
الطني.<br />
ولم يكن أكمل العاشرة من عمره بعد، عندما<br />
أُخِ ذ عُنوة من أسرته وفق نظام »الدوشيرمة«،<br />
وهو نظام يعمل على جمع الفتيان الصغار من<br />
جميع املدن التي تقع حتت سطوة اإلمبراطورية<br />
العثمانية، ومن ثَم يتم إحلاقهم مبدارس خاصة<br />
يتعلمون فيها جميع العلوم والفنون، ثم يتم<br />
إحلاقهم بعدها باملدرسة العسكرية ليصبحوا<br />
جنوداً انكشاريني، وكان الفتى سنَّان ضمن<br />
فتيان عدة من األناضول وقع عليهم االختيار<br />
ملِ َا كان يظهر عليه من نباهة وذكاء، فالتحق<br />
أوالً مبدرسة ابتدائية ثم استكمل تعليمه في<br />
»األوجاق«، وهي مدرسة معمارية خاصة<br />
تخرج فيها كبار املعماريني، ممن شيدوا أعظم<br />
اآلثار في تاريخ العمارة اإلسلالمية والعاملية،<br />
ثم انضم من بعدها للجيش ليتلقَّى هناك<br />
التعليم العسكري، وخرج في حمالت عسكرية<br />
إلى بلدان عدة، منها بلجراد واملجر والبلقان<br />
135<br />
سنَّان باشا ... فنان العمارة اإلسالمية
صحن مسجد السليمانية من الداخل<br />
وفارس والشام و العراق ومصر، وقد حصل<br />
على مكانة كبيرة في اجليش نظراً جلهوده<br />
في تصميمات بناء السفن احلربية واجلسور<br />
والقالع واحلصون احلربية.<br />
من العمارة العسكرية إلى املدنية<br />
جاء تفوقه كمعماري كبير في عهد السلطان<br />
سليمان القانوني، وهو بال شك العصر الذهبي<br />
لإلمبراطورية العثمانية، وفي إحدى احلمالت<br />
العسكرية مع السلطان سليمان أنشأ املعماري<br />
العبقري جسراً فوق نهر بروت خالل 14 يوماً، وبنى<br />
آخر على نهر الدانوب، ولذا منحه السلطان لقب<br />
كبير مهندسي الدولة العثمانية، وقد أدى خروج<br />
املعلم سنَّان لفتوحات احلربية األوربية مع اجليش<br />
العثماني إلى صقل موهبته، فكانت هناك فرصة<br />
لالطلالع على العمائر األوربية والفنون املختلفة،<br />
وقد تأثر كثيراً بفنون عصر النهضة، الذي كان في<br />
أوجّ شهرته وانتشاره وقتها، وكانت أعمال مايكل<br />
أجنلو املختلفة نبراس نور له، باإلضافة لتأثره<br />
مسبقاً باجلانب الفني للعمارة السلجوقية، حيث<br />
كل ما حوله من مبان وعمائر في األناضول ال يخلو<br />
منها، ونشأت في عقلهِ فكرة املزج بين العمارة<br />
األوربية الضخمة التي متتاز بالزخارف والتشكيل،<br />
واملدرسة السلجوقية املعمارية مبفهومها اإلسالمي.<br />
من جهة أخرى نشأ الفتى احملب للعمارة والتشييد<br />
أمام كاتدرائية آيا صوفيا بإسطنبول، التي حتولت<br />
بعد فتح محمد الفاحت إلى مسجد إسالمي ضخم<br />
أمامه يحمل االسم نفسه، ومن خالل هذا الصرح<br />
الضخم الذي كان دائماً، فكر ملاذا ال يكون العمل<br />
الديني ضخماً كما هي ضخامة آيا صوفيا،<br />
فالضخامة تعطي وقاراً وجماالً؟ وميكننا أن نقول<br />
إن سنَّان باشا تأثر بأشكال عدة للعمارة األوربية،<br />
العدد - 692 يوليو 2016<br />
136
الكويت عاصمة الثقافة اإلسالمية 2016<br />
متثال سنّان باشا في تركيا<br />
اإلسلامية، والسلجوقية، ومر أيضاً مبراحل عدة،<br />
هي مرحلة أن كان تلميذاً، مرحلة املعماري املتمكن،<br />
وأخيراً مرحلة األستاذ الذي يخطط للعمل ويشرف<br />
عليه. وكان له أربعة من أمهر الطلبة تدربوا علي<br />
يديه وجتلت أعمالهم في أماكن مختلفة، ومن<br />
تامذته أحمد أغا، وداوود أغا، ويتيم بابا علي،<br />
ويوسف، وسنَّان الصغير، وينسب إليه تشييد<br />
قصور الهور ودلهي وأكرا للسلطان املغولي الشهير<br />
جال الدين أكبر في الهند، وعُينِّ سنَّان باشا كبير<br />
املعماريي للدولة العثمانية بعد وفاة علي عجم<br />
وكان هذا عام )944 هجرية/1538م(.<br />
أسطورة القباب اإلسالمية<br />
إن القِ باب هي أهم ما يُ َينِّز أعمال سنّان<br />
باشا، وقِ باب جمع قُبَّة، وهي تستخدم للتسقيف<br />
وتُ ثل نصف كرة مجوفة تقف على أعمدة<br />
وجدران، وعُرِ فَت في صورتها البدائية منذ<br />
أوائل األلفية الرابعة قبل املياد في شمال<br />
العراق وشرق سورية، ثم في شمال إفريقيا، ثم<br />
اقتبسها اإلغريق لتسقيف مقابرهم، ووُجِ دَت<br />
أيضاً في أعمال املصريين القدماء، وتطورت<br />
التطور احلقيقي لها عند الرومان، كالتي تُزَينِّن<br />
آيا صوفيا في إسطنبول، وهي بعدد من املآذن،<br />
وأشرف على بنائها عند حتويلها ملسجد سنَّان<br />
باشا، وقبة املسجد األقصى ومسجد الرسول<br />
صلى الله عليه وسلم باملدينة املنورة، إال أن<br />
مسجد شاه زاد هو التجربة األولى له في<br />
تصميم بناء القِ باب.<br />
يُعْتَبَر مسجِ د السُ لَيْمانية في أدرنة هو<br />
حتُ فته املعمارية، في حي تُعد عِ مارة مَجْ مَع<br />
السُ لَيْمانية هي مرحلة النضوج في بناء القباب.<br />
ويقول سنَّان عن دواعي إبداعه في هذا<br />
137<br />
سنَّان باشا ... فنان العمارة اإلسالمية
املسجد: »إن املعماريين اآلخرين يقولون إننا<br />
متفوقون على املسلمن، ألن عالم اإلسالم يخلو<br />
من قبة عظيمة مثل آيا صوفيا، وإن بناء مثل<br />
هذه القبة الضخمة أمر غاية في الصعوبة،<br />
وكان لكالمهم هذا تأثيره املؤلم في قلب هذا<br />
العبد العاجز )يقصد نفسه(، لذلك بذلت<br />
الهمةَ العالية في بِناءِ هذا اجلامع، وبعون الله<br />
ثم بتشجيع السلطان سليم خان، قمت بإظهار<br />
املقدرة، وأقمت قُبة هذا اجلامع أعلى من قُبة<br />
آيا صوفيا بست أذرع وأعمق بأربع أذرع«، وفي<br />
حديثهِ حول عبقرية الفن املعماري، في جامع<br />
السُ لَيْمَانِية، يقول املؤرخ روبير مانتران، إنه بكل<br />
تأكيد، هو األروع واألجمل، بن كل مساجد<br />
وجوامع مدينة إسطنبول، »إنه يبدو مُفعما<br />
بالوضوح، وببساطة حتجب علماً عميقاً،<br />
وتتطابق ترتيباته الداخلية، تطابقاً وثيقاً، مع<br />
تراكيب اجلهاز الداخلي، األكبر بكثير مما<br />
في آيا صوفيا«. ويُضيف برنارد لويس »إن<br />
جامع السُ لَيْمانية، الذي شُ يّد بعد قرن من فتح<br />
إسطنبول، يُصوّر هيكل بنائه، وطريقة زخرفته،<br />
مدى التأثر بينابيع التقليد اإلسلالمي األولى،<br />
وأصالة حياته الدينية واجلمالية في جوهرها،<br />
ومتيزها في آن واحد«.<br />
ساحة اجلامع األزهر بالقاهرة<br />
سنان باشا ومايكل أجنلو<br />
وأيضاً قال العالِم األملاني وأستاذ تاريخ<br />
العمارة في جامعة فيينا »ه. كلوك« عن سنَّان<br />
باشا: »إنه يتفوق فنياً علي مايكل أجنلو صاحب<br />
أكبر اسم فني في احلضارة األوربية«.<br />
وكان »ميمار سنَّان« )1489م - 1580م( معاصراً<br />
ملايكل أجنلو )1564-1475م(، وعاش كالهما عمراً<br />
طويلالً امتد إلى 90 سنة تقريبا، ما أتاح لهما<br />
حتقيق إجنازات. وامتدت حياة سنَّان باشا حتى<br />
اقترب من املائة، وعاصر خمسة من سلالطن<br />
الدولة العثمانية، وبعد حياة مليئة بجالئل األعمال،<br />
تُوفِّيَ سنَّان باشا في )996ه / 1588م( تاركاً ذكرى<br />
ال تضيع، وتقف أعماله التي تزيد على أربعمائة<br />
أثر معماري شاهدة على عبقريته في عالم البناء<br />
العدد - 692 يوليو 2016<br />
138
الكويت عاصمة الثقافة اإلسالمية 2016<br />
قبة مسجد السليمية من الداخل<br />
والتشييد، واعتبرته دائرة املعارف اإلسالمية التي<br />
أصدرها املستشرقون واحداً من أعظم املعماريني<br />
الذين ظهروا في التاريخ ، واألمر األكثر غرابة<br />
أنه كان في القرن السادس عشر اثنان من أعالم<br />
الدولة العثمانية باالسم واللقب نفسيهما »سنان<br />
باشا«، أولهما رائد العمارة العثمانية، واآلخر قائد<br />
المع وسياسي عرف بدهائه، وجنح في أن يصبح<br />
الرجل الثاني في الدولة العثمانية، هما »سنان باشا<br />
املعماري« والوالي والسياسي احملنك سنان باشا بن<br />
علي بن عبدالرحمن«. ويخلط البعض بني الرجلني<br />
ألن كالً منهما كان له االسم والرتبة نفسيهما، وكل<br />
منهما جاء في العصر نفسه وليس ذلك فقط، ولكن<br />
سنان باشا الوالي كان أيضً ا مولعاً باملعمار، وامتدت<br />
حياته لقرابة املائة عام، فقد ولد عام 1506 وتوفي<br />
في 1596، وتقلد فيها والية مصر مرتني )1567 -<br />
1568( ومرة أخرى في )1571 – 1573( وقاد حمالت<br />
عدة لفتوحات عربية، مثل اليمن وتونس، وتولى<br />
منصب الصدر األعظم، وتقلد والية دمشق. ومن<br />
اآلثار التي أشرف عليها هذا القائد احملب للمعمار،<br />
إعادة فتح خليج اإلسكندرية وبناء قصر في حي<br />
الزيتون، واألهم من كل ذلك هو املسجد الذي يحمل<br />
اسمه ويقع في شارع »السنانية« مبنطقة بوالق،<br />
ويعد ثاني جامع عثماني مت بناؤه في القاهرة بعد<br />
جامع سليمان بالقلعة، ويبلغ طوله 35 متراً وعرضه<br />
27، وميتاز بقبة مركزية كبيرة محاطة بكثير من<br />
األيقونات، وكانت القبة مغطاة بالرصاص، كما جاء<br />
في »سياحة نامة« ووصفها أُوليا جلبي بقوله: »إنها<br />
قبة جميلة كأنها صنعت في مصنع السماء«. وقد<br />
جاء تصميم هذا املسجد على النهج املعماري لسنان<br />
باشا املعماري التركي، وجتسدت فيه مظاهره<br />
البنائية، ويطل على النيل مباشرة.<br />
وله أيضاً مجموعة خيرية في ساحة باب اجلابية<br />
بدمشق، تضم جامعاً ومدرسة وسبيال للماء. وميتاز<br />
اجلامع الذي شرع الوالي في بنائه عام 1586م عن<br />
غيره من مساجد دمشق مبناراته املستديرة واملكسوة<br />
بألواح القاشاني األخضر ><br />
139<br />
سنَّان باشا ... فنان العمارة اإلسالمية
سينما<br />
أندريه تاركوفسكي:<br />
صناعة األفالم تعني البحث عن الجمال الخالص<br />
محمد الفقي<br />
كاتب من مصر<br />
يتهيب المرء عند الكتابة عن أندريه تاركوفسكي، فهناك أوالً<br />
اإلشفاق على النفس عند التفكير في الكتابة عن هذا الفنان العظيم،<br />
وهناك أيضاً حشود األفكار التي تتالحق حين يُذكر تاركوفسكي أو أحد<br />
أعماله، فضالً عن الشك في أال تكون الكلمات هي الوسيلة األنسب<br />
للتعبير عن سينماه، بثقلها البصري والروحي والميتافيزيقي. لذلك<br />
اخترنا أسلوب المالحظات لكتابة هذا المقال، آملين أن نبرز الفكرة أكثر<br />
من تجميل الصياغات، سعياً لتجنب االلتباس الذي قد يسببه استخدام<br />
جماليات اللغة عند الحديث عن سينما تاركوفسكي، وهو التباس<br />
مطلوب في العمل الفني، مكروه عند التصدي لقراءته.<br />
أندريه تاركوفسكي<br />
العدد - 692 يوليو 2016<br />
140
الكويت عاصمة الثقافة اإلسالمية 2016<br />
تاركوفسكي خالل إخراج أحد أفالمه<br />
ال يفوت القارئ الذي أوتي نفاذ البصيرة أن<br />
يدرك أن هذه املقدمة الزائدة، إمنا تأتي من باب<br />
التماس العذر حملاولة الكتابة عن تاركوفسكي.<br />
أرثوذكسية الفن<br />
في البداية هناك ملمح الرجل امللتزم أشد االلتزام<br />
بعمله، فتاركوفسكي ليس من طينة الكسالى امللهمني<br />
املنجرفني في أحالمهم. كان الرجل ميقت تلك اخلرافة<br />
التي خلقها الفنان البوهيمي حول عملية اإلبداع، وكان<br />
االلتزام عنده يعني صنع األفلالم بوعي كامل، ويعني<br />
أيضاً التضحية، وواجب الفنان في التأثير على<br />
جمهوره إليقاظ اجلانبني اجلمالي والروحاني فيه، ال<br />
تدميرهما. أرثوذكسية الفن عند تاركوفسكي تبدو كما<br />
لو أن الفن يطالب بشروط قدسية املمارسة الدينية<br />
نفسها: إميان، وصبر، ومواظبة، وإخالص، وتضحية.<br />
في محادثة له مع السيناريست اإليطالي تونينو جويرا،<br />
يقول تاركوفسكي: »السينما فن معقد ومهم جداً،<br />
وأعتقد أن علينا أن نقدم ذواتنا قرباناً لهذا الفن«.<br />
ملمح آخر من أخالق الفن عند تاركوفسكي هو<br />
أن يكون السينمائي قادراً على البحث املتواصل عن<br />
اجلمال اخلالص الذي هو مطمح كبار الفنانني كما<br />
كبار الصوفيني؛ ذلك اجلمال الذي يظل وفياً لطبيعته<br />
اجلوهرية عندما تحُ جب الصنعة والعمليات التقنية.<br />
كان عمله هو سعي دائم لإلمساك بهذا اجلمال؛ في<br />
كل فكرة، ولقطة، وتشكيل، وتعبير، ولون، وحركة. إن<br />
عبقرية تاركوفسكي هي عبقرية جمالية تتغذى على<br />
اجلمال، وأصبحت معه السينما – للمرة األولى -<br />
موضوعاً للجمال. نتذكر في هذا املقام مقولة ستيفان<br />
تروفيموفيتش في رواية »الشياطني« لدوستويفسكي<br />
»والذي كان تاركوفسكي يحبه ويقدره كثيراً«: »هل<br />
تعلمون أن اإلنسانية تستطيع أن تستغني عن اخلبز،<br />
وعن العلم، ولكنها ال تستطيع أن تستغني عن اجلمال؟!<br />
إن اجلمال وحده ال غنى لها عنه، إذ من دون اجلمال<br />
ال يبقى لنا على األرض ما نعمله! هذا هو السر كله!<br />
ذلكم هو كل التاريخ!«.<br />
رمبا يكون تاركوفسكي كذلك من أكثر السينمائيني<br />
الذين متسكوا بحريتهم في اإلبداع، على الرغم من<br />
املعاناة واحلصار اللذين جوبه بهما داخل االتاد<br />
141<br />
أندريه تاركوفسكي: صناعة األفالم تعني البحث عن اجلمال اخلالص
السوفييتي؛ من السياسيني والرقباء على حد سواء.<br />
كان يرى أن شرط الفنان السينمائي هو اإلخالص<br />
الكامل لفنه، وكان تقديره ضئيالً ملن هم ليسوا أهالً<br />
لذلك؛ أولئك الذين يضعون الفن في خدمة السياسي<br />
أو التاجر. كان أيضاً ميقت طريقة »هوليوود« في صنع<br />
األفالم التجارية بالطريقة نفسها التي يتم بها إنتاج<br />
السجائر واملياه الغازية، ولكونه فناناً حراً كان يحتقر<br />
هذا النوع من النجاح، وعرف أن الثمن الذي يُدفع<br />
للحصول على اجلمال اخلالص هو التضحية بالنفس<br />
قرباناً للفن.<br />
الزمن في سينما تاركوفسكي<br />
آمن تاركوفسكي بأن املادة اخلام للسينما هي الزمن،<br />
فهو املادة األولية الوحيدة التي ال يستطيع السينمائي أن<br />
يخلقها؛ هو مكمن قوة وفخر السينما »ونقطة ضعفها<br />
في آن واحد«، فالسينما هي الوسيلة الفنية األكثر<br />
قدرة على عرض الزمن، والوعي بجمالياته، وبنائيته،<br />
وحتوالته.<br />
رمبا يكون فيلمه »املرآة« هو املثال األوضح<br />
على الفكرة املعقدة للزمن لدى تاركوفسكي، وعلى<br />
طريقته في استخدام الزمن. ف »املرآة« هو فيلم عن<br />
املخرج نفسه وعن ذكريات طفولته، وبالتالي فإنه ال<br />
يتناول زماناً واحداً، بل يتراوح السرد فيه بني األمام<br />
واخللف، في احلاضر واملاضي، وعلى نحو يصبح<br />
فيه املاضي حاضراً، وتذوب فيه اخلطوط الفاصلة<br />
بينهما، بفكرة الدميومة نفسها عند الفيلسوف الكبير<br />
هنري برجسون؛ أي إن الزمن هنا هو الزمن النفسي<br />
الداخلي، الذي يتكون من حلظات من املاضي<br />
واحلاضر متجددة دون انقطاع، تتداخل مع بعضها<br />
بعضاً لتشكل تياراً واحداً، وبهذا املعنى يكون الزمن<br />
هو دميومة حية ومعيشة، يعيشها اإلنسان داخلياً،<br />
وتُبقي األحوال املاضية حية ومتجانسة وعضوية<br />
داخل األحوال احلاضرة.<br />
يتحرك فيلم »املرآة« بحرية محسوبة حساباً دقيقاً،<br />
ما بني احلاضر واملاضي، ما بني األلوان واألبيض<br />
واألسود، ما بني الدراما واملادة التسجيلية وإعادة خلق<br />
الوقائع. ولكنه في تناوله للماضي ليس فيلماً عادياً<br />
من أفالم السير الذاتية للمخرجيني. فحتى اجلزء<br />
التسجيلي في الفيلم، الذي يتناول فترات: 1935م،<br />
1943م، 1969م، يكون التذكر فيه تذكراً موضوعياً ال<br />
ذاكرة ذاتية. وبقدر ما تبدو املشاهدة األولى صعبة<br />
ومربكة، فإن املشاهدات التالية تثبت كم أن الفيلم<br />
شديد الطبيعية واالتساق والعضوية في حكي قصة<br />
الذكريات باستخدام األسلوب البصري. إن فيلم<br />
»املرآة« يطمح إلى احلب، ولكن ليس من أول نظرة،<br />
بل من آخر نظرة. فالفيلم اخلالي من الصدمات،<br />
يتسلل في املشاهدات التالية إلى وعي املتفرج، فيصبح<br />
جزءًا من خبرته الشخصية، وكأن مضي الزمن هنا<br />
هو احملدد لتقييم جمالية الفيلم، مثلما تبدو قطعة<br />
موسيقية غريبة في البداية ثم تعتادها النفس حتى<br />
تصبح هي املثال على الطبيعية في الفن، ألن فيها<br />
تتحقق قوانني اجلمال.<br />
إن كل شيء عند تاركوفسكي هو عن الزمن،<br />
واملكان عنده خادم في بلالط الزمن، بل إنه يحل<br />
تعبيرياً في كثير من األحيان محل الزمن الذي يكون<br />
هو من وراء القصد، كما حتل املسافة املكانية محل<br />
املسافة الزمانية، فيصبح النجم املذنّب الذي يقطع<br />
املسافة املكانية في الفضاء هو الرمز لتحقيق أمنية<br />
يتمناها املرء في زمن مقبل، وبهذا املعنى يصبح<br />
املكان رمزاً للزمن في فيلم »سوالريس«، الذي تدور<br />
أحداثه في محطة فضائية بعيدة عن األرض وقريبة<br />
من كوكب غريب يرسل الذكريات الشخصية لكل من<br />
يقترب منه، فتمحى الفواصل بني املاضي واحلاضر،<br />
بل يصبح املاضي أقوى حضوراً من احلاضر نفسه<br />
»في صورة الزوجة املتوفاة التي تعود مراراً للحياة<br />
مع البطل في احملطة الفضائية«. في »سوالريس«،<br />
كما في »نوستاجليا«، الزمن ليس هو الزمن األرضي<br />
الدنيوي، ليس هو زمن النسيان، ولكنه زمن التذكر،<br />
زمن الدميومة. وجعل الدميومة حاضرة على الدوام،<br />
واملاضي جزءاً حيوياً من احلاضر هو ما يُخلص الروح<br />
من وسواس الزمن، وهو نفس ما حاول القيام به سابقاً<br />
مارسيل بروست في رائعته »البحث عن الزمن الضائع«،<br />
التي أسسها على إعادة تخليق اخلبرة املاضية ضمن<br />
شروط احلاضر املعيش.<br />
هنا تتحد احلياة الفعلية مع احلياة التأملية، ويكون<br />
كالهما في خدمة الذهن، وتطيع الذاكرة نداءات الذهن<br />
وتستجيب له. فزمن الدميومة متكامل وليس ممزقاً وال<br />
متشظياً، فاملاضي واحلاضر يدوران في تيار واحد،<br />
العدد - 692 يوليو 2016<br />
142
الكويت عاصمة الثقافة اإلسالمية 2016<br />
لقطة من فيلم أندريه روبليف<br />
لكنهما بالنسبة لتاركوفسكي، كما كانا بالنسبة لبروست،<br />
ماض وحاضر منتقيان بعناية.<br />
إن تاركوفسكي ال ينفتح إال على القلة القليلة من<br />
األيام التي لها مغزى وداللة؛ التي تبدو كأيام تكتمل<br />
فيها دائرة الزمن، إلى الدرجة التي تعيدنا فيها<br />
مشاهد التذكر إلى ما يشبه األزمنة القدمية، واأليام<br />
البدائية، في منطق أشبه باألحلالم، وكأن أفالمه<br />
تريد تذكيرنا مبعطيات ما قبل التاريخ، وكأن الصور<br />
السينمائية قادرة على ما لم تستطعه حتى اآلن أي<br />
خبرة إنسانية.<br />
»املرآة« و»سوالريس« و»نوستاجليا« ال تبدو<br />
أفالماً عن تأبني أزمنة أفلتت وانقضى أوانها بقدر<br />
ما هي أفالم عن التذكر، ليس بوصفه تاريخاً، بل<br />
بوصفه مما قبل التاريخ. فااللتقاء باحليوات السابقة<br />
للبطل يجعلنا كأننا في أيام أعياد، وما يجعل األعياد<br />
عظيمة هو االلتقاء بحيوات من احتفلوا بها سابقاً<br />
واإلنصات فيها إلى همهمة املاضي. إن الزمن في<br />
أفالم تاركوفسكي يصبح محسوساً على نحو فائق،<br />
رمبا ألن الزمن هنا خارج التاريخ، إذا كان التاريخ<br />
يعني التسلسل الزمني الذي يترك عرشه ملفهوم<br />
الزمن بوصفه الدميومة؛ بوصفه األبدية.<br />
بعض اخلصائص البصرية لسينما تاركوفسكي<br />
يعارض تاركوفسكي براديكالية استخدام املخرج<br />
واملنظر الروسي سيرجي أيزنشتاين ألسلوب »املونتاج<br />
الفكري«؛ أي جتميع لقطتني لهما فكرتان مختلفتان،<br />
مما يُنتج فكرة ثالثة جديدة في ذهن املُشاهد، ويعارض<br />
أيضاً ما يستتبع ذلك من أسلوب اإليقاع السريع. كان<br />
تاركوفسكي يرى أن أسلوب أيزنشتاين ال يترك مساحة<br />
لروح املُشاهد، وال مكاناً ملا هو مسكوت عنه، وال للصوت<br />
الداخلي في اإلنسان، وال لاللتباس الذي هو أهم ما<br />
في الفن.<br />
لقطة للجماهير احملتشدة )+( تتبعها لقطة لتمثال<br />
ألسد يهم بالنهوض )=( تساوي فكرة أن اجلماهير<br />
ستقوم بثورة؛ كان تاركوفسكي يكره مثل هذا األسلوب<br />
في صنع السينما، ألنه يرفض فرض نوع من امليكانيكية<br />
التي هي ليست من صلب العمل، وألن تشظية الزمن،<br />
واملكان، واحلدث، ضد طبيعته، ولذلك رفض أيضاً<br />
استخدام القطع املتوازي )أي عرض حدثني يقعان في<br />
مكانني مختلفني في الزمن نفسه(.<br />
143<br />
أندريه تاركوفسكي: صناعة األفالم تعني البحث عن اجلمال اخلالص
إن تاركوفسكي ال يستخدم التتابع السينمائي كما<br />
هو متعارف عليه كالسيكياً، بل تبدو أفالمه وكأنها<br />
مضادة للسينما. السينما التي أخضعت مركز احلس في<br />
عقل اإلنسان لنوع معقد من التدريب، والتي راحت تشبع<br />
حاجة جديدة خلقتها إلى املثيرات، في أفالم يؤسَ س<br />
اإلدراك فيها في شكل صدمات متتالية، وكأن إيقاع<br />
اإلنتاج الصناعي الكبير على سير ناقل احلركة في خط<br />
التجميع قد انتقل هو أيضاً إلى طريقة الفرجة، وحدد<br />
إيقاع الفيلم.<br />
هنا يأتي تاركوفسكي ليطيح بكل ذلك بضربة<br />
جمالية واحدة، وكأنه يبارز اإلنتاج الكبير بالعمل اليدوي<br />
احلرفي املرتبط بإرادة صانعه، تلك اإلرادة التي تختفي<br />
في اإلنتاج الرأسمالي الفيلمي، حيث اإلنتاج فيها<br />
مستقل عن إرادة السينمائي؛ يدخل الفيلم إلى مجال<br />
حركته ويبتعد في خط اإلنتاج من دون إرادته، ويتعلم<br />
اجلميع تنسيق حركاتهم وحيواتهم وأفكارهم مع احلركة<br />
املنتظمة لإلنتاج السينمائي الكبير؛ الذي يعمل بدوره<br />
كمخدر، وكوسادة المتصاص الصدمات في املجتمع<br />
االستهالكي؛ مثل العربات املتصادمة في مدينة املالهي<br />
التي تقوم بدور اإللهاء وتفريغ الصدمات للزبون. وبهذا<br />
املعنى يصبح اإليقاع السريع في األفالم التجارية الزماً،<br />
وهو مياثل اإليقاع السريع حلركة يد موزع الورق في<br />
ألعاب احلظ والقمار، والكدح الذي ميارسه العاملون<br />
في السينما هنا يشبه الكدح الذي ميارسه املقامر على<br />
طاولة اللعب؛ الالجدوى نفسها، واخلواء، ونفاد الصبر،<br />
واآللية، والعجز عن القيام إال برد فعل انعكاسي، وكأنهم<br />
شخصيات الزومبي اخليالية التي قضت متاماً على<br />
ذاكرتها واستسلمت الستحواذ نهم احلواس.<br />
أما عمل تاركوفسكي املضاد فيؤسَ س على استخدام<br />
اللقطة املشهدية الطويلة، واإليقاع املتمهل )الالزم<br />
للتأمل(، مبا يستتبع ذلك من »ميزانسني« داخل اللقطة<br />
الواحدة )أي حركة املمثليني واألكسسوار والكاميرا<br />
وعالقاتهم ببعضهم(، وكأنه بهذه الطريقة ينفي املونتاج<br />
نفسه، باإلضافة إلى حترمي املونتاج املتسارع »الذي<br />
يعني اختزال الزمن«، وحترمي القطع املتوازي )أي<br />
حترمي اإلدراك املتزامن(، وكأنه هنا يعمل ضد ما اعتُبر<br />
اإلجناز العظيم للسينما: تسجيل حدثني في مكانني<br />
مختلفني في الزمن نفسه.<br />
من أهم اللقطات املشهدية التي ال ينساها املُشاهد؛<br />
مشهد أندريه احملتضر في »نوستاجليا« وهو يحاول<br />
عبور ينبوع املاء اجلاف من طرفه األقصى إلى طرفه<br />
اآلخر حامالً شمعة يحاول احلفاظ على شعلتها.<br />
تنطفئ الشمعة لهبوب الريح، فيعود أندريه إلى البداية<br />
ويعيد إشعال الشمعة ويلمس اجلدار ويشرع في العبور<br />
من جديد، ويتكرر األمر وتنطفئ الشمعة مرة أخرى،<br />
وتستمر كاميرا تاركوفسكي مع محاوالت أندريه<br />
املتكررة في حماية نور الشمعة وإيصالها للجانب اآلخر،<br />
في لقطة مشهدية واحدة تقارب الثماني دقائق كاملة،<br />
متحركة بحرص ومتهل. إيقاع الكاميرا املتمهل هنا<br />
في غاية األهمية؛ فالكاميرا تتبع أندريه وال تسبقه،<br />
وال تتوقع احلركة، ما يحدد مهمة الكاميرا في سينما<br />
تاركوفسكي؛ إنها التأمل ال حتريك األحداث.<br />
وألن وظيفتها هي التأمل، ترتفع الكاميرا عند<br />
تاركوفسكي أعلى من مستوى الشخصيات، على عكس<br />
الكاميرا في هوليوود التي يجب أن ينخفض مستواها<br />
عن الشخصيات حتى تُبرز أعني النجوم، وعلى عكس<br />
الكاميرا شديدة االنخفاض عند ياسوجيرو أوزو مثالً؛<br />
التي تلتحم باألرض لتصور روح الضجر في اإلنسان<br />
والعدمية في العالم. ال، إن كاميرا تاركوفسكي ليست<br />
كاميرا أرضية، فهي متعالية في الفضاء؛ ترنو إلى<br />
األرض وتتأمل روح اإلنسان في شفقة.<br />
اللقطة املشهدية الطويلة هي كاحملقق الذي<br />
يُخضع العالم لالستجواب ليُدلي باعترافه ويكشف<br />
عن احلقيقة. لكن اللقطة الطويلة لتاركوفسكي<br />
ليست هي اللقطة التسجيلية الطويلة نفسها لروبرت<br />
فالهيرتي مثالً في فيلم »نانوك رجل الشمال،<br />
1922«؛ فاألخيرة كان طموحها تسجيل الزمن<br />
الفعلي النتظار رجل اإلسكيمو وهو يصطاد الفقمة،<br />
وكان طموح فالهيرتي أن يجعل املُشاهد ينتظر<br />
الزمن نفسه الذي ينتظره اإلسكيمو للظفر بصيده.<br />
أما اللقطة الطويلة لتاركوفسكي فإن طموحها<br />
ليس تسجيل الواقع، وال هو حتى طموح الشاعر<br />
الرومانسي في نقل جماليات العالم والطبيعة، ولكنه<br />
طموح خلق عالم ذاتي باطني خاص. إن تاركوفسكي<br />
ال يُسجل، إنه يخلق، إنه يستبعد العالم الواقعي من<br />
كادراته لتحل محله عوالم النفس البشرية، والتذكر،<br />
وحاالت الروح، ومتوجات األحلالم. وبهذا املعنى<br />
يتيح اإليقاع املتمهل الفرصة ألن تنهض اللقطة<br />
العدد - 692 يوليو 2016<br />
144
الكويت عاصمة الثقافة اإلسالمية 2016<br />
مشهد من فيلم ستوكر )الطواف(<br />
املشهدية الطويلة كعمل بصري فذ في حد ذاته؛<br />
كلحظة وجودية خالصة.<br />
الروح في سينما تاركوفسكي<br />
لم يوجد في تاريخ السينما من أوقف حياته للتعبير<br />
عن الروح اإلنسانية مثلما فعل تاركوفسكي، الذي آمن<br />
بأن اإلنسان كائن روحاني باألساس. هذا ما مييزه عن<br />
كبار مخرجي السينما اآلخرين الذين اهتموا أيضاً<br />
بالروح اإلنسانية، ففي حني تناولوا هم الصراع الروحي<br />
كجزء من احلبكة، نراه في أوقات فراغ الشخصيات<br />
املغروسة في القضايا السيكولوجية أو االجتماعية أو<br />
العاطفية، كانت الروح عند تاركوفسكي هي احلبكة ال<br />
جزءًا من احلبكة؛ هي املعمار اخلفي الذي يشيد عليه<br />
الفيلم بأكلمه، بل ويربط بني أفالمه وبعضها بعضاً.<br />
من أجمل أفالمه التي يبدو فيها ذلك جلياً فيلم<br />
