23.08.2017 Views

ملة إبراهيم ودعوة الأنبياء والمرسلين

Mektebe -> Arapça Kitablar -> Akide

Mektebe -> Arapça Kitablar -> Akide

SHOW MORE
SHOW LESS

Create successful ePaper yourself

Turn your PDF publications into a flip-book with our unique Google optimized e-Paper software.

ملّة إبراھیم<br />

<strong>ودعوة</strong> الأنبیاء والمرسلین<br />

وأسالیب الطغاة في تمییعھا وصرف الدعاة عنھا<br />

أبو محمد عاصم المقدسي<br />

منبر التوحید<br />

والجھاد<br />

* * *<br />

http://www.tawhed.ws<br />

http://www.almaqdese.net<br />

http://www.alsunnah.info<br />

http://www.abu-qatada.com<br />

http://www.mtj.tw


<strong>ملة</strong> إبراھیم<br />

براءة<br />

إلى الطواغیت في كل زمان ومكان...‏<br />

إلى الطواغیت حكاماً‏ وأمراء وقیاصرة وأكاسرة وفراعنة وملوكاً...‏<br />

إلى سدنتھم وعلمائھم المضلین...‏<br />

إلى أولیائھم وجیوشھم وشرطتھم وأجھزة مخابراتھم وحرسھم...‏<br />

إلى ھؤلاء جمیعاً..‏ نقول<br />

‏(إنا برءاؤا منكم ومما تعبدون من دون الله)‏<br />

براء من قوانینكم ومناھجكم ودساتیركم ومبادئكم النتنة..‏<br />

براء من حكوماتكم ومحاكمكم وشعاراتكم وأعلامكم العفنة..‏<br />

‏(كفرنا بكم وبدا بیننا وبینكم العداوة والبغضاء أبداً‏ حتى تؤمنوا با‏<br />

وحده)‏<br />

لأجاھدن عداك ما أبقیتني<br />

ولأفضحنھم على رؤوس الملا<br />

موتوا بغیظكم فربي عالم<br />

فا‏ ناصر دینھ وكتابھ<br />

والحق ركن لا یقوم لھدّه<br />

ولأجعلن قتالھم دیدا ‏ِن<br />

ولأفرین أیدیمھم بلسا ‏ِن<br />

بسرائر منكم وخبث جنا ‏ِن<br />

ورسولھ بالعلم والسلطا ‏ِن<br />

أحد ولو جمعت لھ الثقلا ‏ِن<br />

‏(ابن القیم)‏<br />

(1)<br />

منبر التوحید والجھاد


<strong>ملة</strong> إبراھیم<br />

مقدمة<br />

الحمد ولي المتقین،‏ وخاذل أعداء الدین..‏<br />

وأطیب الصلاة وأتم التسلیم على نبینا وأسوتنا القائل:‏ (.. إن الله<br />

اتخذني خلیلاً‏ كما اتخذ إبراھیم)‏ (1) .<br />

وبعد فھذا كتابي <strong>ملة</strong> إبراھیم أقدمھ إلى القراء الكرام بحلتھ الجدیدة<br />

ھذه،‏ بعد أن انتشر وطبع وصور مراراً،‏ وتداولھ الشباب في أرجاء<br />

المعمورة،‏ قبل أن أجھزه للطبع،‏ وذلك أني كنت قد أھدیت منھ نسخة بخط<br />

یدي إلى بعض إخواننا الجزائریین في الباكستان،‏ وكان آنذاك فصلاً‏ من<br />

كتاب كنت أعده في ‏(أسالیب الطغاة في الكید للدعوة والدعاة)‏ حال تقلب<br />

الأیام والتنقل بین الدیار دون إتمامھ،‏ فقام أولئك الإخوة بطبع ذلك الفصل<br />

طبعة بحسب إمكاناتھم المتواضعة،‏ ولكنھا كانت أول خروجھ وسبب<br />

انتشاره.‏<br />

ثم لما فرج الله تعالى بمنھ وكرمھ بادرت إلى إعداده للطبع خصوصاً‏<br />

بعد أن عاینت طوال مدة اعتقالي وسجني مدى غیظ أعداء الله من ھذا<br />

الكتاب،‏ فقد كانوا كلما اعتقلوا أخاً‏ یسألونھ أول ما یسألونھ عن ھذا الكتاب،‏<br />

ھل قرأه؟ وھل یعرف مؤلفھ؟<br />

وكان بعضھم یقول لمن یجیب على ذلك بالإیجاب:‏ ‏"یكفي ھذا لیكون<br />

فكرك جھادیاً‏ وتقتني سلاحاً،‏ ما اعتقلنا تنظیماً‏ مسلحاً‏ إلا ووجدنا عنده ھذا<br />

الكتاب".‏<br />

فالحمد الذي جعلھ شوكة في حلوقھم وغصة في صدورھم وقرحة<br />

في كبودھم وأسأل الله أن یظل لنا سعداً،‏ ومرعاه للطاغوت سعداناً(‏‎2‎‏)‏ .<br />

ھذا ولقد كنت منذ طبع الكتاب طبعتھ تلك إلى حین كتابة ھذه السطور<br />

أنتظر أن یصلني نصح أو تنبیھ،‏ وأتحرى أن أقع على ملحوظات أو<br />

وقفات؛ من كثیر ممن أطالوا ألسنتھم فینا وفي دعوتنا،‏ وفي ھذا الكتاب،‏<br />

ورمونا وبھتونا بما لم یصدر عنا في یوم من الأیام..‏ حتى خطب أحدھم<br />

خطبة جمعة في أحد مساجد الكویت فزعم أني أقول بأني وحدي على <strong>ملة</strong><br />

إبراھیم في ھذا الزمان،‏ وزعم أننا نكفر الناس جمیعھم ھكذا،‏ ووصفنا<br />

بالخوارج المعاصرین،‏ وغیر ذلك من الافتراءات التي ما عادت تنطلي إلا<br />

على مقلدتھم العمیان..‏<br />

(1) جزء من حدیث رواه مسلم عن جندب بن عبد الله مرفوعاً.‏<br />

(2) السعدان:‏ شوك معروف،‏ جاء في الأحادیث أن كلالیب جھنم على صفتھ.‏<br />

(2)<br />

منبر التوحید والجھاد


<strong>ملة</strong> إبراھیم<br />

-<br />

-<br />

أما طلبة الحق الذین استنارت بصائرھم بنور الوحي،‏ فإنھم یعرفون<br />

أن حالنا مع ھؤلاء كما قال الشاعر:‏<br />

وإذا أرادَ‏ اللهُ‏ نشْرَ‏ فضیل ‏ٍة<br />

طُوِیَتْ‏ أتاح لھا لسانَ‏ حسو ‏ِد<br />

فرغم طول المدة التي نشر فیھا الكتاب ورغم كثرة الخصوم<br />

والحساد،‏ ووفرة الطاعنین والشانئین لم یصلني طول ھذه المدة رد أو نقد أو<br />

ملحوظات جادة حول الكتاب،‏ وكل الذي وصلني شقشقات عامة من بعض<br />

المخالفین نقلوھا مشافھة عن شیوخھم ھذا مجملھا:‏<br />

قالوا إن الله وصف إبراھیم بأنھ أواه حلیم لأنھ كان یجادل عن قوم<br />

لوط الكفار،‏ وھذا مناف لعداوتھم التي ذكرتم أنھا من ثوابت ھذه ال<strong>ملة</strong>.‏<br />

وقالوا ‏(ویا عجباً‏ لما قالوا):‏ إننا مأمورون باتباع طریقة محمد<br />

صلى الله علیھ وسلم وملتھ..‏<br />

لنا..‏<br />

-<br />

-<br />

أما <strong>ملة</strong> إبراھیم فھي من شرع من قبلنا وشرع من قبلنا لیس شرعاً‏<br />

وقالوا إن آیة الممتحنة المذكورة فیھا <strong>ملة</strong> إبراھیم مدنیة،‏ فھي نزلت<br />

في مرحلة كان للمسلمین فیھا دولة،‏ وقرروا بذلك أن ھذه ال<strong>ملة</strong> العظیمة إنما<br />

تظھر وتتبع فقط عند وجود الدولة..‏<br />

وقالوا إن حدیث تكسیر الأصنام في مكة حدیث ضعیف،‏ وأوضعوا<br />

بذلك یبغون رد أھم ما جاء في الكتاب بتضعیف ذلك الحدیث.‏<br />

ولعل القارىء الفطن:‏<br />

ینتقد علینا تنزّ‏ لنا معھم للرد على مثل ھذه الأقاویل والتي حقیقتھا كما<br />

قال الشاعر:‏<br />

شبھٌ‏ تھافت كالزجاج تخالُھا<br />

حقّاً‏ وكُل ٌّ كاسرٌ‏ مكسو ‏ُر<br />

ولكنني لا أرى مع ذلك مانعاً‏ من التصدي لھا مخافة أن تنطلي على<br />

البعض أو یتلقفھا بعض الأغرار،‏ خاصة وأنھ لم یصلني غیرھا،‏ فأقول<br />

على وجھ الاختصار..‏<br />

* أولاً:‏<br />

أما قولھ تعالى عن إبراھیم:‏ ‏{فلمّا ذھب عن إبراھیمَ‏ الر َّوْ‏ عُ‏<br />

وجاءتھ البشرى یجادلُنا في قوم لوط * إن إبراھیم لحلیم أواه منیب}‏<br />

‏[ھود:‏ 75-74].<br />

(3)<br />

منبر التوحید والجھاد


<strong>ملة</strong> إبراھیم<br />

فلیس فیھ وجھ دلالة یرقع بھ المجادلون باطلھم فقد روى أھل التفسیر<br />

أن جدال إبراھیم عن قوم لوط،‏ إنما كان لأجل لوط ولیس لأجلھم فذكروا<br />

أنھ لما سمع قول الملائكة:‏ ‏{إنا مھلكوا أھل ھذه القریة}‏ ‏[العنكبوت:‏<br />

قال:‏ أرأیتم إن كان منھم خمسون من المسلمین أتھلكونھم؟<br />

قالوا:‏ لا<br />

قال:‏ فأربعون؟<br />

قالوا:‏ لا<br />

قال:‏ فعشرون؟<br />

قالوا:‏ لا<br />

ثم قال:‏ فعشرة،‏ فخمسة؟<br />

قالوا:‏ لا<br />

قال:‏ فواحد؟<br />

قالوا:‏ لا<br />

.[31<br />

‏{قال إن فیھا لوطاً.‏ قالوا:‏ نحن أعلم بمن فیھا لننجینھ وأھلھ}‏<br />

‏[العنكبوت:‏ 32].. الآیة،‏ وھذا الذي ذكره المفسرون تدل علیھ آیات<br />

الكتاب..‏<br />

فإن من أولى أنواع التفسیر تفسیر القرآن بالقرآن،‏ فآیة سورة ھود<br />

الأولى تفسرھا آیة العنكبوت المذكورة..‏ فھي مبینة مفسرة لھا..‏<br />

قال تعالى:‏ ‏{ولما جاءت رسلنا إبراھیم بالبشرى قالوا إنا مھلكوا<br />

أھل ھذه القریة إن أھلھا كانوا ظالمین * قال إن فیھا لوطاً‏ قالوا نحن أعلم<br />

بمن فیھا لننجینھ وأھلھ إلا امرأتھ كانت من الغابرین}‏ ‏[العنكبوت:‏<br />

-31<br />

.[32<br />

ثم ھب أن جدال إبراھیم كان عن قوم لوط أنفسھم،‏ أولیس المعرفة<br />

بحقیقة دعوة الأنبیاء؛ وأنھم كانوا أرحم الناس بأقوامھم،‏ تستلزم حمل ذلك<br />

الجدال على الحرص على ھدایتھم قبل إھلاكھم؟<br />

أولیس الفقھ السلیم؛ یقتضي حمل مثل ھذا الجدال المطلق،‏ وفھمھ<br />

على ضوء قول النبي صلى الله علیھ وسلم،‏ لما بعث الله إلیھ مَلَك الجبال<br />

(4)<br />

منبر التوحید والجھاد


<strong>ملة</strong> إبراھیم<br />

لیأمره بما شاء في قومھ،‏ حین ردوا دعوتھ،‏ فقال صلى الله علیھ وسلم:‏ ‏(بل<br />

أرجو أن یخرج الله من أصلابھم من یعبد الله وحده لا یشرك بھ شیئاً)،‏<br />

والحدیث رواه الشیخان.‏<br />

أولیس الأدب مع الأنبیاء وحسن الظن بھم یقتضي ھذا الفھم،‏<br />

ویقتضي تنزیھھم عن تلك الأفھام السقیمة،‏ التي تضرب آیات الكتاب<br />

بعضھا ببعض،‏ وتشوّ‏ ه دعوة الأنبیاء وتزري بھم؛ إذ تجعلھم من المرقّعین<br />

للباطل،‏ المجادلین عن الذین یختانون أنفسھم؟؟<br />

وھم الذین ما بعثوا أصلاً‏ إلاّ‏ للبراءة من الشرك وأھلھ..‏<br />

لكن ھؤلاء لما لم یجدوا في الأدلة الصریحة ما یرقّع باطلھم صاروا<br />

إلى ما تھواه أنفسھم من النصوص المحت<strong>ملة</strong> ‏(ظنیة الدلالة)،‏ وأوّ‏ لوھا<br />

بأفھامھم السقیمة،‏ لیطعنوا بھا في نحر النصوص المحكمة البینة القطعیة،‏<br />

كقولھ تعالى في سورة الممتحنة بكل وضوح:‏ ‏{قد كانت لكم أسوة حسنة<br />

في إبراھیم والذین معھ إذ قالوا لقومھم إنا برءاؤا منكم ومما تعبدون من<br />

دون الله}‏ ‏[الممتحنة:‏ الآیة وتأمل كیف صدّرھا الله تعالى بأنھا الأسوة<br />

الحسنة لنا..‏ ثم أتبعھا بالتأكید على ذلك،‏ فقال:‏ ‏{لقد كان لكم فیھم أسوة<br />

حسنة،‏ لمن كان یرجوا الله...}‏ ‏[الممتحنة:‏ 6] فانظر كیف أعرضوا عن<br />

ھذا النص المحكم الواضح الصریح،‏ وحاصوا إلى آیة سورة ھود المتقدمة،‏<br />

والتي یقول الله في آخرھا:‏ ‏{یا إبراھیم أعرض عن ھذا}‏ فتدبر حال القوم<br />

كیف تلاعبت بھم الشیاطین،‏ واحمد إلھك أن ھداك إلى الحق المبین.‏<br />

...[4<br />

* ثانیاً:‏<br />

واجعل لقلبك مقلتین كلاھما<br />

لو شاء ربك كنت أیضاً‏ مثلھم<br />

من خشیة الرحمن باكیتان<br />

فالقلب بین أصابع الرحمن<br />

أما قولھم،‏ إن <strong>ملة</strong> إبراھیم من شرع من قبلنا،‏ وشرع من قبلنا<br />

لیس بشرع لنا،‏ فھو من العجب العجاب،‏ إذ أین یذھب ھؤلاء بقولھ تعالى<br />

الواضح الصریح:‏ ‏{قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراھیم والذین معھ إذ<br />

قالوا لقومھم إنا برءاؤا منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا<br />

بیننا وبینكم العداوة والبغضاء أبداً‏ حتى تؤمنوا با‏ وحده...}‏ ‏[الممتحنة:‏<br />

4]، إلى قولھ تعالى:‏ ‏{لقد كان لكم فیھم أسوة حسنة لمن كان یرجو الله<br />

والیوم الآخر ومن یتولّ‏ فإن الله ھو الغني الحمید}‏ ‏[الممتحنة:‏<br />

.[6<br />

وأین یذھبون بقولھ تعالى:‏ ‏{ومن یرغب عن <strong>ملة</strong> إبراھیم إلا من سفھ<br />

نفسھ}‏ ‏[البقرة:‏<br />

.[130<br />

وبقولھ عز وجل:‏ ‏{ثم أوحینا إلیك أن اتبع <strong>ملة</strong> إبراھیم حنیفاً‏ وما كان<br />

من المشركین}‏ ‏[النحل:‏ 123]، وكم من حدیث صحیح في السنة،‏ یوصي<br />

بھ النبي صلى الله علیھ وسلم باتباع الحنیفیة السمحة <strong>ملة</strong> أبینا إبراھیم،‏<br />

فالنصوص كثیرة وصریحة بأن طریقة النبي صلى الله علیھ وسلم وأصل<br />

(5)<br />

منبر التوحید والجھاد


<strong>ملة</strong> إبراھیم<br />

دعوتھ،‏ كانت البراءة من الكفار ومعبوداتھم الزائفة وشرائعھم الباطلة،‏<br />

وھي عین طریقة إبراھیم علیھ السلام وملتھ..‏<br />

وفي الحدیث المتفق علیھ:‏ ‏(الأنبیاء أولاد علات)‏ أي أن أصلھم واحد<br />

وإن اختلفت فروعھم،‏ وأعظم ما دندنا حولھ في ھذا الكتاب،‏ إنما ھو أصل<br />

التوحید ولوازمھ من البراءة من الشرك والتندید بأولیائھ..‏ ومعلوم أن ھذا<br />

الباب لا نسخ فیھ ولا یقال فیھ،‏ إنھ من شرع من قبلنا،‏ لأن شریعة الأنبیاء<br />

جمیعھم في أصل التوحید والبراءة من الشرك وأھلھ واحدة..‏<br />

قال تعالى:‏ ‏{ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً‏ أن اعبدوا الله واجتنبوا<br />

الطاغوت}‏ ‏[النحل:‏ 36]، وقال سبحانھ:‏ وما أرسلنا من قبلك من رسول<br />

إلا نوحي إلیھ أنھ لا إلھ إلا أنا فاعبدون ‏[الأنبیاء:‏ ، وقال عز وجل:‏<br />

‏{شرع لكم من الدین ما وصى بھ نوحاً‏ والذي أوحینا إلیك وما وصینا بھ<br />

إبراھیم}...‏ ‏[الشورى:‏<br />

دولة..‏<br />

[25<br />

}<br />

{<br />

.[13<br />

* ثالثاً:‏<br />

أما قولھم إن آیة الممتحنة مدنیة نزلت لما كان للمسلمین<br />

فنقول قد أكمل الله لنا الدین وأتم علینا بذلك نعمتھ،‏ فمن أراد الیوم أن<br />

یفرق بین ما أنزل الله،‏ بحجة أن ھذا مدني وذاك مكي،‏ فلیأت ببرھان من<br />

الشرع على ما یرید،‏ وإلا كان من الكاذبین،‏ قال تعالى:‏ ‏{قل ھاتوا برھانكم<br />

إن كنتم صادقین}.‏<br />

وفتح ھذا الباب دون ضابط من الشرع أو دلیل یدل علیھ ھو في<br />

الحقیقة فتح باب عظیم من الشر على دین الله،‏ وفیھ تعطیل لكثیر من أدلة<br />

الشریعة،‏ ولو قال قائلھم:‏ إن إظھار ھذه ال<strong>ملة</strong> العظیمة وإعلانھا منوط<br />

بالاستطاعة،‏ لما تعرضنا لھ،‏ لكنھم أرادوا إماتتھا بحجة أنھا مدنیة،‏ نزلت<br />

لما كان للمسلمین دولة..‏ مع أن إبراھیم والذین معھ عندما قالوھا وصدعوا<br />

بھا،‏ كانوا مستضعفین ولم تكن لھم دولة،‏ ومع ذلك بیّن الله أن لنا فیھم أسوة<br />

حسنة لمن كان یرجو الله والیوم الآخر..‏ ومعلوم أن النبي صلى الله علیھ<br />

وسلم سار على طریقھم،‏ فكان أھم مھمات دعوتھ طوال حیاتھ سواء المكیة<br />

منھا أو المدنیة،‏ الصدع بالتوحید والبراءة من الشرك والتندید،‏ وما یتعلق<br />

بذلك ویلزم عنھ من عرى الإیمان الوثقى..‏ وسیرتھ صلوات الله وسلامھ<br />

علیھ شاھدة بذلك وقد ذكرنا لك أمثلة منھا في ھذا الكتاب..‏<br />

ثم ھب جدلاً‏ أن ما قالوه في آیة الممتحنة المدنیة حقاً.‏<br />

فھل سورة البراءة من الشرك كذلك؟؟ ‏{قل یا أیھا الكافرون لا أعبد<br />

ما تعبدون}‏ إلى قولھ تعالى:‏ ‏{لكم دینكم ولي دین}‏ ‏[الكافرون:‏<br />

.[6-1<br />

وھل قولھ تعالى:‏ ‏{تب َّتْ‏ یدا أبي لھب وتب}‏ ‏[المسد:‏ 1].. إلى آخر<br />

الآیات كذلك؟؟ وقولھ تعالى:‏ ‏{أفرأیتم اللات والعزى * ومناة الثالثة<br />

(6)<br />

منبر التوحید والجھاد


<strong>ملة</strong> إبراھیم<br />

الأخرى * ألكم الذكر ولھ الأنثى * تلك إذا قسمة ضیزى * إن ھي إلا<br />

أسماء سمیتموھا أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بھا من سلطان}‏ الآیات ‏[النجم:‏<br />

.[23-19<br />

ومثل ذلك قولھ تعالى:‏ ‏{إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جھنم<br />

أنتم لھا واردون * لو كان ھؤلاء آلھة ما وردوھا وكل فیھا خالدون}‏<br />

‏[الأنبیاء:‏ 6].<br />

ونحو ذلك من آیات الكتاب المكیة وھي كثیر..‏<br />

وقد ذكرنا في ھذا الكتاب قولھ تعالى:‏ واصفاً‏ نبیھ:‏ ‏{وإذا رءاك الذین<br />

كفروا إن یتخذونك إلا ھزواً‏ أھذا الذي یذكر آلھتكم}...‏ ‏[الأنبیاء:‏<br />

.[36<br />

فقولھ:‏ ‏{یذكر آلھتكم}‏ : أي یبرأ منھا ومن عابدیھا ویكفر بھا<br />

ویسفّھھا..‏ فھل ھذا كلھ لم یكن إلا في المدینة فقط..؟ كیف والآیات مكیة؟؟<br />

وأمثالھا كثیر..‏<br />

* رابعاً:‏<br />

زعم بعضھم أن حدیث تكسیر النبي صلى الله علیھ وسلم<br />

للصنم في مكة ضعیف،‏ وظنوا أنھم بذلك یھدمون أھم ما جاء في الكتاب<br />

من معالم ھذه ال<strong>ملة</strong> العظیمة..‏<br />

فنقول أولاً:‏ الحدیث ثابت بإسناد حسن وھو مرويّ‏ في مسند الإمام<br />

أحمد (84/1).<br />

قال عبد الله حدثني أبي حدثنا أسباط بن محمد حدثنا نعیم بن حكیم<br />

المدائني عن أبي مریم عن علي رضي الله عنھ قال:‏ ‏"انطلقت أنا والنبي<br />

صلى الله علیھ وسلم حتى أتینا الكعبة،‏ فقال لي رسول الله صلى الله علیھ<br />

وسلم:‏ ‏(اجلس.‏ وصعد على منكبي فذھبت لأنھض بھ،‏ فرأى مني ضعفاً،‏<br />

فنزل وجلس لي نبي الله صلى الله علیھ وسلم وقال:‏ اصعد على منكبي،‏<br />

قال:‏ فصعدت على منكبیھ قال فنھض بي قال:‏ فإنھ یخیل إلي َّ أني لو شئت<br />

لنلت أفق السماء حتى صعدت على البیت وعلیھ تمثال صفر أو نحاس،‏<br />

فجعلت أزاولھ عن یمینھ وعن شمالھ وبین یدیھ ومن خلفھ،‏ حتى إذا<br />

استمكنت منھ قال لي رسول الله صلى الله علیھ وسلم:‏ ‏"اقذف بھ"،‏ فقذفت<br />

بھ،‏ فتكسّر كما تتكسّر القواریر،‏ ثم نزلت،‏ فانطلقت أنا ورسول الله صلى<br />

الله علیھ وسلم نستبق حتى توارینا بالبیوت خشیة أن یلقانا أحد من الناس).‏<br />

قلت:‏ أسباط بن محمد:‏ ثقة،‏ إنما ضعف في الثوري،‏ وھو ھنا لم یروه<br />

عنھ.‏<br />

ونعیم بن حكیم المدائني:‏<br />

وثقھ یحیى بن معین والعجلي كما في تاریخ<br />

بغداد (303/13).<br />

(7)<br />

منبر التوحید والجھاد


<strong>ملة</strong> إبراھیم<br />

وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل في المسند أیضاً‏ (151/1): حدثني<br />

نصر ابن علي،‏ ثنا عبد الله بن داود،‏ عن نعیم بن حكیم،‏ عن علي رضي الله<br />

عنھ قال:‏ ‏(كان على الكعبة أصنام فذھبت لأحمل النبي صلى الله علیھ وسلم<br />

إلیھا فلم أستطع فحملني فجعلت أقطعھا ولو شئت لنلت السماء).‏<br />

وأورد الھیثمي الحدیث في مجمع الزوائد (23/6) ‏(باب تكسیره<br />

صلى الله علیھ وسلم الأصنام)‏ وقال عقبة:‏ ‏(رواه أحمد وابنھ أبو یعلى<br />

والبزار،‏ زاد بعد قولھ حتى استترنا بالبیوت:‏ فلم یوضع علیھا بعد؛ یعني<br />

شیئاً‏ من تلك الأصنام)‏ قال:‏ ‏(ورجال الجمیع ثقات).‏<br />

وقال الخطیب البغدادي في تاریخ بغداد (302/13، 303): حدثنا أبو<br />

نعیم الحافظ إملاء،‏ حدثنا أبو بكر أحمد بن یوسف بن خلاد،‏ حدثنا محمد بن<br />

یونس،‏ حدثنا عبد الله بن داود الخریبي،‏ عن نعیم بن حكیم المدائني،‏ قال<br />

حدثني أبو مریم عن علي ابن أبي طالب،‏ قال:‏ ‏(انطلق بي رسول الله صلى<br />

الله علیھ وسلم إلى الأصنام فقال:‏ ‏(اجلس)‏ فجلست إلى جنب الكعبة ثم صعد<br />

رسول الله صلى الله علیھ وسلم على منكبي ثم قال:‏ ‏(انھض بي إلى الصنم)،‏<br />

فنھضت فلما رأى ضعفي تحتھ قال:‏ اجلس،‏ فجلست وأنزلتھ عني وجلس<br />

لي رسول الله صلى الله علیھ وسلم ثم قال لي:‏ ‏(یا عليّ‏ اصعد على منكبي)‏<br />

فصعدت على منكبیھ،‏ ثم نھض بي رسول الله صلى الله علیھ وسلم،‏ فلما<br />

نھض خیل إلي أني لو شئت نلت السماء وصعدت على الكعبة،‏ وتنحى<br />

رسول الله صلى الله علیھ وسلم،‏ فألقیت صنمھم الأكبر - صنم قریش<br />

وكان من نحاس موتداً‏ بأوتاد من حدید إلى الأرض،‏ فقال لي رسول الله<br />

صلى الله علیھ وسلم:‏ ‏(عالجھ)‏ فعالجتھ فما زلت أعالجھ ورسول الله صلى<br />

الله علیھ وسلم یقول:‏ ‏(إیھ،‏ إیھ،‏ إیھ)،‏ فلم أزل أعالجھ حتى استمكنت منھ،‏<br />

فقال:‏ ‏"دقھ"‏ فدققتھ وكسرتھ،‏ ونزلت<br />

-<br />

.(<br />

قلت:‏ أبو مریم:‏ ھو قیس الثقفي المدائني،‏ یروي عن علي وعنھ نعیم<br />

بن حكیم،‏ ذكره ابن حبان في الثقات،‏ ووثقھ النسائي،‏ ولكنھ كما قال الحافظ<br />

ابن حجر:‏ ‏(وھم في قولھ أن أبا مریم الحنفي یسمى قیساً،‏ والصواب أن<br />

الذي یسمى قیساً‏ ھو أبو مریم الثقفي..‏ إلى أن قال:‏ على أن النسخة التي<br />

وقفت علیھا من كتاب التمییز للنسائي إنما فیھ أبو مریم قیس الثقفي نعم<br />

ذكره في التمییز..‏ وأما أبو مریم الحنفي فلم یذكره النسائي لأنھ لم یذكر إلا<br />

من عرفھ)‏ اھ.‏<br />

والذین تكلموا في الحدیث خلطوا بین الرجلین..‏ فتنبھ لھذا..‏ وقد وثقھ<br />

أیضاً‏ الحافظ الذھبي في الكاشف (376/3) وذكره ابن أبي حاتم في الجرح<br />

والتعدیل،‏ والبخاري في التاریخ الكبیر،‏ ولم یذكر فیھ جرحاً‏ ولا تعدیلاً..‏<br />

فھو غیر الحنفي وغیر الكوفي أیضاً‏ راجع میزان الاعتدال (573/4).<br />

والحدیث صححھ العلامة أحمد شاكر فقال في ھامش تحقیقھ للمسند<br />

(58/2): ‏"إسناده صحیح،‏ نعیم بن حكیم وثقھ ابن معین وغیره وترجم لھ<br />

(8)<br />

منبر التوحید والجھاد


<strong>ملة</strong> إبراھیم<br />

99/2/4<br />

البخاري في التاریخ الكبیر فلم یذكر فیھ جرحاً،‏ أبو مریم:‏ ھو<br />

الثقفي المدائني،‏ وھو ثقة وترجم لھ البخاري أیضاً‏ (151/1/4) فلم یذكر<br />

فیھ جرحاً...‏ قال:‏ ومن الواضح أن ھذه القصة كانت قبل الھجرة"‏ اھ.‏<br />

أقول:‏ ومع ھذا فقد قلنا في ھذا الكتاب بعد أن سقنا الحدیث:‏ ‏(ومع ذلك<br />

نقول لو سلمنا جدلاً‏ أنھ لم یصح عن النبي صلى الله علیھ وسلم تحطیم<br />

الأصنام في مكة زمن الاستضعاف،‏ فإنھ صلوات الله وسلامھ علیھ كان<br />

متبعاً‏ ل<strong>ملة</strong> إبراھیم أشد الاتباع آخذاً‏ بھا بقوة،‏ فما داھن الكفار لحظة واحدة<br />

وما سكت عن باطلھم أو عن آلھتھم،‏ بل كان ھمھ وشغلھ الشاغل في تلك<br />

الثلاث عشرة سنة،‏ بل وغیرھا ھو:‏ ‏{اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت}‏<br />

‏[النحل:‏ 36]، فلا یعني كونھ جلس بینھا تلك الثلاث عشرة سنة،‏ أنھ مدحھا<br />

أو أثنى علیھا أو أقسم على احترامھا...)‏ إلى قولنا:‏ ‏(بل كان یعلن براءتھ<br />

من المشركین وأعمالھم،‏ ویبدي كفره بآلھتھم رغم استضعافھ واستضعاف<br />

أصحابھ،‏ وقد فصلنا لك ھذا فیما مضى ولو تأملت القرآن المكي لوضح لك<br />

من ذلك الكثیر..‏ إلخ).‏<br />

فالمسألة إذن لیست كما یظنھا ھؤلاء القوم،‏ موقوفة على حدیث فرد<br />

یقضى علیھا بتضعیفھ،‏ بل لھا شواھد عظیمة،‏ وبراھین صریحة،‏ وأصول<br />

ثابتة،‏ وقواعد راسیة من أدلة الشرع،‏ لا یقوى على ردھا إلا مكابر جاحد.‏<br />

فالحق ركنٌ‏ لا یقومُ‏ لھدّه<br />

ولعل في ھذا القدر الكفایة لمن أراد الھدایة.‏<br />

أحدٌ‏ ولو جمعت لھ الثقلان<br />

وقبل أن أختم ھذه المقدمة أحب أن أضیف إلیھا،‏ بأنني كنت قد<br />

ناظرت في السجن بعض أفراد حزب سیاسي إرجائي معروف،‏ حول<br />

موضوع ‏(الإیمان)‏ ومتعلقاتھ..‏<br />

وكان فیھم رأس من رؤوسھم،‏ فكان فیما احتجّ‏ بھ ترقیعاً‏ لعساكر<br />

الشرك والقانون،‏ قصة حاطب بن أبي بلتعة،‏ وقصة أبي لبابة الأنصاري،‏<br />

فزعم أن حاطب تجسس للكفار ووالاھم،‏ وأن أبا لبابة خان الله والرسول،‏<br />

ومن ثم قاس حرابھ<br />

ومع ذلك لم یكفّرھما رسول الله صلى الله علیھ وسلم (3)<br />

عساكر الشرك والقانون للشریعة وعداوتھم لأھلھا،‏ على فعل ھذین<br />

الصحابیین الجلیلین.‏ وخرج من ذلك بأن أنصار الطواغیت وعساكرھم،‏<br />

الذین یفنون أعمارھم في حراسة الشرك والقانون،‏ وحفظ عروش<br />

الطواغیت وحرب الشریعة وأھلھا،‏ لا یجوز تكفیرھم،‏ لأن جرائمھم لا<br />

تعدوا فعل حاطب أو فعل أبي لبابة..!‏ بل زاد على ذلك أن استشاط غضباً‏<br />

لما نقلنا عنھ أنھ لا یكفّر عساكر الشرك والقانون،‏ بل یقول عنھم ظلمة<br />

(3) وقد كتبت رداً‏ على مقالتھم ھذه،‏ في رسالة من رسائل السجن سمیتھا:‏ ‏"الشھاب<br />

الثاقب في الرد على من افترى على الصحابي حاطب".‏<br />

(9)<br />

منبر التوحید والجھاد


<strong>ملة</strong> إبراھیم<br />

-<br />

وفجار،‏ فثار لذلك واتھمنا بأننا غیرنا سیاق كلامھ،‏ فھو كما قال لم یصفھم<br />

بأنھم ظلمة وفجار،‏ ھكذا بإطلاق،‏ وإنما قال في سیاق الدفع عن تكفیرھم:‏<br />

‏"قد یكون بعضھم ظلمة أو فجاراً"‏ أي بحسب حال آحادھم،‏ لا بسبب طبیعة<br />

عملھم،‏ ونصرتھم للطواغیت وحربھم للشریعة وأھلھا..‏<br />

فقلت لھم:‏ عجباً‏ لكم تتحرجون من وصف جند الطواغیت وعساكر<br />

الشرك والتندید بالظلم والفجور،‏ ولا تتحرجون من القول عن حاطب:‏ والَى<br />

الكفار وتجسس لھم،‏ وعن أبي لبابة:‏ خان الله والرسول!!‏ وكان ھذا فراق<br />

بیننا وبینھم..‏<br />

ولما حاول بعض الإسلامیین في السجن أن یجمعوا ویصلحوا بیننا،‏<br />

جرى بیننا وبینھم بعض الكلام،‏ فوجدناھم على ما كانوا علیھ من المقال،‏<br />

فقلت لھم:‏ ‏(أنا لست على صحبتكم بحریص،‏ لأنكم لا تتحرجون من الكلام<br />

في بعض أصحاب النبي صلى الله علیھ وسلم ووصفھم بالخیانة،‏ بینما<br />

تتحرجون من وصف أعداء الله وجند الطواغیت بالظلم والفجور..‏ لذا فلسنا<br />

والله حریصون على صحبتكم وإنما نداریكم ونتجنب الانشغال بكم،‏ لأننا في<br />

وھنا غضب ناطقھم وأخرج ما كان یكنھ في<br />

سجن وبین أعداء الله تعالى (4)<br />

صدره وقال:‏ ‏(أنت أصلاً‏ رجل تدعو إلى <strong>ملة</strong> إبراھیم،‏ والذي یدعو إلى <strong>ملة</strong><br />

إبراھیم رجل مشبوه سیاسیاً،‏ یدعو إلى الذي یصالح الیھود والنصارى،‏<br />

الذین ھم من أبناء إبراھیم)‏ أھ وما سقت القصة ھنا إلا لأجل ھذا،‏ وھو<br />

محل الشاھد منھا..‏<br />

فلا أدري ما أقول في ھذا؟؟<br />

وبأي شيء أردّ‏ على أناس یرومون إقامة الخلافة،‏ وھم لا یمیزون<br />

بین مقولة ‏(أبناء إبراھیم)‏ التي یروج لھا الطواغیت الیوم لیؤاخوا الیھود<br />

ویصالحوھم،‏ وھي مقولة یراد بھا ھدم عرى الإیمان،‏ وتمییع أصل الدین،‏<br />

ودك قواعد الولاء والبراء..‏ وقد رد الله تعالى علیھم فقال:‏ ‏{ما كان إبراھیم<br />

