12.07.2015 Views

DOHA 86 FINAL web

DOHA 86 FINAL web

DOHA 86 FINAL web

SHOW MORE
SHOW LESS
  • No tags were found...

You also want an ePaper? Increase the reach of your titles

YUMPU automatically turns print PDFs into web optimized ePapers that Google loves.

رئيس الهيئة االستشاريةد.‏ حمد بن عبد العزيز الكواريوزير الثقافة والفنون والتراثرئيس التحريرد.علي أحمد الكبيسيسكرتير التحريرسعيد خطيبيهيئة التحريرمحسن العتيقيسعيد خطيبيرئيس القسم الفنيسلمان المالكاإلخراج والتنفيذعاء األلفيرشا أبوشوشةهند خميسالهيئة االستشاريةأ.‏ مبارك بن ناصر آل خليفةأ.د.‏ محمد عبد الرحيم كافودأ.د.‏ محمد غانم الرميحيد.‏ علي فخروأ.د.‏ رضوان السيدأ.‏ خالد الخميسيجميع المشاركات ترسل باسم رئيسالتحرير ويفضل أن ترسل عبر البريدااللكتروني للمجلة أو على قرص مدمج فيحدود 1000 كلمة على العنوان اآلتي:‏تليفون : 44022295 )+974(تليفون - فاكس : 44022690 )+974(ص.ب.:‏ - 22404 الدوحة - قطرالبريد اإللكتروني:‏aldoha_magazine@yahoo.comمكتب القاهرة:‏مدير المكتب:‏ وحيد الطويلة34 ش طلعت حرب،‏ الدور الخامس،‏شقة 25 ميدان التحريرتليفاكس:‏ 5783770البريد اإللكتروني:‏aldoha.cairo@gmail.comالمواد المنشورة في المجلة تُعبِّر عنآراء كتّابها وال تُعبِّر بالضرورة عن رأيالوزارة أو المجلة.‏ وال تلتزم المجلة بردّ‏أصول ما ال تنشره.‏الحرف العربيروعة الشكل وسحر البيانيمثِّل الحرف العربي أوَّ‏ ل صور اإلبداعية في لغتنا العربية بما يحملهمن عجائب وغرائب،‏ إنْ‏ في نطق الحروف،‏ أو تأليف الكلمات،‏ أو معانيالتراكيب،‏ أو الكتابة،‏ أو فن الرسم والتشكيل.‏لكلمة « حرف«‏ في اللغة العربية أكثر من معنى ويكفيك أن تطَّ‏ لع علىمعجم لسان العرب البن منظور لتكتشف المعاني المتعدِّدة لهذه الكلمة،‏ علىالمستوى اللغوي العام أو االصطاحي الخاصّ‏ .ولكل حرف في اللغة العربية نطق خاصّ‏ به يميِّزه من غيره،‏ ولهذهالمامح التمييزية دور واضح في التفرقة بين معاني الكلمات؛ إنك لتجد أناستبدال حرف بحرف ف ي الكلم ة يغير المعنى تمام اً،‏ كم ا في ‏)قلب – كلب(،‏‏)قريب – غريب(،‏ ‏)نديم،‏ نسيم(،‏ ‏)بعيد – بعير(.‏أما بناء الكلمات العربية من الحروف ففيه من اإلبداعية والغنى مايؤكِّد ‏-بوضوح-‏ عبقرية اللغة العربية،‏ فقد ذُ‏ كِر أن ‏»عدد أبنية كام العربالمستعمَ‏ ل والمهمَل على مراتبها األربع،‏ من الثنائي والثاثي والرباعيوالخماسي من غير تكرار،‏ اثنا عشر ألف ألف وثاثمائة ألف وخمسة آالفوأربعمائة واثنا عشر«‏ أي 12305412. ‏)المزهر للسيوطي 74(. 1/ويلعب الحرف العربي دوراً‏ مهمّاً‏ فيما يسمّى حساب الجُ‏ مّل حيث يكونلكل حرف من حروف األبجدية العربية رقم مُ‏ عَ‏ يَّن يدلّ‏ عليه،‏ وهذا شائع فيكتابة التواريخ،‏ وعند التعمية واإللغاز نثراً‏ وشعراً.‏ومن يطَّ‏ لع على تاريخ الخطّ‏ العربي يجد أن كتابة الحرف العربيقد مرَّت بمراحل عديدة عبر العصور المتتالية،‏ فتنوّ‏ عت أشكاله وتعدّدتتسمياته،‏ وأظهر الخطّ‏ اطون بدائعه في عدّة أساليب جمالية وقاعدية كالخطّ‏الكوفي،‏ والديواني،‏ والفارسي،‏ والطومار،‏ والثلث،‏ والثلثين،‏ والنصف،‏والرقعة.‏وخال العصور الوسطى تمكَّن الحرف العربي من التغلغل إلى لغاتعديدة في العالم؛ حيث كُ‏ تِبت هذه اللغات بحروف عربية قبل أن تتحوَّلإلى حروف لغة أخرى،‏ حدث هذا في أغلب اللغات اإلفريقية،‏ واللغةاأللبانية،واللغة المالوية في ماليزيا،‏ واللغة التركية.‏ ودخلت كلمات عربيةإلى عدة لغات كالفارسية واإلسبانية واإلنجليزية.‏ويُعَ‏ دّ‏ الحرف العربي من أهمّ‏ عناصر الفنّ‏ التشكيلي،‏ وقد كثرت محاوالتتوظيفه لمنح مزيد من الجمال والروعة للّوحة الفنية،‏ ومع بداية العصرالحديث ظهر ما يسمّى باالتّجاه الحروفي في التصوير والتشكيل في أعمالفنية كثيرة،‏ فاستخدمت الحروف العربية كعنصر تشكيلي جديد ومميَّز،‏وأضحت مجاالً‏ خصباً‏ يستلهم منه الفنان إبداعاته وابتكاراته،‏ ويضيف بهلمسات فنية وجمالية راقية وجذّابة.‏ومن أكبر التحديات التي تواجه الحرف العربي في عصرنا الحاضر مايواجهه من صعوبات في مجال التطبيقات الحاسوبية،‏ وما تفرضه حوسبةاللغة العربية من إمكانات تتطلَّب إيجاد حلول عملية تسهم في ترقيةاستخدام اللغة العربية وتقنياتها.‏وتبقى العناية باللغة العربية والحرص على النهوض بها حاضراً‏ومستقباً‏ هَ‏ مًّا يحمله المحبّون المخلصون لها،‏ وفاءً‏ بحقّها والتزاماً‏ بالتمكينلها في شتى مجاالت الحياة.‏رئيس التحرير


الغالف:‏مجاناً‏ مع العدد:‏ثقافية شهريةالسنة الثامنة - العدد السادس والثمانونصفر - 1436 ديسمبر 2014العدد<strong>86</strong>تصدر عنوزارة الثقافة والفنون والتراثالدوحة - قطرصدر العدد األول في نوفمبر 1969، وفي يناير 1976 أخذت توجهها العربي واستمرتفي الصدور حتي يناير عام 19<strong>86</strong> لتستأنف الصدور مجدداً‏ في نوفمبر 2007.توالى على رئاسة تحريرالدوحة إبراهيم أبو ناب،‏ د.‏ محمد إبراهيم الشوش و رجاء النقاش.‏االشتراكات السنويةداخل دولة قطراألفرادالدوائر الرسميةخارج دولة قطردول الخليج العربيباقي الدول العربيةترسل قيمة االشتراك بموجب حوالة‎75‎يورودول االتحاد األوروبي مصرفية أو شيك بالريال القطريأميركاباسم وزارة الثقافة والفنون والتراث‎150‎دوالراً‏ كندا وأستراليا على عنوان المجلة.‏الموزعونوكيل التوزيع في دولة قطر:‏دار الشرق للطباعة والنشر والتوزيع - الدوحة - ت:‏ 44557810 فاكس:‏ 44557819وكاء التوزيع في الخارج:‏المملكة العربية السعودية - الشركة الوطنية الموحدة للتوزيع - الرياض-‏ ت:‏ 0096614871262- فاكس:‏ 0096614870809/ مملكة البحرين - مؤسسة الهال لتوزيع الصحف - المنامة -ت:‏ - 007317480800 فاكس:‏ ‎007317480819‎‏/دولة اإلمارات العربية المتحدة - المؤسسةالعربية للصحافة واإلعام - أبو ظبي - ت:‏ - 4477999 فاكس:‏ 4475668/ سلطنة عُ‏ مان- مؤسسة عُ‏ مان للصحافة واألنباء والنشر واإلعان - مسقط - ت:‏ - 009682493356 فاكس:‏0096824649379/ دولة الكويت - شركةالمجموعة التسويقية للدعاية واإلعان - الكويت- ت:‏ - 009651838281 فاكس:‏ 0096524839487/ الجمهورية اللبنانية - مؤسسةنعنوع الصحفية للتوزيع - بيروت - ت:‏ - 009611666668 فاكس:‏ 009611653260/الجمهورية اليمنية - محات القائد التجارية - صنعاء - ت:‏ - 00967777745744فاكس:‏ / 009671240883 جمهورية مصر العربية - مؤسسة األهرام - القاهرة - ت:‏- 002027704365 فاكس ‎002027703196‎‏/الجماهيرية الليبية - دار الفكر الجديد الستيرادونشر وتوزيع المطبوعات - طرابلس - ت:‏ - 0021821333260 فاكس:‏ 00218213332610/ جمهورية السودان - دار الريان للثقافة والنشر والتوزيع - الخرطوم - ت:‏ 0024915494770- فاكس:‏ / 00249183242703 المملكة المغربية - الشركة العربية اإلفريقية للتوزيع والنشروالصحافة،‏ سبريس - الدار البيضاء - ت:‏ - 00212522249200 فاكس:‏‎00212522249214‎‏/‏الجمهورية العربية السورية - مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر والتوزيع - دمشق -ت:‏ 00963112127797 ‏-فاكس:‏‎0096311212<strong>86</strong>64‎األسعاردولة قطرمملكة البحريناإلمارات العربية المتحدةسلطنة عماندولة الكويتالمملكة العربية السعوديةجمهورية مصر العربيةالجماهيرية العربية الليبيةالجمهورية التونسيةالجمهورية الجزائريةالمملكة المغربيةالجمهورية العربية السوريةالعمل الفني للغاف:‏يسري المملوك - مصرالشرق العصفور الصغير الفنّاند.زكي مختارات نجيب شعرية محمود120 رياالً‏240 رياالً‏300 ريال300 ريال100 دوالر10 رياالتدينار واحد10 دراهم800 بيسةدينار واحد10 رياالت3 جنيهات3 دنانير2 دينار80 ديناراً‏15 درهماً‏80 ليرةرئيس قسم التوزيع واالشتراكاتعبد اهلل محمد عبداهلل المرزوقيالجمهورية اللبنانيةالجمهورية العراقيةالمملكة األردنية الهاشميةالجمهورية اليمنيةجمهورية السودانموريتانيافلسطينالصومالبريطانيادول االتحاد األوروبيالواليات المتحدة األميركيةكندا واستراليا3000 ليرة3000 دينار1.5 دينار150 رياالً‏1.5 جنيه100 أوقية1 دينار أردني1500 شلن4 جنيهات4 يورو4 دوالرات5 دوالراتتليفون : 44022338 )+974(فاكس : 44022343 )+974(البريد اإللكتروني:‏al-marzouqi501@hotmail.comdoha.distribution@yahoo.comالموقع اإللكتروني:‏متابعاتميديا4الكولونيالية القديمة في مواجهة نفسها ‏)باريس:‏ عبد اهلل كرمون )جرعة ديموقراطية لمصر ‏.................)آمال قوراية(‏عيد الثورة..‏ بشعارات مستنسخة؟ ‏)الجزائر:‏ نوّ‏ ارة لحرش(‏نطفئ النار باألمل ‏.......)بنغازي:‏ محمد األصفر(‏مقاومة ثقافية بامتياز.........)غزة:‏ عبداهلل عمر(‏الثقافة .. أنثى............)صنعاء : جمال جبران(‏في معرض بيروت للكتاب .. خيبات قارئ نهم ‏)بيروت-‏ نسرين حمود(‏موريتانيا وأزياؤها ‏)نواكشوط:‏ عبد اهلل ولد محمدو(‏الصَّ‏ وت والصّ‏ دى ‏..................)سعيد خطيبي(‏20انقالب على السّ‏ لطة الرّابعة ‏.....)أحمد عمران(‏مواقع التواصل االجتماعي .. أيادٍ‏ صغيرة ‏)سالم ناصر(‏جُ‏ دراننا التيلم تسقطبَعدُ‏قضية78العربي في غربتهمُهاجرضدّ‏ مُهاجرإميل أمينأنور الشاميعاطف األطرشرانيا مأموند.‏ حسين محمودعبد اإلله الصالحي22www.aldohamagazine.com


محمد بنيسعبد القادر عبد الليمنير الدين زارع موسىد.‏ فاتح بن عامرأحمد عبدالكريمد.‏ إسماعيل مهنانةمحسن العتيقيملفالحرف العربي40الجريححمد السعديمحمد بغداديسارة أحمدسعاد سليمانلونيس بن عليمنير اوالد الجياليمقاالتعن كرة القدم وعن الهجرة ‏..............)إيزابيا كاميرا(‏متى ستستحي الحكومات من المثقَّف؟....‏ ‏)وجدي األهدل(‏رحلة األبناء الثاثة ‏......................)ستفانو بيني(‏المفكّر اإلعامي ‏................)عبد السام بنعبد العالي(‏أمطار رغدان ‏...............................)أمجد ناصر(‏تقليب التربة في السرد اللبناني........‏ ‏)لنا عبد الرحمن(‏مرئيات مستقبلية للمسرح القطري)‏‎2‎‏(‏ ‏.....)مرزوق بشير بن مرزوق(‏فتاة راحلة .............................. ‏)أمير تاج السر(‏أكتب كي ال أشعر بالوحدة ‏..........)جنى فواز الحسن(‏رحيلجورج جرداق .. ليلة القصيدة .......................................أماكنهمأدب3637387783961371551603980صدى ‏»الجنقو«‏ ‏.............................)عبد العزيز بركة ساكن(‏84إنريكي بيال-‏ ماتاس:مهنة األدب خطيرة ‏)ترجمة وتقديم - خالد الريسوني(‏شاعر يتمرّن على مواجهة الموت ‏...............)عبدالحق ميفراني(‏كاتبُ‏ مصادفات ‏....................................)كمال الرياحي(‏ابتداع العزلة.....................................‏ ‏)حميد عبدالقادر(‏الكتب التي نتحدث عنها ‏......)تيم باركس - ترجمة:‏ أماني الزار(‏نصوصمع نيتشه وضدّه ................................... ‏)بنسالم حِ‏ مِّيش(‏ضدّ‏ المُ‏ سَ‏ يَّرَ‏ ة ........................................... ‏)خطيب بدلة(‏114كتبأن تتحدّث اللّغة الصّ‏ ينيّة بالعربيّة ............... ‏)خاص بالدوحة )أفكار تتهاوى ......................................... ‏)زياد إبراهيم(‏نافذة الخالص ‏.................................)عبدالقادر ضيف اهلل(‏فنجان قهوة لطاولة المقعد الفارغ ‏....................)سالم الشبانة(‏أبطال خسروا المعركة ............................. ‏)خاص بالدوحة(‏مديح الصداقة .. رسائل بين شاعرين - 1952 1983 ‏)سعيد بوكرامي(‏تشكيلفريد بلكاهية والخريطة الجديدة للعالم ‏)إلكسندر كازيروني - ترجمة:‏ محمد مروان(‏من المحلية إلى الكونية ‏..........................)شفيق الزكاري(‏سبب ابتعاده عن القماش ........................ ‏)أحمد لطف اهلل(‏الحنّاء بدل الصباغة ‏............................)إبراهيم الحَ‏ يْسن(‏ورشة مفتوحة ومغلقة..............................‏ ‏)أحمد جاريد(‏مِلْكٌ‏ إنساني ................................... ‏)عبد الحي المالخ(‏سينمامحمد ملص في ‏»سُ‏ لّم إلى دمشق«‏ .. عن الذين صعدوا بحرية ‏)حوار-هاشم صالح(‏حكيم بلعباس .. في محاولة لتعريف الحب ‏............)محمد اشويكة(‏مذاق االغتراب في مئة خطوة ........................ ‏)غيدا اليمن(‏قليل من الدراما في ‏»يومان وليلة«‏ ‏..................)محمد الفقي(‏‏»مومي«‏ .. عاصفة مخرج شاب ................ ‏)خاص بالدوحة(‏‏»جلدة السوط«‏ .. حياة العازفين المريرة ..... ‏)د.رياض عصمت(‏‏»رجالن في المدينة«‏ .. هل أضاع بوشارب بصمته اإلخراجية؟ ‏)أحمد ثامر جهاد(‏علوممزحة ناسا ........................................ ‏)علي فاضل(‏صفحات مطوية122138156158بول أوستركاتبُ‏مصادفاتهل تحقّقت أحالم المصلحين ؟ ‏.....................)منى عالم(‏98صدى‏»الجنقو«‏80108وَرْشَ‏ ةُ‏ فَريد بَلْكاهِ‏ يَة122


متابعاتالكولونيالية القديمةفي مواجهة نفسهاباريس:‏ عبد اهلل كرمونحَ‏ لّتْ‏ ، مؤخراً،‏ الذكرى السّ‏ تونالندالع الثورة التحريرية فيالجزائر،‏ ومعها عاد نقاش حادّ‏حول سنوات االستعمار الفرنسي.‏وإذا كانت هذه الذكرى ال تعني،‏بطبيعة الحال،‏ الشيء نفسه بالنسبةللعاصمتي ن:‏ باري س والجزائ ر،‏ فإنه اتظلّ‏ بمثابة الفرصة المثلى لتبادلاالنتقادات وكيل التهم بين الطرفين.‏فتاريخ حرب الجزائر لم يُكْ‏ تَبْ‏ ،على ما يبدو،‏ حسبما تقتضيه الدقةالازمة.‏ لذلك نجد أن المهتمين بهذاالتاريخ يطعنون في استنتاجاتبعضهم البعض.‏غير ذلك فإن العاقاتالدبلوماسية بين البلدين أضحتتتحسن منذ سنوات،‏ وذلك حتىقبل زيارة الرئيس هوالند للجزائروخطابه الذي أُحسن الظن به)2012(. ثم هناك أيضاً‏ إرادة صيانةذاكرة الشعوب التي بادرت بهافرنسا،‏ فعمدت،‏ ضمن ترتيباتأخرى،‏ إلى استحداث مقرر حولحرب الجزائر في المدارس الفرنسية،‏ما لم يكن ممكناً‏ في السابق.‏ كماتمت الزيادة في مبلغ معاشات قدماءالمحاربين في الجيش الفرنسي منأبناء شمال إفريقيا.‏إال أن كل هذه النوايا واإلجراءاتالحسنة لم تخمد ألم االستعمارفي نفوس المغاربيين،‏ مثلما ظَ‏ لّ‏المُ‏ ستعمِر القديم نفسه يحتفظ بجزءكبير من الذهنية الكولونيالية.‏تزداد هذه المعادلة تعقيداً‏ متىتعلّق األمر بالجزائريين المقيمينفي أرض فرنسا،‏ ألن هذا االحتكاكيُولّد مشاعر مُ‏ تباينة حسب طبيعةالسلوك الذي قد يصدر عن كاالطرفين.‏فأغلبية أبناء المهاجرينالجزائريين يهجسون بأن ‏»فرنسا التحبنا«.‏ وطالما نقف على تجسيدذلك الشعور عندما تُجرى مباراةمن مباريات كرة القدم،‏ والتييكون الفريق الجزائري طرفاً‏ فيها،‏إذ يكثر الهرج والمرج،‏ وتمتلئالشوارع بعدد هائل من الشباب،‏وينته ي الحف ل أحيان اً،‏ بع د الزغاري دوالهتافات،‏ بأعمال شغب.‏أطلق هؤالء الشباب ما سموهب ‏»فرنسا الجزائرية«،‏ وهو،‏ لوأمعنّا التأمّ‏ ل،‏ المقابل لما كان عليهحال الجزائر ردحاً‏ طوياً‏ من الزمن،‏ونقصد به:‏ ‏»الجزائر الفرنسية«،‏مصرين إصراراً‏ بأن فرنسا ملك لهم.‏تشابكت على كل حال تبعاتأمرين لم يعْ‏ دِمَ‏ ا صلة بينهما:‏االستعمار والهجرة،‏ إذ إن األول هوالذي فتح،‏ بادئ ذي بدء،‏ أبوابالثاني على مصراعيه.‏ وبعدماتفاقمت الهجرة واستفحلت،‏ شرعتالعاقات تلج مرحلة من التوترالحثيث الذي لم يتوقّف أبداً.‏وكأن بهذه األجيال الجديدة منالشباب المغاربيين تنوي خوضحركات استعمارية معاكسة،‏ فياحتالها الرمزي لفضاءات شاسعةمن مدن الضواحي؛ وتصرّفهمعلى هواهم في تلك البقاع فيتحدٍ‏ صارخٍ‏ لقوى األمن،‏ بل حتىللقانون.‏ إنهم بسلوكهم هذا يعلنونشبوبهم عن طوق فرنسا،‏ وأدهىمن ذلك،‏ رفضهم لها،‏ كنوع منردة فع ل،‏ لتهميش ها له م وجعله ا له مأبناء من الدرجة الثالثة،‏ أو حتىمن غير المرغوب فيهم،‏ ومن ثممن المغضوب عليهم.‏ فالذي يكتفيبزيارة باريس،‏ وبعض الضواحيالدانية،‏ لن يعرف شيئاً‏ عن فرنسااألخرى،‏ ولن يكون بوسعه أن يتنبأبمستقبل هذه األرض.‏ثم إنه كثيراً‏ ما تتواتر على شفاههؤالء سيرة استعمار فرنسا للبلداألصلي،‏ موطن اآلباء واألجداد،‏وكي ف كان ت ش راً‏ ف ي أصله ا؛ س واءأكان األمر متعلقاً‏ بالجزائر،‏ المغرب،‏تونس أم بلدان إفريقية أخرى.‏كانت الفترة الرئاسية لنيكوالساركوزي 2007( - )2012 مجاالً‏خصباً‏ لتبرعم أنواع كثيرة منالسلوك،‏ التصريحات والمواقفالشاذّة.‏ فكان من ضمن هذهاالفتراءات،‏ إقرار الدولة الفرنسيةبأن استعمارها إلفريقيا ولشمال6


إفريقيا كان أمراً‏ جيداً‏ قد ذر منافعكثيرة على تلك البلدان.‏ الشيء الذيعارضه الكثيرون حينها،‏ وفندوه،‏قبل أن تتراجع عنه فرنسا،‏ نوعاً‏ما،‏ على مضض.‏إن حديث فرنسا عن فضلهاعلى الشعوب التي استعمرتها فيالسابق،‏ يخفي في طياته أفكاراً‏مُ‏ بيّتة،‏ أال وهي الزعم بالتفوقالعرقي والديني،‏ وهي أمور ما يزالمفعولها جارياً‏ في الذهنية الفرنسيةحتى اليوم،‏ ‏»إالّ‏ من رحم ربك!«.‏صحيح أن كل حركة استعماريةيكتنفها كذب هائل يكون تبريراً‏لسطو المُ‏ ستعمِر على أرض الغير،‏بُغية استنزاف مواردها الطبيعيةالحيوية،‏ وكذا استغال مواردهاالبشرية استغاالً‏ مضاعفاً.‏فترى المُ‏ ستعمِر يصم الشعوبالتي أوثق عليها وثاقها بالبدائيةوالتوحش.‏ ما يجعله يعتقد بأنذلك ما يخوّ‏ ل له حق بسط سيطرتهعليها واستنزاف أراضيها ومعادنها.‏الهجرة المغاربية إلى باد مولييرالتي رأينا فيها نوعاً‏ من ‏»االستعمارالمعكوس«،‏ ما يزال الفرنسيونينظرون إليها بنفس النظرة القديمة.‏فكثير من المهن تُترك للمهاجرين،‏المغاربة واألفارقة السود،‏ مثل جمعالقمامة،‏ التنظيف،‏ رعاية أبناء الذينلهم أشغال أرقى،‏ مرافقة األطفالإل ى المدرس ة،‏ وغيره ا ‏)م ع العل م أنكل مهنة هي في أصلها شريفة(.‏العقلية القديمة تظلّ‏ جديدة فيأذهان الفرنسيين،‏ فنراهم يعيبونعلى المسلمين أشد العيب مثاً‏أضحية العيد،‏ ألن المسيحية فيعرفهم قد منعت كل أنواع األضحية،‏وفي السياق،‏ ال يفوتنا أن نشيرإلى ملحة مُ‏ رّة تبادلها شابان علىالشبكة،‏ إذ ‏»قال الفرنسي لشابجزائري أمض لذبح الخروف،‏ أجابهاآلخر:‏ أما أنتم هل تأكلون خنزيركمنيئاً؟«.‏انتقل الخاف حالياً‏ إلى المجالالديني.‏ فبينما كان أعوان االستعماراألوائل مبشرين،‏ أرادوا نشرالمسيحية،‏ إذ رأوا،‏ في زعمهم،‏ أنالمسلمين كانوا في خطأ يعمهون،‏ممهدين بالتالي السبيل لوصولرواد العمليات العسكرية،‏ فإن أغلبفتيان وفتيات الضواحي يتبجحونبهوية إسامية،‏ ال يكادون يدركونمنها سوى اسمها.‏وإذ ظَ‏ لّتْ‏ الواحات،‏ الفنادق،‏المتنزه ات هن اك ف ي ش مال إفريقي ا،‏مسرح استجمام الغربي المتفوّ‏ ق،‏يصول فيها ويجول،‏ فإن غيابالديموقراطية هو همه،‏ ألنه يعتقدعلى كل حال بأن الشعوب األخرىدونية وال تستحق الديموقراطية،‏ومتى تحققت سوف تنسد علىوجهه أبواب الفردوس الناعمهنالك.‏ فهل نسينا رغبة وزيرةفرنسية سابقة في تقديمها يدالمساعدة إلى زين العابدين بن عليلقمع انتفاضة تونس!‏وهكذا،‏ وليس على حين غرة،‏أمسى الصراع اليوم ما بينالكولونيالي القديم الذي يرى،‏ دون أنيصدّق،‏ وفي اتساع رقعة المعركة،‏عودة ‏»المتوحشين«‏ القدامى،‏ لكنهذه المرة بحق،‏ وبأعين يقدح منهاشرر الحرب!‏7