»الطواف«؛ الذي تخوض فيه ثالث شخصيات »الطواف،<br />
والكاتب، والعالم« رحلة روحانية مكثفة في ما يسمى<br />
ب »املنطقة«؛ وهي منطقة غريبة وخطرة حتدث فيها<br />
أشياء عجيبة وتوجد فيها »حجرة األماني« التي حتقق<br />
أعز أمنيات اإلنسان إلى قلبه. إن هدف الرحلة لدى<br />
الشخصيات الثالث هو هدف شخصي، لكن الصراع<br />
ذو طبيعة واحدة لهم جميعاً: البحث عن اخلالص،<br />
عن النور، عن احلقيقة، عن اإلميان في أرواحهم<br />
التعبة. والطواف هنا مبنزلة املرشد الذي يعرف<br />
»املنطقة« ويقودهم خالل دروبها اخلطرة، وهو يفعل<br />
ذلك باالستماع إلى الصوت الداخلي لروحه، باستخدام<br />
حدسه ال معرفته، ألن املعرفة ال قيمة لها في »املنطقة«؛<br />
فالطرق تتغير وتتبدل، وما يكون مأموناً في حلظة<br />
يكون مميتاً في اللحظة التالية؛ حواجز وشراك ال تنفع<br />
معها املعرفة، وال سبيل ينجح إال الغنوصية، واإلنصات<br />
للصوت الداخلي البدائي والفطري الذي فقده اإلنسان<br />
احلديث بالالمباالة؛ اإلنصات للحقيقة املدفونة داخل<br />
اإلنسان. كان تاركوفسكي يعتقد أن مهمته هي إيقاظ<br />
ذلك الصوت الداخلي في أرواح املشاهدين، مثله مثل<br />
الطواف الذي يحاول الوصول بالكاتب والعالم إلى حجرة<br />
األحالم، وأيضاً كمثل الشاعر املنفي في الغربة ميشي<br />
145<br />
أندريه تاركوفسكي: صناعة األفالم تعني البحث عن اجلمال اخلالص
حامالً شمعة يحاول احلفاظ على نورها<br />
في »نوستاجليا«.<br />
سلوك الطواف يبدو لنا شاذاً<br />
كمشاهدين، فبدالً من أن يشق طريقه<br />
في »املنطقة« واثقاً كمرشد يعرف<br />
طريقه، فإنه على العكس يبدو متردداً،<br />
معوالً على اإلميان الذي سيقوده إلى<br />
األمان، حريصاً على أال يشوش أو يؤذي<br />
أو يبعث االضطراب في أي شيء داخل<br />
»املنطقة«، إنه ينصت إلى صوته الداخلي<br />
فيلم املرأة عام 1975<br />
وإلى صوت »املنطقة« في الوقت نفسه،<br />
ينصت لصوت احلقيقة، لصوت اإلله عبر رحلة احلياة.<br />
متاماً مثل صانع األجراس الصغير في فيلم »أندريه<br />
روبليف« الذي يقوده اإلميان واالستماع لصوت روحه<br />
الداخلي إلى التوصل إلى سر تركيب مادة جرس<br />
الكاتدرائية دون معرفة مسبقة. إن املعرفة احلقيقية<br />
عند تاركوفسكي هي املعرفة الغنوصية، هي النجاح<br />
في اإلنصات لصوت الروح. قرب نهاية الفيلم، يتشكك<br />
الطواف نفسه في وجود »املنطقة« وجوداً مادياً فعلياً،<br />
فيقول لزوجته متسائالً: »ال أحد يؤمن ب »املنطقة«...<br />
مبن آتي إلى »حجرة األحالم« إن لم يوجد من يؤمن<br />
بها؟!«. وتبني كلمات تاركوفسكي في مذكراته »زمن<br />
داخل الزمن« أن »املنطقة« رمبا لم توجد يوماً إال في<br />
عقل الطواف فقط. وهو ما يتوافق مع رؤية تاركوفسكي<br />
بأن »غرفة احلقيقة«؛ يحملها كل إنسان داخل نفسه.<br />
هكذا كان تاركوفسكي منقباً عن معنى الوجود<br />
اإلنساني، عن األسئلة اخلاصة باحلقيقة، واملطلق،<br />
واإلله، ولذلك ال تقف أفالمه عند حدود<br />
سرد حكاية بسيطة، بل نستطيع أن<br />
نغفل احلبكة »احلكاية« وتظل أفالمه<br />
لها األهمية نفسها. وشخصيات أفالمه<br />
تتحمل كل ذلك؛ إنها شخصيات حتمل<br />
الوجود بأكمله على أكتافها، حتمل، كما<br />
حمل تاركوفسكي نفسه، راية منقوشاً<br />
عليها: الروح، الزمن، اخللود، الغنوصية،<br />
وهو واقف على العتبة التي تفصله<br />
كفرد عن زحام السينما السائدة. من<br />
املهم مالحظة أن أعمال تاركوفسكي<br />
حتمل عناوين فردية وذاتية: »طفولة<br />
بوستر فيلم طفولة إيفان عام<br />
1962 ونال عنة جائزة األسد<br />
الذهبي في مهرجان فينيسيا<br />
إيفان«، »أندريه روبليف«، »الطواف«،<br />
»املرآة«، »نوستاجليا«، »القربان«.<br />
إن شخصيات تاركوفسكي ممتلكة<br />
لفرديتها على الدوام، وال ميتصها العالم<br />
اخلارجي بكل إلهاءاته، وال هي تنسى<br />
نفسها فيه؛ إنها غير قابلة للبيع. كما<br />
أننا نلمح تاركوفسكي نفسه حتت جلد<br />
كل شخصية من شخصياته، بالرغم<br />
من أنهم بعيدون عن التشابه، كتناقض<br />
اإلنسان وجتانسه في الوقت نفسه،<br />
كتناقض الفن العظيم وجتانسه في<br />
الوقت نفسه. إن تاركوفسكي هو آخر شخص ميكن أن<br />
نلمس لديه شيئاً من التظاهر أو االدعاء، فلم يكن يسمح<br />
بافتعال أي شيء، وال حتى شخصياته، لم يكن يسمح<br />
باخلروج عن حدود أناه اخلاصة، فمن خالل معرفته<br />
الدقيقة بذاته كان يلمس األوتار التي حترك أبطاله.<br />
املبارزة مع العمل<br />
الغنوصية واملعرفة القبلية واحلدس التي آمن<br />
بها لم تعن له إطالقاً الركون إلى الكسل، بل رافقها<br />
إميان راسخ بأن على الفنان أن ميلك قوة إرادة عظيمة<br />
حتى تكون جهوده مثمرة، وحتى متنح أعماله طابع<br />
التفرد. كان تاركوفسكي ال يكف عن التأمل بعناد لكل<br />
تفاصيل العمل، وكان يعرف كم يكلف من اجلهد الشاق<br />
جعل عمل فني ينبثق من حلم يقظة. املبارزات بني<br />
تاركوفسكي واملادة اخلام لم تتوقف أبداً وهو يحولها<br />
إلى عناصر فنية، متعقباً تلك العناصر مبزيد من<br />
التركيز والتفحص في سلسلة متصلة<br />
من التنقيحات، كأنه فنان يخوض نزاالً<br />
مع عمله الفني. وهذا ما يتضح لنا من<br />
النسخ املعدلة من السيناريوهات التي<br />
كتبها ألفالمه، والسيناريوهات الفنية<br />
للتصوير، ومالحظات املونتاج، فضالً<br />
عما ورد عن ذلك في كتابيه »زمن<br />
داخل الزمن« و»النحت في الزمن«،<br />
التي تبني أنه كان يعمل باستمرار، وأنه<br />
كان مشغوالً بالتعديالت باستمرار. من<br />
األمثلة املهمة على ذلك؛ إعادة تصوير<br />
فيلم »الطواف« ثالث مرات كاملة.<br />
العدد - 692 يوليو 2016<br />
146
الكويت عاصمة الثقافة اإلسالمية 2016<br />
وأيضاً مبارزاته مع املادة اخلام في فيلم »املرآة«؛ حيث<br />
بدأت فكرة »املرآة« كمشروع كتابة رواية عن ذكريات<br />
الطفولة، ثم تطورت إلى كتابة سيناريو بعنوان »نهار<br />
أبيض«، لكنه لم يرض عن الكتابة األولى، فتحول<br />
إلى فكرة عمل مقابلات مع أمه تتحدث فيها عن<br />
ذكرياتها مع طفولته هو شخصياً، ومقابات أخرى مع<br />
زوجته ماريا فيشينياكوفا، ثم استقر على فكرة فيلم<br />
»املرآة« كما صوره في النهاية. وحتى بعد التصوير،<br />
كانت هناك تعديات دائمة، واستبعاد لبعض اللقطات<br />
»كاللقطة الصريحة التي يظهر فيها تاركوفسكي نفسه<br />
في الفيلم«، وقرارات بإعادة تصوير لقطات أخرى،<br />
وإضافة لقطات جديدة.<br />
أما تصوير اللقطة األخيرة في فيلمه األخير<br />
»القربان«، فرمبا لم توجد واقعة تعبر عن املعاناة<br />
والكرب اللذين كان يتعرض لهما تاركوفسكي في<br />
حياته وعمله أكثر مما تعرض له في أثناء تصوير تلك<br />
اللقطة. كان بطل تلك اللقطة هو البيت الذي سيقوم<br />
بطل الفيلم أندريه بإحراقه قرباناً للبشرية التي مت<br />
إنقاذها من الكارثة احملققة. وبعد طول إعداد وجتهيز،<br />
يعطي تاركوفسكي إشارة البدء للتصوير، ويتم إحراق<br />
البيت على النحو الذي يتمناه، لكن في حلظة فارقة<br />
حتدث الكارثة فتتوقف الكاميرا عن العمل لعطل غريب<br />
أصابها، ويفسد تصوير املشهد. ال شيء هنا ميكن<br />
عمله، وال أحد ميكن لومه، إنها ميكانيكا السينما ذاتها<br />
تخذله وتخونه، وكأنها تذكره بأنه شخص غير مرحب<br />
به في مجالها. يظل تاركوفسكي لدقيقتني مشلوالً من<br />
املفاجأة، ويفيق أخيراً من الصدمة فيغطي عينيه بكلتا<br />
يديه؛ لقد أتته الضربة هذه املرة من آخر مكان ميكن<br />
توقعه. يستغرق األمر ثاثة أيام كاملة إلعادة بناء<br />
الهيكل اخلارجي لديكور البيت وإلعادة تصوير مشهد<br />
احلريق، ويتم البدء من جديد في تصوير املشهد الطويل<br />
الذي يستغرق حوالي ست دقائق كاملة على الشاشة،<br />
ويقوم أندريه بإشعال النار في البيت مجدداً، وتشرع<br />
الكاميرا في احلركة كما هو مخطط لها، ومرة ثانية<br />
يحدث الكابوس؛ هذه املرة اخلائن هو شريط السينما<br />
»النيجاتيف« الذي علق داخل الكاميرا، مرة أخرى<br />
السينما نفسها تعاند تاركوفسكي وتأبى إال أن تخرج<br />
له لسانها. يضحك عمال التصوير من تكرار الكابوس<br />
نفسه مرتني بالشكل نفسه، ويبدو على تاركوفسكي أنه<br />
على شفا املوت في تلك اللحظة، من دون أن يعلم أحد،<br />
وال هو نفسه، أنه كان يحتضر فعاً من داء السرطان<br />
في تلك األثناء. توفي أندريه تاركوفسكي في ما بعد<br />
بأواخر العام نفسه الذي صور فيه تلك اللقطة.<br />
توفي في منفاه بباريس عشية عيد املياد في<br />
29 ديسمبر 1986، بعد أن صنع سبعة أفام روائية<br />
طويلة كما تنبأت له روح بوريس باسترناك التي قام<br />
بتحضيرها له عرَّاف روسي، وقالت له: »ستقوم بصنع<br />
سبعة أفام«، رد تاركوفسكي الشاب الذي كان يدرس<br />
السينما: »سبعة أفام فقط؟!«، وأجابت الروح: »نعم،<br />
سبعة أفام فقط... لكن سبعة أفام عظيمة« ><br />
فيلموجرافيا<br />
ولد أندريه آرسينيفيتش تاركوفسكي في بيالروسيا عام 1932، وتوفي في منفاه االختياري بباريس عام 1986،<br />
واحترف العمل السينمائي عام 1960. درس اللغة العربية أوالً، ثم علم األحياء، قبل أن يلتحق مبعهد الفيلم<br />
الشهير مبوسكو »فجيك« VGIK في الفترة ما بني عامي 1958 و1960، حيث صنع 3 أفالم قصيرة لفتت إليه<br />
األنظار بشدة.<br />
صنع تاركوفسكي 7 أفالم روائية طويلة، هي:<br />
< طفولة إيفان، عام 1962، ونال عنه جائزة األسد الذهبي في مهرجان فينيسيا.<br />
< أندريه روبليف، عام 1966.<br />
< سوالريس، عام 1972.<br />
< املرآة، عام 1975.<br />
< ستوكر »الطواف«، عام 1979.<br />
< نوستاجليا »حنني«، عام 1983، وهو أول أفالمه التي مت تصويرها خارج االحتاد السوفييتي في إيطاليا.<br />
< القربان، عام 1986، ومت تصويره في السويد<br />
147<br />
أندريه تاركوفسكي: صناعة األفالم تعني البحث عن اجلمال اخلالص
فن تشكيلي<br />
رائد االنطباعية في الفن العربي الحديث<br />
فائق حسن... فنان الفضاء الطلق<br />
ماجد صالح السامرائي<br />
كاتب وناقد من العراق<br />
إذا كان لنا أن نتكلم عن فنان<br />
امتلك لغته الفنية بقدرة عالية،<br />
فإن الكالم سيكون عن فائق<br />
حسن، الفنان الذي وضع اللبنة<br />
الفعلية في بناء ما تحقق من<br />
تطور في الفن العراقي الحديث<br />
إبان النصف األول من القرن<br />
العشرين، ممتداً بتطوره، رؤية<br />
وأسلوباً، إلى نهايات القرن.<br />
إذا كان فائق حسن قد دخل عالم الفن من<br />
باب الطبيعة، فألنه وجد في فنانني كانوا قد<br />
سبقوه إلى هذا العالم ما يُعزز خطوته، ومن<br />
بينهم من وجد )كما وجد »جيتيني« عام 1437(<br />
أن »الباب املظفّر الذي يُفضي إلى الرسم هو<br />
الطبيعة«... فركّز منظوره الفني في األشياء<br />
املرئية. ومن هنا نبع اعتداده بالطبيعة، آخذاً<br />
نفسه، وعمله الفني، مبا أخذت به املثالية<br />
الكالسيكية، التي ذهب فنانوها إلى تأكيد أن »ال<br />
شيء جميالً إال ما هو حقيقي«، وأن احلقيقي<br />
وحده اجلدير باهتمام الرسَّ ام، لنجد أعماله<br />
األولى مبنزلة جتديد للطبيعة التي لم يكن<br />
»ينظر إليها« بقدر ما كان »ينظر فيها«، مستغوراً<br />
أعماقها احليّة. ومن خالل الطبيعة، مبشاهدها<br />
احلية، كانت »فورة اخللق« عنده لتُحرّكه، ذاتاً<br />
إبداعية، باجتاه اصطناع »مناذج« تكون أكثر<br />
إغراءً من الطبيعة نفسها بالنسبة للمشاهد.<br />
فهو حني رسم اخليول، مثلالً، جعلها جزءاً من<br />
الطبيعة احمليطة بها. وحتى حيني اجته بعمله<br />
الفني خارج الطبيعة بتكويناتها احليّة، فإنه لم<br />
يتخلّص، في أعماله تلك، من مشكالتها.<br />
فهل كان في توجهه هذا يذهب مع »غوتيه«<br />
في ما رأى من أن »الفن ال يهدف إلى نقل<br />
العدد - 692 يوليو 2016<br />
148
الكويت عاصمة الثقافة اإلسالمية 2016<br />
الفنان فائق حسن<br />
149<br />
فائق حسن... فنان الفضاء الطلق
الطبيعة، وإمنا يجعل منها وسيلة للتعبير عن<br />
مَثَلٍ أعلى داخلي«، وأن »الفنان يحمل في<br />
أعماقه عاملاً مصغّراً كامالً«؟<br />
لعله بدأ من هناك، ولذلك صار يرسم من<br />
خالل »منوذج« حي )الغابات الساكنة األشجار،<br />
واخليول بحركاتها النافرة(، أو جامد )الزقاق<br />
والبيت البغدادي القائم فيها بطُ رز معمارية<br />
تراثية(، وصار يرسم هذا كلّه بحساسية ميكن<br />
تسميتها ب»حساسية التلقي«، مقدّما ما يسهل<br />
على مشاهد لوحته/ عمله الفني تعرّفه. فهو<br />
ينقل »جمالية الواقع« الذي ذهب بعمله الفني<br />
إلى حدّ املشاكلة معه، وكانت براعته رائياً<br />
مصدر التنوع عنده، حتى في املوضوع الواحد.<br />
واملهم في هذا ليست موضوعاته بذاتها، وإمنا<br />
األسلوب الذي اتبعه في جتسيدها/ متثيلها<br />
أشكاالً فنية لها خصوصيتها النابعة من<br />
خصوصية نظرته الذاتية فناناً. فهو وإن يكن<br />
خرج إلى الواقع العاري، لم يقدّم »فناً عارياً«.<br />
وإذا كان الفنان »هو من يصنع الفن<br />
التصويري«، وفق الفنان اإليطالي بوسكيني،<br />
فإن فائق حسن هو من أوجد ما ميكن أن يُعدّ<br />
معادلة بني »الشكل« املتفوّق تكويناً، و»اللون«<br />
املتفرّد خاصية لونية.<br />
وإذا كان فائق حسن »رسّ ام الطبيعة«<br />
املتميّز، فإن متيّز هذه الطبيعة في عمله الفني<br />
متأتٍ مما لها من أثر ذاتي عليه، األمر الذي<br />
كان يندفع به إلى الكشف، وبقوّة ذاتية عالية،<br />
عما لهذه الطبيعة من أعماق خفيّة، جامعاً<br />
في لوحته هذه بني »اخليال النافذ« و»الرؤية<br />
املؤصّ لة« موضوعاً.<br />
وجهاً لوجه مع الطبيعة<br />
عندما كان فائق حسن يخرج إلى الطبيعة<br />
كان يفعل ذلك ليراها بكليتها، وليس بتمثله<br />
التخييلي لها: بساتينها وما تقوم به من شجر<br />
وزرع، وجبالها وما يُعرّش عليها من شجر،<br />
وأرضها الصحراوية املنبسطة وما عليها من<br />
خيول وساستها، محققاً من هذا كله جمالية<br />
اخللق الفني في لوحته التي لم يلتفت فيها إلى<br />
اآلراء التي عاصرتها بداياته، التي كانت تقول<br />
إن توجّ ه الفنان إلى الطبيعة، والتعاطي معها،<br />
صورة ومشهداً، ميثّالن »محاكاة ذليلة« لها، بل<br />
أعمال الفنان لم تكن محكاة بل تعبيراً فنياً عن الواقع بأسلوب فني خاص<br />
العدد - 692 يوليو 2016<br />
150
الكويت عاصمة الثقافة اإلسالمية 2016<br />
مثلت الطبيعة عنصراً رئيساً في أعمال الفنان فائق حسن<br />
سيتجاوز ما قال به »بودلير«، أهمية حضوره<br />
في تلك املرحلة، من أن »الطبيعة مبتذلة«، ال<br />
تعبير، وال شيء من املطلق، الذي رأى أن على<br />
الفنان البحث عنه، فيها.<br />
لم يتوقف عند هذا، على أهمية القائلني به،<br />
إذ كان موقناً أنه ال يُعيد »كتابتها«، وال يُجسدها<br />
ب»لغة فنية« بسيطة، وإمنا يتخذ منها »موضوعاً«<br />
يُعبّر به عما اكتسب من طرائق التعبير، ال<br />
تطبيقاً لقواعد اعتباطية، وإمنا بهاجس فنّي<br />
يدعمه متثّلٌ مُبدع. وهل املطلوب من الفنان إال<br />
خلق رؤية جديدة لعالم قد يكون مألوفاً؟<br />
من هنا سيبتعد في عمله، ما أمكن، عن<br />
احملاكاة. فهو وإن عبّر عن اخلاصية الطبيعية<br />
في »الصورة/ املشهد«، فإنه طبع »تعبيره« هذا<br />
بأسلوب تتحدد فيه سمته الشخصية فناناً وقد<br />
ظل حريصاً على تأكيدها، بحيث تقف لوحته،<br />
التي تتخذ من »الطبيعة« موضوعًا، بني حالتني<br />
جماليتيني، وهما: جمالية الطبيعة بذاتها،<br />
وجمالية اخلط واللون، أو »جمالية الفن« الذي<br />
يعدّه »بندتو كروتشه«: »اجلمال احلقيقي«، فهو<br />
»ليس تقليداً، بل خلق«، وب»عملية اخللق« هذه<br />
أمسك فائق حسن بالطبيعة جاعالً منها شعلة<br />
إشعاع فني.<br />
فإن كان هناك من يرى أنه تناول هذه الطبيعة<br />
من اخلارج )حيث الشجرة بتفرعات أغصانها<br />
وأوراقها الوارفة، والنبات احمليط بها أرضاً، أو<br />
احلصان الذي يقف مرفوع العنق شامخ الرأس،<br />
أو تلك اإلطاللة منه على زقاق قدمي تطلّ<br />
منه »امرأة قدمية« هي األخرى وكأنها تخرج<br />
لتتساءل كمن يتساءل عن »وجود« الفنان في هذا<br />
املكان...(، فإنه، في جميعها، وفي سواها مما<br />
استأثر به عمله من مشاهد الطبيعة اإلنسانية،<br />
151<br />
فائق حسن... فنان الفضاء الطلق
من أعمال فائق حسن<br />
كان كمن يعمل على »توضيب نظام« من الرؤية<br />
يبني بها/ ومن خاللها »نظامه في الفن« في<br />
عملية صعود مستمر مبا »يرى«. واملثير واملدهش<br />
في هذا أنه يحمل »سؤال الطبيعة« و»ما يقوله<br />
معناها«، من دون نظر في ما هو خارجها. وهو،<br />
هنا، ال يُعيد وال يستعيد، وإمنا يُبدع، ناشراً عبر<br />
اخلط وفي اللون كل ما له من براعة، وإن كان،<br />
في عمله هذا، أقرب إلى »االرجتال« منه إلى<br />
»التصميم املسبّق«. لقد كان، مثله مثل »رينوار«<br />
الذي شكّل مثاالً حياً لالنطباعيني في عصره،<br />
ومن بعده، وأخذ نفسه بحرية الرسم في فضاء<br />
مفتوح، حيث »سمة النبل والسموّ«، كما يقول<br />
انطباعيو عصر ذلك الفنان الفرنسي، فإن<br />
فناننا، وعلى هديْ خطاهم، سيبذل كل ما في<br />
وسعه من أجل إرساء دعائم الرسم ضمن هذا<br />
التوجّ ه، وإظهار خصائصه الفنية في ما يُقدّم<br />
من أعمال لها جماليتها اخلاصة، بل، ووفق<br />
بعض دارسي االنطباعية، أنهم من أرسى دعائم<br />
هذه اجلمالية في فن عصرهم. وقد سلك فائق<br />
حسن مسلك أسلالفه من االنطباعيني بالرسم<br />
في الهواء الطلق، من دون انشغال مبا هنالك<br />
من »مسائل نظرية« في الفن سينشغل بها غير<br />
فنان من معاصريه.<br />
فإن كان »التجريد« قد استهواه يوماً<br />
فاستأثر بشيء من عمله الفني، فإنه لم ميكث<br />
معه طويالً، وسرعان ما عاد إلى الزقاق القدمي،<br />
والوجوه التي تعرّف إليها فيه، وإلى اخليول...<br />
وكأنها »احلقائق املوضوعية« التي جتلت بها<br />
مهارته الفنية، وقد متثلت، أكثر ما متثلت، في<br />
التعاطي البارع مع اللون الذي احتشد عنده<br />
بدالالت ذاتية ذات عُمق في نفسه، كما في<br />
ذاكرته التصويرية.<br />
التواصل... ال االختالف<br />
من هنا ينبع االختالف اجلوهري في الرؤية<br />
الفنية بينه وبني أهم فنان عاصره: جواد سليم،<br />
العدد - 692 يوليو 2016<br />
152
الكويت عاصمة الثقافة اإلسالمية 2016<br />
الذي نظر إلى احلياة من داخل ما لها من تاريخ،<br />
في حني أخذ فائق حسن نفسه وفنّه بالعيش في<br />
الطبيعة، التي اجتذبه ألقها، فراح يُبرز ما يرى<br />
فيها من خصائص برؤية جمالية متفوّقة عليها،<br />
في الوقت الذي عاش فيه جواد حتت سلطتني:<br />
سلطة الواقع مبا له من اندفاعات حيّة، وسلطة<br />
التاريخ مبا له من متثيل خالد لإلنسان وجوداً<br />
ودوراً إنسانياً، متمثالً ذلك مبا وجد في تراث<br />
وادي الرافدين مما أبدعته حضارته القدمية،<br />
إذ راح يبحث لالثنني عن »زمان آخر« يُجسدهما<br />
فيه، كاشفاً عما يحملالن من روح إنسانية<br />
جديدة. في حني ظل فائق، واستمرّ يجلو »صور<br />
الطبيعة« كما تتمثل له، أو تتخايل لرؤاه، فمنها<br />
بدأ، وإليها/ بها سينتهي.<br />
وعلى هذا ميكن القول: إن لوحة الفنان<br />
فائق حسن ال تكتفي بأن تكون إدراكاً مباشراً<br />
جلانب من العالم »الطبيعي«، فتُجسّ ده فنياً<br />
ببعد جمالي مضاف، وإمنا هي عمل فنيّ<br />
يحمل وجهة نظر الفنان إلى العالم. فعادة ما<br />
يُقال، في مثل هذا املوقف، إن »الشيء« الذي<br />
يرسمه الفنان ليس هو »الشيء بذاته« مُدرَكاً<br />
إدراكاً حسياً محضاً، وإمنا هو »شيء« عبر<br />
فيه الفنان عن »رؤية ذاتية«، أو جاء نتيجة<br />
»متثّل ذهني« ناقالً إياه إلى عامله اجلمالي<br />
اخلاص من طريق اخلط واللون اللذين يُؤلف<br />
منهما »الشكل الفني«، مبا يأخذه هذا الشكل<br />
من أبعاد التعبير عنده. وهو ما جعل من<br />
النقّاد من يذهب إلى أن الفن، انطالقاً من<br />
هذا وتأسيساً عليه، يصنع جماله من نسيج<br />
»لغته« اخلاصة. فإذا كانت »الطبيعة« و»الواقع«<br />
هما العالم اجلمالي اخلاص بهذا الفنان، فقد<br />
جعل لكل منهما كيفياته في عمله الفني، مبا<br />
اجتمع لهذه الكيفية من مظاهر، وتأمالت،<br />
وأخيلة.<br />
فإذا أخذنا »علم اجلمال« بكونه »علم<br />
التعبير«، فإن النظر، بهذا املعنى/ البُعد، في<br />
عمل الفنان فائق حسن يقف بنا على أبعاد<br />
هذا العمل، وأخصّ ها: إن الفن عيان، وهو عنده<br />
عيان يأخذنا، ومن قبلنا أخذ الفنان، نحو جهة<br />
يتعنيّ بها هذا »العيان الشخصي« الذي رأى.<br />
وبهذا فهو يُعيد تكوين »الصورة في اللوحة«<br />
من خالل ذاته/ عيانه، من دون أن نغفل<br />
اإلشارة هنا إلى طبيعة تكوينه فناناً )أعني:<br />
التمثُّل واخليال عنده(، فبه/ ومن خالله يكون<br />
»التكوين اجلديد«.<br />
الفنان وخصائص هويته التجديدية<br />
في سياق هذه النظرة إلى عمل الفنان، التي<br />
حاولت أن ّ تستشفَ ما فيه من رؤية تكوينية،<br />
هل في مقدورنا الكالم عن »هويّة الفنان«<br />
ومتييزها ثقافياً؟<br />
ميكن القول: إن الفنان فائق حسن، كما<br />
يبدو لنا من خلالل عمله، كان فناناً شديد<br />
التأكيد على الشعور الداخلي، وعلى اإلحساس<br />
باألشياء في ما لها من طبيعة خاصة. وكانت<br />
العالقة عنده بني »الذات« و»التعبير« عالقة<br />
تكوينية، وإن حضوره في عمله هو حضور<br />
الرؤية واخلبرة.<br />
قد يسأل مشاهد، أو قارئ للوحته هنا،<br />
عن جتليات خياله املبدع في عمله الفني -<br />
كما يُفترض بعمل الفنان أن يقوم عليه - وما<br />
إذا كان بإمكان الفنان في ما له من مقدور<br />
فني، حتويل املشاعر واألحاسيس التي تُداخله<br />
إلى االنتظام في ما يُعرف ب»اخليال املُبدع«،<br />
خصوصاً أن عمله هذا ينزلق، بحكم مدرسته<br />
االنطباعية، إلى الواقع املتشخَ<br />
لقد كان فناناً مجدِّداً بانطباعيته هذه، ولم<br />
يكن يعنيه كثيراً أن تكون حتوالته الفنية، عمالً،<br />
بطيئة، في وقت كان فيه كل ما حوله، كما في<br />
محيط الفن في العالم الذي لم يكن فناننا<br />
منقطعاً عنه، ميضي في اجتاهات الكشف عن<br />
تقنيات جديدة وإشاعتها بوصفها ما ينبغي أن<br />
يتمثّل فيه »مستقبل الفن«.<br />
كانت أعماله تتعدد، وكلما ازدادت عدداً<br />
ازداد عامله غنىً بها/ ومن خاللها، وكانت<br />
ألوانه أقوى من الكلمات استجابة لعوامله هذه<br />
)من وجه املقارنة بيني اللوحة منه، والقصيدة<br />
من شاعر( ><br />
ّ ص.<br />
153<br />
فائق حسن... فنان الفضاء الطلق
علوم<br />
بين الشيخ إردوش والشاب تاو<br />
كيف تتقدم الرياضيات؟<br />
د. أبو بكر خالد سعد اهلل<br />
أكادميي من اجلزائر<br />
العلوم بشتى فروعها في تطور<br />
مستمر، وكل منها يتطور بطريقته<br />
ويتفاعل من خلالل آليات يرسمها<br />
التقليد العلمي لهذا االختصاص أو<br />
ذاك. والرياضيات هي واحدة من هذه<br />
العلوم، ولعلمائها تقاليد وإبداعات<br />
في التعامل االجتماعي والعلمي.<br />
نقدم في ما يلي عينة من هذا القبيل<br />
تركز على سلوك أحد أبرز رياضيي<br />
القرن العشرين، وعبقرية آخر من القرن<br />
الحادي والعشرين.<br />
بول إردوش<br />
تيرنس تاو<br />
تختلف سيرة الرياضي املجري األصل بول<br />
إردوش (1996-1913) Paul Erdös عن سائر<br />
سير الرياضيني اآلخرين. فقد لُقب ب »ملك<br />
ملوك طارحي املسائل«، ألنه كان يتميز بطرح<br />
مسائل ال تستدعي كثيراً من املعارف األولية<br />
لفهمها، وغالباً ما تكون في متناول تالميذ<br />
املرحلة الثانوية. لكن حلولها ليست بسيطة،<br />
ولذلك يحاول حلها كبار الرياضيني. فمنها ما<br />
يُعمّر سنوات، ومنها ما يُعمّر عقوداً من الزمن<br />
قبل أن يأتي أحدهم باحلل. وما ميّز إردوش<br />
أيضا أنه كان يكافئ من يجد حالً إلحدى<br />
مسائله، وفق درجة الصعوبة التي يراها في<br />
كل مسألة. فمنها ما سعرها 50 دوالراً، ومنها<br />
100 دوالر، ومنها 500 دوالر.<br />
كما متيّز إردوش بكونه »ابن بطوطة زمانه«،<br />
بالنظر إلى تعدد ترحاله، فهو لم يتزوج ولم<br />
تكن له وظيفة. وكان يقضي وقته متنقالً بني<br />
اجلامعات عبر العالم ينشر املعارف العلمية.<br />
ويُذكر أنه لم يكن يقضي أكثر من 10 في املائة<br />
من وقته في بيته، ولذلك بلغ إنتاجه في مجال<br />
الرياضيات 1500 بحث، وهو رقم قياسي لم<br />
يبلغه غيره من العلماء.<br />
العدد - 692 يوليو 2016<br />
154
الكويت عاصمة الثقافة اإلسالمية 2016<br />
إردوش يشرح مسألة للطفل تيرنس تاو )10 سنوات( في أستراليا عام 1985.<br />
ليس هذا فحسب، بل متيّز باالشتراك<br />
مع غيره من الباحثني في كتابة املقاالت،<br />
وهكذا بلغ عدد الذين شاركوه النشر ووضعوا<br />
أسماءهم إلى جانب اسمه في املقاالت<br />
املنشورة رقماً قياسياً آخر، وهو 500 باحث<br />
من مختلف بلدان العالم. والطريف في هذا<br />
السياق أن اسمه اقترن بأرقام حتدد عالقة<br />
كل باحث في الرياضيات بإردوش من حيث<br />
تراتبية النشر، فإذا كان أحدهم قد نشر<br />
مثالً مع إردوش فسيحمل الرقم 1، وإن كان<br />
هذا الباحث )الذي نشر مع إردوش( قد نشر<br />
أيضاً مع باحث ثان مقاالً ما، فهذا األخير<br />
سيحمل الرقم 2، وهكذا دواليك.<br />
ونشير إلى أن من بني النتائج املهمة في<br />
نظرية األعداد، تلك املتعلقة مبواقع األعداد<br />
األولية )أي األعداد الطبيعية التي ال تقسم<br />
على أي عدد سوى 1 أو العدد نفسه مثل 2<br />
و3 و7 و19...(، وتوزيعها بني األعداد األخرى،<br />
وهي مسألة مازالت مطروحة إلى اليوم.<br />
لقد كان هذا املوضوع من جملة اهتمامات<br />
إردوش، ومن املعلوم أن هناك مخمنة<br />
)أي تخمني رياضي لم يتم التوصل إلى إثباته(<br />
أُعلن عنها منذ القرن الثامن عشر تقول: عندما<br />
يكبر العدد الطبيعي )ن( فإن عدد األعداد<br />
األولية األصغر من )ن( يقارب نسبة )ن(<br />