یھودیاً‏ ولا نصرانیاً‏ ولكن كان حنیفاً‏ مسلماً‏ وما كان من المشركین}‏ ‏[آل<br />

67]. عمران:‏<br />

فلا یمیزون بین ھذه المقولة وبین ‏(<strong>ملة</strong> إبراھیم)‏ التي فرقت بین الآباء<br />

والأبناء،‏ إذ ھي الفرقان بین أولیاء الرحمن وأولیاء الشیطان،‏ والتي قال الله<br />

تعالى عنھا في القرآن:‏ ‏{ومن یرغب عن <strong>ملة</strong> إبراھیم إلا من سفھ نفسھ}..‏<br />

130]. ‏[البقرة:‏<br />

(4) مع العلم أنھم كانوا في السجن سلْماً‏ على أعداء الله حرباً‏ على دعوة التوحید بل<br />

ویصلون خلف عساكر الشرك والقانون دونما إكراه،‏ فنحن نقیم الجمعة والجماعة<br />

وحدنا ویصلي معنا سجناء آخرین،‏ أما ھؤلاء فیصلون خلف أھل الشرك والتندید،‏<br />

ویبادرونھم بالسلام والإكرام وبعضھم یقبلھم ویھنئھم بالمناسبات والأعیاد،‏ بل رأینا<br />

ممن ینتسبون للدعوة إلى الإسلام من یھنئھم على رتبھم الطاغوتیة الكفریة.‏<br />

(10)<br />

منبر التوحید والجھاد


<strong>ملة</strong> إبراھیم<br />

وقد فصلناھا لك في ھذا الكتاب..‏ فتأملھا ولا تلتفت إلى شغب<br />

المخالفین..‏<br />

وھكذا أخا التوحید..‏ وللأسف الشدید فإنني طوال المدة السابقة من<br />

طباعة الكتاب لم یصلني من المخالفین المجادلین الطاعنین فینا وفي دعوتنا<br />

إلا أمثال ھذه المھاترات التي ما كان ینبغي لنا أن نتنزل معھم في الرد<br />

علیھا..‏ لولا معرفتنا لأحوال أھل زماننا،‏ واندراس أعلام ومعالم ھذه ال<strong>ملة</strong><br />

العظیمة بینھم،‏ وأن فیھم سماعون لأھل الزیغ الذین وصفھم الله تعالى في<br />

مطلع سورة آل عمران..‏<br />

فأسألھ تعالى أن ینصر دینھ ویكبت أعدائھ..‏<br />

وأن یستعملنا ما حیینا في نصرة ھذه ال<strong>ملة</strong>،‏ ویجعلنا من جندھا<br />

وعساكرھا ویتقبل منا ویختم لنا بالشھادة في سبیلھ..‏ إنھ جواد كریم.‏<br />

وصلى الله على نبیھ محمد وعلى آلھ وصحبھ أجمعین..‏<br />

أبو محمد<br />

(11)<br />

منبر التوحید والجھاد


<strong>ملة</strong> إبراھیم<br />

بسم الله وھو حسبي ونعم الوكیل<br />

فصل<br />

في بیان <strong>ملة</strong> إبراھیم<br />

یقول تعالى عن <strong>ملة</strong> إبراھیم:‏ ‏{ومن یرغب عن <strong>ملة</strong> إبراھیم إلا من<br />

سفھ نفسھ}‏ ‏[سورة البقرة:‏<br />

.[130<br />

ویقول أیضاً‏ مخاطباً‏ نبیھ محمد صلى الله علیھ وسلم:‏ ‏{ثم أوحینا إلیك<br />

أن اتبع <strong>ملة</strong> إبراھیم حنیفاً‏ وما كان من المشركین}‏ ‏[سورة النحل:‏<br />

.[123<br />

بھذه النصاعة،‏ وبھذا الوضوح بین الله تعالى لنا المنھاج والطریق...‏<br />

فالطریق الصحیح والمنھاج القویم..‏ ھو <strong>ملة</strong> إبراھیم...‏ لا غموض في ذلك<br />

ولا التباس،‏ ومن یرغب عن ھذه الطریق بحجة مصلحة الدعوة أو أن<br />

سلوكھا یجر فتناً‏ وویلات على المسلمین،‏ أو غیر ذلك من المزاعم<br />

الجوفاء..‏ التي یلقیھا الشیطان في نفوس ضعفاء الإیمان فھو سفیھ،‏<br />

مغرور یظن نفسھ أعلم بأسلوب الدعوة من إبراھیم علیھ الصلاة والسلام<br />

الذي زكاه الله فقال:‏ ‏{ولقد آتینا إبراھیم رشده}‏ ‏[الأنبیاء:‏<br />

‏{ولقد اصطفیناه في الدنیا وإنھ في الآخرة لمن الصالحین}‏ ‏[البقرة:‏<br />

130]، وزكى دعوتھ لنا وأمر خاتم الأنبیاء والمرسلین باتباعھا،‏ وجعل<br />

السفاھة وصفاً‏ لكل من رغب عن طریقھ ومنھجھ.‏ و<strong>ملة</strong> إبراھیم ھي:‏<br />

51]، وقال:‏<br />

-<br />

* إخلاص العبادة وحده،‏ بكل ما تحویھ كلمة العبادة من معان (5) .<br />

(5) ولن یستطیع العبد مواجھة الشرك وأھلھ ولن یقوى على التبرؤ منھم وإظھار<br />

العداوة لباطلھم إلا بعبادة الله حق عبادتھ،‏ ولقد أمر الله عز وجل نبیھ محمداً‏ صلى الله<br />

علیھ وسلم بتلاوة القرآن وقیام اللیل في مكة وأعلمھ بأن ذلك ھو الزاد الذي یعینھ على<br />

تحمل أعباء الدعوة الثقیلة وذلك قبل قولھ:‏ ‏{إنا سنلقي علیك قولاً‏ ثقیلاً}‏ ‏[المزمل:‏<br />

فقال:‏ ‏{یا أیھا المزمل قم اللیل إلا قلیلا،‏ نصفھ أو انقص منھ قلیلاً‏ أو زد علیھ ورتل<br />

القرآن ترتیلاً}‏ ‏[المزمل:‏ 4-1]، فقام صلوات الله وسلامھ علیھ وقام معھ أصحابھ حتى<br />

تفطرت أقدامھم..‏ إلى أن أنزل سبحانھ التخفیف في آخر الآیات.‏<br />

وإن ھذا القیام بتلاوة آیات الله عز وجل وتدبر كلامھ..‏ لخیر زاد ومعین للداعي،‏ یثبتھ<br />

ویعینھ على مشاق الدعوة وعقباتھا..‏ وإن الذین یظنون أنفسھم قادرین على تحمل<br />

الدعوة العظیمة بأعبائھا الثقیلة بدون إخلاص العبادة عز وجل وبدون إطالة ذكره<br />

وتسبیحھ لمخطئون وواھمون..‏ وإن ساروا خطوات،‏ فلن یستطیعوا مواصلة الطریق<br />

الصحیح المستقیم بغیر زاد..‏ وإن خیر الزاد التقوى..‏<br />

،[5<br />

(12)<br />

منبر التوحید والجھاد


<strong>ملة</strong> إبراھیم<br />

-<br />

* والبراءة من الشرك وأھلھ.‏<br />

یقول الإمام الشیخ محمد بن عبد الوھاب رحمھ الله تعالى:‏ ‏"أصل<br />

دین الإسلام وقاعدتھ أمران:‏<br />

الأول:‏ الأمر بعبادة الله وحده لا شریك لھ والتحریض على ذلك<br />

والموالاة فیھ وتكفیر من تركھ.‏<br />

الثاني:‏ الإنذار عن الشرك في عبادة الله والتغلیظ في ذلك والمعاداة<br />

فیھ وتكفیر من فعلھ"اھ.‏<br />

وھذا ھو التوحید الذي دعا إلیھ الرسل صلوات الله وسلامھ علیھم<br />

أجمعین..‏ وھو معنى لا إلھ إلا الله.‏ إخلاص وتوحید وإفراد عز وجل في<br />

العبادة والولاء لدینھ ولأولیائھ،‏ وكفر وبراءة من كل معبود سواه ومعاداة<br />

أعدائھ..‏<br />

فھو توحید اعتقادي وعملي في آن واحد..‏ فسورة الإخلاص دلیل على<br />

الاعتقادي منھ وسورة الكافرون دلیل على العملي،‏ وكان النبي صلوات الله<br />

وسلامھ علیھ یكثر من القراءة بھاتین السورتین ویداوم علیھما في سنة<br />

الفجر وغیرھا..‏ لأھمیتھما البالغة.‏<br />

تنبیھ لا بد منھ:‏ وقد یظن ظان أن <strong>ملة</strong> إبراھیم ھذه تتحقق في زماننا<br />

ھذا بدراسة التوحید،‏ ومعرفة أقسامھ وأنواعھ الثلاثة معرفة نظریة<br />

وحسب..‏ مع السكوت عن أھل الباطل وعدم إعلان وإظھار البراءة من<br />

باطلھم.‏<br />

فلمثل ھؤلاء نقول:‏ لو أن <strong>ملة</strong> إبراھیم كانت ھكذا لما ألقاه قومھ من<br />

أجلھا في النار،‏ بل ربما لو أنھ داھنھم وسكت عن بعض باطلھم ولم یسفھ<br />

آلھتھم ولا أعلن العداوة لھم واكتفى بتوحید نظري یتدارسھ مع أتباعھ<br />

تدارساً‏ لا یخرج إلى الواقع العملي متمثلاً‏ بالولاء والبراء والحب والبغض<br />

والمعاداة والھجران في الله.‏ ربما لو أنھ فعل ذلك لفتحوا لھ جمیع الأبواب،‏<br />

بل ربما أسسوا لھ مدارس ومعاھد كما في زماننا یدرس فیھا ھذا التوحید<br />

النظري..‏ ولربما وضعوا علیھا لافتات ضخمة وسموھا:‏ مدرسة أو معھد<br />

التوحید،‏ وكلیة الدعوة وأصول الدین..‏ وما إلى ذلك..‏ فھذا كلھ لا یضرھم،‏<br />

ولقد وصف الله عز وجل أصحاب ھذه الدعوة والذین أمر نبیھ صلوات الله وسلامھ<br />

علیھ أن یصبر نفسھ معھم بأنھم یدعون ربھم بالغداة والعشي یریدون وجھھ،‏ وبأنھم<br />

قلیلاً‏ من اللیل ما یھجعون..‏ وتتجافى جنوبھم عن المضاجع یدعون ربھم خوفاً‏<br />

وطمعاً..‏ ویخافون من ربھم یوماً‏ عبوساً‏ قمطریراً..‏ وغیر ذلك من الصفات التي لا<br />

یصلح لھذه الدعوة وتحمل أعبائھا إلا من اتصف بھا،‏ جعلنا الله تعالى وإیاك منھم،‏<br />

فتنبھ!!‏<br />

(13)<br />

منبر التوحید والجھاد


لا(‏<br />

<strong>ملة</strong> إبراھیم<br />

-<br />

ولا یؤثر فیھم ما دام لا یخرج إلى الواقع والتطبیق..‏ ولو خرجت لھم ھذه<br />

الجامعات والمدارس والكلیات آلاف الأطروحات ورسائل الماجستیر<br />

والدكتوراه في الإخلاص والتوحید والدعوة..‏ لما أنكروا ذلك علیھا،‏ بل<br />

لباركوھا ومنحوا أصحابھا جوائز وشھادات وألقاباً‏ ضخمة،‏ ما دامت لا<br />

تتعرض لباطلھم وحالھم وواقعھم وما دامت على ذلك الحال الممسوخ.‏<br />

* یقول الشیخ عبد اللطیف بن عبد الرحمن في الدرر السنیة:‏<br />

یُتصور أن ‏-أحداً-‏ یعرف التوحید ویعمل بھ ولا یعادي المشركین ومن لم<br />

یعادھم لا یقال لھ عرف التوحید وعمل بھ)‏ أھ.‏ جزء الجھاد ص‎167‎‏.‏<br />

وكذلك رسول الله صلى الله علیھ وسلم لو أنھ سكت في بادىء الأمر<br />

عن تسفیھ أحلام قریش والتعرض لآلھتھم وعیبھا ولو أنھ ‏"حاشاه"‏ كتم<br />

الآیات التي فیھا تسفیھ لمعبوداتھم كاللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى..‏<br />

والآیات التي تتعرض لأبي لھب والولید وغیرھما..‏ وكذا آیات البراءة منھم<br />

ومن دینھم ومعبوداتھم وما أكثرھا كسورة ‏(الكافرون)‏ وغیرھا..‏ لو فعل<br />

ذلك..‏ وحاشاه من ذلك..‏ لجالسوه ولأكرموه وقرّ‏ بوه..‏ ولما وضعوا على<br />

رأسھ سلى الجزور وھو ساجد،‏ ولما حصل لھ ما حصل من أذاھم مما ھو<br />

مبسوط ومذكور في الثابت من السیرة..‏ ولما احتاج إلى ھجرة وتعب<br />

ونصب وعناء..‏ ولجلس ھو وأصحابھ في دیارھم وأوطانھم آمنین..‏ فقضیة<br />

موالاة دین الله وأھلھ ومعاداة الباطل وأھلھ فُرضت على المسلمین في فجر<br />

دعوتھم قبل فرض الصلاة والزكاة والصوم والحج،‏ ومن أجلھا لا لغیرھا<br />

حصل العذاب والأذى والابتلاء.‏<br />

* یقول الشیخ حمد بن عتیق في رسالة لھ في الدرر السنیة:‏ ‏(فلیتأمل<br />

العاقل ولیبحث الناصح لنفسھ عن السبب الحامل لقریش على إخراج رسول<br />

الله صلى الله علیھ وسلم وأصحابھ من مكة وھي أشرف البقاع،‏ فإن المعلوم<br />

أنھم ما أخرجوھم إلا بعدما صرحوا لھم بعیب دینھم وضلال آبائھم،‏<br />

فأرادوا منھ صلى الله علیھ وسلم الكف عن ذلك وتوعدوه وأصحابھ<br />

بالإخراج،‏ وشكا إلیھ أصحابھ شدة أذى المشركین لھم،‏ فأمرھم بالصبر<br />

والتأسي بمن كان قبلھم ممن أوذي،‏ ولم یقل لھم اتركوا عیب دین المشركین<br />

وتسفیھ أحلامھم،‏ فاختار الخروج بأصحابھ ومفارقة الأوطان مع أنھا<br />

أشرف بقعة على وجھ الأرض ‏{لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة<br />

لمن كان یرجو الله والیوم الآخر وذكر الله كثیراً}‏ أھ.‏ من جزء الجھاد<br />

ص‎199‎‏.‏<br />

وھكذا فإن الطواغیت في كل زمان ومكان لا یظھرون الرضا عن<br />

الإسلام<br />

أو یھادنونھ ویقیمون لھ المؤتمرات وینشرونھ في الكتب والمجلات<br />

ویؤسسون لھ المعاھد والجامعات إلا إذا كان دیناً‏ أعور أعرج مقصوص<br />

الجناحین بعیداً‏ عن واقعھم وعن موالاة المؤمنین والبراءة من أعداء الدین<br />

وإظھار العداوة لھم ولمعبوداتھم ومناھجھم الباطلة.‏<br />

(14)<br />

منبر التوحید والجھاد


<strong>ملة</strong> إبراھیم<br />

وإننا لنشاھد ھذا واضحاً‏ في الدولة المسماة ‏"السعودیة"‏ فإنھا تغر<br />

الناس بتشجیعھا للتوحید وكتب التوحید،‏ وبسماحھا بل وحثھا للعلماء على<br />

محاربة القبور والصوفیة وشرك التمائم والتولھ والأشجار والأحجار..‏<br />

وغیر ذلك مما لا تخشاه ولا یضرھا أو یؤثر في سیاساتھا الخارجیة<br />

والداخلیة..‏ وما دام ھذا التوحید المجزأ الناقص بعیداً‏ عن السلاطین<br />

وعروشھم الكافرة فإنھ یتلقى منھم الدعم والمساندة والتشجیع...‏ وإلا فأین<br />

كتابات جھیمان وأمثالھ رحمھ الله تعالى التي تمتلىء وتزخر بالتوحید؟ لماذا<br />

لم تدعمھا الحكومة وتشجعھا؟؟ رغم أنھ لم یكن یكفرھا في تلك الكتابات..‏<br />

أم أنھ توحید یخالف أمزجة ‏(الطغاة)‏ وأھواءھم ویتكلم بالسیاسة ویتعرض<br />

للولاء والبراء والبیعة والإمارة.‏ وراجع كلامھ في مختصر رسالة الأمر<br />

بالمعروف والنھي عن المنكر من ص‎108‎ إلى من الرسائل السبع،‏<br />

فقد وجدتھ متبصراً‏ في ھذه القضیة رحمھ الله تعالى.‏<br />

110<br />

یقول الشیخ العلامة حمد بن عتیق رحمھ الله في كتابھ سبیل النجاة<br />

والفكاك من موالاة المرتدین وأھل الإشراك:‏ ‏(إن كثیراً‏ من الناس قد یظن<br />

أنھ إذا قدر على أن یتلفظ بالشھادتین وأن یصلي الصلوات الخمس،‏ ولا یرد<br />

عن المسجد فقد أظھر دینھ وإن كان مع ذلك بین المشركین أو في أماكن<br />

المرتدین،‏ وقد غلطوا في ذلك أقبح الغلط.‏<br />

واعلم أن الكفر لھ أنواع وأقسام بتعدد المكفرات وكل طائفة من<br />

طوائف الكفر قد اشتھر عندھا نوع منھ،‏ ولا یكون المسلم مظھراً‏ لدینھ حتى<br />

یخالف كل طائفة بما اشتھر عندھا ویصرح لھا بعداوتھ،‏ والبراءة منھ..)‏<br />

أھ.‏<br />

ویقول أیضاً‏ في الدرر السنیة:‏ ‏(وإظھار الدین:‏ تكفیرھم وعیب دینھم<br />

والطعن علیھم والبراءة منھم والتحفظ من موادتھم والركون إلیھم<br />

واعتزالھم،‏ ولیس فعل الصلوات فقط إظھاراً‏ للدین)‏ أھ.‏ من جزء الجھاد<br />

ص‎196‎‏.‏<br />

ویقول الشیخ سلیمان بن سحمان في دیوان عقود الجواھر المنضدة<br />

الحسان ص‎76‎‏،‏<br />

- :77<br />

إظھار ھذا الدین تصریح لھم<br />

وعداوة تبدو وبغض ظاھر<br />

ھذا ولیس القلب كاف بغضھ<br />

لكنما المعیار أن تأتي بھ<br />

بالكفر إذْ◌ْ‏ ھم معشر كفار<br />

یا للعقول أما لكم أفكار<br />

والحب منھ وما ھو المعیار<br />

جھراً‏ وتصریحاً‏ لھم وجھار<br />

ویقول الشیخ إسحاق بن عبد الرحمن في جزء الجھاد من الدرر<br />

السنیة ص‎141‎‏:‏ ‏(ودعوى من أعمى الله بصیرتھ وزعم أن إظھار الدین ھو<br />

(15)<br />

منبر التوحید والجھاد


<strong>ملة</strong> إبراھیم<br />

عدم منعھم من یتعبد أو یدرس دعوى باطلة،‏ فزعمھ مردود عقلاً‏ وشرعاً،‏<br />

وليَ◌َ‏ هْ◌ْ‏ نَ◌َ‏ من كان في بلاد النصارى والمجوس والھند ذلك الحكم<br />

الباطل،‏ لأن الصلاة والآذان والتدریس موجود في بلدانھم..)‏ أھ.‏<br />

ورحم الله من قال:‏<br />

یظنون أن الدین لبیك في الفلاوفعل صلاة والسكوت عن الملا<br />

وسالم وخالط من لذا الدین قد قلا<br />

والولا<br />

كذاك البرا من كل غاوٍ‏ وآثمِ‏<br />

وما الدین إلا الحب والبغض<br />

* ویقول أبو الوفاء بن عقیل رحمھ الله تعالى:‏ ‏(إذا أردت أن تعرف<br />

محل الإسلام من أھل الزمان،‏ فلا تنظر إلى ازدحامھم في أبواب المساجد<br />

ولا في ضجیجھم بلبیك ولكن انظر إلى مواطأتھم لأعداء الشریعة،‏ فاللجا<br />

اللجا إلى حصن الدین والاعتصام بحبل الله المتین،‏ والانحیاز إلى أولیائھ<br />

المؤمنین،‏ والحذر الحذر من أعدائھ المخالفین،‏ فأفضل القرب إلى الله<br />

تعالى،‏ مقت من حاد الله ورسولھ وجھاده بالید واللسان والجنان بقدر<br />

الإمكان)‏ أھ من الدرر السنیة - جزء الجھاد ص‎238‎‏.‏<br />

تنبیھ ثان:‏ وفي مقابل ھذه البراءة من الشرك وأھلھ..‏ ھناك أیضاً:‏<br />

‏(موالاة دین الله وأولیائھ ونصرتھم ومؤازرتھم والنصح لھم وإبداء ذلك<br />

وإظھاره)‏ حتى تتآلف القلوب وتتراص الصفوف،‏ ومھما عنّفنا إخواننا<br />

الموحدین المنحرفین عن جادة الصواب ومھما شدّدنا في النصح لھم ونقد<br />

طرائقھم المخالفة لطریق الأنبیاء..‏ فالمسلم للمسلم كما یقول شیخ الإسلام<br />

كالیدین تغسل إحداھما الأخرى،‏ وربما احتاج إزالة الوسخ أحیاناً‏ إلى شيء<br />

من الشدة التي تُحمد عاقبتھا،‏ لأن المقصود من ورائھا الإبقاء على سلامة<br />

الیدین ونظافتھما..‏ ولا نستجیز بحال من الأحوال التبرؤ منھم بالكلیة،‏ لأن<br />

للمسلم على أخیھ حق الموالاة التي لا تنقطع إلا بالردة والخروج من دائرة<br />

الإسلام..‏ وقد عظّم الله سبحانھ من شأن ھذا الحق فقال:‏ ‏{إلا تفعلوه تكن<br />

فتنة في الأرض وفساد كبیر}‏ ‏[الأنفال:‏ 73]. والمسلم المنحرف إنما یتبرأ<br />

من باطلھ أو بدعتھ وانحرافھ مع بقاء أصل الموالاة..‏ ألم تر أن أحكام قتال<br />

البغاة وأمثالھم..‏ تختلف مثلاً‏ عن أحكام قتال المرتدین...‏ ولا نقر أعین<br />

الطغاة ونفرحھم بعكس ذلك أبداً،‏ كما یفعل كثیر من المنتسبین إلى الإسلام<br />

ممن اختل لدیھم میزان الولاء والبراء في ھذا الزمان،‏ فبالغوا في البراءة<br />

والشماتة من مخالفیھم الموحدین والتحذیر منھم بل ومن كثیر من الحق<br />

الذي عندھم وربما على صفحات الجرائد النتنة المعادیة للإسلام والمسلمین<br />

ناھیك عن إغراء السفھاء والحكام بھم وبدعواتھم..‏ حتى لیُشارك كثیر من<br />

ھؤلاء الدعاة أولئك الحكام بالقضاء علیھم وعلى دعواتھم بإلصاق التھم<br />

الباطلة بھم أو ترقیع الفتاوى للطواغیت لقمعھم،‏ كأن یقولوا عنھم:‏ بغاة أو<br />

خوارج أو أخطر على الإسلام من الیھود والنصارى،‏ إلى غیر ذلك..‏<br />

(16)<br />

منبر التوحید والجھاد


<strong>ملة</strong> إبراھیم<br />

-<br />

-<br />

-<br />

.[4<br />

وأعرف كثیراً‏ ممن یفرح بوقوع من یخالفھم من المسلمین بأیدي الطغاة،‏<br />

ویقولون:‏ ‏(یستاھل)‏ أو ‏(زین یسوون فیھ)‏ إلى غیر ذلك من الكلمات التي<br />

ربما تھوي بأحدھم في جھنم سبعین خریفاً‏ من حیث لا یدري وھو لا یُلقي<br />

لھا بالاً.‏<br />

واعلم أن من أخص خصائص <strong>ملة</strong> إبراھیم ومن أھم مھماتھا التي<br />

نرى غالبیة دعاة زماننا مقصرین فیھا تقصیراً‏ عظیماً‏ بل أكثرھم ھجرھا<br />

وأماتھا:‏ -<br />

إظھار البراءة من المشركین ومعبوداتھم الباطلة.‏<br />

وإعلان الكفر بھم وبآلھتھم ومناھجھم وقوانینھم وشرائعھم الشركیة.‏<br />

وإبداء العداوة والبغضاء لھم ولأوضاعھم ولأحوالھم الكفریة حتى<br />

یرجعوا إلى الله،‏ ویتركوا ذلك كلھ ویبرأوا منھ ویكفروا بھ.‏<br />

قال تعالى:‏ ‏{قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراھیم والذین معھ إذ<br />

قالوا لقومھم إنا برءاؤا منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا<br />

بیننا وبینكم العداوة والبغضاء أبداً‏ حتى تؤمنوا با‏ وحده}‏ ‏[الممتحنة:‏<br />

* یقول العلامة ابن القیم:‏ ‏(لما نھى الله تعالى المؤمنین عن موالاة<br />

الكفار اقتضى ذلك معاداتھم والبراءة منھم ومجاھرتھم بالعدوان في كل<br />

حال)‏ أھ.‏ من بدائع الفوائد (69/3).<br />

* ویقول الشیخ حمد بن عتیق رحمھ الله تعالى:‏ ‏(فقولھ:‏ ‏{وبدا}‏ أي<br />

ظھر وبان،‏ وتأمل تقدیم العداوة على البغضاء،‏ لأن الأولى أھم من الثانیة،‏<br />

فإن الإنسان قد یبغض المشركین ولا یعادیھم فلا یكون آتیاً‏ بالواجب علیھ<br />

حتى تحصل منھ العداوة والبغضاء،‏ ولا بد أیضاً‏ من أن تكون العداوة<br />

والبغضاء بادیتین ظاھرتین بیّنتین.‏ واعلم أنھ وإن كانت البغضاء متعلقة<br />

بالقلب،‏ فإنھا لا تنفعھ حتى تظھر آثارھا وتتبین علاماتھا،‏ ولا تكون كذلك<br />

حتى تقترن بالعداوة والمقاطعة،‏ فحینئذ تكون العداوة والبغضاء ظاھرتین)‏<br />

أھ.‏ ‏"من سبیل النجاة والفكاك من موالاة المرتدین وأھل الإشراك".‏<br />

* ویقول الشیخ إسحاق بن عبد الرحمن:‏ ‏(ولا یكفي بغضھم بالقلب،‏<br />

بل لا بد من إظھار العداوة والبغضاء وذكر آیة الممتحنة السابقة ثم قال-‏<br />

فانظر إلى ھذا البیان الذي لیس بعده بیان،‏ حیث قال:‏ ‏{بدا بیننا}‏ أي ظھر،‏<br />

ھذا ھو إظھار الدین فلا بد من التصریح بالعداوة وتكفیرھم جھاراً‏<br />

والمفارقة بالبدن،‏ ومعنى العداوة أن تكون في عَ◌َ‏ دْ◌ْ‏ وَ‏ ة والضدّ‏ في<br />

عَ◌َ‏ ◌ْ دْوَ‏ ة أخرى كما أن أصل البراءة المقاطعة بالقلب واللسان والبدن،‏<br />

وقلب المؤمن لا یخلو من عداوة الكافر،‏ وإنما النزاع في إظھار العداوة...)‏<br />

أھ.‏ من الدرر ص‎141‎ جزء الجھاد.‏<br />

-<br />

(17)<br />

منبر التوحید والجھاد


<strong>ملة</strong> إبراھیم<br />

–<br />

* ویقول الشیخ العلامة عبد الرحمن بن حسن بن الشیخ محمد بن عبد<br />

الوھاب ‏(صاحب كتاب فتح المجید)‏ حول آیة الممتحنة السابقة:‏ ‏(فمن تدبر<br />

ھذه الآیات عرف التوحید الذي بعث الله بھ رسلھ وأنزل بھ كتبھ وعرف<br />

حال المخالفین لما علیھ الرسل وأتباعھم من الجھلة المغرورین الأخسرین<br />

قال شیخنا الإمام رحمھ الله یعني جده محمد بن عبد الوھاب في سیاق<br />

دعوة النبي صلى الله علیھ وسلم قریشاً‏ إلى التوحید وما جرى منھم عند<br />

ذكر آلھتھم بأنھم لا ینفعون ولا یضرون أنھم جعلوا ذلك شتماً،‏ ‏"فإذا عرفت<br />

ھذا عرفت أن الإنسان لا یستقیم لھ إسلام ولو وحد الله وترك الشرك إلا<br />

والتصریح لھم بالعداوة والبغضاء كما قال تعالى:‏ ‏{لا<br />

بعداوة المشركین (6)<br />

تجد قوماً‏ یؤمنون با‏ والیوم الآخر یوادون من حادّ‏ الله ورسولھ...}‏<br />

‏[المجادلة:‏ 22] الآیة،‏ فإذا فھمت ھذا فھماً‏ جیداً‏ عرفت أن كثیراً‏ ممن یدعي<br />

الدین لا یعرفھ،‏ وإلا فما الذي حمل المسلمین على الصبر على ذلك العذاب<br />

والأسر والھجرة إلى الحبشة مع أنھ أرحم الناس ولو وجد لھم رخصة<br />

أرخص لھم،‏ كیف وقد أنزل الله علیھ:‏ ومن الناس من یقول آمنا با‏ فإذا<br />

أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله ‏[العنكبوت:‏ 10] فإذا كانت ھذه<br />

الآیة فیمن وافق بلسانھ فكیف بغیر ذلك"؛ یعني من وافقھم بالقول والفعل<br />

بلا أذى فظاھرھم وأعانھم وذب عنھم وعن من وافقھم وأنكر على من<br />

خالفھم كما ھو الواقع"‏ الدرر - جزء الجھاد ص‎93‎ وأنا أقول لھم:‏ <br />

درك كأنك تتكلم في زماننا...‏<br />

-<br />

{<br />

}<br />

-<br />

* ویقول الشیخ محمد بن عبد اللطیف في الدرر السنیة:‏ اعلم وفقنا الله<br />

وإیاك لما یحب ویرضى أنھ لا یستقیم للعبد إسلام ولا دین إلا بمعاداة أعداء<br />

الله ورسولھ (7) ، وموالاة أولیاء الله ورسولھ قال تعالى:‏ ‏{یا أیھا الذین آمنوا<br />

لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولیاء إن استحبوا الكفر على الإیمان}‏ ‏[التوبة:‏<br />

23] أھ.‏ من جزء الجھاد ص‎208‎‏.‏<br />

وھذا ھو دین جمیع المرسلین..‏ وھذه ھي دعوتھم وطریقتھم كما تدل<br />

علیھ عموم آیات القرآن وأخبار النبي صلى الله علیھ وسلم..‏ وكذلك قولھ<br />

تعالى في آیة الممتحنة ھذه ‏{والذین معھ}‏ أي المرسلین الذین على دینھ<br />

وملتھ..‏ قالھ غیر واحد من المفسرین.‏<br />

-<br />

(6) انظر الھامش التالي.‏<br />

(7) إن أرید أصل العداوة فالكلام على إطلاقھ،‏ وإن أرید عموم العداوة؛ إظھارھا<br />

وتفاصیلھا والصدع بھا،‏ فالكلام في استقامة الإسلام لا في زوال أصلھ،‏ وللشیخ عبد<br />

اللطیف في كتابھ ‏"مصباح الظلام"‏ تفصیل حول ھذا الموضوع،‏ فلیراجعھ من شاء،‏<br />

وفیھ قولھ:‏ ‏(فالذي یفھم تكفیر من لم یصرح بالعداوة من كلام الشیخ فھمھ باطل ورأیھ<br />

ضال..)‏ أھ.‏ وسیأتي تفصیل كلامھ لاحقا في ھذه الأوراق،‏ ونحن إنما أوردنا مقولاتھم<br />

في ھذا الفصل لبیان أھمیة ھذا الأصل الذي طمست معالمھ عند أكثر دعاة ھذا الزمان.‏<br />

ثم ألحقنا ھذه التوضیحات رغم وضوح الكلام لنسد الطریق على من یحاولون<br />

الصید في الماء العكر؛ فیبحثون عن عمومات وأشیاء ترقّع لھم رمَینا بعقیدة الخوارج.‏<br />

-<br />

(18)<br />

منبر التوحید والجھاد


<strong>ملة</strong> إبراھیم<br />

* ویقول الشیخ محمد بن عبد اللطیف بن عبد الرحمن:‏ ‏(وھذا ھو<br />

إظھار الدین لا كما یظن الجھلة من أنھ إذا تركھ الكفار وخلوا بینھ وبین أن<br />

یصلي ویقرأ القرآن ویشتغل بما شاء من النوافل أنھ یصیر مظھراً‏ لدینھ ھذا<br />

غلط فاحش فإن من یصرح بالعداوة للمشركین والبراءة منھم لا یتركونھ<br />

بین أظھرھم بل إما قتلوه وإما أخرجوه إن وجدوا إلى ذلك سبیلاً‏ كما ذكره<br />

الله عن الكفار قال تعالى:‏ ‏{وقال الذین كفروا لرسلھم لنخرجنكم من أرضنا<br />

أو لتعودن في ملتنا}‏ ‏[إبراھیم:‏ 13] الآیة.‏ وقال إخباراً‏ عن قوم شعیب:‏<br />

‏{لنخرجنك یا شعیب والذین آمنوا معك من قریتنا أو لتعودن في ملتنا}‏<br />

‏[الأعراف:‏ 88] الآیة.‏ وذكر عن أھل الكھف أنھم قالوا:‏ ‏{إنھم إن یظھروا<br />

علیكم یرجموكم أو یعیدوكم في ملتھم ولن تفلحوا إذاً‏ أبدا}‏ ‏[الكھف:‏<br />

وھل اشتدت العداوة بین الرسل وقومھم إلا بعد التصریح بمسبة دینھم<br />

وتسفیھ أحلامھم وعیب آلھتھم)‏ أھ.‏ الدرر - جزء الجھاد ص‎207‎‏.‏<br />

[20<br />

-<br />

* ویقول الشیخ سلیمان بن سحمان عند آیة الممتحنة أیضاً:‏ ‏(فھذه ھي<br />

<strong>ملة</strong> إبراھیم التي قال الله فیھا:‏ ‏{ومن یرغب عن <strong>ملة</strong> إبراھیم إلا من سفھ<br />

نفسھ}‏ ‏[البقرة:‏ 130]، فعلى المسلم أن یعادي أعداء الله ویظھر عداوتھم<br />

ویتباعد عنھم كل التباعد وأن لا یوالیھم ولا یعاشرھم ولا یخالطھم...)‏ أھ<br />

ص‎221‎‏،‏ جزء الجھاد الدرر السنیة.‏<br />

وأخبر الله تعالى عن إبراھیم علیھ السلام في موضع آخر:‏ ‏{قال<br />

أفرأیتم ما كنتم تعبدون * أنتم وآباؤكم الأقدمون * فإنھم عدو لي إلا رب<br />

العالمین}‏ ‏[الشعراء:‏<br />

.[76-75<br />

وفي موضع ثالث یقول سبحانھ:‏ ‏{وإذ قال إبراھیم لأبیھ وقومھ إنني<br />

براء مما تعبدون إلا الذي فطرني فإنھ سیھدین}‏ ‏[الزخرف:‏<br />

.[27<br />

-<br />

* یقول الشیخ العلامة عبد الرحمن بن حسن بن الشیخ محمد بن عبد<br />

الوھاب:‏ ‏(وقد افترض الله تعالى البراءة من الشرك والمشركین والكفر بھم<br />

وعداوتھم وبغضھم وجھادھم:‏ ‏{فبدّل الذین ظلموا قولاً‏ غیر الذي قیل لھم}‏<br />

‏[البقرة:‏ 59]، فوالوھم وأعانوھم وظاھروھم،‏ واستنصروا بھم على<br />

المؤمنین وأبغضوھم وسبوھم من أجل ذلك،‏ وكل ھذه الأمور تناقض<br />

الإسلام كما دل علیھ الكتاب والسنة في مواضع).‏<br />

وھاھنا شبھة یطرحھا كثیر من المتسرعین،‏ وھي قولھم إن <strong>ملة</strong><br />

إبراھیم ھذه إنما ھي مرحلة أخیرة من مراحل الدعوة،‏ یسبقھا البلاغ<br />

بالحكمة والجدال بالتي ھي أحسن،‏ ولا یلجأ الداعیة إلى <strong>ملة</strong> إبراھیم ھذه من<br />