عيد الثورة..‏ بشعارات مستنسخة؟الجزائر:‏ نوّ‏ ارة لحرشتعالت،‏ في األسابيع الماضية،‏أصوات في الصحافة،‏ وفي مواقعالتواصل االجتماعي،‏ مُ‏ ندِّدة بشعارستينية الثورة الجزائرية،‏ بعداكتشافها ‏-على حد قولها-‏ ‏)السرقة(،‏حيث أعلنت هذه األصوات أن الشعارالذي تم اعتماده بمناسبة األعيادالوطنية المُ‏ خلّدة للذكرى ال‎60‎الندالع ثورة التحرير الجزائرية،‏الشهر الفارط،‏ مُ‏ ستنسخ من تظاهرةتاياندية ‏)شعار ستينية كلية طبتاياندية عام 2007(. هذه القضيةأثارت استياء واسعاً،‏ ودفعتإلى التساؤل:‏ ‏»هل يعجز الخيالالجزائري عن ابتكار شعاراتتظاهراته الوطنية؟«‏ .أسماء معروفة في الحقلينالدبلوماسي والثقافي الجزائريانخرطت في حملة االستهجانوالتنديد،‏ منها،‏ وزير الثقافةاألسبق،‏ محي الدين عميمور،‏ الذيصرّح ل»الدوحة«:‏ ‏»كل ما قيل عنسرقة شعار ستينية الثورة،‏ منشعارات أجنبية كان موثقاً‏ بالصورة،‏ومن ثم فإن على المصالح المعنيةأن تؤكد عكس ما قيل أو تعترفبأنها خُ‏ دِعَ‏ تْ‏ «. أما الناقد والكاتب،‏عبد الحفيظ بن جلولي،‏ فقد علّق:‏‏»عندما أثيرت الضجة حول شعاريستينية الثورة وتظاهرة قسنطينة،‏إنّما كشفت ليس عن العجز فيالخي ال الجزائ ري وحس ب،‏ وإنّم ا ع نالبحبوحة التي أفرطت في تكسيرالمبادرة لدى اإلنسان«.‏ بن جلوليأضاف:‏ ‏»إنّ‏ اإلنسان الجزائري أصبحيبحث عن الرّبح السريع والمكسبالكبير في إطار سكونيته وخموله،‏لهذا لم تعد تهمه الحالة الوطنيةفي حِ‏ راكها المستمر من أجل صناعةالراهن والمستقبل،‏ بقدر ما أصبحيهمّه صالحه الخاص،‏ فلماذا يُتعبخياله ألجل أن يصمّم إبداعاً‏ ذاخصوصية،‏ وباإلمكان أن يستنسخهدون أن يتعرّض أليّ‏ مراقبة أو حتىمساءلة«.‏في حين يرى الناقد واألكاديميمحمد األمين بحري،‏ أن الشعاراتالثقافية تحوّ‏ لت من الحرمة الغوغائيةإلى األيقنة السيميائية.‏ مضيفاً:‏‏»حينما تُطرح مسألة االنتحال فيالشعارات الثقافية والمناسباتية ‏-كماحدث مع شعار احتفالية الجزائربستينية ثورتها الذي قيل بانتحالهمن شعار تاياندي-‏ فإن هذا الطرحيحيل من حيث مقصديته علىمنزعين نقيضين:‏ أحدهما غوغائييفترض رداً‏ مماثاً‏ يحجب البعدالثقافي والمحمول الفكري للشعار.‏وآخر سيميائي يعيد تفكيك الطرحانطاقاً‏ من مُ‏ ساءلة أفاهيمه«.‏بحري لم يكتفِ‏ بهذا،‏ بل ذهبإلى فتح باب التساؤل:‏ ‏»هل البعدالبصري وتأثير الصورة هو مايصنع القيمة ويرهن الثيمة؟ فتصدقالتهمة بانتحال الشعار الثقافيالقومي،‏ إسقاطاً‏ على صدقها فيالبحث العلمي والمنتج االقتصاديوالملكية الفكرية مثا؟.‏ وإذا كانالشعار عامة سيميائية مركبة مندال ه و مظهره ا الش كلي ومدل ول ه وخطابها،‏ فهل من شأن تماثل الدال‏)شكل الشعار(‏ أن يصحبه تماثلللمدلول ‏)مضمون خطابه(؟،‏ أي هليمكن لعامة ثقافية لدى شعب ما أنتتطابق من حيث الداللة مع نظيرتهالدى شعب آخر لمجرد ظهور توافقشكلي بينهما؟«.‏يفسر المتحدث نفسه المسألةمن وجهة نظر سيميائية ويبررهابفن الدالالت،‏ إذ يختتم:‏ ‏»لقد حدثتنااألنثروبولوجيا بتشابهات عديدة بينالبنى الثقافية القائمة في األشكالالتعبيرية،‏ والممارسات الطقوسيةبين الشعوب،‏ دون أن تتماثل فيالداللة أو الوظيفة.‏ وهنا تتفككالتهمة بانتحال الدال إذا بطل توافقمحمول خطابه بين الشعوب.‏ ذلك أناختاف المضامين ومدلوالت الخطابالس يميائي للش عارات واأليقون ات ه وما يجعل منها بنى ثقافية أصيلةومتمايزة ويحفظ لها استقاليةمكانتها في إمبراطورية العامات«.‏أما الفنان محمد بوكرش،‏ فعلّقبنبرة مستاءة:‏ ‏»المرض طال منظومةالدولة كلها،‏ وليس محتكراً‏ علىأشباه المصممين وأشباه الرسامينفقط،‏ وال على استنساخ تصميمشعار ستينية الثورة وحدها«.‏8


جرعة ديموقراطية لمصرآمال قورايةالعالم العربي يتحرّك وجيل كيبال )1955(يُاح ظ،‏ فالرج ل ال يتع ب م ن الرح ات المكوكي ة،‏ومن متابعة ما يحدث فعاً‏ ، وما يتنبأ بهالعارفون.‏ في الذّكرى الثالثة لبداية حِ‏ راكالشعوب،‏ وانتفاضات الرّبيع العربي،‏ زار كيبال،‏الباحث والمُ‏ ختص في العالم العربي،‏ الجزائر،‏وهناك عَ‏ بّرَ‏ عن رأيه في مسيرة السنواتالثاث،‏ وما حملته من آمال وخيبات في آنٍ‏ .صاحب ‏»النّبي والفرعون«‏ يُولي اهتماماً‏ بالغاً‏ببلدين اثنين من العالم العربي:‏ مصر،‏ التي عمّقفيها دراساته حول الحركات اإلسامية،‏ وتونساألقرب جغرافياً‏ من بلده األم فرنسا.‏ وتحدثعنهما:»الثورة انطلقت في مصر وتونس كعمليةعفويّة.‏ لم تكن خطيّة المسار،‏ وإنما تميّزتبح راك مُ‏ تغيِّ ر،‏ بحس ب تح وّ‏ الت الظ روف والوق تأيضا«،‏ معتبرّاً‏ تونس ‏»نموذجاً‏ للديموقراطية،‏يسير ببطء«،‏ مضيفاً:‏ ‏»إن انتخابات السادسوالعشرين من شهر أكتوبر/تشرين األولالماضي،‏ وضعت تونس في المسار الصحيح،‏كما أن االنتخابات الرئاسية تُجسِّ‏ د صراحةالمس ار الديموقراط ي النس بي فيه ا«.‏ وقَ دّمَ‏ الباح ثفي العلوم السياسية،‏ على هامش حضورهصالون الجزائر الدولي للكتاب،‏ الشهر الماضي،‏تحلياً‏ للحِ‏ راك السّ‏ ياسي في الشّ‏ ارع العربي،‏مُ‏ عتبراً‏ التجربة التونسية تجربة مُ‏ ختلفة،‏ تبعاً‏لبنية المجتمع فيها:‏ ‏»تونس اليوم هي مثال حيعن ثورة قامت ضد القيود التي فرضها النظامالسابق،‏ وال يمكنها أن تتراجع اآلن،‏ وإنما األمورفيها تسير نحو أفق واعد جداً،‏ خاصة أن النظامالسابق،‏ فشل في وأد طبقات اجتماعية مثقفةتشكّلت نتيجة النضال السياسي الطويل ضدالكيان السياسي السابق«.‏ بالمقابل،‏ يرى صاحب‏»مقاساة عربية«‏ أن نموذج مصر في الثوراتالعربية،‏ قد وَ‏ لّدَ‏ ‏»العنف«،‏ وهو األمر الذياعتبره:‏ ‏»تغييراً‏ أو انحرافاً‏ لم يكن مُ‏ توقعاً‏ لمصركبلد قامت فيه عدة حضارات،‏ وتراكمت فيها،‏الثقافة والسياسة معاً،‏ والشارع اآلن يطالب،‏ واليزال يطالب بالمزيد من الديموقراطية«..‏بالنسبة لكيبال،‏ فإن الحِ‏ راك الشعبي فيالبلدان العربية ينقسم إلى فئتين:‏ األولى؛مُ‏ تعلّقة بمصر وتونس؛ ‏»اتسم بمسار ديموقراطيهادئ نسبياً،‏ والثانية متعلقة بسورية واليمنامتاز بتصاعد وتيرة العنف،‏ وحدَة الصراع الذيتجاوز الطابع السياسي«،‏ وأوضح المتحدّثنفسه أن كاً‏ منهما أعطى للغرب صورة مُ‏ غايرةتماماً‏ عما كانت عليه سابقاً‏ هذه البلدان،‏فالحِ‏ راك الش عبي ل م يك ن مُ‏ توقع اً‏ عنده ا،‏ ‏»أقص دلم يكن متوقعاً‏ بهذا الحجم«‏ يصحّ‏ ح.‏وعن الوضع في ليبيا،‏ تحدّث:‏ ‏»المجتمعاتفي شمال إفريقيا هي األكثرتجانساً،‏ األكثر معرفة بالمطالبالتي تريدها من الحِ‏ راك الذيقامت به،‏ وليبيا تدخّ‏ ل فيهاالعامل الديني فتشبهت بالبلداناألخرى على غِ‏ رار سوريةواليمن ولبنان،‏ وهو العاملالثاني في التحليل؛ ومنالنتائج لألوضاع في تلكالبلدان – لألسف – هو تزايدوتيرة العنف«.‏على الجانب اآلخر،‏ وعنصورة اإلسام في الغرب جيل كيبالوصحوة اليمين المتطرّفواتهاماته المتكرّرة لمسلمي أوروبا،‏ ذكر كيبالأنه:‏ ‏»البدّ‏ أن نحذر من كلمة إساموفوبيا«.‏وواصل:‏ ‏»صحيح هناك من ال يحب اإلسامفي الغرب،‏ طبعاً‏ هناك حرية تعبير عندمايكون الحديث عن اإلسام أو المسيحية أواليهودية،‏ والشيء غير المقبول هو الهجوم علىاألشخاص«،‏ مُ‏ حذراً‏ من االستخدامات المغالطةللمصطلح نفسه.‏جيل كيبال يتحدّث با انحياز.‏ فهو بعيد عنالسّ‏ لطة،‏ ويختلف في عاقاته بقصر اإليليزيهعن نظراء له من مثقّفين فرنسيين آخرين،‏يحمل معه استقاليته في تنقاته بين الدولالعربية،‏ التي تعمّق في فهمها،‏ خصوصاً‏ أنهيمتلك خاصيتين مهمتين،‏ هما استيعاب الثقافةالمحلية وإتقان العربية.‏9


نطفئ النار باألملبنغازي:‏ محمد األصفريعيش مجلس الثقافة العام الليبيفي بنغازي وضعاً‏ صعباً.‏ فهويتعرّض الحتال من عدة جهات العاقة لها بعمل المجلس،‏ فالرواقالتشكيلي حُ‏ وِّ‏ لَ‏ إلى استوديو إحدىالقنوات اإلعامية المحسوبة علىالثوار،‏ ودوره العلوي،‏ اُنتزِعَ‏ تْ‏منه عدة مكاتب من ضمنها المكتبالرئيسي لرئيس المجلس وخصصتإلدارات أخرى ال تتبعه من منظماتمجتمع مدني إلى وزارات صوريةللثقافة،‏ وفي اآلونة األخيرةتعرّض المجلس لهجوم المسلحينلياً‏ ، وحرقوا بعض مكاتبه،‏ مماحدا بموظفي المجلس ولبعضالمبدعين المتعاونين معه لاعتصامبداخله رغم الحرب الدائرة حالياً،‏وحراسته بأنفسهم،‏ ال أسلحة لهمسوى أجسادهم أو كلماتهم العقانيةالتي يقابلون بها أي ميليشيا تأتي.‏من جانبها،‏ إدارة المجلس اتخذتخطوات احترازية،‏ حيث نقلتأرشيف المجلس إلى أماكن آمنة فيبيوت الموظفين،‏ وتم توزيع الكتبالمطبوعة على عدد من األماكن،‏حفاظاً‏ عليها من الحرق بقصد أودون قصد،‏ خاصة بعد احتراق عدةمكتبات في بنغازي،‏ منها مكتبةالفضيل بوعمر،‏ التي تُعد المكتبةاألكبر في المدينة.‏في ليبيا ليس البشر من يعانيفقط،‏ فحتى الكتب،‏ والمواقعاألثري ة،‏ والمعال م الس ياحية،‏ ون واديالفروسية،‏ وكل شيء جميل له معنىتعرّض لاعتداء،‏ مساجد أثرية فيطرابلس،‏ مكتبات تراثية،‏ مراقدأولياء صالحين أو متصوفيين،‏ أوزعماء مسلمين،‏ كل شيء يفرّ‏ منالنار،‏ إلى نار المجهول،‏ آخر الوقائعهي اقتاع تمثال أثري يتوسططرابلس لغزالة وحورية تحمل جرّة،‏في جنح الظام،‏ لتستيقظ طرابلسفي اليوم التالي وقد فقدت غزالتها.‏رغم الحالة المُ‏ تقلّبة التي تعرفهابنغازي،‏ تمكّنا من الوصول إلىرئيس مجلس الثقافة العام األستاذمحمد محيا،‏ الذي رفض مغادرةالمدينة،‏ في هذا الوقت مُ‏ فضاً‏المكوث قرب مجلس الثقافة العام،‏الواقع حالياً‏ في منطقة االشتباكاتقرب الفويهات وأرض بالعون،‏ليحدثنا عن ما يجري حالياً‏ في ليبياوفي بنغازي بالخصوص:‏‏»ما يحدث اآلن في ليبيا وبحكمقراءتنا للتاريخ هو مرحلة منمراحل الثورة التي تندلع بعيداً‏ عنالنخب أية ما تكون هذه النخبعسكرية أم سياسية أم ثقافية أممن مراكز القوى والنفوذ.‏ فما حدثفيما عُ‏ رِفَ‏ بثورات الربيع العربيهو انتفاضات عارمة للجموع علىأنظمة طاغية ديكتاتورية سلبتهاحريتها وكرامتها وصادرتها حقوقهاودمغت المجتمعات العربية بالجهلوالتخلّف.‏ لم يكن ثمة مشروع ثقافيأو حتى نخبوي واضح المعالم لهذهاالنتفاضات.‏ لذلك كان من السهلاختراقها وااللتفاف عليها واالنحرافبمسارها.‏ وهذا ينطبق تماماً‏ علىالثورة الليبية التي لم تكن وليدةانتفاضة فئة أو طبقة أو شريحة،‏ بلتداخلت فيها جميع مكونات المجتمعدون إقصاء وتهميش«.‏وحول موقف مجلس الثقافة العامكمؤسسة نخبوية ثقافية ترصد مايحدث ويفترض أن تتعايش معهأضاف محيا،‏ وهو شاعر أيضاً،‏قضى في سجون النظام السابق أكثرمن خمس عشرة سنة:‏10


‏»المجلس ليس جهة سياسية،‏وليس محسوباً‏ على تيار بعينههو صرح ثقافي معنيّ‏ بالثقافةالليبية بجميع أطيافها ومكوناتهادون إقصاء أو تهميش.‏ وتشهد بذلكجميع األنشطة والبرامج التي نظمّهاأو شارك في تنظيمها غيره أنه كانيتوخّ‏ ى من وراء كل تلك المناشطإثراء الثقافة الليبية«.‏ويواصل األستاذ محيا كامهبنفسية مُ‏ فعمة باألمل واأللم أيضاً:‏‏»المجلس استأنف نشاطه معنهاية عام 2011 وبداية عام 2012وأطلق مهرجاناً‏ طوياً‏ على مدى عامأسماه ‏»مدائن الثقافة الليبية تعانقالحرية«‏ انطلق المهرجان من مدينةبنغازي وانتقل إلى معظم المدنفي الشرق الليبي ‏»درنة - البيضاء– المرج – طبرق«‏ وأجدابيا غرببنغازي.‏ كان المهرجان بمثابة تماسمباشر مع حالة الثورة وتجلياتها عندالمثقفين الليبيين،‏ ورصد ما جادتبه قرائح المبدعين.‏ وكنا نخطط أنيمتد المهرجان إلى المدن الليبية كافةل وال الظ روف غي ر المواتي ة الت ي تم رّ‏بها الباد.‏ والتي أعاقت كثيراً‏ منمشاريع المجلس الثقافية«.‏وفي سؤال عن تأثير األحداثالحالية من احتراب واضطرابونزوح التي تشهدها مدينة بنغازيعلى برامج مجلس الثقافة العامأجاب:‏‏»كان لألحداث المضطربة التيتشهدها الباد بشكل عام ومدينةبنغازي بشكل خاص تأثيرها أيضاً‏على األعمال اليومية للمجلس بعداقتحام مقره ومحاولة إشعال النيرانفيه،‏ علماً‏ بأن المقر في مدينةبنغازي يشتمل على مخازن كبيرةتضم مئات العناوين وآالف الكتبالتي قام المجلس بنشرها خالعشر سنوات من تاريخ تأسيسهمطلع 2000. كما شارك المجلس فيتنظيم عديد اللقاءات الثقافية حولالدستور الليبي القادم في عديد المدنالليبية بمشاركة متخصصين بارزينمن داخل ليبيا وخارجها.‏ كذلك دعمالمجلس إعداد مقترح موسع حولحضور المكوّ‏ ن الثقافي في الدستورالليبي الجديد واحترام األطيافالثقافية كافة،‏ وتمّ‏ في هذا الخصوصإطاق عدة مبادرات ثقافية تستلهمكثي راً‏ م ن التج ارب العربي ة والعالمي ةالرائدة ذات الدساتير العريقة«.‏وعن خطط المجلس القادمة فيالمجال الثقافي يُعلّق المتحدث نفسه:‏‏»خال الفترة القريبة القادمةومع تحسن األوضاع األمنية بمشيئةاهلل سيستأنف مجلس الثقافة العامنشاطه على مساحة أوسع ومدىأرحب كي يسهم في تأسيس منظومةثقافية وطنية حقيقية تستوعبجميع مكونات المجتمع الثقافيةوتأكيد اللحمة االجتماعية لجميعالليبيين واحترام قضية التنوّ‏ عكمصدر قوة ومنعة للنسيج الوطنيالثقافي وإرساء القيم اإلساميةالوسطية المبنية على الحكمةوالحوار والتسامح واحترام اآلخر.‏إن غياب المشروع الثقافي الوطنيطيلة العقود السابقة هو المسؤولعن حالة التردي التي تشهدها البادلغي اب المرجعي ة الثقافي ة الت ي تجم عوال تفرق،‏ تبني وال تهدم،‏ تعليالفنون واآلداب،‏ وتنحاز للشعروللموسيقى ولكل ما هو جميل.‏كي تنهض ليبيا الجديدة بمعزلعن التطرّف واإلقصاء واإللغاءوالتهميش،‏ دعني أقل:‏ سنطفئ النارباألمل«.‏11


كثر الحديث في اآلونة األخيرة حول الهوية الثقافية الفلسطينية،‏والتي تعرضت لضربات عدة طالت كل مفاصلها تقريباً،‏ والمتمثلةفي وحدة األرض والبيئة والسكان ومدى قدرتها على تعزيز الصمودالفلسطيني.‏مقاومة ثقافية بامتيازغزة:‏ عبداهلل عمررغم تعدّد الصعوبات،فإن الشبابالفلسطيني لم ييأس وواصلاشتغاالته في األدب والفن والمسرح،‏ليثبت بطان المفهوم الذي يشيرإلى أن الثقافة بحاجة لمجتمعاتمستقرّة،‏ ال تهدّدها الحروب إلنتاجثقافة ذات مستوى وأهداف فاعلة.‏األستاذ الجامعي الدكتور كمالالشاعر يرى أنه وفي زحمةالتحديات والصعوبات الراهنة،‏سواء أكانت بسبب احتال دَ‏ مّ‏ رالبنية التحتية للمجتمع الفلسطينيأم حصار يطال قطاع غزة،‏ مع عزلهعن العالم وعزل المثقفين والشعراءعن التفاعل وحضور المهرجاناتالثقافية في الدول المجاورة،‏ يبرزمن رحم هذه المعاناة فن وأدب.‏ويضيف الدكتور الشاعر:‏ ‏»بحسبإحصاءات ودراسات فإن حجممشاركة شباب غزة في المواقعااللكترونية والمجموعات المؤثرةعالٍ‏ جداً،‏ كما أن نسبة القراءةفي القطاع مرتفعة مقارنة مع دولالجوار«.‏وحول المعوقات التي تتحدىتطوّ‏ ر الفعل الثقافي في فلسطينإجماالً‏ أضاف المتحدث نفسه:‏ ‏»منالافت للنظر أن فلسطين تستعيضعن غياب البنية التحتية الثقافيةمن خال تشكيل المجموعات الثقافيةالمتخصِّ‏ صة في الفن التشكيليوالمسرح واألفام السينمائية،‏حيث أصبح هناك انفتاح علىثقافة الصورة من خال اإلنترنتوالفضائيات،‏ ونجد اليوم فنانينتشكيليين يحتلون مكاناً‏ فاعاً‏ومؤثراً،‏ وهناك فرق عروضمسرحية وأفام سينمائية تشاركفي العديد من المهرجانات العربية«.‏ويتابع:‏ ‏»بات واضحاً‏ محاوالتاالحتال اإلسرائيلي سرقة هويتناالوطنية،‏ وخاصة بعد حالة االنقسامبين غزة والضفة الغربية وتداعياتهفي شقي الوطن الواحد،‏ فحاجةالمجتمع الفلسطيني الستراتيجيةثقافية واضحة وآمنة ال تقل عنالحاجة الستراتيجية أمنية أوسياسية،‏ ألن ما جرى ويجري فيقطاع غزة ليس إال اختراقا للثقافةالوطنية،‏ فالهوية والثقافة الوطنيةالفلسطينية هما ذاكرة الشعبالفلسطيني وضمان مستقبله،‏ هماتقاليده ولهجته ، لباسه ومعاناته،‏مشاعره وأحاسيسه المشتركة،‏ورموز أخرى يجب استحضارهاعند غيابها،‏ وخلقها إن كانت غيرموجودة«.‏من جهته،‏ قال الدكتور ناجيشراب متحدثاً‏ عن تأثير االنقسامعلى الثقافة في قطاع غزة:‏ ‏»إنالحالة الثقافية في قطاع غزة تثيرالدهشة بكل ما تحمله الكلمة منمعنى،‏ فرغم الحصار الذي فُرِضَ‏على القطاع منذ بداية االنقسامالسياسي وعزل القطاع عن باقيالوطن والدول المجاورة،‏ كان منالمتوقع أن تتدهور الحالة الثقافيةاو تتأثر بهذا الحصار والعزلالجغرافي،‏ ولكن فاجأنا مستوىالتمسك من المثقفين والفنانينَ12


بدمج أنفسهم في التطور الثقافيعل ى كل المس تويات،‏ س واء أكان ه ذاف ي الع روض المس رحية أم األمس ياتالشعرية أم حتى الندوات الثقافية،‏متحدين كل المشاكل الجغرافية أوحتى الفكرية الناتجة عن الحصار«.‏ولم يُخْ‏ فِ‏ الدكتور شراب قلقه منالوضع الراهن الذي يتناول الكثيرمن جوانب الثقافة،‏ ويتابع:»رغمالمستوى الرائع لاهتمام فيالمستوى الثقافي للمفكرين واألدباء،‏إال أننا نسجل تضييقاً‏ على الشعروالف ن ف ي ه ذه الفت رة،‏ خصوص اً‏ أنالحرية الثقافية تشكل عاماً‏ مهماً‏وأساسياً‏ في اإلبداع بكل المجاالت«.‏لي س غريب اً‏ عل ى المتاب ع للوض عالسياسي وتداعياته االقتصاديةأن يُحدّد أسباب انهيار عدد منالمؤسسات الثقافية الفلسطينية فيمناطق السلطة الفلسطينية بسببضعف التمويل أو انعدامه،‏ بينمايعاني الجزء اآلخر من وضعٍ‏متردٍ‏ في النشاطات والفعالياتوالمشروعات لذات السبب،‏ والبعضالمتبقي منها ينشط بمساعدة منبرامج أجنبية غير حكومية.‏وهذا ما أكده الدكتور ياسر حربعندما تحدّث عن التقرير الصادرعن وزارة الثقافة الفلسطينيةعام 2012. ‏»وقف تقرير الوزارةعلى حقيقة خطيرة وهي أنميزانية الثقافة الرسمية ال تتجاوز% 2 من ميزانية السلطة،‏ بينماتنعدم أي مُ‏ خصصات من الوزارةللبنية الثقافية أو مشاريع أنشطةوطنية،‏ كما تعاني معظم الفصائلالفلسطينية من حالة جفاف ماليأدى إلى تحويل مُ‏ خصصات الثقافةلديها إلى تمويل بند الرواتب وبنودأساسية أخرى لديه«.‏ويضيف الدكتور حرب:‏ ‏»عندماتفتق ر الس لطة الفلس طينية االس تقالاالقتصادي فهي بالنتيجة ستفتقرلاستقالية الثقافية،‏ وستخضعبطبيعة الحال لسياسات الدولالمانحة والممولة«.‏ وحتى الصحافةأيضاً‏ باتت خاضعة الشتراطاتالجهات الممولة.‏وعلى أية حال،‏ تبقى الثقافةهي رديفة الحرية،‏ ألن الثقافة التنمو بشكل سليم إال حيث تنموالحرية،‏ وال شك أيضاً‏ في أن كلسلطة،‏ وخصوصاً‏ في عالمناالعربي،‏ تسعى إلى تحويلالمثقفين ألدوات أو أبواق تبرّروتجمِّل سياستها،‏ ومن سوء حظالمجتمع الفلسطيني،‏ وهذه السياسةمتبعة تجاهه من سلطات خارجيةأخرى ألهداف محددة،‏ إال أن هذاالحال يجب أن تتعامل معه حكومةفلسطين بوطنية بحتة،‏ حيث التسمح بأن تكون الثقافة الوطنيةمحل تهديد،‏ وتكون السلطة جزءاً‏ منالمش روع الوطن ي المق اوم لاحت ال،‏ويجب إعادة صياغة العاقة بينالسلطة الوطنية والمشتغلين بالمجالالثقافي.‏ ومن ثم في الوقت الذينتمنى فيه من السلطة أن تعيد النظرفي رؤيتها ألهمية الثقافة والفعلالثقافي،‏ يُطلَب أيضاً‏ من المثقفين أنيعيدوا النظر في تصوراتهم للعملالثقافي.‏13


الثقافة .. أنثىصنعاء : جمال جبرانلم تكن السيّدة أروى عبدهعثمان )1967( تعلم،‏ عندما قرّرتفي 2010 إغاق ‏»بيت الموروثالشعبي اليمنيّ‏ «، الذي كانت قدأسّ‏ سته بهدف الحفاظ على التراثالمحليّ‏ وتنوّ‏ عاته،‏ وذلك بعد عجزهاعن تدبير مصادر تمويل ألنشطتهوالحفاظ على أبوابه مفتوحة فيطريق رفد الثقافة اليمنية.‏ لم تكنّ‏أروى تعل م،‏ عندم ا ق رّرت ذل ك بأنه استكون،‏ بعد أربعة أعوام وزيرةللثقافة في اليمن.‏قد تبدو حكاية هذا الخبر شبيهةبتلك اللحظة المستحيلة التييصادفها قارئ لرواية غرائبية عندمايج د أحداثه ا وق د انقلب ت كلّي ة لتتخ ذلها،‏ في نقطة معينة،‏ مساراً‏ مختلفاً‏للغاية عن تلك البداية التي كانتلها.‏صدر،‏ مؤخراً،‏ قرار رئيسالجمهورية اليمنيّة،‏ بالموافقة علىتشكيلة الحكومة الجديدة،‏ التي جاءفيها اسم أروى عثمان لتولّي حقيبةالثقافة.‏ وعليه؛ صارت هذه الباحثةفي الموروث الشعبي والناشطة فيالحقل الثقافي اليمني،‏ والتي فشلت– لقلّة الموارد – في الحفاظ على‏»بيت الموروث الشعبي«،‏ مشروعحياتها الهادف للحفاظ على التراثالشعبي وتنوّ‏ ع مصادر الثقافةالمحليّة واحترام منابعها األصلية،‏لقد صارت على رأس أرفع هيئةثقافية في بلدها.‏وما يزال كثيرون من العاملينفي المجال الثقافي اليمنيّ‏ يتذكرونذلك البيان الذي أصدرته أروىعثمان بخصوص قرار إغاق بيتالموروث بعد ستة أعوام على‏»مشوار المعاناة وعلى مغامرةاإلنجاز ومحاولة عرض وإبرازتراث التنوّ‏ ع والتعدّد في اليمن،‏ لميعد بمقدور المبنى المُ‏ تهالِك الصمودبوجه موجة األمطار الشديدة التيكانت قوية على البيت وكان تأثيرهابالغاً‏ على معروضاته من تحفوأزياء وصور وكتب،‏ عاوة علىأساك الكهرباء التي أصبح وضعهاحرجاً‏ للغاية«.‏وأضافت في بيانها ‏»لكننا لننستسلم وسوف يظلّ‏ باب األملمفتوحاً،‏ فالمستقبل كفيل بإتاحةالمخارج والفرص واإلمكانيات..‏ ألنالحاجة لحفظ هذا الموروث وحمايتهتعادل حاجتنا للدفاع عن حقنافي الحياة والوجود على األرض،‏وبإسماع صوت التنوّ‏ ع والتعدّدواالختاف،‏ بما هو صوت الحياة«.‏لع لّ‏ أروى عثم ان كان ت تقص د آن ذاكهذه اللحظة التي جاء فيها قرارتسلّمها مهام وزارة الثقافة.‏وكما كان منتظراً،‏ فقد أحدثقرار تعيين هذه الناشطة فيالحقل الثقافي حقيبة الوزارةأص داءً‏ واس عة،‏ انقس مت بي ن مُ‏ رحِ‏ بورافض له،‏ على اعتبار أنها المرةاألولى التي تجلس فيها امرأة14