على لوغاريتم )ن(. لكن هذه املخمنة لم تثبت إال<br />
عام 1896 على يدي الفرنسي جاك هادامار<br />
(1963-1865) Hadamard والبلجيكي دي<br />
فالي بوسان .(1962-1866) De Vallée Poussin<br />
والالفت في هذا املوضوع أن إردوش<br />
اكتشف مبعية النرويجي آتل سيلبرغ<br />
(1917-2007) Selberg عام 1949 برهانا<br />
يتسم بالبساطة على هذه املخمنة. لكن<br />
سيلبرغ سارع إلى نشر هذا البرهان على<br />
انفراد من دون إذن من إردوش، فنال بفضله<br />
ميدالية فيلدز )أعلى وسام في الرياضيات،<br />
يعادل جائزة نوبل( عام 1950. ولم ينزعج<br />
إردوش – املعروف بسخائه وتسامحه - من<br />
تصرف زميله. وذلك هو نوع املسائل الذي<br />
اهتم به بول إردوش : املسائل البسيطة<br />
155<br />
بني الشيخ إردوش والشاب تاو ... كيف تتقدم الرياضيات؟
الطرح العويصة احلل.<br />
وقد توفي إردوش في وارسو، عاصمة<br />
بولندا، يوم 20 سبتمبر عام 1996 حني كان<br />
يشارك في مؤمتر دولي في الرياضيات.<br />
تاو يتألق في حل املسائل<br />
ولد تيرنس تاو عام 1975، وعائلته من<br />
أصل صيني، رحلت من هوجن كوجن إلى<br />
أستراليا. كان والده طبيب أطفال وأمه<br />
مدرّسة رياضيات في هوجن كوجن. كان منذ<br />
نعومة أظفاره طفلاً موهوباً وظهر ذلك<br />
عندما كان يشرح العمليات احلسابية ألطفال<br />
كانوا يتجاوزونه سنًا. وملا بلغ التاسعة من<br />
العمر كان يحضُ ر دروساً في الرياضيات<br />
باجلامعة.<br />
ومن أصعب املنافسات في مجال<br />
الرياضيات ما يعرف باملنافسات األوملبية<br />
العاملية السنوية التي يشارك فيها تاميذ<br />
املرحلة الثانوية )دون املستوى اجلامعي(.<br />
وقد برع تيرنس تاو في هذه املنافسات التي<br />
شارك فيها 3 مرات متتالية خال السنوات<br />
1986 و1987 و1988، وهي حالة فريدة من<br />
نوعها. كان تاو الوحيد الذي شارك في هذه<br />
املنافسات ولم يتجاوز عمره 10 سنوات. ومع<br />
ذلك نال في هذه املنافسات كل امليداليات،<br />
من البرونزية إلى الذهبية.<br />
حصل تاو على شهادة املاستر في أستراليا<br />
وعمره لم يتجاوز 17 سنة. ثم حصل على منحة<br />
إلى جامعة برينستون Princton األمريكية<br />
الشهيرة، فأحرز هناك شهادة الدكتوراه وكان<br />
عمره 20 سنة. ونظراً لتفوقه الباهر عُنيّ<br />
مدرساً في اجلامعة ورُقي إلى رتبة أستاذ<br />
في جامعة كاليفورنيا بعد ذلك بسنة واحدة.<br />
وهي سابقة في تاريخ اجلامعات، إذ لم ينل<br />
هذه املرتبة في هذه السن أحد قبله.<br />
ومعلوم أن أرقى جائزة في الرياضيات<br />
تسمى ميدالية فيلدز، كما أسلفنا، ومتنح مرة<br />
كل 4 سنوات ألبرز الرياضيني. ومن حظ تاو<br />
أنه فاز بها عام 2006، وعمره 31 سنة، سلمها<br />
له ملك إسبانيا حني انعقد في مدريد املؤمتر<br />
العاملي للرياضيات. وتوالت عليه بعد ذلك<br />
االستحقاقات والتشريفات، فصار عضواً في<br />
أكادمييات علمية عاملية عدة، كما نال جوائز<br />
عديدة، منها جائزة امللك فيصل عام 2010.<br />
متيّز تاو بكونه يعمل في حقول رياضية<br />
وعلمية عدة، وهو يتقن كيفية الربط بينها<br />
بطرق عجيبة، فيستعمل النتائج املعروفة<br />
في هذا الفرع أو ذاك إلثبات نتائج عالقة<br />
في فروع أخرى لم تخطر على بال غيره<br />
من الباحثيني. وهكذا، برهن مثا عام 1999<br />
على مخمنة معقدة ظهرت عام 1962، تسمى<br />
»مخمنة التشبع«، كما أثبت مخمنات أخرى<br />
من القبيل نفسه.<br />
يقول عنه الرياضي البريطاني الامع،<br />
األستاذ بجامعة كمبريدج ولْيَم تيموثي غورس<br />
William Timothy Gowers الذي نال بدوره<br />
ميدالية فيلدز عام 1998:<br />
»معارف تاو الرياضية لديها مزيج خارق<br />
من االتساع والعمق، ميكن أن يكتب تاو بثقة<br />
كاملة وبإبداع حول موضوعات مختلفة<br />
اختافاً كبيراً، مثل املعادالت التفاضلية<br />
اجلزئية، ونظرية األعداد التحليلية، وهندسة<br />
املنوعات الثاثية، والتحليل غير املعياري،<br />
ونظرية املجموعات، ونظرية النمذجة،<br />
وميكانيكا الكم، واالحتماالت، والنظرية<br />
الطاقيّة ،ergodic والتحليل التوفيقي،<br />
والتحليل التوافقي، ومعاجلة الصور، والتحليل<br />
الدالي، وغيرها الكثير. بل إنه قدم إسهامات<br />
جوهرية في البعض من هذه الفروع العلمية.<br />
أما في الفروع األخرى، فيبدو تاو مدركًا لها<br />
بعمق كما هو شأن اخلبراء، على الرغم من<br />
أنه ال يشتغل في تلك احلقول بشكل رسمي.<br />
كيف يقوم بكل ذلك، إضافة إلى كتابة<br />
أبحاث وتأليف كتب على نحو مذهل؟ كل<br />
هذا يعتبر لغزاً قائماً. لقد قيل إن هيلبرت<br />
(1943-1862) Hilbert كان آخر شخص يلمّ<br />
بكل ما يوجد في حقل الرياضيات؛ ولكنه<br />
ليس من السهل إيجاد ثغرات في معارف<br />
العدد - 692 يوليو 2016<br />
156
الكويت عاصمة الثقافة اإلسالمية 2016<br />
تاو الرياضية، وإن وجدمت بعضاً منها، فتلك<br />
الفجوات ستكون في خبر كان بحلول العام<br />
التالي«.<br />
»مسألة التفاوت«... عَ مّ رت 28 سنة!<br />
كان إردوش قد طرح مسألة، عرفت<br />
ب»مسألة التفاوت« عام 1632 تتناول األعداد<br />
الصحيحة، وبالتحديد تبحث في خواص<br />
تقدير املجموع عندما جنمع 1 و- 1 من دون<br />
انقطاع بشكل عشوائي، أي من دون ضرورة<br />
التقيّد بخاصية تناوب العددين، مثال ذلك:<br />
.+ 1-1+1+1-1-1+1+1<br />
وكما أسلفنا، فمن عادة إردوش رصد<br />
مبلغ من املال يفوز به من يحل مسائله<br />
كمكافأة على االهتمام واجلهد املبذول.<br />
وهكذا خصص لهذه املسألة مبلغاً، يُقَدر<br />
ب 500 دوالر، ولصعوبتها، وبحث في املسألة<br />
عديد املهتمني، لكن من دون جدوى، وظلت<br />
مطروحة طوال 82 سنة.<br />
غير أن تاو قدم بحثاً أولياً يوم 17 سبتمبر<br />
2015 في موقع حر مختص في الرياضيات،<br />
يزعم فيه أنه حل »مسألة التفاوت«. لم يتم<br />
حتى تاريخ كتابة هذه السطور التأكد من حل<br />
تاو، لكن هناك مؤشرات تأتي من اخلبراء<br />
بآراء مطمئنة جداً. وجدير بالذكر أن املسألة<br />
عرفت عديداً من احملاوالت، بل احلمالت<br />
لفك رموزها. وآخر هذه احلمالت تلك التي<br />
برزت عام 2009 بعد أن جاء الرياضي غورس<br />
مببادرة تقترح على الباحثني االعتناء جماعياً<br />
بهذه املسألة لإلتيان عليها والتشاور والتعاون<br />
عبر اإلنترنت. فشارك تاو في هذا اجلهد<br />
اجلماعي، وقد سمح ذلك خالل هذه السنوات<br />
األخيرة بالبرهان على حاالت خاصة من<br />
النظرية، واستعملوا في ذلك احلواسيب.<br />
وبدأت اجلهود تعرف بعض الفتور،<br />
وفجأة نشر تاو بحثه في منتصف سبتمبر<br />
2015 فأيقظ النائمني! والطريف أن تاو كان<br />
منهمكاً في البحث عن حل مسألة ال عالقة<br />
لها مبسألة التفاوت. ومن عادته أن يسجل<br />
تيرنس تاو<br />
في مدوّنته على شبكة اإلنترنت أعماله<br />
اجلارية ويعقّب عليها، كما يعقب عليها غيره<br />
من القراء. وذات مرة علّق أحدهم على عمل<br />
تاو اخلاص باملسألة التي كانت تشغله، مشيراً<br />
إلى أنها ليست عدمية الصلة مبسألة إردوش<br />
)مسألة التفاوت(.<br />
ولم يعر تاو لهذه املالحظة اهتماماً في<br />
بداية األمر، معتبراً أن الربط الذي أشار إليه<br />
املعلق كان سطحياً. ثم لفتت تلك املالحظة<br />
انتباهه مجدداً، وكانت نتيجة هذا االنتباه أنه<br />
اهتدى إلى حل »مسألة التفاوت«، ثم نشره.<br />
وقد روى تاو هذه احلادثة في مقاله وشكر<br />
املعلق - وهو أستاذ للرياضيات في جامعة<br />
أملانية - على مالحظته القيمة التي مكنته<br />
من الوصول إلى احلل.<br />
هكذا يعمل تيرنس تاو، وكذلك كان يعمل<br />
بول إردوش، وكالهما أسهم ويسهم بطريقته<br />
اخلاصة في تقدم العلوم الرياضية. ولوال<br />
هذين وأمثالهما ملا عرف التقدم العلمي هذه<br />
الوتيرة وهذه اإلجنازات ><br />
157<br />
بني الشيخ إردوش والشاب تاو ... كيف تتقدم الرياضيات؟
علوم<br />
المد والجزر...<br />
حكاية اختالف<br />
في قوى الجذب الثقالي<br />
د. أحمد شعالن<br />
رئيس الهيئة الوطنية للعلوم والبحوث - لبنان<br />
حين يتقدم البحر في السواحل المنخفضة أمياالً إلى الداخل باتجاه القمر،<br />
فذلك من مفاعيل ظاهرة المد والجزر. لكن الظاهرة ال تقتصر على حركة<br />
المياه، بل تتعداها إلى نتائج كثيرة أخرى. فعندما تشظّ ى مذنب »آيزون«<br />
قبل ابتالعه من قبل الشمس مطلع عام 2014، كان ذلك من مفاعيل<br />
المد والجزر. وعندما تشظّ ى مذنّب »شومخر-ليفي - 9« عام 1994<br />
قبل سقوط أجزائه على كوكب المشتري، فذلك أيضاً كان من مفعول<br />
»المد والجزر«، الذي سلّطه الكوكب العمالق على المذنّب.<br />
العدد - 692 يوليو 2016<br />
158
الكويت عاصمة الثقافة اإلسالمية 2016<br />
وحين ننظر إلى القمر يدور حول األرض يوماً<br />
بعد يوم، فال نرى منه سوى صفحة واحدة، فذلك من<br />
مفعول املد واجلزر!<br />
وحن يدهشنا آيو، القمر اجلليدي األقرب إلى<br />
كوكب املشتري، بانبثاقاته البركانية، فذلك أيضاً بفعل<br />
املد واجلزر!<br />
هناك بالطبع عالقة أكيدة بن قوة اجلاذبية وقوى<br />
املد واجلزر، فهل ندرك متاماً ميكانيكية هذه الظاهرة<br />
وأسبابها التفصيلية وميادين فعلها وتأثيرها الفلكي؟!<br />
»املدّ - جزر« ليست اجلاذبية!<br />
من املعروف أن ظاهرة املد واجلزر - وأفضّ ل<br />
تسميتها »املد- جزر« - ترتبط باجلاذبية بشكل رئيس،<br />
لنأخذ مثالً حادثة اقتراب مذنب »شومخر - ليفي -<br />
9« من كوكب املشتري. فبما أن قوة اجلاذبية تتراجع<br />
طرداً مع مربع املسافة، فإن قوى اجلاذبية التي يشد<br />
بها املشتري الناحية املواجهة من املذنّب هي بالطبع<br />
أكبر من القوة التي يشد بها القسم اخللفي األبعد<br />
من املذنّب. هذا االختلالف لقوى اجلذب الثقالي<br />
بن أجزاء املذنّب يعمل على تشويهه ومتغيطه، وإن<br />
لم حتتمل جزيئاته هذا التشوّه فسوف يتشظّ ى أجزاءً<br />
ويتفتت، وهذا ما حدث له بالفعل. إذاً »املد - جزر«<br />
ينبغي حتديده كقوة اختالف اجلذب الثقالي على جسم<br />
ذي أبعاد. وكلما كبر حجم اجلسم املجذوب، كبر تأثير<br />
اختالف قوى اجلذب الثقالي عليه.<br />
جذب الشمس لكوكبنا أقوى من جذب القمر لكن<br />
»مد - جزر« القمر أقوى!<br />
ويبرهن علم الفيزياء على أن قوة جاذبية كوكبٍ<br />
ما، على مسافةٍ ما، تتناسب طرداً مع كتلة الكوكب<br />
وتتعاكس مع مربع املسافة، أما »املد - جزر« )أو<br />
اختالف قوى اجلذب الثقالي(، فيتناسب طرداً مع<br />
كتلة الكوكب اجلاذب وقطر اجلسم املجذوب وكتلته<br />
ويتعاكس مع مكعب املسافة ال تربيعها. وهذا ما يجعل<br />
مفعول »املد - جزر« للقمر على األرض أكبر ب 2.5 مرة<br />
من »مد - جزر« الشمس علينا، رغم أن جذب الشمس<br />
لألرض هو أكبر ب 150 مرة من جذب القمر لألرض!<br />
)كتلة الشمس أكبر من كتلة القمر بحوالي 25 مليون<br />
مرة، لكنها أبعد عنا من القمر بحوالي 400 مرة(.<br />
القوة الطاردة شريك في »املد - جزر«<br />
من جهة أخرى، فإن كوكب األرض يدور حول<br />
نفسه بسرعة كبيرة، بحيث تكون سرعة جسم ما<br />
على خط االستواء حوالي 1675 كلم/ساعة، أي أسرع<br />
مبرتن من حركة الطائرات املدنية، وهذا يعني أن قوة<br />
الطرد املركزي مؤثّرة في ظاهرة املد واجلزر. فالقوة<br />
الطاردة على القسم املواجه للقمر من األرض تكون<br />
باجتاه القمر، وتضاف إلى قوة جاذبيته، بينما تكون<br />
القوة الطاردة في القسم غير املواجه للقمر من األرض<br />
عكس اجتاه قوة جاذبية القمر، وبالتالي تطرح منها.<br />
وهكذا تزيد القوة الطاردة الناجتة عن دوران األرض<br />
من اختالف اجلذب بين املنطقتن وبالتالي من قيمة<br />
مفاعيل »املد - جزر«.<br />
حدود روش<br />
إحدى نتائج قوى »املد - جزر« ما يعرف<br />
ب »حدود روش«، وهي حدود افتراضية حول كوكب<br />
ما حتدد قدرة »مد - جزر« الكوكب على تفتيت<br />
مذنّب أو أي جسم آخر يقترب من الكوكب. ويتعلق<br />
موقع هذا الشريط الوهمي حول الكوكب بقيمة<br />
قطر الكوكب وكتلته وكثافة مادة اجلسم املقترب منه<br />
وطبيعته. فقطر كوكب املشتري مثلالً يبلغ 143 ألف<br />
كلم، وتصل حدود »روش« حول هذا الكوكب نسبة إلى<br />
بنية املذنبات حوالي 220 ألف كلم، لذلك حتطم املذنب<br />
»شومخر - ليفي - 9« عام 1994 حين اقترابه إلى<br />
ما دون حدود روش، إذ وصل إلى مسافة 100 ألف<br />
كلم فقط من سطحه، ما تسبب بسحقه وتفتيته بقوة<br />
املد - جزر قبل أن يجذب املشتري شظاياه الكبيرة<br />
واحدة تلو أخرى.<br />
مفاعيل »املد - جزر« على كوكب األرض<br />
نظراً لسرعة حركة القمر في السماء، فإن مدّين<br />
اثنن يحدثان كل يوم، يفرق بينهما مدة 12 ساعة و25<br />
دقيقة. ويختلف ارتفاع مياه البحر بحسب املوقع،<br />
ويكون األكبر عند خط العرض 28.5 درجة شمالي<br />
خط االستواء، أو عند خط العرض 28.5 درجة جنوبي<br />
خط االستواء، وذلك بسبب ميالن املسطح االستوائي<br />
األرضي 23.5 درجة نسبة للمسطح املداري لألرض<br />
)إكليبتيك أو دائرة البروج(، إضافة إلى ميالن مدار<br />
159<br />
املد واجلزر... حكاية اختالف في قوى اجلذب الثقالي
القمر 5 درجات نسبة ملسطح دوران األرض )23.5 +<br />
.)28.5 = 5<br />
أما قيمة االرتفاع األقصى ملياه املدّ فتتعلق بعوامل<br />
عدة، بينها تداخل جذب الشمس على األرض وموقعها<br />
الهندسي نسبة ملوقع القمر، وموقع الشمس والقمر<br />
بالنسبة إلى خط االستواء. فحني يكون القمر واألرض<br />
والشمس على خط واحد - كما في خسوف القمر<br />
أو كسوف الشمس - يكون املد في أعلى مستوى له.<br />
وكذلك حني يكون القمر في احملاق أو في البدر. أما<br />
في األسبوعني األول والثالث من كل شهر قمري، فيكون<br />
املد ضعيفاً بسبب وقوع كل من الشمس والقمر على<br />
ضلعي زاوية قائمة تقريباً، ما يجعل مفعول جاذبية<br />
الشمس يتعاكس مع مفعول جاذبية القمر.<br />
ويكون املد أكبر على سواحل احمليطات وفي<br />
خلجانها التابعة. ففي خليج »مون سان - ميشال«<br />
الفرنسي قرب النورماندي، يصل ارتفاع موج املد عند<br />
الذروة إلى 15 متراً، وفي خليج »فوندي« )كندا( إلى<br />
17 متراً. وتستخدم طاقة أمواج املد واجلزر إلنتاج<br />
الكهرباء كما في بريطانيا - فرنسا.<br />
جدير بالذكر أن عملية املد ال تقتصر على رفع<br />
املياه فقط - وإن كانت أكثر قابلية للحركة من األرض<br />
الصلبة - بل تتعداها إلى قشرة األرض ومعطفها األعلى<br />
اللذين ليسا خارج سلطة اختالف اجلذب الثقالي، وهما<br />
يستجيبان لقوة املد-جزر، حيث تصل استجابتهما إلى<br />
حدود متر واحد باجتاه القمر في أثناء املدّ األقوى.<br />
مثل هذا التأثير يعني أن ظاهرة املد واجلزر تزيد في<br />
»خض« قلب األرض وتتراكم فيها ديناميكية إضافية<br />
تزيد من احتمال البراكني والزالزل.<br />
مفاعيل املدّ - جزر على منظومة األرض والقمر<br />
في أثناء تفقده تواريخ اخلسوفات املاضية للقمر<br />
عام 1695، ومقارنتها بتلك املرصودة خلالل القرن<br />
السابع عشر، اكتشف الفلكي اإلجنليزي إدمون هالي<br />
)الذي كان أول من تنبأ بظهور املذنب - الذي حمل<br />
اسمه- بعد 76 سنة من ظهوره(، أن مدة دوران القمر<br />
حول األرض تتغير ببطء مع الزمن.<br />
أ- إبطاء حركة دوران األرض وتباعد القمر<br />
في القرن الثامن عشر، توصّ ل الفيلسوف والعالم<br />
إميانويل كانط إلى شرح منطقي لتلك الظاهرة، مفسراً<br />
األمر أنه بسبب مفعول املد - جزر، فإن املنظومة<br />
الثنائية »أرض - قمر« تخسر من طاقتها بسبب اخلض<br />
الداخلي لكوكب األرض الذي يحول قسماً من الطاقة<br />
احلركية إلى حرارة احتكاك داخل األرض، وبالتالي فإن<br />
حركة دوران األرض حول نفسها تتباطأ تدريجياً، ما<br />
يعني أن اليوم على كوكب األرض يطول بشكل تدريجي.<br />
ويقدّر علماء الفلك معدّل هذا االزدياد بحوالي 2.5<br />
ميللي ثانية في القرن )جزءان ونصف اجلزء في األلف<br />
من الثانية كل 100 عام(، أو مبعدل 25 ثانية كل مليون<br />
عام. ومنذ مائة مليون عام، في زمن الديناصور، كانت<br />
السنة تعد 380 يوماً، مبعدل 23 ساعة تقريبا لليوم<br />
الواحد. وهذا يعني أنه في املاضي السحيق كان اليوم<br />
على األرض أقل مما هو اليوم، وأن السنة )املدة الثابتة<br />
لدوران األرض حول الشمس( كانت حتتوي عدداً أكبر<br />
من األيام. وتفيد بعض األبحاث اجليولوجية، أنه منذ<br />
400 مليون عام، كانت السنة تعدّ حوالي 400 يوم بطول<br />
22 ساعة لليوم الواحد تقريباً.<br />
كما أن خسارة منظومة األرض والقمر للطاقة<br />
بسبب املد - جزر تبطئ من سرعة دوران القمر<br />
حول األرض، ما يتسبب في ابتعاده التدريجي عنها.<br />
ويقدّر العلماء أن القمر يبتعد عن األرض مبعدل 3.7<br />
سنتيمترات في السنة. ومع ابتعاد القمر التدريجي عن<br />
األرض، فإن قرصه الظاهري - الذي يوازي القرص<br />
الظاهري للشمس حالياً - يصغر مع الزمن، وسوف<br />
!<br />
#"<br />
!"<br />
$<br />
!"<br />
العدد - 692 يوليو 2016<br />
160
الكويت عاصمة الثقافة اإلسالمية 2016<br />
!<br />
!<br />
!"#$ %$&'( )*+ ",-.$ /0123' :<br />
!!<br />
! !<br />
!<br />
!!<br />
! !<br />
!<br />
!<br />
!!"#$<br />
%$"&' %( )*+,-.$ /'",0.$ /&1.$ :<br />
!<br />
!!<br />
!<br />
!! !!"#$%<br />
!!<br />
! !<br />
!!<br />
!<br />
!<br />
يأتي اليوم الذي يصبح فيه القمر عاجزاً عن تغطية<br />
كامل قرص الشمس في أثناء مروره بينها وبني األرض،<br />
وبالتالي سوف يستحيل على األرضيني مشاهدة كسوف<br />
كلّي للشمس، بل كسوف حلقي.<br />
ب - دوران القمر املتزامن<br />
إذا كان القمر قد تسبب مبوجات املد البحري<br />
الناجت عن املدّ- جزر، وبإبطاء حركة دوران األرض<br />
حول نفسها، فاألرض أثرت ليس فقط في إبطاء<br />
دوران القمر حولها وحول نفسه، بل في التحكم بهذا<br />
الدوران وجعله متزامناً، أي جعل مدة دورانه حول<br />
نفسه مساوية ملدة دورانه حول األرض )اليوم القمري<br />
= الشهر القمري فلكياً = 27.33 يوماً(، والنتيجة أننا<br />
ال نرى سوى صفحة واحدة من سطح القمر. وميكن<br />
تشبيه األمر بتفاحة مربوطة بجذعها بخيط منسك<br />
طرفه اآلخر. وحني جنعل التفاحة تدور حولنا بواسطة<br />
اخليط، فإننا ال نرى منها سوى اجلزء الذي يحتوي<br />
على اجلذع. هكذا يثبت مد-جزر األرض على القمر<br />
وضعية القمر وكأنه مربوط بخيط في دورانه حول<br />
األرض. في هذا الوضع، ينفذ القمر دوراناً متزامناً<br />
حول نفسه وحول األرض.<br />
ج - )مد جزر( على أقمار أخرى<br />
في املجموعة الشمسية<br />
تزامنية دوران القمر نسبة إلى األرض ليست شأناً<br />
استثنائياً في املنظومة الشمسية.<br />
ويكفي أن يكون القمر كبيراً وقريباً مبا فيه<br />
الكفاية نسبةً إلى الكوكب اجلاذب، حتى يتمكن »مد<br />
- جزر« الكوكب - خالل بضعة مليارات من السنني<br />
- من التحكم بتزامنية القمر. وهناك عدد من أقمار<br />
املنظومة الشمسية تتصرف مثل قمر األرض وتنفذ<br />
دوراناً متزامناً حول كواكبها: القمران فوبوس ودميوس<br />
حول املريخ، األقمار الغاليلية )آيو ويوروبا وغانيميد<br />
وكاليستو( حول املشتري، قمر »أمالتيا« الصغير حول<br />
املشتري أيضاً، قمر »جابيت« حول زحل، القمران<br />
ميرندا وآريل حول أورانوس، قمر ترايتون حول نبتون.<br />
وهذا األخير، »ترايتون« قمر كبير يبلغ قطره 4000<br />
كلم، وهو يقترب بسرعة من كوكب نبتون في أثناء<br />
دورانه املداري حوله، ويقدّر الفلكيون أنه خالل 100<br />
مليون عام فقط، سوف يتخطّ ى ترايتون »حدود روش«<br />
اخلاصة بكوكب نبتون، ما سيؤدّي لتشظّ يه ثم سقوط<br />
أجزائه على الكوكب، كما حصل ملذنب »شومخر -<br />
ليفي - 9« مع كوكب املشتري.<br />
قسم من فتات القمر املتشظّ ي قد ينجح فتات<br />
األقمار املتشظية في اكتساب طاقة حركية إضافية<br />
واجتاه مداري مناسب في أثناء انفجار القمر وبالتالي<br />
تنجح في تشكيل دوران مداري مناسب على مسافة<br />
مناسبة من الكوكب، مشكلة بذلك نوعاً من احللقة<br />
احمليطة بالكوكب، تذكرنا بحلقات زحل الشهيرة.<br />
وباملناسبة فإن حلقات زحل قد تكون عائدة للسبب<br />
نفسه.<br />
وللتزامنية قصة أخرى بني بلوتو )الذي أُقيل من<br />
161<br />
املد واجلزر... حكاية اختالف في قوى اجلذب الثقالي
Moon<br />
Earth<br />
رتبة الكواكب( وقمره األكبر »شارون«. فهذا القمر يؤثّر<br />
بدوره على »كوكبه« اجلاذب )يبلغ قطر شارون 800<br />
كلم بينما قطر بلوتو 2400 كلم(. وهنا تلعب التزامنية<br />
باالجتاهني، إذ يعرض كل من اجلسمني الصفحة ذاتها<br />
لآلخر، وكأنهما مربوطان بحبل ثابت في أثناء دورانهما<br />
حول نقطة مركزية.<br />
وقد ال ينجح املد - جزر بني جسمني فلكيني<br />
بتحقيق تزامنية كاملة، وإمنا بظاهرة »رنني ديناميكي«<br />
كما بني الشمس وكوكب عطارد القريب منها. يدور<br />
عطارد حول نفسه مرة كل 59 يوماً أرضياً، بينما ينهي<br />
دورة حول الشمس كل 88 يوماً أرضياً )املدة الدورانية<br />
تساوي ثلثي املدة املدارية(. وهذا يعني أن عطارد يدور<br />
3 دورات حول نفسه، بينما ينهي دورتني حول الشمس.<br />
ويكون اليوم الشمسي على عطارد )أي من الشروق<br />
إلى الشروق في املنطقة عينها( 176 يوماً أرضياً.<br />
لنتخيّل أنفسنا في منطقة معينة على كوكب عطارد،<br />
فإن اليوم الشمسي عليه يساوي سنتني: طوال السنة<br />
األولى نكون في ظالمٍ دامس، وطوال السنة الثانية<br />
نشهد نهاراً حاراً.<br />
مفاعيل أخرى للمد - جزر<br />
يتسبب املد - جزر كما رأينا في تشوّه اجلسم<br />
املجذوب الذي يظهر كموجات مدّ كبيرة على السطح<br />
في حال وجود املاء - كما على األرض - وفي خفق<br />
املكونات اجلوفية بني ذروة وأخرى. وهذا ما يزرع<br />
احلرارة في جوف اجلسم املجذوب بسبب حترّك<br />
الكتل اجلوفية واحتكاكها. فقمر »آيو« القريب من<br />
الكوكب العمالق »املشتري«، يشهد انبثاقات بركانية<br />
حيّة رغم قشرته اجلليدية السميكة. وال يرى الفلكيون<br />
سبباً لهذا النشاط البركاني إالّ مد - جزر املشتري<br />
عليه.<br />
وقمر »يوروبا« حول كوكب املشتري أيضاً، يشهد<br />
سطحه اجلليدي السميك )سماكة 30 كلم تقريباً(<br />
تشققات طويلة وعريضة يعتقد أنها بسبب مد - جزر<br />
املشتري عليه. وقد سجلت انبثاقات رذاذٍ مائي من<br />
أكثر من موقع على سطحه، ما يعني أنه حتت هذا<br />
الغطاء اجلليدي السميك هناك ماء سائل بسبب<br />
احلرارة اجلوفية التي يساهم بالطبع مد - جزر<br />
املشتري فيها.<br />
خامتة<br />
إن ظاهرة املد - جزر تصبح فاعلة، فهناك<br />
جسمان فلكيان ال يكون حجماهما صغيرين جداً<br />
نسبة للمسافة بينهما. وميكن لهذه الظاهرة أن تفعل<br />
بني النجوم وبني املجرّات. فمجرّتنا العمالقة »درب<br />
التبانة« في صدد تشويه وابتالع املجرتني الصغيرتني<br />
»غيمة ماجالن الكبرى« و»غيمة ماجالن الصغرى«.<br />
كما أن مجرّة »أندروميدا« بصدد التشوه واالقتراب<br />
التدريجي من مجرتنا، ويحسب العلماء أن اصطدام<br />
املجرّتني سوف يبدأ بعد أقل من ملياري سنة من<br />
اليوم.<br />
ونرى في بعض أفالم اخليال العلمي، تشوّه<br />
األجسام أو املركبات التي تتجرّأ من االقتراب من<br />
»ثقب أسود«، حيث تكون اجلاذبية كبيرة جداً، ما يفعل<br />
ليس فقط في األجسام الفلكية املقتربة، بل حتى في<br />
املركبات الصغيرة ><br />
العدد - 692 يوليو 2016<br />
162
الكويت عاصمة الثقافة اإلسالمية 2016<br />
الطفولة والقرية والعيد<br />
العيد في جيب جلبابي!<br />
عبدالغني كرم اهلل<br />
كاتب وروائي من السودان.<br />
كنت أحسبه أجمل طقس من طقوس العيد، أن يلطخ الناس جباههم بالرمل<br />
الذهبي الناعم، وهم مقبلون على القرية، من كل فج، بعد صالة العيد الجماعية،<br />
تحت الشجرة البعيدة عن دارنا، قرب النيل، أمشي مثل معزتنا، على أربع، عمري<br />
دون الثالثة، ولكن حين اشتد عودي، وصرت ذا سبع سنين، قربت الشجرة من<br />
الدار كثيرا، كما صار النيل على مرمى حجر من كفي.<br />
تحت شجرة الجميز، التي تمد غصونها عمداً، إلى أقصى مدى، وهذا فضل من<br />
اهلل، الذي سخر الشمس والقمر والشجر والموز، بنية خضراء، كي تظلل القرية<br />
كلها، على ضفاف النيل األزرق، نصلي على الرمل، تتزخرف كل الجباه بالقرب<br />
من اهلل، وبالرمل الذهبي، في الركعة األولى، وفي الركعة الثانية، وقد نز<br />
العرق، بالشمس الوليدة، المبتهجة أكثر منا، يزيد وشم الرمل على جباه البنات<br />
واألطفال والجدات والرجال.<br />
حسبته في طفولتي طقسا من طقوس صالة<br />
العيد، وأنا أتلفت في أثناء الصلالة، ألخوالي<br />
وأهلي، على مدى الصفوف الطويلة حولي، وال<br />
أستطيع السجود، فجيبي مليء باحللوى، والبلح،<br />
و»طرادة، وسبعة وثالثني قرشاً«، محشورة فيه،<br />
جيبي منتفخ، كخد سعيد، مكور ببرتقالة بني<br />
ضروسه، )أحسبها كل دقيقة من يأمن مكر<br />
محاسن؟(، وال محالة ستهوي ثروتي، إن سجدت،<br />
وتخطفها أختي، طريدتي محاسن، وتفر كالصقر،<br />
فهل أقطع صالتي، وأركض خلفها؟ فكنت أكتفي<br />
بالركوع فقط، وبحرص عظيم على جيبي، كم<br />
حكيم هو اخلياط، أن وضع اجليب لصق القلب،<br />
في جلبابي، نبضي يهدهد اجليب، كي يغريه<br />
بشراء ما يريد ويرغب.<br />
رسخ في قلبي الصغير، أن العيد هو جردل<br />
اخلبيز، فوق دوالب أمي، وأن تلبس اجلديد،<br />
مبكوة املصنع، وتتوضأ، وتزخرف جبهتك برمل<br />
ذهبي ناعم، من اخلالء في اجلنوب الشرقي<br />
للقرية، أسعدني ذلك، ألن جدتي لن تستطيع أن<br />
تُعيِّرني مرة أخرى، حني أتسخ، بالرمل والطني،<br />
كلنا أطفال في العيد، الرمل يعلو احلاجب، رغم<br />
أنف حلم العني، التي لن تعلوه، أبداً.<br />
163<br />
العيد في جيب جلبابي!