البراءة من أعداء الله ومعبوداتھم والكفر بھا وإظھار العداوة والبغضاء لھم<br />

إلا بعد استنفاذ جمیع أسالیب اللین والحكمة..‏ فنقول وبا‏ التوفیق:‏ إن ھذا<br />

الإشكال إنما حصل بسبب عدم وضوح <strong>ملة</strong> إبراھیم لدى ھؤلاء الناس،‏<br />

وبسبب الخلط بین طریقة الدعوة للكفار ابتداء وطریقتھا مع المعاندین<br />

منھم..‏ وأیضاً‏ الفرق بین ذلك كلھ وبین موقف المسلم من معبودات ومناھج<br />

(19)<br />

منبر التوحید والجھاد


<strong>ملة</strong> إبراھیم<br />

-<br />

وشرائع الكفار الباطلة نفسھا..‏ ف<strong>ملة</strong> إبراھیم من حیث أنھا إخلاص للعبادة <br />

وحده وكفر بكل معبود سواه لا یصح أن تؤخر أو تؤجل..‏ بل ینبغي أن لا<br />

یبدأ إلا بھا،‏ لأن ذلك ھو تماماً‏ ما تحویھ كلمة لا إلھ إلا الله من النفي<br />

والإثبات وھو أصل الدین وقطب الرحى في دعوة الأنبیاء والمرسلین،‏<br />

ولأجل أن یزول عنك،‏ كل إشكال فھاھنا قضیتان:‏<br />

* الأولى:‏<br />

وھي البراءة من الطواغیت والآلھة التي تعبد من دون الله<br />

عز وجل والكفر بھا،‏ فھذه لا تؤخر ولا تؤجل..‏ بل ینبغي أن تظھر وتعلن<br />

منذ أول الطریق.‏<br />

* الثانیة:‏<br />

البراءة من الأقوام المشركین ھم أنفسھم إن أصروا على<br />

باطلھم.‏ وإلیك التفصیل والبیان:‏<br />

القضیة الأولى:‏ وھي الكفر بالطواغیت التي تعبد من دون الله عز<br />

وجل،‏ سواء اكانت ھذه الطواغیت أصناماً‏ من حجر،‏ أو شمساً‏ أو قمراً،‏ أو<br />

قبراً‏ أو شجراً،‏ أو تشریعات وقوانین من وضع البشر..‏ ف<strong>ملة</strong> إبراھیم <strong>ودعوة</strong><br />

الأنبیاء والمرسلین تستلزم إظھار الكفر بھذه المعبودات كلھا وإبداء العداوة<br />

والبغضاء لھا،‏ وتسفیھ قدرھا والحط من قیمتھا وشأنھا وإظھار زیفھا<br />

ونقائصھا وعیوبھا منذ أول الطریق.‏ وھكذا كان حال الأنبیاء حین كانوا<br />

یبدأون دعوتھم لأقوامھم بقولھم:‏ ‏{اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت}‏ ‏[النحل:‏<br />

36]، ومن ھذا قول الله تعالى عن الحنیف إبراھیم علیھ السلام:‏ ‏{قال<br />

أفرأیتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون فإنھم عدو لي إلا رب<br />

العالمین}‏ ‏[الشعراء:‏<br />

.[75<br />

وقولھ في الأنعام:‏ ‏{قال یا قوم إني بريء مما تشركون}‏ ‏[الأنعام:‏<br />

‏{إذا قال إبراھیم لأبیھ وقومھ إنني براء مما تعبدون إلا الذي<br />

فطرني فإنھ سیھدین}..‏ ‏[الزخرف:‏<br />

.[27<br />

78]، وقولھ:‏<br />

وكذا قولھ سبحانھ عن قوم إبراھیم:‏ ‏{قالوا من فعل ھذا بآلھتنا إنھ<br />

لمن الظالمین قالوا سمعنا فتى یذكرھم یقال لھ إبراھیم}‏ ‏[الأنبیاء:‏<br />

قال المفسرون:‏ ‏{یذكرھم}‏ أي یعیبھم ویستھزىء بھم ویتنقصھم.‏ والكتاب<br />

والسنة یمتلئان بالأدلة على ذلك..‏ ویكفینا من ذلك ھدي النبي صلى الله علیھ<br />

وسلم بمكة،‏ وكیف كان یسفھ آلھة قریش ویظھر البراءة منھا والكفر بھا<br />

حتى كانوا یلقبونھ بالصابئ.‏<br />

.[60<br />

وإن شئت أن تتأكد من ذلك وتتیقنھ فارجع وتدبر القرآن المكي،‏ الذي<br />

ما كانت تتنزل على النبي صلى الله علیھ وسلم منھ بضع آیات حتى تضرب<br />

بھا أكباد المطي شرقاً‏ وغرباً‏ وشمالاً‏ وجنوباً،‏ وتتناقلھا الألسنة في الأسواق<br />

والمجالس والنوادي..‏ وكانت ھذه الآیات تخاطب العرب بلغتھم العربیة<br />

المفھومة..‏ بكل وضوح وجلاء تسفھ آلھتھم وعلى رأسھا اللات والعزى<br />

ومناة الثالثة الأخرى،‏ أعظم الآلھة عند القوم في ذلك الزمان،‏ وتعلن البراءة<br />

(20)<br />

منبر التوحید والجھاد


<strong>ملة</strong> إبراھیم<br />

منھا وعدم الالتقاء معھا أو الرضى بھا وما كان النبي صلى الله علیھ وسلم<br />

لیكتم شیئاً‏ من ذلك..‏ إن ھو إلا نذیر.‏<br />

-<br />

-<br />

-<br />

فالذین یصدّرون أنفسھم للدعوة في ھذا الزمان بحاجة إلى تدبر ھذا<br />

الأمر جیداً‏ ومحاسبة أنفسھم علیھ كثیراً،‏ لأن دعوة تسعى لنصرة دین الله ثم<br />

تلقي بھذا الأصل الأصیل وراءھا ظھریاً‏ لا یمكن أن تكون على منھج<br />

الأنبیاء والمرسلین..‏ وھا نحن نعایش في ھذا الزمان انتشار شرك التحاكم<br />

إلى الدساتیر والقوانین الوضعیة بین ظھرانینا،‏ فیلزم ھذه الدعوات ولا بد،‏<br />

التأسي بنبیھا في اتباع <strong>ملة</strong> إبراھیم بتسفیھ قدر ھذه الدساتیر وتلك القوانین<br />

وذكر نقائصھا للناس وإبداء الكفر بھا وإظھار وإعلان العداوة لھا <strong>ودعوة</strong><br />

الناس إلى ذلك..‏ وبیان تلبیس الحكومات وضحكھا على الناس..‏ وإلا فمتى<br />

یظھر الحق،‏ وكیف یعرف الناس دینھم حق المعرفة،‏ ویمیزون الحق من<br />

الباطل والعدو من الولي..‏ ولعل الغالبیة یتعذرون بمصلحة الدعوة وبالفتنة..‏<br />

وأي فتنة أعظم من كتمان التوحید والتلبیس على الناس في دینھم،‏ وأي<br />

مصلحة أعظم من إقامة <strong>ملة</strong> إبراھیم وإظھار الموالاة لدین الله والمعاداة<br />

للطواغیت التي تعبد ویدان لھا من دون الله،‏ وإذا لم یبتل المسلمون لأجل<br />

ذلك وإذا لم تقدم التضحیات في سبیلھ فلأي شيء إذاً‏ یكون البلاء..‏ فالكفر<br />

بالطواغیت كلھا واجب على كل مسلم بشطر شھادة الإسلام..‏ وإعلان ذلك<br />

وإبداؤه وإظھاره واجب عظیم أیضاً‏ لا بد وأن تصدع بھ جماعات المسلمین<br />

أو طائفة من كل جماعة منھم على الأقل،‏ حتى یشتھر وینتشر ویكون ھو<br />

الشعار والصفة الممیزة لھذه الدعوات كما كان حال النبي صلى الله علیھ<br />

وسلم،‏ لیس في زمن التمكین وحسب بل وفي زمن الاستضعاف،‏ حیث كان<br />

یشار إلیھ بالأصابع ویحذر منھ ویوصف بعداوة الآلھة وغیر ذلك..‏ وإننا<br />

لنعجب أي دعوة ھذه التي یتباكى أولئك الدعاة على مصلحتھا وأي دین ھذا<br />

الذي یریدون إقامتھ وإظھاره وأكثرھم یلھج بمدح القانون الوضعي ویا<br />

للمصیبة وبعضھم یثني علیھ ویشھد بنزاھتھ وكثیر منھم یقسم على<br />

احترامھ والالتزام ببنوده وحدوده،‏ عكساً‏ للقضیة والطریق فبدلاً‏ من إظھار<br />

وإبداء العداوة لھ والكفر بھ،‏ یظھرون الولاء لھ والرضى عنھ،‏ فھل مثل<br />

ھؤلاء ینشرون توحیداً‏ أو یقیمون دیناً؟!‏ إلى الله المشتكى..‏<br />

وإبداء ھذا الأمر وإظھاره لیس لھ علاقة بتكفیر الحاكم أو إصراره<br />

على الحكم بغیر شریعة الرحمن..‏ لأنھ متعلق بالدستور أو التشریع أو<br />

القانون القائم المحترم المطبق المبجل المحكم بین الناس.‏<br />

القضیة الثانیة:‏ وھي البراءة من المشركین والكفر بھم وإظھار<br />

العداوة والبغضاء لھم ھم أنفسھم.‏<br />

* یقول العلامة ابن القیم رحمھ الله تعالى في إغاثة اللھفان:‏ ‏(وما نجا<br />

من شرك ھذا الشرك الأكبر إلا من جرد توحیده وعادى المشركین في<br />

الله وتقرب بمقتھم إلى الله)‏ أھ.‏ وینسب لشیخ الإسلام وھذه القضیة أي<br />

البراءة من المشركین أھم من الأولى أعني ‏(البراءة من معبوداتھم).‏<br />

-<br />

-<br />

(21)<br />

منبر التوحید والجھاد


<strong>ملة</strong> إبراھیم<br />

:[4<br />

48<br />

* یقول الشیخ حمد بن عتیق رحمھ الله تعالى في ‏"سبیل النجاة<br />

والفكاك"‏ عند قولھ تعالى:‏ ‏{إنا برءاؤا منكم ومما تعبدون من دون الله}‏<br />

‏[الممتحنة:‏ ‏(وھاھنا نكتة بدیعة وھي أن الله تعالى قدّم البراءة من<br />

المشركین العابدین غیر الله،‏ على البراءة من الأوثان المعبودة من دون الله<br />

لأن الأول أھم من الثاني،‏ فإنھ إن تبرأ من الأوثان ولم یتبرأ ممن عبدھا لا<br />

یكون آتیاً‏ بالواجب علیھ.‏ وأما إذا تبرأ من المشركین فإن ھذا یستلزم البراءة<br />

من معبوداتھم،‏ وكذا قولھ:‏ ‏{وأعتزلكم وما تدعون من دون الله}‏ ‏[مریم:‏<br />

[ الآیة.‏ فقدّم اعتزالھم على اعتزال ما یدعون من دون الله.‏ وكذا قولھ:‏<br />

وإذ<br />

‏{فلما اعتزلھم وما یعبدون من دون الله}‏ ‏[مریم:‏<br />

اعتزلتموھم وما یعبدون من دون الله ‏[الكھف:‏ 16]، فعلیك بھذه النكتة<br />

فإنھا تفتح لك باباً‏ إلى عداوة أعداء الله.‏ فكم من إنسان لا یقع منھ الشرك<br />

ولكنھ لا یعادي أھلھ فلا یكون مسلماً‏ بذلك إذ ترك دین جمیع المرسلین)‏ (8)<br />

أھ.‏<br />

،[49 وقولھ:‏ }<br />

{<br />

* ویقول الشیخ عبد اللطیف بن عبد الرحمن في رسالة لھ في الدرر<br />

السنیة:‏ ‏(والمرء قد ینجو من الشرك ویحب التوحید،‏ ولكنھ یأتیھ الخلل من<br />

جھة عدم البراءة من أھل الشرك وترك موالاة أھل التوحید ونصرتھم.‏<br />

فیكون متبعاً‏ لھواه داخلاً‏ من الشرك في شعب تھدم دینھ وما بناه،‏ تاركاً‏ من<br />

التوحید أصولاً‏ وشعباً‏ لا یستقیم معھا إیمانھ الذي ارتضاه فلا یحب ولا<br />

یبغض ولا یعادي ولا یوالي لجلال من أنشأه وسوّ‏ اه،‏ وكل ھذا یؤخذ من<br />

شھادة أن لا إلھ إلا الله)‏ أھ من جزء الجھاد ص‎681‎‏.‏<br />

* ویقول أیضاً‏ في رسالة أخرى لھ من الكتاب نفسھ ص‎842‎‏:‏<br />

‏(وأفضل القرب إلى الله مقت أعدائھ المشركین وبغضھم وعداوتھم<br />

وجھادھم وبھذا ینجو العبد من تولیھم من دون المؤمنین،‏ وإن لم یفعل ذلك<br />

فلھ من ولایتھم بحسب ما أخل بھ وتركھ من ذلك،‏ فالحذر الحذر مما یھدم<br />

الإسلام ویقلع أساسھ)‏ أھ.‏<br />

* ویقول سلیمان بن سحمان:‏<br />

فمن لم یعاد المشركین ولم<br />

فلیس على منھاج سنة أحمد<br />

یوال ولم یبغض ولم یتجنب<br />

ولیس على نھج قویم معرب<br />

* وقول الشیخ محمد بن عبد الوھاب رحمھ الله:‏ ‏(لا بد للمسلم من<br />

التصریح بأنھ من ھذه الطائفة المؤمنة،‏ حتى یقویھا وتقوى بھ ویفزع<br />

(8) مقصود الشیخ ھنا والله أعلم أن لا یعادیھم ولا یبغضھم ج<strong>ملة</strong> وتفصیلاً‏ حتى في<br />

قلبھ،‏ بل یضمر لھم بدلاً‏ من ذلك الود والمحبة فھذا لا شك قد نقض إیمانھ وترك دین<br />

جمیع المرسلین،‏ قال تعالى:‏ ‏{لا تجد قوماً‏ یؤمنون با‏ والیوم الآخر یوادون من حاد<br />

الله ورسولھ}.‏<br />

(22)<br />

منبر التوحید والجھاد


<strong>ملة</strong> إبراھیم<br />

الطواغیت،‏ الذین لا یبلغون الغایة في العداوة حتى یصرح لھم أنھ من ھذه<br />

الطائفة المحاربة لھم).‏ أھ من مجموعة التوحید.‏<br />

* وسئل الشیخ حسین والشیخ عبد الله ابنا الشیخ محمد بن عبد<br />

الوھاب عن رجل دخل ھذا الدین وأحبھ وأحب أھلھ،‏ ولكن لا یعادي<br />

المشركین أو عاداھم ولم یكفرھم؟ فكان مما أجابا بھ:‏ ‏(من قال لا أعادي<br />

المشركین،‏ أو عاداھم ولم یكفرھم؟ فھو غیر مسلم؟ وھو ممن قال الله تعالى<br />

فیھم:‏ ‏{ویقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ویریدون أن یتخذوا بین ذلك<br />

سبیلا،‏ أولئك ھم الكافرون حقاً‏ وأعتدنا للكافرین عذاباً‏ مھیناً}‏ ‏[النساء:‏<br />

151]. أھ.‏ من الدرر (9) .<br />

* یقول سلیمان بن سحمان:‏<br />

فعاد الذي عادى لدین محمد<br />

وأحبب لحب الله من كان مؤمناً‏<br />

أھل التمرد<br />

وما الدین إلا الحب والبغض والولا<br />

غاو ومعتد<br />

* ویقول أیضاً:‏<br />

نعم لو صدقت الله فیما زعمتھ<br />

ووالیت أھل الحق سراً‏ وجھرة<br />

تنصر<br />

فما كل من قد قال ما قلت مسلم<br />

مباینة الكفار في كل موطن<br />

المقرر<br />

وتكفیرھم جھراً‏ وتسفیھ رأیھم<br />

وتصدع بالتوحید بین ظھورھم<br />

وتجھر<br />

فھذا ھو الدین الحنیفي والھدى<br />

ووال الذي والاه من كل مھتد<br />

وأبغض لبغض الله<br />

كذاك البرا من كل<br />

لعادیت من باللھ ویحك یكفر<br />

ولما تھاجیھم وللكفر<br />

ولكن بأشراط ھنالك تذكر<br />

بذا جاءنا النص الصحیح<br />

وتضلیلھم فیما أتوه وأظھروا<br />

وتدعوھموا سراً‏ لذاك<br />

و<strong>ملة</strong> إبراھیم لو كنت تشعر<br />

(9) انظر الھامش السابق.‏<br />

(23)<br />

منبر التوحید والجھاد


<strong>ملة</strong> إبراھیم<br />

بالطبع لا نقول إن إظھار مثل ھذه البراءة والعداوة شا<strong>ملة</strong> حتى<br />

للمؤلفة قلوبھم،‏ أو من یظھرون التقبل ولا یظھرون العداوة لدین الله،‏ وإن<br />

كان الواجب وجودھا في القلب لكل مشرك،‏ حتى یتطھر من شركھ،‏ ولكن<br />

الكلام على الإظھار والإعلان والمجاھرة والإبداء،‏ فھؤلاء وحتى<br />

المتجبرین والظالمین یُدعون إلى طاعة الله بالحكمة والموعظة الحسنة<br />

ابتداء فإن استجابوا فھم إخواننا نحبھم بقدر طاعتھم ولھم ما لنا،‏ وعلیھم ما<br />

علینا.‏ وإن أبوا مع وضوح الحجة واستكبروا وأصروا على ما ھم علیھ من<br />

الباطل والشرك ووقفوا في الصف المعادي لدین الله،‏ فلا مجا<strong>ملة</strong> معھم ولا<br />

مداھنة..‏ بل یجب إظھار وإبداء البراءة منھم عند ذلك..‏ وینبغي التفریق ھنا<br />

بین الحرص على ھدایة المشركین والكفار وكسب أنصار للدین واللین في<br />

البلاغ والحكمة والموعظة الحسنة وبین قضیة الحب والبغض والموالاة<br />

والمعاداة في دین الله،‏ لأن كثیراً‏ من الناس یخلط في ذلك فتستشكل علیھم<br />

كثیر من النصوص مثل:‏ ‏"اللھم اھدِ‏ قومي فإنھم لا یعلمون"‏ وما إلى ذلك.‏<br />

وقد تبرأ إبراھیم من أقرب الناس إلیھ،‏ لما تبین لھ أنھ مصرّ‏ على<br />

شركھ وكفره،‏ قال تعالى عنھ:‏ ‏{فلما تبین لھ أنھ عدو تبرأ منھ}‏ ‏[التوبة:‏<br />

114].. ذلك بعد أن دعاه بالحكمة والموعظة الحسنة،‏ فتجده یخاطبھ بقولھ:‏<br />

‏{یا أبت إني قد جاءني من العلم}‏ ‏[مریم:‏ ‏{یا أبت إني أخاف أن<br />

یمسك عذاب من الرحمن}‏ ‏[مریم:‏ 45].. وھكذا موسى مع فرعون..‏ بعد<br />

أن أرسلھ الله إلیھ وقال:‏ ‏{فقولا لھ قولاً‏ لیّنا لعلھ یتذكر أو یخشى}‏ ‏[طھ:‏<br />

44].. فقد بدأ معھ بالقول اللین استجابة لأمر الله فقال:‏ ‏{ھل لك إلى أن<br />

تزكّى وأھدیك إلى ربك فتخشى}‏ وأراه الآیات والبینات..‏ فلما أظھر فرعون<br />

التكذیب والعناد والإصرار على الباطل،‏ قال لھ موسى كما أخبر تعالى:‏<br />

‏{لقد علمت ما أنزل ھؤلاء إلا رب السماوات والأرض بصائر وإني أظنك<br />

یا فرعون مثبورا}‏ ‏[الإسراء:‏ 102]. بل ویدعو علیھم قائلاً:‏ ‏{ربنا إنك<br />

آتیت فرعون وملأه زینة وأموالاً‏ في الحیاة الدنیا ربنا لیضلوا عن سبیلك<br />

ربنا اطمس على أموالھم واشدد على قلوبھم فلا یؤمنوا حتى یروا العذاب<br />

الألیم}‏ ‏[یونس:‏ 88]، فالذین یدندنون على نصوص الرفق واللین والتیسیر<br />

على إطلاقھا ویحملونھا على غیر محملھا،‏ ویضعونھا في غیر موضعھا،‏<br />

ینبغي لھم أن یقفوا عند ھذه القضیة طویلاً،‏ ویتدبروھا ویفھموھا فھماً‏<br />

جیداً..‏ إن كانوا مخلصین..‏<br />

..[43<br />

ولیعلموا بعد ذلك جیداً،‏ أن من كُلم بشتى الأسالیب وأغلبھا من<br />

أسالیب الرفق واللین،‏ سواء عن طریق الرسائل والكتب أو مباشرة<br />

ومواجھة عن طریق كثیر من الدعاة،‏ وبُیّن لھ أن الحكم بغیر ما أنزل الله<br />

كفر..‏ وعلم بأنھ لا یجوز لھ الحكم بغیر شریعة الله..‏ ولكنھ برغم ذلك یصر<br />

ویستكبر..‏ وإن كان في ظاھره في كثیر من المناسبات یضحك على أذقان<br />

المساكین بوعوده الفارغة الكاذبة وكلماتھ المعسولة وحججھ الواھیة<br />

الزائفة..‏ ولسان حالھ یكذب مقالھ.‏ وذلك بإقراره وسكوتھ عن ازدیاد الكفر<br />

والفساد في البلاد والعباد یوماً‏ بعد یوم..‏ وتشدیده على الدعاة والمؤمنین،‏<br />

وتضییقھ على المصلحین ورصده لھم بأجھزة مخابراتھ وشرطتھ..‏<br />

(24)<br />

منبر التوحید والجھاد


<strong>ملة</strong> إبراھیم<br />

وتوسیعھ في الوقت ذاتھ على كل محارب لدین الله،‏ وتسھیل وسائل الفساد<br />

والإفساد لأعداء الله بل وتسخیر وسائل الإعلام لھم ولفسادھم ولإلحادھم..‏<br />

وإصدار القوانین واللوائح التي تعاقب كل من تھجم على یاسقھ العصري<br />

الوضعي الشركي أو أعلن الكفر والبراءة منھ أو تنقصھ أو بیّن باطلھ<br />

للناس..‏ وإصراره على إبقائھ الحاكم الذي یفصل بین العباد في دمائھم<br />

وأموالھم وفروجھم،‏ رغم ما ھو مشحون بھ من الكفر البواح..‏ وعدم<br />

استسلامھ لشرع الله وتحكیمھ مع علمھ بوجوب ذلك ومطالبة المصلحین<br />

بھ..‏ فمثل ھذا لا تجوز مداھنتھ أو مھادنتھ أو مجاملتھ أو تبجیلھ بألقابھ أو<br />

تھنئتھ بالأعیاد والمناسبات أو إظھار الولاء لھ أو لحكومتھ..‏ بل لا یقال لھ<br />

إلا كما قال إبراھیم والذین معھ لقومھم:‏ إنا برءاء منك ومن دستورك<br />

وقوانینك الشركیة وحكومتك الكفریة..‏ كفرنا بكم..‏ وبدا بیننا وبینكم العداوة<br />

والبغضاء أبداً‏ حتى ترجعوا إلى الله وتستسلموا وتنقادوا لشرعھ وحده..‏<br />

ویدخل في ذلك أیضاً‏ التحذیر من موالاتھم ومن الدخول في طاعتھم<br />

والاطمئنان إلیھم والمشي في ركابھم وتكثیر سوادھم عن طریق الوظائف<br />

التي تعینھم على باطلھم أو تثبت حكوماتھم وتحفظ أو تنفذ قوانینھم الباطلة<br />

كالجیش والشرطة والمباحث وغیر ذلك..‏<br />

-<br />

ولقد كانت مواقف السلف مع أمراء زمانھم الذین لا تصح بحال من<br />

الأحوال مقارنتھم بھذا الطاغوت وأمثالھ مواقف حازمة واضحة نظیفة..‏<br />

وأین مواقف كثیر من أصحاب الدعوات في زماننا ھذا منھا..‏ مع شھرة<br />

ھؤلاء وتصفیق أتباعھم لھم..‏ ومع أن أولئك السلف ما تخرجوا من كلیات<br />

العلوم السیاسیة أو الحقوق،‏ ولا كانوا یقرأون الجرائد أو المجلات النتنة<br />

بحجة التبصر بمكاید الأعداء..‏ مع ذلك كانوا یفرون من السلطان وأبوابھ<br />

والسلطان یطلبھم ویغریھم بالأموال وغیرھا..‏ أما المنتسبون إلیھم الیوم<br />

ممن لعب الشیطان بدینھم فیطلبون صلاح دنیاھم بفساد دینھم؛ فیأتون<br />

ویطلبون أبواب السلطان والسلطان یذلھم ویعرض عنھم..‏ وكان السلف<br />

رضوان الله علیھم ینھون عن الدخول على أمراء الجور،‏ حتى لمن أراد<br />

أمرھم بالمعروف أو نھیھم عن المنكر،‏ مخافة أن یفتتن بھم فیداھنھم أو<br />

یجاملھم لإكرامھم أو یسكت عن بعض باطلھم ویقره،‏ ویرون أن البعد عنھم<br />

واعتزالھم خیر براءة وإنكار لأحوالھم..‏ واستمع إلى سفیان الثوري وھو<br />

یكتب إلى عباد بن عباد فیقول في كتابھ:‏ ‏(إیاك والأمراء أن تدنو منھم أو<br />

تخالطھم في شيء من الأشیاء،‏ وإیاك ویقال لك لتشفع وتدرأ عن مظلوم أو<br />

ترد مظلمة فإن ذلك خدیعة إبلیس..‏ وإنما اتخذھا فجار القراء سلماً..)‏ اھ.‏<br />

من سیر أعلام النبلاء (586/13) وجامع بیان العلم وفضلھ (179/1)<br />

فانظر إلى سفیان رحمھ الله تعالى وھو یسمي ما یصفھ دعاة الیوم بمصلحة<br />

الدعوة:‏ ‏"خدیعة إبلیس"..‏ ولم یقل لصاحبھ كما یفعل كثیر من دعاة ھذا<br />

الزمان الذین یضیعون أعمارھم في طلب مصلحة الدعوة ونصر الدین عند<br />

أعدائھ ومحاربیھ:‏ ‏(لا یا أخي!!‏ اثبت وجودك وتقرب إلیھم لعلك تحصل<br />

على منصب أو كرسي في مجلس الوزراء أو مجلس الأمة،‏ ولعلك تقلل من<br />

الظلم أو تنفع إخوانك.‏ ولا تترك ھذا المنصب للعصاة والفجرة لیستغلوه..‏<br />

و...‏ و..)‏ بل وصف ذلك بأنھ سلم للدنیا عند فجار القراء وإذا كان ھذا في<br />

-<br />

(25)<br />

منبر التوحید والجھاد


<strong>ملة</strong> إبراھیم<br />

.<br />

-<br />

-<br />

-<br />

زمانھ فكیف في زماننا.‏ نسأل الله العافیة،‏ ونعوذ با‏ من شر أھل ھذا<br />

الزمان وشر تلبیساتھم..‏ ورحم الله من قال:‏<br />

قوم تراھم مھطعین لمجلس<br />

بل فیھ قانون النصارى حاكماً‏<br />

القرآن<br />

تبّاً‏ لكم من معشر قد أشربوا<br />

فیھ الشقاء وكل كفر دان<br />

من دون نص جاء في<br />

حب الخلاف ورشوة السلطان<br />

* وھذا شیخ الإسلام محمد بن عبد الوھاب یكرر كثیراً‏ ما جاء عن<br />

سفیان الثوري من قولھ:‏ ‏(من جالس صاحب بدعة لم یسلم من إحدى ثلاث:‏<br />

إما أن یكون فتنة لغیره بالجلوس معھ،‏ وقد ورد في الحدیث:‏ ‏(من<br />

سن في الإسلام سنّة حسنة فلھ أجرھا وأجر من عمل بھا بعده،‏ من غیر أن<br />

ینقص من أجورھم شيء ومن سن في الإسلام سنة سیئة كان علیھ وزرھا<br />

ووزر من عمل بھا من بعده من غیر أن ینقص من أوزارھم شيء)‏ رواه<br />

مسلم.‏<br />

أن یقع في قلبھ شيء من الاستحسان،‏ فیزل بھ فیدخلھ الله النار<br />

بسبب ذلك.‏<br />

أن یقول:‏ ‏(والله ما أبالي بما تكلموا وإني واثق من نفسي فمن أمن<br />

الله على دینھ طرفة عین سلبھ الله إیاه)‏ اھ.‏ من الدرر السنیة وغیرھا.‏<br />

فإذا كانت ھذه أقوالھم في مجالسة أھل البدع وإن كانت بدعھم غیر<br />

مكفرة كما ھو معلوم في مواضع كثیرة من كلامھم..‏ فكیف بمجالسة<br />

المرتدین من عبید القانون وغیرھم من المشركین..‏ وتأمل قولھ في الثالثة:‏<br />

‏(إني واثق من نفسي)‏ وكم سقط بسببھا وبمثلھا كثیر من دعاة زماننا،‏<br />

فالسلامة..‏ السلامة.‏<br />

وعلى كل حال فقد أبطل الله تعالى جمیع ھذه الطرق المعوجة التي<br />

یحلم أصحابھا أن وراءھا نصراً‏ للدین..‏ فبین جل وعلا أن لا نصر یرتجى<br />

ولا مصلحة دینیة أبداً‏ في التقرب إلى الظلمة..‏ فقال سبحانھ في سورة ھود<br />

التي شی َّبَت النبي صلى الله علیھ وسلم:‏ ‏{ولا تركنوا إلى الذین ظلموا<br />

فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولیاء ثم لا تنصرون<br />

]، فلیس وراء ھذه المداھنات والسبل الملتویة نصراً‏ لدین الله ولا<br />

مصلحة وإن توھم ذلك المتوھمون..‏ اللھم إلا أن یكون مسیس النار عندھم<br />

مصلحة للدعوة..‏ فأفق من نومك،‏ ولا تغتر بكل ناعق وزاعق..‏<br />

{ ‏[ھود:‏<br />

113<br />

* وقد قال المفسرون في قولھ تعالى:‏ ‏{ولا تركنوا}‏ الركون ھو المیل<br />

الیسیر.‏<br />

(26)<br />

منبر التوحید والجھاد


<strong>ملة</strong> إبراھیم<br />

)<br />

* وقال أبو العالیة:‏ لا تمیلوا إلیھم كل المیل في المحبة ولین الكلام.‏<br />

* وقال سفیان الثوري:‏ من لاق لھم دواة أو برى لھم قلماً‏ أو ناولھم<br />

قرطاساً‏ دخل في ذلك.‏<br />

* قال الشیخ حمد بن عتیق:‏ فتوعد سبحانھ بمسیس النار من ركن إلى<br />

أعدائھ ولو بلین الكلام.‏<br />

* وقال الشیخ عبد اللطیف بن عبد الرحمن ‏-وھو من أئمة الدعوة<br />

النجدیة السلفیة أیضاً-‏ بعد أن ذكر بعض أقوال المفسرین السابقة في معنى<br />

الركون:‏ وذلك لأن ذنب الشرك أعظم ذنب عصي الله بھ على اختلاف<br />

رتبھ،‏ فكیف إذا انضاف إلیھ ما ھو أفحش،‏ من الاستھزاء بآیات الله وعزل<br />

أحكامھ وأوامره وتسمیة ما ضاده وخالفھ بالعدالة،‏ والله یعلم ورسولھ<br />

والمؤمنون أنھا الكفر والجھل والضلالة،‏ ومن لھ أدنى أنفة وفي قلبھ<br />

نصیب من الحیاة یغار ورسولھ وكتابھ ودینھ ویشتد إنكاره وبراءتھ في<br />

كل محفل،‏ وكل مجلس،‏ وھذا من الجھاد الذي لا یحصل جھاد العدو إلا بھ،‏<br />

فاغتنم إظھار دین الله والمذاكرة بھ وذم ما خالفھ والبراءة منھ ومن أھلھ،‏<br />

وتأمل الوسائل المفضیة إلى ھذه المفسدة الكبرى وتأمل نصوص الشارع<br />

في قطع الوسائل والذرائع،‏ وأكثر الناس ولو تبرأ من ھذا ومن أھلھ،‏ فھو<br />

جند لمن تولاھم وأنس بھم وأقام بحماھم والله المستعان)‏ اھ من الدرر،‏<br />

جزء الجھاد ص‎161‎‏.‏ فللھ دره كأنّھ یتكلم عن زماننا.‏<br />

* یقول الشیخ محمد بن عبد الوھاب:‏ ‏(فا‏ الله یا إخواني تمسكوا<br />

بأصل دینكم،‏ وأوّ‏ لھ وأُسّھ ورأسھ،‏ شھادة أن لا إلھ إلا الله،‏ واعرفوا معناھا<br />

وأحبوھا،‏ وأحبوا أھلھا،‏ واجعلوھم إخوانكم،‏ ولو كانوا بعیدین منكم نسباً‏<br />

واكفروا بالطواغیت وعادوھم وأبغضوھم،‏ وأبغضوا من أحبھم.‏ أو جادل<br />

عنھم أو لم یكفرھم،‏ أو قال ما عليّ‏ منھم،‏ أو قال ما كلفني الله بھم،‏ فقد كذب<br />

ھذا على الله وافترى إثماً‏ مبیناً،‏ فقد كلّف الله كل مسلم ببغض الكفار،‏<br />

وافترض علیھ عداوتھم،‏ وتكفیرھم والبراءة منھم،‏ ولو كانوا آبائھم أو<br />

أبنائھم أو إخوانھم،‏ فا‏ الله تمسكوا بذلك لعلكم تلقون ربكم لا تشركون بھ<br />

شیئاً)‏ أھ.‏ من مجموعة التوحید.‏<br />

‏*تنبیھ:‏ واعلم بعد ذلك كلھ،‏ أن لا تنافي بین القیام ب<strong>ملة</strong> إبراھیم والأخذ<br />

بأسباب السریة والكتمان في العمل الجاد لنصرة الدین..‏ وكلامنا ھذا كلھ لا<br />

یرد ھذا السبب العظیم الذي كان یأخذ بھ النبي صلى الله علیھ وسلم والأدلة<br />

علیھ من سیرتھ أكثر من أن تحصى..‏ ولكن الذي یقال:‏ إن ھذه السریة یجب<br />

أن توضع في مكانھا الحقیقي..‏ وھي سریة التخطیط والإعداد،‏ اما <strong>ملة</strong><br />

إبراھیم والكفر بالطواغیت ومناھجھم وآلھتھم الباطلة فھذه لا تدخل في<br />

السریة بل من علنیة الدعوة فینبغي إعلانھا منذ أول الطریق كما بینا سابقاً،‏<br />

وعلى ذلك یُحمل قول النبي صلى الله علیھ وسلم:‏ ‏(لا تزال طائفة من أمتي<br />

ظاھرین على الحق)..‏ الحدیث.‏ رواه مسلم وغیره..‏ أما إخفاؤھا وكتمھا<br />

(27)<br />

منبر التوحید والجھاد


<strong>ملة</strong> إبراھیم<br />

مداھنة للطواغیت،‏ وتغلغلاً‏ في صفوفھم وارتقاء في مناصبھم..‏ فلیس من<br />

ھدي نبینا محمد ε.. بل ھو من ھدي وسریة أصحاب التنظیمات الأرضیة<br />

الذین یجب أن یقال لھم أیضاً:‏ ‏{لكم دینكم ولي دین}..‏ وخلاصة الأمر أنھا:‏<br />

سریة في الإعداد والتخطیط علنیة في الدعوة والتبلیغ.‏<br />

* وإنما قلنا ذلك لأن كثیراً‏ من الناس سواء من المرجفین أو ممن لم<br />

یفھموا دعوة الأنبیاء حق الفھم،‏ یقولون عن جھل منھم إن ھذه الطریق التي<br />

تدعون إلیھا تكشفنا وتفضح تخطیطاتنا وتعجّل بالقضاء على الدعوة<br />

وثمراتھا..‏<br />

فیقال لھم أولاً:‏ إن ھذه الثمرات المزعومة لن تینع ولن یبدو صلاحھا<br />

حتى یكون الغراس على منھاج النبوة،‏ وواقع ھذه الدعوات العصریة أكبر<br />

دلیل وشاھد على ذلك بعد الأدلة الشرعیة المتقدمة من ملّة إبراھیم <strong>ودعوة</strong><br />

