10.08.2016 Views

alarabi_July-Comp

You also want an ePaper? Increase the reach of your titles

YUMPU automatically turns print PDFs into web optimized ePapers that Google loves.

إن تاركوفسكي ال يستخدم التتابع السينمائي كما<br />

هو متعارف عليه كالسيكياً،‏ بل تبدو أفالمه وكأنها<br />

مضادة للسينما.‏ السينما التي أخضعت مركز احلس في<br />

عقل اإلنسان لنوع معقد من التدريب،‏ والتي راحت تشبع<br />

حاجة جديدة خلقتها إلى املثيرات،‏ في أفالم يؤسَ‏ ‏س<br />

اإلدراك فيها في شكل صدمات متتالية،‏ وكأن إيقاع<br />

اإلنتاج الصناعي الكبير على سير ناقل احلركة في خط<br />

التجميع قد انتقل هو أيضاً‏ إلى طريقة الفرجة،‏ وحدد<br />

إيقاع الفيلم.‏<br />

هنا يأتي تاركوفسكي ليطيح بكل ذلك بضربة<br />

جمالية واحدة،‏ وكأنه يبارز اإلنتاج الكبير بالعمل اليدوي<br />

احلرفي املرتبط بإرادة صانعه،‏ تلك اإلرادة التي تختفي<br />

في اإلنتاج الرأسمالي الفيلمي،‏ حيث اإلنتاج فيها<br />

مستقل عن إرادة السينمائي؛ يدخل الفيلم إلى مجال<br />

حركته ويبتعد في خط اإلنتاج من دون إرادته،‏ ويتعلم<br />

اجلميع تنسيق حركاتهم وحيواتهم وأفكارهم مع احلركة<br />

املنتظمة لإلنتاج السينمائي الكبير؛ الذي يعمل بدوره<br />

كمخدر،‏ وكوسادة المتصاص الصدمات في املجتمع<br />

االستهالكي؛ مثل العربات املتصادمة في مدينة املالهي<br />

التي تقوم بدور اإللهاء وتفريغ الصدمات للزبون.‏ وبهذا<br />

املعنى يصبح اإليقاع السريع في األفالم التجارية الزماً،‏<br />

وهو مياثل اإليقاع السريع حلركة يد موزع الورق في<br />

ألعاب احلظ والقمار،‏ والكدح الذي ميارسه العاملون<br />

في السينما هنا يشبه الكدح الذي ميارسه املقامر على<br />

طاولة اللعب؛ الالجدوى نفسها،‏ واخلواء،‏ ونفاد الصبر،‏<br />

واآللية،‏ والعجز عن القيام إال برد فعل انعكاسي،‏ وكأنهم<br />

شخصيات الزومبي اخليالية التي قضت متاماً‏ على<br />

ذاكرتها واستسلمت الستحواذ نهم احلواس.‏<br />

أما عمل تاركوفسكي املضاد فيؤسَ‏ س على استخدام<br />

اللقطة املشهدية الطويلة،‏ واإليقاع املتمهل ‏)الالزم<br />

للتأمل(،‏ مبا يستتبع ذلك من ‏»ميزانسني«‏ داخل اللقطة<br />

الواحدة ‏)أي حركة املمثليني واألكسسوار والكاميرا<br />

وعالقاتهم ببعضهم(،‏ وكأنه بهذه الطريقة ينفي املونتاج<br />

نفسه،‏ باإلضافة إلى حترمي املونتاج املتسارع ‏»الذي<br />

يعني اختزال الزمن«،‏ وحترمي القطع املتوازي ‏)أي<br />

حترمي اإلدراك املتزامن(،‏ وكأنه هنا يعمل ضد ما اعتُبر<br />

اإلجناز العظيم للسينما:‏ تسجيل حدثني في مكانني<br />

مختلفني في الزمن نفسه.‏<br />

من أهم اللقطات املشهدية التي ال ينساها املُشاهد؛<br />

مشهد أندريه احملتضر في ‏»نوستاجليا«‏ وهو يحاول<br />

عبور ينبوع املاء اجلاف من طرفه األقصى إلى طرفه<br />

اآلخر حامالً‏ شمعة يحاول احلفاظ على شعلتها.‏<br />

تنطفئ الشمعة لهبوب الريح،‏ فيعود أندريه إلى البداية<br />

ويعيد إشعال الشمعة ويلمس اجلدار ويشرع في العبور<br />

من جديد،‏ ويتكرر األمر وتنطفئ الشمعة مرة أخرى،‏<br />

وتستمر كاميرا تاركوفسكي مع محاوالت أندريه<br />

املتكررة في حماية نور الشمعة وإيصالها للجانب اآلخر،‏<br />

في لقطة مشهدية واحدة تقارب الثماني دقائق كاملة،‏<br />

متحركة بحرص ومتهل.‏ إيقاع الكاميرا املتمهل هنا<br />

في غاية األهمية؛ فالكاميرا تتبع أندريه وال تسبقه،‏<br />

وال تتوقع احلركة،‏ ما يحدد مهمة الكاميرا في سينما<br />

تاركوفسكي؛ إنها التأمل ال حتريك األحداث.‏<br />

وألن وظيفتها هي التأمل،‏ ترتفع الكاميرا عند<br />

تاركوفسكي أعلى من مستوى الشخصيات،‏ على عكس<br />

الكاميرا في هوليوود التي يجب أن ينخفض مستواها<br />

عن الشخصيات حتى تُبرز أعني النجوم،‏ وعلى عكس<br />

الكاميرا شديدة االنخفاض عند ياسوجيرو أوزو مثالً؛<br />

التي تلتحم باألرض لتصور روح الضجر في اإلنسان<br />

والعدمية في العالم.‏ ال،‏ إن كاميرا تاركوفسكي ليست<br />

كاميرا أرضية،‏ فهي متعالية في الفضاء؛ ترنو إلى<br />

األرض وتتأمل روح اإلنسان في شفقة.‏<br />

اللقطة املشهدية الطويلة هي كاحملقق الذي<br />

يُخضع العالم لالستجواب ليُدلي باعترافه ويكشف<br />

عن احلقيقة.‏ لكن اللقطة الطويلة لتاركوفسكي<br />

ليست هي اللقطة التسجيلية الطويلة نفسها لروبرت<br />

فالهيرتي مثالً‏ في فيلم ‏»نانوك رجل الشمال،‏<br />

‎1922‎‏«؛ فاألخيرة كان طموحها تسجيل الزمن<br />

الفعلي النتظار رجل اإلسكيمو وهو يصطاد الفقمة،‏<br />

وكان طموح فالهيرتي أن يجعل املُشاهد ينتظر<br />

الزمن نفسه الذي ينتظره اإلسكيمو للظفر بصيده.‏<br />

أما اللقطة الطويلة لتاركوفسكي فإن طموحها<br />

ليس تسجيل الواقع،‏ وال هو حتى طموح الشاعر<br />

الرومانسي في نقل جماليات العالم والطبيعة،‏ ولكنه<br />

طموح خلق عالم ذاتي باطني خاص.‏ إن تاركوفسكي<br />

ال يُسجل،‏ إنه يخلق،‏ إنه يستبعد العالم الواقعي من<br />

كادراته لتحل محله عوالم النفس البشرية،‏ والتذكر،‏<br />

وحاالت الروح،‏ ومتوجات األحلالم.‏ وبهذا املعنى<br />

يتيح اإليقاع املتمهل الفرصة ألن تنهض اللقطة<br />

العدد - 692 يوليو 2016<br />

144

Hooray! Your file is uploaded and ready to be published.

Saved successfully!

Ooh no, something went wrong!