أروى عبده عثمانعلى كرسي أرفع هيئة ثقافية فياليمن.‏ المرحبّون بالقرار اعتمدوا فيابتهاجهم به على معرفتهم القويةبشخصية الوزيرة الجديدة،‏ وهيالتي أتت إلى هذا المنصب عبرسيرها الطويل على طريق العملالثقافي ووجودها الفعلي بداخلهكعنصر مؤثر،‏ وكذلك اإلصداراتاألدبية والبحثية التي أنتجتهاوالمقاالت األسبوعية الثابتة التيداومت على نشرها في مختلفالصحف اليمنيّة وكان يغلب عليهاصوتها المُ‏ طالِب بحرية الناسفي القول والتعبير عن انتماءاتهمالثقافية الخاصة وضرورة إشاعةفكرة التسامح وتأكيد دور المرأةوحقها في الحضور ككيان مستقلّ‏بعيداً‏ عن هيمنة السلطة الذكوريةوسيطرتها في المجتمع.‏في حين صدرت األصواتالرافضة من جبهة عريضة،‏تصدّرتها أصوات محافظة أعلنتبأن الحكومة الجديدة هي ‏»حكومةراقصة«،‏ وذلك في إشارة لصورةت م تداوله ا بش كل واس ع تظه ر أروىوهي ترقص في وسط تجمع شبابيبأحد شوارع العاصمة صنعاءوتعليقات رافضة لهذا الفعل وقولهمإنه يتصادم مع الثقافة المحليّةاليمنية.‏ لكنّ‏ لم تتم اإلشارة خالتلك التعليقات والتداوالت الرافضةإلى أن تلك الصورة قد تم التقاطهامن فعالية احتفالية ضمن احتفاءشباب من الحزب االشتراكي اليمنيبذكرى الثورة اليمنيّة.‏ لقد تماالكتفاء باإلشارة إلى فعل الرقصمجرداً‏ ومجتزأ السياق الوطني الذيجاء فيه وأنه كان في مكان عامومفتوح.‏قد تبدو في هذه الواقعة أولىاإلشكاليات التي ستكون وزيرةالثقافة الجديدة في مواجهتهاوهي تضع برنامجها الثقافيواالستراتيجية التي سوف تمشيعليها في قادم األيام ومواجهةتلك القوى المحافظة التي ترى فيالرقص فعاً‏ فاضحاً‏ يستحق المنع،‏فكيف سيكون الحال ومن قام بذلكالرقص سيّدة ال تحرص على وضعغطاء على رأسها؟.‏ ومن المفارقاتالافتة أن أروى عثمان كانت وقبلأيام قليلة من صدور قرار تعيينهاوزيرة للثقافة في اليمن قد تقدمتبباغ للنائب العام ذكرت فيهتعرضها وبناتها لتهديدات صريحةبالقتل والتصفية عبر وسائلوصلتها من قبل عناصر مسلحة.‏وعلى هذا وبداخل هذا الواقعالثقافي والسياسي الملتبس والمعقدسوف يكون على وزيرة الثقافةاليمنية الجديدة أروى عثمان أنتضع استراتيجيتها التي ترىأن الفنون،‏ من رقص وموسيقىوتشكيل هي جزء أساسي منها،‏ومن ثم سيكون عليها أن تبذلأكثر من جهد،‏ لفرض تصوّ‏ رها أوالً‏ولمقاومة األصوات الرافضة ثانياً،‏وتأكيد أن تلك الرؤية نابعة منصلب وأصل الثقافة اليمنيّة التيعُ‏ رفت بها من عصور ماضية أيامكانت تلك الثقافة سبباً‏ في إطاقاسم ‏»اليمن السعيد«‏ عليها.‏ولعلّ‏ اإلشارة هنا واجبةلمصادفة الفتة تزامنت مع ظهورإعان قرار تعيين أروى عثمانلتكون وزيرة للثقافة في وقت كانتهيّ‏ خارج اليمن،‏ في برلين تحديداً،‏لحضور حفل تسلّمها جائزة منظمةالهيومان رايتس ووتش.‏ وفي حفلتسلُّم الجائزة قالت أروى في كلمتها‏»هذه ليست جائزتي وحدي،‏ جائزتناو..‏ لكل إنسان ال يركن على قوتهالعضلية والرصاص،‏ بل بالقلموالمعرفة واالنتصار لحق الحياة.‏سأظلّ‏ أقف مع اإلنسان،‏ مع التنوّ‏ عوالتعدّد واالختاف وحرية األديانوالمعتقد والضمير والقلم،‏ والمعمل،‏والموسيقى،‏ والغناء والرقصة،‏والمتحف،‏ والعقل والمعرفة،‏والطين،‏ واإلبرة،‏ واللون،‏ وحقوقالنساء حتى ينتهي التمييز والعنفضدهن«.‏15


في معرض بيروت للكتابخيبات قارئ نهمبيروت-‏ نسرين حموديأبى معرض بيروت العربيالدولي للكتاب )28 نوفمبر/تشرينالثاني-‏ ‎11‎ديسمبر/كانون األول(‏ فينسخته الثامنة والخمسين أن يتخلّىعن طقوسه!..‏ال يشعر قارئ نهم أن زيارتهالمعرض في ‏»بيال«،‏ وهذا األخيرعنوان هامشي في المدينة،‏ واقععند واجهتها البحرية المُ‏ ستحدّثة،‏وغير متصل بجلبتها،‏ وبمساراتيومياتها،‏ كما يصعب بلوغه بوساطةسيارة أجرة من ضواحي بيروت،‏ال يشعر أنّه ولّى قبلة ثقافية،‏ أوشارك في نقاش أمرٍ‏ يعنّ‏ بباله،‏ أوحتى شارك في لقيا ثمينة تستأهلاالنتظار عاماً...‏ال يشعر هذا القارئ أن زيارة‏»المع رض«‏ تخ رج م ن إط ار المش اركةفي عمليات شراء بعض العناوين،‏التي يمكنه إيجادها على مدار العامفي مكتبات المدينة،‏ التي يحفظعناوينها عن ظهر قلب،‏ ذلك ألنالقيمين على هذه الفعالية الثقافيةقصروا مهمتهم في جمع دور عربيّةتحت سقف واحد،‏ علماً‏ بأن هذهاألخيرة تنقص عاماً‏ بعد عام فيه.‏هناك،‏ حين يتحدّث هذا القارئالنهم وأصحاب هذه الدور،‏ يسمعتملماً‏ من ‏»تهجير«‏ أجنحة بعضهمإلى بقع غير جذابة ال يقصدهاالزائرون ضمن مساحة ‏»المعرض«!‏يسمع تكرار الشكوى من ارتفاعقيمة بدالت هذه األجنحة،‏ ومنالفوضى العارمة صنو هذا النشاط!‏ولهذه الفوضى نماذج:‏ أولها المباالةموظفي ‏»المعرض«‏ في جمع إيصاالتالكتب المشتراة من قبل الزائرين،‏خصوصاً‏ حين يطول خط المنتظرينعند باب الخروج،‏ ما يجعلالتشكيك في النشرة الصادرة عنالكتب األكثر مبيعاً‏ في خاله مبرراً،‏وثانيها ما يرافق بعض الندواتالمنظمة من هنّات كانت استتبعتفي دورات سابقة نقلها إلى أمكنةأخرى خارج نطاقه،‏ وثالثها ضياعالمرء بين األجنحة غير الموزعةبدراية،‏ وليس آخرها تصميم الرفوفالخاصة بقصص األطفال بصورة التناسب أطوالهم،‏ وعدم تمييز هذهالفئة بنشاطات تدفعها إلى االنضماممستقباً‏ إلى نادي القرّاء العرب،‏ أوترغبها في الكتاب العربي ‏)ليستمبالغة دعوة إدارة هذا المعرضإل ى زي ارة ‏»صال ون الكت اب الفرنس يببيروت«‏ السنوي لاطاع عنكثب على كيفية جذب األطفال إلىالقراءة!(.‏وهناك،‏ يتساءل هذا القارئ عمّايحول دون أن يُجدّد القيّمون علىهذا ‏»المعرض«،‏ ممثّلين في ‏»الناديالثقافي العربي«‏ و»نقابة اتحادالناشرين في لبنان«‏ في مقاربتهملهذا النشاط الثقافي ليغدو مساحةحقيقية للتاقي،‏ وعن سبب تمسكهؤالء باختصاره في ‏»بسطات«‏ كتبذات أسعار منطقية،‏ بدون إغفالخاصيّة وحيدة محمودة ومثيرة16


للدور العربية في ‏»معرض بيروت«،‏وهي كفّ‏ بصر الرقيب اللبناني فيالتدقيق في العناوين التي تطبعها،‏بخاف ما يفعله ‏»زميله«‏ فيمعارض مجاورة..‏ إال أنّ‏ هذه الميزةلبيروت ال تنسحب على نشاطاتأخرى موازية ل»سوق الكتاب«‏ في‏»بيال«،‏ كالندوات والمحاضرات،‏التي تبدو بعيدة كل البعد عن طرحإشكاليات خارج السياق،‏ بل تبغيحصر دورها في ‏»كليشيهات«‏ الثقافةوالسياسة واالجتماع..‏ إذ يعجز هذاالقارئ عن الوقوع على عنوان جاذببينها،‏ وهي السابحة في البحث عن‏»التلفزة المعاصرة«،‏ مثاً‏ ، أو في‏»أسباب إسام المفكرين في الغرب«!‏أو في ‏»دليلك إلى الجمال«‏ في هذهالدورة..‏ وهي المغالية كذلك فيالبحث عن علوم ‏»اإليزوتيريك«‏ أوالباطن اإلنساني في محاضراتثاث!!!‏يقلّب القارئ النهم الصفحاتالمُ‏ علَنة عن مواعيد هذه الفعالياتوالمجردة من ‏»قنص«‏ حشريته،‏فيعجب من ‏»استخفاف«‏ القيّمين على‏»معرض بيروت الدولي للكتاب«‏بفئة الشباب،‏ عندما يدعون إلىهذا الموعد الشتوي السنوي،‏ ويفكرما إذا كان يعني هؤالء دعوة بعضالكتاب طريي العود للحديث عنبواكيرهم،‏ أو جمع بعض الشباب معناشرين للبحث في الموانع الحائلةدون إصدار بعضهم كتب موهوبينبتكاليف معقولة،‏ بدون أن يتحوّ‏ لهؤالء الشباب أو المؤلفين عموماً‏ إلىعاملين في مجال العاقات العامةبغية تسويق نتاجهم الكاسد!..‏وهناك،‏ تشبه حفات تواقيعالمؤلفات حلبة ‏»سيرك«‏ بفقراتمنوّ‏ عة،‏ يجذب بعضها الخاصبأسماء المعة مهتمين،‏ فيما بعضهااآلخر ال يستقطب سوى جمع محدود،‏ولو أن ضيق يد مؤلفين يدفعهم إلىتكرار توقيع نتاجهم في غير دورة!‏هذه الحفات ال تخرج من إطاراللياقات االجتماعية المُ‏ تعلّقة فيتلبية الدعوات،‏ فا تستتبع نقاشاتفي مضامين مادة التوقيع،‏ ولو أنهذه األخيرة،‏ وخصوصاً‏ المعاصرة،‏غثة في جُ‏ لّ‏ األحيان،‏ وتحاكي عالمالتواصل االجتماعي االفتراضي!‏وإذا كانت الموضوعية تقتضيعدم القفز عن استذكار الدورةالحالية للمعرض الشيخ عبد اهللالعايلي في مئويته،‏ والشاعر بدرشاكر السياب في غيابه الخمسين،‏يخيّل إلى القارئ النهم أن دعوةالتامذة من الثانويات الرسميةللتعرّف على ‏»شاعر الحياة«،‏وتوزيع بعض دواوينه عليهم مجديةأكثر من اإلطناب في سيرة قائل:‏‏»نفسي من اآلمال خاوية/‏ جرداء الماء وال عشب/‏ ما أرتجيه هو المحالوما/‏ ال أرتجيه هو الذي يجب«.‏فه ل يص ح ه ذا االقتب اس م ن الس يابناظ م ‏»نف س وقب ر«‏ عل ى أح وال ه ذه‏»الفعالية البيروتية«،‏ ولو من بابالمجاز؟!‏في الدورة 58 من ‏»معرض بيروتالدولي للكتاب«،‏ وبعد الضيق منالكام المكرور المرافق لها المحتفيبدور بيروت،‏ وبريادتها الثقافية فيالمنطقة العربية،‏ وبأهمية انعقادهذه ‏»الفعالية«‏ في ظلّ‏ األزماتالراهنة..‏ يحق لهذا القارئ النهم أنيبحث عن االتساق بين هذه الدورة- التي تحيل كما سابقتها،‏ فاألسبقإلى زمن الثمانينيات-‏ وهدف ‏»الناديالثقافي العربي«،‏ كما هو معلن عنهفي صفحته اإللكترونية:‏ ‏»اإلسهام فيالحياة العربية وتنشيطها،‏ واإلسهامفي الحياة الثقافية اللبنانية،‏ ودفعطاقاتها العلمية واألدبية والفنيةواالجتماعية وغيرها،‏ بغية تطويرالمجتمع اللبناني وايساء ‏)إرساء(‏قواعد االنصهار الوطني«!‏ ويحق له،‏أيضاً،‏ أن يضحك للمبالغات في رسماألدوار واألهداف من قبل عاجز عنمواكبة أبسط تغيرات عالم الثقافةمن القارئ اإللكتروني،‏ إلى المواطنالرقمي،‏ وأن يتململ من عدم إيفائهحقّه كلما زار هذا المكان!‏17


موريتانيا وأزياؤهانواكشوط:‏ عبد اهلل ولد محمدويُعد الزي التقليدي الموريتانيميسماً‏ خاصاً‏ وعامة مُ‏ ميّزة لشعبعاش في صحراء مُ‏ ترامية األطراف،‏حيث تتقاطع ثقافات عربيةوإفريقية،‏ وهو ما يجعل فرضياتاألصول مفتوحة،‏ لكننا ال نبالغ إذاقلنا إن كثيراً‏ ممن يرتدون هذا الزييجهلون أصوله التاريخية وجذورهالثقافية،‏ وما عرفه من تطوّ‏ ر عبرالعصور.‏وتفيد مصادر التعريف التراثيةمن معاجم وغيرها أن زي الرجلالموريتاني ‏-الدُّراعة-‏ ومثلها أو قريبمنها ثياب فسرت بها كالجُ‏ مّازةوالجُ‏ بة والقباء والفروج والنمرة- ثوبٌ‏ ذو أكمام يجتاب من جهةالرأس،‏ جيبه أمامه مع وجود فتحةمن األمام أو الخلف،‏ وهذا الثوبخارجي مخيط للجسم كله كما فيحاشية ابن القيم..‏ ونبه بالقميصعلى ما فصل للبدن كله من جبة أو‏»دُّراعة«.‏وقد بدأت الدُّراعة فيما يظهر ثوباً‏ضيقاً‏ طابعه التشمير والبساطة،‏ولكن هذه الصفات تعرّضت لسُ‏ نّةالتطور،‏ فأصبحت فيما بعد ثوباً‏فاخراً‏ فضفاضاً‏ واسعاً؛ يدلنا علىذلك ما ورد في تاريخ الطبري منقول معن بن زائدة ‏»دخلت علىالمنصور ذات يوم وعلي دُّراعةفضفاض ة وس يف حنف ي أقرع بنعل هاألرض وعمامة قد سدلتها من خلفيوقدامي«.‏زي الملوكرافق ازدهارَ‏ الحياة االقتصاديةفي المجتمعات العربية القديمة تمايزٌ‏في الزي،‏ فقد أصبح لكل طبقة زيخاص بها،‏ ويبدو أن الدُّراعة كانتزياً‏ مميزاً‏ للخلفاء،‏ يتضح ذلك مماحكاه الجاحظ في كتابه ‏»البيانوالتبيين«‏ حيث قال:‏ ».. ولكلقوم زي فللقضاة زي،‏ وألصحابالقضاة زي،‏ وللشرط زي،‏ وللكتّابزي،‏ وأصحاب السلطان ومن دخلالدار على مراتب؛ فمنهم من يلبسالمبطن ة؛ ومنه م م ن يلب س الدُّراع ة؛ومنهم من يلبس القباء«.‏ ويؤكدما قرره الجاحظ حديث الطبريفي تاريخه عن الخليفة المخلوعمحمد بن هارون،‏ حيث قال فيأخباره:‏ ‏»ولبس ثياب الخافة دُّراعةوطيلسانا والقلنسوة الطويلة«‏فهذا صريح في اعتبار الدُّراعة منثياب الخافة.‏ وفي تاريخ الطبريكذلك ورد أن الخليفة الواثق«‏ لماتوفي حضر الدار أحمد بن أبي دؤادووصيف وعمر بن فرج وابن الزياتوأحمد بن خالد أبو الوزير فعزمواعلى البيعة لمحمد بن الواثق وهوغام أمرد فألبسوه دُّراعة سوداءوقلنسوة فإذا هو قصير فقال لهموصيف:‏ أما تتقون اهلل ؟ تولون مثلهذا الخافة،‏ وهو ال تجوز معهالصاة!‏فكأن في لباس الدُّراعة والقلنسوةتولية لهذا الطفل منصب الخليفة،‏وأذاناً‏ بارتقائه مرتقى الحكم،‏ فهذاالثوب سبيل إليه وهو عليه دليل.‏وربما لبسها بعض القضاة،‏ فقدكان الشعبي،‏ كما ورد في الطبقاتالكبرى يلبس الدُّراعة.‏والختصاص الملوك بالدُّراعة18


كانت تتخذ من الثياب الفاخرة،‏وتوشى بالجواهر الثمينة،‏ تماماً‏ كمايوشيها الموريتاني اليوم بصنوفالتطريز،‏ ولذا علت منزلتها،‏ وغاثمنها،‏ فقد تواترت الروايات الدالةعلى نفاستها،‏ كما نُقِلَ‏ إلينا فيكتاب سير أعام النباء من خبرالوزير ابن بلبل،‏ فقد قيل ‏»إن فتاهناوله مدة بالقلم،‏ فنقطت علىدُّراعة مثمنة،‏ فجزع،‏ فقال له:‏ التجزع ثم أنشد:‏إذا ما المسك طيّب ريح قومكفاني ذاك رائحة المدادفما شيء بأحسن من ثيابعلى حافاتها حِ‏ مم السوادولوال أن للدُّراعة ثمناً‏ غالياً‏وقيمة كبيرة لما جزع هذا الفتىلنقطة أصابت الدُّراعة.‏والذي يظهر أن الموريتاني قد زادبنيقتين في عرض الدُّراعة:‏ بنيقةفي الجانب األيمن وبنيقة في األيسرحتى آلت إلى هذه السعة وجعلهامفتوحة من اليمين واليسار بعد أنكانت الدُّراعة القديمة مفتوحة مناألمام أو الخلف.‏وفي ما يخص زي المرأةالموريتانية أي ‏»الملحفة«،‏ فإن أغلبالمصادر التراثية تتحدث عن هذاالثوب أو مرادفاته كالماءة والريطةوالجلباب واإلزار والمرط والمشمالوالمسفرة باعتباره ثوباً‏ نسائياً‏مميِّزةً‏ بين عدة معانٍ‏ للملحفة هيداللة اللحاف كغطاء للبرد؛ وداللةااللتحاف كطريقة في اللبس،‏إضافة إلى داللتها كثوب للمرأة،‏وهي عبارة عن فلقتين مخيطتين،‏تخله المرأة بخال.‏والملحفة دثار ملبوس فوقالشعر الداخلية،‏ يرتبط بخروجالمرأة؛ يقول زكريا بن محمداألنصاري في كتابه أسنى المطالب:‏‏»والملحفة ثوب لخروج المرأةتلبسها فوق الثياب الداخلية«.‏وتُعد الملحفة الزّيّ‏ الوحيد الذييرتضيه المجتمع للمرأة الموريتانية،‏فا يسمح لها بارتداء ثوب آخر،‏سواء أكانت عاملة في مكتب أمراقصة في حفل موسيقي،‏ وبالرغممما امتاز به هذا الزي النسائيمن بساطة في تفصيله وثباتنسبي في طابعه العام إال أن المرأةالموريتانية قد توسعت في زخرفتهبشتى األشكال واأللوان،‏ ومنالافت لباس المرأة الموريتانيةملحفة سوداء في فرحها،‏ تتبدلبحسب األحداث والمناسبات.‏19


الصَّ‏ وت والصّ‏ دىسعيد خطيبيثاثة أيّام كانت كافيّة لتنقلبوركينا فاسو الهادئة،‏ من قبضةسُ‏ لطَ‏ ة مُ‏ طلقَة إلى يد سُ‏ لطَ‏ ة توزّ‏ عأحاماً‏ بالتّقسيط.‏ فجأة،‏ في غفلةمن أعين المتتبعين،‏ انتفضالشّ‏ ارع البوركينابي،‏ في صورة لمنَعْ‏ تَدْ‏ عليها في المشهد اإلفريقي،‏وأعلن هذا البلد المُ‏ حاصر بجغرافيامُ‏ تشظيّة،‏ وتاريخ كولونيالي مُ‏ نهك،‏عن قناعته بالتّغيير.‏الحكم على االنتفاضةالبوركينابية اآلن،‏ ومحاولة تشبيههابالرّبيع العربي،‏ يبدوان محاولةمتسرعة،‏ فالغليان ما يزال مُ‏ ستمراً‏وسيبقى كذلك،‏ على األقل خالالنّصف األول من السّ‏ نة المقبلة،‏ونتائجه لم تُحسم،‏ لكن تاريخ 31أكتوبر/تشرين األول 2014، سيبقىلحظة فارقة في تاريخ البلد،‏فيومها شهدت العاصمة واغادوغونهاية الرجل القوي:‏ باز كومباوري)1951(، الذي دام حكمه 27 عاماً،‏ أيمن ذ 1987، بع د انقاب ه عل ى الرئي ساألسبق توماس سانكارا.‏ ذات خميسمن شهر أكتوبر/تشرين األول سقطسانكارا،‏ أو تشي غيفارا األسمر،‏وفي خميس من أكتوبر/تشريناألول أيضاً‏ سقط غريمه التاريخيكومباوري،‏ ودخلت بوركينا فاسو،‏ذات الغالبية المسلمة،‏ المنزوية فيخانة الدول األكثر فقراً،‏ مرحلةجدي دة،‏ مُ‏ علِنَ ةً‏ ب دء تح وّ‏ ل أس مر ربم اسينتقل إلى بعض دول الجوار،‏ ففيباد نازي بوني،‏ صاحب ‏»غسقاألزمنة القديمة«‏ تظلّ‏ االحتماالتمفتوحة.‏ال شيء كان ينبئ بتصعيد سريعفي العاصمة واغادوغو:‏ شوارعهاالواسعة،‏ غير المُ‏ هيأة في جُ‏ لّها،‏المكتظة بضجيج الدّراجات الناريةوقليل من السّ‏ يارات الفارهة،‏وساحاتها حيث ينتشر باعة متجوّ‏ لونويتسكّع مارّ‏ ة تظهر على مامحوجوههم معاناة عميقة،‏ كانت تبدوراضية بوضعها قبل أن يقرّر الرئيسكومباوري تعديل الدستور،‏ والترشّ‏ حلعهدة رئاسية جديدة،‏ وهي اللّحظةالصّ‏ ادمة التي حدّدت بداية المواجهة،‏بين معارضة،‏ حشدت إلى جانبهااآلالف من المواطنين،‏ وسلطة أظهرتعجزاً‏ عن المقاومة،‏ وتشتتاً‏ فياتخاذ رأي ثابت.‏في صورة مُ‏ شابهة لما حصلفي تونس نهاية 2010، خرجالبوركينابيون بشعار واحد:‏»!dégage« ‏)ارحل!(،‏ كما لو أنالشّ‏ عار نفسه صار بدياً‏ عن أكثر منعقدين من الكبت السياسي،‏ ومرادفاً‏مختصراً‏ لقاموس من االحتجاج..‏شعار رافقته صورة زعيم،‏ يحنإليه البوركينابيون:‏ توماس سانكارا.‏المرسيدس ورونو‎5‎منذ استقالها عن المستعمرالفرنسي )1960(، عرفت بوركينا فاسو‏)فولتا العليا سابقاً(‏ مسلسل انقاباتعسكرية،‏ ولم تَرْ‏ تَحْ‏ من الشدّ‏ السياسيبين السلطة والمعارضة إال قلياً‏ .خال السنوات الثاثين الماضية،‏اسم واحد ظَ‏ لّ‏ يتردّد على األلسن،‏كمُ‏ خلِّص لم يحظَ‏ بالوقت الكاملإلتمام مشروعه النّهضوي:‏ توماسسانكارا 1947( - ،)1987 القارئالمولع بفاديمير لينين،‏ وكتابهالشهير ‏»الدّولة والثورة«،‏ والذي حكمالباد أربعة أعوام فقط )1983 -1987(، مُ‏ تبنياً‏ خطاباً‏ تحررياً،‏ معادٍ‏لإلمبريالية والتّدخل األجنبي فيالشأن الدّاخلي،‏ اشتهر بجرأة القرارفي دفاعه عن الفئات االجتماعيةالمحرومة،‏ وبكلمته المثيرة للجدلخال القمة اإلفريقية 1985 بأديسأبابا،‏ أيام منغستو هيا مريام،‏لما خاطب زعماء القارة:‏ ‏»األفارقة20


ال بد أن يُعفوا من دفع الدّيون.‏ منال يتفق معي،‏ فليغادر حاالً،‏ يركبالطائرة ويذهب إلى البنك العالميللدفع«.‏ كان سانكارا مستفزاً،‏ باعثاً‏على األسئلة األكثر حرجاً‏ في القارة،‏متعاطفاً‏ مع الفقراء،‏ حيث يُحكىأنه أمر بتغيير سيارات الرئاسةالمرسيدس الفاخرة بسيارة عاديةمن نوع رونو‎5‎‏،‏ فقد كان معادياً‏للقوى الكبرى،‏ وحالماً‏ ببوركينافاسو ‏)باد الرجال الشرفاء(‏ أفضل،‏تتحرّر فيها المرأة من سلطة الذكوريةوتشارك في التنمية،‏ وكان مُ‏ حفزاً‏للشباب للعب دور أكبر في التعجيلفي االنتقالين السياسي واالقتصادي.‏كان مُ‏ قتنعاً‏ بالخيار االشتراكي،‏ مياالً‏لقراءة كتب الفلسفة والفنّ‏ ، حيثأم ر،‏ ف ي واح دة م ن خرجات ه،‏ س كانالعاصمة واغادوغو بصبغ حيطانبيوتهم كلّها باللوّ‏ ن األبيض،‏ ووصلرفضه للقوى الكولونيالية القديمة حدّ‏منع رالي باريس – داكار الشهير،‏من المرور عبر أراضي البلد،‏ لكنالحماس ة الثوري ة الت ي ميّ زت س نواتسانكارا رافقتها بعض األخطاء،‏أهمها خطوته غير المسبوقة بتغيير2600 مُ‏ درس بثوريين سابقين،‏ لكنهذا لم يمسّ‏ من سمعته ومكانتهفي عقول أبناء وطنه،‏ وظلّ‏ دائماً‏يُصوّ‏ ر في أحاديث الناس ودردشاتهمكبطل قومي،‏ ليس فقط محليّاً،‏ بلأيضاً‏ إفريقياً،‏ هكذا استمر الحالحتى 15 أكتوبر/تشرين األول 1987،لما سمع طلقات نار قريبة من مقرالرئاسة،‏ حينها قام من كرسيهوخاطب رفاقه:‏ ‏»ابقوا أنتم مكانكم.‏هم يريدون رأسي!«.‏ خرج من القصرمرتدياً‏ شورت،‏ رافعاً‏ يديه وسقطبالرصاص،‏ رفقة اثني عشر رجاً‏من رفاقه،‏ وبرّر كومباوري الحقاً‏انقابه على صديقه قائاً‏ : ‏»لقد خانسانكارا روح الثّورة«،‏ دونما تقديمتوضيحات.‏إصالحات ناقصةجغرافياً،‏ تُعَ‏ د بوركينا فاسو منطقةجد حرجة،‏ موقعها في السّ‏ احلاإلفريقي،‏ وسط دول تحركها نزاعاتمُ‏ سلحة جعل منها محوراً‏ دبلوماسياً‏مهماً،‏ ونقطة تاقي الفرقاء،‏ حيثيحسب للرّئيس المخلوع بازكومباوري لعب دور مهم في الحفاظعلى استقرار البلد أوالً،‏ وثانياً‏تقمص دور الوسيط في النّزاعاتالتي شهدها الجاران كوت ديفوار)2007( ومالي )2012(، لكنه لميُحافظ على المكتسبات طوياً‏ وأجّ‏ جغضباً‏ شعبياً‏ أطاح به،‏ وبحكمهالذي كان،‏ من الدّاخل،‏ هشاً،‏ ففياالنتخابات الرئاسية األولى)‏‎1991‎‏(،‏لم يشارك في التّصويت أكثر من 25% من الكتلة الناخبة،‏ رغم وعودالرئيس بفائض حريات سياسية،‏وقاطعت الغالبية الحدث،‏ وعُ‏ رِفَ‏بعاقاته الجيدة بالرّئيس الليبيرياألسبق شارل تايلور ‏)الذي حُ‏ وكِ‏ مَ‏بتهمة ارتكاب جرائم ضد اإلنسانية(،‏والعقيد الليبي األسبق معمر القذافي،‏واستمرت رئاسته للبلد تحت منطقيالوعد والضغط،‏ نتجت عنهما بدايةانتفاضة فبراير/شباط 2011، التيرفع فيها المتظاهرون،‏ للمرّة األولى،‏شعارات صريحة تطالب برحيله،‏والتي لم تفلح اإلصاحات السياسيةالمنتهجة في التخفيف من حدّتها.‏بوركينا فاسو،‏ مُ‏ تعدّدة اللّغات‏)ستّون لغة محلية(،‏ حاضنة السّ‏ ينمااإلفريقية،‏ والتي لم تُشفَ‏ تماماً‏ منمشاكلها الدّاخليّة العميقة ‏)مع نسبةأمية تتجاوز %(، 70 العالقة فيحلقة من االنتظارات،‏ تُطلّ‏ اليومبرأسها من عنق الزجاجة،‏ تبحث عنمصدر تفاؤل،‏ أماً‏ في تخطي محنهاالمتكررة،‏ وإيجاد معبر آمن يُعيد لهاكبرياءها.‏21