الأنبیاء والمرسلین صلوات الله وسلامھ علیھم أجمعین..‏ حیث إن ما نعانیھ<br />

الیوم من جھل أبناء المسلمین والتباس الحق علیھم بالباطل،‏ وعدم وضوح<br />

مواقف الولاء والبراء،‏ إنما ھو من سكوت وكتمان العلماء والدعاة لھذا<br />

الحق ولو أنھم صرحوا وصدعوا بھ وابتلوا كما ھو حال الأنبیاء لظھر<br />

وبان للناس جمیعاً،‏ ولتمحص وتمیز بذلك أھل الحق من أھل الباطل<br />

ولبلغت رسالات الله ولزال التلبیس الحاصل على الناس خاصة في الأمور<br />

المھمة والخطیرة في ھذا الزمان،‏ وكما قیل:‏ ‏(إذا تكلم العالم تقیة والجاھل<br />

بجھلھ فمتى یظھر الحق).‏ وإذا لم یظھر دین الله وتوحیده العملي<br />

والاعتقادي للناس..‏ فأي ثمار تلك التي ینتظرھا ویرجوھا ھؤلاء الدعاة.؟<br />

أھي ‏(الدولة الإسلامیة)؟ إن إظھار توحید الله الحق للناس وإخراجھم<br />

من ظلمات الشرك إلى أنوار التوحید ھي الغایة العظمى والمقصود الأھم<br />

وإن نكّل بالدعوات وإن ابتلي الدعاة..‏<br />

وھل یظھر الدین إلا بالمدافعة والبلاء:‏ ‏{ولولا دفع الله الناس بعضھم<br />

ببعض لفسدت الأرض}‏ ‏[البقرة:‏ 251]، فبذلك یكون إعلاء دین الله وإنقاذ<br />

الناس وإخراجھم من الشرك باختلاف صوره،‏ وھذه ھي الغایة التي یكون<br />

من أجلھا البلاء وتنحر على عتباتھا التضحیات..‏ وما الدولة الإسلامیة<br />

أصلاً‏ إلا وسیلة من وسائل ھذه الغایة العظمى..‏ وفي قصة أصحاب<br />

الأخدود عبرة لأولي الألباب فإن ذلك الغلام الداعیة الصادق ما أقام دولة<br />

ولا صولة ولكنّھ أظھر توحید الله أیما إظھار،‏ ونصر الدین الحق نصراً‏<br />

مؤزراً‏ ونال الشھادة،‏ وما قیمة الحیاة بعد ذلك،‏ وما وزن القتل والحرق<br />

والتعذیب إذا فاز الداعیة بالفوز الأكبر..‏ كانت الدولة أم لم تكن..‏ وإن حُرّ‏<br />

المؤمنین وإن خُد َّت لھم الأخادید فإنھم منتصرون لأن كلمة الله ھي الظاھرة<br />

والعلیا..‏ أضف إلى ذلك أن الشھادة طریقھم والجنة نزلھم..‏ فأنعم بذلك<br />

أنعم..‏<br />

ِ ق<br />

(28)<br />

منبر التوحید والجھاد


<strong>ملة</strong> إبراھیم<br />

* وبھذا تعلم أن قول أولئك الجھّال:‏ ‏(إن ھذه الطریق تقضي على<br />

الدعوة وتعجل ببوار ثمراتھا)‏ جھل وإرجاف،‏ لأن ھذه الدعوة ھي دین الله<br />

الذي وعد الله عز وجل بأن یظھره على الدین كلھ ولو كره المشركون،‏<br />

وذلك كائن لا ریب فیھ،‏ ونصرة دین الله وإعلاؤه لیست متعلقة بأشخاص<br />

ھؤلاء المرجفین،‏ تذھب بذھابھم أو تھلك بھلاكھم أو تولیھم..‏ قال تعالى:‏<br />

‏{وإن تتولوا یستبدل قوماً‏ غیركم ثم لا یكونوا أمثالكم}‏ ‏[محمد:‏<br />

‏{یا أیھا الذین آمنوا من یرتد منكم عن دینھ فسوف یأتي الله بقوم<br />

یحبھم ویحبونھ أذلة على المؤمنین أعزة على الكافرین یجاھدون في<br />

سبیل الله ولا یخافون لومة لائم ذلك فضل الله یؤتیھ من یشاء والله واسع<br />

علیم}‏ ‏[المائدة:‏ 54]، وقال سبحانھ:‏ ‏{ومن یتول فإن الله ھو الغني الحمید}‏<br />

‏[الحدید:‏ 24]، وھا ھي دعوات الرسل والأنبیاء وأتباعھم خیر شاھد في<br />

شعاب الزمان..‏ وقد كانوا أشد الناس بلاءً‏ وامتحاناً‏ وما أثّر ذلك البلاء في<br />

نور دعواتھم،‏ بل ما زادھا إلا ظھوراً‏ واشتھاراً‏ وتغلغلاً‏ في قلوب الناس<br />

وبین صفوفھم،‏ وھا ھي إلى الیوم ما زالت نوراً‏ یھتدي بھ السائرون في<br />

طریق الدعوة إلى الله،‏ وھذا ھو الحق الذي لا مریة فیھ.‏<br />

.[ 38<br />

وقال:‏<br />

* ثم ومع ذلك كلّھ فلا بد من معرفة قضیة أخیرة ھنا..‏ وھي أن ھذا<br />

الصدع بإظھار العداوة والبراءة من الكفّار المعاندین وإبداء الكفر<br />

بمعبوداتھم وباطلھم المتنوع في كل زمان،‏ وإن كان ھو الأصل في حال<br />

الداعیة المسلم..‏ وھو صفة الأنبیاء وطریق دعوتھم المستقیم الواضح..‏ ولن<br />

تفلح ھذه الدعوات ولن یصلح مرادھا وحالھا ولن یظھر دین الله ولن یعرف<br />

الناس الحق إلا بالتزام ذلك واتباعھ،‏ مع ذلك یقال بأنّھ إذا صدعت بھ طائفة<br />

من أھل الحق سقط عن الآخرین والمستضعفین منھم من باب أولى،‏ وذلكم<br />

الصدع بھ،‏ أما ھو بحد ذاتھ فإنّھ واجب على كل مسلم في كل زمان ومكان<br />

لأنّھ كما أسلفنا من لا إلھ إلا الله التي لا یصح إسلام امرىء إلا بھا،‏ أما أن<br />

یھمل ویلغى الصدع بھ كلیة من حساب الدعوات مع أنّھ أصل أصیل في<br />

دعوات الأنبیاء،‏ فأمر غریب محدث لیس من دین الإسلام في شيء،‏ بل<br />

دخل على ھؤلاء الدعاة الذین یدعون بغیر ھدي النبي صلى الله علیھ وسلم<br />

بتقلیدھم ومحاكاتھم للأحزاب الأرضیة وطرائقھا التي تدین بالتقیة في كل<br />

أحوالھا ولا تبالي بالمداھنة أو تتحرج من النفاق..‏<br />

* واستثناؤنا<br />

ھذا غیر نابع من الھوى والتكتیكات العقلیة بل من<br />

النصوص الشرعیة النقلیة الكثیرة..‏ والمتأمل لسیرة النبي صلى الله علیھ<br />

وسلم في عھد الاستضعاف یتجلى لھ ذلك واضحاً..‏ وانظر على سبیل<br />

المثال لا الحصر..‏ قصة إسلام عمرو بن عبسة السلمي في صحیح مسلم<br />

ومحل الشاھد منھا قولھ،‏ قلت:‏ ‏(إني متبعك).‏ قال:‏ ‏(إنك لا تستطیع ذلك<br />

یومك ھذا ألا ترى حالي وحال الناس ولكن ارجع إلى أھلك فإذا سمعت بي<br />

قد ظھرت فأتني..‏ الحدیث)‏ قال النووي:‏ ‏(معناه قلت لھ إني متبعك على<br />

إظھار الإسلام ھنا وإقامتي معك.‏ فقال:‏ لا تستطیع ذلك لضعف شوكة<br />

المسلمین ونخاف علیك من أذى كفار قریش ولكن قد حصل أجرك فابق<br />

على إسلامك وارجع إلى قومك واستمر على الإسلام في موضعك حتى<br />

(29)<br />

منبر التوحید والجھاد


<strong>ملة</strong> إبراھیم<br />

ε<br />

تعلمني ظھرت فأتني...)‏ أھ.‏ فھذا واحد قد أذن لھ النبي صلى الله علیھ<br />

وسلم في عدم إعلان وإظھار الدین..‏ لأن دین الله <strong>ودعوة</strong> النبي صلى الله<br />

علیھ وسلم كانت مشتھرة معروفة ظاھرة في ذلك الوقت ویدلك على ذلك<br />

قولھ صلى الله علیھ وسلم في الحدیث نفسھ:‏ ‏(ألا ترى حالي وحال الناس).‏<br />

وقصة إسلام أبي ذر في البخاري أیضاً،‏ ومحل الشاھد منھا قولھ<br />

صلى الله علیھ وسلم لھ:‏ ‏(یا أبا ذر أكتم ھذا الأمر وارجع إلى بلدك،‏ فإذا<br />

بلغك ظھورنا فأقبل...)‏ الحدیث ومع ھذا فقد صدع بھ أبو ذر بین ظھراني<br />

الكفّار متابعة منھ لھدي النبي صلى الله علیھ وسلم وطریقتھ في ذلك،‏ ومع<br />

أنھم ضربوه لیموت كما جاء في الحدیث،‏ ومع تكراره لذلك الصدع،‏ فإن<br />

النبي صلى الله علیھ وسلم لم ینكر علیھ فعلھ ذلك،‏ ولا خذّلھ ولا قال لھ كما<br />

یقول دعاة زماننا إنّك بفعلك ھذا ستبلبل الدعوة وستثیر فتنة،‏ وتضر<br />

مصلحة الدعوة أو أخرت الدعوة مائة سنة..‏ حاشاه من أن یقول مثل ذلك..‏<br />

فھو قدوة الناس كافة وأسوتھم إلى یوم القیامة في ھذا الطریق..‏ فاستخفاء<br />

بعض المستضعفین من اتباع الدعوة شيء وظھور الدین وإعلانھ شيء<br />

آخر،‏ <strong>ودعوة</strong> النبي صلى الله علیھ وسلم كانت ظاھرة معروفة مشتھرة،‏<br />

والكل یعرف أن أصلھا وقطب رحاھا الكفر بطواغیت ذلك الزمان وتوحید<br />

العبادة بكل أنواعھا عز وجل..‏ حتى أنّھ لیحذر منھا وتحارب بشتى<br />

الوسائل..‏ وما احتاج أتباعھ المستضعفین أصلاً‏ للاستخفاء والھجرة وما<br />

حصل لھم من الأذى والاستضعاف ما حصل إلا بسبب وضوح الدعوة<br />

واشتھار أصلھا،‏ ولو كان عندھم من المداھنة قلیلاً‏ مما عند أھل زماننا لما<br />

حصل لھم ذلك كلھ.‏<br />

* وبمعرفتك لھذه النكتة تتضح لك فائدة أخرى مھمة:‏ وھي جواز<br />

مخادعة الكفّار وتخفي بعض المسلمین بین صفوفھم أثناء المواجھة والقتال<br />

إذا ما كان الدین ظاھراً‏ وأصل الدعوة مشتھراً..‏ ففي ھذه الأحوال یصح<br />

الاستشھاد بحادثة قتل كعب بن الأشرف وأمثالھا..‏ أما أن یضیع كثیر من<br />

الدعاة أعمارھم في جیوش الطواغیت موالین مداھنین یحیون ویموتون<br />

وھم في خدمتھم وخدمة مؤسساتھم الخبیثة بحجة الدعوة ونصر الدین..‏<br />

فیلبسوا على الناس دینھم ویقبروا التوحید..‏ فھذه السبل في المغرب <strong>ودعوة</strong><br />

النبي وھدیھ عنھا في أقاصي المشرق.‏<br />

سارت مشرقةً‏ وسرت مغرّ‏ باً‏<br />

شتّان بین ِ مشرّ‏ قٍ‏ ِ ومغرّ‏<br />

‏ِب<br />

ف<strong>ملة</strong> إبراھیم إذاً‏ ھي طریق الدعوة الصحیحة..‏ التي فیھا مفارقة<br />

الأحباب وقطع الرقاب..‏ أما غیرھا من الطرائق والمناھج الملتویة والسبل<br />

المعوجة المنحرفة تلك التي یرید أصحابھا إقامة دین الله دون أن یستغنوا<br />

عن المراكز والمناصب،‏ ودون أن یغضبوا أصحاب السلطان..‏ أو یفقدوا<br />

القصور والنسوان والسعادة في الأھل والبیوت والأوطان،‏ فلیست من <strong>ملة</strong><br />

إبراھیم في شيء.‏ وإن ادعى أصحاب ھذه الدعوات أنھم على منھج السلف<br />

<strong>ودعوة</strong> الأنبیاء والمرسلین..‏ فوالله لقد رأیناھم..‏ رأیناھم كیف یبشون في<br />

(30)<br />

منبر التوحید والجھاد


<strong>ملة</strong> إبراھیم<br />

وجوه المنافقین والظالمین بل والكفّار المحادین ورسولھ لا لدعوتھم<br />

ورجاء ھدایتھم،‏ بل یجالسونھم مداھنةً‏ وإقراراً‏ لباطلھم ویصفقون لھم<br />

ویقومون لھم إكراماً‏ یبجلونھم ویدعونھم بألقابھم..‏ نحو:‏ صاحب الجلالة<br />

والملك المعظم والرئیس المؤمن وصاحب السمو بل وإمام المسلمین وأمیر<br />

المؤمنین مع أنھم حرب على الإسلام والمسلمین (10) .. نعم والله لقد رأیناھم<br />

یغدو أحدھم ویروح..‏ یبیع دینھ بأقل من جناح بعوضة..‏ یمسي مؤمناً‏ یدرس<br />

ا لتوحید وربما درّ‏ سھ ویصبح یقسم على احترام الدستور بقوانینھ الكفریة،‏<br />

ویشھد بنزاھة القانون الوضعي..‏ ویكثر سواد الظالمین ویلقاھم بوجھ<br />

منبسط ولسان عذب..‏ مع أنّھم یمرون بآیات الله اللیل والنھار تنھاھم عن<br />

الركون للظالمین أو طاعتھم والرضى عن بعض باطلھم..‏ فھم یقرأون ھذه<br />

الآیات،‏ كقولھ تعالى:‏ ‏{ولا تركنوا إلى الذین ظلموا فتمسكم النار}‏ ‏[ھود:‏<br />

113]، وقولھ عز وجل:‏ ‏{وقد نزل علیكم في الكتاب أن إذا سمعتم آیات<br />

الله یكفر بھا ویستھزأ بھا فلا تقعدوا معھم حتى یخوضوا في حدیث غیره<br />

إنكم إذاً‏ مثلھم...}‏ الآیة ‏[النساء:‏<br />

.[140<br />

(10) فائدة مھمة تفضح علماء الحكومات:‏ اعلم عافانا الله وإیاك من تلبیس الملبسین أن<br />

ما یفعلھ كثیر من الجھال وإن لقبوا بالمشایخ وتمسّحوا بالسلفیة من تلقیب كثیر من<br />

طغاة ھذا الزمان بلقب أمیر المؤمنین أو إمام المسلمین..‏ إنما ینھجون بذلك نھج<br />

الخوارج والمعتزلة في عدم اعتبار شرط القرشیة في الإمام..‏ راجع في ذلك صحیح<br />

البخاري:‏ كتاب الأحكام ‏(باب:‏ الأمراء من قریش)،‏ وغیره من كتب السنة والفقھ<br />

والأحكام السلطانیة فإنھ أمر معروف لن تجد عناء في مراجعتھ..‏ ونقل الحافظ ابن<br />

حجر في الفتح عن القاضي عیاض قولھ:‏ اشتراط كون الإمام قرشیاً‏ مذھب العلماء<br />

كافة وقد عدوھا في مسائل الإجماع،‏ ولم ینقل عن أحد من السلف فیھ خلاف وكذلك<br />

من بعدھم في جمیع الأمصار.‏ قال:‏ ولا اعتداد بقول الخوارج ومن وافقھم في<br />

المعتزلة"‏ اھ (91/31).<br />

* ثم رأیت الشیخ عبد الله أبا بطین وھو من علماء الدعوة النجدیة یرد على بعض<br />

المعارضین المنكرین لتلقیب الشیخ محمد بن عبد الوھاب وعبد العزیز بن محمد بن<br />

سعود بلقب الإمام وھما غیر قرشیین..‏ یقول:‏ ‏(ومحمد بن عبد الوھاب رحمھ الله ما<br />

ادعى إمامة الأمة،‏ وإنما ھو عالم دعا إلى الھدى وقاتل علیھ ولم یلقب في حیاتھ بالإمام<br />

ولا عبد العزیز بن محمد بن سعود ما كان أحد في حیاتھ منھم یسمى إماماً،‏ وإنما حدث<br />

تسمیة من تولى إماماً‏ بعد موتھما)‏ أھ.‏ انظر الدرر جزء الجھاد ص‎240‎‏،‏ فانظر إلى<br />

ھذا العالم الرباني كیف یتبرأ من ذلك وینكره رغم أن المذكورین كانا من دعاة الھدى،‏<br />

ولا یكابر مكابرة كثیر من مشایخ الحكومات في ھذا الزمان الذین یصرون على تسمیة<br />

طواغیتھم بالإمام وأمیر المؤمنین..‏ فبشراھم بأنھم على نھج الخوارج سائرون..‏ ذلك<br />

الوصف الذي طالما رموا بھ طلبة العلم ودعاة الحق الذین ینابذون طواغیتھم..‏<br />

أولى لیدفع عنھ فعل الجاني<br />

ورموھمُ‏ بغیاً‏ بما الرامي بھ<br />

یرمي البريء بما جناه مباھتاً‏ ولذاك عند الغرّ‏ یشتبھان<br />

وھذا كلھ بالنسبة لشرط القرشیة،‏ فكیف إذا انضم إلى ذلك انعدام العدالة والعلم<br />

والحكمة وغیر ذلك من شروط الإمامة؟ وكیف إذا عُدم الإسلام والإیمان؟ كیف،‏ كیف؟<br />

(31)<br />

منبر التوحید والجھاد


<strong>ملة</strong> إبراھیم<br />

* یقول الشیخ سلیمان بن عبد الله بن الشیخ محمد بن عبد الوھاب في<br />

معنى قولھ تبارك وتعالى:‏ ‏{إنكم إذاً‏ مثلھم}،‏ ‏(الآیة على ظاھرھا وھو أن<br />

الرجل إذا سمع آیات الله یكفر بھا ویستھزأ بھا فجلس عند الكافرین<br />

المستھزئین من غیر إكراه ولا إنكار ولا قیام عنھم حتى یخوضوا في<br />

حدیث غیره فھو كافر مثلھم وإن لم یفعل فعلھم..)‏ اھ من الدرر جزء<br />

الجھاد ص‎79‎‏.‏<br />

وقولھ عز وجل:‏ ‏{وإذا رأیت الذین یخوضون في آیاتنا فأعرض<br />

عنھم حتى یخوضوا في حدیث غیره}‏ ‏[الأنعام:‏<br />

.[68<br />

* قال الحسن البصري:‏ لا یجوز لھ القعود معھم خاضوا أو لم<br />

یخوضوا لقولھ تعالى:‏ ‏{وإمّا ینسینك الشیطان فلا تقعد بعد الذكرى مع<br />

القوم الظالمین}‏ ‏[الأنعام:‏ 68]، وكذا قولھ تعالى:‏ ‏{ولولا أن ثبّتناك لقد<br />

كدت تركن إلیھم شیئاً‏ قلیلاً‏ إذاً‏ لأذقناك ضعف الحیاة وضعف الممات ثم لا<br />

تجد لك علینا نصیراً}‏ ‏[الإسراء:‏<br />

.[74<br />

* یقول الشیخ سلیمان بن عبد الله:‏ ‏(فإذا كان ھذا الخطاب لأشرف<br />

مخلوق صلوات الله وسلامھ علیھ فكیف بغیره)‏ اھ.‏ من الدرر جزء الجھاد<br />

ص‎47‎‏.‏<br />

ویقرأون قولھ تعالى واصفاً‏ المؤمنین:‏ ‏{والذین ھم عن اللغو<br />

معرضون}‏ ‏[المؤمنون:‏ ‏{والذین لا یشھدون الزور وإذا مرّوا<br />

باللغو مَر ُّوا كِراماً}‏ ‏[الفرقان:‏<br />

3]، وقولھ:‏<br />

.[72<br />

ویزعمون أنھم على منھج السلف،‏ والسلف كانوا یفرون من أبواب<br />

السلاطین ومناصبھم في عھد أرباب الشریعة والھدى لا في عھود الجور<br />

والظلمات..‏ ووالله ما وضع السیف على رقابھم ولا علقوا من أرجلھم وما<br />

أجبروا على ذلك..‏ بل فعلوه مختارین ومنحوا علیھ الأموال الطائلة..‏<br />

والحصانات الدبلوماسیة..‏ فنعوذ با‏ من ھوى النفوس وطمس البصائر..‏<br />

ولیتھم أعلنوھا وقالوا:‏ فعلناھا حرصاً‏ على الدنیا..‏ بل یقولون مصلحة<br />

الدعوة ونصر الدین..‏ فعلى من تضحكون یا مساكین..‏ أعلینا نحن<br />

الضعفاء؟؟ فإننا وأمثالنا لا نملك لكم ضراً‏ ولا نفعاً...‏ أم على جبار<br />

السموات والأرضین،‏ الذي لا تخفى علیھ خافیة،‏ ویعلم سركم ونجواكم..‏<br />

ولقد سمعناھم یرمون من خالفھم أو انكر علیھم ذلك،‏ بضحالة الفكر<br />

وقلة الخبرة وأنھم لیس عندھم حكمة في الدعوة ولا صبر في اقتطاف الثمر<br />

أو بصیرة في الواقع والسنن الكونیة..‏ وأنھم ینقصھم علم بالسیاسة وعندھم<br />

قصور في التصورات..‏ وما درى ھؤلاء المساكین..‏ أنھم لا یرمون بذلك<br />

أشخاصاً‏ محددین،‏ وإنما یرمون بذلك دین جمیع المرسلین و<strong>ملة</strong> إبراھیم..‏<br />

التي من أھم مھماتھا إبداء البراءة من أعداء الله والكفر بھم وبطرائقھم<br />

المعوجة وإظھار العداوة والبغضاء لمناھجھم الكافرة..‏ وما دروا أن كلامھم<br />

ذلك یقتضي أن إبراھیم والذین معھ لم یكن عندھم حكمة بالدعوة ولا درایة<br />

(32)<br />

منبر التوحید والجھاد


<strong>ملة</strong> إبراھیم<br />

بالواقع..‏ وأنھم كانوا متطرفین متسرعین..‏ مع أن الله عز وجل قد زكاھم<br />

وأمرنا بالتأسي بھم..‏ فقال:‏ ‏{قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراھیم والذین<br />

معھ}‏ ‏[الممتحنة:‏ 4]، وقال سبحانھ:‏ ‏{ومن أحسن دیناً‏ ممن أسلم <br />

‏}[النساء:‏<br />

وھو محسن واتبع <strong>ملة</strong> إبراھیم حنیفاً‏ واتخذ الله إبراھیم خلیلاًوجھھ<br />

125]، ونزه سبحانھ إبراھیم من السفھ فوصفھ بالرشد فقال:‏ ‏{ولقد آتینا<br />

إبراھیم رشده من قبل وكنا بھ عالمین}‏ ‏[الأنبیاء:‏ 51]، ثم ذكر دعوتھ،‏ بل<br />

بیّن سبحانھ كما قدمنا أن <strong>ملة</strong> إبراھیم لا یرغب عنھا إلا السفیھ..‏ وأنى<br />

للسفیھ حكمة الدعوة ووضوح التصورات وصحة المنھج واستقامة الطریق<br />

المزعومة..؟؟<br />

(33)<br />

منبر التوحید والجھاد


<strong>ملة</strong> إبراھیم<br />

فصل<br />

واعلم ثبّتنا الله وإیّاك على صراطھ المستقیم أن ھذه البراءة والعداوة<br />

التي تقتضي <strong>ملة</strong> إبراھیم إعلانھا وإبداءھا لأھل الكفر ومعبوداتھم،‏ تكلف<br />

الكثیر الكثیر..‏<br />

فلا یظن ظان أن ھذه الطریق مفروشة بالورد والریاحین أو محفوفة<br />

بالراحة والدعة،‏ بل ھي والله محفوفة بالمكاره والابتلاءات..‏ ولكن ختامھا<br />

مسك وروح وریحان ورب غیر غضبان..‏ ونحن لا نتمنى البلاء لأنفسنا<br />

ولا للمسلمین،‏ ولكن البلاء ھو سنة الله عز وجل في ھذه الطریق،‏ لیمیز بھ<br />

الخبیث من الطیب،‏ فھي الطریق التي لا ترضي أصحاب الھوى والسلطان<br />

لأنھا مصادمة صریحة لواقعھم،‏ وبراءة واضحة من معبوداتھم<br />

وشركیاتھم..‏ أما غیر ھذه الطریق،‏ فإنك تجد أصحابھا في الغالب مترفین<br />

وللدنیا راكنین،‏ لا یبدو علیھم أثر البلاء،‏ لأن المرء إنما یبتلى على قدر<br />

دینھ،‏ فأشد الناس بلاء الأنبیاء ثم الأمثل فالأمثل..‏ وأتباع <strong>ملة</strong> إبراھیم من<br />

أشد الناس بلاء لأنھم یتبعون منھج الأنبیاء في الدعوة إلى الله..‏ كما قال<br />

ورقة بن نوفل للنبي صلى الله علیھ وسلم:‏ ‏(لم یأت رجل قط بمثل ما جئت<br />

بھ إلا عودي..)‏ رواه البخاري..‏ فإن رأیت في زماننا من یزعم أنھ یدعو<br />

لمثل ما كان یدعو إلیھ النبي صلى الله علیھ وسلم وبمثل طریقتھ،‏ ویدعي<br />

أنھ على منھجھ،‏ ولا یعادى من أھل الباطل والسلطان،‏ بل ھو مطمئن<br />

مرتاح بین ظھرانیھم..‏ فانظر في حالھ..‏ إما أن یكون ضالاً‏ عن الطریق..‏<br />

لم یأت بمثل ما جاء بھ النبي صلى الله علیھ وسلم واتخذ سبلاً‏ معوجة..‏ أو<br />

یكون كاذباً‏ في دعواه یتزیا بما لیس ھو أھلاً‏ أن یتزیّا بھ،‏ إما لھوى مطاع<br />

وإعجاب كل ذي رأي برأیھ..‏ أو لدنیا یصیبھا كأن یكون جاسوساً‏ وعیناً‏<br />

لأصحاب السلطان على أھل الدین..‏ وھذا الذي قالھ ورقة للنبي صلى الله<br />

علیھ وسلم ھو الذي كان مقرراً‏ في نفوس الصحابة عندما بایعوا النبي<br />

صلى الله علیھ وسلم ، حیث وقف أسعد بن زرارة یذكرھم ویقول:‏ ‏(رویداً‏ یا<br />

أھل یثرب،‏ إن إخراجھ الیوم مفارقة للعرب كافة،‏ أو قتل خیاركم وأن<br />

تعضكم السیوف،‏ فإما أنتم قوم تصبرون على ذلك،‏ فخذوه وأجركم على<br />

الله،‏ وإما أنتم قوم تخافون من أنفسكم خیفة فذروه،‏ فبینوا ذلك فھو أعذر لكم<br />

عند الله)‏ رواه الإمام أحمد والبیھقي.‏<br />

فتأمل ھذا جیداً‏ فإننا في أمس الحاجة إلیھ في ھذه الأیام التي تلبس<br />

فیھا كل من ھبّ‏ ودبّ‏ بلباس الدعوة والدعاة..‏ فارجع إلى نفسك وزنھا،‏<br />

واعرض علیھا ھذا الطریق وحاسبھا على تقصیرھا في ذلك،‏ فإما أن تكون<br />

من قوم یصبرون على ذلك فخذھا بحقھا واسأل الله عز وجل أن یثبتك على<br />

ما یعقبھا من بلاء..‏ أو إنك من قوم یخافون من أنفسھم خیفة ولا ترى من<br />

نفسك القدرة على القیام والصدع بھذه ال<strong>ملة</strong> فذر عنك التزیي بزي الدعاة<br />

وأغلق علیك بیتك وأقبل على خاصة أمرك ودع عنك أمر العامة..‏ أو<br />

اعتزل في شعب من الشعاب بغنیمات لك..‏ فإنھ والله كما قال أسعد بن<br />

زرارة أعذر لك عند الله،‏ نعم إن ذلك أعذر لك عند الله من أن تضحك على<br />

(34)<br />

منبر التوحید والجھاد


<strong>ملة</strong> إبراھیم<br />

نفسك وعلى الناس إذ لا تقوى على القیام ب<strong>ملة</strong> إبراھیم فتتصدر للدعوة<br />

بطرق معوجة وتھتدي بغیر ھدي النبي صلى الله علیھ وسلم مجاملاً‏ مداھناً‏<br />

للطواغیت كاتماً‏ غیر مظھر للعداوة لھم،‏ ولا لباطلھم..‏ فوالله ثم والله،‏ إن<br />

الذي یعتزل في شعب من الشعاب بغنیمات لھو خیر وأھدى سبیلاً‏ منك<br />

ساعتئذ..‏ وصدق من قال:‏<br />

الصمت أفضل من كلام مداھن<br />

عرف الحقیقة ثم حاد إلى الذي<br />

نجس السریرة طیب الكلمات<br />

یرضي ویعجب كل طاغ عات<br />

لا تعجبوا یا قوم ممن أخصبوافي ھذه الأیام بالكلمات<br />

وعلوا المنابر والصحائف سودوا<br />

والله ما قالوا الحقیقة والھدى<br />

أنى یشیر إلى الحقیقة راغب<br />

أو طالباً‏ للجاه في عصریة<br />

فنصیحتي یا قوم ألا تطمعوا<br />

عیشوا لدین الله لا لحضارة<br />

وتقدموا في سائر الحفلات<br />

كلا ولا كشفوا عن الھلكات<br />

في وصل أھل الظلم والشھوات<br />

التقدیر للمشھور بالنزوات<br />

في عصرنا بتوفر الرغبات<br />

محفوفة بالریب والشبھات<br />

ولقد رأیناھم كثیراً‏ یسخرون ممن تبینت لھم انحرافاتھم وسبلھم<br />

المعوجة،‏ فاعرضوا عنھم وعن دعواتھم تلك التي على غیر منھاج النبوة..‏<br />

رأیناھم یسخرون منھم لاعتزالھم..‏ ویلمزونھم بالقعود والركون إلى الدنیا<br />

والتقصیر في الدعوة إلى الله...‏ وإذا كان الأمر كذلك،‏ فأیة دعوة ھذه التي<br />

قصر فیھا ھؤلاء؟ دعوتكم ھذه التي تلجون بھا الجیش والشرطة،‏ ومجالس<br />

الأمة والبرلمانات الشركیة وغیر ذلك من الوظائف التي تكثر سواد<br />

الظالمین،‏ أم تلك التي تدخلون بھا مجالس الفاحشة من الجامعات المختلطة<br />

والمعاھد والمدارس الفاسدة وغیرھا بحجة مصلحة الدعوة فلا تظھرون<br />

دینكم الحق وتدعون فیھا بغیر ھدي النبي صلى الله علیھ وسلم...‏ أم أنھم<br />

قصروا في الدعوة الحقّة التي قصر فیھا الفریقان وھي ‏(<strong>ملة</strong> إبراھیم)،‏<br />

ویحتجون بقول النبي صلى الله علیھ وسلم فیما رواه الإمام أحمد والترمذي<br />

وغیرھما:‏ ‏"المؤمن الذي یخالط الناس ویصبر على أذاھم أفضل من<br />

المؤمن الذي لا یخالط الناس ولا یصبر على أذاھم"‏ ونحن نقول إن ھذا<br />

الحدیث في الشرق وأنتم عنھ في الغرب،‏ حیث إن المخالطة یجب أن تكون<br />

على ھدي النبي صلى الله علیھ وسلم ولیس تبعاً‏ لآرائكم وأھوائكم وأسالیب<br />

دعوتكم البدعیة..‏ فإن كانت كذلك أي على ھدیھ صلى الله علیھ وسلم حصل<br />

الأذى والأجر معاً..‏ وإلا فأي أجر ھذا الذي ینتظره من لا یدعو بھدي النبي<br />

صلى الله علیھ وسلم وقد أھمل شرطاً‏ عظیماً‏ من شروط قبول العمل وھو<br />

(35)<br />

منبر التوحید والجھاد


<strong>ملة</strong> إبراھیم<br />

...(<br />

...<br />

‏(الاتباع)،‏ وأي أذى ذلك الذي سیلاقیھ من لا یظھر العداوة لأھل الفسق<br />

والفجور والعصیان،‏ ولا یعلن البراءة من شركیاتھم وطرائقھم المعوجة..‏<br />

بل یجالسھم ویقر باطلھم ویبش في وجوھھم،‏ ولا یتمعر أو یغضب <br />

طرفة عین إذا انتھكوا حرمات الله،‏ بحجة اللین والحكمة والموعظة<br />

الحسنة،‏ وعدم تنفیر الناس عن الدین،‏ ومصلحة الدعوة وغیر ذلك،‏ ویھدم<br />

الدین عروة عروة بمعاول لینھم وحكمتھم البدعیة.‏<br />

یقول الشیخ عبد اللطیف بن عبد الرحمن في رسالة لھ في الدرر<br />

السنیة وھو یتكلم عن الصدع بالدین والأمر بالمعروف والنھي عن المنكر:‏<br />

‏(وترك ذلك على سبیل المداھنة والمعاشرة ونحو ذلك مما یفعلھ بعض<br />

الجاھلین أعظم ضرراً‏ وأكبر إثماً‏ من تركھ لمجرد الجھالة فإن ھذا الصنف<br />

رأوا أن نیل المعیشة لا یحصل إلا بذلك فخالفوا الرسل وأتباعھم وخرجوا<br />

عن سبیلھم ومنھاجھم،‏ لأنھم یرون العقل إرضاء الناس على طبقاتھم<br />

ویسالمونھم ویستجلبون مودتھم ومحبتھم،‏ وھذا مع أنھ لا سبیل إلیھ فھو<br />

إیثار للحظوظ النفسانیة والدعة ومسالمة الناس وترك المعاداة في الله<br />

وتحمل الأذى في ذاتھ وھذا في الحقیقة ھو الھلكة في الآجلة،‏ فما ذاق طعم<br />

الإیمان من لم یوال في الله ویعاد فیھ،‏ والعقل كل العقل ما أوصل إلى<br />

رضى الله ورسولھ،‏ وھذا إنما یحصل بمراغمة أعداء الله وإیثار مرضاتھ،‏<br />

والغضب إذا انتھكت محارمھ.‏ والغضب ینشأ من حیاة القلب وغیرتھ<br />

وتعظیمھ وإذا عدم الحیاة والغیرة والتعظیم وعدم الغضب والاشمئزاز،‏<br />

وسوى بین الخبیث والطیب في معاملتھ وموالاتھ ومعاداتھ فأي خیر یبقى<br />

في قلب ھذا...)‏ اھ.‏ من جزء الجھاد ص‎35‎‏.‏<br />

وتجد بعضھم یضحكون على أتباعھم من الشباب ویحاربون العزلة<br />

على الإطلاق ویردّون النصوص الثابتة في ذلك..‏ ویتغنّون بشعر ابن<br />

المبارك رحمھ الله تعالى حین أرسل إلى الفضیل یقول:‏<br />

یا عابد الحرمین لو أبصرتنا<br />

من كان یخضب جیده بدموعھ<br />

إلى آخر الأبیات.‏<br />

لعلمت أنّك بالعبادة تلعب<br />

فنحورنا بدمائنا تتخضب<br />

ولو أبصرھم عابد الحرمین وأبصر دعواتھم ھذه المعوجة فلعلھ<br />

یقول:‏ ‏(الحمد الذي عافاني مما ابتلاكم بھ وفضلني على كثیر ممن خلق<br />

تفضیلاً‏<br />

وأنا أقول:‏ شتان بین دعواتكم وطرائقكم ھذه وبین جھاد ابن المبارك<br />

وأولئك الصالحین،‏ حتى تنافسوا بھا عبادة الصالحین..‏ بل وربما لو أبصر<br />

ابن المبارك دعواتھم ھذه لأرسل للفضیل یقول:‏<br />

یا عابد الحرمین لو أبصرتھم<br />

لحمدت أنك بالعبادة غائب<br />

(36)<br />

منبر التوحید والجھاد


<strong>ملة</strong> إبراھیم<br />

من كان لا یدعو بھدي نبیھ<br />

فھو الجھول بدینھ یتلاعب<br />

(37)<br />

منبر التوحید والجھاد


<strong>ملة</strong> إبراھیم<br />

فصل<br />

نعم..‏ إن <strong>ملة</strong> إبراھیم تكلف الكثیر..‏ ولكن بھا یتعلق نصر الله والفوز<br />

