alarabi_July-Comp
You also want an ePaper? Increase the reach of your titles
YUMPU automatically turns print PDFs into web optimized ePapers that Google loves.
ثابتاً وال تستطيع اليد أن متسك بأي شيء وال<br />
حتى أن متضي العين مع أحالمها. وأخيراً تظل<br />
رحلة القطارات مستمرة. لكنّ الراحلن يصلون<br />
وال يصلون. وليس القطار هنا سوى تعبير رمزي<br />
عن رحلة احلياة ما بن ماضي البشر ومستقبلهم،<br />
لكن من الواضح أن املستقبل يبدو معتماً إلى<br />
درجة تدني بينه واملوت، وهو املعنى الذي يحمله<br />
املقطع الثاني املرتبط مبحطات القرى، حيث<br />
تتحول القطارات إلى قطارات للسهاد الذي ال<br />
ترى فيه األعن النوم وال تلمح سوى أجنحة الغبار<br />
املتطاير الذي تهدأ حركته في استرخاءة الدنو،<br />
فال نرى في ما عداه سوى النسوة املتشحات<br />
بالسواد، ذابت أعينهن من التحديق والتطلع إلى<br />
وجوه الغائبين منذ أعوام احلداد. واملقصود هنا<br />
أعوام هزمية 1967 التي رسمت كل شيء بالسواد<br />
وأطلقت املوت كالغبار على كل محطات احلياة،<br />
حيث لم يبق سوى النسوة املتشحات بالسواد<br />
وهن يتطلعن إلى هذا القطار لعله يحمل أبناءهن<br />
الغائبين، ويطول انتظارهن حتى تتآكل العيون،<br />
كناية عن ال نهائية أيام االنتظار، وتتآكل الليالي<br />
التي ال تتوقف عن املرور بل تتآكل القطارات من<br />
الرواح والغدو، ولكن الغائبن عن تراب الوطن<br />
الذي أصبح كاجلمر، يضيق بأبنائه ويلقي بهم<br />
إلى املوت فيصبح صورة أخرى من العدو. ويطول<br />
االنتظار باألمهات املتشحات بالسواد، ولكن<br />
األبناء ال يرجعون إلى البالد وال يبعثون شيئاً من<br />
الفرح أو األمل في مناسبات األعياد. والفارق<br />
بن الصورتن هو الفارق بن قصيدة »سفر ألف<br />
دال« املتأخرة نسبياً وقصيدة »املوت في الفراش«<br />
التي كتبها أمل في أعوام سابقة، ونشرها في<br />
ديوانه األول، وما بن القصيدتن تتنوع صور أمل<br />
كالعادة، فلال يكتفي بالرمزية التي تفترش دوالها<br />
الصورتن األولين، بل متضي قصائده منطوية<br />
على غبار املوت الذي ينسل في كل قصائده.<br />
وميكن أن نضع إلى جانب هاتن الصورتن،<br />
صورة كنائية موجودة في قصيدة »املوت في<br />
الفراش«، خصوصاً املقطع الثاني منها، حيث<br />
نقرأ:<br />
نافورة حمراء<br />
طفل يبيع الفل بني العربات<br />
مقتولة تنتظر السيارة البيضاء<br />
كلب يحك أنفه على عمود النور<br />
مقهى، ومذياع، ونرد صاخب، وطاوالت<br />
ألوية ملوية األعناق فوق الساريات<br />
أندية ليلية<br />
كتابة ضوئية<br />
الصحف الدامية العنوان: بيض الصفحات.<br />
حوائط، وملصقات...<br />
تدعو لرؤية )األب اجلالس فوق الشجرة(<br />
والثورة املنتصرة!<br />
ومجمل األسطر السابقة يصنع كناية ضخمة،<br />
تتكون من مجموعة من الكنايات الصغيرة.<br />
والطابع البصري غالب عليها متاماً، فهي أسطر<br />
تخاطب العن وجتذبها إليها. وهذه من خصائص<br />
الكناية في البالغة العربية، فالكناية غالباً ما<br />
تنطوي على إحساس بصري، وال تخلو األسطر<br />
من سخرية )األب اجلالس فوق الشجرة( والثورة<br />
املنتصرة؛ فاألب اجلالس فوق الشجرة إشارة إلى<br />
فيلم شهير لعبداحلليم حافظ عن قصة إلحسان<br />
عبدالقدوس، مؤداها أن أحد اآلباء ذهب ابنه إلى<br />
اإلسكندرية لقضاء عطلة الصيف، وبلغ األب أن<br />
ابنه انحرف على يد راقصة في أحد املالهي،<br />
فيذهب األب لينقذ االبن، ولكنه بدالً من ذلك يقع<br />
هو في فخ الغواية. وهكذا أصبح كالطائر الذي وقع<br />
في شراك أحد الفخاخ املنصوبة فوق شجرة من<br />
أشجار الغابة. واملفارقة واضحة متاماً في الفارق<br />
الكبير والساخر ما بن فيلم يتحدث عن غواية<br />
أب وابنه والثورة املنتصرة التي لم تشهد انتصاراً<br />
حقيقياً قط، كما لو كانت حالها حال األب الذي<br />
ذهب إلنقاذ ابنه من الغواية فوقع فيها. ولو عاودنا<br />
النظر في مجموع األسطر السابقة الكتشفنا أنها<br />
مجموعة من املشاهد املتالصقة واملتجاورة على<br />
طريقة التقطيع السينمائي للمشاهد التي ترينا<br />
عدداً غير قليل من املشاهد املوصولة التي قصد<br />
بها أن تؤدي انطباعاً كلياً عما كان يحدث في عالم<br />
املدينة الكبيرة في سنوات الهزمية التي جاءت في<br />
أعقاب 1967. ولذلك فهي مشاهد يفترشها املوت<br />
بشكل أو آخر، فهناك – أوالً - مشهد املقتولة التي<br />
العدد - 692 يوليو 2016<br />
20