ميدياانقالب على السّ‏ لطة الرّابعةأحمد عمرانلطالم ا ارتبط ت الصّ‏ حاف ة بمصطل ح‏»السُّ‏ لطة الرّابعة«،‏ لكنها،‏ على مرّ‏العقود،‏ لم تنعم قط بما تنعم بهاآلن مواقع التواصل االجتماعي منقوة تلك السُّ‏ لطة الشعبية بحق.‏فمع انتشار اإلنترنت في بداياتاأللفية الجديدة،‏ برز مصطلح‏»صحافة المواطن«‏ والتي أسَّ‏ س لهابشكل أساسي أصحاب المدوناتالذين صارت كاميراتهم تسجل وتنشرما تعجز الصحافة الكاسيكية عننشره لظروف لوجستيكية أو أخرىمُ‏ تعلّقة بالرقابة،‏ وأصبحت المدونات،‏منذ ظهورها،‏ مصدراً‏ لنشر أخباروصور االحتجاجات السياسية منهاأو الفئوية،‏ ونشر االنتهاكات التيتمارسها بعض األجهزة،‏ أو حتىاالنحرافات المجتمعية ومشكاتها.‏ووجدت صحافة المواطن نفسهاالحقاً‏ على موعد لتطوّ‏ ر مهم بظهوروسائل التواصل االجتماعي الجديدة،‏مثل ال»فيسبوك«‏ و»تويتر«،‏ ومواكبتهاتطوّ‏ ر التكنولوجيا التي جمعتالكاميرات بالهواتف النقالة،‏ وهوالتطوّ‏ ر الذي لم يكن المدونون األوائلليحلموا به،‏ التطوّ‏ ر الذي سيجعل منكل مواط ن ف ي الب اد العربي ة ممارس اً‏لسلطة الرقابة الشعبية.‏فخال األشهر القليلة الماضية،‏شهدت مصر مثاً‏ ، وبشكل شبهيومي،‏ انتشار فيديوهات عبرمواقع التواصل صوّ‏ رها مواطنونبكاميرات هواتفهم،‏ تكشف قصوراً‏ أومشكلة ما،‏ وسرعان ما تحولت تلكالفيديوهات إلى قضية من قضاياالرأي العام،‏ دافعة السلطة للتحرّكواتخاذ إجراءات تصحيحية لما يكشفهذاك الفيديو.‏النماذج من هذا النوع ال تُعد والتُحصى،‏ فقد نُشِ‏ رَ‏ فيديو لمشرففي إحدى دور رعاية األيتام يقومبتعذيب أطفال تلك الدار أثار ضجةواسعة وصلت إلى قصر الرئاسة،‏إذ تدخل رئيس الجمهورية شخصياً‏وتابع القضية،‏ كما نشرت الصحفالموضوع نفسه،‏ وسرعان ما تدخلتالشرطة لتحرير هؤالء األطفالوإغاق دار األيتام والقبض على ذلكالمشرف،‏ وهناك أيضاً‏ فيديو آخربُثَّ‏ على مواقع التواصل االجتماعيإلحدى السيدات تلد في الشارع فيمحافظة البحيرة بعد أن طردهامسؤولو أحد المستشفيات الحكوميةوامتنعوا عن عاجها،‏ وهو ما أثارالرأي العام ودفع رئيس الوزراءللتعليق عليه مبدياً‏ استياءه،‏ ومن ثمإيقاف المسؤولين عن المستشفى عنالعمل وتحويلهم إلى النيابة العامةللتحقيق،‏ وبعدها قام محافظ المدينةبزيارتها في منزلها لاعتذار لها.‏المثاالن السابقان ربما هما نقطتانفي بحر من مئات أو ربما آالف منفيديوهات أو قصص مكتوبة يقوممواطنون ببثها كل يوم على مواقعالتواصل على ذات الشاكلة،‏ بينإهمال في مستشفيات أو مدارس،‏ورعونة لبعض السائقين علىالطرق،‏ بل وحوادث سطو مسلح،‏وسرعان ما تبدأ تلك المواد فياالنتشار صانعة ضجة في الرأيالعام ودافعة المسؤولين للتدخلوتصحيح األوضاع الخاطئة،‏ وإلقاءالقبض على مرتكبي تلك الجرائمواإلعان عن ذلك سريعاً‏ حتى يهدأالرأي العام.‏هكذا وجد اإلعام التقليدي نفسهفي موقف المتابع لما تنشره مواقعالتواصل االجتماعي لذاك النوع منصحافة المواطن،‏ حتى أن بعضالصحف المصرية أنشأت أقساماً‏خاصة لمتابعة ما تنشره مواقعالتواصل االجتماعي والتقاط قصصهاوبناء متابعات إخبارية عليها،‏وأصبحت الصحف تتسابق في متابعةأبطال تلك الفيديوهات أو من قاموابتصويرها وإجراء الحوارات معهم،‏كما أصبحت صحافة المواطن فقرةدائمة في العديد من برامج التليفزيونالتي تستضيف المسؤولين للتعليقعليها.وأصبحنا اليوم نرى بفضلمواقع التواصل االجتماعي نوعاً‏ فريداً‏من ‏»سُّ‏ لطة الرقابة الشعبية«‏ باقيود،‏ وهو قلما حظيت به السُّ‏ لطةالرابعة القديمة.‏22


مواقع التواصل االجتماعيأيادٍ‏ صغيرةسالم ناصرمجلة ‏»وايرد«‏ األميركية المُ‏ ختصّ‏ ةفي التكنولوجيات،‏ تحدّثت،‏ في عددهااألخير،‏ عن وظيفة أساسية،‏ تشتركفيها مواقع التواصل االجتماعي‏)فيسبوك،‏ تويتر،‏ يوتيوب(،‏ وقلياً‏ ماننتبه إليها،‏ إنها وظيفة ‏»الوسيط«،‏الذي يختص بمراقبة محتوى الموادالتي تنشر يومياً‏ على تلك المواقع.‏الوسيط هو شخص يُراقِبمحتويات المواد التي تنشر على موقعما،‏ ويحذف ما يخالف منها القواعدالمعمول بها.‏ الصحيفة األميركية حقّقتبعمق في مهام هؤالء الموظفين،‏وتعمّقت في كواليس يومياتهم،‏ حيثأوفدت أحد صحافييها إلى الفلبين،‏التي تتمتع بعاقات جيدة مع الوالياتالمتحدة األميركية،‏ فهناك يشتغل عددكبي ر م ن الوس طاء،‏ بروات ب مُ‏ نخفض ة.‏فما يتقاضاه أميركي عن عمل ساعةفي الوظيفة نفسها،‏ يضاهي مايتقاضاه نظيره الفلبيني عن يومكامل من العمل.‏مواقع التواصل االجتماعي،‏ مثلفيسبوك،‏ أو محركات البحث،‏ مثلغوغل،‏ ال تُخفي أشكال تعاملهاالخاص مع هؤالء الوسطاء،‏ حيثتفرض عليهم التوقيع على بنود التزامالسرية المهنية.‏ وقد قابلت الصحيفةاألميركية ‏»وايرد«،‏ في سابقة هياألولى من نوعها،‏ ميشال بابيان )21سنة(،‏ الذي يعمل في الوظيفة نفسها،‏فغالبية المواقع اإللكترونية تسعىإلخفاء هذه الفئة من الموظفين،‏ منأجل الحفاظ على صورة اإلنترنتالسحرية،‏ إلقناع المستخدمين بأنعمليات مراقبة محتويات الموادالمنشورة على صفحاتها إنما تتمبشكل تلقائي.‏ وفي ظرف 25 دقيقة،‏الحظت الصحيفة األميركية أن ميشالبابيان قد قام بحذف عدد كبير منالتعليقات والصور،‏ تحمل نبرةعنصرية أو تحاياً‏ . ميشال هيوارد،‏مدير عام الشركة المشرفة على تطبيق‏»وايسبر«‏ لنشر صور بشكل مجهول،‏صرّح بأن عملية المراقبة في شركتهتتم بشكل مباشر،‏ بعد نشر المواد.‏بينما تفضل مواقع أخرى اللجوءللمراقب ة فق ط لم ا تصله ا إش عارات م نمستخدمين.‏ ويلتزم كل وسيط علىالمواقع اإللكترونية بحذف مواضيعتمس األخاق،‏ الفظاعة اإلنسانية،‏العنصرية،‏ واستغال البشر.‏بحسب هيمينشو نيغام،‏ مسؤولأمن موقع )Myspace( السابق،‏فإنه يوجد حوالي 100.000 وسيط،‏حول العالم،‏ يشرفون على متابعةمواقع التواصل االجتماعي،‏ وتطبيقاتالهواتف المحمولة.‏ ورغم طابعهاالمُ‏ تعِ‏ ب،‏ فإن مهنة الوسيط ليست مهنةبدخل مُ‏ ريح.‏ ينخرط فيها،‏ في الغالب،‏شباب مُ‏ تخرِّج حديثاً‏ من الجامعات،‏ويتجهون إلى هذا العمل بعد فشلهمفي الحصول على وظيفة أخرى أفضل.‏وإذا كان بعض الوسطاء األميركيينيتقاضون،‏ أحياناً،‏ ما يناهز 20 دوالراً‏للساعة،‏ فإنهم غالباً‏ ما يهجرون العملبعض أشهر قليلة،‏ وال يتجاوزون فترةالخمسة أشهر،‏ حيث يكتشفون أن مايقومون به ال يناسب حساسياتهموحياتهم الشبابية،‏ فغالباً‏ ما يجدونأنفسهم مضطرين لمشاهدة فيديوهاتفظيعة،‏ تتضمن مشاهد تعذيبالإنسانية،‏ معارك دامية،‏ عملياتانتحارية..‏ إلخ..‏ جاك سويرينجن)24 سنة(،‏ استقال من عمله لصالحموقع )videoEggs( متأثراً‏ بمشاهدةفيديو يصور عملية قطع رأس،‏ أماروب،‏ الذي عمل وسيطاً‏ لصالحموقع يوتيوب عام 2010، فقد صارمُ‏ نغلقاً‏ على نفسه،‏ متأثراً‏ بسوداويةالمَ‏ شَ‏ اهِ‏ د والفيديوهات التي اطلععليها.‏ ورغم أن الشركات تجري فحصاً‏نفسياً‏ على المتقدمين على الوظيفة،‏مع ذلك فهي غير مُ‏ دركة فعاً‏ لحجمالمشكل الذي يعانون منه،‏ فقد الحظتدونيس،‏ وهي أيضاً‏ وسيطة،‏ تصرفاتانفصامية في سلوكيات زماء لها،‏يعانون صدمات نفسية،‏ وليس منالسهل تناسي ما يشاهدونه من صوروفيديوهات مؤثرة،‏ بعض منهم يصيرال يتخيل سوء سيناريوهات سوداويةللحياة،‏ وآخرون يفقدون الثقة تماماً‏في الناس.‏23


قضية24


العربي في غربتهمُهاجرمُهاجر ضدّ‏هل صار التّيه قَدَر اإلنسان العربي اليوم؟ عيشعلى الحدود،‏ وحلم دائم باالغتراب.‏ كما لو أنالبالد العربية صارت تضيق بساكنتها،‏ وغير مُ‏ لهِمةلمبدعيها ومثقَّفيها!‏ وماذا يحمل العربي في غربته؟حقيبة،‏ ذاكرة،‏ بعض األوراق الرسمية..‏ وهويةمُ‏ شتتة،‏ ترفض التّنازل عن حياة ماضية،‏ وتتوقلالندماج سريعاً‏ في مجتمعات بالد الغربة!‏ وماذايمكن أن يواجهه من تحدّيات في مشروع الهجرة؟أوالً‏ خطر الرّحلة غير الشرعية،‏ ثم الكليشيهات التيرسمها الغربي عن العربي،‏ ويريده أالّ‏ يخرج منها،‏وكذا العنصرية،‏ التي صار يوقد نارها مهاجرونآخرون مثله.‏هكذا-‏ إذاً-‏ سيجد المُ‏ هاجر العربي نفسه في مأزقإعادة التساؤل المستمرّ‏ عن الذّات،‏ وصدامية التّقاربالسّ‏ لس مع اآلخر،‏ لكن هذه الصّ‏ عوبات لم تحدّ‏ يوماً‏من عزيمته في مواصلة المغامرة الدرامية،‏ منالجنوب إلى الشمال،‏ فقد سجّ‏ لت سنة 2014 واحدةمن أعلى معدالت هجرة العرب إلى أوروبا؛ من هنابات ضرورياً‏ البحث في حياة العربي في غربته.‏25


نكسة نفسيةإميل أمنيهل بات حظّ‏ اإلنسان العربي فيالنصف الثاني من العقد الثاني للقرنالحادي والعشرين،‏ هو حظّ‏ ‏»كارتافيلوس«‏ اليهودي التائه نفسه،‏ الذينُسِ‏ جت حوله الحكايا منذ ألفي عاموحتى الساعة؟المفارقة العجيبة التي بات العربيعيشونها اليوم من المحيط إلىالخليج،‏ تتمثَّل في أن ‏»اليهودي الذيكان تائهاً«‏ ها هو قد وجد لنفسه مكاناً‏حَ‏ طّ‏ فيه رحله،‏ وحصَّ‏ ن موقعه،‏ وفيالوقت نفسه فإن ‏»العربي اختلطتعليه األمور،‏ وبدأ وكأنه ضيَّعَ‏ عالمهوفيه تراثه ومستقبله،‏ ثم أنه ارتحلبحاضره تائهاً‏ بين الحقيقة والوهم،‏وبين الرؤية والسراب،‏ وبين الحلموالعجز.‏لماذا يتدفَّق العرب المهاجرون إلىكل أصقاع األرض جماعاتٍ‏ ووحداناً؟وهل هو قدر مقدور في زمن منظورأن يفقد العربي وطنه،‏ ومن يفقدوطنه يفقد كل شيء..؟.‏هل لنا أن نؤرِّخ لهجرة العرببزمن معيَّن في التاريخ الحديث؟إذا خَ‏ لَّيْنا جانباً‏ هجرات الفينيقيينالذي ن ناداه م البح ر ف ي أواخ ر الق رنالتاسع عشر إلى األميركتين،‏ يمكنالتوقُّف،‏ بمرارة وحسرة،‏ عند تاريخ5 يونيو/حزيران من عام 1967.هناك بدأت االنتكاسة النفسيةالحقيقية،‏ والشرخ الصادم في جدارالنفس العربية،‏ تلك التي وثّقتأن جيوش العرب قادرة على إلقاءإسرائيل في البحر،‏ وإذ بالعرب فيستة أيام يخسرون سيناء،‏ والقدس،‏والضفة الغربية،‏ والجوالن..‏ كانتالمرارة أقسى ما يمكن،‏ وباتاالغت راب ف ي الخ ارج أخ فّ‏ لوع ة م نالبقاء بين جدران الوطن المنكسرعلى أمانيه وأحامه.‏وقد خُ‏ يِّل،‏ وقتها،‏ لصنّاع القرار،‏ولناشري األفكار،‏ أن شعار ‏»ال صوتيعلو على صوت المعركة«‏ كفيل بأنيوحِّ‏ د ما قد تفرَّق،‏ ويضمِّد ما قدتجرَّح،‏ فإذا بالوطن يضيق عن الرأيوالرأي اآلخر،‏ وإذا باألجيال المتعاقبةتضيع منها الخطى بين أوهامالنداءات القومية الثورية،‏ ويوتوبياتالحركات الدينية اإلسامية.‏جرت معركة أكتوبر عام 1973،وقد كانت لحظة تنوير حقيقية،‏غير أنها ضاعت الحقاً‏ في خضمّ‏معارك وجداالت أخرى،‏ فقد افترقالعرب عند مشروع السام معإسرائيل،‏ وتعمّق الصراع بين الداعينللصلح مع العدو الرئيس،‏ انطاقاً‏من براغماتية سياسية عربية،‏ بدتوكأنها قادرة على تقييم اللحظةاآلنية،‏ تقيّيماً‏ يستند إلى ضآلة مافي يد العرب من أوراق،‏ وما لدىأميركا-‏ خاصة-‏ من % 99 من تلكاألوراق،‏ وبين جبهة دول الرفض.‏كان العنف الذي تبدّى فيثمانينيات وتسعينيات القرن المنصرمداعياً‏ للفصل الثاني من االنكسارالنفسي،‏ وهنا بدأت هجرة العقولأو ما يعرف ب)‏Drain ،)Brain أيمغادرة أصحاب الكفاءات العقليةللوط ن العرب ي،‏ م ن علم اء،‏ وأطب اء،‏ومهندسين ومفكِّرين،‏ بل وسياسيينوإعاميين..‏ هل كانت تلك الهجراتنفسية أم اجتماعية؟ اقتصادية أمتحرُّرية؟باختص ار غي ر مُ‏ خِ‏ لّ‏ ، يمك ن القط عبأن الهجرة ظاهرة اجتماعية مركّ‏ بةومعقّدة كما هي ‏»احتجاج ضدالامساواة«.‏تكشف الدراسات واإلحصائياتعن أرقام مفزعة،‏ لهجرة أصحاباألدمغة الذكية،‏ إحداها تكشف عن أنحوالي 70 ألف من خرّيجي الجامعاتالعربية يهاجرون سنوياً‏ للبحثعن فرص عمل في الخارج،‏ وأننسبة 54% من الطاب العرب الذينيدرسون في الخارج،‏ ال يعودون إلىأوطانهم بعد انتهاء سنوات دراستهم.‏ووفقاً‏ إلحصائيات صادرة عنجامعة الدول العربية ومنظمةالعمل الدولية،‏ ومنظمة ‏»يونسكو«،‏فإن حوالي 100 ألف عالم وطبيبومهندس يغادرون لبنان وسوريةوالعراق ومصر وتونس والمغربوالجزائر سنوياً،‏ % 70 منهم اليعودون إلى بلدانهم األم.‏ماذا تعني تلك األرقام؟ ولماذاتضيق األوطان عن هؤالء ؟حكماً‏ ليس الدافع عند هؤالءالج وع،‏ أو الفاق ة،‏ لك ن-‏ ربم ا-‏ هن اكجوع إلى الحرّيات،‏ إلى الكرامةاإلنسانية،‏ إلى مستوى ما من حفظحقوق المواطنة،‏ والتعاطي علىالمستوى البشري.‏ربما أفزع هؤالء بسيكولوجياإحساسهم باألمان المفقود،‏ بفقدانالحصانة التي كفلتها النواميساإللهية،‏ والشرائع الوضعية،‏ بعيشهمفي دائرة الخوف،‏ بدون أمل فيتحديد مامح للغد،‏ أو رسم أبجدياتللمستقبل..‏يرفض كل من العالِم والمبدعوالمثقَّف والمفكِّر أن يبقى دائراً‏ في26


حلقة مفرغة،‏ في تردٍّ‏ ال يعرفالتوقُّف،‏ مطموراً‏ في غيض منالمشاكل أكبر من التطويق في الحالواالستقبال،‏ ولهذا يسعى إلى باداهلل حيث المنظومات والمصفوفاتاإلنسانية واضحة المعالم،‏ متناسقةفي التراتبية.‏العربي التائه اليوم يمضي فيدوائر وجماعات ال كأفراد فقط،‏ خذإليك الجماعات السياسية مختلفةالتوجُّ‏ هات والمشارب،‏ التي تختار منالغرب ملجأً‏ وماذاً،‏ ما الذي يدعوهاللهجرة؟حكم اً‏ ه و التضيي ق عل ى أفكاره ا،‏وعلى الترويج ألرائها،‏ وكأن‏»المونولوغ«‏ وليس ‏»الديالوغ«‏ هوقَدَر العوالم والعواصم العربية!‏لقد تجاوزت الهجرة العلماءوالسياسيين،‏ إلى اإلعام واإلعاميين،‏وهذه ظاهرة سيسولوجية في حاجةإلى تفكيك وتحليل،‏ وبدورها تَتَّصلاتّصاالً‏ جذرياً‏ بفضاءات الحرّية فيباد ‏»العرب أوطاني«‏ والتي طاردتاالستعمار الخارجي منذ نحو سبعةعقود،‏ غير أن استعماراً‏ داخلياً‏للعقول،‏ ال يزال جاثماً،‏ يجعلنا منأصحاب ‏»التوجُّ‏ ه األحادي«‏ ذهنياً،‏دون مقدرة على التعاطي مع اآلخر،‏وكأن اآلخر بالفعل،‏ هو الجحيم،‏سيرة التيهكم ا ق ال ج ان ب ول س ارتر،‏ فيلس وفالوجودية األشهر-‏ ذات مرة-‏ فيستينيات القرن الماضي.‏على أن ما تقدَّم،‏ وفي جميعاألحوال،‏ يمكن أن يُصنَّف أو يُدرَ‏ جتحت عنوان ‏»الهجرة الطوعية أواالختيارية«،‏ لكن خلف الباب هجرةأخرى مغرقة في األلم والمرارة،‏تلك التي بدأت في العام 1948، وقدخُ‏ يِّل للناظر،‏ وقتها،‏ أنها األخيرة مننوعها،‏ ولم يكن أحد ينتظر تكرارها.‏عن الهجرة القسرية نتحدّث،‏ عنالتهجير بمعنى أدقّ‏ وأكثر وضوحاً،‏عن تهجير الشعب الفلسطيني منأراضيه على يد المحتلّ‏ الصهيوني،‏واآلن نتحدّث عن النازحينوالمطرودي ن م ن باده م،‏ أو الهاربي نمن جحيم الحروب العربية،‏ والذيناقتربت أعدادهم،‏ من الماييناألربعة،‏ يطاردهم الجوع والتشرُّدعلى الحدود،‏ وينتظرهم الموت فيقوارب الهاك،‏ ويذلّهم األجنبي فيمعسكرات إيواء الاجئين.‏ عن أيمصي ر بائ س،‏ وع ن أي هج رة مري رةبات مصير المهاجر العربي الحزين!‏لقد رأى دعاة الحرّية أن ‏»زمنالربيع العربي«‏ هو موسم تفتُّحاألزهار في الحدائق الخلفية للشعوبالعربية،‏ حدائق الحرّية،‏ كما حدثمع دول أوروبا الشرقية،‏ لكنالمقاربة كانت ظالمة،‏ فاألوربيونالشرقيون،‏ كان لديهم من تراثالديمقراطية،‏ ومن النسق الهيراركيالكنسي ما مَ‏ كَّنهم-‏ بسرعة بالغة-‏من العودة إلى السياقات الديمقراطيةومن جديد،‏ في حين بقي التخبُّطالعربي،‏ بين العروبة والقوميةواإلساموية واالشتراكية،‏ حاضنةً‏للفشل وحاجزاً‏ برمائياً‏ يعوقالوصول إلى سفينة نوح،‏ أيّاً‏ يكناسمها أو رسمها،‏ المهمّ‏ أن تنقذنا منالطوفان وتقودنا إلى بَرّ‏ األمان،‏عوضاً‏ عن أن تتقاذفنا ‏»أمواجاألمم«،‏ وتتاطمنا ‏»رياح الدهر«.‏يضيق المسطّ‏ ح المتاح للكتابةعن االستفاضة في الحديث عنهج رات العرب ي التائ ه وع ن أكافه ا،‏ال على االقتصاديات العربية فيحاضرات أيامنا فقط،‏ بل علىالمستقبل اإلنسانوي العربي،‏ بكلأبعاده وتجلّياته،‏ غير أنه-‏ ومنأسف ربَّما-‏ يتحتّم علينا أن نقرّ‏ بأنالظاهرة ستأخذ باالزدياد،‏ فاالستقرارعربياً‏ وشرق أوسطياً‏ ما يزال بعيدالمنال.‏لن تنصلح أحوال األوطان إالبالدخول في عمق األنوار التي التعمي على حَ‏ دّ‏ تعبير ‏»ريجيسدوبرييه«،‏ وبالتوقُّف عن الممارساتالثورية المراهقة،‏ التي تجاوزتهاالدول واألمم منذ زمن بعيد.‏لن يبقى المواطن العربي آمناً‏ فييومه،‏ مستقلّ‏ ً في غده،‏ إال بانتهاءالطفوالت العقلية،‏ تلك التي تبدأبالثورة على قيود الماضي المكبِّلةلانطاق،‏ باألخذ من التراث؛جوهره ال قشوره.‏لسنا من دعاة البكاء على‏»المظلوميات التاريخية«‏ للعرب،‏ومنها الهجرة بشقّيها،‏ بل منالمنادين بالنظر إلى اللغة الصينية،‏والتوقُّف عند كلمة ‏»األزمة«‏ التييُعَ‏ بّر عنها بصورتين:‏ األولى تشيرإلى الخطر،‏ والثانية إلى الفرصة.‏هل لنا في عمق هذه األزمة أن نبحثعن الفرصة الحقيقية الازمة لوقفالتيه العربي حول العالم؟27