الكبیر..‏ وبھا یتمیز الناس إلى فریقین..‏ فریق إیمان،‏ وفریق كفر وفسوق<br />

وعصیان..‏ وبھا یتضح أولیاء الرحمن من أولیاء الشیطان..‏ وھكذا كانت<br />

دعوة الأنبیاء والمرسلین..‏ لم تكن عندھم ھذه الأوضاع المرضیة التي<br />

نعیشھا الیوم من اختلاط الحابل بالنابل،‏ والصالح بالطالح،‏ ومداھنة<br />

ومجالسة أھل اللحى لأھل الفسق والفجور وإكرامھم وتقدیرھم وتقدیمھم<br />

على أھل التقى والصلاح..‏ رغم إظھار أولئك بغض الدین وعداوتھ بصور<br />

شتى وتربصھم بأھلھ الدوائر..‏ بل كانت دعواتھم براءة واضحة من أقوامھم<br />

المعرضین عن شرع الله،‏ وعداوة ظاھرة لمعبوداتھم الباطلة،‏ لا التقاء في<br />

وسط الطریق ولا مداھنة ولا مجا<strong>ملة</strong> في تبلیغ شرع الله...‏<br />

* واستمع إلى نوح في عمق الزمان،‏ وھو یخاطب قومھ وحیداً‏ لا<br />

یخشى سلطانھم ولا طغیانھم..‏ یقول:‏ ‏{یا قوم إن كان كبر علیكم مقامي<br />

وتذكیري بآیات الله فعلى الله توكلت،‏ فاجمعوا أمركم وشركاءكم،‏ ثم لا یكن<br />

أمركم علیكم غمة ثم أقضوا إلي ولا تنظرون}‏ ‏[یونس:‏<br />

.[71<br />

وھل یقول مثل ذلك رجل مداھن لقومھ...‏ إنھ كما یقول سید قطب<br />

رحمھ الله:‏ ‏(التحدي الصریح المثیر،‏ الذي لا یقولھ القائل إلا وھو مالىء<br />

یدیھ من قوتھ،‏ واثق كل الوثوق من عدتھ،‏ حتى لیُغري خصومھ بنفسھ،‏<br />

ویحرضھم بمثیرات القول على أن یھاجموه،‏ فماذا كان وراء نوح من القوة<br />

والعدة؟...)‏ اھ.‏ كان معھ الله،‏ وكفى با‏ ھادیاً‏ ونصیرا...‏ وقد أمر الله تعالى<br />

نبیھ محمداً‏ صلى الله علیھ وسلم في مطلع ھذه الآیات أن یتلو ذلك على<br />

قومھ،‏ فقال:‏ ‏{واتل علیھم نبأ نوح إذ قال لقومھ...}‏ ‏[یونس:‏<br />

.[71<br />

* وانظر إلى ھود صلى الله علیھ وسلم وھو یواجھ قومھ الذین كانوا<br />

أشد الناس قوة وأعتاھم بطشاً،‏ یواجھھم وحده..‏ ولكن بثبات كثبات الجبال<br />

أو أشد..‏ استمع إلیھ وھو یعلن براءتھ واضحة جلیة من شركیاتھم ویسمعھم<br />

كلماتھ الخالدة:‏ ‏{إني أشھد الله واشھدوا أني بريء مما تشركون،‏ من<br />

دونھ،‏ فكیدون جمیعاً‏ ثم لا تنظرون}‏ ‏[ھود:‏ 55]. یقول لھم ذلك وھو رجل<br />

واحد...‏ كیدوني بعددكم وجیشكم وآلھتكم الباطلة..‏ ‏{إني توكلت على الله<br />

ربي وربكم ما من دابة إلا ھو آخذ بناصیتھا إن ربي على صراط مستقیم}‏<br />

‏[ھود:‏ 56].<br />

وإلى الذین یتشدقون بكثیر من كلام سید رحمھ الله تعالى،‏ في الوقت<br />

الذي یحرصون بل یتسابقون فیھ على استجداء الطواغیت المعرضین عن<br />

شرع الله من أجل أن یحكموا شرع الله في بعض القضایا،‏ أو كي یمنحوھم<br />

إذناً‏ للدعوة إلى الله أو من أجل الحصول على مقاعد في مجالس الشرك<br />

والفسوق والعصیان...‏ إلى ھؤلاء نسوق كلام سید حول ھذه الآیات..‏ حیث<br />

یقول:‏ ‏(إنھا انتفاضة التبرّ‏ ؤ من القوم وقد كان منھم وكان أخاھم وانتفاضة<br />

(38)<br />

منبر التوحید والجھاد


<strong>ملة</strong> إبراھیم<br />

الخوف من البقاء فیھم وقد اتخذوا غیر طریق الله طریقاً..‏ وانتفاضة<br />

المفاصلة بین حزبین لا یلتقیان..‏ وھو یشھد الله ربھ على براءتھ من قومھ<br />

الضالین وانعزالھ عنھم وانفصالھ منھم.‏ ویشھدھم ھم أنفسھم على ھذه<br />

البراءة منھم في وجوھھم،‏ كي لا تبقى في أنفسھم شبھة من نفوره وخوفھ<br />

أن یكون منھم!‏<br />

وإن الإنسان لیدھش لرجل یواجھ ھؤلاء القوم الواثقین بآلھتھم<br />

المفتراة ھذه الثقة،‏ فیسفّھ عقیدتھم ویقرعھم علیھا،‏ ثم یھیج ضراوتھم<br />

بالتحدي،‏ لا یطلب مھلة لیستعد استعدادھم،‏ ولا یدعھم یتریّثون فیفثأ<br />

غضبھم.‏ إن أصحاب الدعوة إلى الله في كل مكان وزمان بحاجة إلى أن<br />

یقفوا طویلاً‏ أمام ھذا ‏(الموقف)‏ الباھر..‏ رجل واحد،‏ لم یؤمن معھ إلا<br />

القلیل،‏ یواجھ أعتى أھل الأرض وأغنى أھل الأرض وأكثر أھل الأرض<br />

حضارة مادیة في زمانھم..‏ فھم العتاة الجبارون الذین یبطشون بلا رحمة،‏<br />

والذین أبطرتھم النعمة،‏ والذین یقیمون المصانع یرجون من ورائھا الامتداد<br />

والخلود...‏ إنھ الإیمان والثقة والاطمئنان..‏ الإیمان با،‏ والثقة بوعده،‏<br />

والاطمئنان إلى نصره..‏ ‏{إني توكلت على الله ربي وربكم،‏ ما من دابة إلا<br />

ھو آخذ بناصیتھا،‏ إن ربي على صراط مستقیم}‏ ‏[ھود:‏<br />

الغلاظ الأشداء من قومھ إن ھم إلا دواب من تلك الدواب التي یأخذ ربھ<br />

بناصیتھا ویقھرھا بقوتھ قھراً..‏ فما خوفھ من ھذه الدواب وما احتفالھ بھا؟<br />

وھي لا تسلط علیھ إن سلطت إلا بإذن ربھ؟ وما بقاؤه فیھا وقد اختلف<br />

طریقھا عن طریقھ؟)‏ أھ مختصراً‏ من الظلال.‏<br />

56].. وھؤلاء<br />

ھكذا كانت أحوال الرسل صلوات الله وسلامھ علیھم،‏ مع أقوامھم<br />

المعاندین..‏ وھكذا كانت دعوتھم،‏ صراع دائم مع الباطل،‏ ووضوح في<br />

الدعوة،‏ وإعلان للعداوة والبراءة..‏ ولم تعرف دعواتھم المداھنة أو الرضى<br />

عن بعض الباطل أو الالتقاء معھ في وسط الطریق.‏<br />

فمعاداة أھل الحق للباطل وأھلھ ومفارقتھم لھم قضیة قدیمة جداً‏<br />

افترضھا الله منذ أن أھبط آدم صلى الله علیھ وسلم إلى ھذه الأرض..‏<br />

وشاءھا الله قدراً‏ وشرعاً‏ لیتمیز أولیاؤه من أعدائھ وحزبھ من حربھ<br />

والخبیث من الطیّب ویتخذ من المؤمنمین شھداء..‏ فقال جلّ‏ وعلا:‏ ‏{اھبطوا<br />

بعضكم لبعض عدو}‏ ‏[الأعراف:‏ 24]، وعلى ھذا مضت وسارت قافلة<br />

الرسل جمیعاً‏ وھذا ھو دینھم كما عرفت،‏ قال تعالى:‏ ‏{وكذلك جعلنا لكل<br />

نبي عدواً‏ شیاطین الإنس والجن}‏ ‏[الأنعام:‏ 112]، وقال سبحانھ:‏ ‏{وكذلك<br />

جعلنا لكل نبي عدواً‏ من المجرمین}‏ ‏[الفرقان:‏ 31]، فمنھم من قص الله<br />

علینا قصصھم مع أعدائھم ومنھم من لم یقصص...‏ ویؤید ھذا أیضاً‏ حدیث<br />

أبي ھریرة المتفق علیھ أن النبي صلى الله علیھ وسلم قال:‏ والأنبیاء<br />

أولاد علاّت..)‏ والعلة ھي الضرة مأخوذة من العلل وھي الشربة الثانیة بعد<br />

الأولى:‏ وكأن الزوج قد علّ‏ منھا بعد ما كان ناھلاً‏ من الأخرى.‏ وأولاد<br />

العلات أولاد الضرات من رجل واحد..‏ یؤید أن الأنبیاء أصل دینھم<br />

ودعوتھم وطریقھم واحد وفروعھم مختلفة.‏<br />

...)<br />

(39)<br />

منبر التوحید والجھاد


<strong>ملة</strong> إبراھیم<br />

* وھكذا كان خاتم الأنبیاء والمرسلین صلوات الله وسلامھ علیھ وھو<br />

الذي جاء في وصفھ أنھ ‏"فرق بین الناس"‏ رواه البخاري،‏ وفي روایة:‏<br />

‏"فرّ‏ ق بین الناس".‏ فقد استجاب لأمر الله تعالى باتباع <strong>ملة</strong> إبراھیم علیھ<br />

السلام،‏ فما سكت عن الشرك وأھلھ أو داھنھم أو جاملھم أو غیر ذلك..‏ بل<br />

كان في مكة على قلة اتباعھ.‏ واستضعافھم یعلن براءتھ من الكفار<br />

ومعبوداتھم الباطلة..‏ ویسفھھا ویقول كما أمره الله تعالى أن یقول متبرءاً‏<br />

من الشرك ومصرحاً‏ بكفر أھلھ وبراءتھم من دینھ وبراءة دینھ منھم:‏<br />

‏{قل یا أیّھا الكافرون.‏ لا أعبد ما تعبدون.‏ ولا أنتم عابدون ما أعبد.‏<br />

ولا أنا عابد ما عبدتم.‏ ولا أنتم عابدون ما أعبد لكم دینكم ولي دین}‏<br />

‏[الكافرون:‏ 6-1]. ویصرح لھم بأنھ ثابت على طریقتھ ھذه بريء ممن<br />

خالفھا وأنھ من المؤمنین الذین ھم أعداء لھم ولدینھم:‏ قل یا أیّھا الناس إن<br />

كنتم في شك من دیني فلا أعبد الذین تدعون من دون الله ولكن أعبد الله<br />

الذي یتوفاكم وأمرت أن أكون من المؤمنین ‏[یونس:‏ 104]. ویقول تعالى<br />

مخاطباً‏ لھ:‏ ‏{وإن كذبوك فقل لي عملي ولكم عملكم أنتم بریئون مما أعمل<br />

وأنا بريء مما تعملون}‏ ویقول سبحانھ معلماً‏ المؤمنین أن یقولوا:‏ ‏{الله<br />

ربنا وربكم لنا أعمالنا ولكم أعمالكم}‏ ‏[الشورى:‏<br />

}<br />

.[51<br />

{<br />

جاء في الحدیث الصحیح الذي رواه أبو داود وغیره أن رسول الله<br />

صلى الله علیھ وسلم قال لأحد أصحابھ:‏ ‏(إقرأ ‏{قل یا أیّھا الكافرون}،‏ ثم نم<br />

على خاتمتھا فإنھا براءة من الشرك).‏ وجاء في ‏"رسالة أسباب نجاة<br />

السؤول من السیف المسلول"‏ ما ملخصھ:‏ ‏"إن كلمة الإخلاص ‏(لا إلھ إلا<br />

الله)‏ قُیّدت بقیود ثقال فإمام الحنفاء صلى الله علیھ وسلم لم یكتف بمجرد<br />

قولھا ولم تتم لھ المحبة والموالاة وھو إمام المحبین إلا بالمعاداة.‏ كما یخبر<br />

تعالى عنھ:‏ ‏{أفرأیتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون فإنھم عدو لي<br />

إلا رب العالمین}‏ ‏[الشعراء:‏ 77]، وھذا ھو معنى قول ‏(لا إلھ إلا الله)‏ كما<br />

قال تعالى:‏ ‏{وإذ قال إبراھیم لأبیھ وقومھ إنني براء مما تعبدون إلا الذي<br />

فطرني فإنھ سیھدین وجعلھا كلمة باقیة في عقبھ لعلھم یرجعون}‏<br />

‏[الزخرف:‏ 28]، فأورثھا إمام الحنفاء صلى الله علیھ وسلم لأتباعھ یتوارثھا<br />

الأنبیاء بعضھم عن بعض فلما بعث نبینا محمد صلى الله علیھ وسلم أمره<br />

الله بقولھا كما قالھا أبونا إبراھیم فأنزل الله عز وجل بھا سورة كا<strong>ملة</strong> ھي<br />

سورة الكافرون"‏ اھ.‏ من مجموعة التوحید.‏<br />

وقد صدع بھا النبي صلى الله علیھ وسلم وأعلنھا وما كتمھا،‏ وتحمل<br />

ھو وأصحابھ ما نالھم من أذى على ذلك وما داھنھم لأجل ذلك،‏ وحاشاه من<br />

أن یداھنھم،‏ وإنما كان یثبت أولئك المؤمنون ویذكرھم بوعد الله تعالى<br />

وجنتھ،‏ وبمواقف أھل الثبات ممن كانوا قبلھم،‏ كقولھ:‏ ‏(صبراً‏ آل یاسر فإن<br />

موعدكم الجنة)‏ رواه الحاكم وغیره.‏<br />

وقولھ لخباب:‏ ‏(قد كان من قبلكم یؤخذ الرجل فیحفر لھ في الأرض<br />

فیجعل فیھا،‏ ثم یؤتى بالمنشار فیوضع على رأسھ فیجعل نصفین،‏ ویمشط<br />

(40)<br />

منبر التوحید والجھاد


<strong>ملة</strong> إبراھیم<br />

بأمشاط الحدید ما دون لحمھ وعظمھ ما یصدّه ذلك عن دینھ،‏ والله لیتمن الله<br />

تعالى ھذا الأمر حتى یسیر الرّ‏ اكب من صنعاء إلى حضرموت فلا یخاف<br />

إلا الله والذئب على غنمھ،‏ ولكنكم تستعجلون)‏ (11) .<br />

یقول لأصحابھ ذلك..‏ وفي الوقت نفسھ یقول لقریش كما أمره الله<br />

تعالى:‏ ‏{قل إنما أنا بشر مثلكم یوحى إلي أنما إلھكم إلھ واحد فاستقیموا<br />

إلیھ واستغفروه وویل للمشركین}‏ ‏[فصلت:‏ 6] والآیات مكیة.‏ ویقول:‏ قل<br />

ادعوا شركاءكم ثم كیدون فلا تنظرون * إن ولي الله الذي نزل الكتا ب<br />

وھو یتولى الصالحین * والذین تدعون من دونھ لا یستطیعون نصرك م<br />

ولا أنفسھم ینصرون}‏ ‏[الأعراف:‏ 197] والآیات مكیة.‏<br />

}<br />

-195<br />

لذلك كلھ ولأجل أن دعوتھ كانت كذلك فإن الظالمین ما رضوا عنھ<br />

یوماً‏ ما،‏ ولا طابت أنفسھم أو قرت أعینھم بدعوتھ..‏ بل ثارت ثائرتھم<br />

وقامت قیامتھم..‏ وكم ساوموه..‏ ولكنھ وقف شامخاً‏ ینظر إلى باطلھم<br />

وجموعھم التي یكیدونھ بھا،‏ ویترفع مع حرصھ على ھدایتھم عن الالتقاء<br />

معھم على الباطل في منتصف الطریق أو اتباع قلیل من بعض ما یھوونھ<br />

أو یحبونھ من باطلھم..‏ بل كان یقول لھم بعد ذلك ودائماً‏ كما أمره ربّھ أن<br />

یقول:‏ ‏{قل للذین كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جھنم وبئس المھاد}‏ ‏[آل<br />

12]. عمران:‏<br />

یقول الشیخ عبد الرحمن بن حسن بعدما ذكر بعض مواقف الصدع<br />

والثبات لأصحاب النبي صلى الله علیھ:‏ ‏"فھذه حال أصحاب رسول الله<br />

صلى الله علیھ وسلم وما لقوا من المشركین من شدة الأذى،‏ فأین ھذا من<br />

حال ھؤلاء المفتونین الذین سارعوا إلى الباطل وأوضعوا فیھ وأقبلوا<br />

وأدبروا وتوددوا وداھنوا وركنوا وعظموا ومدحوا؟ فكانوا أشبھ بما قال الله<br />

تعالى:‏ ‏{ولو دخلت علیھم من أقطارھا ثم سئلوا الفتنة لأتوھا وما تلبثوا<br />

بھا إلا یسیراً}‏ ‏[الأحزاب:‏ 14]، نسأل الله تعالى الثبات على الإسلام،‏<br />

ونعوذ بھ من مضلات الفتن ما ظھر منھا وما بطن،‏ ومن المعلوم أن الذین<br />

أسلموا وآمنوا بالنبي صلى الله علیھ وسلم وبما جاء بھ لولا أنھم تبرؤوا من<br />

الشرك وأھلھ وبادروا المشركین بسب دینھم وعیب آلھتھم لما تصدوا لھم<br />

بأنواع الأذى...)‏ أھ.‏ من الدرر - جزء الجھاد ص(‏‎124‎‏).‏<br />

(11) رواه البخاري وغیره،‏ وھكذا كان صلوات الله وسلامھ علیھ،‏ یثبت أصحابھ<br />

ویذكرھم دوماً‏ بأخبار أھل الثبات،‏ حتى إذا ما ابتلي أحدھم في الله بلاء شدیداً،‏ لا<br />

یطیقھ،‏ ووقع فیما وقع فیھ عمار رضي الله عنھ،‏ ذكر لھ عفو الله عن ذلك وترخیصھ<br />

فیھ...‏ لا كأحوال كثیر من دعاة زماننا،‏ یدندنون على أحادیث الرخص والإكراه<br />

والضرورات طوال حیاتھم،‏ وكل أیامھم في غیر مقامھا،‏ ویلجون بحجتھا في كل<br />

باطل،‏ ویكثرون سواد حكومات الكفر والإشراك،‏ دونما إكراه أو اضطرار<br />

حقیقین...فمتى یظھرون الدین؟؟<br />

(41)<br />

منبر التوحید والجھاد


<strong>ملة</strong> إبراھیم<br />

* یقول الشیخ حمد بن عتیق عند كلامھ على سورة ‏(البراءة من<br />

الشرك):‏ ‏"فأمر الله رسولھ صلى الله علیھ وسلم أن یقول للكفار:‏ دینكم الذي<br />

أنتم علیھ أنا بريء منھ ودیني الذي أنا علیھ أنتم براء منھ،‏ والمراد<br />

التصریح لھم بأنھم على الكفر،‏ وإنھ بريء منھم ومن دینھم،‏ فعلى من كان<br />

متبعاً‏ للنبي صلى الله علیھ وسلم أن یقول ذلك،‏ ولا یكون مظھراً‏ لدینھ إلا<br />

بذلك،‏ ولھذا لما علم الصحابة بذلك،‏ وآذاھم المشركون،‏ أمرھم ‏"بالھجرة<br />

إلى الحبشة ولو وجد لھم رخصة في السكوت عن المشركین لما أمرھم<br />

بالھجرة إلى بلد الغربة"‏ اھ.‏ من سبیل النجاة والفكاك.‏ ص(‏‎67‎‏).‏<br />

وھنا شبھة یرددھا أكثر ما یرددھا من لم یفقھ <strong>ملة</strong> إبراھیم علیھ السلام<br />

ولم یعرف مضمونھا وذلك قول كثیر من الجھال إن <strong>ملة</strong> إبراھیم منسوخة<br />

في حقنا،‏ ویستدلون على ذلك بالأصنام التي كانت حول الكعبة والتي لم<br />

یكسرھا صلى الله علیھ وسلم بزعمھم طوال مكوثھ في مكة عھد<br />

الاستضعاف..‏ حتى أنني سمعت أحد ھؤلاء وھو من المشایخ المعروفین<br />

وقد ملأت كتبھ الأسواق،‏ سمعتھ في محاضرة مسجلة لھ،‏ یتبجح ویقول ما<br />

مجملھ:‏ ‏(إن الرسول صلى الله علیھ وسلم أول من أعرض عن <strong>ملة</strong> إبراھیم<br />

ھذه التي تریدونھا إذ جلس في مكة ثلاث عشرة سنة بین تلك الأصنام لم<br />

یحطمھا...)‏ فنقول لھ ولأمثالھ:‏ إن الذي صدكم عن فھم <strong>ملة</strong> إبراھیم<br />

ومعرفتھا ھو انكماش أفھامكم وضیق أفق أذھانكم بحصركم لھا في تكسیر<br />

الأصنام،‏ وظنكم أن <strong>ملة</strong> إبراھیم التي نقصدھا مستوحاة فقط من فعلھ صلى<br />

الله علیھ وسلم حین راغ على أصنام قومھ ضرباً‏ بالیمین،‏ فجعلھم جذاذاً‏ إلا<br />

كبیراً‏ لھم لعلھم إلیھ یرجعون..‏ ولما لم یثبت عندكم أن رسول الله صلى الله<br />

علیھ وسلم فعل ذلك مع أصنام قومھ..‏ أمست ھذه ال<strong>ملة</strong> في أنظاركم الضیقة<br />

منسوخة في حقنا كلھا،‏ ولا تتناولنا في شيء من الأشیاء،‏ وبالتالي فلازم<br />

قولكم ھذا أن كل ما جاء من الآیات المتقدمة الذكر في الحث على اتباع <strong>ملة</strong><br />

إبراھیم والتحذیر من الإعراض عنھا وتفصیل دعوة إبراھیم صلى الله علیھ<br />

وسلم والذین آمنوا معھ،‏ وموقفھم من أقوامھم ومواقف الأنبیاء وغیرھم مع<br />

أقوامھم..‏ كل ذلك عبث وزیادة لا طائل تحتھا ولا فائدة من ورائھا في كتاب<br />

الله،‏ سبحانك ربنا ھذا بھتان عظیم..‏ ورحم الله ابن القیم إذ یقول:‏<br />

من كان ھذا القدر مبلغ علمھ<br />

فلیستتر بالصمت والكتمان<br />

وتنزه الله وتعالى عن العبث وعن أن یكون في كتابھ جل وعلا ما لا<br />

فائدة من ذكره..‏ ومثل ھذه الأغالیط لیست من الشبھات التي تستحق طول<br />

الرد والتفصیل وما ھي إلا تناقضات في أذھان أصحابھا حالت دون فھمھم<br />

لھذه ال<strong>ملة</strong> العظیمة بتفاصیلھا..‏ خاصة وقد علمت فیما تقدم <strong>ملة</strong> إبراھیم<br />

وفھمت مضمونھا وما یراد بھا..‏ فعلمت أنھا أصل الإسلام ومعنى لا إلھ إلا<br />

الله وأن فیھا ما حوتھ ھذه الكلمة من النفي والإثبات وھما التبرؤ من الشرك<br />

وأھلھ وإظھار العداوة لھم،‏ وإخلاص العبادة وحده وموالاة أولیائھ،‏<br />

وعلمت أن ھذا أصل الدین فھو شرع محكم لو اجتمع على دفعھ من<br />

بأقطارھا من عالم وجاھل لما قدروا على رده بحجة أصلاً،‏ وبیّنا لك أن الله<br />

(42)<br />

منبر التوحید والجھاد


<strong>ملة</strong> إبراھیم<br />

تعالى ذكر لنا حال إبراھیم صلى الله علیھ وسلم ومن معھ من المؤمنین مع<br />

قومھم،‏ وكیف تبرؤوا منھم وأظھروا لھم العداوة والبغضاء..‏ وأنھ سبحانھ<br />

قال قبل ذكر موقفھم ھذا مباشرة:‏ ‏{قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراھیم<br />

والذین معھ}‏ ‏[الممتحنة:‏ 4]، وقال سبحانھ بعد ذلك أیضاً:‏ ‏{لقد كان لكم<br />

فیھم أسوة حسنة لمن كان یرجو الله والیوم الآخر}‏ ‏[الممتحنة:‏ قال<br />

سبحانھ..‏ وتنبھ لما قال:‏ ‏{ومن یتول فإن الله ھو الغني الحمید}‏ ‏[الممتحنة:‏<br />

6]، وعلمت أیضاً‏ أن ھذا ھو أصل <strong>ملة</strong> إبراھیم التي نقصدھا وندعو إلیھا<br />

ونرى أكثر أھل الأرض مقصرین فیھا..‏ وعلمت أنھا الطریق الذي فیھ<br />

نصر الله عز وجل وإعزاز دینھ وتحطیم الشرك وأھلھ..‏ وإذا كان الأمر<br />

كذلك..‏ فالرد على ھذه الطریق إذاً‏ یكون بأن یصحح ذلك الشیخ عبارتھ<br />

المذكورة فیقول:‏ ‏(إن النبي صلى الله علیھ وسلم مكث ثلاث عشرة سنة في<br />

مكة بین تلك الأصنام لا یتبرأ منھا ولا یظھر الكفر بھا والعداوة لھا)‏ لیقال<br />

لھ بعدھا؛ عد نفسك نصرانیاً‏ أو یھودیاً‏ أو مجوسیاً،‏ أو ما شئت،‏ أما <strong>ملة</strong><br />

الإسلام فقل لھا علیك السلام...‏<br />

6]، ثم<br />

ونقول:‏ أما تحطیم الأصنام حقیقة وحسیاً‏ كما فعل إبراھیم فقد صح<br />

عن النبي صلى الله علیھ وسلم أنھ فعل شیئاً‏ منھ حینما تمكن من ذلك وقدر<br />

علیھ في غفلة من كفار قریش،‏ ولا أعني بعد الفتح بل في مكة في عھد<br />

الاستضعاف،‏ كما روى الإمام أحمد وأبو یعلى والبزار بإسناد حسن عن<br />

علي بن أبي طالب رضي الله عنھ قال:‏ ‏(انطلقت أنا والنبي صلى الله علیھ<br />

وسلم حتى أتینا الكعبة،‏ فقال لي رسول الله صلى الله علیھ وسلم اجلس<br />

وصعد على منكبي فذھبت لأنھض بھ فرأى مني ضعفاً‏ فنزل وجلس لي<br />

نبي الله صلى الله علیھ وسلم وقال:‏ اصعد على منكبي.‏ قال فصعدت على<br />

منكبیھ،‏ قال فنھض بي قال فإنھ یخیل إلي أني لو شئت لنلت أفق السماء<br />

حتى صعدت على البیت وعلیھ تمثال صفر أو نحاس فجعلت أزاولھ عن<br />

یمینھ وشمالھ وبین یدیھ ومن خلفھ،‏ حتى إذا استمكنت منھ قال لي رسول<br />

الله صلى الله علیھ وسلم:‏ اقذف بھ فقذفت بھ فتكسر كما تتكسر القواریر،‏ ثم<br />

نزلت فانطلقت أنا ورسول الله صلى الله علیھ وسلم نستبق حتى توارینا<br />

بالبیوت خشیة أن یلقانا أحد من الناس)‏ وبوّ‏ ب لھ الھیثمي في مجمع الزوائد:‏<br />

‏(باب تكسیره صلى الله علیھ وسلم الأصنام)‏ وذكر روایة ‏(كان على الكعبة<br />

أصنام فذھبت أحمل رسول الله صلى الله علیھ وسلم فلم أستطع فحملني<br />

فجعلت أقطعھا...)‏ وفي روایة زاد ‏(فلم یوضع علیھا بعد،‏ یعني شیئاً‏ من<br />

تلك الأصنام)‏ قال:‏ ورجال الجمیع ثقات..‏ وذكره أبو جعفر الطبري في<br />

‏(تھذیب الآثار)‏ وتكلم على بعض الفوائد الفقھیة فیھ،‏ أنظر ص‎236‎ إلى<br />

ص‎243‎ من مسند علي فیھ..‏<br />

لذلك فنحن لا نتحرج أبداً‏ من القول بأن ذلك مطلوب منا أیضاً‏ حال<br />

القدرة علیھ في عھد الاستضعاف وغیره..‏ سواء كان ذلك الصنم تمثالاً‏ أو<br />

قبراً‏ أو طاغوتاً‏ أو نظاماً..‏ أو غیره،‏ حسب تنوع الصور واختلافھا في كل<br />

زمان ومكان..‏ وأقصد بذلك الجھاد والقتال وھو أعلى مراتب إظھار العداوة<br />

والبغضاء لأعداء الله...‏<br />

(43)<br />

منبر التوحید والجھاد


<strong>ملة</strong> إبراھیم<br />

ε<br />

ومع ذلك نقول لو سلمنا جدلاً‏ أنھ لم یصح عن النبي تحطیم الأصنام<br />

في مكة زمن الاستضعاف..‏ فإنھ صلوات الله وسلامھ علیھ كان متبعاً‏ ل<strong>ملة</strong><br />

إبراھیم أشد الاتباع آخذاً‏ بھا بقوة..‏ فما داھن الكفار لحظة واحدة وما سكت<br />

عن باطلھم أو عن آلھتھم..‏ بل كان ھمھ وشغلھ الشاغل في تلك الثلاث<br />

عشرة سنة بل وغیرھا ھو ‏{اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت}‏ ‏[النحل:‏<br />

.[36<br />

فلا یعني كونھ جلس بینھا تلك الثلاث عشرة سنة أنھ مدحھا أو أثنى<br />

علیھا أو أقسم على احترامھا كما یفعل كثیر من الجھال المنتسبین إلى<br />

الدعوة مع الیاسق العصري في ھذا الزمان..‏ بل كان یعلن براءتھ من<br />

المشركین وأعمالھم،‏ ویبدي كفره بآلھتھم رغم استضعافھ واستضعاف<br />

أصحابھ..‏ وقد فصّلنا لك ھذا فیما مضى ولو تأملت القرآن المكي،‏ لوضح<br />

لك مثل ذلك الكثیر..‏ منھ على سبیل المثال،‏ قولھ تعالى واصفاً‏ حال نبیھ<br />

في مكة مع الكفار:‏ ‏{وإذا رآك الذین كفروا إن یتخذونك إلا ھزوا.‏ أھذا<br />

الذي یذكر آلھتكم وھم بذكر الرحمن ھم كافرون}‏ ‏[الأنبیاء:‏ 36]، قال ابن<br />

كثیر:‏ ‏(یعنون أھذا الذي یسب آلھتكم ویسفھ أحلامكم..‏ إلى غیر ذلك).‏<br />

ε<br />

وإلیك أیضاً‏ ما جاء في مسند الإمام أحمد وغیره بإسناد صحیح في<br />

صفتھ وحالھ صلى الله علیھ وسلم في مكة زمن الاستضعاف..‏ تأمّلھ وتدبّره<br />

وانظر كیف یصف الكفار نبینا صلى الله علیھ وسلم بسب آلھتھم وتسفیھ<br />

أحلامھم وو..‏ وانظر إلیھم وھو یحیطون بھ وحیداً‏ فریداً‏ یقررونھ بما یقول<br />

ویقولون لھ:‏ ‏(أنت الذي تقول كذا وكذا؟؟)‏ فیرد علیھم دون مداھنة أو مھابة<br />

أو خوف أو وجل،‏ بل بكل صلابة وثبات ووضوح:‏ ‏(نعم،‏ أنا الذي أقول<br />

ذلك).‏<br />

قال عبد الله بن أحمد بن حنبل حدثني أبي قال یعقوب:‏ حدثنا أبي عن<br />

ابن إسحاق قال:‏ وحدثني یحیى بن عروة بن الزبیر عن أبیھ عروة عن عبد<br />

الله ابن عمرو بن العاص،‏ قال:‏ قلت لھ:‏ ما أكثر ما رأیت قریشاً‏ أصابت من<br />

رسول الله صلى الله علیھ وسلم،‏ فیما كانت تظھر من عداوتھ؟ قال:‏<br />

حضرتھم وقد اجتمع أشرافھم یوماً‏ في الحجر،‏ فذكروا رسول الله صلى الله<br />

علیھ وسلم،‏ فقالوا:‏ ما رأینا مثل ما صبرنا علیھ من ھذا الرجل قط سفّھ<br />

أحلامنا.‏ وشتم آبائنا،‏ وعاب دیننا،‏ وفرق جماعتنا،‏ وسب آلھتنا،‏ لقد صبرنا<br />

منھ على أمر عظیم،‏ أو كما قالوا،‏ قال:‏ فبینما ھم كذلك،‏ إذ طلع علیھم<br />

رسول الله صلى الله علیھ وسلم،‏ فأقبل یمشي،‏ حتى استلم الركن،‏ ثم مر بھم<br />

طائفاً‏ بالبیت،‏ فلما أن مر بھم،‏ غمزوه ببعض ما یقول،‏ قال:‏ فعرفت ذلك في<br />

وجھھ،‏ ثم مضى،‏ فمر بھم الثانیة،‏ فغمزوه بمثلھا،‏ فعرفت ذلك في وجھھ،‏<br />

ثم مضى،‏ ثم مر بھم الثالثة،‏ فغمزوه بمثلھا،‏ فقال:‏ ‏(تسمعون یا معشر<br />

قریش،‏ أما والذي نفس محمد بیده،‏ لقد جئتكم بالذبح)‏ فأخذت القوم كلمتھ،‏<br />

حتى ما منھم رجل إلا كأنما على رأسھ طائر واقع،‏ حتى إن أشدھم فیھ<br />

وصاه قبل ذلك لیرفؤه بأحسن ما یجد من القول حتى إنھ لیقول:‏ انصرف یا<br />

أبا القاسم،‏ انصرف راشداً،‏ فوالله ما كنت جھولاً،‏ قال:‏ فانصرف رسول الله<br />

صلى الله علیھ وسلم،‏ حتى إذا كان الغد،‏ اجتمعوا في الحجر وأنا معھم،‏<br />

(44)<br />

منبر التوحید والجھاد


<strong>ملة</strong> إبراھیم<br />

فقال بعضھم لبعض:‏ ذكرتم ما بلغ منكم وما بلغكم عنھ،‏ حتى إذا بادأكم بما<br />

تكرھون تركتموه!‏ فبینما ھم في ذلك،‏ إذ طلع ‏[علیھم]‏ رسول الله صلى الله<br />

علیھ وسلم فوثبوا إلیھ وثبة رجل واحد،‏ فأحاطوا بھ،‏ یقولون لھ:‏ أنت الذي<br />

تقول كذا وكذا،‏ لما كان یبلغھم عنھ من عیب آلھتھم ودینھم،‏ قال:‏ فیقول<br />

رسول الله صلى الله علیھ وسلم:‏ نعم،‏ أنا الذي أقول كذا،‏ قال:‏ فلقد رأیت<br />

رجلاً‏ منھم أخذ بمجمع ردائھ،‏ قال:‏ وقام أبو بكر الصدیق رضي الله عنھ،‏<br />

دونھ یقول وھو یبكي:‏ ‏(أتقتلون رجلاً‏ أن یقول ربي الله؟).‏ ثم انصرفوا عنھ<br />

فإن ذلك لأشد ما رأیت قریشاً‏ بلغت منھ قط"‏ اھ.‏ (7036 من المسند تحقیق<br />

أحمد شاكر وقال:‏ إسناده صحیح)‏ وھو كما قال.‏ وفي روایة أخرى في<br />

المسند أیضاً‏ (204/2) أن النبي صلى الله علیھ وسلم كان في المرة الثانیة<br />

في صلاة عند الكعبة،‏ إذ أقبل عقبة بن أبي معیط فأخذ بمنكب النبي صلى<br />

الله علیھ وسلم ولوى ثوبھ في عنقھ،‏ فخنقھ بھ خنقاً‏ شدیداً،‏ فأقبل أبو بكر<br />

رضي الله عنھ فأخذ بمنكبھ ودفعھ عن رسول الله صلى الله علیھ وسلم<br />

وقال:‏ ‏(أتقتلون رجلاً‏ أن یقول ربي الله وقد جاءكم بالبینات من ربكم).‏<br />

فتأمّل حال النبي صلى الله علیھ وسلم الذي وصفتھ الملائكة كما في<br />

صحیح البخاري:‏ ‏(أنھ صلى الله علیھ وسلم فرّ‏ ق بین الناس)‏ تأمل حالھ ھذه<br />

مع كفار زمانھ وكیف أنھا عداوة ظاھرة لكل من عادى الدین،‏ وافتراق<br />

طریق،‏ وبراءة واضحة..‏ ولیس كأوضاع أھل زماننا الشاذة من ركون أھل<br />

الدین لأھل الباطل..‏ داھنوھم وجاملوھم بل وآزروھم وناصروھم ولم تعد<br />

القضیة قضیة عداوة ولا براءة،‏ بل تعاون وتكاتف لصالح الوطن والمجتمع<br />

وجلسوا في أحضانھم ورضعوا من ألبانھم..‏ فا‏ المستعان.‏<br />

* یقول الشیخ عبد الرحمن بن حسن وھو یتكلم عن أمثال ھؤلاء:‏<br />

‏(خاضوا في غمرات الافتتان واطمأنت قلوبھم إلى أھل الظلم والعدوان،‏<br />

وأكثروا التردد علیھم والمسیر إلیھم طوعاً‏ واختیاراً‏ وتعرضوا لما في<br />

أیدیھم من حطام الدنیا سراً‏ وجھاراً،‏ فأین القلب المطمئن بالإیمان إذا كان<br />

مدعیھ یجري مع الھوى في كل میدان،‏ فما أشبھ حال ھذا وأمثالھ بالضرب<br />

الذین ذكرھم العلامة ابن القیم رحمھ الله وھم الذین لھم أوفر نصیب من<br />

قولھ تعالى:‏ ‏{ولا تحسبن الذین یفرحون بما أتوا ویحبون أن یحمدوا بما<br />

لم یفعلوا فلا تحسبنھم بمفازة من العذاب ولھم عذاب ألیم}‏ ‏[آل عمران:‏<br />

188]، یفرحون بما أتوا من البدعة والضلالة،‏ ویحبون أن یحمدوا باتباع<br />

السنة والإخلاص،‏ وھذا یكثر فیمن انحرف من المنتسبین إلى العلم والعبادة<br />

عن الصراط المستقیم)‏ اھ الدرر - جزء الجھاد ص‎127‎‏.‏<br />

* وھا ھنا مسألة قد یرد فیھا إشكال على البعض،‏ وھي كیفیة الجمع<br />

بین عیبھ صلى الله علیھ وسلم آلھتھم ودینھم كما في ھذا الحدیث وغیره،‏<br />

وبین قولھ تعالى:‏ ‏{ولا تسبوا الذین یدعون من دون الله فیسبوا الله عدواً‏<br />

بغیر علم}‏ ‏[الأنعام:‏ 108]، فنقول وبا‏ التوفیق:‏ أن كل ما ذكرناه مما تقدم<br />

في تفصیل <strong>ملة</strong> إبراھیم من عیب الآلھة الباطلة وتسفیھھا والحطّ‏ من قدرھا<br />