العدد - 692 يوليو 2016<br />
164
الكويت عاصمة الثقافة اإلسالمية 2016<br />
أكتم ضحكتي، »اخلشوع وااااجب في<br />
الصالة«، حين أنظر خلفي جلدتي، وأجدها<br />
دون كل املصلن، رسمت خطوطاً بالرمل على<br />
جبهتها، حتاكي موج النيل قربنا، وتركت احلفر<br />
بين التجاعيد فارغة، مثل فؤاد أم موسى، كم<br />
تعددت رسومات الرمل على اجلباه، كالغيم فوق<br />
السماء، وكي ال أفسد مراسم العيد، وقد حرمت<br />
جبهتي من السجود، خوفاً على ثروتي، كنت أمد<br />
يدي، وأقبض حفنة رمل، وأدعك بها جبهتي،<br />
وشم العيد.<br />
ما نخلعه، من مالبس رثة، كي نرتدي ثياب<br />
العيد اجلديدة، هي مالبس العيد الفائت، خير<br />
خلف خلير سلف، زهاد كالنبي، عليه السلالم،<br />
وسقراط )ما أكثر األشياء التي ال نحتاج إليها(،<br />
ولو تركوني وشأني، فأجمل قميص لبسته في<br />
حياتي، هو جلدي، لكنهم يتدخلون في كل شيء<br />
في حياتي، حتى شكل أنفي، وملمس شعري،<br />
فرضته علي جيناتهم.<br />
أشم رائحة القطن، وكي املصنع، وكثيراً ما<br />
يطعنني دبوس في جسمي النحيف، ألني عجول<br />
في لبس مالبسي، ال أقوى على الصبر مطلقا،<br />
مطلقا، قبل إفراد القميص واستخراج الدبابيس،<br />
التي تلوي أكمام قميصي اجلديد، على ظهره،<br />
مثل سجن خطير، مقيدة يداه خلفه.<br />
كثيراً ما يناديني أخي األكبر، وأنا أركب<br />
الدراجة، )مزلط الركب، مغبر الثياب(، وقد<br />
أبت أن متضي مستقيمة، ألني أقسمت لصاحب<br />
الدراجات أني أجيد سواقة الدراجة )أظنني من<br />
أنصار أفالطون، العلم كامن في النفس(، فتهوي<br />
بي ذات اليمن، وذات الشمال في كل متر أعبره،<br />
)أظنني نسيت السواقة، كما ينسى أحدنا أموراً<br />
كثيرة يعرفها(، إن لم أبرر لنفسي، فلمن؟ أقترب<br />
من أخي، يقفز جانبا، كدت أصدمه، كي يستخرج<br />
قصديرة من »لياقتي«، كانت تشدها لألعلى، كي<br />
تستدرج الشاري، بأن »اللياقة قوية«، وهي ألن<br />
من ماء، وهو يهمهم »العجلة من الشيطان«،<br />
أخطف القصديرة، تشبه الهالل، وبها ثقوب مثل<br />
أفالم السينما، ألعب بها كسالح، أهدد به أختي،<br />
وأحرس ثروتي.<br />
الويل ألمي إن وصلت مالبسي اجلديدة<br />
قبيل العيد بيوم، كل ثانية أسألها »متى يأتي<br />
العيد؟«، فترد بكرة، إن شاء الله، ال أحب عبارة<br />
إن شاء الله هذه أبداً، أحسها كذبة، أريدها<br />
أن تقول »سيأتي بكرة«، ألنه قد يتأخر العيد<br />
مبا ال أضيق، تتوالى أسئلة، متى؟ لمَ تأخر؟<br />
هل جرى له شيء؟، أحس العيد تأخر قرناً<br />
ثم أغضب من العيد، لمَ يتأخر؟ ألم يعلم بأن<br />
مالبسي وصلت؟ وبأني أتوق إلى أن ألبسها من<br />
أجلي، له؟ كنت أتصور العيد كائناً حياً، كنت<br />
مثل الشعراء العظام، أحس وأتخيل أي شيء<br />
كائناً حياً، األعياد، ورمضان، كلها كائنات<br />
حية، جميلة. يحال غضبي للعيد، أشتمه »أنت<br />
متأخر مالك؟«، أخاطبه، وأحسه يركب حمارة<br />
كسلالااانة، تقدم رجلالً وتؤخر أخرى، فار<br />
غضبي، وقلت ألمي بصرامة، وبوز ممدوووود<br />
»العيد جااااااء«، وقف العيد قربي، في قلب<br />
الليل.<br />
حن تشرق شمس العيد، تتعجب من فتى<br />
صغير، عاش عيده قبيل الناس، ينام مبالبس<br />
العيد، وحذاءه معه، ولعابه بلل جيبه وحجره،<br />
ومن عجب يسير كل يومه حافياً، وفي نومه<br />
لبس احلذاء، من يأمن األحالم؟ قد تخلق شوكاً<br />
في كل مكان، فقد ألبستني أمي هذه األشياء<br />
ليالً، وكفى الله املؤمنن القتال، والعناد.<br />
تساهر القرية، كلها، في الكنس، والرش،<br />
والغسيل، وأنوار فوانيس الترزية )اخلياطن(،<br />
في سهر مع النجوم، فوزية، حسن ود أحمد،<br />
آمنة بت حواء، تساهر فوانيسهم حتى الصبح،<br />
و»رتينة« حسن تبدو كشمس صغيرة، تتعجب<br />
منها األغنام، والقطط، شمس في منتصف<br />
الليل، هل قامت القيامة؟ ويتعجب الدجاج لمَ<br />
طال النهار؟ وهي التي تنام عند الغروب، متعبة،<br />
من صحو الفجر، وحوامة عن رزق وقمح، برسن<br />
حدسها في نواحي البيت.<br />
يظل العيد في الدار، ال يفارقها، إن العيد<br />
األحلى، األسمر، هي أمي، عيد دائم، عيد<br />
حولنا، وفينا، ولم تكن بالقرية كهرباء، ولكن نور<br />
وجه أمي يضيء في سابع الظلمات ><br />
165<br />
العيد في جيب جلبابي!
كذب<br />
األطفال<br />
وعالجه<br />
د. شيرين محمود<br />
أكادميية من مصر<br />
تنتشر مشكلة الكذب عند األطفال على نطاق<br />
واسع، وهي ظاهرة يجب التعامل معها من قبل<br />
الوالدين بصورة جدية، وذلك لحماية أبنائهما من<br />
هذه المشكلة التي تعود عليهم بالضرر، ألنها قد<br />
تصبح عادة متأصلة في أقوالهم وأفعالهم. وفي ما<br />
يلي سنعرض لمفهوم الكذب وأنواعه وأهم طرق<br />
الوقاية والعالج:<br />
العدد - 692 يوليو 2016<br />
166
الكويت عاصمة الثقافة اإلسالمية 2016<br />
167<br />
كذب األطفال وعالجه
الكذب خلق مذموم، حترمه األديان السماوية،<br />
وهو جتنب قول احلقيقة وقول ما لم يحدث<br />
واختلاق وقائع لم حتدث مع املبالغة في نقل ما<br />
حدث. وبالطبع ال يولد أحد كذاباً، فالكذب سلوك<br />
متعلم ومكتسب مثل الصدق، يتعلمه الطفل من<br />
البيئة التي ينشأ فيها.<br />
أنواع الكذب<br />
حتري الكذب أو اإلصرار عليه هو ما يجعله<br />
مشكلة، وعلى اآلباء معرفة أن الكذب الذي يصدر<br />
عن أبنائهم ليس واحداً وله تصنيفات عدة، وهناك<br />
دائماً غرض هو الذي يدفع الطفل إلى ممارسته<br />
وذلك على النحو التالي:<br />
< الكذب اخليالي<br />
هو شائع في الطفولة، ألن هناك كثيراً من<br />
األلعاب التي يلعبها األطفال قد تتضمن نوعاً من<br />
التخيل، وقد يكون حلماً أو أمنية لدى الطفل، أو<br />
ألنه سمع حكايات خيالية من الوالدين أو األجداد.<br />
وال نستطيع أن نصف هذه التخيلات بالكذب،<br />
فعادة ما يكون اخليال خصباً لدى األطفال املبدعني<br />
واملوهوبني. ويتمثل دور الوالدين في توجيه الطفل<br />
للتفرقة بني اخليال واحلقيقة مبا يتناسب مع منو<br />
الطفل.<br />
< الكذب التعويضي<br />
يظهر هذا النوع عندما يشعر الطفل بالنقص<br />
وبأنه أقل ممن حوله، أو كمحاولة لكسب إعجاب<br />
الوالدين، خاصة عندما يفشل في الوصول إلى<br />
توقعاتهما حول قدراته. ويجب على الوالدين تفهم<br />
احتياجات طفلهما واالهتمام به، ومحاولة إيجاد<br />
طرق واقعية لتحقيق هذه االحتياجات.<br />
< كذب احملاكاة<br />
يقلد فيه الطفل أحد الوالدين في أمور قد<br />
يعتقدان أنها بسيطة، كأن يُطلب منه الرد على<br />
الهاتف أو إخبار املتحدث بأن »بابا غير موجود«، أو<br />
»ماما نائمة«، أو اكتشاف الطفل أنه مت خداعه كأن<br />
تقول له والدته سنذهب إلى النادي، ثم يكتشف أنه<br />
العدد - 692 يوليو 2016<br />
168
الكويت عاصمة الثقافة اإلسالمية 2016<br />
ذُهب به إلى طبيب األسنان، أو أن يتم وعده بشراء<br />
هدية ومن ثم عدم الوفاء بهذا الوعد.<br />
< الكذب االدعائي<br />
يلجأ فيه الطفل إلى املبالغة في امتالكه أشياء<br />
كثيرة، فيُحدّث األطفال أنه ميتلك ألعاباً كثيرة أو<br />
يحدثهم عن ثروة أسرته، ويبالغ في الوصف وذلك<br />
للمفاخرة أو ملسايرة زمالئه. وكذلك فإن من صور<br />
هذا الكذب االدعائي التي تتكرر لدى األطفال<br />
التظاهر باملرض لعدم الذهاب إلى املدرسة،<br />
الستدرار العطف من الوالدين أو عندما يشعرون<br />
بالتفرقة بينهم وبني أخواتهم.<br />
< الكذب جلذب االنتباه<br />
هذا النوع يلجأ إليه الطفل األناني واملدلل الذي<br />
يرغب دائماً في أن يكون موضع اهتمام والديه<br />
طوال الوقت، لذلك فهو يكذب جلذب انتباههما،<br />
أو الطفل املهمل املنبوذ الذي يشعر بإهمال والديه<br />
له، فيلجأ إلى الكذب جلذب انتباه والديه الغافلني<br />
عنه، نظراً النشغالهما مبشكالت احلياة.<br />
طرق الوقاية والعالج<br />
»حافظ على جنومك«<br />
هناك مجموعة من الوسائل واألساليب التي قد<br />
تساعد الوالدين على التغلب على مشكلة الكذب،<br />
وجدير بالذكر أنه قبل سن اخلامسة ال مييز الطفل<br />
كثيراً بيني احلقيقة واخليال، لذلك نظلمه إذا<br />
وصفناه بالكذاب. وفي ما يلي عرض لهذه الطرق:<br />
< اللجوء إلى النصح املباشر عن طريق توجيه<br />
األبناء نحو ترك الكذب وتنفير الطفل منه وتعريفه<br />
مبساوئه العديدة وبأنه سلوك مذموم.<br />
< محاولة فهم األسباب املؤدية إلى الكذب لدى<br />
الطفل، وحتديد نوع الكذب الذي ميارسه لتحديد<br />
كيفية التعامل معه.<br />
169<br />
كذب األطفال وعالجه
إتاحة الفرصة للطفل ليستطيع التعبير عن<br />
نفسه من دون خوف حتى ال يضطر إلى الكذب<br />
بسبب اخلوف.<br />
< االبتعاد عن استخدام عقوبة الضرب نهائياً<br />
عند التعامل مع الطفل. وقد نطلب منه السكوت<br />
بعد كل كذبة مدة ربع ساعة كعقوبة.<br />
< عدم التشهير بالطفل، سواء أمام العائلة<br />
أو األقارب أو األصدقاء،<br />
ألن ذلك قد يجعله<br />
يتمادى في كذبه أو يؤثر سلباً على شخصيته.<br />
< النظر إلى املصادر األصلية للكذب في البيئة<br />
احمليطة بالطفل التي استقى منها هذا السلوك،<br />
والعمل على تنقية اجلو احمليط بالطفل من كل<br />
مصادر الكذب.<br />
< مداومة الوالدين على تصحيح املعلومات<br />
الكاذبة وكشفها والنهي عنها لدى أوالدهم، بحيث<br />
ال ميثل ذلك سلوكاً ثابتاً لديهم.<br />
< إشعار الطفل بالثقة بأن الوالدين اللذين<br />
يقومان بدور املخبر السري قد يدفعان<br />
طفلهما إلى الكذب في مختلف املواقف.<br />
< منع شراء األشياء الغالية التي<br />
يرغب فيها الطفل والربط بني عدم<br />
شرائها والكذب.<br />
< إعلاء قيمة الصدق بني<br />
أفراد األسرة، وأن يكون الوالدان<br />
قدوة حسنة لطفلهما، وترسيخ<br />
فكرة أن الصدق سلوك محمود،<br />
ويجلب السعادة للجميع.<br />
< في حالة اللجوء إلى العقاب،<br />
يجب أن يكون معقوالً ومتناسباً مع<br />
اخلطأ، وأن يشعر الطفل أن العقاب<br />
الذي وقع عليه بسبب سلوك الكذب،<br />
وليس ألنه هو نفسه سيئ.<br />
< محاولة توجيه سلوك الطفل<br />
نحو األمور التي تقع في دائرة قدراته<br />
الطبيعية، ما يجعله يشعر بالسعادة، وعدم<br />
تكليفه بأعمال تفوق قدراته حتى ال يشعر بالفشل<br />
واإلحباط.<br />
< إشباع حاجات الطفل املختلفة، ألن<br />
عدم إشباعها رمبا يدفعه للكذب انتقاماً أو<br />
هرباً أو تعويضاً.<br />
< تأكيد أن الصدق يجلب له النفع<br />
ويخفف من وطأة العقاب في حالة ارتكابه<br />
اخلطأ.<br />
< تعليق لوحة في غرفته بها جنوم<br />
كثيرة، وكلما كذب نطمس جنمة من<br />
اللوحة فيتحمس للمحافظة على<br />
النجوم.<br />
العدد - 692 يوليو 2016<br />
170
الكويت عاصمة الثقافة اإلسالمية 2016<br />
< أن يطلب منه دفع جزء من مصروفه كعقاب<br />
له في كل مرة يكذب فيها.<br />
< إقناع الطفل بأن الكذب يؤدي إلى فقد الثقة<br />
به وعدم احترام اآلخرين له.<br />
< جتنب التجريح باأللفاظ، وفي حالة اكتشاف<br />
الوالدين كذب طفلهما واعتذر، فمن األفضل قبول<br />
االعتذار.<br />
< أن يكون لديه علبة فيها حلويات ونزيدها<br />
كلما كان صادقاً.<br />
< محاولة الوفاء بوعودنا التي نقطعها على<br />
أنفسنا مع الطفل.<br />
< العمل على تلبية احتياجات الطفل البسيطة<br />
بقدر اإلمكان.<br />
< حتمل أخطاء الطفل وزالته والتسامح معه<br />
كلما أمكن ذلك.<br />
< عدم إظهار الريبة والشك في األوالد، وعدم<br />
اللجوء إلى التحقيق معهم، بل يتم إظهار قدر من<br />
الثقة عند التعامل معهم.<br />
< أن يتجنب الوالدان الكذب أمام الطفل<br />
للتخلص من املواعيد وااللتزامات وللهروب من<br />
اآلخرين.<br />
وختاماً، فإن مشكلة الكذب من املشكالت<br />
السلوكية التي قد يتعرض لها أبناؤنا، ويجب على<br />
الوالدين تفهم هذه املشكلة ومحاولة عالجها،<br />
ألن األطفال عماد املستقبل، ونعمة من نعم الله،<br />
ورعايتهم واجبة وحمايتهم أمانة في أعناقنا ><br />
171<br />
كذب األطفال وعالجه
العالج بالفن...<br />
عودة اإلنسان لفطرته<br />
نسرين البخشونجي<br />
كاتبة من مصر مقيمة في السعودية<br />
مع تزايد تعقيدات المجتمع الحديث، خصوصاً في عالمنا العربي، وما أفضت<br />
إليه من ضغوط نفسية على األفراد، ارتفعت نسب تعرض األفراد ألزمات<br />
نفسية، تتراوح ما بين االكتئاب والتغيرات المزاجية وتفاقمها، إلى حاالت أكثر<br />
قسوة، وهو ما يجعلنا نحاول البحث عن سبل العلالج المختلفة الهادفة إلى<br />
تجاوز أزماتنا النفسية وآالمنا الجسدية. وباإلضافة إلى وسائل وسبل العالج<br />
التقليدية المتوافرة لدى المتخصصين من المعالجين النفسيين وأخصاء<br />
الطب النفسي، هناك اليوم طفرة جديدة تحاول االستعانة بوسائل غير<br />
تقليدية لعلالج االضطرابات المزاجية والنفسية والسلوكية التي يعانيها<br />
اإلنسان المعاصر.<br />
يقول الطبيب النفسي فريتز بيرلز: »إن أصح<br />
شكل من أشكال اإلسقاط النفسي هو الفن«. ويقول<br />
الرسام الشهير بيكاسو: »الفن وسيلة لغسل الروح<br />
من تراب احلياة اليومية«. السؤال الذي ميكن أن<br />
نطرحه هنا هو: هل ميكننا بالفعل استخدام الفن<br />
وسيلة عالجية ليس لها آثار جانبية؟ واإلجابة بكل<br />
تأكيد, نعم.<br />
في البدء كان اإلبداع وسيلة اإلنسان األولى<br />
الكتشاف الذات والتعبير عنها، والطريقة التي<br />
استخدمها لتدوين مفردات حياته البسيطة<br />
ومالمح حضارته العريقة. لذا صارت أعماله<br />
جزءاً من تاريخ البشرية الفطري األصيل. ولكون<br />
الفنون جسدت جانباً أصيالً في تطور معرفة<br />
اإلنسان بنفسه ومحاولته للتعبير عنها، فمن<br />
الصعب حتديد زمن دقيق أو فترة محددة بدأت<br />
بها عملية استخدام الفنون كعالج.<br />
لكن بعض املصادر تؤكد أن لهذا النوع من<br />
العالج جذوراً تاريخية تعود إلى احلضارات<br />
القدمية كاحلضارة املصرية, اليونانية والصينية.<br />
فالصينيون على سبيل املثال, اعتمدوا على تقنية<br />
االستشفاء باللون في »الفنج شوي« Feng Shui<br />
حيث لكل لون طاقة تؤثر في احلالة النفسية<br />
واجلسدية لإلنسان, بينما يرى آخرون أن نشأته<br />
تعود إلى فترة مرحلة التنوير في أوربا.<br />
وعلى الرغم من استخدام هذه التقنية<br />
العالجية منذ فترة طويلة، فإنها لم تأخذ الشكل<br />
املنهجي، وتصبح علماً متخصصاً قائماً على<br />
األبحاث والدراسات حتى منتصف العشرينيات<br />
من القرن املاضي، حيث سعى إلى تطبيقها<br />
عدد من األطباء النفسيني, مثل سيجموند<br />
العدد - 692 يوليو 2016<br />
172
الكويت عاصمة الثقافة اإلسالمية 2016<br />
فرويد وكارل يوجن, كوسيلة عالجية مؤثرة لفهم<br />
الصراعات النفسية وحتليلها, فاهتم فرويد بدفع<br />
مرضاه لرسم أحالمهم, بينما قدم يوجن لوحات<br />
فنية رائعة.<br />
كما أننا جند في سيرة الفنان الهولندي<br />
العبقري الراحل فان جوخ، الذي كان يعاني<br />
مشكالت نفسية عديدة، اضطرته إلى االستشفاء<br />
في مصحة نفسية في باريس مرات عدة، أنه<br />
يشير إلى ارتباطه الشديد بأحد األطباء الذي<br />
كان يستخدم الفن عالجاً، وجنح في تخفيف<br />
املشكالت النفسية لفان جوخ وعالجه، إلى جوار<br />
مجموعة أخرى من مشاهير الكتَّاب والفنانني<br />
الذين عاجلهم ذلك الطبيب بول غاشيه )1828-<br />
1909(، وبينهم الفنان مانيه، ورينوار وغيرهما.<br />
عالج األطفال<br />
بداية، هناك تعريف لهذا النوع من العالج<br />
وضعته جمعية العلالج بالفن األمريكية بأنه<br />
االستخدام العالجي لصناعة الفن في إطار مهني<br />
ألولئك الذين يعانون املرض والصدمة أو التحديات<br />
في املعيشة، أو الذين يسعون إلى تنمية الشخصية.<br />
وميكن للناس زيادة الوعي الذاتي وغيره حول<br />
التعامل مع األعراض واإلجهاد والتجارب املؤملة<br />
وتعزيز القدرات املعرفية والتمتع مبلذات احلياة<br />
من خلالل إنتاج الفن والتفكير في املنتجات<br />
والعمليات الفنية. ويدمج العلالج بالفن مجاالت<br />
التنمية البشرية والفنون البصرية )الرسم والتلوين<br />
والنحت وغيرها من األشكال الفنية( والعملية<br />
الفنية مع مناذج من االستشارة والعالج النفسي.<br />
وتعد جتربة العلالج باأللوان من التجارب<br />
املهمة لعلالج األطفال، خصوصاً لكون األطفال<br />
ال يستطيعون التعبير عن أنفسهم بشكل جيد,<br />
إذ تعتبر تقنية العالج بالفن من أفضل الوسائل<br />
العالجية لهم. فالطفل مبدع بفطرته، لذا من<br />
السهل عليه أن يرسم, على سبيل املثال, ليعبر عن<br />
مشاعره. واستطاع األطباء النفسيون أن يعاجلوا<br />
173<br />
العالج بالفن... عودة اإلنسان لفطرته
حاالت كثيرة باستخدام العلاج بالفن فقط مثل<br />
الصدمات النفسية الناجتة عن االعتداء اجلنسي<br />
أو العنف, القلق, صعوبة التعلم, ومشاعر الفقد<br />
الناجتة عن وفاة أحد أفراد العائلة املقربني.<br />
كما أظهرالعاج بالفن جناحاً ملحوظاً في عاج<br />
حاالت األمراض العقلية كعلاج تكميلي مثل<br />
الفصام )الشيزوفرينيا(. وعلى مستوى آخر طبقه<br />
بعض األطباء على مرضى السرطان وخصوصاً<br />
األطفال وجنح في تخفيف حدة األلم وجتديد روح<br />
األمل داخلهم.<br />
العاج بالفن ال يقتصر على الرسم والتلوين<br />
فقط، بل تندرج حتته أساليب عاجية عدة أخرى,<br />
مثل العاج بالكتابة اإلبداعية, الرقص, املوسيقى<br />
والتمثيل. لكن هذه التقنية العاجة تتم حتت<br />
إشراف املعالج املتخصص.<br />
ما يسترعي االنتباه هنا أن الفن كعاج هو أحد<br />
األساليب التي ميكن لآلباء واألمهات االستعانة بها<br />
وتطبيقها في املنزل بسهولة. فمن السهل أن جند<br />
في البيت مجموعة أدوات متكننا من صنع أعمال<br />
إبداعية بسيطة وسهلة التنفيذ وجميلة تساهم<br />
في خلق حلقة تواصل مع أطفالنا وفي تنمية<br />
شخصيتهم فيما هم يقضون وقتاً ممتعاً.<br />
ومن بني هذه الوسائل الرسم احلر مثاً،<br />
وطباعة األصابع امللونة على ورقة كبيرة, أو تلوين<br />
كتاب الرسم, واستخدام الصلصال في عمل أشكال<br />
وتكوينات تعجب الصغار، وهي أفكار مناسبة جداً<br />
لألطفال الصغار بعمر ثاث سنوات حتى عشر<br />
سنوات.<br />
بينما ميكن تلوين »املانداال« Mandala وهي<br />
أشكال هندسية مصممة خصيصاً بغرض تفريغ<br />
املشاعر السلبية. وميكن أيضاً عمل »كوالج«<br />
)قصاصات( من أوراق اجلرائد واملجات, أو رسم<br />
األماكن التي يشعرون بالراحة فيها مثل الشاطئ أو<br />
احلديقة, وكذلك من املمكن قص األوراق ولصقها<br />
لنصنع منها حيوانات, أو كتابة كلمات إيجابية مثل<br />
»شكراً« ثم تلوينها وإهدائها ملن نحب, وأنشطة<br />
فنية مناسبة لألطفال األكبر سنا.<br />
كما ميكن للكبار أن يرسموا »بورتريه« ألنفسهم<br />
كتلك التي كانت ترسمها الفنانة املكسيكية فريدا<br />
كاهلو لتعبر عن مشاعرها الداخلية. أو أن يصنعوا<br />
قطعة فنية صغيرة يستخدمونها طوال الوقت،<br />
مثل إسورة ملونة أو ميدالية للمفاتيح، ورسم<br />
دائرة امتنان مكتوب داخلها أسماء من قدموا لك<br />
يد العون ذات يوم، وسجل كل موقف جميل مر<br />
بحياتك.<br />
وبشكل عام، وبالرغم من تشعب هذا العلم,<br />
تظل تقنية العلاج بالفن وسيلة فعالة للمؤمنني<br />
بضرورة عودة اإلنسان إلى فطرته كي يتخلص<br />
من الضغوط التي فرضتها احلياة املدنية<br />
عليه ><br />
منطقان<br />
نظر عبدامللك بن مروان إلى رجلني من جلسائه، أحدهما شاب رأسه قبل<br />
حليته، واآلخر شابت حليته قبل رأسه، فأراد أن يعرف جواب كل واحد منهما<br />
عن حاله تلك، فقال ألحدهما: لم شاب رأسك قبل حليتك؟ قال: ألن شعر<br />
رأسي خُ لق قبل شعر حليتي، والكبير يشيب قبل الصغير. وقال لآلخر: لم<br />
شابت حليتك قبل رأسك؟ قال: ألنها أقرب إلى الصدر موضع الهم والغم.<br />
العدد - 692 يوليو 2016<br />
174
الكويت عاصمة الثقافة اإلسالمية 2016<br />
الهناء الشخصي<br />
د. صفية فرجاني أكادميية من مصر<br />
يعتبر مارتن سيلجمان )M.Seligman( أبرز العلماء الذين اهتموا بالجوانب<br />
اإليجابية واإلبداعية في دراسة السلوك اإلنساني في ثمانينيات القرن<br />
العشرين.<br />
ويعزى إليه أنه أطلق مصطلح علم النفس اإليجابي ،Positive psychology<br />
فزادت الدراسات التي تناولت الجوانب اإليجابية اإلنسانية بعدما تغلبت<br />
على الدراسات التي تناولت الجوانب السلبية لمواضيع علم النفس. ومن<br />
أهم المصطلحات الحديثة في مجال علم النفس اإليجابي مصطلح الهناء<br />
النفسي .Subjective well-being<br />
تعود اجلذور التاريخية للهناء الشخصي إلى<br />
العصر اليوناني, عندما أطلق أرسطو نظريته<br />
،»Eudemonic« أي نظرية »احلياة الطيبة«<br />
واأليدمونيا هي في أصلها اللغوي اليوناني<br />
»Demonia« وتعني امللاك احلارس أي وفرة<br />
النعمة، فالهناء يرتبط بفضائل احلياة, والعطاء،<br />
والوجود ذي املعنى. ويعتبر إدوارد داينر وآخرون<br />
)2002 Diener, )Edward أول من أطلق مصطلح الهناء<br />
النفسي في بحوث علم النفس، ويقصد به »تقدير<br />
الشخص وتقوميه حلياته الشخصية من الناحيتني<br />
املعرفية والوجدانية في اللحظة احلالية«, وهذا<br />
التقومي يشمل فترة طويلة من حياة الفرد، تعتمد<br />
على سنة كاملة, وتضمن ردود األفعال العاطفية<br />
للشخص جتاه األحداث, ومزاجه الشخصي, ومدى<br />
رضاه عن حياته، وكذلك مدى رضاه عن مجاالت<br />
جودة احلياة مثل العمل والزواج، ومن ثم يكون<br />
الهناء الشخصي مفهوماً شاماً يتضمن خبرة<br />
االنفعاالت السارة, ومستوى منخفضاً من املزاج<br />
السلبي, ودرجة مرتفعة من الرضا عن احلياة.<br />
مكونات الهناء الشخصي<br />
يرى العلماء أن مكونات الهناء النفسي يتم<br />
تقسيمها إلى مكونني أساسيني هما:<br />
- املكون املعرفي :Cognitive هو رضا الشخص<br />
عن نفسه, وأسرته, ورفاقه وصحته، وأمواله،<br />
وعمله، ووقت فراغه.<br />
- املكون الوجداني اإليجابي :Positive affect<br />
هو وجود خبرات أو مشاعر إيجابية سارة مثل:<br />
السعادة, واالبتهاج, والنشوة, واالعتداد بالنفس,<br />
واحلب, والفرح، والقناعة. وغياب خبرات أو مشاعر<br />
سلبية غير سارة مثل: الغضب واحلزن والشعور<br />
بالذنب واخلزي والقلق, واحلسد وغيرها.<br />
ويوصف الشخص الذي يتمتع مبستوى عال<br />
من الهناء النفسي بأنه راض عن حياته وذو<br />
175<br />
الهناء الشخصي
مشاعر إيجابية متكررة من السرور والفرح،<br />
ونادراً ما يواجه مشاعر سلبية كاالكتئاب واحلزن<br />
والقلق.<br />
ويتميز الهناء الشخصي كمتغير نفسي<br />
بخصائص أساسية أهمها:<br />
- 1 ينظر إليه من وجهة نظر الشخص<br />
نفسه.<br />
- 2 ال يهتم باالنفعاالت واملزاج الوقتي فقط،<br />
بل يفحص دالئل الهناء الشخصي للفرد عبر<br />
فترات أطول من الزمن.<br />
- 3 الهناء الشخصي يدرس أيضاً من<br />
خالل طيف واسع ميتد من اليأس إلى االبتهاج<br />
لكي يكتمل الرضا عن احلياة، وحيث إن جتنب<br />
البؤس ليس كافياً لتحقيق الهناء الشخصي، البد<br />
أن يجرب الناس الرضا عن احلياة واالنفعاالت<br />
السارة ويخبرونها، لذا يعد الهناء الشخصي خبرة<br />
العدد - 692 يوليو 2016<br />
176
الكويت عاصمة الثقافة اإلسالمية 2016<br />
أساسية ميرون بها.<br />
الدالئل على متتع الفرد بالهناء الشخصي<br />
هناك عدد من الدالئل التي إذا توافرت دلت<br />
على أن الفرد يتمتع بالهناء النفسي، هي:<br />
- الرضا عن احلياة :Satisfaction with life<br />
ويعني مدى تقبل الشخص واقتناعه بحياته بوجه<br />
عام, اعتماداً على حكمه الشخصي, وميكن أن<br />
نتعرف على الرضا لدى األفراد عندما نسألهم<br />
عن جوانب مختلفة من حياتهم، فنسألهم مثالً عن:<br />
العائلة, والزواج، واملعيشة، والعمل، والصداقة،<br />
والصحة، وتشير إجاباتهم إلى رضاهم عنها.<br />
- حب احلياة :Love of life هو اجتاه إيجابي<br />