ربيع الهجرةأنور الشاميعندما اندلعت ثورات الربيعالعربي حَ‏ سِ‏ بَ‏ الناس ‏-ألول وهلة-‏ أنالعربي الذي رزح تحت نير استعماربغيض حقباً‏ من الزمن،‏ ثم تحتنير حكامٍ‏ مستبدّين حقباً‏ أخرى،‏وعانى خال هذه وتلك ضيقالعيش وبطش السلطان وفقداناألمل،‏ قد آن له أن يبتهج ويسعد،‏وأن ‏»ثورات الربيع العربي«‏ ستفتحله أبواب مستقبل مشرق،‏ أو هكذاظنوا..‏لكن،‏ جاءت الرياح بما ال تشتهيسفن الشباب العربي؛ فوجدواأنفسهم أمام موسم آخر للهجرةإلى الشمال ال أثر للربيع فيه،‏وإنما شَ‏ تات قاسٍ‏ وشتاء قارس،‏وتشتَّتوا ما بين طالبي لجوءومتسلّلين يُغويهم سماسرة تهريبالبشر بجنة موعودة يركبون ألجلهاأهوال البحر في قوارب متهالكة،‏وذلك بعدما تحوّ‏ لت الثورات التيصنعوها الواحدة تلو األخرى إلىسوط عذاب؛ فقد عَ‏ مّ‏ االضطرابوتردَّت األوضاع في دول الربيعالعربي،‏ وال يهمّ‏ الحالمون بالجنةهنا إن كان ذلك مردّه النقساماتضربت صفوف شركاء ثورة األمسأو لمؤامرات حيكت بليل فيما عُ‏ رفبالثورات المضادة التي سعىمدبروها لالتفاف على الثوراتالحقيقية وتفريغها من محتواها.‏وهكذا فإن تلك الثورات التيأطلق شرارتها محمد البوعزيزيفي ديسمبر/كانون األول 2010، لمتقتل ع حكّام اً‏ مس تبدّين م ن عروش هموحسب،‏ وإنما اقتلعت أيضاً‏ اآلالفمن أبناء هذه الدول من جذورهمفأصبحوا مرغمين على ترك ديارهموالنزوح عن أوطانهم.‏ ولم يجدهؤالء أرضاً‏ يلوذون بها سوىأوروبا التي خالوها الجنة التيستعوضهم عن كل ما يتجشمونهفي سبيل الوصول إليها؛ وراحتموجات كبيرة من المهاجرين العربتتدفّق على القارة العجوز غداة هذهالثورات ما بين الجئ يطرق األبوابعبر القنوات المشروعة فا يُفتح لهوبين مُ‏ تسلل تحت جنح الظام اليجد بُدّاً‏ من الفرار من موت محقّقعلى األرض،‏ إن هو بقي في باده،‏إلى مغامرة تحفّها المهالك ولكنها-‏في رأيه-‏ سوف تأخذه إلى أرضاألحام مُ‏ تغافاً‏ عن حقيقة أنها قدتُلقي به على الشاطئ اآلخر جثةً‏خامدة.‏لقد أفضى تفاقم الوضع فيس ورية والعن ف الدائ ر بي ن الفصائ لفي ليبيا وتردّي األوضاع األمنيةفي العراق واليمن،‏ فضاً‏ عن انعداماالستقرار وتفشّ‏ ي البطالة الذي ساددوالً‏ عربية أخرى عقب الثورات،‏إلى تدفُّق غير مسبوق لموجات منالمهاجرين العرب غير الشرعيين علىدول االتحاد األوروبي بلغت ذروتهاخال العام الجاري 2014. وال يمكنبحال أن نُغفل هنا حالة الذعر التيأثارها تنظيم ‏»الدولة اإلسامية«‏ما أدّى إلى عمليات نزوح كبيرةلألهال ي كان ت دول االتح اد األوروب يهي وجهتهم المنشودة حتى وإناتخذوا من إحدى دول المنطقة محطةلاستراحة قبل مواصلة الهجرة إلىأوروبا.‏وألن بلدان الربيع العربي كانت،‏في السابق،‏ تُدار بقبضة أمنيةصارمة،‏ فقد سادت حالة من الفراغالسياسي واالنفات األمني الواضحفي هذه الدول عقب الثورات،‏ وهوما استغلَّه القائمون على مافياتهريب البشر في تصعيد عملياتتهريبهم للمهاجرين والاجئين عبرالشواطئ المتوسطية لدول مثل ليبياوتونس ومصر،‏ وهو ما يفسِّ‏ رهتدفُّق آالف التونسيين على جزيرتيلمبيدوزا وصقلية اإليطاليتينمباشرة عقب الثورة التونسية.‏ويشير تقرير أصدرته حديثاً‏المفوضية السامية لألمم المتحدةلشؤون الاجئين،‏ إلى أن طلباتاللجوء قد بلغت هذا العام رقماً‏قياسياً‏ لم يحدث منذ 20 عاماً،‏ حيثطلب نحو 330700 شخص اللجوءإلى 44 دولة صناعية في النصفاألول من العام،‏ وعزا التقرير هذهالزيادة إلى الوضع المتردّي فيكل من سورية والعراق.‏ وأضافالتقرير أن واحداً‏ من كل سبعةطلبات جاءت م ن سوريين،‏ والذي نبلغ عددهم 48400، أي ضعف الرقمعن الفترة نفسها من العام الماضي.‏وبحسب التقرير نفسه،‏ فقد تلقّتألمانيا وحدها،‏ وألول مرة منذ عام1999، أكبر عدد من طلبات اللجوءالجدي دة بي ن ال دول الصناعي ة وال ذيبلغ 65700 طلب،‏ وكان ذلك فياألساس بسبب زيادة الطلبات منالسوريين.‏وحذّر التقرير الذي تزامن صدورهمع الذكرى السنوية األولى لفاجعةالقارب الذي غرق قبالة جزيرةلمبيدوزا اإليطالية في أكتوبر/‏تشرين األول 2013، وأودى بحياةثاثمئة مهاجر ماتوا غرقاً،‏ حذَّرتمن أنه إذا ما استمرّ‏ هذا المنوال فإن28


البحث عن طريق الشمالعدد طالبي اللجوء قد يبلغ 700 ألفم ع نهاي ة ع ام 2014، وه و مس توىل م يح دث من ذ س نوات الص راع ال ذيشهدته دول البلقان تسعينيات القرنالماضي.‏وفي اإلطار ذاته سجّ‏ لتأعداد المهاجرين غير الشرعيينالذين عبروا البحر المتوسط إلىأوروبا هذا العام أرقاماً‏ قياسيةهي األخرى،‏ حيث بلغ 165 ألفشخص،‏ مقارنة بستين ألف مهاجرالعام الماضي،‏ وذلك بحسب األرقامالتي أعلنتها المفوضية مؤخَّ‏ راً.‏وذكر التقرير أيضاً‏ أن 90 ألفمهاجر قد حاولوا عبور البحرالمتوسط باتجاه أوروبا خال يوليو‏/تموزوأغسطس/آب وسبتمبر/‏أيلول من السنة الجارية،‏ وأن 2200شخص من بين هؤالء قد لقواحتفهم غرقاً.‏ورغم أن كثيراً‏ من قادة االتحاداألوروبي قد أظهروا تأييداً‏ لثوراتالربيع العربي في أول األمر،‏ورأوا فيها انتصاراً‏ لقيم الحريةوالديموقراطية،‏ فإن هذا التأييد مالبث أن اعتراه الفتور عندما تبيَّنلدول االتحاد أن هذه الثورات ربماتأخذ المنطقة إلى حيث ال تريدأوروبا،‏ وأنه سيكون عليها استقبالموجات من المهاجرين تدفَّقوا عليها.‏وهو ما يفسّ‏ ره تبادل االتّهامات بيندول االتحاد في أكثر من مناسبةبشأن المسؤولية عن تحمُّل عبءاستقبال هؤالء المهاجرين.‏وقد تجلّى ذلك االنقسام فيالنزاع الفرنسي–‏ اإليطالي الذي نشبعام 2011 عندما تمكّن أكثر من 25ألف مهاجر غير شرعي كان منبينهم ألوف التونسيين والليبيينمن الوصول إلى جزيرة لمبيدوزااإليطالية،‏ ثم جاء قرار الحكومةاإليطالية بمنح غالبيتهم بطاقاتإقامة لمدّة ستة أشهر ‏)وهو مايمنحهم حرّية التنقّل بين البلداناألوروبية األعضاء في اتفاقيةشنغن(‏ بمثابة الشرارة التي أشعلتفتيل النزاع بين الدول األوروبية،‏السيما بعد رفض فرنسا السماحلهؤالء المهاجرين بعبور الحدودالفرنسية – اإليطالية.‏واستمراراً‏ لحالة االنقسام ذاتها،‏فقد رفضت السلطات المختصّ‏ ة فيمالطا،‏ استقبال زورق كان على متنه102 مهاجر قادمين من شمال إفريقياالعام الماضي،‏ ورغم نداءات االتحاداألوروبي للحكومة المالطية بالسماحللمهاجرين العالقين بالدخول إلىأراضيها ألسباب إنسانية،‏ السيّماأنه كان من بين هؤالء أربع سيداتحوامل وطفل،‏ فقد أصرّت األخيرةعلى رفضها حتى اضطرّت إيطالياالستقبالهم على أراضيها.‏ووفقاً‏ لتقارير إخبارية متواترةفإن هؤالء المهاجرين،‏ ومع تزايدأعدادهم في السنوات األخيرة،‏بات وا يتعرّض ون النته اكات وظ روفالإنسانية في مراكز احتجازهمفي الدول األورو متوسِّ‏ طية التييقصدونها توطئة لبلوغ وجهتهمالنهائية التي غالباً‏ ما تكون دوالً‏أوروبية غير متوسِّ‏ طية مثل السويدوألمانيا.‏ وقد أدانت منظّ‏ مات حقوقيةمثل هيومان رايتس ووتش مااعتبرته إخفاقاً‏ من قِبَل االتحاداألوروبي في انتهاج موقف موحَّ‏ دإزاء قضية الاجئين القادمين منسورية،‏ وأشارت إلى أنه مازالتهناك فجوات واضحة في مستوياتالحماية التي توفِّرها دول االتحادلاجئين.‏ ولم تقتصر اإلدانات علىالمنظمات الحقوقية وحسب،‏ فقدطالبت مفوَّضة االتحاد األوروبيللشؤون الداخلية والهجرة السيدةسيسليا مالمستروم دول االتحادبضرورة عمل المزيد إزاء تدفُّقالاجئين للحيلولة دون حاالت الموتغرقاً‏ التي يتعرَّضون لها،‏ معتبرةأن عجز دول االتحاد في تعاطيها معهذه األزمة هو ‏»وصمة عار«‏ علىالقارّة العجوز.‏29


رحلة الموت تبدأ ب »3000« دوالرحراقة !عاطف األطرشالعيش في أوروبا حلم يشتركفيه اآلالف من الشباب العرب؛ إال أنهذا الحلم قد يتحوّ‏ ل إلى كابوس؛فالهجرة نحو أرض األحام بعدأحداث الحادي عشر من سبتمبر/‏أيلول 2001، أصبحت أكثر صعوبة،‏وقيودها أكثر تعقيداً.‏ مع ذلك،‏رحات الهجرة غير الشرعية،‏ أوما يُطلق عليهم ‏»حرقة«‏ ‏)يحرقونوثائقهم الشخصية قبل وصولالضفة الشمالية(،‏ لم تتوقّف،‏ وهيتنطلق من سواحل شمال إفريقيا؛حيث عرفت المغرب وتونس ومصروالجزائر بأنها من أكثر البلدانتصديراً‏ للهجرات غير الشرعية نحوأوروبا؛ وانضمَّت إليها ليبيا فيالسنوات العشر األخيرة؛ حيث بدأتهذه الرحات تنطلق بالعشرات،‏وأحياناً‏ بالمئات؛ مُ‏ حمّلة بعربوبنظراء لهم من القارّة اإلفريقية.‏كان النظام السابق في ليبيايستغلّ‏ هذه الظاهرة كورقةضاغطة على االتحاد األوروبيلتحقيق بعض طلباته التي يرىأنها تزيد من تدعيم مشاريعهالخاصة في القارة السّ‏ مراء؛ وكانله ذلك عندما عقد اتفاقيات عديدةمع دول االتحاد األوروبي،‏ آخرهااالتفاقية االقتصادية المشتركةبين ليبيا وإيطاليا،‏ والتي تعهَّدتفيها األخيرة بتوفير كل التجهيزاتواإلمكانيات لتخفيف أزمة الهجرةغير الشرعية المنطلقة من ليبيا.‏بعد ثورة 17 فبراير وازديادالحالة األمنية سوءاً‏ ارتفعتوتيرة هذه الرحات حتى وصلتإلى أعداد هائلة من المهاجرينالذين انطلقوا من شواطئها؛ حيثبلغت آخر إحصائية للمهاجرينالمحتجزين في ليبيا أكثر من 1500محتجز في مدينة بنغازي وحدها،‏وتتولّى حراسة سجون المهاجرينعدّة جهات أمنية منها ما يتبعللسلطة الشرعية،‏ ومنها ما يتبعإلحدى الميليشيات المتنفّذة،‏ وهيتعاني من نقص في الغذاء والدواءبشكل حاد،‏ األمر الذي يهدّد حياةهؤالء المحتجزين في ظلّ‏ االقتتالالدائر في الباد؛ وانعدام فرصتحويلهم بأي وسيلة إلى بلدانهماألصلية.‏ والمرعب في األمر هو عددضحايا هذه الظاهرة الذي وصلإلى العشرات يومياً‏ من الجثث التيتصل شواطئ ليبيا.‏تُعد مدينة زوارة الليبية القريبةمن الحدود التونسية من أشهرالمدن الليبية التي تنطلق منهاهذه الرحات؛ والتي شهدت تنظيممظاهرة كبيرة لسكانها،‏ للمطالبةبوقف هذه الظاهرة خوفاً‏ مما قديترتّب عنها من انتشار األمراضواألوبئة.‏وقبيل المعارك التي اندلعتأخيراً‏ في مدينة بنغازي،‏ كانتالهجرة غير الشرعية تنطلق منها؛حيث يسعى المهاجرون،‏ وكثيرمنهم يأتي من سورية والعراق،‏إلى الوصول منها إلى سواحلإيطاليا؛ حيث تضطرّ‏ سلطاتاإلنقاذ اإليطالية العتقالهم ونقلهمإلى جزيرة المبيدوزا؛ ومن ثم تبدأرحلتهم نحو الهجرة إلى باقي بلدانأوروبا،‏ والتي عادة ما تكون ألمانياوالسويد والنرويج؛ وذلك لسهولةالتعاطي في مسألة الحصول على30


حلم العيش في الفردوسلجوء إنساني أو سياسي لهم.‏ولاطاع عن كثب على صورةالوضع المزري للمهاجرين،‏ عُ‏ قِدَ‏االجتماع الحادي والعشرونبخصوص الهجرة غير الشرعيةفي مدينة بنغازي،‏ والذي اجتمعتفيه الهيئات والمنظمات المختصّ‏ ة،‏م ع كل م ن من دوب منظم ة UNHCRومندوب منظمة CESVI ومندوبسجن قنفودة والهيئة الليبية لإلغاثةوالمساعدات اإلنسانية LIBAIDومندوب إدارة الهجرة ومندوب فرعمباحث الجوازات – بنغازي ومندوبدرع ليبيا ومندوب اإلدارة العامة غيرالشرعية – بنغازي ورئيس اللجنةالمشتركة لضبط الوافدين والاجئينوالهجرة غير الشرعية؛ والذي عُ‏ قِدَ‏في اإلدارة العامة للهيئة الليبيةلإلغاثة والمساعدات اإلنسانية،‏ تمتفيه مناقشة وضع وأعداد المهاجرينغير الشرعيين،‏ حيث أفاد مندوبسجن قنفودة أن العدد اإلجماليللمهاجرين غير الشرعيين بلغ 345مهاجراً‏ من الجنسية السودانية،‏ وتمَّ‏ترحيلهم إلى السودان؛ وأفاد مندوبإدارة الهجرة ومباحث الجوازات أنعدد المرحَّ‏ لين بلغ 373 من جنسياتمختلفة،‏ وأن إجمالي المرحَّ‏ لين هو267 من مصر والسودان،‏ وكذلك 8مهاجرين من بنغاديش تمّ‏ ترحيلهمعن طريق النيابة.‏وبخصوص التغذية فقد صرّحمندوب المباحث والجوازات بأنهميوفِّرون الغذاء عن طريق المجهوداتالش خصية،‏ أم ا ع ن المي اه والص رفالصحي فقد أشار مندوب سجنقنفودة إلى أن جمعية شهداءدريانة وفَّرت لهم مياه الشربلبضعة أيام ، كما أفاد أنهم قاموابصيانة الحمّامات والكهرباء عنطريق المجهودات الشخصية أيضاً،‏وقال مندوب الهيئة إن شركة المياهوالصرف الصحي لديها مشكلةفي توفير اإلمكانيات؛ كما طلبمندوب المجلس المحلّي-‏ بنغازيمن مندوب الهيئة رسالة رسميةمن الهيئة تخاطب فيها المجلسالمحلي-‏ بنغازي،‏ وذلك لتوفيرسيارة الصرف الصحي وصيانةالكهرباء في المخيِّمات.‏أما بخصوص اإلجراءاتالصحية،‏ فقد أكَّد مندوب سجنقنفودة أنه لديهم نقص في األدوية‏)مضادات حيوية – أدوية السعال–‏اإلسعافات األولية(،‏ وأفاد مندوبمؤسسة كل الليبيين أنهم سيوفِّروناألدوية لسجن قنفودة،‏ كما أفادمندوب إدارة المباحث والجوازاتأن لديهم أطباء ومعامل للتحاليلداخل المركز،‏ ويستطيعون تقديمالمساعدة للمراكز التي تحتاج إلىتحاليل.‏هذه اإلفادات السريعة التي تمّ‏تلخيصها تؤكِّد الواقع المرير الذييعانيه المهاجرون المحتجزون؛والذين فشلوا في النجاح في الهروبمن واقعهم األليم ليعايشوا واقعاً‏أس وأ؛ حي ث ذك ر معظ م المحتجزي نأنهم يدفعون مبالغ طائلة تصل إلىأكثر من 3 آالف دوالر لكل شخصنظير تهريبه من باده وصوالً‏ إلىليبيا،‏ وانطاقاً‏ منها نحو أوروبابواسطة قوارب مُ‏ تهالكة قد تصلبهم نحو ما يحلمون به،‏ أو ال تصلأبداً.‏31


أن تعيش غريباً‏ في وطنكرانيا مأمونّبفضول ودهشة استقبلتْ‏ طفولتيتلك الشاحنة المكدَّسة بمهاجرين منجنوب السُّ‏ ودان.‏ كان بيت جيرانناأحد محطّ‏ ات الشاحنة المعبَّأة بالتَّعبواأللم والغبار وطول السَّ‏ فر،‏ ترجَّ‏ لمنها أفرادٌ‏ وعدّة أُسَ‏ ر،‏ بعضها أُسَ‏ رٌ‏شمالية كانت تقيم في الجنوب،‏وأُسَ‏ رٌ‏ جنوبية جاءت لتقيم فيالشمال.‏ كانوا كثيرين،‏ لم تحصِ‏ هممعرفتي البسيطة باألعداد حينها،‏ بللم أفكّر ‏-أصاً‏ - في إحصائهم،‏ إنماانصبَّ‏ تركيزي على الصغار،‏ وشغلذهني سؤال:‏ هل باإلمكان اللعبمعهم؟جيراننا كانوا على قرابة بإحدىاألُسَ‏ ر التي جاءت بصحبة آخرين.‏على مدى أسابيع أقاموا في حوش‏)باحة(‏ بيت الجيران،‏ لم تسَ‏ عْ‏ همالغرف القليلة،‏ فافترشوا ماءاتقديمة،‏ بعضهم فضّ‏ ل األرض الترابيةعلى الجلد،‏ وآخرون استندوا إلىصُ‏ ررهم،‏ كانوا يحملون معهم مااستطاعوا من حقائب حديدية مطليّةببويا ملوَّ‏ نة ومتقشِّ‏ رة في بعضجوانبها،‏ أوانٍ‏ باستيكية مختلفةاألحجام للشرب أو لحفظ الماء،‏شواالت خيش وباستيك محشوّ‏ ةبكل شيء تقريباً،‏ عِ‏ صي خشبيةبأشكال متعدِّدة،‏ وغيرها.‏بعض النساء ارتدين ‏)الاَّ‏ وْ‏ ي(‏مربوطاً‏ على الكتف،‏ وبعضهن اكتفينبما خفَّ‏ من ملبس،‏ أما األطفال فقدلبسوا كيفما اتَّفق،‏ وبعضهم كانواعرايا.‏ في زمن النزوح ال أهمّيّةللِّبْس،‏ من يهتمّ‏ ؟تفرّق الجمع على مدى األسابيع،‏ولكني حققتُ‏ أمنيتي وتشاركتُ‏ اللعبمع الصغار،‏ وسعدتُ‏ بتعلّم لُعَ‏ بجديدة هاجرت هي أيضاً‏ من جغرافياإلى أخرى،‏ واستوطنت ذاكرتي.‏بعد سنوات،‏ وأنا على عتباتالمراهقة،‏ جاءت فتاةٌ‏ جنوبية فيالعشرين من العمر لتقيم معنا،‏باألحرى انتقلت من بيت أحدالجيران،‏ حيث كانت تعمل،‏ إلىبيتن ا،‏ كان ت قويّ ة ومفعم ة بالحيوي ةويتيمة األم،‏ وال تعرف مصير أبيها،‏أقامت معنا ليس من أجل العمل،‏إنما من أجل المأوى،‏ كان البيتصغير المساحة،‏ لكن القلبَ‏ رحبٌ‏ ،صار بيتُنا بيتها،‏ وأوجدتْ‏ لنفسهاعماً‏ خاصاً‏ من بيع العشاء علىناصية الشارع تحت عمود اإلنارة،‏وصارت هي أختي التي أشاركهاأسراري.‏سافرتْ‏ إلى مدينةٍ‏ أخرى بعدثاث سنوات تقريباً،‏ تزوَّ‏ جت منشمالي،‏ وكوّ‏ نت أسرةً‏ صغيرة لطيفةعوّ‏ ضتها اليتم والتشرُّد.‏السفر بين الشمال والجنوب داخلالسودان تواصل لعقودٍ‏ طويلة،‏وألسباب شتّى؛ للتجارة أو للعملفي التدريس أو في الوظائف،‏ وهذابالنسبة للشمالين في الجنوب،‏ أوبغرض الدارسة أو العمل أو النزوحبالنسبة للجنوبيين في الشمال،‏عائق كثيرة ومتباينة تربط بيناالثنين،‏ عائق حبّ‏ وزواج،‏ وأُسَ‏ ر،‏عائق صداقات وزمالة وأخوّ‏ ةإنسانية وعائق مِحَ‏ ن مشتركة فيوطن مكلوم.‏شهدت مدن الشمال هجرات عديدة،‏إال أن نصيب الخرطوم العاصمة هواألكبر من حيث الهجرة الداخليةإليها،‏ لسوء توزيع الثروة في بقيةالمدن،‏ وجاءت الهجرات من الشمالالجغرافي أو الغرب أو حتى الوسطبنسب متفاوتة،‏ وحتماً‏ من الجنوببنس بة أكب ر عل ى امت داد عق ود الن زاعالتي انتهت )2005( بعد توقيع اتفاقيةالسام الشامل،‏ والتي أقرّت حقّ‏تقرير المصير.‏ إال أن معظم المهاجرينظلّوا على أطراف المدن،‏ وعلىهامش كل شيء:‏ التعليم،‏ الصَّ‏ حة،‏السكن،‏ العمل،‏ وكانوا يسكنون فيبيئات ال تتوافر فيها أدنى مقوِّماتالحياة الكريمة،‏ مما أدّى إلى إحساسعظيم بالغبن والغضب،‏ وأوديببعضهم إلى المهالك،‏ وقد رسمَ‏ تالقاصّ‏ ة إستيا قايتانو هذه الحياةبواقعية صادمة في قصصها،‏ وهيترى أن االختاف ‏)الديني،‏ االجتماعي،‏االقتصادي،‏ الثقافي والعرقي(‏ عبَّأالناس نحو الرحيل،‏ وهي القائلةفي شهادتها:‏ ‏»تعايشنا مع آباءغير مسؤولين،‏ وأقصاهم المجتمعبالعطالة أو التعطيل ليدخلوا فيدائرة غير منتهية من السُّ‏ كْ‏ ر والعربدةوالعنف الموجَّ‏ ه إلى النساء وإلىاألبناء وإلى أنفسهم،‏ دخلت أمّ‏ هاتناالسجون عشرات المرات من أجلإطعامنا وجبة واحدة في اليوم،‏ ومنأجل أن نشتري كرّاسة وقلم،‏ وكلأمنياتهن أال تحبل بناتهن في سنيالمراهقة األولى،‏ وأال يعاقر أبناؤهنالخمور،‏ وفي أغلب األحيان يحدثكاهما كنتيجة طبيعية لتلك البيئة،‏بيئة النزوح والعنف واالنحطاطاألبناء الشرعيين للحرب،‏ وأعدّ‏نفسي محظوظة أو،‏ بأكثر امتنان،‏ناجية،‏ عندما تفتَّحَ‏ وعيي مبكّراً،‏32


فتاة من السودانواتخذتُ‏ من القلم إزميلي ألحفرالحرف عميقاً،‏ ألنحت ذاك األلم غيرالمحدود في ذاكرة كانت بعيدة،‏وال تنظر إلى تلك البيئة إال بنظرةاالتّه ام والخ وف واالزدراء واإلحس اسالبارد بأن هؤالء ليسوا جزءاً‏ منهنا،‏ وال بُد أن يأتي يوم ويذهبوا،‏وقد فعلوا،‏ وكان ذهاباً‏ صادماً‏ومؤلماً؛ فلم يستطع من اختارواالجنوب وطناً‏ الشفاء منه،‏ وال بقيةالسودانيين الذين بقوا في الوطن األماستطاعوا الشفاء منه«.‏إستيا قايتانو المولودة في وطنوجدتْ‏ فيه نفسها أجنبية بين ليلةوضحاها عبر صندوق استفتاء،‏وصار ولداها ينتميان إلى وطنينمختلفين،‏ أوجزتْ‏ مفهوم الوطن‏»الوطن عندي فراغ في الذاكرةمليء بالحروب والنزوح والتشرُّد،‏قتل ودمار،‏ قذائف وطائرات تحصدالموتى دون كلل،‏ دماء وكابوصقور تأكل الجثث،‏ رعب وجوعوقبور جماعية،‏ مخيمات،‏ ولجوء«،‏ما أصعب أن تعيش في وطنكغريباً!‏االنفصال،‏ وإن قسَّ‏ م الوطنشطرين،‏ إال أن الجلد ما يزال ملتصقاً‏بالنَّبض،‏ وهذا ما لم يقله الشاعرالصَّ‏ ادق الرَّضي إلستيا،‏ الصَّ‏ ادقالمهاجر،‏ كذلك،‏ خارج السودان:‏‏»منذ ‏»بطن أمك«‏حتى آخر كهفٍ‏ حريفٍ‏ - آخرخندقٍ‏ حفرتهُ‏ أظافرُ‏ أمّكْ‏يلتصقُ‏ اجلِ‏ لْدُ‏ بالنَّبضِ‏ ، والنَّبْضُ‏بتعويذةِ‏ اجلدّةِ‏)...(***أهلثُ‏ من كهف إىل كهف،‏ آناء كلقذيفةصَ‏ حْ‏ نُ‏ اخلدِّ‏ مساراته جفَّ‏دمعُهاواحلَ‏ جَ‏ رْ‏تكلّمن ي صب وات الصباي ا اللَّوات يجن و نَ‏عن صبوات اللّواتي مضنييكلّمني صدأ صحنِ‏ البيتاملهجورتكلّمني ضحكة ابن اخلامسةلعبت ه ال ت زال تس أل ع ن ظل ه،‏ يفاجل وارتكلِّمن ي اجل دّة واألمّ،‏ وه ي تنظ رللس ماءليس حبثاً‏ عن اهلل.«‏انقطعت تلك الفتاة عن زيارتنابعد سنين،‏ وال أعرف أين أراضيهااآلن،‏ لكنها تلتقي مع إستيا ومعكثيرات وكثيرين عايشوا اللحظةالمفصلية في االنفصال،‏ منقسمينومنقسمات وجدانياً‏ وأسرياً‏ وجغرافياً‏بين شطريّ‏ الوطن:‏ وطن يحنّونإليه،‏ وآخر يتعرّفون إليه،‏ يتلمَّسونمسالكه وسط غاباته وأحراشه،‏دليلُهم حلمٌ‏ برّاق في أمن،‏ وساممكين.‏33