(45)<br />

منبر التوحید والجھاد


<strong>ملة</strong> إبراھیم<br />

{<br />

وإن سمّاه البعض سباً..‏ فإنھ لیس سباً‏ مجرداً‏ وإنما أصل المقصود بھ بیان<br />

التوحید للناس وذلك..‏<br />

* بإبطال ألوھیة ھذه الأرباب المتفرقة المزعومة والكفر بھا وبیان<br />

زیفھا للخلق:‏ كقولھ تعالى:‏ ‏{إن الذین تدعون من دون الله عباد أمثالكم<br />

فادعوھم فلیستجیبوا لكم إن كنتم صادقین * ألھم أرجل یمشون بھا أم لھم<br />

أید یبطشون بھا أم لھم أعین یبصرون بھا أم لھم آذان یسمعون بھا قل<br />

ادعوا شركاءكم ثم كیدون فلا تنظرون * إن ولیي الله الذي نزل الكتاب<br />

وھو یتولى الصالحین * والذین تدعون من دونھ لا یستطیعون نصركم<br />

ولا أنفسھم ینصرون ‏[الأعراف:‏ ]، وقول إبراھیم علیھ<br />

السلام:‏ ‏{یا أبت لم تعبد ما لا یسمع ولا یبصر ولا یغني عنك شیئاً}‏ ‏[مریم:‏<br />

42]، وقولھ تعالى في سورة النجم:‏ ‏{أفرأیتم اللات والعزى * ومناة الثالثة<br />

الأخرى * ألكم الذكر ولھ الأنثى تلك إذا قسمة ضیزى * إن ھي إلا أسماء<br />

سمیتموھا أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بھا من سلطان إن یتبعون إلا الظن<br />

وما تھوى الأنفس وقد جاءكم من ربكم الھدى}‏ ‏[النجم:‏ 22-19]. وكذا كل<br />

ما جاء في وصف ھذه الآلھة كبیان أنھا لا تستحق العبادة أو تسمیتھا<br />

بالطاغوت أو جعل عبادتھا طاعة للشیطان وإنھا وإیاھم حصب جھنم..‏<br />

وغیر ذلك.‏<br />

197-194<br />

* وكذلك القیام بھذا التوحید عملیاً‏ بإظھار عداوتھا وبغضھا والبراءة<br />

منھا والكفر بھا،‏ كقولھ تعالى عن إبراھیم:‏ ‏{قال أفرأیتم ما كنتم تعبدون *<br />

أنتم وآباؤكم الأقدمون * فإنھم عدو لي إلا رب العالمین}‏ ‏[الشعراء:‏<br />

‏{قال یا قوم إني بريء مما تعبدون..}‏ ‏[الأنعام:‏<br />

تضمنتھ سورة البراءة من الشرك من معانٍ‏ وغیر ذلك مما قدمناه..‏ فذلك<br />

كلھ لا یدخل في السب المجرد الذي نھت عنھ الآیة المذكورة،‏ والذي من<br />

طبیعتھ أن یستثیر الخصم ویھینھ ویعیره فقط دون فائدة أو بیان،‏ فیسب الله<br />

عز وجل عدواً‏ وجھلاً‏ وربما دون قصد،‏ خاصة فیمن یعتقد بالربوبیة ككفار<br />

قریش،‏ وكذلك الحال بالنسبة لعبید الیاسق..‏ فإن <strong>ملة</strong> إبراھیم تقتضي أن<br />

یحذر من یاسقھم ویعادى ویبغض ویُدعى الناس إلى الكفر بھ والبراءة منھ<br />

ومن أولیائھ وعبیده المصرّ‏ ین على تحكیمھ،‏ بذكر فضائحھ وكشف زیوفھ<br />

وبطلان أحكامھ ومصادمتھا الصریحة لدین الله بإباحتھا للردة والربا<br />

وتسھیلھا للفاحشة والفجور وتعطیلھا لحدود الله كحد الزنا والقذف والسرقة<br />

وشرب الخمر واستبدال القوانین الفاجرة الكافرة بھذه الحدود العظیمة..‏ وما<br />

إلى ذلك وھو كثیر جداً..‏ فھذا كلھ لا یدخل فیما نھت عنھ الآیة وإن سماه<br />

عبید الیاسق وسدنتھم سبا..‏ أو إطالة لسان بل الواجب كما عرفت مما تقدم<br />

أن یظھره الدعاة ویصدعوا بھ..‏ أما سبھم وسب حكوماتھم وحكامھم<br />

ودساتیرھم سباً‏ مجرداً‏ ھكذا للإستثارة المجردة..‏ فھو المنھي عنھ لما یترتب<br />

علیھ من سب أولئك الجھال للساب ولدینھ وطریقتھ وإن كانوا ینتسبون إلى<br />

الإسلام زوراً‏ وبھتاناً..‏ ویشھدون بربوبیة الله وربما یوحدونھ ببعض أنواع<br />

ألوھیتھ دون الحكم والتشریع..‏ كما ذكر المفسرون:‏ ‏{فیسبوا الله}‏ أي<br />

فیسبوا آمركم بسبّھا فیعود ذلك على الله جھلاً‏ وعدواً‏ بغیر علم،‏ كما قد یسب<br />

-75<br />

78]، وما<br />

77]. وقولھ:‏<br />

(46)<br />

منبر التوحید والجھاد


<strong>ملة</strong> إبراھیم<br />

الرجل أبا الرجل فیسب أباه،‏ وربما كانا أخوین لأب واحد،‏ فالغیظ والغضب<br />

والاستثارة المجرّ‏ دة تعمي الخصم عن التفكیر والتدبر وتستسبھ؛ أي تحملھ<br />

على السب..‏ قال محمد رشید رضا في تفسیره:‏ ‏(الباعث على العمل ھنا ھو<br />

إرادة السب التي یُقصد بھا إھانة المسبوب،‏ فإن ھذا الساب لا یتوجھ قصده<br />

إلا إلى إھانة مخاطبھ الذي سبھ)اھ.‏ بخلاف تدخیل العقل،‏ والدعوة إلى<br />

إعمالھ ومخاطبتھ ولفت انتباھھ إلى زیف ھذه الآلھة وكونھا لا تسمع ولا<br />

تبصر ولا تضر ولا تنفع ولا تقرب ولا تشفع ولا تغني عن أنفسھا وأتباعھا<br />

شیئاً..‏ وتأمل قصة إبراھیم مع قومھ وكیف یلفت فیھا انتباھھم إلى زیف تلك<br />

الآلھة المزعومة،‏ ویستشیرھم لا لمجرد الاستثارة أو الإھانة بل لیفكروا<br />

ویتصادموا مع عقولھم في ذلك..‏ وتأمل كیف یفتضح أمرھم بذلك وینتكسوا<br />

ویتناقضوا ویتخبطوا..‏ فیقول لھم عند ذلك معنّفاً:‏ ‏{أفٍ‏ لكم ولما تعبدون من<br />

دون الله أفلا تعقلون}‏ ‏[الأنبیاء:‏<br />

.[67<br />

ولو تأملت قول عبد الله بن عمرو راوي الحدیث السابق حین ذكر<br />

قول قریش للنبي صلى الله علیھ وسلم ‏(أنت الذي تقول كذا كذا)‏ قال مفسراً‏<br />

لذلك:‏ ‏(لما بلغھم عنھ من عیب آلھتھم ودینھم).‏ والعیب عند العرب سب أو<br />

كالسب وقد عده ابن تیمیة رحمھ الله تعالى كذلك في كتابھ الصارم المسلول<br />

على شاتم الرسول في ‏(بیان أقسام السب)‏ ص‎528‎ وغیرھا..‏ ولكنھ في ھذا<br />

الموضع لیس سباً‏ مجرداً‏ كما عرفت..‏ فالنبي صلى الله علیھ وسلم كان قائماً‏<br />

بدعوة التوحید التي أرسلھ الله بھا وب<strong>ملة</strong> إبراھیم التي أمره سبحانھ باتباعھا.‏<br />

وھذا كلھ سب عند أولئك المشركین،‏ لأنّھ إبطال لدینھم وتنقص لآلھتھم<br />

المزعومة بتجریدھا من صفات الألوھیة التي ینعتونھا بھا..‏ وھذا ھو عیب<br />

آلھتھم الذي ذكروه..‏ وكذلك وصف آبائھم بالضلال لیس استثارة مجردة<br />

لذاتھا،‏ بل لزجرھم عن تقلیدھم ونھیھم عن متابعتھم على ضلالھم..‏ نقل<br />

القاسمي في تفسیره عن الرازي قولھ:‏ ‏(وفي الآیة تأدیب لمن یدعو إلى<br />

الدین،‏ لئلا یتشاغل بما لا فائدة لھ في المطلوب،‏ لأن وصف الأوثان بأنھا<br />

جمادات لا تضر ولا تنفع،‏ یكفي في القدح في إلھیتھا فلا حاجة مع ذلك إلى<br />

شتمھا)‏ اھ...‏ ولكن ذلك أیضاً‏ لا یرضي الكفار ولا یعجبھم وإن لم یكن سباً‏<br />

مجرداً،‏ فھو نسف لآلھتھم وكفر بھا..‏ لذا سموه سباً،‏ كما سمّوا وصف<br />

آبائھم بالضلال،‏ شتما حیث قالوا:‏ ‏(سف َّھ أحلامنا وشتم آباءنا وعاب دیننا<br />

وفرق جماعتنا وسب آلھتنا...).‏<br />

یقول الشیخ محمد بن عبد الوھاب في الموضع الثاني من المواضع<br />

الستة التي ذكرھا في السیرة عن النبي صلى الله علیھ وسلم أنھ لما صرح<br />

بسب دینھم وتجھیل علمائھم فحینئذ شمروا لھ ولأصحابھ عن ساق العداوة<br />

وقالوا:‏ سفھ أحلامنا وعاب دیننا وشتم آلھتنا،‏ ومعلوم أنھ صلى الله علیھ<br />

وسلم لم یشتم عیسى وأمھ ولا الملائكة ولا الصالحین ولكن لما ذكر انھم لا<br />

یدعون ولا ینفعون ولا یضرون جعلوا ذلك شتماً)‏ أھ.‏<br />

والخلاصة أن ذلك كلھ لا یدخل في السب المجرد الذي نھى الله عنھ<br />

في الآیة،‏ ولا ھو مقصود بھا،‏ حتى ولو ترتب على مثلھ أن یسب الكافر الله<br />

(47)<br />

منبر التوحید والجھاد


<strong>ملة</strong> إبراھیم<br />

أو الدین عدوا،‏ فلیس للمسلم أن یترك لأجلھ ما أوجب الله علیھ من الصدع<br />

بالتوحید وإظھار الدین فالسب ھنا لا یكون إلا عدواً‏ بعلم،‏ لورود الحجة<br />

والبیان،‏ وإلا لو حسبنا حساباً‏ لمثل ذلك،‏ لتركنا دیننا كلھ وتنازلنا عنھ لسواد<br />

عیون الكفار..‏ لأنھ كلھ قائم على أصل الإیمان با‏ والكفر بكل طاغوت...‏<br />

فتنبّھ..‏ وقس على ذلك ما یقال في ھذه الطواغیت العصریة..‏ من دساتیر<br />

ومناھج وقوانین وحكام وغیرھم..‏ ولا تقصر المعنى على الأصنام<br />

الحجریة،‏ فتُحجّر واسعاً..‏<br />

* فھذه القاعدة إذاً‏ إنما تكون صواباً‏ في المباحات والمستحبات لا في<br />

الواجبات فلا یُترك واجب من واجبات الدین كبیان التوحید وإبطال دین<br />

المشركین سداً‏ لھذه الذریعة.‏ كما قد یفھم البعض..‏ ولو توسعنا في ذلك<br />

لأضعنا جُلّ‏ دیننا..‏ لذا قال أبو بكر بن العربي في أحكام القرآن،‏ ص<br />

‏(المسألة الثانیة):‏ ‏(ھذا یدل على أن للمحق أن یكف عن حق یكون لھ إذا<br />

أدى ذلك إلى ضرر یكون في الدین،‏ وھذا فیھ نظر طویل،‏ اختصاره أن<br />

الحق إن كان واجباً‏ فیؤخذ بكل حال،‏ وإن كان جائزاً‏ ففیھ یكون ھذا القول<br />

والله أعلم)‏ اھ.‏ ویقول محمد رشید رضا:‏ ‏{ومنھا}‏ ما نُقل عن أبي<br />

منصور قال:‏ كیف نھانا الله تعالى عن سب من یستحق السب لئلا یسب من<br />

لا یستحقھ،‏ وقد أمرنا بقتالھم وإذا قاتلناھم قاتلونا،‏ وقتل المؤمن بغیر حق<br />

منكر؟ وكذا أمر النبي صلى الله علیھ وسلم بالتبلیغ والتلاوة علیھم وإن كانوا<br />

یكذبونھ...‏ وأجاب عنھ:‏ بأن سب الآلھة مباح غیر مفروض،‏ وقتالھم فرض<br />

وكذا التبلیغ،‏ وما كان مباحاً‏ ینھى عما یتولد منھ ویحدث،‏ وما كان فرضاً‏ لا<br />

ینھى عما یتولد عنھ..)‏ أھ.‏ وبمثل ذلك یُردّ‏ على من احتج لإبطال ما ذكرناه<br />

من وجوب إظھار الدین،‏ بما رواه البخاري في صحیحھ،‏ أن قولھ تعالى:‏<br />

‏{ولا تجھر بصلاتك ولا تخافت بھا}‏ ‏[الإسراء:‏ ]. أنزلت ورسول الله<br />

صلى الله علیھ وسلم متوار بمكة.‏ فكان إذا رفع صوتھ سمع المشركون<br />

فسبوا القرآن ومن أنزلھ ومن جاء بھ،‏ وقال الله تعالى:‏ ‏{ولا تجھر بصلاتك<br />

ولا تخافت بھا}‏ ‏[الإسراء:‏ 110]، لا تجھر بصلاتك حتى یسمع<br />

المشركون.‏ ولا تخافت بھا عن أصحابك فلا تُسمعھم،‏ وابتغ بین ذلك سبیلاً.‏<br />

:473<br />

110<br />

)<br />

فالدعوة إلى الله قائمة ودین المسلمین ظاھر ودعوتھم لنبذ الأوثان<br />

معلومة لكل أحد في مكة وبراءتھم منھا بیّنة بادیة،‏ وإذا كان الأمر كذلك<br />

فترك الجھر بقراءة القرآن عند تلاوتھ،‏ لدفع ھذه المفسدة لا یطفىء نور<br />

الدعوة ولا یؤثر فیھا تأثیراً‏ سلبیاً‏ أبداً..‏ فالقرآن ینتشر في كل مكان رغم<br />

أنوف المشركین..‏ و<strong>ملة</strong> إبراھیم معلنة لدرجة أن كل من یعلن إسلامھ یسمى<br />

بالصابىء،‏ أي الكافر بدینھم وبأوثانھم،‏ والأمر في غایة الوضوح لا لبس<br />

فیھ ولا إشكال..‏ أضف إلى ذلك أن رفع الصوت بالقراءة في الصلاة<br />

لیسمعھ غیر المصلین لیس واجباً‏ من واجبات الصلاة،‏ فجاز تركھ سداً‏ لھذه<br />

الذریعة،‏ طبقاً‏ لقاعدتھا المذكورة الخاصة بترك المباحات والمستحبات دون<br />

الواجبات،‏ فلیس ھذا تركاً‏ لواجب بل یكفي في ذلك أن یسمع الإمام من<br />

یصلي خلفھ وھو ما أمر الله تعالى بھ رسولھ في قولھ:‏ ‏{ولا تخافت بھا}‏ أي<br />

عن أصحابك.‏<br />

(48)<br />

منبر التوحید والجھاد


<strong>ملة</strong> إبراھیم<br />

* وھناك شبھة أخرى قد یحتج بھا البعض..‏ وھي إیواء أبي طالب<br />

للنبي الذي امتن الله عز وجل بھ علیھ فقال:‏ ‏{ألم یجدك یتیماً‏ فآوى<br />

قصة جوار وأمان الكافر للمسلم وأمثلتھ كثیرة،‏ من<br />

ذلك ما رواه البخاري في صحیحھ عن جوار ابن الدغنة لأبي بكر في مكة..‏<br />

وكذا النجاشي وإیوائھ للمسلمین وھو على نصرانیتھ قبل إسلامھ...‏ وما<br />

شابھھ...‏ وخلاصة ھذه الشبھة:‏ ‏(كیف یرضى المسلم في مثل ھذه الأحوال<br />

بإیواء وحمایة وجوار الكافر المخالف لھ في عقیدتھ ومنھجھ؟؟ أفلا یتنافى<br />

ھذا مع <strong>ملة</strong> إبراھیم في البراءة من المشركین...؟).‏<br />

{ ε<br />

‏[الضحى:‏ 6]، وكذا<br />

)<br />

(<br />

فنقول وبا‏ التوفیق:‏ أن لا تعارض في ھذه الأمثلة المذكورة مع <strong>ملة</strong><br />

إبراھیم،‏ <strong>ودعوة</strong> الأنبیاء والمرسلین وذلك لأن الأمر كما قدمنا لك من قبل<br />

قسمان:‏<br />

الأول:‏ البراءة من آلھتھم الباطلة والكفر بطواغیتھم التي تعبد من دون<br />

الله عز وجل.‏<br />

الثاني:‏ عداوة المشركین المعاندین المصرّ‏ ین على باطلھم..‏ وقدمنا<br />

أیضاً‏ أن الأول مطلوب من المسلم منذ أول خطوة في الطریق دون توان أو<br />

تأخیر،‏ بل یجب أن یعلن ویظھر ویبدى من قبل طائفة من المسلمین كي<br />

یعرف الناس بھ أصل الدعوة،‏ ویشتھر حتى یصبح بدھیة یوصف بھا كل<br />

من یدخل في ھذا الدین..‏<br />

أما الثاني،‏ فلا یبدى أو یعلن،‏ إلا بعد الإصرار على الباطل وعداوة<br />

الحق وأھلھ.‏ فأبو طالب مثلاً..‏ على الرغم من بقائھ على الكفر لم یكن<br />

مظھراً‏ العداوة والبغضاء للحق وأھلھ،‏ بل على العكس من ذلك فقد كان<br />

ردءاً‏ مدافعاً‏ عن صاحب الحق ورسولھ صلى الله علیھ وسلم كما وصفھ<br />

العباس رضي الله عنھ في حدیث البخاري حیث قال للنبي صلى الله علیھ<br />

وسلم:‏ ما أغنیت عن عمك فإنھ كان یحوطك وینصرك ویغضب لك...‏<br />

الحدیث وإن كان ذلك في عصبیة ولروابط نسبیة وراجع في ذلك ما ذكره<br />

العلامة الشنقیطي في أضواء البیان المجلد الثالث ‏(ص<br />

407) في تأیید الدین بالرجل الفاجر وبالروابط العصبیة والأواصر النسبیة<br />

مع بطلان ھذه الروابط وبطلان الود على أساسھا وحدھا...‏ والشاھد من<br />

ذلك أن مثل ھذا النصیر أو المجیر..‏ یبقى الأمل وارداً‏ في ھدایتھ واتباعھ<br />

للحق إلى آخر لحظة ما دام لا یقف مع الصف المعادي المحارب لھ بل<br />

یقف مدافعاً‏ عن بعض أتباعھ...‏ فكیف إذا أضیف إلى ذلك كونھ من خاصة<br />

الداعیة وقرابتھ الذین یتعلقون بھ...‏ ولذلك فإن النبي صلى الله علیھ وسلم لم<br />

ییأس من دعوة عمھ الذي كان یقول:‏<br />

والله لن یصلوا إلیك بجمعھم<br />

فاصدع بأمرك ما علیك<br />

،406 ،43 ،41<br />

حتى أوسد في التراب دفینا<br />

أبشر بذاك وقر منھ عیونا<br />

(49)<br />

منبر التوحید والجھاد


<strong>ملة</strong> إبراھیم<br />

وقبل ذلك كلھ،‏ ھناك أمر آخر...‏ وھي النقطة الأولى والمھمة في<br />

الموضوع..‏ أن النبي صلى الله علیھ وسلم مع موقف عمھ المدافع ھذا،‏ لم<br />

یكن لیداھنھ على حساب دعوتھ ودینھ،‏ بل كان عمھ یعرف بدعوتھ صلى<br />

الله علیھ وسلم ویسمع بعداوتھ وبعیبھ لآلھتھم الباطلة،‏ وقد حاولت قریش<br />

معھ للضغط على النبي صلى الله علیھ وسلم لیكفّ‏ عن دعوتھ وعن عیب<br />

آلھتھم وتسفیھ أحلامھم،‏ وعندما حاول أبو طالب السعي لمثل ذلك،‏ ما داھنھ<br />

صلوات الله وسلامھ علیھ ولا تنازل عن شيء من أمر دینھ تطییباً‏ لخاطر<br />

عمّھ الذي كان یحمیھ وینصره ویؤویھ،‏ بل قال قولتھ المعروفة:‏ ‏(والله ما أنا<br />

بأقدر أن أدع ما بُعثت بھ،‏ من أن یشعل أحد من ھذه الشمس شعلة من نار)‏<br />

كما في الطبراني وغیره.‏ وھو صلى الله علیھ وسلم كذلك أولاً‏ وآخراً‏ لم<br />

یكن لیربطھ بعمھ الكافر ود ولا حب كیف وھو صلى الله علیھ وسلم قدوتنا<br />

ومثلنا الأعلى في قولھ تعالى:‏ ‏{لا تجد قوماً‏ یؤمنون با‏ والیوم الآخر<br />

یوادون من حاد الله ورسولھ ولو كانوا آباءھم...}‏ الآیة،‏ مع حرصھ على<br />

ھدایتھ...‏ فذلك شيء والحب والود شيء آخر...‏ وما كان النبي رغم إیواء<br />

عمھ وحمایتھ لھ ودفاعھ عنھ لیصلي علیھ یوم أن مات...‏ بل نھاه الله عز<br />

وجل عن مجرد الاستغفار لھ یوم أنزل علیھ:‏ ‏{ما كان للنبي والذین آمنوا<br />

أن یستغفروا للمشركین..}‏ ‏[التوبة:‏ 113] الآیة،‏ وما كان منھ صلوات الله<br />

وسلامھ علیھ عندما جاءه علي رضي الله عنھ فقال لھ:‏ ‏(إن عمك الشیخ<br />

الضال قد مات فمن یواریھ؟...)‏ غیر أن یقول لھ:‏ ‏(اذھب فواره)‏ رواه<br />

الإمام أحمد والنسائي وغیرھما.‏<br />

ε<br />

ومثل ذلك أیضاً‏ یُقال في رھط شعیب الذین كانوا مانعاً‏ دونھ والكفار،‏<br />

قال تعالى مخبراً‏ عن أعداء نبیھ:‏ ‏{ولولا رھطك لرجمناك}‏ ‏[ھود:‏<br />

كانوا كفاراً...‏ وكذا نبي الله صالح علیھ السلام وولیھ الذي كان الكفار<br />

یحاذرونھ ‏{قالوا تقاسموا با‏ لنبیتنھ وأھلھ ثم لنقولن لولیّھ ما شھدنا<br />

مھلك أھلھ وإنا لصادقون}‏ ‏[النمل:‏<br />

91]. وقد<br />

.[49<br />

* أضف إلى ذلك أن ھناك فرقاً‏ واضحاً‏ یجب أن یُلاحظ ویعتبر بین<br />

أن یُعین الكافر مسلماً‏ أو یجیره وینصره ویحمیھ ویأویھ بنفسھ دون أن یلجأ<br />

المسلم إلیھ أو یذل نفسھ لھ أو یتودّد،‏ وإنما یفعل الكافر ذلك من تلقاء نفسھ<br />

بدافع القبلیة أو العصبیة أو القرابة وغیرھا...‏ وبین أن یطلب المسلم ذلك<br />

منھ ویكون في طلبھ نوع ذل ومھانة ومداھنة أو إقرار وسكوت عن باطلھ<br />

أو رضىً‏ بشركھ..‏ لا شك أن الفرق بین الحالتین واضح بین لا یخفى على<br />

البصیر،‏ ولو تأملت ھذه الأمثلة لرأیتھا من الجنس الأول..‏ ولأبي جعفر<br />

الطحاوي كلاماً‏ لطیفاً‏ یشبھ ھذا في مشكل الآثار (3/239) فرّ‏ ق فیھ بین<br />

الاستعانة بالمشركین في القتال وكون ذلك مما نھى الله تعالى عنھ في قولھ:‏<br />

‏{یا أیّھا الذین آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا یألونكم خبالا..}‏ ‏[آل<br />

عمران:‏ 118] الآیة،‏ وبین قتالھم بأنفسھم ضد أعداء المسلمین دون طلب<br />

واستعانة من المسلمین أنفسھم،‏ فراجعھ فإنھ مفید في ھذا الباب..‏ وكذا جوار<br />

ابن الدغنة لأبي بكر...‏ فكلھ من ھذا القبیل..‏<br />

(50)<br />

منبر التوحید والجھاد


<strong>ملة</strong> إبراھیم<br />

ومن ذلك أیضاً‏ صلة الوالدین المشركین ومصاحبتھما بالمعروف<br />

وتألّف قلبیھما،‏ لأن أمل التأثر بابنھما واتباع الحق الذي یدعو إلیھ وارد باقٍ‏<br />

ما داما متعلقین بالولد..‏ حتى وإن جاھداه على أن یشرك با...‏ ما لم یقفا<br />

في الصف المحارب المعادي الصاد عن سبیل الله...‏ فإن فعلا ذلك تبرأ<br />

منھما علانیة كما فعل إبراھیم مع أبیھ لما تبین لھ أنھ عدو .. بل ویعادیھما<br />

ویقاتلھما كما فعل أبو عبیدة وغیره من الصحابة في بدر..‏ فإبراھیم علیھ<br />

السلام كما قدمنا كان یتألف قلب أبیھ ویدعوه بالحسنى واللین ویظھر<br />

حرصھ على ھدایتھ وخوفھ علیھ من عذاب الله لأولیاء الشیطان..‏ ولكنھ تبرأ<br />

منھ واعتزلھ عندما تبین لھ عداوتھ الصریحة ... واستثنى سبحانھ مما<br />

دعانا للتأسي فیھ بإبراھیم والذین معھ في سورة الممتحنة؛ استغفاره لأبیھ،‏<br />

ونھى المؤمنین في سورة التوبة عن الاستغفار للمشركین ولو كانوا أولي<br />

قربى ثم قال عن إبراھیم:‏ ‏{فلما تبین لھ أنھ عدو تبرأ منھ.‏ إن إبراھیم<br />

لأواه حلیم}.‏<br />

ومنھ قولھ تعالى:‏ ‏{ولا تجادلوا أھل الكتاب إلا بالتي ھي أحسن}‏ ثم<br />

استثنى سبحانھ:‏ ‏{إلا الذین ظلموا منھم...}‏ ‏[العنكبوت:‏<br />

.[64<br />

وكذا أمان النجاشي للمھاجرین..‏ وارجع إلى قصة جعفر وموقفھ<br />

رضي الله عنھ في الصدع بدینھ ومعتقده في عیسى علیھ السلام الذي<br />

یخالف فیھ دین من ھو بین ظھرانیھم،‏ رغم استضعافھ ومن معھ،‏ ورغم<br />

دخولھم في أمانھم..‏ بل إن النجاشي بكى لما سمع كلام الله یُتلى،‏ وأظھر<br />

التأیید والقبول وأعطاھم الأمان فأظھروا دینھم ومعتقدھم لكل أحد،‏ فكان<br />

إسلام النجاشي ومن أسلم من أھل الحبشة بتوفیق الله تعالى ثم بسبب<br />

إظھارھم لدینھم رضي الله تعالى عنھم..‏ وراجع في رد ھذه الشبھة وإبطالھا<br />

رسالة ‏(المورد العذب الزلال)‏ للشیخ عبد الرحمن بن حسن بن الشیخ محمد<br />

بن عبد الوھاب رحمھم الله أجمعین في الدرر السنیة جزء مختصرات<br />

الردود ص‎124‎ وكذا ص‎197‎ من الجزء نفسھ فإنھ مھم في رد ھذه الشبھة<br />

وشبھة أخرى وھي احتجاجھم ‏(بمؤمن آل فرعون)‏ وكذا ص‎212‎‏.‏<br />

* وخلاصة القول في ذلك كلھ...‏ أن معاداة أھل الباطل وإظھار<br />

البراءة منھم ومن آلھتھم الزائفة وأدیانھم الباطلة وقوانینھم العفنة..‏ أصل<br />

عظیم،‏ وركن وثیق في دعوة الأنبیاء والمرسلین..‏ وھو كما عرفت شرع<br />

محكم یرتكز على أصل دین الإسلام وقاعدتھ..‏ فلو اجتمع أھل الأرض<br />

جمیعاً‏ لأجل رده وإبطالھ لما استطاعوا إلى ذلك سبیلا..‏ والمخالفون فیھ لا<br />

یستدلون كما رأیت إلا بأمثال ھذه القضایا العینیة الخاصة التي لا عموم لھا<br />

عند جماھیر الأصولیین والنظار،‏ بل ھي نفسھا مطروحة على التقیید<br />

والتخصیص..‏ وإذا تقرر أن ھذه الطریق أصل عظیم محكم...‏ فقد أمست<br />

ھذه الأدلة الجزئیة وغیرھا مما یتوھمھ المخالفون معارضاً...‏ متشابھاً‏ یجب<br />

رده إلى المحكم،‏ لا أن یضرب كتاب الله بعضھ ببعض ولا سنة المصطفى<br />

كذلك..‏ فتنبّھ ولا تغتر بشبھ الملبسین..‏<br />

(51)<br />

منبر التوحید والجھاد


<strong>ملة</strong> إبراھیم<br />

‏"وھكذا فلا بد أن یقف أصحاب الدعوة من قومھم موقف المفاصلة<br />

الكا<strong>ملة</strong>..‏ ویوم تتم ھذه المفاصلة یتحقق وعد الله بالنصر لأولیائھ والتدمیر<br />

على أعدائھ..‏ ففي تاریخ الدعوة إلى الله على مدار التاریخ،‏ لم یفصل الله<br />

بین أولیائھ وأعدائھ إلا بعد أن فاصل أولیاؤه أعداءه على أساس العقیدة،‏<br />

فاختاروا الله وحده..‏ وأصحاب الدعوة إلى الله لھم أسوة حسنة في رسل<br />

الله...‏ وإنھ لینبغي لھم أن تمتلىء قلوبھم بالثقة حتى تفیض..‏ وإن لھم أن<br />

یتوكلوا على الله وحده في وجھ الطاغوت أیاً‏ كان..‏ ولن یضرھم الطاغوت<br />

إلا أذى..‏ ابتلاء من الله لا عجزاً‏ منھ سبحانھ عن نصرة أولیائھ،‏ ولا تركاً‏<br />

لھم لیسلمھم إلى أعدائھ،‏ ولكنھ الابتلاء الذي یمحص القلوب والصفوف..‏ ثم<br />

تعود الكرّ‏ ة للمؤمنین..‏ ویحق وعد الله لھم بالنصر والتمكین..."‏ اھ.‏ من<br />

الظلال بتصرف.‏<br />

* ولتعلم أخیراً‏ أن الناس مع ھذا الحق أقسام:‏<br />

* رجل ثابت صادع ب<strong>ملة</strong> إبراھیم وبدین جمیع المرسلین على النحو<br />