لدى الشخص نحو حياته اخلاصة، ويعكس شدة<br />
متسكه باحلياة والتعلق السار بها وتقديرها.<br />
- التفاؤل :Optimism يقصد به نظرة استبشار<br />
نحو املستقبل جتعل الشخص يتوقع األفضل وينتظر<br />
حدوث اخلير ويرنو إلى النجاح.<br />
- األمل :Hope هو التفكير املوجه نحو الهدف،<br />
حيث يستطيع الفرد الذي يحصل على درجة<br />
مرتفعة في مقياس األمل أن يدرك حدود قدرته<br />
ملواصلة السعي نحو هدف معني والسبل الكفيلة<br />
بذلك, مع فكرة مفادها أن هذا الهدف سوف<br />
يتحقق، ما يجعل الفرد يشعر بالرضا واالرتياح.<br />
وهناك نوعان لألمل، هما:<br />
- األمل العام: وهو الذي ميثل شعوراً عاماً<br />
لدى الفرد بالقدرة على النجاح واإلجناز.<br />
- األمل اخلاص: وهو املتعلق بالنجاح في<br />
موضوع معني خاص بالفرد مثل الدراسة أو<br />
العمل.<br />
- 5 السعادة: :Happiness هي التي يقدر فيها<br />
الشخص نوعية حياته احلالية تقديراً إيجابياً،<br />
وتشمل ثالثة عناصر هي: الرضا عن احلياة<br />
ومجاالتها املختلفة –االستمتاع والشعور بالبهجة<br />
– الغياب النسبي للعناء مبا يتضمنه من قلق<br />
واكتئاب.<br />
وأشارت نتائج عدد من الدراسات النفسية<br />
إلى الفوائد التي تعود على األشخاص املتمتعني<br />
مبستوى عالٍ من الرضا الشخصي، فهم أكثر<br />
جناحاً في مجاالت احلياة املختلفة، وعالقاتهم<br />
االجتماعية أقوى من الذين هم في مستوى أقل<br />
من الهناء الشخصي، وتبني الدراسات كذلك<br />
أن األشخاص الذين يتمتعون مبستوى مرتفع<br />
من الهناء الشخصي غالباً ما يكونون متزوجني،<br />
ويحظون بعالقات جيدة داخل العمل، ولديهم<br />
القدرة على التعامل مع الضغوط، وفرصتهم أكبر<br />
في الترقيات والراتب الوظيفي األفضل، وهذه<br />
النوعية من األفراد تستطيع التغلب على الظروف<br />
الضاغطة، باإلضافة إلى متيزها مبستوى منخفض<br />
من األفكار والسلوكيات السلبية. وميكن القول<br />
إن ارتفاع مستوى الهناء الشخصي إحدى دالئل<br />
الصحة النفسية والشخصية السوية.<br />
تفسير العلماء لتمتع الشخص بالهناء الشخصي<br />
االجتاه األول: االجتاه املعرفي )منحى املتعة(<br />
Hedonistic Approach<br />
يرى العلماء أصحاب هذا االجتاه أن الذي يجعل<br />
الناس يشعرون بالهناء الشخصي هو إجنازاتهم<br />
ومواردهم الشخصية وتوقعاتهم بالتقدم. وأن<br />
الهناء الشخصي يعود إلى مصادر عدة منها:<br />
الدخل وعدد األصدقاء والتدين والذكاء ودرجة<br />
اإلجناز التعليمي.<br />
االجتاه الثاني: تكامل الهناء الشخصي<br />
)منحنى السعادة( Eudemonia Approach<br />
اعتمد هذا االجتاه في تفسيره للهناء الشخصي<br />
على تكامل عدد من آراء علماء النفس مثل كارل<br />
روجرز وإبراهام ماسلوا وكارل يوجن، الذين اتفقت<br />
نظرتهم في حتديد ستة أبعاد أساسية للهناء<br />
الشخصي وتشمل: النظرة اإليجابية إلى الذات<br />
وماضيها، اإلحساس بأن احلياة ذات هدف ومعنى،<br />
جودة العالقات مع اآلخرين، الفعالية الذاتية في<br />
املجال الشخصي، القدرة على اتباع قناعات الفرد<br />
الذاتية، اإلحساس بتقدير وحتقيق الذات.<br />
االجتاه الثالث: الهناء الوجودي Ontological<br />
Well-Being<br />
يشير هذا االجتاه إلى تفسير الهناء الشخصي<br />
177<br />
الهناء الشخصي
للفرد عبر فترة زمنية، حيث يتضمن تقومي الفرد<br />
جلوانب النشاط العقلي جتاه خبرات احلياة املمتدة<br />
)سواء املاضي أو احلاضر أو املستقبل(.<br />
بعض العوامل التي تؤثر في الهناء الشخصي<br />
1- الثروة:<br />
تشير نتائج البحوث النفسية إلى أن الثروة<br />
والدخل املرتفع يرتبطان بعديد من النتائج اإليجابية<br />
في احلياة، حيث يعتقد بعض الناس بأن الثروة تعطي<br />
للفرد الهناء الشخصي أكثر من أي عامل آخر.<br />
- 2 اإلميان بالله:<br />
يعتبر اإلميان بالله عاملاً مهماً في متتع<br />
الفرد بالهناء الشخصي, فكلما كانت عاقة الفرد<br />
مبعتقداته الدينية قوية كان لديه شعور بالرضا عن<br />
احلياة، مما ينعكس إيجابياً على هنائه الشخصي.<br />
- 3 الصحة اجلسدية:<br />
هناك عاقة إيجابية بني الصحة اجلسدية والهناء<br />
الشخصي, حيث إن االكتئاب مثلاً يؤثر في الصحة<br />
اجلسدية على املدى الطويل، في حيني أن العواطف<br />
اإليجابية مثل التفاؤل يكون لها تأثير إيجابي على<br />
صحة القلب والشرايني وعلى عمل جهاز املناعة.<br />
- 4 القيم:<br />
تعرف القيم بأنها »أهداف نسبية مرغوبة،<br />
متفاوتة في األهمية«، وتكون مبنزلة مبادئ توجيهية<br />
في حياة الناس. وتعتبر القيم مؤثرة في رأي الفرد،<br />
وأحكامه وسلوكه, وتصرفاته، ومن هنا فالقيم التي<br />
يتبناها الفرد مؤثرة على حياته ورضاه عنها ومؤثرة<br />
أيضاً في سعادته، وبالتالي على هنائه الشخصي.<br />
- 5 الترفيه:<br />
يرى علماء النفس أن الترفيه والتمتع باحلياة<br />
يفضيان إلى الهناء الشخصي للفرد, ويدعم ذلك<br />
من خال االستمتاع بأنشطة يرغبونها في أوقات<br />
فراغهم مثل مشاهدة السينما والقراءة وغيرها من<br />
هواياتهم املفضلة.<br />
ثقافة املجتمع والهناء الشخصي<br />
تعتبر ثقافة املجتمع عاملاً مهماً فى حتقيق<br />
الهناء الشخصي للفرد، فلكل مجتمع ثقافته<br />
اخلاصة التي تنعكس على احلالة النفسية العامة<br />
ألفراده، فاملجتمعات التي تسودها روح التعاون<br />
والعمل اجلماعي واحترام اآلخر تنعكس إيجابياً<br />
على الهناء الشخصي للفرد, بعكس املجتمعات التي<br />
تسودها النزعة الفردية واألنانية والصراعات التي<br />
تنعكس سلباً على الهناء الشخصي للفرد ><br />
أحسن من القمر<br />
كان أبوموسى بن محمد يحب زوجته حباً شديداً، فقال لها يوماً: أنت<br />
طالق إن لم تكوني أحسن من القمر. فنهضت، واحتجبت عنه، وقالت: قد<br />
طلقتني. اغتم أبوموسى وبات ليلته في سواد من األحزان، فلما أصبح ذهب<br />
إلى املنصور، وأخبره اخلبر، وقال: يا أمير املؤمنين، إن مت طالقها، تلفت<br />
نفسي غماً، وكان املوت أحب إلي من احلياة.<br />
جزع املنصور وأحضر الفقهاء، واستفتاهم فأفتوا بأنها قد طُ لقت إال<br />
رجالً من أصحاب أبي حنيفة فإنه قال: بسم الله الرحمن الرحيم: »والتن<br />
والزيتون. وطور سنن. وهذا البلد األمن. لقد خلقنا اإلنسان في أحسن<br />
تقومي«. فال شيء أحسن من اإلنسان. قال املنصور ألبي موسى: لقد فرج الله<br />
تعالى عنك، واألمر كما قال، فأقم على زوجتك.<br />
العدد - 692 يوليو 2016<br />
178
المسابقة الثقافية<br />
الكويت عاصمة الثقافة اإلسالمية 2016<br />
جائزة نوبل للسالم<br />
5<br />
منظمة دولية حصلت على جائزة نوبل<br />
للسالم عام 1999؟<br />
أ- منظمة األمم املتحدة.<br />
ب- منظمة التجارة الدولية.<br />
ج- منظمة أطباء بال حدود.<br />
زعيم عربي حصل على جائزة نوبل للسالم<br />
عام 1994؟<br />
أ- أنور السادات.<br />
ب- ياسر عرفات.<br />
ج- احلسن الثاني بن محمد.<br />
1<br />
6<br />
مصرفي بنجالديشي حصل على جائزة نوبل<br />
للسالم عام 2006؟<br />
أ- تاج الدين أحمد.<br />
ب- محمد يونس.<br />
ج- مجيب الرحمن.<br />
رئيس روسي حصل على جائزة نوبل للسالم<br />
عام 1990؟<br />
أ- نيكيتا خروشوف.<br />
ب- بوريس يلتسن.<br />
ج- ميخائيل جورباتشوف.<br />
2<br />
رئيس أمريكي حصل على جائزة نوبل<br />
للسالم عام 2009؟<br />
أ- باراك أوباما.<br />
ب- جيمي كارتر.<br />
ج- ليندون جونسون.<br />
3<br />
مسؤول دولي حصل على جائزة نوبل للسالم<br />
عام 2001؟<br />
أ- كوفي عنان.<br />
ب- بان كي مون.<br />
ج- بطرس غالي.<br />
4<br />
179
9 7<br />
رئيس عربي حصل على جائزة نوبل للسالم<br />
عام 1978؟<br />
أ- أنور السادات.<br />
ب- احلسن الثاني بن محمد.<br />
ج- ياسر عرفات.<br />
في هذا العام لم يفز أحد بجائزة نوبل<br />
للسالم.<br />
أ- 1982.<br />
ب-1992.<br />
ج- 1972.<br />
10<br />
سياسي أمريكي حصل على جائزة نوبل<br />
للسالم عام 1973؟<br />
أ- مارتن لوثر كينج.<br />
ب- هنري كيسنجر.<br />
ج- وودرو ويلسون.<br />
ناشط أمريكي حصل على جائزة نوبل<br />
للسالم عام 1964؟<br />
أ- مارتن لوثر كينج.<br />
ب- هنري كيسنجر.<br />
ج- ألبرت أينشتاين.<br />
8<br />
جوائز املسابقة<br />
اجلائزة األولى 100 دينار<br />
اجلائزة الثانية 75 دينارًا<br />
اجلائزة الثالثة 50 دينارًا<br />
باإلضافة إلى 8 جوائز تشجيعية قيمة كل منها<br />
40 دينارًا.<br />
شروط املسابقة<br />
اإلجابة عن تسعة أسئلة على األقل من األسئلة<br />
املنشورة، يكتب على الظرف مجلة العربي »مسابقة<br />
العربي العدد 692«. آخر موعد لوصول اإلجابات<br />
هو أول أكتوبر 2016م. على أن يكون االسم ثالثياً<br />
)وباللغتني العربية واإلجنليزية( والعنوان البريدي<br />
واضحني، ورقم الهاتف، وأن يرسل املشاركون من<br />
داخل الكويت صورة البطاقة املدنية.<br />
ولن تقبل اإلجابات التي ترد إلى املجلة بواسطة<br />
البريد اإللكتروني.<br />
العدد - 692 يوليو 2016<br />
180
الكويت عاصمة الثقافة اإلسالمية 2016<br />
لم يكتف أمير الشعراء أحمد شوقي بكتابة القصائد<br />
كسائر الشعراء الكبار. لكنه ساهم في النهضة األدبية<br />
العربية بأن أدخل الشعر العربي إلى مجال املسرح،<br />
فكتب مسرحيات شعرية عدة، بدأها بكتابة مسرحية<br />
»علي بك الكبير«، في سنة: 1893م.<br />
عندما مت تتويج شوقي أميراً للشعراء عام 1927،<br />
قرر أن يعود إلى كتابة املسرحيات الشعرية،<br />
فأعاد كتابة مسرحيته األولى مرة أخرى، وكتب<br />
مسرحيات شعرية أخرى جديدة، عدا مسرحية<br />
واحدة كتبها نثراً هي مسرحية »أميرة األندلس«.<br />
اسم املسرحية التي بدأها شوقي كما يلي:<br />
سلي الصبح عني كيف يا عبل أصبح<br />
وأين يراني جنمه حني يلمح<br />
مسرحية »عنترة«.<br />
اسم املسرحية التي بدأها شوقي كما يلي:<br />
دعي الغزل سلمى وحيي معي<br />
منار احلجاز فتى يثرب<br />
ويا هند هذا أديب احلجاز<br />
هلمي مبقدمه رحبي<br />
مسرحية »مجنون ليلى«.<br />
اسم املسرحية التي كتب فيها شوقي:<br />
ولكن كيف جتري األمور إذا علمت فارس باخلبر<br />
وقيل لقمبيز فرعون خالف وابنة فرعون لم تأمتر؟<br />
مسرحية »قمبيز«.<br />
حل مسابقة العدد 689 أبريل 2016<br />
6<br />
7<br />
8<br />
9<br />
10<br />
اسم املسرحية التي كتب فيها شوقي:<br />
ولكن لننس الذي قد مضى<br />
فمثلك تاب ومثلي عفا<br />
دع الذود عن مصر لي إنني<br />
أنا السيف واآلخرون العصا:<br />
مسرحية »مصرع كليوباترا«.<br />
اسم املسرحية التي كتب فيها شوقي:<br />
لم تقبلي الرق منذ حني يا لك من حرة نبيلة<br />
واآلن تخشيني من زواج متشيني في ظله ذليلة<br />
مسرحية »علي بك الكبير«.<br />
اسم املسرحية التي كتب فيها شوقي:<br />
وتلك فداديني الثالثون كلما تولى رجال جئنني برجال<br />
فما أكثر عشاقي وما أكثر خطابي<br />
ولوال املال ما جاءوا أذالء إلى بابي: مسرحية الست هدى.<br />
اسم املسرحية التي كتب فيها شوقي:<br />
ذاك من السماسر<br />
يبيع كل عامر يصيبه وغامر<br />
وكم وكم زوج أو طلق من حرائر مسرحية »البخيلة«.<br />
كتب أحمد شوقي مسرحية شعرية، استلهم فيها كتاب<br />
كليلة ودمنة، وتدور أحداثها بني األسد والنمر والثعلب<br />
والدب واحلمار، حيث تتحرك أحداث املسرحية وفق<br />
قوة كل شخصية من هذه الشخصيات، لتصيب الشخص<br />
األضعف، وهو احلمار. وهي: مسرحية »شريعة الغاب«.<br />
1<br />
2<br />
3<br />
4<br />
5<br />
أسماء الفائزين<br />
الفائز األول:<br />
عبداحلكيم علي القديحي - القطيف/اململكة العربية<br />
السعودية.<br />
الفائز الثاني:<br />
محمود حماد سالم - اإلسماعيلية/مصر.<br />
الفائز الثالث:<br />
عالء بن جمال عبدالله - بنان/تونس.<br />
الفائزون باجلوائز التشجيعية<br />
- 1 نور الدين عدنان نورالدين - أبوظبي/اإلمارات العربية<br />
املتحدة.<br />
- 2 رمي محمد عطية محمد - أسوان/مصر.<br />
- 3 فجر محمد علي إسماعيل - احملرق/البحرين.<br />
- 4 نقاش خليل بن العربي - ميلة/اجلزائر.<br />
- 5 صالح محمد إبراهيم صالح - جدة/اململكة العربية السعودية.<br />
181<br />
املسابقة الثقافية
للتصوير الفوتوغرافي<br />
ضمن سعيها الكتشاف طاقات إبداعية عربية، تنشر »العربي« نتائج مسابقتها الشهرية ألفضل الصور<br />
الفوتوغرافية. املسابقة مفتوحة لكل املصورين في الوطن العربي. وتختار جلنة حتكيم في »العربي«<br />
ثالث صور للحصول على ثالث جوائز شهرية. على أن مينح الفائزون التالون اشتراكات مجانية مبجلة<br />
العربي كجوائز تشجيعية ملدة عام كامل، كما تنشر الصور الفائزة باملراكز األولى.<br />
املشاركون في املسابقات الثقافية والفوتوغرافية والعربي الصغير<br />
من داخل دولة الكويت، يجب أن ترفق رسائلهم بصور البطاقة املدنية<br />
والهاتف، واملشاركون القصر يرسلون صور البطاقة املدنية ألحد األبوين.<br />
الفائز األول:<br />
1 »قهوجي السعادة!«، بعدسة: أحمد حلمي إبراهيم عبدالهادي/ مصر.<br />
شروط املسابقة<br />
< املجاالت التي يتم التنافس فيها هي فنون الصور الشخصية، جماليات الطبيعة اخلالبة ورصد احلياة البرية، املدن والطرقات وحركة املجتمع في سعيه<br />
لبناء احلياة، التصوير في اإلضاءة املتاحة وتباين األبيض واألسود، توثيق العمارة العربية واإلسلالمية والتراث العاملي، ويحق لكل متنافس االشتراك في<br />
هذه املجاالت. < األعمال الفائزة تصبح ملكاً ملجلة العربي، ويجوز لها نشرها بأي وسيلة إلكترونية أو طباعية مع االحتفاظ بامللكية املعنوية للمصور، وال<br />
يحق للمشارك املطالبة باسترجاع الصور غير الفائزة. < على املشاركني مراعاة املعايير األخالقية والقانونية في الصور املقدمة، ومبشاركة املتسابق يتعهد<br />
بتحمله حقوق امللكية الفكرية واخلصوصية للصور. < تكون الصور األصلية املطبوعة بحجم مناسب ال يقل عن 5x7 )أقصر ضلع 12 سم(، مع ضرورة<br />
تسجيل جميع البيانات اخلاصة باملوضوع )مثل مكان التصوير، وتاريخ التصوير وموضوع الصورة(، وعنوان املتسابق، واسمه الثالثي )باللغة اإلجنليزية(،<br />
ورقم هاتفه. < الصور الرقمية املرسلة بالبريد اإللكتروني، ال يقل طول )أقصر ضلع( في الصورة عن 1900 بكسل، )تعادل 5 ميجا بكسل تقريباً( ويجب أن<br />
تكون صيغتها jpg. ، مع ذكر جميع البيانات السابقة. < لن تقبل الصور التي حتتوي على إطارات إضافية أو توقيع أو تاريخ أو عبارات مطبوعة. < ترسل<br />
الصور إلى عنوان »العربي«: صندوق بريد 748، الرمز البريدي، 13008، الصفاة، دولة الكويت. ويكتب على املغلف بخط واضح: مسابقة »العربي« الشهرية<br />
للتصوير الفوتوغرافي، أو على البريد اإللكتروني <strong>alarabi</strong>@<strong>alarabi</strong>.info<br />
العدد - 692 يوليو 2016<br />
182
الكويت عاصمة الثقافة اإلسالمية 2016<br />
اجلائزة األولى<br />
100 د.ك<br />
اجلائزة الثانية<br />
75 د.ك<br />
اجلائزة الثالثة<br />
50 د.ك<br />
2<br />
الفائز الثاني:<br />
»جمال ميناء القل«،<br />
بعدسة:<br />
زعيمي شوقي بن نصيب/<br />
القل - اجلزائر.<br />
3<br />
الفائز الثالث:<br />
»ألعاب الفارس الصغير«،<br />
بعدسة:<br />
نبيل علي البواب/<br />
كرنفال املنستير -<br />
تونس.<br />
الفائزون باشتراكات مجانية في مجلة العربي:<br />
< ليلى احلميد بن املعطي/الغرب < محمد كامل أحمد خطاب/مصر < هادي قاسم حسني/البحرين.<br />
183<br />
مسابقة التصوير الفوتوغرافي
من المكتبة العربية<br />
رواية »بيسان الحب والكراهية«<br />
أتون الدمار والنار<br />
تأليف: عادل الرشيدي<br />
عرض: هيا محمد<br />
في روايته الجديدة »بيسان الحب والكراهية«<br />
يقدم عادل الرشيدي الروائي والمؤرخ<br />
الكويتي تجربة سردية خاصة، تتحقق<br />
خصوصيتها من تسليط الضوء على<br />
الجانب الرهيف في حياة البشر خلالل تجارب<br />
الحياة شديدة القسوة، فالكاتب يتطرق<br />
إلى الجانب الرومانسي والعاطفي في<br />
حياة شخصية قد نراها بعيدة كل البعد<br />
عن الحب والرومانسية، حيث جمعت بين<br />
شخصين في أتون الدمار والنار في عالقة حب بريء. وعلى الرغم<br />
من هذه المفارقة، يشعر القارئ بأنه أمام عمل روائي واقعي<br />
ال يقل أهمية عن األعمال الروائية.<br />
الرواية تأخذ من الصراع اإلنساني أسلوباً لها<br />
في السرد، ففوضى املنطقة وتداعياتها الراهنة<br />
في بداية القرن احلادي والعشرين للميالد،<br />
يحوالن السرد إلى جهة غير متوقعة بلغة سردية<br />
سلسة، كل هذا يساعد القارئ في رهن املاضي<br />
في حلظة الكالم. ويستخدم الكاتب التاريخ بحيث<br />
يقوم بإسقاطه على ما يحدث في الزمن الواقعي<br />
الراهن.<br />
تتناول الرواية مساحة تاريخية طويلة تلقي<br />
الضوء على كثير من التفاصيل، وعلى سبيل املثال<br />
نرى في حلظة وفاة اجلد كيف تتغير نظرة ضياء<br />
للحياة، وتبهت ألوانها حتى تسود في عينيه، أما<br />
األستاذ بديع الذي سجن معه، فكان كالفاصلة<br />
للجمل أو كجسر عبره إلى ألوان احلياة، بينما تبدو<br />
بيسان كأنها الغيمة املاطرة التي أزالت الغشاوة عن<br />
عينيه ليرى زخرف احلياة ونعيمها حني وقع في<br />
حبها.<br />
اعتمد الروائي على مفهوم »امليتارواية« إن<br />
جاز التعبير، وذلك خللخلة قناعات القارئ وجعله<br />
أقرب إلى فهم حقيقة ضياء كسارد حقيقي وكأنه<br />
العدد - 692 يوليو 2016<br />
184
الكويت عاصمة الثقافة اإلسالمية 2016<br />
يقول: أنت من كتب الرواية ال أنا, و»امليتارواية«<br />
من الظواهر التي القت اهتمام النقد الروائي،<br />
فلها ردود أفعال مختلفة فيمن يراها أزمة للرواية<br />
وموتها، ومن يراها ظاهرة أدبية جيدة ذات أبعاد<br />
ثقافية، وهي في كل األحوال أسلوب سردي جديد<br />
يعتمد على منهج الرواية.<br />
داخل الرواية<br />
يبدو بطل الرواية الفتاً في حتديه وقوة إميانه<br />
ومتكنه من الوصول إلى هدفه رغم األحداث التي<br />
سارت عليها الرحلة من تشويق وإثارة وصراع، فقد<br />
استخدم الكاتب عناصر لغوية متعددة للوصول إلى<br />
الفكرة.<br />
كما أنه برع في تصوير شخصية بيسان، تلك<br />
الفتاة املسيحية التي نشأت بني أبوين حنونني، كان<br />
كل همها البحث عن حب آمن، ثم أصبح همها<br />
البحث عن لقمة العيش في ظل الظروف القاسية<br />
التي عايشتها بداية من حلظة فقدانها ألهلها من<br />
جراء القصف حني نراها حتتضن اخلبز بحرارة.<br />
وهنا نرى الندم بادياً على بديع، أستاذ التاريخ<br />
الذي كان يعيش في سلام ببلده، إال أن طمعه في<br />
اإلصاح ورفع الظلم جعله يشارك في التظاهرات،<br />
ولكنه لم يتخيل أن السلاح سيستخدم وتراق<br />
الدماء عندما خرج، ووصل إلى قناعة أن اجلور<br />
أرحم من سفك الدماء. وهي إشارة فنية إلى<br />
املأزق والتناقضات التي وقع فيها كثير من املثقفني<br />
السوريني في األحداث، وفي هذا النص كما عبر<br />
عنه املؤلف ببراعة.<br />
وقد قسم املؤلف الروية إلى ثاثة فصول،<br />
هي:<br />
األول فصل اجلد، حيث يتطرق فيه الكاتب<br />
إلى نشأة بطل الرواية، سارداً أحداثاً تاريخية على<br />
لسان اجلد، وكاشفاً كيف يكون للتاريخ دور في<br />
حياة كل منا، وال تنفك هذه الدائرة حتى نتخلص<br />
من أخطاء املاضي.<br />
أما الفصل الثاني، فقد أسماه أستاذ بديع، وهو<br />
الفصل الذي تبدأ فيه اإلثارة واحلبكة الروائية،<br />
وفيه يسلط الضوء على األزمة السورية التي ثارت<br />
نيرانها في الداخل وامتدت تأثيراتها إلى أرجاء<br />
واسعة في العالم، ويرسم فيها الكاتب مسار بطل<br />
الرواية ضياء، ومشاهدات الصراع الدموي بني<br />
الفرق املتخاصمة، حتى يجد بديع الذي يكون أداة<br />
لتصحيح مساره الشائك.<br />
أما الفصل الثالث فهو بيسان، وهنا تتجلى<br />
قدرات الكاتب على تشويق القارئ مبجريات<br />
األحداث ويتوق إلكمال الرواية آلخر صفحة من<br />
صفحاتها املفتوحة، حيث يتطرق الكاتب ملعنى<br />
احلب، ومفاهيمه اجلوهرية، ويوضح كيف أنه<br />
الدرع املتينة للسمو باإلنسان لغايات النبل ومكارم<br />
اخللق، كما يشير إلى أنه أصل كل خير ومعه تتفتق<br />
الرؤية الواضحة للحياة.<br />
الرواية تغوص عميقاً في النفس اإلنسانية،<br />
تعري معتقدات وقناعات تتحكم في حياتنا، وتدفع<br />
للسطح أفكاراً متحررة من قيود اجتماعية عبر<br />
سرد يبدو للوهلة األولى بسيطاً ومباشراً، ولكنه<br />
في الوقت نفسه محبوك بشدة ><br />
لن تبلغ ما بلغه<br />
حُ كي أنه ملا مات حامت الطائي تشبه به أخوه. فقالت له أمه: يا بني أتريد أن حتذو حذو أخيك؟<br />
فإنك لن تبلغ ما بلغه. فال تتعبن في ما ال تناله. فقال: وما مينعني. وقد كان شقيقي وأخي من أبي<br />
وأمي؟ فقالت: إني ملا ولدته كنت كلما أرضعته أبى أن يرضع حتى آتيه مبن يشاركه. فيرضع الثدي اآلخر.<br />
وكنت إذا أرضعتك ودخل آخر بكيت حتى يخرج!<br />
185<br />
رواية »بيسان احلب والكراهية« ... أتون الدمار والنار
من المكتبة األجنبية<br />
»اإلسالموفوبيا«<br />
المخاوف الجديدة من اإلسالم في فرنسا<br />
تأليف: فنسان جيسير<br />
عرض: د. نزار العاني<br />
هذا الكتاب جاء متأخراً جداً، وخيراً أنه جاء. وكقارئ<br />
وكاتب تعود بي الذكرى إلى خمسينيات القرن<br />
الماضي، وما ظهر حينذاك من كتب عربية<br />
ومترجمة لمستشرقين كبار تعيد النظر في<br />
موقع اإلسلالم وفكره وعقائده في عصرٍ شديد<br />
االضطراب بعد الحربين العالميتين وانهيار<br />
اإلمبراطورية العثمانية التي تدثّرت وتحصنّت<br />
باإلسالم، وترك انهيارها فراغاً استجرَّ قوى وأفكاراً<br />
وعوامل تحت عنوان »الحداثة« و»العصرنة«،<br />
أفضت إلى مشاعيّة سياسية وفكرية واجتماعية لم<br />
تنضبط أمورها في أنساق حضارية ومعرفية منتجة حتى يومنا هذا.<br />
ال يتسع املجال هنا لذكر عشرات عناوين الكتب<br />
التي تناولت اإلسلام في أواسط القرن املاضي،<br />
وأكتفي بذكر بعض األسماء من عرب وأجانب على<br />
سبيل املثال ال احلصر، هم: محمد أسد )ليوبولد<br />
فايس(، خالد محمد خالد، املودودي، مالك بن<br />
نبي، الندوي، األخوان سيد ومحمد قطب، غارودي،<br />
رودنسون، مصطفى السباعي.<br />
بني يدي الكتاب<br />
الطبعة األولى صدرت في الرياض عام 2009<br />
في سلسلة الكتب املترجمة التي تتوالها »املجلة<br />
العربية« السعودية للكاتب الفرنسي فنسان جيسير<br />
Vincent Geisser وللمترجمني د. محمد الغامدي ود.<br />
قسم آدم بله مبدخل من أربع صفحات للمترجمني،<br />
ومقدمة وافية للمؤلف تنبسط على 34 صفحة من<br />
أصل 192 صفحة متوسطة القطع تشكل منت الكتاب،<br />
الذي يتوزع على أربعة أبواب، وخامتة وملحق، سنمر<br />
عليها تِباعاً.<br />
مقدمة املؤلف<br />
يبدأ الكاتب رحلته باالعتراف اجللي والصريح<br />
بوجود موجة كراهية لإلسلام في أوربا عموماً،<br />
وفي فرنسا خصوصاً، تتداخل فيها عوامل عاطفية<br />
وعنصرية متثلت برصد »خمسة عشر اعتداء على<br />
العدد - 692 يوليو 2016<br />
186
الكويت عاصمة الثقافة اإلسالمية 2016<br />
مسلمون يقيمون صلواتهم في مساجد أوربا<br />
أماكن عبادة إسالمية، ص 18« في فرنسا خالل سنتني.<br />
وفي خلفية هذه الكراهية تكمن ضغائن تاريخية تبقى<br />
ظاللها في الذاكرة منذ أن خرجت فرنسا مطرودة<br />
من اجلزائر، وتهيّؤات عن صعوبة اندماج األجانب<br />
املسلمني باملجتمع الفرنسي ونفورهم من التسليم بقيم<br />
اجلمهورية. وتضغط االنتخابات باجتاه استقطاب<br />
األصوات أو اللعب مبقدراتها وتوجهاتها عبر استخدام<br />
قضية اإلسلالم وجتييش الرأي العام لقبول املسلمني<br />
أو إحداث القطيعة معهم.<br />
الباب األول<br />
حتت عناوين فرعية مختلفة، يستقصي الكاتب<br />
أحداثاً ووقائع وسجاالت )احملجبات، التفجيرات،<br />
اللحى، جنوح فتيان الضواحي( استدعت شعوراً<br />
عاماً في فرنسا معادياً لإلسالم، الذي يشكل الديانة<br />