عمارة لخوص..‏ من األدب العربي لألدب اإليطالياالندماج بالمقلوبد.‏ حسني محمود«هم شعراء عرب وينتجون شعراً‏عربياً،‏ وهو أمر طبيعي ومنطقي.‏أما غير المنطقي في هذه الحقيقةفهو أنهم ال يعيشون في العالمالعربي،‏ بل في المهجر،‏ أي في البادالتي اختاروا أن يهاجروا إليها،‏ والتيتتحدّث لغة غير لغتهم،‏ وتعيشثقافة مختلفة،‏ وحضارة متمايزة عنحضارتهم.‏وعلى عكس مدرسة المهجر القديمةالتي قدّمت لنا جبران وأبوماضيونعيمة،‏ لم تتم بعد دراسة شعراءالمهجر المحدثين دراسة وافية كافية،‏وربما كان ذلك بسبب أنهم لم يؤثِّروافي ثقافاتهم األصلية بقدر ما أثَّرالمهاجرون القدامى.‏واألمر اآلخر هو أن مدارس النقدالحديثة ال توفِّر مساحة لدراسةإنتاجهم األدبي بمعزل عن السياقالتاريخي الذي أنجبهم.‏ فقد أصبحالناقد المختصّ‏ بهم هو ذلك المهتمّ‏بالدراسات الثقافية،‏ ودراسات ما بعداالستعمار،‏ وهو ما يضعهم في سياق‏»ثاثي«‏ الظلم،‏ فهو يظلمهم فيعزلهم عن ثقافتهم ‏»األم«،‏ ويظلمهممرة أخرى في عزلهم عن ثقافتهم‏»المتبنّاة«،‏ ويظلمهم في امتناعه عنتتبُّع تأثيرهم في الثقافتين كلتيهما.‏وربما كان األقرب إلى إنصافهمذلك المدخل المقارن الذي يدرسالحراك الثقافي المتجاوز للحدودالقومي ة،‏ وال ذي اتَّخ ذ مصطلح اً‏ جدي داً‏في سبيله للشيوع واالستخدامالمكثف،‏ وهو مصطلح transcul-»turation أو التثقف العابر للحدودوفقاً‏ لرؤية عالم المقارنة اإليطاليالش هير ‏»ارمان دو نيش ي«،‏ وه و مدخ ليطوّ‏ ر دراسات ما بعد االستعمارويأخذها من منعطف التخلّص مناالستعمارية،‏ ومن ظواهر التعدّدالثقافي والتفاعل الحضاري وحوارالثقافات،‏ إلى وضع الهجرة األدبيةفي عاقتها مع الهجرة البشرية،‏والتهجين الثقافي الحر الطبيعي الذييرافق حركة انتقال األفراد من مكانإلى آخر.‏وفي هذا اإلطار تبرز مشكلةاالندماج الثقافي بوصفها مشكلة كبرىتواجهها،‏ بقلق،‏ معظم المجتمعاتالمستقبلة للهجرة في أوروباالغربية،‏ وهو قلق ال يبرِّره سوىالتمسُّ‏ ك بالهويّة الغربية لآداب،‏ أوما يسمّى المركزية األوروبية،‏ رغماالتفاق العام بين النقّاد الغربيين علىعدم ‏»ثبات«‏ هذه الهويّة،‏ نظراً‏ لماتتميّز به الهويّة،‏ بصفة عامة،‏ منعدم الثبات،‏ وتعرّضها للتغيُّر الدائم34


بغضّ‏ النظر عن تصدير الهجرة أواستيرادها،‏ وارتباطها بالتطوّ‏ ر الثقافيلألفراد والمجتمعات،‏ وهو ما يجعلمزاعم الغزو الثقافي ‏»نكتة«‏ جاهلةسواء أخَ‏ شِ‏ ي منها الشرق أم أخَ‏ شِ‏ يمنها الغرب.‏والمضحك أن االتحاد األوروبييفرض اآلن على طالبي اإلقامة منالمهاجرين األجانب أن يجروا اختباراً‏في لغة البلد التي اختاروها مقرّاً‏لهجرتهم،‏ وهو األمر الذي يمكنتفسيره على أنه نوع من االستيطانالثقافي،‏ ويعدّ‏ عدم معرفة المهاجرللغة الوطن الثاني المختار جهاً‏ ،وال يعترف بمعرفته بلغته الخاصةوبالثقافة التي تحملها هذه اللغة.‏والذين قرروا هذا االختبار فكّروا‏-على األرجح-‏ في االندماج الثقافيكمشكلة مؤرِّقة دافعها الخوف منالغزو الثقافي لألجانب،‏ والخوف علىالهويّة،‏ وهو خوف مريض يطرحاألمر على أنه صراع على الهويّة.‏رغم أن استقبال واستيعاب الثقافاتالجديدة الوافدة هو رصيد يضاف إلىالثقافة المحلّية مما يعزِّز الهويّة،‏ واليضعفها.‏طبقاً‏ لهؤالء فإن عناصر الهويةاألوروبية تتمثّل في األصول الاتينيةوالرومانية للثقافة األوروبية وفيالدين المسيحي بوصفه مكوِّناً‏ أساسياً‏لهذه الهويّة،‏ ولم يفكّروا للحظة أنهذه المكوّ‏ نات،‏ في الحقيقة،‏ ليستأوروبية خالصة،‏ فالثقافة الكاسيكيةهي نتاج لتاريخ إمبراطوري كانيسيطر على عالم ذلك الزمان،‏ويستقي من مراكزه وأطرافه عناصرثقافته،‏ فاليونان القديمة لم تكنفقط أثينا،‏ واإلمبراطورية الرومانيةكانت تقتسم العالم مع اإلمبراطوريةالفارسية،‏ وعكست الثقافة الكاسيكيةهذا الطيف الواسع المنضوي تحتلواء هذه اإلمبراطوريات،‏ ولذلكسوف نجد فيها عناصر ثقافيةإفريقية وآسيوية.‏ أما المسيحيةفهي،‏ على العكس،‏ جزء أساسي منالهويةّ‏ الشرقية،‏ حيث نزلت واستقرّتقبل أن تهاجر إلى أوروبا غير مُ‏ رَ‏ حَّ‏ ببها في البداية.‏دعاة االندماج الثقافي هؤالءيهزمهم المهاجرون أنفسهم،‏ فتكفينظرة سريعة على اإلنتاج األدبيللمهاجرين العرب في أوروبا حتىندرك أنهم بدالً‏ من االندماج فيالثقافة المتبناة زاد اندماجهم بثقافتهماألم.‏ لنأخذ األنموذج اإليطالي،‏ وهوأنم وذج جيّ د التمثي ل،‏ ألن ه ال يحت ويعلى عنصر المستعمر السابق،‏ مثلماهو الحال مع المهاجرين في فرنساوانجلترا مثاً‏ ، مثل أدباء المغربالعربي المقيمين في فرنسا،‏ أواألدباء الهنود والباكستان المقيمينفي بريطانيا.‏يطرح هذا األنموذج أسئلة تنطوياإلجابة عنها على إثبات اندماجهمالعكسي،‏ أو االندماج بالمقلوب،‏ وفقاً‏لعن وان مق ال نش رته إح دى الدوري اتالعلمية األوروبية.‏ األدباء العربالمهاجرون في إيطاليا ال يزالونيكتبون باللغة العربية وينشرونأعمالهم في العالم العربي رغم أنبعضهم يقيم في إيطاليا منذ أكثرمن عشرين عاماً،‏ أي منذ أن انفجرتظاهرة الهجرة إلى أوروبا،‏ بلإن البعض منهم أصبحوا يحملونالجنسية اإليطالية،‏ والبعض اآلخرأصبح لديهم عائلات إيطالية،‏ويرتاد أطفالهم من الزوجاتاإليطاليات المدارس اإليطالية ‏)يصلحالكام نفسه مع اإلناث والذكورعلى حد سواء،‏ فهناك أديبات أيضاً‏مقيمات ومتزوجات من إيطاليين(.‏فهل نعدّ‏ هؤالء أدباء عرباً؟لو أخذنا مثاالً‏ الكاتب الجزائريعمارة لخوص،‏ وهو من الكتّابالذين حققوا شهرة ونجاحاً‏ معقولَيْنفي إيطاليا،‏ نجد أنه قَدّمَ‏ نفسهأوالً‏ على أنه كاتب معروف فيالعالم العربي ‏)ولم يكن كذلك علىوجه الدقة(،‏ ألنه كان ينشر أعمالهبالعربية أوالً‏ في الجزائر،‏ ويعالجفيها موضوعات تخصّ‏ المجتمعالجزائري،‏ بشخصيات كلها جزائرية.‏وهكذا بدأ وجوده األدبي في إيطالياعن طريق الترجمة.‏ وجاءت المرحلةالثانية له بحالة ‏»التأليف الرباعي«‏أي الكتابة بأربع أيادٍ،‏ هم يداالكاتب،‏ ويدا محرِّر إيطالي يصبّ‏ما تنتجه قريحة المؤلِّف في نصإيطالي قويم.‏ وبعد ذلك جاءتمرحلة الترجمة الذاتية عندما تمكَّنمن معرفة اللغة اإليطالية معرفةتكفيه لترجمة أعماله،‏ وبالطبعسوف تكون على مؤلّفه سلطةأوسع من سلطات المترجم الغريب.‏وأخيراً‏ بدأ يكتب ‏»بيدين«‏ اثنتين،‏وباللغ ة اإليطالي ة ف ي األص ل،‏ وربم ايترجم ما يكتبه إلى العربية،‏ أو اليفعل.‏أين يمكننا أن نضع تصنيف مثلهذه المؤلفات؟ في األدب العربي؟ فياألدب اإليطالي؟ هل يكفي أن يكونالمؤلف مكتوباً‏ بالعربية حتى ينتميإلى المجال األدبي العربي؟ هل يكفيالموضوع المؤلَّف عن المجتمع العربيلكي يضع الكتاب ضمن المجال األدبيالعربي؟ النقاد اإليطاليون حتى اآلنلم يعترفوا بأدب الضيوف المهاجرينعلى أنهم من أصحاب الدار.‏ ومن ثمفإذا لم يتمّ‏ قبولهم في األدب العربيفلن يجدوا مكاناً‏ خارجه.‏وهناك أنموذج األدباء المصريينالذين الزالوا يكتبون باللغة العربية‏،وينشرون أعمالهم في مصر،‏ويناقشون-بحماس شديد-‏ قضاياوطنهم األم.‏ بل إن كثيراً‏ من الشعراءالمصريين في إيطاليا اختارواالعامية لكي تكون هي اللغة التيينظمون بها قصائدهم،‏ أي أن كلمحاوالت إدماجهم الثقافي بالمجتمعالذي وفدوا إليه قد باءت بالفشل.‏يستوي في هذا شعراء مثل محمديوسف ومجدي سرحان وهشامفياض وسامة الطويل وغيرهم،‏رغم أن استخداماتهم اللغوية فيهابعض العناصر الجديدة،‏ مثل الحريةاألكبر في استخدام رصيد المفرداتوتهجينها ببعض المفردات اإليطاليةأو المتأثرة باللغة اإليطالية.‏وتظلّ‏ األسئلة حول االنتماءوالهوية األدبية للمؤلِّفين العربالمهاجرين محلّ‏ نظر،‏ رغم أننيأميل إلى تصنيفهم ضمن أدب العالم،‏أو األدب اإلنس اني،‏ أو األدب ‏)الب دون(،‏أي األدب بغض النظر عن الجنسية.‏35


أقنعة إيريك زمورعبد اإلله الصالحيفي العقد األخير تحوَّ‏ ل الكاتبواإلعامي الفرنسي إيريك زمور)1958( إلى مُ‏ نَظِّ‏ ر أساسي،‏ ومُ‏ رَ‏ وِّ‏ جناجح لألفكار القومية والعنصريةالمتطرِّف ة ف ي الس احة الفرنس ية.‏ كم اتحوَّ‏ ل-‏ أيضاً-‏ إلى أنموذج صارخلمفارقة شديدة وصارخة يتحوَّ‏ لفيها سليل الهجرة إلى مهاجميقود حرباً‏ شرسة ضدّ‏ الهجرةوالمهاجرين.‏ ورغم أنه يفضِّ‏ ل وصفنفسه في وسائل اإلعام ب»اليهودياألمازيغي«‏ فهو-‏ كما يؤكِّد ذلكالباحث الفرنسي من أصول يهوديةجزائرية بنيامين سطورا-‏ سليلعائلة يهودية جزائرية من أصولعربية عاشت أباً‏ عن جَ‏ دّ‏ في مدينةسطيف بالشرق الجزائري.‏ ولقب‏»زمور«،‏ وهي لفظة أمازيغية تعنيالزيتون،‏ شائع في تلك المنطقةبي ن اليه ود والع رب أيض اً.‏ وهاج رتعائلة زمور إلى فرنسا في مطلعالخمسينيات من القرن الماضي،‏واستقرّت في ضاحية ‏»مونتروي«‏الباريسية،‏ ثم في الدائرة الثامنةعش رة بباري س،‏ المعروف ة باحتوائه اللطبقات الشعبية وللمهاجرين من كلالجنسيات والديانات.‏كتاب زمور األخير ‏»االنتحارالفرنسي«‏ الصادر عن دار ‏»ألبانميشال«‏ حَ‏ قَّقَ‏ رقماً‏ قياسياً‏ منحيث حجم المبيعات.‏ هذا النجاحاالستثنائي يتوازى مع الصعودالمدوّ‏ ي لليمين العنصري المتطرِّفبزعامة مارين لوبين ‏)رئيسة حزبالجبهة الوطنية(‏ وتفشّ‏ ي األفكارالعنصرية في األوساط الشعبيةوالنخب السياسية على حَ‏ دّ‏ سواء.‏فالكتاب خلطة شعبوية تنضحبالطروحات العنصرية والرجعيةالتي تشكِّل جوهر األيدولوجيااليمينية المتطرِّفة.‏وخال 500 صفحة من القطعالمتوسّ‏ ط وأربعة فصول رئيسيةيعي د الكات ب ق راءة التاري خ الفرنس يالحديث منذ عام 1970، ويعدّهسيرورة انتحار بطيء على يد نخبةسياسية وثقافية يصفها ب»الخائنة«‏لكونها ضحَّ‏ ت بثوابت األمة الفرنسيةاألخاقية والثقافية،‏ وفسحت المجالواسعاً‏ للهجرة التي كسرت هذهالثوابت.‏ ويندِّد الكاتب باإلضعافالمنظّ‏ م والمنهجي من طرف النخبالسياسية لهيبة الدولة،‏ وانحسارسيطرتها في مختلف المجاالت مركِّزاً‏على االقتصاد والثقافة.‏ ويتباكىالكاتب على ‏»فرنسا«‏ العظيمةالتي وَ‏ لّتْ‏ إلى غير رجعة،‏ تلكاإلمبراطورية ذات العرق األبيض،‏القوية والمتماسكة التي تحكمهانخبة قومية كاثوليكية،‏ وتنصهرفيها األقليات في رمشة عين،‏وبالقوة.‏يلعب إيريك زمور على هذاالوتُّ ر بح ذق وبمك ر مس تعرضاً‏ جمل ةمن األحداث والوقائع التاريخيةالتي يحلِّلها من زاويته الخاصة،‏وغالباً‏ ما يحرِّفها مثل ما فعل معحكومة ‏»فيشي«‏ التي وقَّعت معاهدةالسِّ‏ لْم م ع ألماني ا النازي ة الت ي عَ‏ دّه احكومة مدافعة عن اليهود،‏ وأنهبفضلها تَمَّ‏ حقن دماء اآلالف مناليهود الفرنسيين.‏ واستغرب العديدمن المؤرِّخين والنقّاد هذا التحريفالفاضح للتاريخ الفرنسي،‏ فالوقائعالتاريخية تثبت-‏ بالدليل الملموس-‏كيف أن حكومة ‏»فيشي«‏ قدمت اليهودالفرنسيين كهدية للنظام النازي،‏وكانت المسؤول األساسي عنترحيل آالف منهم إلى المعسكراتالنازية في ألمانيا.‏ويَتَّهم زمور الدولة الفرنسيةبالعمل على تفكيك مفهوم العائلةوإضعاف سلطة ‏»األب«‏ حين أصدرتقانوناً‏ عام 1970 ينصّ‏ على منحاألم حَ‏ قّ‏ رعاية األطفال بمفردها.‏ كمايتَّهمها ببيع الباد حين تخلَّت عنعملة الفرنك،‏ رمز القوة االقتصاديةالفرنسية،‏ وفتحها الحدود لمن هَ‏ بَّ‏ودَ‏ بّ‏ بانضمامها إلى معاهدة ‏»شنغن«‏التي أقرَّها االتّحاد األوربي.‏ أما36


إيريك زمور‏»األعداء«‏ الذين يقفون – بحسبه - وراءانحطاط األمة الفرنسية فهم:‏ النخبةالسياسية بيمينها ويسارها،‏ وأنصارتحرُّر المرأة،‏ والمهاجرون ومثليوالجنس،‏ والفنانون المتأثّرون بأفكاراالنتفاضة الطابية عام 1968.ويلجأ زمور إلى استعراض رموزالثقاف ة الش عبية ف ي الغن اء والس ينماواألدب التي تمثِّل-‏ من وجهةنظره-‏ الدعامات األساسية للهويّةالفرنسية.‏ كما يشنّ‏ هجوماً‏ شرساً‏على األشكال الموسيقية الجديدةالناتجة عن تاقح الثقافات،‏ ويندِّدبالفن المعاصر بوصفه تخريباً‏ للفنالتشكيلي الراقي.‏ وال يتوانى زمورعن التاعب باألرقام واإلحصائيات،‏فيقدِّم أرقاماً‏ مخيفة عن أعدادالمهاجرين وعدد عقود الزواجالمختلط بين الفرنسيات واألجانب،‏وال يترك موضوعاً‏ من غير أنيستعمله لتدعيم طروحاته؛ فالرجلفي المجتمع الفرنسي المعاصرضحية للحركات النسائية ولعمليةتأنيث ممنهجة.‏ وفي هذا السياقيقول ما يكرِّره العنصريون والعامةفي محافلهم الشخصية:‏ ‏»إن األجانبيسرقون خبزنا ونساءنا«.‏ غير أنزمور يذهب بعيداً،‏ ويكتب ‏»أناأفضِّ‏ ل أن أنال المرأة دون أن أفهمهاعوض أن أفهمها دون نيلها«‏ وال ينسىالكاتب أن يؤكِّد-‏ أيضاً-‏ بأنه يتمنّىلو عادت المرأة إلى سابق عهدها،‏ربّة بيت تعتني باألطفال والتربيةبدل العمل...‏ كل شيء وارد بالنسبةلزمور،‏ وكل الوسائل مباحة للتدليلعل ى م وت الهوي ة الفرنس ية الطاه رةوانحطاط الثقافة وأفول الفحولةالفرنسية.‏نجاح ‏»االنتحار الفرنسي«‏ مَ‏ رَ‏ دّه-‏أيضاً-‏ إلى مهارة إيريك زمورفي استعمال اإلعام والتصريحاتاالستفزازية المثيرة للجدل،‏ خاصةعبر التليفزيون الذي فتح لهالمجال واسعاً‏ للتعبير عن أفكارهالشعبوية والعنصرية ضدّ‏ اإلسام،‏والمهاجرين بشكل خاص.‏ والواقع أنزمور انتهج،‏ منذ سنوات،‏ سياسةاالستفزاز كوسيلة ناجعة لخلقالجدل حوله واستمالة الفرنسيينالمتعاطفين مع اليمين المتطرّف،‏العب اً‏ عل ى عق دة الخ وف م ن الغري بواألزمة االقتصادية.‏ وقبل حواليعامين صَ‏ رَّحَ‏ - بكل حياء،‏ في أحدالبرامج التليفزيونية -: ‏»من الطبيعيأن يكون الفرنسيون من أبناءالمهاجرين عرضة لعمليات التدقيقفي الهوية من طرف الشرطة،‏ ألنأغلب المهرّبين والمتاجرين بالمخدِّراتهم إما عرب أو أفارقة«!‏ وفي سياقآخر تجرَّأ وندَّد بما أسماه ‏»التاشيالمنظّ‏ م للشعب الكاثوليكي األبيضلفائدة المسلمين«‏ متفوِّقاً‏ بذلك علىعتاة السياسة من اليمين المتطرِّفالذين-‏ رغم حقدهم الدفين علىالمهاجرين واألجانب-‏ يحرصون علىعدم إطاق تصريحات من هذا النوع.‏ورغم هذه الطلعات اإلعامية التييعاقب عليها القانون،‏ فالرجل يُاقىبالترحاب أينما حلّ‏ ، وصارت برامجالقنوات التليفزيونية تتهافت منأجل استضافته والتصفيق لجرأته،‏كما أنه ينشط بقوة في اإلذاعةوالصحافة المكتوبة؛ ما يعكس-‏فعاً‏ - درجة التسامح المخيفة التيصارت تُعامل بها األفكار العنصريةفي الفضاء الفرنسي العام.‏ كماأن نجاح ظاهرة ‏»زمور«‏ اليهوديالفرنسي والعنصري قد تكونشهادة صريحة على انحطاطثقاف ي وانتح ار مري ع لقي م اإلنس انيةالفرنس ية المتس امحة،‏ ف ي بل د يجع لمن كاتب،‏ بهذه الدرجة من السطحيةوالشعبوية والعنصرية،‏ كاتباً‏ ناجحاً‏بمقاييس الشعب والنخبة.‏37


بين الضفتينإيزابيلال كاميراعن كرة القدم وعن الهجرةذهب صديقان لي منذ سنوات إلى أحد بلدان المغربالعرب ي اخت اراه وطن اً‏ ثاني اً.‏ ف ي كل م رّة كن ت التقيهم ا كان ايعبران فيها عن سعادتهما في ذلك البلد،‏ حيث كل شيءجميل،‏ والناس طيبون،‏ والطعام رائع،‏ ولون البحر كثيف،‏وزرقة السماء فريدة،‏ وما إلى ذلك.‏ قاما أيضاً‏ بشراء منزليحمان إليه في كل سفر قطعة من إيطاليا،‏ مثلما يحمانفي العودة إلى إيطاليا شيئاً‏ من المغرب العربي.‏ وكاناكلما رأيتهما يشكوان لي كم يجتهدان لتعلّم اللغة العربيةأو باألحرى اللغة العامية الدارجة المستخدمة في تلكاألنح اء،‏ ولكنه م ل م يكون ا ينجح ان،‏ ولذل ك كان ا يتواص انباللغة الفرنسية.‏ أصبح منزلهما على مرّ‏ الزمن مرفأ مفتوحاً‏لسكان الحي،‏ والذي كان حياً‏ شعبياً،‏ وكانا يسعيان بسخاءإلى إيجاد حل لكل من لديه مشكلة.‏ ولكن هناك حدوداً‏لكل شيء،‏ فلم يكونا يستطيعان عمل شيء في مساعدةمن يريدون الحصول على تأشيرة إيطاليا،‏ بسبب قسوةالقوانين اإليطالية واألوروبية في هذا الصدد.‏ومع ذلك،‏ كان هناك شيء واحد فعاه بقلب مفتوح.‏كان األطف ال ف ي الح ي ق د أنش أوا لس نوات فريق اً‏ لك رة الق دموكانوا يدعون صديقاي دائماً‏ لحضور المباريات.‏ وحملالصديقان ذات مرة من إيطاليا بضعة قمصان ألبطال الفرقاإليطالية مثل روما أو يوفنتوس،‏ وأعطياها لألطفال.‏ ولذلكفإنه ليس من الصعب أن نرى في هذا الحي،‏ أطفاالً‏ يرتدونالقمصان الزاهية لعدد من األبطال مثل توتي،‏ وديل بييرو،‏وباجيو..‏ وأسماء أخرى مشهورة،‏ معروفة لمشجعي كرةالقدم.‏وفي الوقت نفسه،‏ كان ينمو لدى هؤالء األطفال حلم‏»الكالتشو«‏ اإليطالي،‏ فكانوا يحلمون بإمكانية اللعب ولومباراة واحدة على ملعب حقيقي لكرة قدم في إيطاليا.‏كان صديقاي،‏ عاوة على الكرم الذي يتحليان به،‏ يتسمانأيضاً‏ بالدأب،‏ فسعيا إلى العثور على حل،‏ عن تأشيرةدخول لخمسة عشر شخصاً‏ بين العبين ومدربين وما إليه.‏فعا الكثير بغية النجاح،‏ وما بين مشاعر األمل واليأسالمتناوب ة وبع د ط ول انتظ ار،‏ وخيب ات األم ل،‏ أخي راً‏ ج اءتاللحظة المصيرية،‏ واقترب الحلم المرتقب منذ وقت طويلم ن التحقي ق،‏ وس افر الفري ق الصغي ر بأكمل ه م ن ح ي فقي ربشمال إفريقيا الستضافته في مقاطعة قريبة من روماتكفلت بجميع تكاليف المغامرة،‏ بدءاً‏ من التأشيرات حتىاإلقامة لمدة أسبوعين.‏ بالطبع كان البطان الحقيقيان لهذه‏»المعجزة«‏ هما هذان الصديقان،‏ اللذان اهتما بكل التفاصيل.‏كانت إقامة هؤالء الشباب الرياضيين تشمل التدريباتاليومية،‏ وكذلك الزيارات الثقافية إلى المدينة والمناطقالمحيطة بها.‏ كانت رحلة هؤالء الشباب إلى إيطاليا رحلةال تُنسى.‏ وبتنا نسمع في العديد من اللقاءات العامة عباراتمثل:‏ ‏»الرياضة فقط هي التي يمكنها أن تمثل جسراً‏ حقيقياً‏للتواصل بين ضفتي البحر األبيض المتوسط،‏ اللقاءالحقيقي بين الشعوب والثقافات،‏ على أساس من الثقةواالحترام...«،‏ ومضت التدريبات على نحو جيد رغم أنإعداد فريق أشبال شمال إفريقيا لم يكن على نفس مستوىإعداد أقرانهم اإليطاليين،‏ وعندما جاء يوم المباراة،‏ خسروا5/0 من أشبال فريق روما،‏ لكنها كانت خسارة بشرفوبهج ة.‏ ش رف اللع ب م ع المحترفي ن الصغ ار وبهج ة الق درةعلى الخروج من بادهم،‏ وهو ما البد أن يكون أمراً‏ طبيعياً‏لجميع البشر الذين ليس من المعقول أن يحرموا من حريةاالنتقال والتعرّف على العالم بسبب عدم الحصول علىتأشيرة.‏ولكن قبل يوم واحد من المغادرة،‏ وكان من المفترضأن يحل الفريق الصغير ضيفاً‏ على حفل عشاء أقامه لهمالمنظم ون والس لطات الدبلوماس ية واألهلي ة،‏ ل م يص ل حت ىالساعة الثامنة مساء سوى فردين فقط.‏ واحد من المدربينوواحد من األطفال.‏ لم يستغرق األمر وقتاً‏ طوياً‏ لمعرفةما حدث،‏ وما لم يكن أحد على استعداد لتصديقه وال سيماصديقاي.‏ كيف هان على هؤالء الصغار أن يخونوا ثقة منب ذل م ن أجله م كل جه د لك ي يحقق وا حلمه م؟ كان ت الصديق ةهي األكثر إحباطاً،‏ فماذا عساها تقول ألمهات هؤالء األطفالعندما تعود إلى ذلك البلد المغاربي؟ إنهم ال يزالون أطفاالً‏من - 14 15 سنة،‏ فأين يمكن أن ينتهي بهم الحال في إيطاليا؟من يدري ماذا يمكن أن يحدث لهم.‏ طاردها هذا الكابوس أياماً‏وأس ابيع وش هوراً‏ كثي رة قب ل أن تس تجمع ش جاعتها وتع ودإلى البيت الذي اشترته على الجانب اآلخر من المتوسط.‏كانت تنوي أن تزور هؤالء األمهات شخصياً‏ لكي تعزيهنولكي تسألهن عن أخبار أطفالهن الذين كانت هي نفسهاتحبه م كثي راً،‏ والذي ن ل م تعث ر الش رطة األوروبي ة له م عل ىأثر.‏ ولكن ما لم تستطع حتى تخيله طريقة استقبال تلكاألمهات الاتي كانت تخشاهن حقاً:‏ فقد استقبلنها كملكة،‏كبطلة،‏ البطلة التي عبرت البحر بأطفالهن بمنتهى األمان،‏ب دالً‏ م ن أن يركب وا ق وارب الم وت.‏38