الذي تقدم لا یخاف في الله لومة لائم،‏ فھذا من الطائفة الظاھرة المنصورة<br />

وھو الداعي إلى الحق الذي یخالط الناس ویصبر على أذاھم،‏ وھو الذي<br />

یفوز بكرامة الدارین،‏ والذي یقول تعالى فیھ:‏ ‏{ومن أحسن قولاً‏ ممّن دعا<br />

إلى الله وعمل صالحاً‏ وقال إنني من المسلمین}‏ ‏[فصّلت:‏<br />

المعنيّ‏ بحدیث:‏ ‏(المؤمن الذي یخالط الناس ویصبر على أذاھم خیر...)؟<br />

33]، وھو<br />

وإنما حصل لھ الأذى لأنھ جاء بمثل ما جاء بھ المرسلون..‏ لا یداھن<br />

أھل الباطل ولا یركن إلیھم أو یرضى بباطلھم بل یتبرأ منھم ویظھر العداوة<br />

لھم ویھجر كل ما یعینھم على باطلھم من منصب ووظیفة أو عمل أو<br />

طریق،‏ ومن كانت ھذه حالھ لا یأثم بإقامتھ في مجتمعاتھم ودیارھم ولا<br />

تجب علیھ الھجرة من أي بلد كان.‏ یقول الشیخ حمد بن عتیق في الدرر<br />

السنیة عند كلامھ على قولھ تعالى:‏ ‏{قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراھیم<br />

والذین معھ…}‏ ‏[الممتحنة:‏ 4] الآیة،‏ ومعنى قولھ:‏ ‏{بدا}‏ أي ظھر وبان<br />

والمراد التصریح باستمرار العداوة والبغضاء لمن یوحد ربّھ،‏ فمن حقق<br />

ذلك علماً‏ وعملاً‏ وصرح بھ حتى یعلمھ منھ أھل بلده لم تجب علیھ الھجرة<br />

من أي بلد كان،‏ وأما من لم یكن كذلك بل ظن أنھ إذا تُرك یصلي ویصوم<br />

ویحج سقطت عنھ الھجرة،‏ فھذا من الجھل بالدین وغفول عن زبدة رسالة<br />

المرسلین…)‏ اھ.‏ ص‎199‎ من جزء الجھاد وھذا القسم من الناس إذا<br />

صدع بالحق وھُدّد بالقتل والتعذیب ولیس ثَمّ‏ بلد یھاجر إلیھا فلھ أسوة حسنة<br />

في أھل الكھف الذین شحّوا بدینھم وفرّ‏ وا بھ إلى الجبال..‏ وأسوة أخرى<br />

بأصحاب الأخدود الذین حرقوا في سبیل عقیدتھم وتوحیدھم وما وھنوا وما<br />

استكانوا..‏ وأسوة بأصحاب النبي الذین ھاجروا وجاھدوا وقاتلوا وقتلوا<br />

وكفى بربك ھادیاً‏ ونصیراً.‏<br />

ولولاھم كادت تمید بأھلھا<br />

ولكن رواسیھا وأوتادھا ھم<br />

(52)<br />

منبر التوحید والجھاد


<strong>ملة</strong> إبراھیم<br />

ولولاھم كانت ظلاماً‏ بأھلھا<br />

ولكن ھم فیھا بدورٌ‏ وأنجم<br />

* أو رجل أقل منزلة من الأول لا یقدر على ھذه الطریق المحفوفة<br />

بالمكاره،‏ ویخاف على دینھ ولا یطیق الصدع بذلك..‏ فھو یعتزل بغنیمات لھ<br />

یتبع بھن مواقع القطر وشعب الجبال یعبد الله ویفر بدینھ من الفتن..‏<br />

* أو رجل مستضعف مغلق علیھ بیتھ مقبل على خاصة أمره یسعى<br />

في نجاتھم ووقایتھم من الشرك وأھلھ ومن نار وقودھا الناس والحجارة..‏<br />

یتجنب الكفار ویعرض عنھم،‏ ولا یظھر الرضى عن باطلھم ولا یؤیده بأي<br />

صورة من الصور..‏ ولا بد لھذا من أجل سلامة توحیده.‏ أن یبقى قلبھ<br />

مطمئناً‏ بالعداوة والبغضاء للشرك والمشركین ینتظر زوال المانع..‏ ویتحین<br />

الفرص للفرار بدینھ والھجرة إلى بلد أھون شراً..‏ یظھر بھا دینھ،‏ كھجرة<br />

المھاجرین إلى الحبشة.‏<br />

* أو آخر مظھر للرضى عن أھل الباطل مداھن لإفكھم وضلالھم<br />

فھذا لھ ثلاث حالات ذكرھا الشیخ ابن عتیق في سبیل النجاة والفكاك<br />

ص‎62‎ فقال:‏<br />

‏"الحالة الأولى:‏ أن یوافقھم في الظاھر والباطن فھذا كافر خارج من<br />

الإسلام.‏ سواء أكان مكرھاً‏ أم غیر مكره،‏ فھو ممن قال الله فیھ:‏ ولكن من<br />

شرح بالكفر صدراً‏ فعلیھم غضب من الله ولھم عذاب عظیم<br />

}<br />

{ ‏[النحل:‏<br />

.[ 106<br />

الحالة الثانیة:‏ أن یوافقھم ویمیل إلیھم في الباطن،‏ مع مخالفتھم في<br />

الظاھر،‏ فھذا ً كافر أیضاً،‏ وھم المنافقون.‏<br />

الحالة الثالثة أن یوافقھم في الظاھر مع مخالفتھ لھم في الباطن وھو<br />

على وجھین:‏ أحدھما:‏ أن یفعل ذلك لكونھ في سلطانھم مع ضربھم وتقییدھم<br />

لھ وتھدیده بالقتل،‏ فإنھ والحالة ھذه یجوز لھ موافقتھم في الظاھر مع كون<br />

قلبھ مطمئناً‏ بالإیمان كما جرى لعمّار قال تعالى:‏ ‏{إلا من أُكره وقلبھ<br />

مطمئنٌ‏ بالإیمان}‏ ‏[النحل:‏<br />

."[106<br />

قلت:‏ وینبغي لمثل ھذا كما قدمنا أن یسعى دوماً‏ مثل المستضعفین من<br />

أصحاب النبي صلى الله علیھ وسلم للفرار بدینھ ویدعو دوماً:‏ ‏{ربنا أخرجنا<br />

من ھذه القریة الظالم أھلھا واجعل لنا من لدنك ولیاً‏ واجعل لنا من لدنك<br />

نصیراً}‏ ‏[النساء:‏<br />

.[75<br />

ثم قال:‏ ‏(الوجھ الثاني:‏ أن یوافقھم في الظاھر مع مخالفتھ لھم في<br />

الباطن،‏ وھو لیس في سلطانھم،‏ وإنما حملھ على ذلك إما طمع في رئاسة أو<br />

مال أو مشحة بوطن أو عیال أو خوف مما یحدث في المال فإنھ في ھذه<br />

ال حالة یكون مرتداً‏ ولا ینفعھ كراھتھ لھم في الباطن وھو ممن قال الله فیھم:‏<br />

‏{ذلك بأنھم استحبوا الحیاة الدنیا على الآخرة وإن الله لا یھدي القوم<br />

(53)<br />

منبر التوحید والجھاد


<strong>ملة</strong> إبراھیم<br />

-<br />

-<br />

الكافرین}‏ ‏[النحل:‏ 107]، فأخبر أنھ لم یحملھم على الكفر الجھل أو بغضھ،‏<br />

ولا محبة الباطل،‏ وإنما ھو أن لھم حظاً‏ من حظوظ الدنیا آثروه على الدین..‏<br />

قال:‏ وھذا معنى كلام شیخ الإسلام محمد بن عبد الوھاب رحمھ الله تعالى).‏<br />

* قلت:‏ معنى كلام الشیخ محمد بن عبد الوھاب الذي أشار إلیھ ابن<br />

عتیق موجود في مواضع كثیرة من كتبھ ورسائلھ،‏ من ذلك على سبیل<br />

المثال قولھ ص‎42‎ في مجموعة الرسائل النجدیة:‏ ‏(اعلم أن الأدلة على<br />

تكفیر المسلم الصالح إذا أشرك با‏ أو صار مع المشركین على الموحدین<br />

ولم یشرك،‏ أكثر من أن تحصى من كلام الله وكلام رسولھ وكلام العلماء.‏<br />

وأنا أذكر لك آیة من كلام الله أجمع أھل العلم على تفسیرھا وأنھا في<br />

المسلمین وأن الرجل إذا قال ذلك فھو كافر في أي زمان كان،‏ قال الله<br />

تعالى:‏ ‏{من كفر با‏ من بعد إیمانھ إلا من أكره وقلبھ مطمئن بالإیمان}‏<br />

‏[النحل:‏ 106] الآیة،‏ وفیھا ذكر أنھم استحبوا الحیاة الدنیا على الآخرة،‏ فإذا<br />

كان العلماء ذكروا أنھا نزلت في الصحابة لما فتنھم أھل مكة وذكروا أن<br />

الصحابي إذا تكلم بكلام الشرك بلسانھ مع بغضھ لذلك وعداوة أھلھ لكن<br />

خوفاً‏ منھم فھو كافر بعد إیمانھ).‏<br />

وھو مطابق لكلام الشیخ ابن عتیق السابق وكلام الشیخ سلیمان الآتي<br />

بعده..‏ وھو كلام خطیر،‏ أعلم علم الیقین بأنھ لو كان من كلامنا ولیس من<br />

كلام ھؤلاء الأئمة الأعلام لقیل:‏ خوارج وتكفیر..‏ مع أن الآیة نص واضح<br />

علیھ..‏ وھذه القضیة تختلف عن قضیة الإكراه على كلمة الكفر التي یُعذر<br />

صاحبھا،‏ فنحن ھاھنا مع أناس لم یُكرھوا ولم یُضربوا ولم یُعذبوا وإنما<br />

حملھم على إظھار الموافقة والولاء للمشركین،‏ حب الدنیا والخوف علیھا<br />

والطمع بالمال والمشحة بالمسكن ‏(والأرض والقرض كما یقولون)‏ فھو<br />

استحباب للحیاة الدنیا على الآخرة واشتراء لمتاعھا الزائل ببذل الدین<br />

والتوحید والعقیدة..‏ ربما تستروا مع ذلك بالإكراه وادعوا الضرورات<br />

ولیسوا في الحقیقة من أھلھا،‏ لذا قال تعالى في سورة آل عمران بعدما نھى<br />

عن موالاة أعدائھ وأباح التقیة للمكره الحقیقي،‏ قال محذّراً:‏ ‏{ویُحذّركم الله<br />

نفسھ وإلى الله المصیر * قل إن تخفوا ما صدوركم أو تبدوه یعلمھ الله...}‏<br />

‏[آل عمران:‏ 29-28]، وقال في الآیة التي تلتھا مباشرة:‏ ‏{یوم تجد كل<br />

نفس ما عملت من خیر محضراً‏ وما عملت من سوء تود لو أن بینھا<br />

وبینھ أمداً‏ بعیداً‏ ویُحذركم الله نفسھ..}‏ ‏[آل عمران:‏ 30]، وھذا من أعظم<br />

الوعید والتھدید لمن تدبّر كتاب الله وعقلھ..‏ ولكن من یُرد الله فتنتھ فلن تملك<br />

لھ من الله شیئاً..‏ ذلك أن كثیراً‏ ممن لاخلاق لھم یتعذّرون بالإكراه ولیسوا<br />

من أھلھ..‏ وقد ذكر العلماء شروطاً‏ لصحة الإكراه منھا:‏<br />

أن یكون المكره ‏(بكسر الراء)‏ قادراً‏ على إیقاع ما یُھدد بھ،‏<br />

والمأمور المكرهَ‏ عاجزاً‏ عن الدفع ولو بالفرار..‏<br />

أن یغلب على ظنّھ أنھ إذا امتنع أوقع بھ ذلك.‏<br />

(54)<br />

منبر التوحید والجھاد


<strong>ملة</strong> إبراھیم<br />

{<br />

}<br />

-<br />

-<br />

أن یكون ما ھُدّد بھ فوریاً،‏ فلو قال:‏ إن لم تفعل كذا ضربتك غداً،‏ لا<br />

یعد مكرھاً.‏<br />

أن لا یظھر من المأم ور ما یدل على تمادیھ بأن یعمل زیادة على ما<br />

یمكن أن یزول بھ عنھ البلاء.‏<br />

* كما فرّ‏ قوا فیما یُھدّد بھ المكره ویُخوّ‏ ف بین الإكراه على المعاصي،‏<br />

وبین الإكراه على قول كلمة الكفر أو موالاة الكفار وأمثالھ،‏ فلم یُجوّ‏ زوا<br />

الثاني إلا لمن عُذّب عذاباً‏ لا طاقة لھ بھ،‏ وذكروا القتل والتحریق بالنار<br />

وقطع الأعضاء والتخلید في السجن وأمثال ذلك،‏ وعمار رضي الله عنھ ھو<br />

الذي نزلت بسببھ آیات التقیة،‏ ومعروف أنھ لم یقل ما قال إلا بعدما رأى<br />

مقتل أمھ وأبیھ،‏ وبعدما ذاق من العذاب ألواناً،‏ فكسرت ضلوعھ وأوذي في<br />

الله أذىً‏ شدیداً..‏ وأكثر ھؤلاء المتعذّرین بالتقیة ممن أوضعوا في الفتنة<br />

وغرقوا في الباطل والشرك لم ینلھم عشر معشار ما نالھ..‏ ولكن كما قلنا<br />

سابقاً؛ من یُرد الله فتنتھ فلن تملك لھ من الله شیئاً..‏<br />

أضف إلى ھذا أن أھل العلم یذكرون مع ذلك في أبواب الإكراه على<br />

كلمة الكفر؛ أن الأخذ بالعزیمة والصبر على الأذى واحتساب الأجر عند<br />

الله تعالى أعظم وأفضل،‏ وھذه مواقف الصحابة وتابعیھم والأئمة شاھدة<br />

بذلك فبأمثال ھذه المواقف یكون إظھار الدین وإعزازه،‏ وانظر صحیح<br />

البخاري باب ‏(من اختار الضرب والقتل والھوان على الكفر)‏ والشواھد في<br />

ذلك كثیرة وكذا مواقف الأئمة أ كثر من أن تحصى كموقف الإمام أحمد في<br />

فتنة خلق القرآن وغیرھا كثیر...‏<br />

ویذكرون قولھ تعالى:‏ ومن الناس من یقول آمنا با‏ فإذا أوذي في<br />

الله جعل فتنة الناس كعذاب الله ‏[العنكبوت:‏<br />

.[10<br />

كما یذكرون أن التخییر ینافي الإكراه وذلك كحال شعیب علیھ السلام<br />

مع قومھ إذ خیّروه بین العودة إلى الكفر أو الخروج من قریتھم،‏ ولم<br />

یجوّ‏ زوا لذلك الاستجابة وإظھار الكفر في ھذه الحالة.‏ وإنما سردنا ھذا كلھ<br />

لیعلم من وھبھ الله نعمة العقل والتوحید غربة ھذا الدین في زماننا وغربة<br />

دعاتھ وأھلھ الذین یعرفونھ حق المعرفة...‏ وأن أكثر الناس الیوم قد دخلوا<br />

في دین الحكومات ودین الطواغیت مختارین بلا إكراه حقیقي،‏ وإنما<br />

استحباباً‏ للحیاة الدنیا ومساكنھا وأموالھا ومتاعھا ومناصبھا على دین الله،‏<br />

وبذلوه وباعوه بأبخس الأثمان،‏ فإیاك أن تكون منھم فتصبح من النادمین..‏<br />

* وبھذا وأمثالھ یزول ما قد یستغربھ ویستھجنھ كثیر من الناس من<br />

قول الشیخ ابن عتیق ھذا فیمن وافق المشركین في الظاھر مع مخالفتھ لھم<br />

في الباطن وھو لیس في سلطانھم وإنما حملھ على ذلك ما ذكر من الدنیا<br />

ولیس الإكراه..‏ وقولھ:‏ ‏"مع مخالفتھ لھم في الباطن"‏ یقصد بھ والله أعلم:‏<br />

‏(بحسب زعمھ)‏ وإلا فكیف نعلم ونطلع على حقیقة باطنھ في حالھ تلك،‏ إلا<br />

عن طریق الوحي كما في قصة حاطب بن أبي بلتعة..‏ والله عز وجل لم<br />

(55)<br />

منبر التوحید والجھاد


<strong>ملة</strong> إبراھیم<br />

)<br />

یكلفنا بالبواطن بل نحكم بالظاھر..‏ فكما أننا نكف سیوفنا عمّن أبطن النفاق<br />

وأبدى موالاة الإسلام وأظھر شعائره،‏ فكذلك نُعملھا في ھامِ‏ من أظھر<br />

موالاة الكفار وشایعھم وانحاز لھم،‏ وإن زعم أنھ یبطن الإسلام..‏ فا‏ عز<br />

وجل تعبّدنا في أحكام الدنیا بالظواھر وھو وحده سبحانھ الذي یتولى<br />

السرائر ویعلم الصادق من الكاذب،‏ فیحاسب الناس على أعمالھم ویبعثھم<br />

على نیاتھم كما في حدیث أم المؤمنین المتفق علیھ في الجیش الذي یُخسف<br />

بھ وفیھ المستبصر والمجبور،‏ فیھلكھم الله جمیعاً‏ في الدنیا ویبعثھم على<br />

نیاتھم یوم القیامة...‏ وھذا معنى قول عمر بن الخطاب رضي الله عنھ كما<br />

في صحیح البخاري:‏ إن أناساً‏ كانوا یؤخذون بالوحي في عھد رسول الله<br />

صلى الله علیھ وسلم فمن أظھر لنا خیراً‏ أمّنّاه وقربناه ولیس إلینا من<br />

سریرتھ شيء الله یحاسب سریرتھ.‏ ومن أظھر لنا سوءاً‏ لم نأمنْھ ولم نُصدّقھ<br />

وإن قال إن سریرتھ حسنة).‏<br />

وھكذا كان أمر النبي صلى الله علیھ وسلم في تعاملاتھ مع الناس في<br />

الحروب وغیرھا،‏ فھا ھو العباس بن عبد المطلب وقد كان یدّعي الإسلام<br />

وینتسب إلیھ،‏ انظر على سبیل المثال (88 و‎89‎ و‎6/91‎‏)‏ من مجمع<br />

الزوائد،‏ و(ص‎4/246-242‎‏)‏ من مشكل الآثار وغیره..‏ ولكنھ بقي في مكة<br />

وھي دار كفر آنذاك ولم یھاجر إلى دار الإسلام وخرج مع المشركین یوم<br />

بدر،‏ فأسره المسلمون وعاملوه على ظاھره لا بما زعمھ وادعاه من إبطان<br />

الإسلام،‏ لأنھ خرج في صفوف المشركین یكثر سوادھم،‏ وروي أنھ زعم<br />

أنھ كان مكرھاً‏ في الخروج معھم كما في بعض الآثار المشار إلیھا آنفاً،‏<br />

وفي بعضھا أن النبي صلى الله علیھ وسلم قال لھ عندما رآه یتعذّر بالإكراه<br />

ویدعي الإسلام:‏ ‏(الله أعلم بشأنك إن یك ما تدعي حقاً‏ فا‏ یجزیك بذلك،‏<br />

فأما ظاھر أمرك فقد كان علینا فافد نفسك..)‏ رواه الإمام أحمد ورجالھ<br />

ثقات،‏ إلا أن فیھ راوٍ‏ لم یُسم،‏ وعلى كل حال یكفینا في ھذا ما ھو ثابت في<br />

صحیح البخاري وغیره،‏ من أن النبي صلى الله علیھ وسلم عاملھ بظاھر<br />

أمره ولم یطلقھ إلا بعدما فدى نفسھ كبقیة الأسرى المشركین..‏ ولعل من ھذا<br />

الباب أیضاً‏ ما جاء في صحیح مسلم من حدیث عمران بن حصین في قصة<br />

الرجل من بني عقیل الذي كان من حلفاء ثقیف أسر ولم یطلقھ النبي رغم<br />

ادعائھ الإسلام،‏ انظره في مختصر المنذري تحت رقم (1008)..<br />

ε<br />

فعلم من ھذا كلھ أننا مكلفون في معاملاتنا وأحكامنا في الدنیا بالظاھر<br />

دون الباطن،‏ وھذا من فضل الله عز وجل علینا وإلا لأمسى الإسلام وأھلھ<br />

ألعوبة وأضحوكة لكل جاسوس وخبیث وزندیق.‏ ومن ھذا الباب قصة<br />

حاطب وما كان من صنیعھ عام الفتح..‏ فالأصل أن یُحكم على ظاھر من<br />

عمل مثل عملھ بالكفر وأن یجري المسلمون علیھ ما یستوجب ظاھره من<br />

الأحكام في الدنیا كالقتل والأسر،‏ ومن طالع حال المرتدین وأقسامھم<br />

وبعض حججھم وتأویلاتھم،‏ وحجج من خُدع منھم بشھود الرجال على نبوة<br />

مسیلمة وقصة ثمامة والیشكري وما إلى ذلك..‏ وكیف أن الصدیق عاملھم<br />

جمیعاً‏ بالظاھر.‏ فأعمل فیھم القتل والأسر..‏ وأن ھذا كان من أعظم فضائلھ<br />

ومناقبھ وحسناتھ؛ عرف صحة ما نقصده ونرمي إلیھ،‏ ویراجع في ذلك<br />

(56)<br />

منبر التوحید والجھاد


<strong>ملة</strong> إبراھیم<br />

كلام الشیخ محمد بن عبد الوھاب رحمھ الله تعالى فھو كثیر في ھذا الباب..‏<br />

انظر على سبیل المثال المواضیع الستة التي ذكرھا في مقدمة السیرة<br />

وغیرھا كثیر..‏ وھذا ھو تماماً‏ ما فھمھ عمر رضي الله عنھ في قصة<br />

حاطب وصرّ‏ ح بھ في حضرة النبي صلى الله علیھ وسلم،‏ ومعلوم أن النبي<br />

صلى الله علیھ وسلم لم ینكر على عمر ھذا الفھم،‏ ولا قال لھ صلى الله علیھ<br />

وسلم في ذلك المقام:‏ ‏(إذا قال الرجل لأخیھ یا كافر فقد باء بھ أحدھما)،‏ بل<br />

أقر حكمھ ولم ینكره فیمن لیس لھ مانع كمانع حاطب،‏ وزكى لنا باطن<br />

حاطب بقولھ:‏ ‏(وما یدریك لعل الله قد اطّلع على أھل بدر..)‏ إلخ،‏ وقد قال<br />

حاطب رضي الله عنھ كما جاء في البخاري وغیره:‏ ‏(ما فعلت ذلك كفراً‏<br />

ولا ارتداداً‏ ولا رضى بالكفر بعد الإسلام)‏ فقال صلى الله علیھ وسلم مزكیاً‏<br />

لھ:‏ ‏(قد صدقكم)..‏ والمبادرة إلى ھذا القول منھ رضي الله عنھ من أظھر<br />

الأدلة على أن الصحابة قد كان مستقراً‏ في نفوسھم أن الأصل في ظاھر<br />

ھذا العمل أن یكون ردّة وكفراً..‏ وفي روایة أبي یعلى وأحمد قال:‏ ‏(أما إني<br />

لم أفعلھ غشاً‏ لرسول الله صلى الله علیھ وسلم ولا نفاقاً،‏ قد علمت أن الله<br />

مظھر رسولھ ومتم لھ نوره)‏ وفي روایة أخرى لھما أیضاً:‏ ‏(أما والله یا<br />

رسول الله ما تغیّر الإیمان من قلبي..)‏ انظر مجمع الزوائد (9/306) وتأمل<br />

قول النبي صلى الله علیھ وسلم في روایة البخاري:‏ ‏(قد صدقكم)‏ فھذا<br />

الصحابي البدري قد استثناه النبي صلى الله علیھ وسلم وزكّاه وشھد بصدق<br />

سریرتھ وباطنھ وأنھ لم یفعل ذلك ردة وكفراً‏ بل كانت منھ كبیرة من كبائر<br />

الذنوب اغتفرت في مقابل كونھ بدریاً..‏ فھل في المھوّ‏ نین من شأن موالاة<br />

الكفار المتنطعین بقصة حاطب ھل فیھم الیوم على وجھ الأرض بدریاً‏ اطلع<br />

الله على قلبھ،‏ لیجعلوا ھذا الفعل كبیرة على الإطلاق ویتھاونوا فیھ<br />

ویتساقطوا تساقطاً..؟؟<br />

ولا نسأل ھذا السؤال إلا بعد أن نعلم صدق سرائرھم وأنھم ما فعلوه<br />

ردةً‏ ولا كفراً..‏ ودون ذلك خرط القتاد..‏ فمن أین لنا أن نعلم بعد انقطاع<br />

الوحي صدق سرائرھم وبواطنھم ومن یزكیھم ویشھد لنا بعد رسول الله<br />

صلى الله علیھ وسلم بذلك.‏ فھذا مانع من موانع الكفر الباطنة غیر الظاھرة،‏<br />

ولا نكلف بھ بعد انقطاع الوحي،‏ لأجل ذلك كان الأصل فیمن أظھر الركون<br />

إلى الكفار وموافقتھم وموالاتھم أن نحكم علیھ بظاھره كما تقدم والله یتولى<br />

السرائر إن كان على غیر ذلك،‏ ویُبعث على نیتھ إن قتلھ المسلمون في<br />

صفوف الكفار،‏ وإن أسر تجري علیھ أحكام الكفار كما تقدم،‏ والمسلمون<br />

معذورون في قتل من أظھر مثل ھذا وإن ادعى وزعم أنھ یبطن الإسلام<br />

وموالاة أھلھ،‏ وانظر في ھذا كلام شیخ الإسلام ابن تیمیة رحمھ الله تعالى<br />

حول الجیش الذي یغزو الكعبة فیخسف بھ،‏ وقصة أسر العباس یوم بدر<br />

وادعائھ الإسلام..‏ في مجموع الفتاوى (28/537) وكذا كلام تلمیذه العلامة<br />

ابن القیم في الزاد (3/422 ( وغیرھما من العلماء المحققین..‏ وتأمل كذلك<br />

سبب نزول قولھ تعالى:‏ ‏{إن الذین توفاھم الملائكة ظالمي أنفسھم<br />

97] ارجع إلیھ في صحیح البخاري وغیره فإنھ مفید في ھذا الباب<br />

أیضاً..‏ انشط وتأمل ذلك كلھ وانفض غبار النوم عن عینیك ولا تكن مع<br />

الكسالى المقلدین..‏<br />

{<br />

‏[النساء:‏<br />

(57)<br />

منبر التوحید والجھاد


<strong>ملة</strong> إبراھیم<br />

* وأخیراً‏ فقد ذكر الحافظ في الفتح (7/521) عن بعض أھل<br />

المغازي قال وھو في ‏(تفسیر یحیى بن سلام)‏ أن لفظ كتاب حاطب كان:‏<br />

‏(أما بعد یا معشر قریش،‏ فإن رسول الله قد جاءكم بجیش كاللیل یسیر<br />

كالسیل،‏ فوالله لو جاءكم وحده لنصره الله وأنجز لھ وعده،‏ فانظروا لأنفسكم<br />

والسلام)‏ وكذا حكاه السھیلي.‏<br />

ε<br />

قلت:‏ فلو تأمل العاقل كتاب حاطب ھذا وما فیھ من ثقتھ بنصر الله<br />

لنبیھ صلى الله علیھ وسلم وتعظیمھ من شأنھ،‏ ومع ذلك فقد أنزل الله تعالى<br />

بسبب فعلتھ ھذه آیات عظیمات تقشعر منھا جلود الذین آمنوا فقال:‏ ‏{یا أیھا<br />

الذین آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولیاء تلقون إلیھم بالمودة وقد<br />

كفروا بما جاءكم من الحق یخرجون الرسول وإیاكم أن تؤمنوا با‏ ربكم<br />

إن كنتم خرجتم جھاداً‏ في سبیلي وابتغاء مرضاتي تسرون إلیھم بالمودة<br />

وأنا أعلم بما أخفیتم وما أعلنتم ومن یفعلھ منكم فقد ضلّ‏ سواء السبیل}‏<br />

‏[الممتحنة:‏ 1]، فلو تأملت ھذا ھداك الله،‏ وكیف شدّد الله تعالى فیھ وجعلھ<br />

من موالاة ومودة أعدائھ..‏ ثم نظرت في أحوال كثیر من المنتسبین للدعوة<br />

والإسلام في ھذا الزمان،‏ وما یقع منھم من مباركة ومداھنة بل ومناصرة<br />

ومؤازرة عبید القانون وأذناب الفرنجة وأعداء الشریعة والتوحید،‏ وما<br />

یظھروه من موالاة دساتیرھم وحكوماتھم والقسم على احترام قوانینھم؛<br />

لعرفت غربة الدین الحقیقة،‏ وغربة أھلھ العارفین لھ حق المعرفة وندرتھم<br />

فإیاك والتفریط بالدین،‏ إیاك..‏ إیاك.‏<br />

قال الشیخ حمد بن عتیق:‏ ‏(وأمّا ما یعتقده كثیر من الناس عذراً،‏ فإنھ<br />

من تزیین الشیطان وتسویلھ وذلك أن بعضھم إذا خوّ‏ فھ أولیاء الشیطان<br />

خوفاً‏ لا حقیقة لھ ظنّ‏ أنھ یجوز لھ إظھار الموافقة للمشركین والانقیاد لھم..‏<br />

إلخ).‏ ثم ذكر كلاماً‏ لشیخ الإسلام ابن تیمیة في صفة الإكراه على كلمة<br />

الكفر وأنھ لا یكون إلا بالضرب والتعذیب والقتل لا بمجرد الكلام ولا<br />

بالتخویف بالحیلولة دونھ ودون زوجتھ أو مالھ أو أھلھ...‏ ثم قال رحمھ الله<br />

تعالى:‏ ‏(فإذا علمت ذلك وعرفت ما وقع من كثیر من الناس تبین لك قول<br />

النبي صلى الله علیھ وسلم:‏ ‏(بدأ الإسلام غریباً‏ وسیعود غریباً‏ كما بدأ)‏ وقد<br />

عاد غریباً،‏ وأغرب منھ من یعرفھ على الحقیقة،‏ وبا‏ التوفیق)‏ اھ من<br />

‏"سبیل النجاة"‏ الموضع نفسھ.‏<br />

* ویقول الشیخ سلیمان بن عبد الله بن الشیخ محمد بن عبد الوھاب<br />

‏(صاحب كتاب تیسیر العزیز الحمید)‏ في مقدمة رسالة ‏(حكم موالاة أھل<br />

الإشراك):‏ ‏(اعلم رحمك الله أن الإنسان إذا أظھر للمشركین الموافقة على<br />

دینھم خوفاً‏ منھم،‏ ومداراة لھم،‏ ومداھنة لدفع شرھم،‏ فإنھ كافر مثلھم وإن<br />

كان یكره دینھم ویبغضھم ویحب الإسلام والمسلمین...).‏<br />

ثم ذكر ما ھو أشد من ذلك من مناصرة المشركین بالمال وموالاتھم<br />

وقطع موالاة المسلمین..‏ إلى أن قال:‏ ‏(ولا یُستثنى من ذلك إلا المكره وھو<br />

الذي یستولي علیھ المشركون،‏ فیقولون لھ:‏ اكفر،‏ أو افعل كذا،‏ وإلا فعلنا<br />

(58)<br />

منبر التوحید والجھاد


<strong>ملة</strong> إبراھیم<br />

بك وقتلناك،‏ أو یأخذونھ فیعذبونھ حتى یوافقھم،‏ فیجوز لھ الموافقة باللسان<br />

مع طمأنینة القلب بالإیمان.‏ وقد أجمع العلماء على أن من تكلم بالكفر<br />

ھازلاً،‏ أنھ یكفر،‏ فكیف بمن أظھر الكفر خوفاً‏ وطمعاً‏ في الدنیا؟!)‏ اھ.‏ ثم<br />

أخذ بسرد أكثر من عشرین دلیلاً‏ على ذلك..‏ ولذلك اشتھر كتابھ باسم<br />

‏(الدلائل)…‏ فلیتأمل ذلك كلھ المنتسبون إلى الدعوة ممن یظھرون موالاة<br />

عبید الیاسق وموافقتھم وینافحون عنھم وعن قوانینھم وحكوماتھم<br />

وجیوشھم..‏ ولیتدبروه..‏ فإنھ یھمھم جداً،‏ خصوصاً،‏ إذا علموا أنھ كلھ<br />

مُنصبٌ‏ على عساكر الدولة المصریة حینما دخلوا نجداً‏ في عھد الشیخ حمد<br />

بن عتیق والشیخ سلیمان رحمھما الله،‏ حیث صنفا كتاب ‏(سبیل النجاة<br />

والفكاك)‏ وكتاب ‏(الدلائل)‏ في ذلك الوقت لتحذیر الناس من موالاة أولئك<br />

العساكر الذین كانوا یتشبثون بكثیر من البدع والخرافات وشركیات القبور،‏<br />

انظر ص‎309‎ وغیرھا من جزء الجھاد من كتاب الدرر السنیة..‏ ومن<br />

المعلوم عن علماء نجد المشاھیر من أولاد الشیخ محمد بن عبد الوھاب<br />

وأتباعھ في ذلك الزمان أنھم كانوا یكفرون الدولة المصریة وعساكرھا<br />

التابعین للدولة التركیة كما ھو مشھور في كثیر من رسائلھم،‏ بل یكفرون<br />

كل من والاھم أو دخل في طاعتھم ورضي عنھم واتخذھم ولیجة من دون<br />

المؤمنین..‏ والسؤال الذي یطرح نفسھ بإلحاح الآن:‏ إذا كان ھذا حكم أولئك<br />

الأئمة الأعلام في العساكر التابعین للدولة التي یتباكى علیھا وعلى أیامھا<br />

أكثر مسلمي ھذا الزمان..‏ وإذا كانت ھذه مصنفاتھم فیمن والاھا وأحبھا أو<br />

أحب ظھورھا..‏ فماذا تراه یكون قولھم في عبید الیاسق العصري؟؟<br />

وبماذا كانوا سیحكمون على من أظھر الولاء لھم ولجیوشھم<br />

وشرطتھم خوفاً‏ من الحرمان من المساكن والقسائم أو الوظائف أو غیر ذلك<br />

من قشور الدنیا ومتاعھا؟؟ وبماذا كانوا سیحكمون على من أقسم على<br />

الإخلاص لھم أو على احترام قوانینھم..‏ لو أنھم أدركوا ھذا الزمان؟؟؟<br />

‏"فالحذر الحذر أیھا العاقلون والتوبة التوبة أیھا الغافلون فإن الفتنة<br />

حصلت في أصل الدین لا في فروعھ،‏ ولا في الدنیا،‏ فیجب أن تكون<br />

العشیرة والأزواج والأموال والتجارة والمساكن وقایة للدین وفداءً‏ عنھ،‏ ولا<br />

یُجعل الدین فداءً‏ عنھا ووقایة لھا قال تعالى:‏ ‏{قل إن كان آباؤكُم وأبناؤُكم<br />

وإخوانكم وأزواجكم وعشیرتكم وأموال اقترفتموھا وتجارة تخشون<br />

كسادھا ومساكن ترضونھا أحب إلیكم من الله ورسولھ وجھاد في سبیلھ<br />

فتربصوا حتى یأتي الله بأمره والله لا یھدي القوم الفاسقین}‏ ‏[التوبة:‏<br />

فتفطن لھا وتأملھا فإن الله أوجب أن یكون الله ورسولھ والجھاد أحب من<br />

تلك الثمانیة كلھا،‏ فضلاً‏ عن واحدة منھا أو أكثر،‏ أو شيء دونھا مما ھو<br />

أحقر،‏ فلیكن الدین عندك أغلى الأشیاء وأعلاھا..."‏ اھ.‏ من الدرر<br />

ص‎127‎ جزء الجھاد.‏<br />

،[24<br />

(59)<br />

منبر التوحید والجھاد


<strong>ملة</strong> إبراھیم<br />

فصل<br />

من أسالیب الطغاة لتمییع <strong>ملة</strong> إبراھیم وقتلھا<br />

في نفوس الدعاة<br />

وبعد..‏ فإذا كنت قد فھمت <strong>ملة</strong> إبراھیم فھماً‏ جیداً..‏ وعلمت أنھا منھج<br />

الرسل وأتباعھم..‏ وأنھا طریق النصر والفوز والسعادة في الدارین..‏ فلتعلم<br />

بعد ذلك علم الیقین أن الطغاة في كل زمان لا یرضون عنھا،‏ بل یخافون<br />

ھذه الملّة العظیمة ویخشونھا..‏ ویحرصون كل الحرص على قتلھا ونزعھا<br />

من نفوس الدّعاة بشتى الحیل والأسالیب..‏<br />

كما أخبر تعالى بذلك عنھم منذ القدیم فقال في سورة القلم وھي مكیة:‏<br />

‏{ودّوا لو تدھن فیدھنون}‏ ‏[القلم:‏ 9]. فھم یتمنّون أن یسلك الدّعاة غیره من<br />