الثانية فيها من حيث العدد. ويلقي الكاتب الضوء على<br />
»املاكينة اإلعالمية لصناعة الصور النمطية السالبة<br />
اجلاهزة عن اإلسلالم، ص39، التي دارت بكل طاقتها<br />
في صبيحة أحداث 11 سبتمبر، وعلى فعل الشيطنة<br />
dibolisation اإلعالمية للمسلمني. وترتكز املاكينة على<br />
مقاالت واستطالعات ومقابالت وأبحاث وكتب موجهة<br />
للرأي العام، ويغيب عن هدفها الفهم البنيوي للفكر<br />
اإلسالمي، ويغلب عليها إما التبجيل املفرط وإما الذم<br />
الالذع، ويذهب الهدف إلى االتهام املجاني للشرق<br />
اإلسلالمي، مع ابتعاد مقصود عن النقد املوضوعي<br />
احملايد والرصني، وهكذا يصبح الرأي العام الفرنسي<br />
لقمة سائغة في فم املصالح واملآرب املشبوهة.<br />
في سياق اشتغال هذه املاكينة الشريرة، يتم التضليل<br />
والتشويه املتعمد جلميع جوانب السمات االجتماعية<br />
للمسلمني املغاربة، الذين يعملون في نقابات تتحرك<br />
سياسياً مبفاتيح خفية، ويتم بقصد إهمال شروط<br />
حياتهم املعيشية وظروف تعليمهم القاسية، وهكذا<br />
يُحشرون في زوايا حياتية صعبة وقاهرة، ولذا يَسْ هل<br />
على دعاة التطرُّف واألصولية اصطيادهم والزجّ بهم<br />
في مواجهات غير محسوبة، ويجعلون من املساجد<br />
منصات وأمكنة لتعميق عزلتهم عن مجتمعهم الفرنسي<br />
العلماني الليبرالي املفتوح. وتتفاقم املعضلة بانقسام<br />
الفرنسيني أنفسهم إلى يساري ومييني ومحافظ،<br />
واختالف نظرة كل منهم إلى األقلية املسلمة، ما يخلق<br />
حالة هوس ورعب من »الشكل اإلسلالمي للفاشية«،<br />
)ص 60(، ورُهاب حقيقي من مشروع أسلمة فرنسا. وفي<br />
أتون هذا الغليان واالضطراب وقصور الرؤية واآلثام<br />
املُضمرة والنوايا والغرائز الرعناء، تبدو حقيقة اإلسالم<br />
منزوية ومهانة كأنها وصمة غير قابلة للصفح.<br />
الباب الثاني<br />
يتناول الكاتب في هذا الباب دور خبراء<br />
اخلوف اجلدد، ودور املتخصصني االستراتيجيني<br />
187<br />
املخاوف اجلديدة من اإلسالم في فرنسا
فتيات مسلمات يدافعن عن الهوية<br />
ّ ن<br />
واجليوبوليتيكيين واخلبراء األمنيين، وكتاباتهم<br />
وإطالالتهم اإلعالمية، وما تنشره دور النشر من<br />
كتب ودراسات، يخرج بعضها من أقبية أجهزة<br />
االستخبارات وجماعات الضغط السياسي، لتغدو<br />
ظاهرة »اإلسلالموفوبيا« متشابكة وغامضة ومعقدة،<br />
وألعوبة بيد املتحكمن مبفاتيح اإلعلالم واألحزاب<br />
والتجمعات السياسية وأغراضها املتضاربة، وبذلك<br />
يتحول اإلسلالم واخلوف منه إلى كرة تتقاذفها حتى<br />
األسماء املُستعارة )نشر أحدهم كتاباً بعنوان »ملاذا<br />
أنا لستُ مُسلماً؟« ملؤلف يسمّي نفسه »ابن الورّاق«،<br />
ص93(. ويذهب الشطط بالكاتب رينيه مارشاند عام<br />
2002 إلى إطالق دعوة صارخة حللٍ جذري ملا يسميه<br />
»املسألة اإلسلالمية«، يتلخص في طرد كل املسلمن<br />
لبلدانهم األصلية )ص 95(. ويهبط التحليل السياسي<br />
عند أحد مقدمي البرامج احلوارية التلفزيونية إلى<br />
تخيُّل مؤامرة يحيكها األمريكيون واإلسلالمويون<br />
ضد أوربا املوحدة )ص99( والتحضير ملذبحة كونية<br />
)ص113(. ويصل الكاتب إلى قناعة مفادها أن التفكير<br />
العام والسطحي لفئة اخلبراء غير املتخصصن في<br />
حقل الدراسات اإلسلالمية املعمقة هو الذي همَ ّش<br />
التفكير العميق والرشيد )ص 102(.<br />
الباب الثالث<br />
احملور الثالث في الكتاب يأخذ طابعاً فكرياً<br />
وثقافياً وسجاالً حول صراع محتمل في فرنسا ضد<br />
املسلمن يأخذ شكل املعاداة اجلديدة للسامية، أو<br />
شكل الصراع الذي حتدث عنه املفكر هنتنجتون،<br />
قائلالً: »إن معاداة السامية املوجهة نحو العرب قد<br />
حلت بقدر كبير في أوربا محل تلك التي كانت<br />
مصوبة نحو اليهود، ص122«. وحتت هذا العنوان<br />
يرصد املؤلف مجموعة واسعة من الكتب واملقاالت<br />
والدراسات التي حتفر وتنقب عن جذر هذه املعضلة،<br />
هل هو الهوتي أو عرقي أو اجتماعي أو سياسي، أم<br />
إن هذا اجلذر وهمي وناشئ من املقابلة بن »من<br />
يحسنون التفكير ومن يجيدون اخلطاب، ص126«،<br />
بهدف رسم اخلطوط الفارقة لنظام أخالقي يتحصَ<br />
وراءه املجتمع الفرنسي، أو إنه يسار ومين وعلمانية<br />
ودين وعوملة أو أسلمة؟<br />
ويتناول املؤلف قضايا شائكة ال يخرج<br />
منها بطائل، أهمها على اإلطلالق دور املثقفن<br />
والصحفيين واإلعالمين اليهود في صب الزيت<br />
على النار، وتصوير اليهود الفرنسين كضحايا<br />
إلرهاب املسلمن، ويستشهد مبقولة ش. تريجانو<br />
Shmuel Trigano »احملرقة ال تثار من اآلن فصاعداً<br />
إال من أجل قضية العرب - املسلمن املُستَعمِ رين،<br />
ص133«.<br />
إن التشكيك بفرنسيّة ذوي الثقافة اإلسالمية،<br />
واخلوف من بلقنة فرنسا، ووصف شباب الضواحي<br />
من املغاربة بالنازين اجلُدُد، والهَوَس بتهيّؤات<br />
تآمرية إسلالمية ضد الغرب، كلها أوهام تخفي<br />
اخلبث الشديد الذي يُضمره أهل املصالح واملآرب<br />
في السياسة ومشاريعها املتداخلة.<br />
العدد - 692 يوليو 2016<br />
188
الكويت عاصمة الثقافة اإلسالمية 2016<br />
الباب الرابع<br />
في هذه املساحة من اجلدل واملواجهات<br />
والتناقضات، يولد السؤال املهم واخلطير: أين يقف<br />
املسلمون الفرنسيون من النُخَ ب ومن الناس العاديني<br />
في هذا املخاض الصعب؟<br />
مؤلف الكتاب فنسان جيسير يوزع أفراد هذه<br />
الشريحة إلى ليبراليني وأصوليني مُلتحني ومعتدلني<br />
وخطباء مساجد ومُفتيني مرتبطيني باحلكومة<br />
اجلزائرية )ص151(، والعبيني إعالمييني وحزبيني<br />
فاعلني وانتهازيني وشباب الضواحي، ويتوزع اهتمام<br />
هؤالء على برامج ومشاريع، وبعضهم ملكيون أكثر<br />
من امللك في تخويف الرأي العام من »اإلسلالموية«،<br />
وبعضهم يدعم التطرف ويغذيه ويحشد النضواء<br />
الشباب املسلم في املجموعات اجلهادية.<br />
ويذكر املؤلف عديداً من األسماء العاملة في هذا<br />
املجال، وتقومي نشاط هؤالء وحضورهم واصطفافاتهم،<br />
وعالقة بعضهم السرية برعاة حكومييني محليني<br />
أو خارجييني، وعمل البعض لوضع اليد على ضبط<br />
هذه القوة املسلمة املتعاظمة والترويج لفكرة »وضع<br />
اإلسلالم في فرنسا حتت الرعاية، ص 164«، واقتراح<br />
حلول لفرنسا املريضة بداء اإلسالموية والوصول إلى<br />
أوضاع أمنية مريحة في األحياء الشعبية من دون املس<br />
بقيم احلرية والدميقراطية.<br />
كلمة أخيرة<br />
الكتاب جيد، وإذا كان قد صدر قبل اندالع<br />
األحداث - النص الفرنسي صدر في خريف عام<br />
2003 والترجمة العربية صدرت عام - 2009 في<br />
أكثر من بلد عربي، وقبل صعود اإلسلالم األصولي<br />
إلى واجهة األحداث العاملية، فإنه في كثير من فقراته<br />
يتنبأ مبوجة عنف إسالموية متطرفة محتملة ستجتاح<br />
فرنسا، األمر الذي حدث عام 2015.<br />
وأمام التمادي في السلوك واإلدارة الذي مارسه<br />
تنظيم »القاعدة« وميارسه »داعش« بشكل أشد عنفاً<br />
وضراوة، صار لزاماً على املسلمني أن يعيدوا النظر<br />
ويتأملوا ظاهرة تنامي خوف الغرب من اإلسلالموية<br />
واإلسالم واخللط بينهما، ما جعل املرشح اجلمهوري<br />
األمريكي لرئاسة بالده دونالد ترامب يجاهر بالطلب<br />
علناً مبنع املسلمني من الدخول إلى أمريكا، وانطالق<br />
دعوات في فرنسا لتجريد املسلمني الفرنسيني من<br />
جنسياتهم! املسلمون اليوم في الغرب، وفي كل مكان،<br />
أمام معضلة تتفاقم شرورها مبرور السنوات، وستكون<br />
ارتداداتها خطيرة جداً على بالدنا ومجتمعاتنا ما<br />
لم نسارع إلى وضع ضوابط وحلول للشكل الناشز<br />
املتطرف لإلسلالموية، الذي يهدد باحتالل روما<br />
ولندن وباريس، وفي كتاب فنسان جيسير ما يعني<br />
على تلمُّس طبيعة هذه احللول ><br />
أحسن الغناء<br />
جلس أشعب مرة في سمر مع جاريته رشا فغنت، فقال لها:<br />
- ما لي ال أسمع للطعام ذكراً؟<br />
فتغير وجهها وقالت:<br />
- سبحان الله، أما تستحي يا شيخ؟ أما في وجهي من احلسن ما يشغلك عن هذا؟<br />
وحني سكت أشعب، طلبت إليه أن يغني، وسألته:<br />
- ما أحسن الغناء عندك؟<br />
قال بغير تردد:<br />
- هو نشيش املقلى.<br />
)نشيش: نش اللحم: سُ مع له صوتٌ على املقلى أو في القدر(<br />
189<br />
املخاوف اجلديدة من اإلسالم في فرنسا
كتب مختارة<br />
الثقافة في الكويت<br />
إعداد وحترير: د. محمد يوسف<br />
جنم - إشراف: د. سعاد الصباح<br />
دار سعاد الصباح للنشر - الكويت،<br />
1997<br />
موسوعة في ثالثة أجزاء شارك في<br />
تأليفها عدد كبير من املتخصصني في<br />
كل ما يتعلق بالثقافة والفن بالكويت،<br />
من العمارة والتاريخ إلى املؤسسات<br />
الثقافية واملراسيم األميرية املتعلقة<br />
بالثقافة وغيرها.<br />
البيت األوالني )قصص(<br />
أمل رضوان<br />
دار العني للنشر - القاهرة، 2014<br />
مجموعة قصصية تتناول حاالت<br />
إنسانية تلتقطها الكاتبة من<br />
شخوص الواقع ببراعة وتكثف<br />
بتركيز شديد على احلاالت<br />
الوجدانية التي تعيشها هذه<br />
الشخصيات من جراء واقعها<br />
العجائبي.<br />
ملف داخل كمبيوتر محمول<br />
عبداحلميد البرنس<br />
دار شرقيات - القاهرة، 2011<br />
مجموعة قصصية<br />
حاالت سردية تأخذ شكالً<br />
قصصياً تتناول شخصيات تتوزع<br />
إقامتها بني القاهرة والسودان<br />
وكندا، يتأملها الكاتب ويقدمها<br />
للقارئ في قالب سردي مكثف.<br />
الفستان<br />
يارا مدحت الشيخ علي<br />
دار احلوار - دمشق، 2014<br />
رواية حتكي قصة فتاة تفقد أمها<br />
وهي صغيرة، ويصيبها الوهم<br />
بأنها لعنة على كل من حتب،<br />
وتتناول تفاصيل حياتها بني<br />
الطفولة واملراهقة في محاربتها<br />
للعنتها والكتابة عنها.<br />
سيكولوجية الضغوط املهنية<br />
للمحامني ووكالء النيابة<br />
د. سعود محمد احلميدان - ناصر<br />
حمود الكريوين<br />
طبعة خاصة - الكويت، 2016<br />
يشتمل الكتاب على مجموعة من<br />
املقاييس واالختبارات اخلاصة<br />
بالضغوط النفسية ذات الصلة في<br />
ما يتعلق مبهنة احملاماة والسلك<br />
القضائي.<br />
في قاع البئر<br />
فرج بن دغيم الظفيري<br />
االنتشار العربي - بيروت - نادي<br />
تبوك األدبي، 2016<br />
مجموعة قصصية للناشئة، تسرد<br />
مواقف حياتية متنوعة استمد<br />
القاص بعضها من سيرته، وانتقل<br />
في عدد منها إلى شرق العالم<br />
وغربه، يسد بها ثغرة في املكتبة<br />
العربية املتخصصة في هذا العمر.<br />
باجتاه الطريق<br />
حمزة قناوي<br />
دار الثقافة اجلديدة - القاهرة،<br />
2015<br />
مجموعة قصصية يصفها<br />
الكاتب صنع الله إبراهيم بقوة<br />
التعبير ومتانة اللغة وعمق<br />
اإلحساس من كاتبٍ إبداعاته<br />
مستوحاة من جتارب حياتية<br />
عميقة ومتنوعة.<br />
قناص جبل الرماد )شعر(<br />
محمد مهدي حميدة<br />
دائرة الثقافة واإلعالم - الشارقة،<br />
2015<br />
مجموعة شعرية من أجوائها:<br />
»أتخفف من تصوراتي القدمية /<br />
عن احلياة/ فأنزع املخالب/ وأمحو<br />
األنياب/ وأمضي محتشدا/ بخفة<br />
فجائية/ تهمس لي في مودة/<br />
احلياة ليست غابة«.<br />
العدد - 692 يوليو 2016<br />
190
الكويت عاصمة الثقافة اإلسالمية 2016<br />
أصول التخطيط االستراتيجي<br />
د. هيثم عبدالله ذيب<br />
دار اليازوري العلمية للنشر<br />
والتوزيع - عمّ ان، 2016<br />
يتناول مفهوم إدارة التخطيط<br />
االستراتيجي ومكوناتها وأهميتها<br />
ومتطلبات تطبيقها واخلطوات<br />
العلمية والعملية الواجب اتباعها<br />
ضمن عملية متكاملة من<br />
الدراسات والتطبيقات.<br />
عندما رأسك في طريق واسمك<br />
في طريق أخرى<br />
إسماعيل فهد إسماعيل<br />
بالتينيوم للنشر - الكويت، 2015<br />
جتربة نثرية وجدانية على تخوم<br />
السرد والتأمل والشعر، يستعير<br />
الكاتب فيها نصوصاً من أشعار<br />
قاسم حداد تأتي كجزء من املنت،<br />
تتحاور فيه أسئلة الروائي والشاعر<br />
حول هموم اإلنسانية.<br />
في بالد الغسق<br />
أستريد ليندجرين – ت: إبراهيم<br />
عبدامللك<br />
دار املنى - السويد، 2013<br />
مجموعة من القصص القصيرة<br />
للكاتبة السويدية ليندجرين، أشهر<br />
كاتبة أطفال في السويد، وهو كتاب<br />
ميتلئ بالشعر والسحر والطرافة<br />
واجلدية في قالب سردي بالغ<br />
التشويق.<br />
خير الله اجلبل )رواية(<br />
عالء فرغلي<br />
دار العني للنشر - القاهرة، 2016<br />
تأريخ فني إلحدى املناطق<br />
العشوائية في أحد أحياء<br />
القاهرة، التي جتمع الصعيدي<br />
بالقاهري بالبدوي والغريب<br />
التائه واحللبي الذي ال أصل<br />
له في إطار روائي بكل قيمها<br />
املتناقضة.<br />
حكايات احلسن واحلزن<br />
أحمد شوقي علي<br />
دار اآلداب - بيروت، 2015<br />
رواية تعبر بقارئها النهر إلى<br />
جنائن اخليال واللغة، حيث<br />
يتحول غريب اإلنسان إلى<br />
عفريت رغماً عنه، فيختلق جنيَّة<br />
ألحالمه في مغامرة البحث عن<br />
الذات.<br />
احلياة كما أردتها )من أوراق علي<br />
الفايز(<br />
أحمد الدوسري<br />
منشورات مؤسسة الدوسري للطباعة<br />
والنشر - املنامة، 2016<br />
رواية تتناول ما يبدو سيرة ذاتية<br />
لسارد يدعى علي الفايز، مقدمة<br />
أسئلة وجودية وذاتية لفرد ال يستقر<br />
في مكان، وتتوزع سيرته بني ربوع مدن<br />
عديدة في الشرق العربي خصوصاً.<br />
مذكرات فتاة<br />
تأليف: أمل فرح<br />
رسوم: مجدي الكفراوي<br />
دار شجرة للنشر - القاهرة،<br />
2015<br />
مذكرات فتاة تسرد ذكرياتها<br />
ويومياتها عن جدتها التي تعيش<br />
في قرية بعيدة بجنوب أسوان،<br />
وحكايتها عن القرية وناسها<br />
وتراثها الشعبي وخرافاتها.<br />
هنا واآلن )رسائل(<br />
بول أوستر- جي إم كوتزي ، ت: أحمد<br />
شافعي<br />
الكتب خان للنشر والتوزيع - القاهرة،<br />
2016<br />
الرسائل املتبادلة بني الكاتب األمريكي<br />
بول أوستر، واجلنوب إفريقي حائز<br />
»نوبل« جون كوتزي، التي تبادالها على<br />
مدى سنوات عن الثقافة والفلسفة<br />
واألبوة والعائلة واحلب.<br />
191<br />
كتب مختارة
المفكرة الثقافية<br />
إعالن الفائزين في الدورة السادسة لجائزة<br />
الطيب صالح العالمية لإلبداع الكتابي<br />
في احتفال كبير ووسط حضور<br />
ثقافي مشهود، أعلنت في العاصمة<br />
السودانية اخلرطوم أسماء الفائزين<br />
بجائزة الطيب صالح في نسختها<br />
السادسة، ووزعت اجلوائز في<br />
محاور اجلائزة الثالثة: الرواية،<br />
القصة القصيرة، وقصص األطفال.<br />
وأقيم تكرمي شخصية اجلائزة<br />
الثقافية لهذا العام في حفل بقاعة<br />
الصداقة، بحضور النائب األول<br />
لرئيس اجلمهورية بكري حسن<br />
صالح، وضيف الشرف الشيخ نهيان<br />
بن مبارك آل نهيان، وزير الثقافة<br />
وتنمية املعرفة اإلماراتي.<br />
وقال رئيس مجلس أمناء<br />
اجلائزة، البروفيسور علي محمد<br />
شمو: إن اجلائزة تدور حول ثالثة<br />
محاور: الرواية، القصة القصيرة،<br />
واحملور الثالث هو محور متحرك<br />
يتغير كل عام، وقد اختار مجلس<br />
أمناء اجلائزة أن يكون محور<br />
الدورة السادسة »قصص األطفال«.<br />
وأضاف أن هذا احملور استضاف<br />
في الدورات السابقة الشعر، النقد،<br />
والترجمة للروايات العربية إلى اللغة<br />
اإلجنليزية.<br />
وذكر شمو أن األعمال املشاركة<br />
في محور قصص األطفال 63،<br />
القصة القصيرة 232، وفي محور<br />
الرواية كانت املشاركات 421 رواية،<br />
وارتفع عدد الدول املشاركة إلى<br />
الشيخ نهيان بن مبارك آل نهيان وزير الثقافة وتنمية املعرفة اإلماراتي متحدثا<br />
أثناء الدورة<br />
60 دولة، عوضاً عن 27 دولة في<br />
الدورة السابقة. وأوضح أن اجلائزة<br />
اختارت شخصية العام البروفيسور<br />
يوسف فضل حسن، وذلك ملا قدمه<br />
من تراث أدبي يضيء الدرب ألجيال<br />
عدة من بعده.<br />
وقال شمو: إن املجلس اختار<br />
جلان التحكيم من شتى بقاع العالم<br />
العربي حتى يضمن شفافية ونزاهة<br />
اجلائزة، مشيرا إلى أن اجللسات<br />
العلمية والندوات املصاحبة للجائزة<br />
ناقشت عدداً من املوضوعات التي<br />
تدور حول عالقة املثقف وسلطة<br />
الفكر التي حتكم سلوك املبدعني.<br />
من جهته أكد، ضيف شرف<br />
اجلائزة الشيخ نهيان بن مبارك آل<br />
نهيان وزير الثقافة وتنمية املعرفة،<br />
أن دولة اإلمارات حترص على تنمية<br />
العالقات مع أبناء الوطن العربي،<br />
مشيرا إلى أن ألبناء السودان<br />
النصيب األوفر من هذا احلرص<br />
واالهتمام والتعاون والتضامن على<br />
نحو مثمر ونافع ملا فيه املصلحة<br />
العربية املشتركة، وأردف مشيداً<br />
بصاحب اجلائزة األديب الطيب<br />
صالح، الذي اعترف اجلميع<br />
بقدراته اإلبداعية كأديب سوداني<br />
رائد وعبقري ارتقت أعماله ملصاف<br />
األعمال األدبية العاملية اخلالدة.<br />
وقال: »استطاع الطيب صالح عرض<br />
العالقات احلضارية واإلنسانية بني<br />
الشرق والغرب مبوهبة أصيلة وإبداع<br />
ذكي، وإن اجلائزة التي حتمل اسمه<br />
مبادرة وطنية متميزة للوفاء الصادق<br />
العدد - 692 يوليو 2016<br />
192
الكويت عاصمة الثقافة اإلسالمية 2016<br />
الشيخ نهيان بن مبارك آل نهيان يتوسط القائمني على جائزة الطيب الصالح<br />
ألبناء السودان واألمة العربية«.<br />
وأثنى الوزير على جهود<br />
القائمين على اجلائزة، التي تهدف<br />
إلى تشكيل وجدان األمة وتعزيز روح<br />
االنتماء والوالء لها، والتعامل بذكاء<br />
مع كل التحديات واحلفاظ على<br />
تراث السودان وهويته وإعالء سقف<br />
الثقافة العربية.<br />
ووجه ممثل جلنة التحكيم<br />
األديب والروائي املصري محمد<br />
املنسي قنديل التحية إلى احلضور،<br />
وثمّن تنظيم فعاليات جائزة عاملية<br />
وفاءً لألديب الراحل، مشيداً بدقة<br />
التواصل الذي مت خلالل الدورة<br />
والشفافية والتقدير اللذين مكّنا<br />
احملكمن من أداء دورهم.<br />
وأشاد قنديل باحلضور الكبير<br />
للمثقفين السودانين جللسات<br />
وبرامج فعاليات اجلائزة، داعياً<br />
األمانة العامة للجائزة ملواصلة بث<br />
اإلشعاع الثقافي، وجعل اجلائزة<br />
تواصل تقدمها في مصاف اجلوائز<br />
العاملية الرفيعة، مؤكداً أن األعمال<br />
التي شاركت تقاربت في املستوى<br />
بصدق يضاف للثقافة العربية في<br />
إثراء األدب العربي.<br />
ومت تكرمي شخصية العام<br />
البروفيسور يوسف فضل حسن،<br />
مدير جامعة اخلرطوم األسبق؛<br />
وهو مؤرخٌ ثَبْتٌ ، أفنى ستة عقود<br />
من عمرهِ في خدمة األكادميية<br />
السودانية، والعربية، واإلفريقية،<br />
واإلسلالمية، فكان عطاؤه متميزاً<br />
ومنبسطاً في فضاءات التدريس<br />
اجلامعي، والبحث العلمي، وخدمة<br />
املجتمع.<br />
فاز باجلائزة األولى في الرواية،<br />
السوري سومر شحادة عن »حقول<br />
الذرة«، في حين حصد الكاتب<br />
والروائي املصري عمار علي حسن<br />
اجلائزة الثانية عن »بيت السناري«،<br />
والسوداني حمد املصطفى الطيب<br />
بشار اجلائزة الثالثة عن »جتليات<br />
يعقوب الفينيق«.<br />
وفي القصة القصيرة، فاز<br />
السوداني الهادي علي محمد راضي<br />
باجلائزة األولى عن »فانتازيا أنثي<br />
الشط«، والسعودي مقبل العلوي<br />
باجلائزة الثانيه عن »النجاب«،<br />
والسوداني معاوية محمد احلسن<br />
قيلي عن »بورتريه المرأة ال تنظر<br />
أحداً«.<br />
وذهبت اجلائزة األولى في<br />
قصص األطفال للجزائرية أسمهان<br />
منور عن »عالم أجمل«، واجلائزة<br />
الثانية للسوري جنيب كيالي عن<br />
»العيد واألرجوحة«، واجلائزة الثالثة<br />
للسورية حنان املصري عن »حكايات<br />
جيري«.<br />
وقال الروائي السوداني أمير<br />
193<br />
إعالن الفائزين في الدورة السادسة جلائزة الطيب صالح
الفائزون في الدورة السادسة جلائزة الطيب صالح<br />
تاج السر، »نحن منسك بجائزة<br />
أعتبرها مهمة، فهي إضافة إلى<br />
مميزاتها العديدة التي ذكرتها، تعد<br />
أيام فعالياتها موسم لقاء ثقافي<br />
ضخماً، يلم املثقفني من كل مكان،<br />
ومينح اخلرطوم أياماً مبهجة«.<br />
وأكد عضو مجلس أمناء<br />
اجلائزة الروائي إبراهيم إسحق، أن<br />
»جائزة الطيب صالح العاملية لإلبداع<br />
الكتابي« أصبحت إحدى منارات<br />
احلركة الثقافية بالعالم العربي،<br />
مبيناً أن اللغة العربية سادس لغة<br />
في العالم من ناحية عدد املتحدثني<br />
وحجمها، مثنياً على املنافسة التي<br />
أعادت البلاد إلى علوها بعد<br />
انخفاض صوتها الثقافي، مشيراً<br />
إلى مشاركة العلماء والبارعني<br />
واملفكرين من أدباء العرب فيها<br />
خال دوراتها الست، وقالت األديبة<br />
األردنية احملكمة في مجال القصة<br />
القصيرة في اجلائزة هذه الدورة<br />
سميحة خريس: إن »جائزة الطيب<br />
صالح« حتمل اسم علم عربي عاملي<br />
نعتز به وننتسب له، مضيفة أنها<br />
جائزة لها قيمتها املعنوية واإلنسانية<br />
ملا لها من مصداقية. يذكر أنه يتمّ<br />
تنظيم جائزة الطيب صالح لإلبداع<br />
الكتابي سنوياً منذ عام 2011، ويعلن<br />
عن اجلائزة في يوم 18 فبراير<br />
من كل عام في ذكرى وفاة الكاتب<br />
الراحل ><br />
محمد خليفة صديق/<br />
السودان<br />
اإلرهاب رديف اإلقصاء<br />
رغبة في اإلسهام في إثراء<br />
النقاش حول موضوع جتفيف منابع<br />
اإلرهاب، نظمت مؤسسة فرديريش<br />
إيبرت األملانية بالعاصمة األردنية<br />
عمّان في 14 يونيو 2015 مؤمتراً<br />
دولياً عنوانه »سر اجلاذبية: الدعاية<br />
والتجنيد لدى داعش«، قدم خاله<br />
باحثون أردنيون وعرب وغربيون،<br />
أوراقاً وبحوثاً على درجة كبيرة من<br />
األهمية، بحثت في األسباب التي<br />
جتذب الشباب املسلم لانضمام إلى<br />
تنظيم داعش وتبني فكره.<br />
ورقة الباحث التونسي سامي<br />
برهام، حاول فيها اإلجابة عن السؤال<br />
املؤرق: ملاذا يهاجر شباب تونس<br />
إلى »دولة داعش«؟ من خال بحث<br />
ميداني أجنزه شمل مئات احلاالت.<br />
وتوصل الباحث إلى نتيجة مفادها أن<br />
تونس على الرغم من أنّها جنحت في<br />
اجتياز مدخل التحول الدميقراطي،<br />
وتوفرت على دور قوي لإلسلام<br />
السياسي السلمي املعتدل، فإن فشل<br />
مشروع املزاوجة بني احلداثة والقيم<br />
اإلسلامية للمجتمع، وفي بناء تنمية<br />
عادلة، أدى إلى تهميش وإقصاء<br />
فئات واسعة من السكان، نتيجة غياب<br />
العدالة االجتماعية وفشل التنمية.<br />
ويؤكد الباحث أن »خريطة<br />
اإلرهاب هي نفسها خريطة التهميش<br />
االجتماعي؛ واإلرهابيون ينتمون إلى<br />
املناطق احملرومة املهمشة، التي لم<br />
متهدها قدماً الدولة. فهناك مناطق<br />
ال تدخلها التنمية وال املاء النقي<br />
وال املرافق االجتماعية اخلدماتية،<br />
وحيث تغيب الدولة ينشط دعاة<br />
داعش، ويجد املواطنون أنفسهم مع<br />
خطاب االستقطاب الداعشي، الذي<br />
يوفر حاجات نفسية واجتماعية<br />
واقتصادية«.<br />
العدد - 692 يوليو 2016<br />
194
الكويت عاصمة الثقافة اإلسالمية 2016<br />
هذه الشقوق التي تركتها الدولة،<br />
حترك فيها هذا النموذج بسرعة ليمأل<br />
الفراغ. فداعش ليس تنظيماً عسكرياً<br />
في تونس، بل هو ظاهرة اجتماعية،<br />
نفسية، سياسية، واقتصادية، وحتى<br />
إعالمية، واألهم شبابية؛ يجد فيها<br />
كثير من الشباب احللم/الوهم الذي<br />
يبحثون عنه. فاملهاجرون التونسيون<br />
إلى داعش يبحثون عن »دولة جديدة،<br />
تنتدب شعباً جديداً، من دون املرور<br />
عبر طابور طويل من املناظرات<br />
واملصعد االجتماعي الطويل«؛ وهي<br />
هجرة جماعية من مشاعر التهميش<br />
والفقر واحتقار الذات، إلى »مشاعر<br />
الفخر واالعتزاز بالذات، واالنتقال<br />
من الهامش إلى قادة في املركز<br />
اجلديد!«.<br />
وغير بعيد عن تونس، فإن<br />