متى ستستحي الحكومات من المثقَّ‏ ف؟وجدي األهدلفي منتصف القرن الماضي،‏دُ‏ عِ‏ ي الشاعر الشاب النابغة ‏)عبداهللالبردوني(‏ إللقاء قصيدة في عيدالجلوس فوافق.‏ وكان المتوقَّع أنيُلقي قصيدة مديح – كما جرت عادةالشعراء-‏ ويقبض مكافأته.‏ ولكنهفاجأ الجميع،‏ وألقى قصيدة تطالبباإلصاح،‏ وتنتقد األوضاع،‏ فأمراإلمام أحمد حميد الدين،‏ ملك اليمن-‏آن ذاك-‏ بزجّ‏ ه ف ي الس جن.‏ فلم ا مَ‏ رَّتاأليام طلب اإلمام أن يُحضروا إليهالشاعر األعمى،‏ فأحضروه وهومكبَّل باألصفاد،‏ فراح اإلمام يحدِّقفي البردوني مُ‏ صعّ‏ داً‏ فيه النظرومتأمّ‏ اً‏ رثاثة ملبسه وهيئته التيأزرى بها الحبس،‏ ثم قال للبردوني:‏‏»ألنكم ال تبصرون فأنتم ال تستحون«.‏فردَّ‏ عليه البردوني بسرعة البديهة:‏‏»ولكن،‏ ها أنتم ذا تبصرون ومعهذا ال تستحون!«.‏ صُ‏ عِ‏ ق اإلمام أحمدمن الجواب المُ‏ فحِ‏ م،‏ فلم يجد بدّاً‏ منإطاق سراح هذا الشاعر حياءً‏ منإعاقته البصرية وموهبته الشعرية.‏وفي العهد الجمهوري،‏ تحديداً‏سبعينيات القرن الماضي،‏ دُ‏ عيالبردوني لمناسبة مشابهة ‏)عيد ثورةالسادس والعشرين من سبتمبر/‏أيلول(،‏ فألقى قصيدة تطالبباإلصاح وتنتقد األوضاع.‏ وماكاد الحفل ينتهي حتى تلقّى إنذاراً‏بمغادرة البلد خال أربع وعشرينساعة،‏ فغادر اليمن-‏ مضطراً-‏ إلىالمنفى،‏ فمكث في دمشق عاماً‏ونصف عام،‏ ثم عاد إلى اليمن بعدأن تغيّر النظام.‏يجري مثل هذا كثيراً،‏ والهدفواضح:‏ إبعاد المثقَّف إلى الخارجليفقد اتّصاله بالداخل،‏ فتضعف قدرتهعلى فهم حقيقة ما يجري،‏ ومن ثَمَّ‏يتاشى تأثيره.‏عاد البردوني إلى اليمن،‏ وتعلَّمالحكّام الدرس،‏ فلم يوجّ‏ هوا إليهأية دعوة بعد ذلك لحضور أعيادهموحفاتهم!‏إذا جرى اعتبار الوطن مكاناً‏لاحتفال،‏ والحياة العامة عيداً‏ دائماً‏للحاكم،‏ فإن على المثقَّف العربي-‏وفقاً‏ لهذا التوصيف-‏ أن ينهض منفراشه كل صباح،‏ ويقول للطبقةالسياسية الحاكمة:‏ ‏»وطن سعيد،‏وكل يوم وأنتم بخير«.‏ وتتمّ‏ ترجمةهذه المقولة عبر كتابة المقاالتوالتصريحات الصحافية والتغريداتفي تويتر،‏ وعلى صفحته فيالفيسبوك،‏ وحتى وهو ينتقي كلماتهمع أصدقائه وفي محيط عمله.‏ ومنال يفعل هذا سيجد نفسه منبوذاً‏ غيرمرحَّ‏ ب به في وطنه،‏ وعليه أن يُفكِّرجدّياً‏ في البحث عن منفى يَقبل به.‏إن الدور المطلوب من المثقَّف العربيهو ‏»المديح«،‏ وإذا هو خرج عن أداءهذا الدور الوضيع،‏ وتقمَّص شخصيةالمصلح االجتماعي،‏ فإنه سيكونمحظوظاً‏ إذا تمكَّن من النجاة بجلده،‏واللجوء إلى أحد المنافي قبل أنيتع رَّض ل ألذى أو التصفي ة الجس دية.‏يجد المثقَّف العربي في الغرب‏»المنفى«‏ الذي يكفل له الشعوربالكرامة واألمان،‏ وأيضاً‏ الشعوربنعمة الحرّية.‏ و»الحرّية«‏ مسألةهامة يجدر بنا أن نتوقَّف عندهاقلياً‏ ، ذلك أن المثقَّف العربي يدعوإلى ‏»الحرّية«‏ في الصبح وفيالمساء،‏ ولكنه لم يتمكَّن أبداً‏ منممارستها..‏الفرصة الوحيدة المتاحة أمامالمثقَّف العربي للحصول على حرّيةكاملة غير منقوصة،‏ هي الرحيلإلى الغرب.‏ ولكن هذا الخيار-‏ وفيأكثر الحاالت اضطراراً-‏ سيؤدّيإل ى انقط اع ص ات المثقَّ ف بمجري اتاألحداث اليومية في بلده.‏السلطات العربية تُقدِّم للعالمالخارجي صورة وردية:‏ المواطنونأحرار،‏ والديموقراطية متوافرة بكمياتتجارية!‏ بينما المثقَّف الملتزم يُغرّدخارج السرب،‏ ويذكر الحقيقة عاريةكما هي:‏ المواطنون مُ‏ قيَّدون بالسمعوالطاعة،‏ والديموقراطية كذبة!‏نستفيد من الواقعة التي أوردناهاعن البردوني ضرورة أن تتحلّىالحكومات العربية بالحَ‏ دّ‏ األدنىمن الحياء!‏ هذا يعني حركة فياتِّجاهين:‏ أالّ‏ تخجل حكوماتنا منمشاكلها السياسية واالجتماعيةواألخاقية والتربوية،‏ وأن تكفّ‏ عناإلنكار والمزايدات التي ال طائل منورائها،‏ وأن تسمح للمثقَّفين بقول‏»الحقيقة«.‏ ليس هذا فقط،‏ بل عليهاأن ‏»تستحي«‏ منهم عندما تسمع نقداً‏صحيحاً،‏ فتسارع إلى العمل لوضعاألمور في نصابها الصحيح.‏39


لعب وجدستفانو بينيرحلة األبناء الثالثةكل شخص يغير بلده يحتفظ بجزء من ثقافته ويضحي بآخر.‏ذلك أنه البد أن يترك مساحة في قلبه للثقافة التي يلتقيها.‏أحياناً‏ تمحو الثقافة الجديدة الثقافة األخرى،‏ وأحياناً‏ ما يتمالحفاظ على القديمة مع رفض الجديدة،‏ وأحياناً‏ تعيش الثقافتانمعاً،‏ وهو أفضل حل.‏ ولكن السفر رحلة تختلف من شخص إلىآخر.‏ وكما هو الحال دائماً،‏ اسمحوا لي أن أشرح ذلك بقصة.‏كان لرجل أوالد ثاثة هاجروا إلى أجزاء مختلفة من العالم.‏ومرّت سنوات عديدة،‏ وذات يوم عاد األول.‏كان قد تزوّ‏ ج من امرأة من ذلك البلد الذي أصبح بعيداً‏ اآلن،‏ورزق منها بابن لم يكن يتكلّم لغة األب،‏ الذي نسي هو نفسهلغته األصلية.‏ لم يكن يشعر باالرتياح،‏ ولم يعد يحب األماكنالتي عاش فيها من قبل،‏ وقال ألبيه إنه لم يعد يريد أن يبقىفي البلد التي ولد فيها،‏ نظراً‏ ألنه لم تعد بلده.‏قاله له األب:‏ ‏»انتظر لبعض الوقت،‏ فربما يتغير شيء«.‏بعد ذلك بقليل عاد االبن الثاني،‏ مع ابنة له.‏ كان قد عانىكثيراً‏ في البلد التي هاجر إليها،‏ فقد تعرّض فيها للتهميشوالتحقير.‏ لم يكن يعثر على عمل بسهولة فتركته زوجته.‏ قالألبيه إنه لن يترك بلده بعد ذلك أبداً.‏ وإنه سوف يبقى فيهاحتى ولو جاع.‏ ‏»أنا أكره العالم الخارجي«.‏‏»انتظر لبعض الوقت،‏ ربما تغير رأيك«‏ قال األب.‏وفي الشهر التالي عاد االبن الثالث.‏ هو أيضاً‏ واجه مواقفعصيبة،‏ ولكنه نجح وأصبح ثرياً.‏ وكان لديه اثنان من األبناءيرتديان أفخر المابس ويتحليان بالغطرسة.‏ قال ألبيه:‏ ‏»فيالحقيقة،‏ ال يهمني كثيراً‏ في أي بلد أعيش،‏ يكفيني كسب المالوالحياة في رغد،‏ وفيما عدا ذلك تستوي البلدان.‏ وسوف أظلّ‏هنا إذا تمكنت من ضمان صفقات جيدة.‏ وإال فسوف أرحل«.‏‏»انتظر وسنرى ماذا سيحدث«‏ قال األب.‏وبعد شهر بدا أن شيئاً‏ لم يتغير.‏ االبن األول لم يكن راغباً‏في أي شيء من بلده القديم،‏ فلم يكن يتكلّم إال مع زوجته،‏ولم ينجح في عقد صداقات مع أحد،‏ وقال إنه في عجلة منأمره حتى يعود أدراجه.‏أما االبن الثاني فقد كان يسكر مع األصدقاء القدامى،‏ وكانيعمل دون حماس،‏ وكان يظلّ‏ لساعات جالساً‏ في الميدان،‏ وكانيكره األجانب كافة.‏والتقى االبن الثالث بعض وجهاء بلدته،‏ وحاول أن يشترياألراضي،‏ ثم غَ‏ ضّ‏ النظر عن كل شيء،‏ وقال:‏ ‏»أعتقد أننيسوف أرحل أيضاً،‏ فهناك بلاد أكثر ثراء من هذا«.‏قلما كان األبناء الثاثة يتحدثون وقد أصبحوا مثل الغرباء.‏وذات يوم استدعاهم األب العجوز وقال لهم:‏‏»أنا أفهم أنكم أصبحتم مختلفين،‏ ألن االبتعاد كان عندكل واحد منكم مختلفاً.‏ ولكن أود أن أريكم شيئاً.‏ تعالوا إلىالنافذة...«‏وأراهم أطفالهم،‏ الذين هم أحفاد العجوز.‏ كانوا يلعبونمعاً،‏ وقد عقدوا وشائج الصداقة فلم يعودوا ينفصلون عنبعضهم البعض.‏وقال العجوز:‏ ‏»كل رحلة قاسية،‏ وكل رحلة فرصة،‏ يجبأن تفهموا ما قد فهمه أطفالكم على نحو أفضل كثيراً‏ مما فهمتم.‏كل بلد يمكن أن يصبح بلدك إذا تحليت باألمانة وحب المعرفةوالتواضع مع اآلخرين،‏ حتى ولو رفضك البلد الجديد في البداية.‏وسوف يظلّ‏ دائماً‏ في القلب البلد الذي شهد ميلادك،‏ حتى لوكنت قد عانيت فيه.‏ ارحلوا متى شئتم وعودوا متى شئتم.‏لقد ولدتم هنا،‏ وأنتم أبناء هذا العالم.‏ إذا كرهوكم فاجعلوهميحبونكم،‏ ولكن ال تكونوا أنتم أبداً‏ البادئين بالكراهية.‏ مهماحدث فأنا عجوز،‏ وال أطلب منكم اليوم إال شيئاً‏ واحداً:‏ ياأوالدي،‏ تساعدوا«.‏ولكم أن تفكروا فيما انتهت إليه القصة.‏40


رحيلجورج جرداقليلة القصيدةخاص بالدوحةمن يذكر اسم الراحل جورج جرداق البدّ‏ أن يذكررائعة أم كلثوم ‏»هذه ليلتي«‏ )1968(، التي لحَّ‏ نَهاالموسيقار محمد عبد الوهاب.‏ لم يكن جورج يؤمنكثيراً‏ بالمصادفات،‏ لكنه وقع فيها،‏ ومهَّدَت له مصادفةجميلة طريقاً‏ نحو قلب ‏»كوكب الشرق«،‏ ومن ورائهاقلوب اآلالف من محبّيها.‏لكن جورج جرداق )1931 - 2014( هو-‏ قبل كلشيء-‏ شاعر وصحافي ومولع بصفاء اللغة ومتاهاتها،‏جاء من الجنوب إلى بيروت،‏ وارتبط بالمدينة تماماً‏مثل ارتباطه بالكتابة،‏ فقد ظلّ‏ ، دائماً،‏ وفيّاً‏ لها،‏في كتاباته وفي حياته اليومية العادية.‏ كان الراحليقرأ باللغتين،‏ العربية والفرنسية،‏ يزاوج بينهما فيالمطالعة،‏ وينتصر للعربية وحدها لحظة الكتابة.‏ درسفي الكلّيّة البطريركية،‏ واشتغل-‏ أوالً-‏ في الصحافة،‏قبل أن يبرز كاسمٍ‏ ثابت في المشهد الشعري اللبنانيسنوات الستينيات،‏ وتوالت دواوينه الشعرية:‏ ‏»أناشرقية«،‏ ‏»بوهيمية«،‏ ‏»إلهة األولمب«،‏ ‏»قصائد الحبّ‏ »و»أبدع األغاني«،‏ لكنه لم يكتفِ‏ بالشّ‏ عر كبديل عنضجيج العالم الذي يحيا فيه،‏ وجرّب في أصنافكتابية أخرى،‏ فقد وقّع أولى عاقاته باألدب مع كتاب‏»فاغنر والمرأة«،‏ عن المسرحي والموسيقي ريتشاردفاغنر ‏)وهو لم يتجاوز التاسعة عشرة(،‏ واستمرَّتالتجربة مع نصوص قصصية ومسرحية أخرى،‏ منها‏»صاح الدين«،‏ ‏»شاعر وجارية في قصور بغداد«،‏‏»المطرب«‏ و»الوالي«،‏ وإلى جانب االشتغال األدبي،‏ فقدترك الراحل رصيداً‏ مهمّاً‏ من كتب ومجلّدات في الفكروالفلسفة،‏ على غرار ‏»موسوعة اإلمام علي«،‏ التيصدرت في ستة مجلدات.‏يُذكر أن الموسيقار محمد عبد الوهاب كان سبباً‏ فيلقاء جورج جرداق بأم كلثوم في عمل فنّي،‏ حيثاستمع،‏ في لقاء جمعهما في بيروت،‏ إلى مقاطع من‏»هذه ليلتي«،‏ واشتغل عليها،‏ قبل أن تؤدّيها أم كلثومعلى خشبة المسرح القومي في السودان،‏ ليشتهر اسمهواسعاً،‏ في الوطن العربي،‏ كما تعاون أيضاً‏ معالفنان الراحل اآلخر وديع الصافي في كتابة كلماتأغنية ‏»نغم ساحر«،‏ التي وقّع ألحانها الفنان رياضرسوم:‏ إسماعيل عزام - العراقالسنباطي،‏ قبل أن يتقاطع جرداق في مهاجاة طريفةمع األخوين الرحباني في لبنان،‏ في واقعة استمرّتستّة أشهر كاملة على صفحات ‏»الشبكة«،‏ فرغم تنوُّ‏ عتخصُّ‏ صاته الفنية واألدبية،‏ ظلت الصحافة دائماً‏ الرفيقةاألوفى له،‏ وبقي هو-‏ أيضاً-‏ وفيّاً‏ لها ممارساً‏ للكتابةالصحافية بالشغف نفسه،‏ كما كانت سنوات الشباباألولى،‏ مطلع خمسينيات القرن الماضي،‏ وقد تنقَّل فيحياته بين عناوين كثيرة:‏ الصياد،‏ والشبكة،‏ واألنوار،‏والكفاح العربي،‏ والجمهور الجديد،‏ واألمن،‏ والمجلةالسعودية،‏ والوطن،‏ والقبس الكويتية.‏هكذا-‏ إذاً-‏ رحل جورج جرداق،‏ وبرحيله سقطتورقة من أوراق الذاكرة الثقافية العربية،‏ التي سيستمرّ‏الدارسون والباحثون في العودة إليها باستمرار،‏فبصمة الرجل وحضوره سيبقيان مستمرّين.‏ ويذكربعض المقرَّبين من الراحل أن جورج جرداق،‏ لمّا كانطفاً‏ ، كان يفرّ‏ أحياناً‏ من الصف،‏ ويختلي بنفسه بعيداً‏لحفظ شعر المتنبي ومطالعة مقامات ناصيف اليازجيفي كتاب ‏»مجمع البحرين«.‏ هكذا،‏ رسم مساراً‏ له وهوصغير،‏ وقرّر أن يعتنق الكتابة واألدب كخيار استمرَّ‏عليه 83 سنة.‏41


الحرف العربيالجريحالعمل الفني:سلمان المالك - قطر42


ملفقبل اإلسام بقرون أخذ العرب،‏حسب بعض الدراسات التاريخية،‏طريقة الكتابة عن األنباط،‏الذين كانوا قد استوطنوا باداآلراميين في العصر الهيليني،‏وعمّروا فلسطين وشرق األردن وجنوبالشام،‏ فشيّدوا البتراء ومدائن صالح وتدمروتبوك،‏ كما انتشروا في شمال الحجاز،‏وخال هذا الوجود هيمن النبطيون علىالطرق التجارية بين الشام وجنوب اليمنوالهند،‏ ومن صنعاء إلى مكة،‏ إلى مصروالبحر المتوسط،‏ ولما كانت عاقاتهمالتجارية قد امتدت إلى اليونان وإيطالياوإفريقيا الشمالية،‏ فإن النشاط التجاريواكبته المثاقفة وانتقال مظاهر الحضارةفكان خط الكتابة ينتشر في هذه األنحاءالمذكورة.‏ إلى أن قضى الرومان على الدولةالنبطية،‏ وذلك في عام ‎106‎م.‏وباعتبارها مركزاً‏ تجارياً‏ فقد تمتعتمكة باقتصاد قوي،‏ مما أدى تدريجياً‏ إلىانفصال الخط العربي عن الخط اآلرامي،‏ثم عن خط جنوب اليمن المسمى بالمسنددالحميري.‏ لكن هذا التخلّص لم يصاحبهتجويد على مستوى الشكل والتنويع،‏ وقداستمرّ‏ الخط بسيطاً‏ ومحدوداً‏ إلى أن ظهراإلسام أوائل القرن السابع الميادي.‏ فكانتالكتابة العربية عند نزول القرآن قادرة علىخدمة آخر الرساالت السماوية بما يتطلّبذلك من نقاوة ودقة،‏ ولهذه الغاية كانالخط الكوفي أول الخطوط المستعملة فيتدوين المصاحف لما يتمتع به من فخامةووضوح قبل أن يتطوّ‏ ر بمعية الخطينالمكي والمدني،‏ حسب ما يذكره ابن النديمفي الفهرست.‏من عصر إلى آخر كانت رحلة الخطالعربي تتوسع وتزيد في انتشاره،‏ فإذاكانت،‏ قبل العصر الراشدي،‏ لم تتخطجغرافية باد العرب،‏ فإنها خاله كانتقد امتدت إلى باد فارس طيلة الفترةالراشدية 11( - 41 - 632/ ،)661 وإلىمصر وأطراف من إفريقيا الشمالية،‏ ثمإلى المغرب واألندلس في العصر األموي.‏ومع نهاية هذا األخير سنة 750/132 باتالخط العربي قادراً‏ على دفع اللغة الاتينيةوحرفها خارج حدود مصر والشام وشمالإفريقيا،‏ فيما اعتمدت باد فارس العربيةبدالً‏ عن الفهلوية.‏طريق الخط العربي خال هذه الفترةكان قد وصل إلى مشارف الهند،‏ وتركستانالشرقية،‏ وأدرك أبواب الصين في حدودسنة - 160 776. ولم تتوقف رحلتهعند هذه األمصار،‏ إذ سرعان ما صاحبالفاتحين غرباً‏ إلى أوروبا وإفريقيا،‏ وشرقاً‏رافق التجار المسلمين إلى الصين والجزراإلندونيسية والفلبين.‏وفي رحلته هاته،‏ كان الحرف العربيبانتشار اإلسام في الشعوب شرقاً‏ وغرباً‏قد اعتمد في كتابة لغات هذه الشعوب،‏فكتبت به باد السودان واألمازيغ واألكرادوالترك والفرس والهند والصين والمايو،‏وكان لذلك تأثير في تجويد وتنويع الخطالعربي،‏ ففي الوقت الذي أبدع فيه الفرسخطهم الفارسي بأنواعه،‏ اختصّ‏ األتراكبالخطوط الديوانية والرقعة،‏ كما أبدع أهلالمغرب واألندلس خطوطهم المغربية.‏شهد الحرف العربي على الحضارةمثلما دون أمجادها الثقافية والعلمية،‏ لكنوضعيته إبان المراحل اإلمبريالية الحديثة،‏ستعرف فرض الخط الاتيني،‏ سواء أكانفي الباد العربية أم غير العربية،‏ يضافإلى ذلك ما خلّفه تخلّي تركيا عن الحرفالعربي من صدمة.‏ وإلى يومنا ال تزالترسبات التأثير األوروبي تعمل في بعضالدول العربية التي تعتمد الخط الاتيني فيمراسيمها اإلدارية.‏في هذا الملف الذي تقدّمه ‏»الدوحة«‏احتفاء بالحرف العربي بمناسبة اليومالعالمي للغة العربية الذي يصادف 18ديسمبر/‏ كانون األول من كل سنة،‏ نفتحجِ‏ راح الحرف العربي،‏ كما نُطِ‏ لُّ‏ على أيامهالسعيدة،‏ وما يتخلّل هذه العملية من قضاياوإشكاالت فنية وثقافية ونقدية تقع فيصميم التعبير عن الهويّة واالنتماء.‏43


محمد بنيسإن المدافعين عن الحرف العربي من التقليديين يخلطون بينه وبينالعربية القديمة وثقافتها.‏ وما نحن بحاجة إليه هو القبول بتبدّل الزمنوبوجود عربية حديثة وعالم حديث،‏ علمي وتكنولوجي،‏ تعيش فيهالعربية ويعيش فيه أبناؤها.‏مسرح الخط العربي1أُسمّي حالة الخط العربيمسرحاً،‏ ألنها تعرض أمامنا مشاهدتتداخل وتتفاعل.‏ ومن أجل وضعالق دم عل ى عتب ة ه ذا المس رح،‏ أش يرإلى أن لكلمة الخط بالعربية معنيينهما كتابة الحروف،‏ وفن كتابةالحروف.‏ ذلك ما عَ‏ بّرَ‏ عنه ابنخلدون فقال:‏ ‏»وهو ‏)أي الخط(‏ رسوموأشكال حرفية تدل على الكلماتالمسموعة الدالّة على ما في النفس«.‏أما تعريف الكتابة في العصر الحديثفينصّ‏ على أنها تجسيد للكام والفكربعامات خطيّة يقع عليها االتفاق،‏وهي تتميز عن الخط الذي هوفن يتأمل ذاته ويستند إلى قواعدوضوابط.‏إن الجمع بين المعنيين لكلمة الخطفي القديم،‏ ثم الفصل بينهما فيالعصر الحديث،‏ يعود إلى وضعيتهمافي كل من الزمنين.‏ وتشتركالحضارتان اإلسامية واليابانية فيالجم ع بي ن الممارس تين،‏ عب ر تاري خيمتد من القديم إلى الحديث.‏ ويرىعلماء مختصون في الفن اإلساميأن الخط هو المشترك الفني بينجميع الباد اإلسامية،‏ تلتقي فيهجماليات ورؤيات تنطلق من النصالقرآني لتمتد إلى الشعر والحكمة.‏وإذا كان ابن خلدون يصنف الخطوالكتابة ضمن الصنائع ويصلبينهما وبين الوضع الحضاري،‏فإن أشهر المدارس الخطية القديمةانبثقت في العراق وفارس ومصرواألندلس وتركيا والباد المغاربية،‏وكل مدرسة منها قائمة الذات.‏2كان للخطاطين القدماء مرتبةالفنانين في زمننا.‏ ومن أشهرهمفي العهد العباسي الشيرازي ابنمقلة،‏ واضع قواعد الخط العربي‏)ف ي المش رق(‏ وخ ط النس خ المت داولحتى زمننا،‏ والبغدادي ابن البواب،‏صاحب القصيدة الرائية في الخطوالكتابة،‏ ويُعد القندوسي أشهرالخطاطين المغاربة.‏ وما أدى إلى أنيكون الخط الفنَّ‏ المشتركَ‏ بين الباداإلسامية وأن يصبح الخطاطونبمرتبة الفنانين في عصرنا هوحرص الملوك واألمراء والوجهاءوتنافسهم في امتاك نسخ منالقرآن مكتوبة بخط جيد.‏ فالخطأرفع الفنون التي تم بها التعويضعن الرسم والتصوير،‏ المُ‏ حرّمينفي اإلسام.‏ والمكانة التي كانتلألدب والمعارف وازدهار المكتباتفي المجتمعات اإلسامية المتحضّ‏ رةشجّ‏ عا بدورهما على وجود كثرةالخطاطين والمخطوطات.‏بين تمجيد القرآن واالحتفاءباألدب والمعارف والحِ‏ كَ‏ م اتّسعاستعمال الخط في عدة مجاالت،‏تتقدمها العمارة واألثاث واألسلحةوالعملة واألقمشة واللباس.‏ هكذاانتشر الخط بأشكال فنية تتفرّدبها خطوط أو مدارس،‏ مثل الكوفيوالثلث والنسخ والتعليق والديوانيوالمغربي األندلسي والريحاني،‏ معتفريعات.‏ وجميع هذه الخطوطاستضافت فن التزويق باألشكالالهندسية والنباتية والحيوانيةواإلنسانية وامتزجت بالمنمنمات،‏كما عند الواسطي.‏ ثم لك في قصرالحمراء في غرناطة نموذجٌ‏ جليلإلدماج الخط في العمارة.‏3كل ذلك سيعرف إبداالً‏ فيالعصر الحديث،‏ من كتابة الحروفالعربية إلى فن الخط.‏ لم يعدللعرب والمسلمين سلطان فابتعدواعن الحضارة،‏ وتخلّفوا عن اإلبداعواالختراع،‏ وأهملوا الصنائع.‏ ثمعندما أقدم العرب على تجديدعهدهم بالحضارة وتبنوا فكرةالنهضة،‏ عرفت كتابة الحروفالعربية جدالً‏ واسعاً‏ ينصبّ‏ علىما سمي بإصاح الحرف العربي.‏ومن الماحظ أن هناك ارتباطاً‏بين الجدل في موضوع العربيةوموضوع الكتابة بالحرف العربي.‏44


العمل الفني:‏ Marco Deneviإذ تزامنت الدعوة إلى تبني الدارجةبدالً‏ من العربية الفصحى مع الدعوةإلى تبني الحرف الاتيني،‏ اقتداءبما أقدم عليه أتاتورك من أجلتحديث تركيا والدخول إلى العصرالحديث.‏ ولكن الدعوة إلى تبنيالحرف الاتيني قامت بها،‏ أيضاً،‏فئة تنتصر للعربية وتنتقد تبنيالدارجة.‏ وهي عندما تدعو إلى تبنيالحرف الاتيني ترى أنه الوسيلةالتي تساعد العرب على االندماج فيالحركة الثقافية والعلمية في الغرب،‏كشرط من شروط التحديث.‏ومن الحجج التي استندت إليهافئة من المدافعين عن العربيةوالتشبث بالحرف العربي هو كونالعربية لغة القرآن،‏ اللغة المقدّسةالتي من المحرّم المساس بها،‏ ثمإنها ليست لغة العرب وحدهم،‏ بلهي لغة المسلمين في باد عديدة.‏4هذه الحُ‏ جّ‏ ة من أشد االلتباساتالنظرية التي تحوّ‏ لت إلى عائقيحول دون فهم مشاكل العربيةوطريقة التعامل معها في جميعمظاهرها.‏ إن المشاكل التي تعانيمنها العربية في العالم العربيليست هي نفسها في ثقافات أخرىمثل الثقافة اإليرانية،‏ التي تستعملالحرف العربي في رسم الكاماإليراني،‏ بلغته اإليرانية.‏ وهو منطبيعة مُ‏ ختلفة،‏ وال يمكن الخلطبينها وبين استعمال الحرف العربيفي العالم العربي الذي ثقافته هيالعربية.‏توضيح آخر ال بد منه.‏ إنالمدافعين عن الحرف العربي منالتقليديين يخلطون بينه وبينالعربية القديمة وثقافتها.‏ ومانحن بحاجة إليه هو القبول بتبدّلالزمن وبوجود عربية حديثة وعالمحديث،‏ علمي وتكنولوجي،‏ تعيشفيه العربية ويعيش فيه أبناؤها.‏فا معنى بعد هذا أن نظلّ‏ متشبثينبكتابة الحرف العربي القديم،‏ فيماكل شيء يتبدّل في حياتنا مثلمايتبدّل في طريقة كتابة الحرفالعربي،‏ من المشرق إلى المغرب،‏في زمن الحاسوب واإلنترنتوالهاتف المحمول.‏5ما وقف عائقاً‏ دون إصاح كتابةالخط العربي لم يعثر على مكانهفي الفنون.‏ أبرز مظهر الستعمالالخط في المجال الفني هو الفنونالتشكيلية.‏ نعثر على فنانين منأقطار عربية وإسامية يتكاملونفي العودة إلى فن الخط بوعيحديث.‏ هناك رسامون جعلوا منالخط فضاء ألعمالهم،‏ فاستغلواالنص الشعري أساساً،‏ أو مزجوابين الخط والرسم.‏ من بين هؤالءالرسامين مَ‏ نْ‏ يعطي عمله بُعداً‏روحياً،‏ ومن بينهم من يتجرّأ علىالدخول في مغامرة فنية تعتمدباألساس على نزعة جمالية.‏ ومنأهم هؤالء اإليرانيان محمد صابرفيوزو،‏ والحسين الزندرودي،‏والعراقيان شاكر حسن آلسعيد،‏ وضياء العزاوي،‏والمغربي المهدي القطبي،‏والجزائري رشيدالقريشي،‏ والتونسينجا المهداوي.‏كيف نفهم هذاالتعارض بين الفشلفي إصاح كتابةالخط العربيونجاح الفنانينفي االنتقال بالخطذاته إلى المغامرة؟ يعني هذا السؤالأنن ا نحت اج إل ى ق راءةالمسارين بارتباطبعضهما ببعض،‏ حتىيتبيّن لنا سبب العائقوطبيعته.‏ وحين نربطبينهما ناحظ أن كتابةالخط أصبحت تعيش حالةمن المتاه،‏ ألن ممارستها تتمدون أي توج ه نظ ري أو فك ري،‏ فيم الم تتجرّأ أي دولة عربية بمفردهاعلى القيام باإلصاح المطلوب،‏ والمؤسسة رسمية أو غير رسمية علىتنفيذ هذا المشروع.‏أما الرسامون،‏ من أصحابالتوجه الحروفي،‏ فهم أفراد تعلمواالتقنيات والتوجهات الفنية الحديثة،‏واطلعوا على معارف نظرية،‏وشاركوا في دوائر ثقافية وفنيةعبر العالم،‏ بين الصين واليابانوالغرب.‏ كل هذا دلّهم على كيفيةالتخلّص من قيود الماضي ومنسُ‏ لطة تحدُّ‏ من حريتهم في المغامرة.‏45