السبل المعوجّة وینحرفوا عن دعوة الأنبیاء الصلبة المستقیمة..‏ ولا یزالون<br />

یخطّطون لأجل حرف الدعاة عن ھذا الصراط المستقیم..‏ إلى سبل فیھا<br />

سكوت عن كثیر من باطلھم،‏ تُرضي خواطرھم..‏ أو تلتقي معھم في بعض<br />

أمورھم..‏ ھكذا..‏ حتى تموت الدعوة وتتمیع قضیتھا وینحرف دعاتھا عن<br />

خطھا الواضح البیّن المستقیم فالطّغاة یعلمون أن أول التقھقر خطوة إلى<br />

الوراء..‏ ثم تعقب ھذه الخطوة،‏ خطوات وخطوات..‏ ینسى معھا الدعاة<br />

منھج الدعوة الأصیل..‏ ویحصل یقیناً‏ من ھذا الانحراف..‏ التقاء مع أھل<br />

الباطل في كثیر من باطلھم أو بعضھ..‏ وذلك غایة ما یتمنونھ ابتداء..‏ لذلك<br />

فإنھم إن یروا من ھؤلاء الدعاة تنازلاً‏ أو تقھقراً..‏ أظھروا لھم الرضى عنھم<br />

وعن دعواتھم،‏ وقربوھم وأثنوا على جھودھم وأظھروا لھم الود والحب..‏<br />

قال تعالى:‏ ‏{وإن كادوا لیفتنونك عن الذي أوحینا إلیك لتفتري علینا غیره<br />

وإذاً‏ لاتخذوك خلیلا}‏ ‏[الإسراء:‏<br />

.[73<br />

یقول سید قطب رحمھ الله تعالى عند ھذه الآیة بعد أن ذكر محاولات<br />

المشركین لمساومة الرسول صلى الله علیھ وسلم على كثیر من أمور دینھ<br />

ودعوتھ ومن ذلك:‏ ترك التندید بآلھتھم وما كان علیھ آباؤھم إلى غیر ذلك..‏<br />

یقول:‏ ‏"ھذه المحاولات التي عصم الله منھا رسولھ،‏ وھي محاولات<br />

أصحاب السلطان مع أصحاب الدعوات دائماً،‏ محاولة إغرائھم لینحرفوا<br />

ولو قلیلاً‏ عن استقامة الدعوة وصلابتھا.‏ ویرضوا بالحلول الوسط التي<br />

یغرونھم بھا في مقابل مغانم كثیر.‏ ومن ح<strong>ملة</strong> الدعوات من یفتن بھذا عن<br />

دعوتھ لأنھ یرى الأمر ھیناً.‏ فأصحاب السلطان لا یطلبون إلیھ أن یترك<br />

دعوتھ كلیة،‏ إنما ھم یطلبون تعدیلات طفیفة لیلتقي الطرفان في منتصف<br />

الطریق.‏ وقد یدخل الشیطان على حامل الدعوة من ھذه الثغرة،‏ فیتصور أن<br />

خیر الدعوة في كسب أصحاب السلطان إلیھا ولو بالتنازل عن جانب منھا!‏<br />

ولكن الانحراف الطفیف في أول الطریق ینتھي إلى الانحراف الكامل في<br />

نھایة الطریق،‏ وصاحب الدعوة الذي یقبل التسلیم في جزء منھا ولو یسیر،‏<br />

وفي إغفال طرف منھا ولو بضئیل،‏ لا یملك أن یقف عند ما سلم بھ أول<br />

(60)<br />

منبر التوحید والجھاد


<strong>ملة</strong> إبراھیم<br />

مرة..‏ لأن استعداده للتسلیم یتزاید كلما رجع خطوة إلى الوراء!‏ وأصحاب<br />

السلطان یستدرجون أصحاب الدعوات،‏ فإذا سلموا في الجزء،‏ فقدوا ھیبتھم<br />

وحصانتھم،‏ وعرف المتسلطون أن استمرار المساومة،‏ وارتفاع السعر<br />

ینتھیان لكسب أصحاب السلطان إلى صفھا،‏ ھو ھزیمة روحیة بالاعتماد<br />

على أصحاب السلطان في نصر الدعوة.‏ والله وحده ھو الذي یعتمد علیھ<br />

المؤمنون بدعوتھم..‏ ومتى دبّت الھزیمة في أعماق السریرة،‏ فلن تنقلب<br />

الھزیمة نصراً!"‏ اھ.‏<br />

نعم..‏ وإننا لنرى كثیراً‏ من دعاة الیوم قد اتخذھم الطغاة أخلاّء،‏ فھم لا<br />

یضرونھم أو یعادونھم..‏ لأن أولئك الدعاة قد أظھروا الرضى عن كثیر من<br />

باطلھم فالتقوا معھم في منتصف الطریق..‏ وجالسوھم في الندوات<br />

والحفلات والھلكات.‏<br />

ومن أمثلة ھذه الأسالیب في واقعنا المعاصر..‏ :<br />

* ما أشرنا إلیھ مما یؤسسھ كثیر من الطواغیت من برلمانات<br />

ومجالس أمة وأشباھھا..‏ لیجمعوا فیھا خصومھم من الدعاة وغیرھم<br />

فیجالسونھم فیھا ویقاعدونھم ویختلطون بھم حتى یمیعوا القضیة بینھم،‏ فلا<br />

تعود المسألة مسألة براءة منھم أو كفر بقوانینھم ودساتیرھم أو انخلاع من<br />

باطلھم كلھ..‏ بل تعاون وتآزر ومناصحة وجلوس على طاولة الحوار لأجل<br />

صالح البلاد واقتصادھا وأمنھا و...‏ و...‏ و...‏ لأجل الوطن الذي یتحكم بھ<br />

الطاغوت ویحكمھ بأھوائھ وكفریاتھ..‏ ، وھذه مزلة عایشنا أھلھا ورأینا<br />

أكثرھم ممن ینتسبون إلى منھج السلف أو یتمسحون بكلام سید قطب<br />

وأمثالھ..‏ ومع ذلك أمسوا بعد سقوطھم في ھذه المزلة یصفقون للطواغیت<br />

ویقومون لھم إجلالاً‏ واحتراماً‏ ویخاطبونھم بألقابھم بل وینادون بالولاء<br />

لحكوماتھم وجیوشھم وأمنھم..‏ ویقسمون على احترام دساتیرھم وقوانینھم..‏<br />

وغیر ذلك..‏ فماذا أبقوا لدعواتھم؟ نعوذ با‏ من الضلال..‏<br />

* ومن ذلك أیضاً‏ ما یلجأ إلیھ كثیر من ھؤلاء الطواغیت من تجنید<br />

العلماء وشغل أوقاتھم لصالحھم في محاربة خصومھم ومن یخافونھم على<br />

أنظمتھم وحكوماتھم كالشیوعیین مثلاً‏ أو الشیعة أو غیرھم ممن یھددونھم<br />

ویھددون حكمھم..‏ فیلجأ الطاغوت إلى بعض ھؤلاء العلماء المتحمسین<br />

المبغضین لتلك الاتجاھات الضالة..‏ فیعینھم على أولئك الأعداء المشتركین<br />

ویخادع ھؤلاء العلماء بإظھار حرصھ على الدین وعلى أھلھ وتخوفھ من<br />

أولئك على حرمات المسلمین،‏ ویمدھم بالعون والدعم المادي والمعنون<br />

لمحاربة أولئك..‏ فیسقط ھؤلاء المساكین بحبائلھ ویضیعون أعمارھم<br />

وأوقاتھم ودعواتھم في نصرة عدو على عدو..‏ بل یصل الحال بكثیر منھم<br />

بأن یلغوا عداوتھم للطاغوت القریب ویصادقونھ بل ربما أصبحوا في یوم<br />

من الأیام جنداً‏ وأعواناً‏ مخلصین لھ ولحكومتھ..‏ یكرسون حیاتھم في خدمتھ<br />

وتثبیت عرشھ وحكمھ ودولتھ..‏ شعروا أو من حیث لا یشعرون..‏ ولیتھم<br />

عقلوا قولة العبد الصالح:‏ ‏{رب بما أنعمت عليّ‏ فلن أكون ظھیراً‏<br />

(61)<br />

منبر التوحید والجھاد


<strong>ملة</strong> إبراھیم<br />

.<br />

للمجرمین}‏ ‏[القصص:‏ 17]، فقد نقل القرطبي في ھذه الآیة عن بعض<br />

الروایات ‏"أن الإسرائیلي الذي استنصر موسى كان كافراً‏ وإنما قیل لھ من<br />

شیعتھ لأنھ كان إسرائیلیاً‏ ولم یُرد الموافقة في الدین..‏ فعلى ھذا ندم لأنھ<br />

أعان كافراً‏ على كافر،‏ فقال:‏ ‏"لا أكون بعدھا ظھیراً‏ للكافرین"‏ وظھیراً:‏ أي<br />

معیناً.‏ ولیتھم عقلوا قولھ تعالى:‏ ‏{یا أیّھا الذین آمنوا قاتلوا الذین یلونكم من<br />

الكفار ولیجدوا فیكم غلظة..}‏ ‏[التوبة:‏ 123]. إذاً‏ لما وقعوا فیما وقعوا فیھ..‏<br />

فإن أولئك الشیوعیین أو غیرھم وإن كانوا أعداء للإسلام وأھلھ..‏ وعداوتھم<br />

والبراءة منھم والكفر بباطلھم مطلوبة أیضاً..‏ إلا أن البدء بالأھم فالأھم<br />

والأقرب فالأقرب أمر مقرر ومعروف في سیرة نبینا محمد صلى الله علیھ<br />

وسلم،‏ بل وتأبى العقول السلیمة خلافھ،‏ ذلك لأن خطر الأقرب المباشر<br />

وتأثیره وفساده وفتنتھ أعظم وأشد من البعید،‏ أو القریب غیر المباشر،‏ ولذا<br />

كانت مجاھدة النفس والشیطان قبل مجاھدة الأعداء عموماً..‏ وما كان<br />

رسول الله صلى الله علیھ وسلم لیبدأ أول ما بدأ بفارس والروم أو بالیھود،‏<br />

ویتغافل عمن ھو بین ظھرانیھم<br />

* بل ربما استغل كثیر من الطواغیت ھذا المزلق الخطیر..‏ وسخروا<br />

كثیراً‏ من ھؤلاء العلماء الجھلاء..‏ في الصد عن كثیر من الدعاة والتنفیر<br />

من جماعاتھم الإسلامیة ممن ھم خصوم لأولئك العلماء في الدعوة إلى الله<br />

أو في المذھب أو المنھج..‏ أو غیر ذلك...‏ بل ربما استخلصوا منھم الفتاوى<br />

لقمعھم والقضاء علیھم وعلى دعواتھم بحجة أنھم من الخوارج أو البغاة<br />

المارقین المفسدین في الأرض..‏ ‏{ألا إنھم ھم المفسدون}‏ وھم یعلمون<br />

ویشعرون..‏ ولقد شاھدنا ھذه المزلة كثیراً‏ في أھل زماننا وإلى الله<br />

المشتكى..‏ وما درى أولئك العلماء المساكین أو إخوانھم الدعاة مھما بلغوا<br />

من الانحراف..‏ فإنھ انحراف عن جھل أو تأویل..‏ بل حتى لو كان عن علم<br />

وإصرار،‏ فلن یبلغ مبلغ انحراف الطواغیت ومحادتھم ولدینھ..‏<br />

* ومن ذلك أیضاً‏ إغراء المؤمنین والدعاة بالمناصب والمراكز<br />

والوظائف والألقاب..‏ ومنحھم الامتیازات والأموال والمساكن،‏ والإغداق<br />

علیھم بالخیرات وغیر ذلك.‏ حتى یقیدوھم ویثقلوھم ویقفلوا أفواھھم بھا..‏<br />

ویحققوا معھم قول قائلھم:‏ ‏(الثدي الذي یرضعك لا تعضھ)‏ وھكذا إلى أن<br />

یفتتن بھم ھؤلاء الدعاة أو أولئك العلماء ویفتنون بحكوماتھم،‏ حتى یصل<br />

بھم الحال إلى أن یرقعوا باطل أولئك الطغاة بفتاویھم المختلفة..‏ وبتردیدھم<br />

لأفضالھم وتسبیحھم بحمدھم لیل نھار...‏<br />

یقول ابن الجوزي في تلبیس إبلیس ص‎121‎‏:‏ ‏(ومن تلبیس إبلیس على<br />

الفقھاء،‏ مخالطتھم الأمراء والسلاطین ومداھنتھم وترك الإنكار علیھم مع<br />

القدرة على ذلك).‏ وقال ص‎122‎‏:‏ ‏(وفي الج<strong>ملة</strong>،‏ فالدخول على السلاطین<br />

خطر عظیم لأن النیة قد تحسن في أول الدخول ثم تتغیر بإكرامھم وإنعامھم<br />

أو بالطمع فیھم،‏ ولا یتماسك عن مداھنتھم وترك الإنكار علیھم،‏ وقد كان<br />

سفیان الثوري رضي الله عنھ یقول:‏ ‏"ما أخاف من إھانتھم لي،‏ إنما أخاف<br />

من إكرامھم فیمیل قلبي إلیھم)‏ اھ.‏<br />

(62)<br />

منبر التوحید والجھاد


<strong>ملة</strong> إبراھیم<br />

ولو تفكر العاقل في أولئك الذین كان یخاف سفیان أن یمیل قلبھ إلیھم..‏<br />

لوجد البون بینھم وبین طغاة زماننا واسعاً‏ شاسعاً..‏ فا‏ المستعان..‏ ورحم<br />

الله من قال:‏<br />

لا شيء أخسر صفقة من عالم<br />

فغدا یفرق دینھ أید سبا<br />

من لا یراقب ربھ ویخاھ<br />

لعبت بھ الدنیا مع الجھال<br />

ویزیلھ حرصاً‏ لجمع المال<br />

تبت یداه ومالھ وا ‏ِل<br />

* ومنھ أیضاً‏ إظھار بعض ھؤلاء الطواغیت حرصھم على جوانب<br />

وفروع من الدین والدعوة إلیھا لیستقطبوا بذلك كثیراً‏ من الدعاة والعلماء<br />

الذین یخافون من إخلاصھم،‏ وحب الناس لھم،‏ فیؤسسون لھم معاھد ودوراً‏<br />

وإذاعات ویشغلونھم بوزارات الأوقاف ومشاریعھا وموسوعاتھا وغیر ذلك<br />

مما لا یمس طغیان ھؤلاء الطواغیت وفسادھم..‏<br />

ومن قبیل ذلك أیضاً‏ روابط ومؤسسات الضرار التي یؤسسھا ھؤلاء<br />

الطواغیت..‏ كرابطة العالم الإسلامي التي انخدع بھا كثیر من علمائنا<br />

المساكین رغم خطھا المكشوف الأسود المداھن لكثیر من الحكومات<br />

الفاسدة عموماً،‏ وللحكومة السعودیة وطواغیتھا خصوصاً..‏ حتى لقلما تخلو<br />

نشرة أو كتاب من مطبوعاتھم إلا ویطفح بالتملق والنفاق لتلك الدولة..‏<br />

ناھیك عن علاقاتھا وعلاقات مسؤولیھا المشبوھة مع طواغیت الدول<br />

المختلفة الأخرى...‏ وخلافھا وانتقادھا لبعض تلك الدول إنما یكون تبعاً‏<br />

لأھواء دولتھا الأم..‏ فإذا كانت الأمور بین الطواغیت على ما یرام فھي<br />

كذلك عندھا..‏ وإذا ھاجم طاغوت كالقذافي مثلاً‏ دولتھا أو طواغیتھا<br />

وسیاستھم فإن الفتاوى والاستنكارات تتابع وتنھال..‏ ثم إذا رجعت الأمور<br />

إلى حالھا الأول بین الطواغیت،‏ ھدأت وخرست تلك الفتاوى وما عدنا<br />

نسمع لھا حساً..‏ مع أن الطاغوت ھو ھو..‏ ما تغیر وما تبدل بل ربما<br />

أصبحت حالھ أشد وأنكى مما مضى...‏ ولو رأوه بأعینھم یطوف بالبیت<br />

بنجسھ وطغیانھ..‏ لما حركوا ساكناً..‏ فإلى الله المشتكى..‏ وعلى كل حال<br />

فھذه المؤسسة وأمثالھا لن تعدو كونھا مؤسسة حكومیة ولقد اعتدنا ألا نثق<br />

بما یأتي من الحكومات..‏ ونعمت العادة.‏<br />

* ومنھ أیضاً‏ ما یمنحونھ لكثیر من الدعاة من أذون وتراخیص<br />

للدعوة والخطابة وما ینشئونھ من ‏(ھیئات الأمر بالمعروف والنھي عن<br />

المنكر)‏ التي تعمل على استیعاب واحتواء الدعاة المتحمسین وصدھم عن<br />

منكرات الحكومة وسیاساتھا وباطلھا وفساد طواغیتھا الكبیر..‏ بشغلھم<br />

ببعض منكرات العامة..‏ خلاصة تلك المنكرات التي قد تھدد أمن الدولة<br />

واستقرار حكم الطواغیت..‏ ولن یتعدوھا إلى مستویات أعلى وأعظم ما<br />

داموا قد ربطوا أنفسھم بتلك الھیئات أو ذلك الإذن الذي یتحكم فیھم وفي<br />

دعواتھم..‏ ویشدھم شداً..‏<br />

(63)<br />

منبر التوحید والجھاد


<strong>ملة</strong> إبراھیم<br />

* ومن ذلك أیضاً‏ تدمیرھم وتحطیمھم وقتلھم لھذه ال<strong>ملة</strong> في نفوس<br />

النشىء من ذراري المؤمنین..‏ عن طریق مدارسھم ومعاھدھم وأجھزة<br />

إعلامھم ومؤسساتھم الطاغوتیة المختلفة..‏ فحیث أن ھؤلاء الطواغیت أشد<br />

خبثاً‏ وأعظم مكراً‏ من فرعون..‏ فھم لا یلجأوون إلى أسلوبھ في تقتیل<br />

الأبناء،‏ إلا في آخر الأمر حین تعجز أسالیبھم الخبیثة الأخرى،‏ فیحاولون<br />

جاھدین قبل ذلك أن یقتلوا ھذه ال<strong>ملة</strong> في نفوسھم،‏ فبدلاً‏ من أن یھلكوا<br />

الأجیال حسیاً‏ كما فعل فرعون،‏ یقتلون فیھم ھذه ال<strong>ملة</strong> فیھلكونھم أیّما<br />

إھلاك،‏ وذلك بتربیتھم على حبھم والولاء لھم ولقوانینھم وحكوماتھم عبر<br />

مدارسھم الفاسدة ھذه،‏ ووسائل إعلامھم الأخرى التي یدخلھا وینقلھا كثیر<br />

من جھال المسلمین إلى بیوتھم..‏ فبدلاً‏ من أن یثیر ھؤلاء الطواغیت الناس<br />

باستعجال القتل الحقیقي...‏ یتبعون ھذه السیاسة الخبیثة لیسبح الناس بحمدھم<br />

وبأفضالھم على أنھم ماسحوا الأمیة وناشروا العلم والحضارة..‏ وفوق ذلك<br />

كلھ وتحت ھذا الغطاء یربون من ذراري المسلمین أتباعاً‏ أوفیاء وخدماً‏<br />

مخلصین لحكوماتھم ولقوانینھم وأسرھم الحاكمة..‏ أو على أقل الأحوال<br />

یربون جیلاً‏ مائعاً‏ جاھلاً‏ منحرفاً،‏ راغباً‏ عن ھذه الدعوة الصلبة وال<strong>ملة</strong><br />

القویمة..‏ مداھناً‏ لأھل الباطل..‏ لا یقوى بل ولا یصلح لمواجھتھم أو یفكر<br />

فیھا..‏ وقد فصّلنا ھذا الأمر وكشفنا أسلوبھم الخبیث ھذا في رسالتنا المسماة:‏<br />

‏(إعداد القادة الفوارس بھجر فساد المدارس).‏<br />

وكم یسقط ویھبط الداعیة إذا زلّ‏ بشيء من ھذه المزلات،‏ فما ھذه<br />

الحال التي نعایشھا الیوم من انعدام ثقة الناس بالقیادات الإسلامیة وبالعلماء<br />

إلا واحدة من ثمرات ھذه المزلة..‏ وكم یصغر في أعین الطغاة أنفسھم<br />

وتنتزع ھیبتھ من قلوبھم،‏ فلا یخافونھ ولا یخشون دعوتھ..‏ ولا یحسبون لھ<br />

عند ذلك أي حساب..‏ أما إذا رأوا منھ صلابة وثباتاً‏ كثبات الجبال،‏ وبراءة<br />

وإباء وترفعاً‏ عن الالتقاء بھم في أي نقطة من نقاط طرائقھم المخالفة لمنھج<br />

الدعوة القویم فعند ذلك یحسبون لھ ألف حساب ویلقي الله الرعب المھابة في<br />

قلوب الطغاة..‏ كما كانت ھیبة النبي صلى الله علیھ وسلم في نفوس الكفار..‏<br />

وكما كان یُنصر بالرعب من مسیرة شھر..‏ فالحذر من ھذه المنزلقات..‏<br />

والحذر من السقوط في ألاعیب الطغاة..‏<br />

أخیراً..‏ فقد بیّن الله عز وجل لنا ھذه المخطّطات،‏ وكشف لنا تلك<br />

الألاعیب،‏ وحذّرنا منھا..‏ وأعطانا الحل والعلاج..‏ وأرشدنا إلى الطریق<br />

الصحیح،‏ فقال مباشرة قبل قولھ:‏ ‏{ودوا لو تدھن فیدھنون}‏ ‏[القلم:‏<br />

قال:‏ ‏{فلا تطعْ‏ المكذّبین}‏ ‏[القلم:‏<br />

،[9<br />

.[8<br />

لا تطعھم..‏ ولا تركن إلیھم،‏ ولا تقبل أنصاف حلولھم..‏ فإن ربك قد<br />

أعطاك الدین الحق،‏ ودلّك على الصراط المستقیم،‏ وھداك إلى <strong>ملة</strong> إبراھیم..‏<br />

* ومثل ذلك تماماً،‏ قولھ تعالى في سورة الإنسان وھي مكیة أیضاً:‏<br />

‏{إنا نحن نزّلنا علیك القرآن تنزیلاً‏ فاصبر لحكم ربّك ولا تطع منھم آثماً‏ أو<br />

كفوراً}‏ ‏[الإنسان:‏ 24]، وفي ذكر القرآن وامتنان الله عز وجل على نبیھ<br />

(64)<br />

منبر التوحید والجھاد


<strong>ملة</strong> إبراھیم<br />

بتنزیلھ علیھ،‏ قبل النھي عن طاعة الكفار الآثمین،‏ بیان لطریق الدعوة<br />

الصحیح..‏ فإن ھذه الطریق لا یختارھا الدعاة من عند أنفسھم،‏ ولیس لھم أن<br />

یرسموھا أو یحددوا معالمھا كما یھوون أو یتخیرون..‏ وإنما ھي <strong>ملة</strong><br />

إبراھیم <strong>ودعوة</strong> الأنبیاء والمرسلین المذكورة المفصلة في ھذا القرآن.‏<br />

* ومثل ذلك أیضاً‏ قولھ تعالى في سورة الفرقان وھي مكیة أیضاً:‏<br />

‏{فلا تطع الكافرین وجاھدھم بھ جھاداً‏ كبیراً}‏ ‏[الفرقان:‏ ‏{وجاھدھم<br />

بھ}‏ أي بالقرآن الكریم..‏ فلا تعدل لمنھج وأسلوب وطریق للدعوة سوى<br />

الطریق التي أمرت بھا في القرآن..‏ وأنذرھم بھذا القرآن ولا تتبع غیره من<br />

الطرائق المعوجة الملتویة التي فیھا طاعة للكفار،‏ أو سكوت عن بعض<br />

باطلھم..‏<br />

،[52<br />

* ومثلھ أیضاً‏ قولھ لنبیھ صلى الله علیھ وسلم بعد أمره بتلاوة<br />

بقلیل:‏ ‏{ولا تطع من أغفلنا قلبھ عن ذكرنا واتبع ھواه وكان أمره<br />

فرطا * وقل الحق من ربكم فمن شاء فلیؤمن ومن شاء فلیكفر..}‏<br />

‏[الكھف:‏ 29-28] والآیات مكیة.‏<br />

كتابھ (12)<br />

* ومثلھ قولھ تعالى في سورة الشورى وھي أیضاً‏ مكیة،‏ بعدما ذكر<br />

ما شرعھ لنا وللنبیین من قبل،‏ نوح وإبراھیم وموسى وعیسى..‏ : ‏{فلذلك<br />

فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع أھواءھم..}‏ ‏[الشورى:‏<br />

سبحانھ لنبیھ بعد ذلك بقلیل أن یقول للكافرین:‏ ‏{لنا أعمالنا ولكم أعمالكم}‏<br />

‏[الشورى:‏ 15].. براءة واضحة منھم ومن أھوائھم ومناھجھم وطرائقھم<br />

المنحرفة..‏<br />

15]، وأمره<br />

ومثلھ قولھ تعالى لنبیھ صلى الله علیھ وسلم في سورة الجاثیة<br />

وھي مكیة أیضاً:‏ ‏{ثم جعلناك على شریعة من الأمر فاتبعھا ولا تتبع أھواء<br />

الذین لا یعلمون * إنھم لن یغنوا عنك من الله شیئاً‏ وإن الظالمین بعضھم<br />

أولیاء بعض والله ولي المتقین}‏ ‏[الجاثیة:‏<br />

.[19-18<br />

وھكذا فلو تتبعنا آیات القرآن،‏ لوجدنا عشرات بل مئات الآیات الدالة<br />

على ھذه المعاني المھمة..‏ فا‏ عز وجل لم یخلق عباده عبثاً..‏ ولم یتركھم<br />

ھملاً..‏ أفلا یكفي الدعاة وضوح ھذا المنھج واستقامتھ..‏ ؟؟ أوَ‏ لا یسعھم ما<br />

وسع رسول الله صلى الله علیھ وسلم والنبیین من قبلھ..؟؟ أما آن لھم أن<br />

یستیقظوا من الغفلات؟؟ ویقوّ‏ موا الإنحرافات..‏ أوَ‏ ما كفاھم سقوطاً‏ في<br />

(12) ومن معاني التلاوة:‏ الاتباع،‏ من تلا الشيء،‏ أي تبعھ..‏<br />

ولا شك أن تلاوة كتاب الله عز وجل،‏ بقراءتھ وتعلمھ والتمسك بھ واتباع أوامره من<br />

أعظم أسباب الثبات على ھذه الطریق كما تقدم،‏ ویلتحق بذلك دوام ذكر الله عز وجل<br />

ومراقبتھ وقیام اللیل..‏ كما قال تعالى بعد الآیة المتقدمة من سورة الإنسان مباشرة:‏<br />

‏{واذكر اسم ربك بكرة وأصیلا ومن اللیل فاسجد لھ وسبحھ لیلاً‏ طویلاً}‏ ‏[الإنسان:‏<br />

.[25<br />

(65)<br />

منبر التوحید والجھاد


<strong>ملة</strong> إبراھیم<br />

ألاعیب الطغاة..‏ وكتماناً‏ للحق..‏ وتلبیساً‏ على الناس..‏ ومضْیعة للجھود<br />

والأعمار..؟؟ فإنھ والله اختیار واحد..‏<br />

‏"إما شریعة الله،‏ وإما أھواء الذین لا یعلمون...‏<br />

ولیس ھناك من فرض ثالث،‏ ولا طریق وسط بین الشریعة<br />

المستقیمة،‏ والأھواء المتقلبة..‏<br />

وإن ھذه الآیات لتعیّن سبیل صاحب الدعوة وتحدده،‏ وتغني في ھذا<br />

عن كل قول وعن كل تعلیق أو تفصیل..‏ إنھا شریعة واحدة ھي التي<br />

تستحق ھذا الوصف،‏ وما عداھا أھواء منبعھا الجھل..‏ وعلى صاحب<br />

الدعوة أن یتّبع الشریعة وحدھا،‏ ویدع الأھواء كلھا..‏ وعلیھ ألا ینحرف عن<br />

شيء من الشریعة إلى شيء من الأھواء..‏ فأصحاب ھذه الأھواء یتساندون<br />

فیما بینھم ضد صاحب الشریعة..‏ فلا یجوز أن یأمل في بعضھم نصرة لھ..‏<br />

فھم إلب علیھ،‏ بعضھم ولي لبعض..‏ ولكنھم مع ذلك أضعف من أن<br />

یضروه..‏ ولن یضروه إلا أذى،‏ فا‏ ولیھ وناصره،‏ وأین ولایة من ولایة؟<br />

وأین ضعاف جھال مھازیل یتولى بعضھم بعضاً‏ من صاحب شریعة یتولاه<br />

(13) ، الله..."‏ ‏{والله ولي المتقین}.‏<br />

ھذا ھو الطریق..‏ فھل من رجال؟؟<br />

أبو محمد<br />

سنة خمس وأربعمائة وألف<br />

من ھجرة المصطفى<br />

(66)<br />

(13) من الظلال بتصرف.‏<br />

منبر التوحید<br />

والجھاد<br />

* * *<br />

http://www.tawhed.ws<br />

منبر التوحید والجھاد


<strong>ملة</strong> إبراھیم<br />

براءة<br />

مقدمة<br />

في بیان <strong>ملة</strong> إبراھیم<br />

الفھرس<br />

عبادة الله حق العبادة مما یعین على القیام بھذه ال<strong>ملة</strong> العظیمة<br />

<strong>ملة</strong> إبراھیم لیست توحیداً‏ نظریاً‏ قولیاً‏ وحسب<br />

معاداة الشرك وأھلھ من أصول <strong>ملة</strong> إبراھیم<br />

الطغاة لا یرضون عن الدین إلا إذا كان بعیداً‏ عن عدواة باطلھم<br />

معنى الصدع بالحق وإظھار الدین<br />

موالاة دین الله ونصرة أولیائھ من أصول <strong>ملة</strong> إبراھیم<br />

إبداء العداوة للمشركین ومعبوداتھم وإظھارھا وإعلانھا من أھم<br />

معاني <strong>ملة</strong> إبراھیم<br />

شبھة:‏ حول إظھار العداوة للشرك وأھلھ<br />

بیان أن البراءة والعداوة في <strong>ملة</strong> إبراھیم على قسمین<br />

القسم الأول:‏ عداوة الطواغیت والأوثان المعبودة<br />

القسم الثاني:‏ عداوة المشركین أنفسھم<br />

الموقف من حكام ھذا الزمان وطواغیتھم القانونیة<br />

الموقف من حكام ھذا الزمان وطواغیتھم القانونیة<br />

موقف السلف مع أمراء الجور في أزمنة الشریعة والفتوحات<br />

ھاویة مصلحة الدعوة أو خدیعة ابلیس<br />

من معاني الركون إلى الظالمین<br />

شبھة:‏ أن <strong>ملة</strong> إبراھیم ھذه تفضح الدعوة وتنافي السریة<br />

(67)<br />

منبر التوحید والجھاد


<strong>ملة</strong> إبراھیم<br />

أعظم نصر للدین إعلان <strong>ملة</strong> إبراھیم ولو لم تقم الدولة وأبید الدعاة<br />

جمیعاً‏ فما الدولة الاسلامیة إلا وسیلة لإعلاء ھذه ال<strong>ملة</strong> وإعلانھا<br />

إذا صدع بعض الدعاة بھذه ال<strong>ملة</strong> وأعلنوھا،‏ رُ‏ خص لغیرھم ترك<br />

الصدع بھا<br />

الفرق بین مخادعة الكفار أثناء المواجھة لنصر الدین وبین<br />

انحرافات كثیر من الدعاة<br />

<strong>ملة</strong> ابراھیم مصادمة صریحة لأصحاب السلطان في ھذا الزمان<br />

من لقب غیر القرشي بإمام المسلمین أو أمیر المؤمنین فقد سلك<br />

مسلك الخوارج<br />

انحراف كثیر من الدعاة في ھذا الرمان عن <strong>ملة</strong> إبراھیم<br />

الإبتلاء ھو سنة الله مع من صدع ب<strong>ملة</strong> إبراھیم<br />

عداوة الناس ومفارقتھم من صفات ھذه الطریق<br />

العزلة خیر وأفضل من الدعوة المنحرفة عن طریق المرسلین<br />

الصمت خیر من المداھنة<br />

العابد المعتزل خیر من الداعیة المداھن الملبس<br />

<strong>ملة</strong> إبراھیم ھي طریق النصر وھي دعوة الانبیاء والمرسلین<br />

إلى المنحرفین عن دعوة لمرسلین ممن یتشدقون بكلام سید قطب<br />

دعوة النبي صلى الله علیھ وسلم اتباعٌ‏ ل<strong>ملة</strong> إبراھیم وصدعٌ‏ بھا<br />

شبھة:‏ الأصنام التي كانت حول الكعبة ودعوى أن النبي صلى الله<br />

علیھ وسلم كان ساكتاً‏ عنھا<br />

النبي صلى الله علیھ وسلم یُكسر الأصنام في مكة زمن الاستضعاف<br />

أصل دعوة النبي صلى الله علیھ وسلم كانت إعلان البراءة من<br />

المشركین وأصنامھم زمن الاستضعاف وزمن التمكین<br />

بیان مشكل ما جاء في عیب الآلھة مع نھي الله تعالى عن سبھم في<br />

محكم التنزیل<br />

(68)<br />

منبر التوحید والجھاد


<strong>ملة</strong> إبراھیم<br />

بیان إشكال معاداة المشركین مع إیواء أبي طالب لنبي صلى الله<br />

علیھ وسلم<br />

وصلة الوالدین المشركین،‏ وجوار ابن الدغنة لأبي بكر،‏<br />

النجاشي،‏ وأمثالھ<br />

وإیواء<br />

الفرق بین الاستعانة بالمشركین،‏ وبین إعانة المشرك للمسلم بنفسھ<br />

بدافع العصبیة أو غیرھا،‏ دون لجوء من المسلم لو ركون<br />

أقسام الناس مع <strong>ملة</strong> ابراھیم<br />

الركون للمشركین وإظھار موالاتھم خوفاً‏ على حظوظ الدنیا بلا<br />

إكراه،‏ عمل ظاھره الكفر<br />

شروط صحة الإكراه والتفریق بین الإكراه على المعاصي والإكراه<br />

على الكفر<br />

أحكام الدنیا تجرى على الظواھر والله یتول السرائر<br />

قصة حاطب بن أبي بلتعة<br />

دعوى الإكراه عند كثیر من الناس وبیان المكره الحقیقي<br />

تكفیر علماء نجد لعساكر الدولة التركیّة ومن والاھم<br />

الطغاة یتمنون أن ینحرف الدعاة عن <strong>ملة</strong> ابراھیم إلى المداھنة<br />

محاولات الطغاة لحرف الدعاة عن ھذه الطریق<br />

أسالیب الطغاة لتمییع <strong>ملة</strong> إبراھیم في ھذا الزمان<br />

البرلمانات ومجالس الأمة الشركیة وجر الدعاة إلیھا<br />

استغلال كثیر من العلماء والدعاة واستغفالھم وتجنیدھم لمحاربة<br />

أعداء الطواغیت<br />

واستغلالھم في محاربة إخوانھم المسلمین أیضاً‏<br />

إغراءھم بالمناصب والمراكز والألقاب<br />

(69)<br />

منبر التوحید والجھاد


<strong>ملة</strong> إبراھیم<br />

إشغالھم في مؤسسات الضرار الحكومیة كرابطة العالم الإسلامي<br />

ووزارات الاوقاف والمعاھد والإذاعات وھبئات الأمر بالمعروف<br />

واستغلال ذلك لصالح الطغاة وحكوماتھم<br />

تربیة أجیال موالیة لھم تسبح بحمدھم وأفضالھم عن طریق<br />

المدارس<br />

الحل والعلاج والمخرج من الفتنة ھو ‏(<strong>ملة</strong> إبراھیم)‏<br />

متى یصحوا الدعاة؟؟؟ ومتى تنتھي الغفلات؟؟؟<br />

ھذه<br />

(70)<br />

منبر التوحید والجھاد

Hooray! Your file is uploaded and ready to be published.

Saved successfully!

Ooh no, something went wrong!