نتائج حتقيقات اجتماعية حول<br />
ظروف وأصول الشباب اإلرهابيني<br />
في املغرب، تدعم وتؤكد النتيجة التي<br />
توصل إليها برهام بخصوص تونس.<br />
فأكثر اإلرهابيني يتحدرون من أحياء<br />
هامشية فقيرة تعاني كثافة سكانية<br />
هائلة، ويشكل النازحون القرويون 80<br />
في املائة من سكانها. أحياء تنتشر فيها<br />
البطالة، تعاني التهميش واإلقصاء،<br />
واالفتقار إلى املرافق والفضاءات التي<br />
تتيح للشباب استثمار أوقات فراغه<br />
وتطوير إمكاناته وقدراته، ما يجعلهم<br />
أسهل استقطاباً إلى اجلماعات<br />
املتشددة، التي جتد في أحزمة الفقر<br />
تربة خصبة ألفكارها ومعتقداتها.<br />
األحياء الفقيرة املنتجة للتطرف<br />
بشتى أنواعه، سواء كان تطرفاً دينياً،<br />
أو تطرفا في السلوك واالنحراف،<br />
من قبيل تفشي اجلرائم واملخدرات،<br />
الوعي املتدني الذي ميس كثيراً هذه<br />
الفئات، الذي يجعل بنيتها هشة قابلة<br />
لالستقطاب من أي جهة متطرفة،<br />
فضلالً عن اإلغراءات املادية التي<br />
تستقطب بها هذه التنظيمات هؤالء<br />
الشباب، ما يجعلهم يرون في االلتحاق<br />
خالصاً دنيوياً وأخروياً معاً.<br />
فالشباب الذين يتجهون نحو<br />
اإلرهاب والعنف عموماً، يجسدون<br />
العالقة املفترضة بيني أحزمة الفقر<br />
في األحياء املهمشة، واإلرهاب<br />
والعنف الديني، على الرغم من أنهم<br />
قد ال ميثلون احلقيقة كلها، لوجود<br />
حاالت لشباب في وضعية اجتماعية<br />
واقتصادية جيدة وقعوا أيضا في<br />
براثن العنف الديني. إال أن التجارب<br />
دلت على أن املدمجني اجتماعياً من<br />
أقل الناس التحاقاً بالتطرف، وبخاصة<br />
في الدول اإلسالمية.<br />
الدولة اإلسالمية املغذية لداعش<br />
فشلت تنمويًا وثقافيًا، ولم تنجح في<br />
دمج الشباب في اللعبة السياسية،<br />
وال إقناعهم باملؤسسات التمثيلية<br />
االنتخابية لتحسني ظروفهم، فتفشّ ت<br />
القناعة بأنّ هذه األنظمة وصلت<br />
إلى مرحلة من االستبداد والفساد<br />
واإلقطاع السياسي والتوريث في<br />
املصالح بني فئة محدودة، مع استبعاد<br />
الشريحة االجتماعية الواسعة من<br />
الكعكة االقتصادية والسياسية.<br />
فثقافة العنف واإلرهاب نشأت وأينعت<br />
في ظل عوامل اقتصادية - اجتماعية<br />
متدنية.<br />
البنية الثقافية للفقر<br />
سلوك العنف أو التسامح،<br />
واملشاركة السياسية، وقبول االختالف<br />
وغير ذلك، هي أمور حتددها البنية<br />
الثقافية للمجتمع، فاملجتمع يتكون<br />
من بنية أساسية تشكل القاعدة<br />
االقتصادية، ويشمل البنية االقتصادية<br />
مبا حتويه من الوسائل واألدوات التي<br />
تنتج بها نفسها وثروتها، وبنية فوقية<br />
تشمل كل ما هو ثقافي باملفهوم الواسع<br />
للثقافة، من عقائد وسياسات وفنون<br />
وآداب وأعراف وتعليم وقوانني، حتدد<br />
طرق التفكير وأساليب احلياة ومناذج<br />
السلوك التي تنشأ نتيجة األساس<br />
االقتصادي من ناحية، وتستخدم في<br />
إنتاج وإعادة إنتاج هذا األساس من<br />
ناحية أخرى.<br />
فالثقافة بنية فوقية لقاعدة<br />
اقتصادية، فإذا كانت هناك بنية<br />
حتتية اقتصادية قوية، فبالتأكيد<br />
سيزدهر الوعي والثقافة بني الناس.<br />
إن املمارسة الثقافية واملنتج الثقافي<br />
ليسا مجرد أجزاء اشتقت من نظام<br />
اجتماعي، أو بعض عناصر انفصلت<br />
عن نسق مت تشكيله مبعزل عنها، وإمنا<br />
هما عناصر أساسية وبنى جوهرية في<br />
تشكيل هذا النظام وبنية ذلك النسق.<br />
إن األحياء السكنية الفقيرة التي<br />
تعاني احلرمان والبطالة املتشابكة مع<br />
مستويات متدنية في الصحة واإلسكان<br />
والتعليم، تكتسب سمات أكثر خطورة،<br />
منها: السمعة السيئة، مستويات<br />
اجلرمية املرتفعة، وكثرة االضطرابات<br />
الناجتة عن سوء التفاعل االجتماعي،<br />
وهذه السمات السلبية حتد من<br />
الفرص املتاحة أمام السكان، وتخفض<br />
نوعية حياتهم، وتخلق في نفوسهم<br />
مشاعر العجز واالغتراب، وتغذي<br />
سلوكيات العنف والالتسامح.<br />
فحني يعجز األب الفقير احملبط<br />
عن رفع الظلم االجتماعي عن أسرته،<br />
يحاول أن يستبدل به أفعاالً وتصرفات<br />
استحواذية، تعيد إليه بعضاً من<br />
كرامته املفقودة، ويتجلى هذا في<br />
استخدام العنفيني املعنوي واملادي<br />
جتاه الزوجة واألبناء وغيرهم، بهدف<br />
195<br />
اإلرهاب رديف اإلقصاء
ستر عار التخاذل، واستعادة جزء من<br />
قوة الشخصية واملهابة، فاإلنسان<br />
املصاب بالعجز القهري، يشعر بعقدة<br />
ذنب عميقة تتحكم بصورة الشعورية<br />
في توجيه أفعاله. لذلك فالعنف<br />
األسري شائع في أوساط الفقراء مثل<br />
ضرب الزوجة واألوالد، حتى عنف<br />
األبناء جتاه األصول، وضد بعضهم<br />
البعض، باإلضافة إلى عنف األطفال<br />
ضد بعضهم في احلارات وساحات<br />
املدارس والطرقات. وتتم ممارسة<br />
العنف بصورة مباشرة عند االختالف،<br />
أو لدى الشعور بأي نوع من اإلهانة،<br />
حتى لو كانت شكلية وبسيطة. وجند<br />
التباهي بالقوة اجلسدية والقدرة<br />
على الضرب والتغني بضرب الناس،<br />
أو التهديد مبمارسة العنف بأشكاله<br />
للمعارضني واملخالفني لهم بالرأي، أو<br />
للحصول أو استرداد ما يعتبرونه حقاً<br />
لهم.<br />
فالسلوك العنيف يزدهر ويزداد<br />
في املنظومات املتخلفة، والثقافة<br />
املتخلفة تفرز وتغذي ثقافة العنف،<br />
وإذا أخذنا في االعتبار أن حوالي 80<br />
في املائة من السكان فقراء يعيشون<br />
دون مستوى الرفاه، فسيعني ذلك أن<br />
هذا الفقر املتفشي ينتج ثقافة متخلفة،<br />
ويالزمه عنف اجتماعي وفردي،<br />
مادي ومعنوي، سائد في كل جوانب<br />
احلياة االجتماعية أيضا؛ يزداد حدة<br />
وانتشاراً في األحياء الهامشية، التي<br />
تضم الكثافة السكانية العشوائية<br />
والفقيرة، في هذا املناخ، تزدهر<br />
مفاهيم الرجولة والشرف والتباهي<br />
بالقوة العضلية، وسائر مفاهيم ثقافة<br />
احلارة. وتتعدد مظاهر العنف من<br />
األشكال القمعية اللفظية إلى العنف<br />
اجلسدي والبدني واجلنسي، والغلو<br />
والتطرف باستخدام القوة إللغاء الغير<br />
وتدميره، وفي أعلى حاالته وأخطرها<br />
يتحول إلى إرهاب مدمر. إن سلوكاً أو<br />
نظرة حذرة موجهة نحو شخص غريب<br />
مثالً، تفسر استعدادنا ملواجهة أي<br />
سلوك صادر منه نحونا، بكلمة عنف<br />
أو حتى نظرة توحي بأنها هجوم ودفاع<br />
في اآلن نفسه.<br />
في ظل الفقر ال تستطيع<br />
املجتمعات أن توفر املقومات البنيوية<br />
للبناء النفسي املسالم، الذي يؤمن<br />
مببدأ سيادة القانون، ومببادئ املساواة<br />
والدميقراطية، فاألسرة الفقيرة، وهي<br />
املجموعة األولى األساسية في تكوين<br />
املنظومة الفكرية للفرد، ال تستطيع<br />
أن توفر املناخ النفسي املالئم إلشاعة<br />
مناخ مناهض للعنف، وهي بالكاد<br />
تستطيع توفير الطعام أو الكساء<br />
وشروط البقاء على قيد احلياة في<br />
حدودها الدنيا.<br />
التفاوتات مصدر الشرور<br />
الدول املغذية لداعش هي<br />
دول نامية ذات كثافة سكانية عالية<br />
وناجت قومي منخفض، ومن ثم دخل<br />
منخفض، وحتى على مستوى الدولة<br />
الواحدة، جند تفاوتاً في متوسط<br />
نصيب األفراد من الدخل القومي،<br />
ووجود طبقة واسعة من الفقراء جنباً<br />
إلى جنب مع فئة قليلة فاحشة الثراء<br />
داخل الدولة، وهذا التفاوت يكون<br />
في الغالب في مصلحة بعض الفئات<br />
الساكنة في املدن أو بعض األسر دون<br />
غيرها، بينما تظل الغالبية العظمى<br />
من املسلمني تعيش في فقر.<br />
هذا التفاوت في الدخل بني أفراد<br />
املجتمع يقابله غياب برامج حلماية<br />
أصحاب الدخل احملدود باملساعدات<br />
املالية كالضمان االجتماعي، وكذلك<br />
توفير الرعاية التعليمية والصحية،<br />
ما يدمي الفقر ويجعل تأثيراته<br />
االجتماعية واالقتصادية والسياسية<br />
والبيئية تتفاقم، ويدل على غياب<br />
املساواة بني أفراد املجتمع، وغياب<br />
العدالة في توزيع الثروة الوطنية.<br />
يرى األكادميي البريطاني<br />
ريتشارد ولكنسون في محاضرة<br />
ألقاها بالرباط في مارس 2015، أن<br />
التفاوتات االجتماعية مدخل لكل<br />
الشرور التي ميكن أنْ تطفوَ على<br />
سطح مجتمعٍ من املجتمعات، فاتساع<br />
الفوارق االجتماعية، تترتب عليه آثار<br />
وخيمة على البناء النفسي والصحة<br />
العقلية للمواطنني، نتيجة إحساسهم<br />
باإلحباط والدونية. ويفتح الباب<br />
أمام ارتفاع معدالت اجلرمية. ففي<br />
املجتمعات التي تتسع الهوة فيها بني<br />
األغنياء والفقراء، يتراجع متوسط<br />
عمر اإلنسان بحوالي عشر سنوات،<br />
وترتفع نسبة األمراض النفسية<br />
وعلى األخص القلق والكآبة، وتنتشر<br />
التشوهات االجتماعية، مثل ظواهر<br />
العنف واجلرمية واإلدمان واالنتحار<br />
وضعف احلراك االجتماعي وضعف<br />
ثقة الناس ببعضهم البعض. واألنكى<br />
من ذلك، أن التفاوتات االجتماعية<br />
تسمِّمُ العالقات االجتماعية داخل<br />
البلد الواحد، وتخلق جوا من عدم<br />
الثقة لدى الناس. وهي السبب األول<br />
لكثير من األمراض االجتماعية<br />
واملفاسد املالية والسياسية، كالعنف<br />
السياسي واالجتماعي والفردي،<br />
ومن ذلك اإلرهاب والسرقة والسطو،<br />
البغاء، الفساد السياسي، الهجرة،<br />
الغش، والرشوة، وهلم جرا.<br />
لذا، فتجفيف منابع اإلرهاب<br />
يبدأ مبحاربة الفقر واإلقصاء<br />
االجتماعي والقضاء عليهما ><br />
الزبير مهداد - املغرب<br />
العدد - 692 يوليو 2016<br />
196
الكويت عاصمة الثقافة اإلسالمية 2016<br />
قصص على الهواء<br />
قصص ألصوات شابة تنشر بالتعاون<br />
مع إذاعة »مونت كارلو« الدولية *<br />
ملاذا اخترت هذه القصص?<br />
عرض واختيار د. مشاري الموسى - أكاديمي من الكويت<br />
إنه ملن دواعي سروري أن أستجيب لرغبة مجلة العربي العريقة في أن أقوم بقراءة وحتكيم عدد من القصص<br />
القصيرة التي أرسلها كتَّاب من مختلف األقطار العربية. امتازت هذه القصص القصيرة بأنها تتناول قضايا<br />
يعيشها اإلنسان العربي، ومن ثم فإن هذه القصص حتمل على أكتافها قضايا اإلنسان العربي وحتاول أن تسهم<br />
في عالجها وتسليط الضوء عليها. ومن بني هذه القصص القصيرة فازت أربعٌ بالصدارة.<br />
املركز األول: »غياب« إلبراهيم حسني مصطفى/مصر<br />
تدور أحداث قصة »غياب« في قرية صغيرة، يعرف أهلها بعضهم البعض، يستيقظ بطل القصة، وهو غالم<br />
صغير، صباحاً ليجد أن القرية ترتدي ثياباً جديدة: شوارع نظيفة وأرصفة مرتبة ّ مشجَ رة وواجهات جميلة.<br />
ورغم جمال هذه الثياب يشعر بطل القصة بأنها ثياب ال تناسب قريته. يعيش البطل في حالة من االستغراب<br />
والدهشة من تغير أحوال القرية وأهلها بني ليلة وضحاها، ليكتشف السبب الحقاً، وهو القضية التي حتاول<br />
القصة معاجلتها من دون التصريح بها، إنه النفاق مبفهومه الواسع الذي يشمل كل أنواعه. أعجبني في النص<br />
أنه لم يكن مجرد نص ذكي فحسب، وإمنا هو نص يحفز القارئ على التفكير في عدة مواضع، انظرْ إلى قوله:<br />
»تستيقظ ذات صباح... وجتد أشجاراً طويلة ذات أوراق قد نبتت فجأة، الشوارع رصفت وصارت جديدة...«.<br />
األساليب البالغية من تشبيهات واستعارات وكنايات أضفت على لغة القصة جماالً، مثل: »نبتسم بداخلنا<br />
كلما زارته أعيننا«، ّ »حتسَ سْ نبض قلبك جيدا، فلرمبا جتده باليمني«. تفوق الكاتب في توظيف ضمائر السارد<br />
وتنويعها ما بني ضمير املتكلم والغائب واملخاطب. كما أنه جنح في وصف شخصياته بجانبيها اخلَلقي واخلِ لقي،<br />
فرسم لنا بعض تفاصيل الشخصيات الدقيقة كقوله: »اخلارجون من بيوتهم بخروج الشمس، السائرون وراء<br />
بهائمهم، بهائمهم التي تشاركهم مسكنهم...«، ورصد لنا خصائص الشخصيات النفسية، كقوله: »الشجرة...<br />
حلاؤها املليء باالعوجاج كأمنا نفسك املضطربة«. أدعو الكاتب إلى ضرورة مراعاة استخدام عالمات الترقيم<br />
استخداما صحيحا.<br />
املركز الثاني: »املنحوتة األرجوانية« لسريعة حديد/سورية<br />
أما قصة »املنحوتة األرجوانية« فإنها تنجح في جذب انتباه القارئ منذ العتبة األولى للنص التي تتمثل<br />
في العنوان »املنحوتة األرجوانية«. هذه املنحوتة التي بسببها تقع بطلة القصة في مأزق تتصاعد وتيرته كلما<br />
استمررنا في قراءة أحداث القصة، فتجد بطلة القصة نفسها بني سندان الفضيحة ومطرقة التواري. فهذه<br />
* تُنشر القصة األولى الفائزة في هذا العدد، بينما تنشر بقية القصص الفائزة على موقع مجلة العربي وتُبث في إذاعة<br />
»مونت كارلو الدولية« على مدار شهر يوليو 2016.<br />
197
املنحوتة رغم جمالها جتلب الشر على البطلة، فنظرة اإلعجاب األولى التي كانت حتملها البطلة جتاه املنحوتة<br />
تتحول في نهاية القصة إلى نظرة كرهٍ وعداء. الكاتبة جنحت في مواضع عديدة بتصوير مشاعر الشخصيات<br />
وخلق إحساس لدى القارئ بتلك املشاعر، كقولها: »نظرت إليه بارتباك، تهز رأسها... فاحمرت وجنتاها وفاض<br />
اإلبريق بني يديها...«. ووقعت في أكثر من موضع بأخطاء إمالئية ولغوية، ميكنها أن يتجنب الوقوع في مثلها<br />
مستقبالً إذا التزمت مراجعة النص وقراءته أكثر من مرة قبل تسليمه النهائي.<br />
املركز الثالث: »القروي« لعبداللطيف عبدالله/اجلزائر<br />
أما قصة »القروي«، فإن بطلها رجل قروي يخسر أرضه التي هي أغلى ما ميلك، يحاول أن يحافظ على<br />
تلك األرض غير أن »البيلدوزرات« الصفراء واملعدات الثقيلة تهزمه رغم أن السماء والتراب والطيور والنباتات<br />
تشهد أنه صاحب األرض. ال حتمل أحداث القصة أي مفاجآت، بل رمبا يستطيع القارئ تخمني أحداث القصة<br />
ونهايتها من مجرد قراءة عنوانها »القروي«. تتمتع القصة بأسلوب لغوي جميل وقدرة سردية واضحة، انظر<br />
معي مثالً إلى قوله: »دخل إلى حجرته ال يلوي على شيء، وجد نفسه بني أربعة جدران تقطر صمتاً وجماداً،<br />
وفي حركة عصبية خلع العمامة امللفوفة فوق رأسه كخرطوم مثلجات لم يلعقه صبي...«. لم يسلم الكاتب من<br />
الوقوع في بعض األخطاء اللغوية إمالئية كانت أو نحوية، مثل: »لم متضي فترة«، »معبرتاً عن مشاعرها«.<br />
املركز الرابع: »الكاتب الستيني« ملهدي زلزلي/لبنان<br />
أما قصة »الكاتب الستيني« التي حازت املركز الرابع، فإنها تدور حول كاتب أديب بليغ يتجاوز عمره ستني<br />
عاما، مير مبوقف يغير حياته وينقله من اليأس إلى األمل، وعلى الرغم مما يبدو عليه ذلك املوقف من بساطة،<br />
فإنه جنح في أن يجعل ذلك األديب يعيد النظر في حياته. بعبارة أخرى، لم يتغير شيء ذو قيمة في أحداث<br />
حياة ذلك الكاتب، وإمنا تغيرت الزاوية التي كان يشكل من خاللها منظوره للحياة. ولم يحدث هذا التغير إال<br />
محض الصدفة حينما طلب منه أحدهم أن يلتقط له صورة ليرسلها إلى محبوبته. أما أسلوب الكاتب، فقد<br />
كان متواضعاً، يخلو من جمال اللغة والتصوير، ومن ثم فإنني أدعو الكاتب إلى ضرورة االهتمام بجمال اللغة،<br />
كما أنني أدعوه إلى االهتمام بعنوان القصة واختيار عنوان جذاب مناسب حملتوى القصة، باعتبار أن العنوان<br />
عتبة رئيسة وأولى من عتبات النص األدبي.<br />
غياب<br />
إبراهيم حسين مصطفى - مصر<br />
ألنهم ضخام جداً<br />
وأحذيتهم ضخمة جداً فإنهم<br />
ال مييزون جيداً ما حتت<br />
أقدامهم... األشياء مشوشة،<br />
فهي رمبا أناس أو حشرات أو<br />
ال شيء!<br />
عندما سمعنا كبيرهم<br />
نحذر بعضنا أن يدهسونا لم<br />
يبتسم كسليمان... بل كان<br />
متوتراً وقال: »األمر لن يستمر<br />
طويالً، فقط نرجو الهدوء«.<br />
تبدأ األحداث كإشاعة<br />
يتلقفها الناس يحاولون بلعها<br />
تتوقف لثوان في بلعومهم ثم<br />
تنزل بصعوبة معتادة.<br />
اخلارجون من بيوتهم<br />
بخروج الشمس... السائرون<br />
وراء بهائمهم... بهائمهم<br />
التي تشاركهم مسكنهم وفي<br />
حالتهم اخلاصة جداً ليالً...<br />
يتناثر عليهم رذاذ بولها...<br />
األوالد الذاهبون ملدارسهم...<br />
بكتب بال أغلفة... كل هؤالء<br />
يتبادلون اخلبر.<br />
أصبح الكل يعرف ولكنهم<br />
مازالوا يتكلمون! رمبا ألنهم<br />
يريدون أن يصدقوا ما يقولون،<br />
العدد - 692 يوليو 2016<br />
198
الكويت عاصمة الثقافة اإلسالمية 2016<br />
أو رمبا ألنهم ال يجدون شيئاً<br />
آخر يتحدثون عنه.<br />
سوف تتعجب قليالً عندما<br />
تستيقظ ذات صباح حار بالَ<br />
سبب، وجتد أشجاراً طويلة<br />
ذات أوراق قد نبتت فجأة...<br />
الشوارع رصفت وصارت<br />
جديدة... أكوام القمامة التي<br />
عمرها من عمر اإلنسان هنا<br />
اختفت فجأة ووضعت مكانها<br />
الفتة كُتب عليها »إننا نرحب<br />
بالزائرين«، احلوائط ووجهات<br />
البيوت طُ ليت كلها بلون<br />
واحد... ذهبت بقايا كتاباتنا<br />
الطباشيرية، رسومنا الركيكة،<br />
أيادينا املغموسة في دم<br />
األضاحي... شيء من طفولتنا<br />
البعيدة، نبتسم بداخلنا كلما<br />
زارته أعيننا، اخلطوات التي<br />
اعتدنا أن منشيها بسبب<br />
وبال سبب نضطر اآلن إلى<br />
تغييرها.<br />
يسارك، احذر... يقف<br />
عسكري ينظر إليك في شك<br />
ال مبرر له.<br />
تحدث »عبدالغفار«<br />
احملامي عن التنمية والتقدم<br />
الذي يعم الوطن, الناس<br />
أحياناً يفهمون وأحايني كثيرة<br />
ال يفهمون، وفي كل مرة يهزون<br />
رؤوسهم في صمت, ويؤكد أن<br />
هنا ستكون لنا مدرسة للبنات<br />
وعيادة لتنظيم األسرة, )الكل<br />
مُسيّر ملا خلق له(، هكذا<br />
حتدث الشيخ »قرني« وقال<br />
في خطبة اجلمعة إن طاعة<br />
ولي األمر من طاعة الله.<br />
»وهذه الشجرة تعوق<br />
الرؤية«، قالها الضابط<br />
كتبرير ال يقبل النقاش, اآللة<br />
الصماء حتفر وتقلع كأمنا<br />
في أحشائك... من كثرة ما<br />
عاشرت تلك الشجرة كأن<br />
بها شيئاً منك أو أن بك شيئاً<br />
منها... صالبتها... أعشاش<br />
اليمام فوقها... أصوات<br />
العصافير... حلاؤها املليء<br />
باالعوجاج كأمنا نفسك<br />
املضطربة... صعدوا إلى<br />
السطح، بنية احلمام أيضاً<br />
كانت عائقاً، طار احلمام بعيداً<br />
ما لم يجد ما يسكن إليه. كل<br />
أشيائك اخلاصة التي تبادلك<br />
النقاش أصابها اخلرس،<br />
ترفض التواصل معك، رمبا<br />
متد يدك إلى حبة التوت<br />
فتنوء بنفسها عنك، كنت تسير<br />
مغمضاً اآلن فلتفتح عينيك<br />
جيداً فثمة أشياء ليست في<br />
مكانها الطبيعي، أشياؤك<br />
تنكرك وال تعرفك... حتسس<br />
نبض قلبك جيداً فلرمبا جتده<br />
باليمني... أو ال جتده!<br />
عندما توقف الضابط أمام<br />
الباب انكمشت وحدات اللحم<br />
احلي في ركن واحد، كنت أنظر<br />
إلى أحذيتهم الضخمة بها<br />
قطع من حديد، وطأ أحدهم<br />
مرقد أبي، أبي يرتعد من دون<br />
داع، عرفت بعد ذلك أنه يفعل<br />
ذلك كلما رأى أُناساً بالزي<br />
الرسمي، دبت حركة غريبة<br />
وسريعة... الوجوه متوترة<br />
ومشدودة... عربات ذات<br />
زجاج غامق جاءت تصطحبها<br />
عاصفة من التراب.<br />
»فليلزم اجلميع بيته«،<br />
اليوم االمتحان الشهري.<br />
»إياك والحركة يا<br />
أحمد« تهمس أمي... أناس<br />
بأسمائهم يحضرون لوضع<br />
حجر األساس.<br />
»ال تنظر من الشباك يا<br />
أحمد« أناس آخرون يقتلهم<br />
الفضول ولكن فضولهم يظل<br />
داخل حدود اجلمجمة.<br />
»االمتحان الشهري يا<br />
أمي«...<br />
»ال تقترب من الباب يا<br />
أحمد«... كان صادقاً وانتهى<br />
كل شيء سريعاً.<br />
سُ مح للعائدين من املدينة<br />
بالدخول... ذاقوا طويلالً<br />
حبات عرقهم املر وهم واقفون<br />
أمام القرية... حتت الشمس..<br />
لم يحسوا أبداً باملهانة<br />
وهم ممنوعون من الدخول,<br />
جلسوا ميسحون أعينهم من<br />
بقايا إشعاعات الشمس وهم<br />
يبتسمون ويقولون »احلركة<br />
كانت موقوفة في املدينة أثناء<br />
مرور املوكب«.<br />
»إياك أن تتحرك يا أحمد«<br />
صوت أمي اليزال.<br />
االمتحان الشهري... بدالً<br />
من الدرجات سيوضع حرف<br />
»غ« كبير, لن تنظرَ لي »نشوى«<br />
بإعجاب ككل شهر, لن تكون<br />
ابتسامتها الرائعة بانتظاري,<br />
اقتلع الهواء الالفتة... عاودت<br />
أكوام القمامة االرتفاع, تكلم<br />
الشيخ قرني مرة أخرى عن<br />
عذاب النار, والناس وراء<br />
بهائمهم يبحثون عن شيء آخر<br />
يتحدثون عنه, وأنا أبحث عن<br />
أشيائي, وعن التوتة, ونشوى,<br />
واحلمام ><br />
199
طرائف عربية<br />
أيذبح بين املسلمن مؤذن<br />
مقيم على دين النبي محمد؟<br />
فقلت له يا ديك إنك صادق<br />
وإنك في ما قلت غير مفند<br />
وال ذنب لألضياف إن نالك األذى<br />
فإن املنايا للديوك مبرصد<br />
تَ ذكِ ية<br />
داس رجل نبتاً ألعرابي وقال: باسم الله. فقال:<br />
لم ترضَ بذبحها حتى تَذْكِ يَتهَا.<br />
يدعُ نا التطفل<br />
من أظرف اعتذارات الطفيليين قول<br />
شاعرهم:<br />
نحن قوم إذا دعينا أجبنا<br />
ومتى ننس يدعنا التطفل<br />
ونقول علنا دعينا فغبنا<br />
وأتانا فلم يجدنا الرسولُ<br />
ديك يرثي ديكاً<br />
يقول ديك اجلن احلمصي في ديك ألبي عمرو<br />
عمير بن جعفر، وكان هذا قد ذبح ديكاً وعمل<br />
عليه دعوة:<br />
دعانا أبو عمرو عمير بن جعفر<br />
على حلم ديك دعوة بعد دعوة<br />
فقدم ديكاً عُ دّ دهراً ذملقاً<br />
مؤنس أبيات مؤذن مسجد<br />
يحدثنا عن قوم هود وصالح<br />
وأغرب ما القاه عمرو بن مرثد<br />
وقال: لقد سبحت دهراً مهلالً<br />
وأسهرت بالتأذين أعين هجّ د<br />
ال أدري؟<br />
قال أبو عبدالله اجلماز الشاعر: رأيت بحمص<br />
مجنوناً يقول: يا قوم، من يتعلم: ال أدري؟ يا هذا<br />
تعلَّم: »ال أدري«، فإنك إذا قلت ال أدري علموك<br />
حتى تدري، وإذا قلت: أدري سألوك حتى ال<br />
تدري.<br />
اللص املُستَ خْ دَ مْ<br />
دخل لص إلى دار وصاحبها منتبه، فلم يجد<br />
في البيت شيئاً، فلما هم باخلروج قال له صاحب<br />
الدار: رد الباب من البرد. فقال اللص: إي والله،<br />
من كثرة ما أخذتُ لك تستخدمني.<br />
اقتباس<br />
يُحكى عن الشاعر العباسي أبي متام أنه توقف<br />
عند هذا الشطر من قصيدته البائية التي مدح فيها<br />
الشاعر أبا دلف العجلي: »وأحسن من نور يفتحه<br />
ّ الصَ با«، وظل يردده حتى وقف ببابه فجأة سائل<br />
يقول: »من بياض عطاياكم في سواد مطالبنا«، ففرح<br />
أبومتام وأمت صدر البيت الذي كان يردده من كالم<br />
السائل بقوله: »بياض العطايا في سواد املطالب«.<br />
ترحيب<br />
كان ابن مسعود، ، إذا رأى طالبي العلم<br />
قال: مرحباً بكم ينابيع احلكمة ومصابيح الظلمة<br />
خلقان الثياب جدد القلوب رياحن كل قبيلة.<br />
العدد - 692 يوليو 2016<br />
200
الكويت عاصمة الثقافة اإلسالمية 2016<br />
ومضى!<br />
ملا صنف احلسن بن الهيثم كتابه الذي بينَّ فيه<br />
حيلة إجراء نيل مصر عند نُقصانه في املزارع<br />
)ببناء سد عند جنوب مصر، شبيه بالسد العالي(،<br />
قصد القاهرة حامالً كتابه، فنزل في خان. فلما<br />
ألقى عصاه قيل له إن صاحب مصر امللقب<br />
باحلاكم بأمر الله على الباب يطلبك. فخرج ابن<br />
الهيثم ومعه كتابه. وكان ابن الهيثم قصير القامة،<br />
فصعد على دكة عند باب اخلان ودفع الكتاب<br />
إلى احلاكم، واحلاكم راكب حماراً. فلما نظر في<br />
الكتاب قال له: أخطأت! ألن مؤنة هذه احليلة<br />
أكثر من منافع الزرع! ومضى.<br />
يكذب على نفسه<br />
حضر قوم إلى اجلاحظ فحضر إليهم غالمه<br />
فسألوه عن سيده؟ فأجابهم:<br />
إنه في الدار، فقالوا: وماذا يصنع؟ فقال: إنه<br />
يكذب على نفسه!<br />
فقالوا له: وكيف ذلك؟ فقال: إنه نظر في املرآة<br />
مليّاً ثم قال: أحمدك ربي ألنك صورتني جميال!<br />
)من املعروف عن اجلاحظ أنه كان دميماً(.<br />
ثالث خالل<br />
أحضر الرشيد رجالً ليوليه القضاء، فقال<br />
