10.08.2016 Views

alarabi_July-Comp

You also want an ePaper? Increase the reach of your titles

YUMPU automatically turns print PDFs into web optimized ePapers that Google loves.

السوفييتي؛ من السياسيني والرقباء على حد سواء.‏<br />

كان يرى أن شرط الفنان السينمائي هو اإلخالص<br />

الكامل لفنه،‏ وكان تقديره ضئيالً‏ ملن هم ليسوا أهالً‏<br />

لذلك؛ أولئك الذين يضعون الفن في خدمة السياسي<br />

أو التاجر.‏ كان أيضاً‏ ميقت طريقة ‏»هوليوود«‏ في صنع<br />

األفالم التجارية بالطريقة نفسها التي يتم بها إنتاج<br />

السجائر واملياه الغازية،‏ ولكونه فناناً‏ حراً‏ كان يحتقر<br />

هذا النوع من النجاح،‏ وعرف أن الثمن الذي يُدفع<br />

للحصول على اجلمال اخلالص هو التضحية بالنفس<br />

قرباناً‏ للفن.‏<br />

الزمن في سينما تاركوفسكي<br />

آمن تاركوفسكي بأن املادة اخلام للسينما هي الزمن،‏<br />

فهو املادة األولية الوحيدة التي ال يستطيع السينمائي أن<br />

يخلقها؛ هو مكمن قوة وفخر السينما ‏»ونقطة ضعفها<br />

في آن واحد«،‏ فالسينما هي الوسيلة الفنية األكثر<br />

قدرة على عرض الزمن،‏ والوعي بجمالياته،‏ وبنائيته،‏<br />

وحتوالته.‏<br />

رمبا يكون فيلمه ‏»املرآة«‏ هو املثال األوضح<br />

على الفكرة املعقدة للزمن لدى تاركوفسكي،‏ وعلى<br />

طريقته في استخدام الزمن.‏ ف ‏»املرآة«‏ هو فيلم عن<br />

املخرج نفسه وعن ذكريات طفولته،‏ وبالتالي فإنه ال<br />

يتناول زماناً‏ واحداً،‏ بل يتراوح السرد فيه بني األمام<br />

واخللف،‏ في احلاضر واملاضي،‏ وعلى نحو يصبح<br />

فيه املاضي حاضراً،‏ وتذوب فيه اخلطوط الفاصلة<br />

بينهما،‏ بفكرة الدميومة نفسها عند الفيلسوف الكبير<br />

هنري برجسون؛ أي إن الزمن هنا هو الزمن النفسي<br />

الداخلي،‏ الذي يتكون من حلظات من املاضي<br />

واحلاضر متجددة دون انقطاع،‏ تتداخل مع بعضها<br />

بعضاً‏ لتشكل تياراً‏ واحداً،‏ وبهذا املعنى يكون الزمن<br />

هو دميومة حية ومعيشة،‏ يعيشها اإلنسان داخلياً،‏<br />

وتُبقي األحوال املاضية حية ومتجانسة وعضوية<br />

داخل األحوال احلاضرة.‏<br />

يتحرك فيلم ‏»املرآة«‏ بحرية محسوبة حساباً‏ دقيقاً،‏<br />

ما بني احلاضر واملاضي،‏ ما بني األلوان واألبيض<br />

واألسود،‏ ما بني الدراما واملادة التسجيلية وإعادة خلق<br />

الوقائع.‏ ولكنه في تناوله للماضي ليس فيلماً‏ عادياً‏<br />

من أفالم السير الذاتية للمخرجيني.‏ فحتى اجلزء<br />

التسجيلي في الفيلم،‏ الذي يتناول فترات:‏ ‎1935‎م،‏<br />

‎1943‎م،‏ ‎1969‎م،‏ يكون التذكر فيه تذكراً‏ موضوعياً‏ ال<br />

ذاكرة ذاتية.‏ وبقدر ما تبدو املشاهدة األولى صعبة<br />

ومربكة،‏ فإن املشاهدات التالية تثبت كم أن الفيلم<br />

شديد الطبيعية واالتساق والعضوية في حكي قصة<br />

الذكريات باستخدام األسلوب البصري.‏ إن فيلم<br />

‏»املرآة«‏ يطمح إلى احلب،‏ ولكن ليس من أول نظرة،‏<br />

بل من آخر نظرة.‏ فالفيلم اخلالي من الصدمات،‏<br />

يتسلل في املشاهدات التالية إلى وعي املتفرج،‏ فيصبح<br />

جزءًا من خبرته الشخصية،‏ وكأن مضي الزمن هنا<br />

هو احملدد لتقييم جمالية الفيلم،‏ مثلما تبدو قطعة<br />

موسيقية غريبة في البداية ثم تعتادها النفس حتى<br />

تصبح هي املثال على الطبيعية في الفن،‏ ألن فيها<br />

تتحقق قوانني اجلمال.‏<br />

إن كل شيء عند تاركوفسكي هو عن الزمن،‏<br />

واملكان عنده خادم في بلالط الزمن،‏ بل إنه يحل<br />

تعبيرياً‏ في كثير من األحيان محل الزمن الذي يكون<br />

هو من وراء القصد،‏ كما حتل املسافة املكانية محل<br />

املسافة الزمانية،‏ فيصبح النجم املذنّب الذي يقطع<br />

املسافة املكانية في الفضاء هو الرمز لتحقيق أمنية<br />

يتمناها املرء في زمن مقبل،‏ وبهذا املعنى يصبح<br />

املكان رمزاً‏ للزمن في فيلم ‏»سوالريس«،‏ الذي تدور<br />

أحداثه في محطة فضائية بعيدة عن األرض وقريبة<br />

من كوكب غريب يرسل الذكريات الشخصية لكل من<br />

يقترب منه،‏ فتمحى الفواصل بني املاضي واحلاضر،‏<br />

بل يصبح املاضي أقوى حضوراً‏ من احلاضر نفسه<br />

‏»في صورة الزوجة املتوفاة التي تعود مراراً‏ للحياة<br />

مع البطل في احملطة الفضائية«.‏ في ‏»سوالريس«،‏<br />

كما في ‏»نوستاجليا«،‏ الزمن ليس هو الزمن األرضي<br />

الدنيوي،‏ ليس هو زمن النسيان،‏ ولكنه زمن التذكر،‏<br />

زمن الدميومة.‏ وجعل الدميومة حاضرة على الدوام،‏<br />

واملاضي جزءاً‏ حيوياً‏ من احلاضر هو ما يُخلص الروح<br />

من وسواس الزمن،‏ وهو نفس ما حاول القيام به سابقاً‏<br />

مارسيل بروست في رائعته ‏»البحث عن الزمن الضائع«،‏<br />

التي أسسها على إعادة تخليق اخلبرة املاضية ضمن<br />

شروط احلاضر املعيش.‏<br />

هنا تتحد احلياة الفعلية مع احلياة التأملية،‏ ويكون<br />

كالهما في خدمة الذهن،‏ وتطيع الذاكرة نداءات الذهن<br />

وتستجيب له.‏ فزمن الدميومة متكامل وليس ممزقاً‏ وال<br />

متشظياً،‏ فاملاضي واحلاضر يدوران في تيار واحد،‏<br />

العدد - 692 يوليو 2016<br />

142

Hooray! Your file is uploaded and ready to be published.

Saved successfully!

Ooh no, something went wrong!