له، إني ال أحسن القضاء، وال أنا فقيه، فقال<br />
الرشيد: فيك ثالث خالل: لك شرف، والشرف<br />
مينع صاحبه من الدناءة، ولك حلم مينعك من<br />
العجلة، ومن لم يعجل قل خطؤه، وأنت رجل<br />
تشاور في أمرك، ومن شاور كثر صوابه. وأما<br />
الفقه فسنضم إليك من تتفقه به، فولي فما<br />
وجدوا فيه مطعناً.<br />
لو تركته<br />
أنشد رجل أبا عثمان املازني شعراً له،<br />
وقال: كيف تراه؟ قال: أراك قد عملت عمالً<br />
بإخراج هذا من صدرك، ألنك لو تركته<br />
ألورثك السل.<br />
اسمان<br />
قال ميوت بن املزرع: قال لي سهل بن صدقة<br />
وكانت بيننا مداعبة: ضربك الله باسمك. فقلت<br />
له مسرعاً: أحوجك الله إلى اسم أبيك!<br />
أذى<br />
تضجر عمر بن عبدالعزيز من كالم رجل،<br />
فقال شرطي على رأسه: قم فقد »أوذيت« أمير<br />
املؤمني. فقال عمر: أنت والله أشد أذى بكالمك<br />
هذا منه.<br />
العي واإلعياء<br />
لقي أبوزيد البلخي أحمد بن سهل، األمير،<br />
في طريق، وقد أجهد البلخي في السير، فقال<br />
له األمير: عييت أيها الشيخ! فقال أبوزيد: نعم<br />
أعييت أيها األمير.<br />
)نبه أبوزيد األمير إلى أنه حلن في قوله:<br />
أعييت، إذ العي في الكالم، واإلعياء في<br />
املشي(.<br />
201
طرائف غربية<br />
معطفاً جديداً.<br />
فقال أينشتاين بدهشة:<br />
- وما ضرورة ذلك، وأنا هنا في بلد ال<br />
يعرفني فيه أحد؟!<br />
ألبرت أينشتاين<br />
النسبية في كل شيء!<br />
اشتهر ألبرت أينشتاين بإهماله الشديد في<br />
مظهره وثيابه بالرغم من شهرته العاملية.<br />
وذات مرة قابله صديق له في برلني فرآه<br />
مرتدياً معطفاً بالياً تقريباً، فقال له:<br />
- أال تعتقد أنك بحاجة إلى معطف<br />
جديد؟<br />
فضحك صاحب نظرية النسبية وقال:<br />
- وما لزوم املعطف اجلديد وكل الناس هنا<br />
يعرفون مَن أنا؟ املعطف اجلديد لن يقدم<br />
أو يؤخر في نظرتهم إلى شخصي. وبعد<br />
سنوات، هاجر أينشتاين إلى نيويورك،<br />
وهناك قابله الصديق نفسه، ورآه يرتدي<br />
املعطف نفسه وقد ازداد رثاثة، فقال له:<br />
- أظن أنه آن لك يا صديقي أن تشتري<br />
مَ ن هو املتفائل؟<br />
سُ ئل األديب األمريكي الساخر مارك توين<br />
)1910-1853( عن تعريفه للشخص املتفائل،<br />
فأجاب: »املتفائل هو هذا الرجل الذي ذهب إلى<br />
أحد املطاعم الفخمة وهو مفلس، فطلب وجبة<br />
كاملة من السمك، على أمل أن يكون السلطان قد<br />
استقل زورقاً للنزهة في عرض البحر، فسقط<br />
خامته املاسي في املاء، فابتلعته إحدى األسماك،<br />
فصادها أحد الصيادين، فجاء بها وباعها لهذا<br />
املطعم، فيقدمها النادل إلى صاحبنا املتفائل،<br />
فيجد فيها خامت السلطان، فيدفع منه ثمن<br />
الوجبة، ويعيش بالباقي غنياً سعيداً!«<br />
سبب العقوبة<br />
كتب الكولونيل ستيفن بونسال كتاباً عن مؤمتر<br />
فرساي عنوانه »عمل لم يتم«. وقد روى فيه كيف<br />
عمد شخص يدعى كوتان إلى محاولة اغتيال<br />
كليمانصو رئيس وزراء فرنسا في أوائل القرن<br />
العشرين، ولم تصبه رصاصات مسدسه.<br />
فلما اجتمعت هيئة احملكمة الستجواب كوتان<br />
وسماع أقوال الشهود واملتهم والسياسي اجلريح،<br />
قال كليمانصو أمام القاضي وهو يشير إلى املتهم:<br />
- ما لفت نظري هو سوء رمايته، فهذا فرنسي<br />
يخطئ هدفه ست مرات أو سبعاً، على قصر<br />
املسافة. يجب أن يعاقب ألنه أساء استعمال<br />
سلاحه، وألنه لم يحسن الرماية، وأقترح بعد أن<br />
العدد - 692 يوليو 2016<br />
202
الكويت عاصمة الثقافة اإلسالمية 2016<br />
يقضي مدة سجنه أن يتم تدريبه على الرماية<br />
تدريباً محكماً!<br />
نصيحة خبير<br />
هرع أحد سكان بوسطن إلى حكيمها الدكتور<br />
إدوارد إيفريت كي يستشيره وقد مأله الغيظ<br />
من مقال تعرض فيه لنقد الذع وهجوم على<br />
شخصه، وسأل احلكيم: ماذا أفعل؟ هل أطلب<br />
نشر اعتذار بالصحيفة نفسها وفق القانون أم<br />
أرفع دعوى قضائية وأطالب بتعويض؟<br />
فأصغى إليه الدكتور إيفريت، ثم قال:<br />
- لو كنت مكانك يا سيدي ملا فعلت شيئاً،<br />
فنصف الناس الذين يقرأون هذه الصحيفة<br />
لم يقع نظرهم على املقال، ونصف الذين وقع<br />
نظرهم عليه لن يقرأوه، ونصف الذين قرأوه<br />
لم يفهموه، ونصف الذين فهموه لم يصدقوه،<br />
ونصف الذين صدقوه ال خطر منهم، وال شأن<br />
على أي حال.<br />
خطاب سياسي<br />
قال مستشار لرئيسه: »إن إلقاءك هذا<br />
اخلطاب هو من قبيل االنتحار السياسي«.<br />
وأضاف مستشار آخر: »احلق معه يا معالي<br />
الوزير... فاخلطاب من الدقة والوضوح<br />
بحيث ال يصلح سياسياً!«.<br />
ملاذا غادر؟<br />
كان البريطاني نيجل بروس جنماً ذائع<br />
الصيت في النصف األول من القرن العشرين،<br />
تخصص في أدواره الكوميدية، ومن طرائف<br />
ما ذكر أن ظروفاً غريبة دفعته للقيام برحلته<br />
األولى إلى أمريكا، إذ بينما كان يقضي عطلة<br />
مارك توين<br />
نهاية األسبوع في ضيافة إحدى األسر بإحدى<br />
مقاطعات بريطانيا، قرر أن يقوم بنزهة وحده<br />
في حديقة املنزل قبل اإلفطار. وبينما كان<br />
يسير وقعت عينه على ثمرة خوخ ناضجة<br />
تتدلى من شجرة، فمد يده وقطفها والتهمها،<br />
ثم صعد إلى الدار لتناول قدح من القهوة.<br />
وسمع ربة الدار وهي تتحدث عن احلدائق،<br />
ثم قالت: »إننا نتلهف على مواجهة احملكمني<br />
في معرض البساتني الذي سيقام بعد ظهر<br />
اليوم، فقد ظللنا عشرين عاماً نحاول<br />
إقناعهم بأن زراعة اخلوخ اجليد ممكنة في<br />
هذا الطقس من دون جدوى، واآلن حمداً لله،<br />
فقد أثمرت الشجرة ثمرة طيبة ندخل بها<br />
املسابقة بثقة«.<br />
ولم ينتظر بروس أكثر من ذلك، فجمع ثيابه<br />
وتسلل من باب جانبي!<br />
203
منتدى الحوار<br />
حكاية الجثة وسياسة الكلب<br />
وحكاية أخرى<br />
حسين عبد العزيز - مصر<br />
عندما تستقل سيارة من اإلسكندرية إلى القاهرة – أو من القاهرة إلى<br />
المنصورة – تمر على عدد ال بأس به من القرى، وعند إحدى القرى قد يقع<br />
حادث سيارة يسفر عن مقتل رجل، أو شاب )من النادر أن تموت المرأة في<br />
حادث سيارة(، وبسرعة البرق يخرج أهالي تلك القرية، لتكن منية سندوب<br />
)قريتي أنا( مثالً، وأهل المتوفى أو المصاب وتحدث صدمة ينتج عنها، لو<br />
لم يفر السائق، الفتك به وبسيارته، ويقومون بغلق الطريق بواسطة جمع<br />
قش وأخشاب وإطارات قديمة لحرقها. وفي بعض األحيان يحدث هجوم<br />
على السيارات الواقفة لو تأخرت سيارة اإلسعاف!!<br />
ماذا يحدث لو كان هذا املتوفى غريباً وليس من<br />
أهل القرية؟ يخرج بعض أهالي القرية الستطالع<br />
األمر، وعندما يتضح أن املصاب الذي حتول إلى<br />
متوفى ليس من أهل القرية تهدأ األعصاب، ويحاول<br />
البعض، لو كان لديهم املقدرة، نقل اجلثة من عرض<br />
الطريق ووضعها بجوار إحدى األشجار القريبة<br />
ووضع كومة قش عليها وتسير السيارات في حالها<br />
وتستمر احلياة، ألن املتوفى غريب وليس من أهل<br />
القرية.<br />
هذا ما يحدث مع العرب على مستوى العالم،<br />
فهم غرباء عن العالم مبا فعلوه في أنفسهم وما<br />
سمحوا به أن يحدث لهم. انظر إلى فلسطني، انظر<br />
إلى العراق، انظر إلى لبنان، انظر إلى السودان، انظر<br />
إلى الصومال، التي خرجت من التاريخ، ال ميكن أن<br />
يحدث لبقرة في الهند، أو لكلب في فرنسا... أو<br />
لشاذ في أمريكا، أو سحاقية في هولندا سياسة<br />
الكلب، مبعنى أنه عندما يقابلك كلب في الطريق<br />
- أي طريق – وهذا الكلب مسعور ويرى ويحس أن<br />
اخلوف متلك منك، فإنه يكون شجاعاً مخيفاً ويأخذ<br />
في نفسه مقلباً بأنه شجاع مخيف حتى لو كنت فتوة<br />
أو بطل حرب، فهنا بسبب اخلوف تتحول إلى طفل،<br />
لكن )ولكن هذه مهمة جداً وتساوي عمرنا( عندما<br />
يراك الكلب داخالً عليه ولست خائفاً منه وال تعيره<br />
أي اهتمام، بل إنك تكاد تهرسه وأنت متر، هنا يخاف<br />
الكلب بل يحتله اخلوف والقلق ويفسح لك الطريق<br />
وهو يهز ذيله معلناً رغبته في أن يبقى كلباً.<br />
هذا ما يفعله اليهود معنا، حيث إنهم يطبقون<br />
فلسفة الكلب، وفي أحيان أخرى يطبقون حكاية<br />
الذئب واحلمل.<br />
وحكاية الذئب واحلمل توضح لنا متاماً كيف<br />
تفكر وتعمل وحتتل أمريكا وإسرائيل دول العرب.<br />
وها هي احلكاية )احلمل - العرب( تشرب<br />
العدد - 692 يوليو 2016<br />
204
الكويت عاصمة الثقافة اإلسالمية 2016<br />
من جدول صاف وفي اللحظة نفسها يصل ذئب<br />
)إسرائيل - أمريكا( جائعاً باحثاً عن فريسة إلى حيث<br />
احلمل يشرب، فيقول له في غضب، من يجعلك بهذه<br />
اجلرأة فتعكر مشربي؟ يجب أن تعاقب على تهورك،<br />
فيرد احلمل )العرب(: »موالي يجب أال تغضب ولكن<br />
األحرى بجاللتك; أن تتأمل أني أشرب من اجلدول<br />
وأنا بعيد مبسافة عشرين خطوة عن جاللتك... وهذا<br />
يعني أنني ال أستطيع أن أعكر مشربك بأي شكل«.<br />
يرد الذئب )إسرائيل - أمريكا(: »أنت تعكره وأنا<br />
أعرف أنك أنت الذي عكرت اجلدول العام املاضي،<br />
وهناك رواية تقول بأنك الذي عكرته العام قبل<br />
املاضي«.<br />
يرد احلمل )العرب(: كيف أستطيع أن أفعل هذا<br />
وأنا لم أكن مولودًا بعد، فيرد الذئب )إسرائيل -<br />
أمريكا(: إذا لم تكن أنت فهو أخوك.<br />
يرد احلمل )العرب(: ليس لي أي أخ.<br />
يرد الذئب )إسرائيل- أمريكا(: إذاً فهو أحد<br />
أفراد عشيرتك، ولهذا يجب أن أنتقم لنفسي.<br />
واستناداً إلى مبدأ القوة، يحمل الذئب )إسرائيل<br />
- أمريكا( احلمل )العرب(، مبتعداً إلى عمق<br />
)املشاكل( الغابة ثم يأكله )يحتله(.<br />
هل نفهم من حكاية الذئب واحلمل حتمية<br />
األحداث والتاريخ، مبعنى أننا وافقنا نحن على أن<br />
نلعب دور احلمل )الضحية( وصمتنا ووافقنا على<br />
إسناد دور البطولة )القوة( ألمريكا وإسرائيل بحكم<br />
أنهما ميلكان العلم ومن ميلك العلم ميلك القوة، ومن<br />
ميلك القوة له احلق في ما يفعله، ألنه منذ أن قالها<br />
ميكافيللي »البقاء لألقوى« وهي سارية املفعول؟!<br />
لكن نحن العرب نقول قول ديكارت »دعه<br />
يخدعني بقدر ما يرغب، فإنه لن يفلح بأن يحولني<br />
إلى ال شيء، ما دمت أفكر بأنني شيء ما«... ونكتفي<br />
بهذا ><br />
205<br />
حكاية اجلثة وسياسة الكلب وحكاية أخرى
وتريات<br />
القمر األعشى<br />
تذرف الروح ضحكاتٍ ضامرة<br />
وتتكدس في احللق حجارةً من ملح<br />
فالشموعُ تنفد والليل مازال في مطلعه<br />
واجلرار تفرغ والقيظ مازال في أوله<br />
ما عاد هناك فخرٌ ألحد<br />
انتهى زمن السيف والترس<br />
ما عاد سوى منازل التكاثر املتوجسة<br />
وقلقٌ يعلوه قلق<br />
أيها املنجل األعمى<br />
دع الشوكَ في محنته وأمراضه السارية<br />
وانْهِ وطرَك من الربيع<br />
فالزهرُ املغرور اعتلى الثرى<br />
يدعوكَ بعطره<br />
فاستَجِ بْ لدعوته<br />
يا عيون األمعاء الفارغة<br />
كيف ترجني النور من قمرٍ أعشى؟!<br />
أغمضي جفنيكِ ونامي على سُ ررِ الكوابيس<br />
مسملةَ الرجاء<br />
إني ألدعوكِ :<br />
أدعوك للنوم أيتها النائمة<br />
للحلم أيتها احلاملة<br />
أيتها البلبلة في جوقةِ الغربان ابقي نائيةً هكذا<br />
وال تلجي مطاف النفس<br />
فأنفاسكِ الباردة لن ينهي ارجتافها<br />
أغطيةٌ من ثلج...<br />
وجسدكِ املُدمّ ى لن يوقف نزفَه عقاقير<br />
املشعوذات.<br />
أوس عطا أبو العطا - سورية<br />
العدد - 692 يوليو 2016<br />
206
الكويت عاصمة الثقافة اإلسالمية 2016<br />
عزيزي العربي<br />
من خواطر عاشق لمجلة العربي<br />
إن كاتب هذه السطور من<br />
قرَّاء مجلة العربي الدائمني منذ<br />
صدورها، وفي البداية أتذكر مقولة<br />
سجلتموها وكتبتم عنها في افتتاحية<br />
»عزيزي القارئ« في أحد أعداد شهر<br />
يناير منذ زمن بعيد، وألنها مفيدة<br />
وطريفة معاً، فإنني أتذكر ملخصها<br />
في ما يلي، ألنني هنا أعتمد على<br />
الذاكرة بفضل الله تعالى:<br />
»إذا كان في العالم ألف شخص<br />
صالح، فيجب أن تكون واحداً منهم،<br />
وإذا كان في العالم مائة شخص<br />
صالح، فيجب أن تكون واحداً منهم،<br />
أما إذا لم يكن في هذا العالم إال<br />
شخص واحد صالح، فيجب عليك<br />
أن تكون أنت هذا الشخص«.<br />
هذه املقولة رغم مثاليتها فقد<br />
أسعدتني كثيراً، ليس بالنسبة<br />
إلي شخصياً فقط بل وأيضاً في<br />
ما يخص مجلتنا الغرّاء العزيزة<br />
على قلوبنا والقريبة من عقولنا،<br />
ألنها فعلالً فريدة بيني مثيالتها<br />
على مستوى اإلصدارات الثقافية<br />
احملترمة في لغة الضاد.<br />
وأذكر أنني ذهبت ألحد األطباء<br />
املعاجليني لي، وفوجئت بوجود<br />
مجلة العربي من بيني الصحف<br />
واملجالت أمام املرضى املنتظرين<br />
في االستراحة، وقبل الدخول في<br />
تفاصيل ما أعاني منه، كانت البداية<br />
في احلديث معه أنني أرى ألول<br />
مرة مجلة العربي في عيادة أحد<br />
األطباء فضحكنا من القلب، وأخذ<br />
كل منا يتبارى في الثناء على املجلة<br />
ومكانتها لديه.<br />
وعندما ذهبت لالستشارة بعد<br />
ذلك، أخذت معي أربعة أعداد<br />
حديثة الصدور لتكون حتت رغبة<br />
القرّاء املترددين على العيادة، وكذلك<br />
E.mail: subscribe@<strong>alarabi</strong>.info<br />
قسيمة جتديد اشتراك / اشتراك جديد<br />
االسم الثالثي<br />
العنوان البريدي<br />
العنوان اإللكتروني<br />
الهاتف: )املنزل(<br />
)العمل(<br />
الهاتف اجلوال<br />
207<br />
عزيزي العربي
األطباء الذين أتعامل معهم.<br />
من هنا كانت هذه السطور<br />
وهذا املقال كتعبير صادق وعملي<br />
عن عشقي لهذه املجلة كسفيرة<br />
فوق العادة – كما يقولون – للغة<br />
العربية، ورافد جيد لألدب الرصني<br />
في كل فروعه من شعر وقصة مع<br />
استطالعات جغرافية توسع املدارك<br />
مبا يشكل بحيرة مياه عذبة ثقافية<br />
يرتشف منها كل مثقف وهو مطمئن<br />
من دون التطرق ملا في الساحة من<br />
النماذج إياها، بل يكفي أنك عندما<br />
جتد شخصاً يشتريها من بائع<br />
الصحف، من السهل أن تصفه بأنه<br />
قارئ غير عادي يبحث عن ثقافة<br />
جادة هادفة تنمي الذوق األدبي.<br />
وكثيراً ما يزورني أحد األصدقاء<br />
ويرى املجلة بعد انتهائي من االطالع<br />
عليها فأعطيها له كهدية ثقافية<br />
لتشجيعه على االستفادة منها.<br />
رغم حصولي على املجلة عن<br />
طريق إدارة االشتراكات بجريدة<br />
األهرام، فمع ذلك تصلني متأخرة<br />
عن موعد صدورها شهرين ورمبا<br />
ثالثة شهور، وكان هذا من العوامل<br />
املساعدة لكتابة هذه السطور<br />
للسادة املسؤولني في املجلة وللقرّاء<br />
أيضاً، وأكتب ما أكتبه بدافع احلب<br />
واحلرص على املجلة.<br />
بعض املالحظات<br />
نبدأ باملالحظات السريعة التي<br />
من السهل تالفيها لراحة القرّاء<br />
األعزاء:<br />
امللحوظة األولى: نقرأ التعليق<br />
على بعض الصور في االستطالع<br />
الصحفي املفيد، وكتابة التعريف<br />
بهذه الصور واملناظر التي تسجلها<br />
من األفضل أن تكون في سطور<br />
مستقلة بعيدة عن هذه الصور لبقاء<br />
جمال الصورة واحلفاظ عليها، حيث<br />
قال كونفوشيوس إن الصورة اجليدة<br />
تُغني عن ألف كلمة، هذا إلى جانب<br />
سهولة القراءة وفهم املقصود منها.<br />
امللحوظة الثانية: نقرأ بعض<br />
السطور كمقدمة للمقال أو<br />
لالستطالع الصحفي ببنط ال<br />
أتذكر نوعه اآلن، ليس من السهل<br />
قراءته وفهم معناه بالنسبة لكثير من<br />
القرّاء، وكتابة هذه املقدمة بالبنط<br />
العادي مثل بقية املقال أفضل كثيراً،<br />
حيث تيسر على حزب مستخدمي<br />
نظارات القراءة وما أكثرهم في هذه<br />
األيام.<br />
وأخيراً: ليتكم تتكرمون بعمل<br />
استبيان – ولو كل فترة - الستطالع<br />
آراء القرّاء وما لديهم من مالحظات<br />
ضع عالمة ✓ أمام املطبوعة املطلوب االشتراك فيها<br />
)1( قيمة االشتراك السنوي ل »العربي« للمشتركني من الوطن العربي:<br />
8 دنانير أو ما يعادلها بالدوالر األمريكي.<br />
باقي دول العالم 10 دنانير أو ما يعادلها بالدوالر األمريكي أو اليورو األوربي.<br />
)2( قيمة االشتراك السنوي ل »العربي الصغير« للمشتركني من الوطن العربي:<br />
6 دنانير أو ما يعادلها بالدوالر األمريكي.<br />
باقي دول العالم 8 دنانير أو ما يعادلها بالدوالر األمريكي أو اليورو األوربي.<br />
)3( قيمة االشتراك في كتاب العربي: 5 دنانير أو ما يعادلها بالدوالر األمريكي<br />
باقي دول العالم 16 دوالرًا أمريكيًا.<br />
توقيع طالب االشتراك:<br />
ترسل قيمة االشتراك مبوجب حوالة مصرفية أو شيك بالدينار الكويتي باسم وزارة اإلعالم<br />
مع القسيمة على العنوان التالي:<br />
مجلة العربي - قسم االشتراكات<br />
دولة الكويت - ص.ب: - 748 الصفاة - الرمز البريدي - 13008 بدالة: )00965( 22512086/82/81 - فاكس: )00965( 22512044<br />
State of Kuwait - P.O. Box: 748 Safat 13008-Tel.: (00965) 22512086/82/81-Fax: (00965) 22512044<br />
العدد - 692 يوليو 2016<br />
208
الكويت عاصمة الثقافة اإلسالمية 2016<br />
أو اقتراحات ميكن االستفادة منها.<br />
بعض االقتراحات<br />
تبقى بعض االقتراحات املهمة<br />
والهادفة واملفيدة لكل من القارئ<br />
واملجلة على حد سواء، وليسمح لي<br />
القارئ العزيز بتركيزها في النقاط<br />
اآلتية:<br />
األولى: املجلة حالياً ثمنها مائة<br />
وخمسة وعشرون قرشاً في جمهورية<br />
مصر العربية كما هو مدون في صدر<br />
املجلة حتى عدد أبريل 2016، ولكن<br />
ما املانع من حتريك السعر قليالً<br />
ليكون ثالثة جنيهات مثالً.<br />
صحيح أن دولة الكويت الشقيقة<br />
تعتبر املجلة هدية مدعومة مالياً لكل<br />
املثقفين العرب، لكنني أعتقد أن<br />
جميع القرّاء ال مانع لديهم من هذه<br />
الزيادة في السعر ويوافقون عليها<br />
نظراً الرتفاع أسعار الورق واألحبار<br />
وتكاليف الشحن والطبع والتوزيع<br />
وعموالت املوزعين احمللين في كل<br />
قُطر.<br />
الثانية: ليتكم تفكرون جدياً<br />
في إعادة طبع املجلة بالقاهرة ليتم<br />
توزيعها بسهولة بجمهورية مصر<br />
العربية وجميع دول املغرب العربي<br />
توفيراً للوقت واجلهد.<br />
الثالثة: كان املتبع من زمن بعيد<br />
إصدار هدية سنوية مع عدد يناير<br />
من كل عام، ولقد توقفت مع األسف<br />
هذه الهدايا، ومن الضروري إعادة<br />
إصدارها بشكل منظم ومدروس<br />
جيداً كاخلرائط مبختلف أنواعها<br />
وألوانها وأشكالها، مع مراعاة أن<br />
يُلحق باخلرائط اإلدارية قائمة<br />
بأسماء كل املدن على مستوى العالم<br />
العربي، ثم بعد ذلك صور بحجم كبير<br />
للحرمن الشريفن واملسجد األقصى<br />
واجلامع األزهر... وهكذا.<br />
من املفيد أيضاً إرشاد القراء<br />
لكيفية احلفاظ على أعداد املجلة<br />
لالستفادة منها، وال بأس من إنقاص<br />
عدد صفحاتها ولو 10 صفحات على<br />
األقل ملواجهة احلاجة إلى اللوحات<br />
اجلميلة املنتظرة بإذن الله تعالى،<br />
مع مراعاة أن يتم التنفيذ من اآلن<br />
فصاعداً وبصفة شهرية.<br />
الرابعة واألخيرة: كما نرى أن<br />
املجلة خالية متاماً من اإلعالنات<br />
التجارية املدفوعة األجر، وأعتقد أنه<br />
ال مانع وال حرج في أن تتحرك إدارة<br />
اإلعالنات في املجلة وتركز بصفة<br />
خاصة على شركات ودور النشر<br />
الثقافية على اعتبار أن هذا هو<br />
املجال الطبيعي للتسويق الثقافي أمام<br />
قرّاء املجلة الذين هم – واحلمد لله<br />
– ليسوا قرّاء عادين وهم في حاجة<br />
إلعالمهم بآخر اإلصدارات احلديثة<br />
في مجال الكتب واملراجع املهمة، ومن<br />
القواعد العامة واملرعية في اإلعالم<br />
أال تزيد املساحة اإلعالنية على<br />
40 في املائة من مساحة املطبوعة<br />
كصحيفة أو مجلة، وخصوصاً أن<br />
أرقام التوزيع مرتفعة في ما أعتقد،<br />
حيث إنني أعرف أن عدد النسخ<br />
التي يتم توزيعها في جمهورية مصر<br />
العربية وحدها يصل إلى خمسين<br />
ألف نسخة على األقل بخالف بقية<br />
الدول العربية واألجنبية.<br />
وفي هذا الصدد، ال أتذكر أنكم<br />
قمتم بنشر بيان عن توزيع عدد نسخ<br />
املجلة مع أن نشره في هذه الظروف<br />
يفيد كثيراً.<br />
... وختاماً<br />
من فضلكم سرعة االستجابة<br />
لتحقيق الفائدة املرجوة وأيضاً<br />
الباب مفتوح على مصراعيه أمام كل<br />
من لديه اقتراح بناء أو رأي مفيد.<br />
وأخيراً، نرجو أن تكون هذه<br />
السطور محل دراسة للتنفيذ<br />
القريب وأيضاً نضعها أمام السادة<br />
املتخصصين في املجلة وخارجها<br />
لإلضافة إليها والبناء عليها.<br />
والله من وراء القصد وهو<br />
الهادي إلى سواء السبيل.<br />
عثمان علي اجلوهري<br />
نائب مدير حترير<br />
جريدة األهرام - مصر<br />
رسائلكم<br />
وصلتنا<br />
أشرف سعد/مصر، د.هواش عمر الصالح/سورية، محمود<br />
أحمد الورداني/مصر، مراد تازي/املغرب، بدرالدين مجاود/<br />
اجلزائر، عبدالله محمد/العراق، أبوعدنان القاضي/اليمن،<br />
أحمد املجيني/سلطنة عُ مان، زكريا موسى الخضر/سان<br />
فرانسيسكو.<br />
209<br />
عزيزي العربي
الكويت عاصمة الثقافة اإلسالمية 2016<br />
إلى أن<br />
نلتقي<br />
فاطمة حسين العيسى *<br />
كاتبة من الكويت<br />
من أحالم اليقظة<br />
من النادر جداً أال يتفاعل اإلنسان مع الطبيعة، فمثلما نتحرك نحن قياماً وقعوداً، ثباتاً وحركة، صمتاً وضجيجاً،<br />
تستوعبنا الطبيعة ونستوعبها مرة أخرى، ألن الله تعالى أوجدنا وأوجدها وأوجد احلركة التي تربطنا بها، فمعها<br />
نعيش الصوت والصدى، ونعيش اجلمود واحلركة، متاماً كما نستوعب الليل والنهار.<br />
ومثلما متلك الطبيعة حركتها اخلاصة التي تفرضها علينا، فإننا كذلك منلك طبيعتنا اخلاصة التي نفرضها<br />
عليها، وهكذا تستوي عالقتنا بالطبيعة بني شدّ وجذب، وأخذ وعطاء، ونقص وكمال، نقص ميثل احلاجة، وكمال<br />
يؤدي واجبه في السدّاد.<br />
إنها غذاء الشعراء واألدباء والفالسفة وكل من يحمل على كتفيه رأساً يفكر أو يحلم، ثم يرسم اللوحة<br />
اإلنسانية.<br />
لذا، وجدتني أتوسطها على ساحل البحر، تغوص قدماي في الرمل، وينطلق ناظري جتاه املوج سارقاً اهتمامي،<br />
فأبدأ في عدّ األمواج مع شهيقي بالبهجة وأبتسم لها مع الزفير، وأترك الزَبَد يعبث بأصابع قدمي وأطلق أذناي<br />
في تركيز محبب مع »سوناتا« املدّ واجلزر، ثم أصلّي معلقة ناظري بشروق الشمس وابتسامتها اخلجولة, وأبدأ<br />
يومي.<br />
ومثلما يقال عن الهواء إنه إكسير احلياة، فإن املاء إكسيره اآلخر، حلوه ومرّه، لقد حبا الله تعالى كرتنا األرضية<br />
ببقع من املياه كبيرها وصغيرها، فمن احمليطات تتولد البحار، والبحار تلد اخللجان، واخللجان ترنو من اإلنسان<br />
بسواحلها التي تناديه دوماً لالستمتاع بها واالستفادة طعاماً ومتعةً، وما علينا نحن - البشر - إال أن نُعمل العقل<br />
بأساليب االستفادة واملتعة.<br />
فمن االستفادة غذاء، ومن املتعة مساحات للراحة تصل اجلهد باجلهد لتكمل دورة احلياة. فالعيش على هذه<br />
األرض يحتاج إلى »احليوية« حتى يستمر ويعطي سعادة لإلنسان تساهم في منو الوجود واستمراره... سعادة<br />
تشكّل نبعاً ال ينضب من العطاء الرباني يأخذ بيد الكون مبن فيه إلى السمو.<br />
واملوج - فن الصوت والصورة معاً - يحوّل »السوناتا« إلى »كونشيرتو«، وهو حلن األخذ والردّ، وال يلبث مع<br />
صبرنا عليه - متعة - وصبره علينا - استمتاعاً - حتى يتحول إلى موقع »السيمفونية« بأجزائها األربعة الرائعة،<br />
تأخذنا إلى عالم الواقع واحلقيقة واحللم، مستذكرين رواية املبدعة غادة السمان »ال بحر في بيروت«، وكذلك<br />
أغنية ليلى مراد:<br />
يا ساكني مطروح<br />
جنيّة في بحركم<br />
الناس جتي وتروح<br />
وأنا عاشقة حيّكم<br />
العدد - 692 يوليو 2016<br />
210