عبد القادر عبد اليليُحكى بأن مستشرقاً‏ غربياً‏ كان في زيارة إلى إحدى الدول اإلسالمية،‏فلفتت نظره لوحة جدارية جميلة تتشابك فيها األوراق واألغصان فيتكوين بديع،‏ فأخرج قلمه ونقل تلك اللوحة على قرطاسه.‏ بعد عودته،‏طُ‏ لِب منه تصميم جدارية إلحدى الكنائس،‏ فتذكر تلك الجدارية البديعة،‏فأخرجها،‏ ونسخها وحفرها الحفّارون وركّ‏ بوها على الواجهة.‏قفزات الفنّ‏يُروى أن المسؤول الفرنسيالمشرف على تأسيس الجامعةالسورية طلب خطاطاً‏ من أجلكتابة لوحة ‏»كلية الحقوق«،‏ وكانقد أَعَ‏ دّ‏ مكتبه مساطرَ‏ ومثلثاتٍ‏وفرجاراتٍ‏ وأقامَ‏ رصاص وغيرهامن األدوات التي تُستخدم في الرسمالهندس ي.‏ عندم ا ج اء الخط اط،‏ دف عباألدوات،‏ وغط فرشاته في الطاء،‏وبدأ يكتب.‏ حين بدأ الخطاطبالكتابة،‏ كان المسؤول الفرنسي فيباب الدهليز الطويل الموضوع فيهاللوح ة،‏ وش هد عل ى وض ع الخط اطفرشاته على اللوحة،‏ وما إن وصلإليه حتى كانت كلمة ‏»كلية«‏ قدكتبت،‏ وبعد دقائق قليلة جداً‏انتهت اللوحة المكتوبة بخط ثلثفي تكوين بديع وسط ذهول ذلكالفرنسي.‏ بغض النظر عن واقعيةهذه القصة،‏ فإنها تُلخِّ‏ ص حالةمُ‏ همة يمتاز بها الخط العربي.‏ثمة خاف حول نشأة اللغةالعربية،‏ وهو ليس خافاً‏ حولنشأة العربية فقط،‏ بل هوخاف حول نشأة اللغات كلها،‏ألن المكتشفات يمكن أن تظهر فيأي وقت،‏ وتدحض ما كان يُعتقَدبصحته.‏ ولكن ما وصل إلينا منرُ‏ قَعٍ‏ تعود إلى مرحلة ما قبلاإلسام والنبوة يُظهر بأن الخطالعربي حتى في أشكاله التي تعداألولى التي يعتبر الباحثون أنهادمجت بين الخط النبطي وخطالمسند يتمتع بمرونة وتناسقٍ‏وعفوية ال تتمتع بها كتابات اللغاتاألخرى.‏ أوليس الفن التشكيلي هوتناسق لخطوط عفوية مرنة؟هل التوصيل بين الحروف هوالخصوصية التي أتاحت للخطالعربي هذه الجمالية كما يُدّعى؟ممكن،‏ ولكن ال ننسى بأن اللغاتاألوروبي ة الت ي نش أت بع د الاتيني ةكلها أيضاً‏ تُكتب حروفها بشكلمتصل أيضاً،‏ ولم تحقق المكانةالتي حققها الخط العربي،‏ فالتوصيلال يكفي وحده إلعطاء هذه الفرادة؟هل هي ليونة الخطوط وعفويتها؟ولكن الخط الصيني أيضاً‏ يكتببليونة وعفوية،‏ وإذا كان قد حَ‏ قّقَ‏بعض الجماليات فهو لم يبلغ مبلغالخط العربي في ميدان التشكيلوال حتى يمكن المقارنة ما بينالخطين،‏ ومن ناحية أخرى فإنالخطوط العربية ليست كلها لينة،‏فهناك الكوفي بخطوطه القاسيةوزخرفته الدقيقة وبلغ مبلغاً‏ جمالياً‏ال يُضاهى.‏االطاع على سير تطوّ‏ ر الخطالعربي يُرينا القفزات الهائلة التيقفزها فن هذا الخط،‏ وبشكل خاصفي العصر العباسي.‏ وإذا كانتالخطوط العربية كلها قد نحت منحىالليونة فإن أقدمها بعد اإلسام الخطالكوفي بتنوعاته على عكسها تماماً،‏فهو هندسي يخضع لقواعد صارمة،‏وعلى الرغم من هذا ضفّر الفنان46


العمل الفني:‏ حسن المسعود - العراقالمسلم األلف والام،‏ ومأل فراغاتهبالزخارف النباتية التي أبدعتأجمل فنون التجريد لتلك العناصرمُ‏ س تخدماً‏ الخط وط اللين ة إل ى جان بالخطوط القاسية في تكوين مُ‏ حكممن الخطوط فيما يُسمى الخطالكوفي المشجّ‏ ر،‏ وعاقة متينة بينالمساحة والفراغ في توزيع خضعلمقاييس غاية في الدقة.‏ وقد طوّ‏ رالمسلمون هذا الخط ليكون لوحاتجدارية تضاهي بجمالها جدارياتالنحت البارز ‏)الرولييف )»relief«الغربية.‏ وبمناسبة الحديث عنجداريات النحت البارز،‏ فقد تأثرفن الروكوكو بالزخرفة اإلساميةكثيراً،‏ وهناك حكايةطريفة تسير على األلسن معبرةعن هذا التأثر،‏ سأسوقها ألنهاتحمل داللتين،‏ أوالهما أنها تعبرحقيقة عن حالة ال ينكرها كثير منمؤرخي الفن ونقاده،‏ وثانيتهما أنهذه الحكاية يمكن أن تصوِّ‏ ر الحالالتي وصل إليها كثير من فنانينااليوم في تأثرهم الشكلي بالفنالغربي العظيم.‏‏»يُحكى بأن مستشرقاً‏غربياً‏ كان في زيارةإلى إحدى الدولاإلسامية،‏فلفتت نظره لوحة جدارية جميلةتتشابك فيها األوراق واألغصان فيتكوين بديع،‏ فأخرج قلمه ونقلتلك اللوحة على قرطاسه.‏ بعدعودته،‏ طُ‏ لِب منه تصميم جداريةإلحدى الكنائس،‏ فتذكر تلك الجداريةالبديعة،‏ فأخرجها،‏ ونسخها وحفرهاالحفارون وركبوها على الواجهة.‏بعد فترة يمرّ‏ متخصص في الخطالعربي،‏ فيقرأ تلك اللوحة علىواجهة الكنيسة:‏ ‏»إن الدين عنداهلل اإلسام«‏ وهي آية من القرآنالكريم،‏ فأزيلت..‏ثمة داللة أخرى يمكن استنتاجهامن هذه القصة الطريفة،‏ وهي أناللوحة الخطية خرجت من داللتهااللغوية لتدخل في داللة بصريةمنفصلة تحمل قيمة جمالية مستقلّة.‏والتحوّ‏ ل في الداللة هذا لم يبق فيإطار الخط الكوفي،‏ بل تعداه إلىالخطوط األخرى التي سرعان ماتتالت وازدهرت.‏اُعتُمِدَ‏ خطا النسخ والرقعةأكثر من غيرهما في المخطوطاتوالمؤلفات،‏ ألنهما يقدمان الداللةعلى الجمال،‏ وجاء بعدهما مباشرةاعتماد خط التعليق،‏ والذي يسمىالفارسي لشيوع استخدامه فيباد فارس في المخطوطات،‏ ولكنعلى الرغم من هذا نجد كثيراً‏ منالفنانين الذين أبدعوا في هذينالخطي ن،‏ إضاف ة إل ى خطي التعلي قوالديواني لوحات ذات جمالياتفريدة.‏ ولكن خطوط الثلث والديوانيالجلي احتلت الصدارة في اللوحاتالتزيينية التي منحت الجدران والكتبجماليات نادرة.‏يُنسب اكتشاف ‏»القطع الذهبي«‏أو ‏»النسبة الذهبية«،‏ وهي عمليةتقسيم اللوحة بشكل متناسبلتوزّ‏ ع بموجبه العناصر علىسطح اللوحة إلى المبدع العظيمليوناردو دافنشي،‏ ولكن لوحاتالخط العربي بمعظمها كانت مبنيةبنية محكم ة والعناصر فيها موزّ‏ عة47


توزيعاً‏ دقيقاً،‏ بحيث ال تختل فيهاتلك النسب بشكل فطري،‏ وكأننسبها قد قيست بمقياس الذهب.‏عندما بلغت اإلنسانية سنالنضج وأدركت البعدَ‏ الثالث فيالرس م ف ي عص ر النهض ة األوروب ي،‏تأخر الفنان المسلم بهذا اإلدراكألسبابٍ‏ عدة لعلّ‏ أبرزها قضيةالتحري م،‏ وبق ي عن د المنمنم ات الت يتعتمد التسطيح في الرسم وال تبحثفي البعد الثالث،‏ على الرغم منمحاوالت البعض كما ظهر في بعضالمنمنمات العثمانية التي تظهرثنيات الثياب وبعض التكوّ‏ رات،‏وأشهر األمثلة على هذه التأثيراتلوحة الفاتح ممسكاً‏ بيده وردةللفنان ‏»سنان بيك«،‏ ولعلّ‏ الفنانالمسلم عموماً‏ قد عوّ‏ ض هذا التأخّ‏ ر أوالتخلّف في ميدان الرسم التشخيصيبتركيزه على الخط والزخرفة،‏ليسمو بلوحات الكتابة إلى درجةتضاه ي فيه ا لوح ات الرس م،‏ فكان تهناك التشكيات التي تعطي أشكاالً‏مُ‏ ختلفة وتكوينات تخرج عن الدائرةوالمستطيل الكاسيكية التي كانتسائدة لتكون أكثر حرية،‏ ويحملبعضه ا تش كياً‏ لرس م حقيق ي جعل تحتى المتذوق الذي ال يعرف قراءةالخط العربي وفهمه ينجذب إلىاللوحة باعتبارها قيمة جمالية فقط.‏وفي معرض بحثه عن مصادرإلهام جديدة في إفريقيا والشرقاكتشف الفنان العالمي بابلو بيكاسوجماليات الخط العربي،‏ وعبّر عنهافي مقولة شهيرة يرددها كثيرون:‏‏»أردت الوصول إلى نقطة مافوجدت أن الخط العربي قد سبقنيإليها«.‏ وطبعاً‏ فإن المقصود بتلكالنقطة هو التجريد.‏إذا كان المستقبليون اإليطاليونومنهم أمبرتو بوتشيني قد استخدمواالحرف المشتق من الاتينية فيبعض لوحاتهم كعنصر من عناصراللوحة،‏ فإن الفنانين المسلمينسرعان ما لفت أنظارهم هذا األمرفي معرض بحثه عن مصادر إلهام جديدة فيإفريقيا والشرق اكتشف بابلو بيكاسو جمالياتالخط العربي،‏ وعبّر عنها في مقولة شهيرة يرددهاكثيرون:‏ ‏»أردت الوصول إلى نقطة ما فوجدت أنالخط العربي قد سبقني إليها«‏ليشقوا طريقاً‏ جديداً‏ في إنتاج لوحةتشكيلية يلعب فيها الخط واللوندوراً‏ بارزاً‏ في إنتاجها،‏ وظهرتتيارات فنية اعتمدت الحرف العربيفي بنائها اصطلح على تسميتها‏»الحروفية«‏ على الرغم من خطأهذه التسمية بسبب أن ‏»الحروفية«‏هي مدرسة دينية صوفية اعتمدتإعطاء إحصائيات الحروف فيالقرآن الكريم معاني خاصة.‏ليس ثمة بداية يمكن اعتبارهامُ‏ نطلقاً‏ لفن الخط العربي،‏ فلكلمرحلة من مراحله مزاياها التيأتت مُ‏ نسجمة مع الزمن الذي وُ‏ جِ‏ دَتْ‏فيه،‏ وتطوّ‏ رت مع تطوُّ‏ ره،‏ وقدحقّ ق ه ذا الف ن نجاح اتٍ‏ وعَ‏ بَ رَ‏ آفاق اً‏انتشرت على مساحة العالم كله،‏وه و يكش ف باس تمرار ع ن إمكاني اتوطاقات جديدة كامنة تحتاج إلىمواهب تظهرها إلى النور.‏العمل الفني:‏ خالد شاهين - فلسطين48


منري الدين زارع موىستحتل أوزبكستان موقعاً‏ استراتيجياً‏ مهماً‏ هو األول من نوعه بين الدولفي المنطقة إذ تلتف حولها كلُّ‏ دول آسيا الوسطى ويمرّ‏ فيها نهرا سيحونوجيحون.‏ واألوزبك هم شعب مشهور بتديّنه وحفاظه على الدين والقيموالتقاليد ولهم تاريخ ذو باعٍ‏ طويلٍ‏ وعريقٍ‏ ومجيدٍ‏ مع الدين اإلسالميالحنيف والعلوم واآلداب،‏ وخاصةً‏ اللغة العربية.‏محطة أوزبكستانيبلغ عدد سكّان أوزبكستانحوالي )28.394.180( مليوننسمة وفقاً‏ للتقديرات اإلحصائيةالتي أجريت في يوليو/تموز عام‎2012‎م،‏ وفي هذا البلد جماعاتعرقية مُ‏ تنوّ‏ عة،‏ أكبرها جماعةاألوزبك،‏ ويمثلون نحو )80 %( منإجمالي السكان،‏ ثمَّ‏ الروس )5.5)% والكزاخ 3( )% والكاركالباك2.5( )% والتتار 1.5( )% والعرقياتاألخرى )2.5 %(، ويشكل المسلمونفيها أكثرية بنسبة نحو )88 %(بينما تقدّر نسبة األرثوذكس )9 %(،والديانات األخرى )3 %(، وهناكأقلية عربية في مدينة ‏)عرب خانه(.‏توجد في أوزبكستان مدرستانوحيدتان في االتحاد السوفياتيالسابق تُدرّ‏ سان فيهما اللغة العربيةوأصول ومبادئ الدين اإلساميالحنيف،‏ وهما مدرستا ‏)ميرعرب(‏في بخارى و)اإلمام البخاري(‏ فيطشقند.‏ ويتكلّم أهل أوزبكستاناللغة األوزبكية نسبةً‏ لألوزبك،‏وكانت تكتب بالحرف العربي ثمّ‏حوّ‏ لها الشيوعيون إلى الحرفالاتيني عام ‎1927‎م ثمّ‏ إلى الحرفالروسي عام ‎1940‎م ثمّ‏ تحوّ‏ لتحديثاً‏ إلى الحرف الاتيني بعداستقال جمهورية أوزبكستان فيديسمبر/كانون األول عام ‎1991‎م.‏تشتهر أغلب مدن أوزبكستانمثل طشقند وسمرقند وبخارىوترمذ وخوارزم بالعديد من اآلثاراإلسامية والمباني التاريخيةوالمعالم السياحية والمهاراتالمعمارية الزخرفية وأيضاً‏ المدارسالدينية ومتاحف الفنّ‏ والحضارةوالمزارات واألضرحة والقبابالمزخرفة التي تدلّ‏ على األنموذجخطوط وزخارف على واجهة أحد المساجد في مدينة سمرقند49


خطاط أوزبكستانيالفريد من الفنّ‏ اإلسامي الشرقيالعريق.‏ومن الجدير بالذكر بأنّ‏ الديناإلسامي الحنيف قد انتشر في بادما وراء النهر بيد الفاتحين العربفي القرن السابع للمياد،‏ وانتشرتمعها اللغة العربية وآدابها كونهالغة القرآن الكريم حتى أصبحت هذهاللغة،‏ لغة العلم والمعرفة والتجارةفي تلك الديار التي كانت تسمّىآنذاك تركستان،‏ ولم تفقد هذه اللغةمكانته ا وموقعه ا الب ارز والمه م رغ متولّي االُسر الحاكمة المختلفة حتىانضمامها إلى اإلمبراطورية الروسيةفي القرن الثامن عشر للميادوعندها تغيّرت تركستان وفرضتعليها ثقافة ولغة غريبة وأصبحتتسمّى بتركستان الروسية،‏ وحتىقيام السلطة السوفياتية بعداستياء الباشفة على السلطة فيروسيا وعندئذٍ‏ انقسمت تركستانإلى الجمهوريات اإلسامية الخمسوالمعروفة اليوم باسم أوزبكستانوكازاخستان وتركمنستان وقرغيستانوطاجيكستان،‏ فقامت السلطاتالبلشفية بمصادرة الكتب العربيةواتافها وعمدت إلى استبدال الحرفالعربي بالحرف الاتيني،‏ ومن ثمَّ‏إلى الحرف الكيريلي الروسي،‏وتمَّ،‏ إغاق المدارس والمساجدومنع تداول اللغة العربية.‏ وعندماساءت الظروف أكثر في أثناءالحرب العالمية الثانية اضطرّتالسلطات السوفياتية للتخفيف منضغوطها على مسلمي تركستان،‏وذلك بالموافقة على تأسيسإدارة دينية لمسلمي آسيا الوسطىومكتب العقيدة اإلسامية والسماحلهم بتعليم اللغة العربية مرّة أخرىوتأسيس كلية اللغات الشرقيةفي جامعة طشقند الحكومية فيأوزبكستان،‏ وبذلك أصبحت دراسةاللغة العربية كلغة أجنبية إلىجانب اللغات األجنبية األخرى تدرّ‏ سفي المدارس والجامعات والمعاهدوازداد الطلب عليها بعد تأسيسالجامعة اإلسامية عام ‎1999‎مفي أوزبكستان وافتتاح عدد كبيرمن المعاهد بتعليم اللغة العربيةوازداد االهتمام بدراسة المخطوطاتوالتراث األدبي اإلسامي فيجمهورية أوزبكستان منذ العقدالثالث من القرن المنصرم،‏ وتمَّ‏تطوير قواعد الصرف والنحو فياللغة العربية وبذلك عادت اللغةالعربية كلغة العلم والفنّ‏ واألدب،‏كما كانت عليه في سابق عهدهاتقريباً.‏ورغم كل المحاوالت اليائسة فقدتعلّم كثيرٌ‏ من الدارسين وأتقنوااللغة العربية في آسيا الوسطى،‏وخاصة في أوزبكستان،‏ واشتهرمنهم علماء كبار كالزمخشريوالبخاري والنسائي والترمذيوالثعالبي والجوهري والمطرزيوالسغاني والسكاكي والخوارزميوالوغ بيك،‏ وغيرهم مّ‏ من أثروااللغة العربية وآدابها بمؤلفاتهموكتبهم القيّمة وكان لهم الدورالبارز في تطوير العلوم اإلنسانيةواللغة العربية وآدابها منذ بدايةالقرن الميادي السابع،‏ وأيضاً‏ كانلهم الفضل الكبير في بلوغ اللغةالعربية إلى أرفع المستويات وتركوامؤلفات قيّمة يعتزّ‏ ويفخر بها العالماإلسامي حتى يومنا هذا.‏وحالياً‏ أصبح هناك تقليدإيجابي وبناء في أوزبكستان وهوإحياء ذكرى األجداد واالحتفاءبمفاخرهم ورموزهم وهذهاالحتفاالت والمهرجانات لها دور مهمفي تنمية الوعي الذاتي الوطنيوالروحي،‏ وعلى مدى خمس عشرةسنة ً تمّ‏ االحتفال تحت رعايةمنظمة اليونسكو بذكرى مرور الفوخمسمئة عام على نشوء مدينتيبخارى وخيوه المشهورتين فيالعالم،‏ وبالذكرى السنوية لميادالعلماء الكبار أمثال البخاري وأحمدالفرغاني وأبو منصور الماتريديوبهاء الدين نقشبندي والوغ بيكوعليشير نوائي،‏ وغيرهم منالمفكرين.‏50


د.‏ خالد السلطاين*‏انطوت العمارة اإلسالمية على جملة خصائص وسمات مُ‏ حدّدة،‏ مَ‏ يّزتهاعن عمائر الحضارات األخرى.‏ فهذه العمارة لم تعكس فقط طبيعةالتأثيرات المناخية على نماذجها المُ‏ صَ‏ مّمة،‏ مثلما،‏ أيضاً،‏ لم تهتم فحسببتبيان خواص المواد اإلنشائية،‏ التي منها شُ‏ يدت تلك األمثلة المعمارية؛وإنما عكست بصورة واضحة الجانب ‏»الروحي«.‏الخط وتمثالته في العمارة اإلسالميةمعلوم،‏ أن حضارات عديدةومختلفة لجأت إلى التعاطي معالزخرفة في التكوينات المختلقةفي العمارة التي أنتجتها.‏ ومثلهذه الممارسة نجدها رائجة فيالعمارات القديمة،‏ مثلما نشاهدهاحاضرة في نماذج العمارة الحديثة.‏واالختاف بين تلك العمائر،‏ يكمنفي خصوصية مقاربة استخداماتها،‏ومبتغى ذلك االستخدام في الحصولعلى منافع تصميمية،‏ تكون قادرةعلى إضفاء خصوصية عاليةخطوط عربية على واجهة ‏“تاج محل”‏51


مسجد في جام،‏أفغانستان،‏ ‏)نهايةالقرن الثاني عشر(،‏تفصيل في المنارة.‏مسجد في فاس،‏المغرب،‏ كتابة علىتربيعات خزفية ملونةفي حرم المسجد.‏ومميزة إلى منتج تلك العمارة.‏يولي المعمار المسلم أهمية كبرىلمفردة ‏»الزخرفة«‏ وتمثاتها فيالحل التكويني للعمارة المبتدعة.‏إنه يرفع من شأن هذه األهميةعالي اً،‏ بحي ث تضح ى الس مة الب ارزةللعمارة اإلسامية والواسمة لهابطابع مُ‏ حدّد وبَيِّن.‏ جدير باإلشارة،‏أن تلك االستخدمات لم تقتصرعلى تغطية مساهمات متواضعة،‏أو تواجد في أمكنة مُ‏ حدّدة،‏ وإنمايسعى المعمار وراء جعل ‏»كل«‏الهيكل اإلنشائي مزخرفاً،‏ وهيمعالجة تصميمية نادرة تدخلضمن رؤى المعمار المسلم في توقهنحو استدعاء مبدأ ‏»سيادة الفضاءوسيطرته على أقسام المبنىالمادية«،‏ كما أشرنا إلى ذلك فيدراسة لنا عن ‏)عمارة جامع قرطبةالكبير(‏ ‏)خالد السلطاني،‏ موقعإياف،‏ 15 مارس/آذار،‏ 2004(.وهذا المبدأ الفريد ‏)والنفيس أيضاً(،‏تطوّ‏ ر بشكل سريع ليضحى الحقاً‏مبدأ لصيقاً‏ في العمارة اإلسامية،‏ليشمل ‏»تهشيم الكتل داخل الحيزالمحصور،‏ بغية خلق فضاء يتسمباألبعاد البصرية الممتدة واإلحساسبالرشاقة المنطوية على خفةعالية«.‏ثمة أنواع عديدة،‏ تنطوي عليهاالزخرفة اإلسامية.‏ ويلعب فن‏»الخط العربي«‏ دوراً‏ أساسياً‏ ومهماً‏في تكريس مفهوم تلك النوعية.‏فباإلضافة إلى الزخرفة الهندسيةوالنباتية،‏ فإن الزخرفة ‏»الحروفية«‏لقت رواجاً‏ واسعاً‏ في غالبيةاألمصار التي انتشر بها اإلسام.‏ إذيطوع المعمار خاصية الخط العربياالنسيابية والهندسة أيضاً،‏ لجهةإثراء واجهات مبناه،‏ وكذلك فياغتناء سطوح الفضاءات الداخلية،‏مضيفاً‏ لها ‏)للواجهات ولتلك السطوحالداخلي ة(‏ قيم ة جمالي ة آس رة،‏ تنب عأساساً‏ من االستخدامات المتعدّدةألنواع الخطوط العربية.‏ فيوظف،‏على سبيل المثال،‏ ميزة ‏»الخطالكوف ي«‏ ‏)ال ذي يع د م ن أوائ ل أن واعالخطوط العربية،‏ والذي ظهر فيالكوفة ألول مرة في بدايات ظهوراإلسام،‏ وهو خط غير منقط(،‏لناحية إنشاء تكوينات تصميميةمميزة،‏ تتحصل عن الخاصيةالهندسية المنتظمة،‏ التي يتسمبها هذا النوع من الخطوط.‏ كما أن‏»انسيابية«‏ خط ‏»الثلث«‏ ‏)الذي ظهرفي القرن الرابع الهجري،‏ والمتأصلمن الخط النسخي(،‏ تجعل منه‏»وسيلة«‏ وأداة مهمة في تكريسحضور الجانب الحروفي في منتجالعمارة اإلسامية.‏تتجلى تقنيات الزخرفة الحروفيةفي العمارة اإلسامية،‏ من خالأساليب متنوّ‏ عة،‏ أتقنها المعمار52


مزار عبد اهللاألنصاري،‏ هيرات،‏أفغانستان )1428(،تفصيل.‏جامع الخلفاء،‏ بغداد/العراق )1963(، المعمار:‏ محمد مكيه،‏تفصيل في إيوان المدخل.‏قصر الحمراء،‏ غرناطة ‏/إسبانيا ‏)القرن العاشر-‏ القرن الثالث عشر(،‏تفصيل في باحة األسود.‏المسلم بحذاقة،‏ مرتقياً‏ بها إلىمس تويات ج د متقدم ة ومبدع ة.‏ وم نضمن تلك التقنيات الشائعة فينماذج العمارة اإلسامية،‏ إكساءالجدران الخارجية والداخلية للمنشأبتربيعات خزفية،‏ غالباً‏ ما تكونملونة وذات بريق معدني.‏ وعادة مايكتب الفنان المسلم ‏»خطوطه«‏ عليهابأنواع مختلفة من أساليب كتابةالخطوط والسيما أسلوب الكتابةفي ‏»الثلث«.‏ ويلجأ المعمار المسلمإلى هذه الوسيلة من اإلكساء،‏ منأجل الحصول على مزايا إيجابيةلمبناه نابعة من تلك االستخدامات.‏إذ إن فقر المادة اإلنشائية المستخدمةفي إنشاء مبان عديدة،‏ في المناطقالرسوبية الشائعة في جغرافيةالدول اإلسامية،‏ والتي غالباً‏ ماتكون ‏»اآلجر«‏ وما يتمخض عنذلك االستخدام من عوز واضحفي الصابة واللون والبريق،‏ تلكالخصائص الطبيعية التي تتوافرفي مواد إنشائية أخرى ‏)كالمرمرعلى سبيل المثال(‏ وغيرها منالمواد المتيسرة بالبلدان األخرى،‏جامع الغدير،‏ طهران ‏/إيران )1977 - ‎1987‎‏(،المعمار:‏ جاهنغير مظلوم،‏ تفصيل في واجهة المحراب.‏53


جامع المؤيد،‏ القاهرة ‏/مصر )1415 - 1420(، تفصيل.‏المسجد األزرق،‏ تبريز ‏/إيران )1465(، تفصيل في إيوان المدخل الرئيسي.‏ترغم المعمار على إيجاد بدائل،‏تعوّ‏ ض عن فقر تلك المادة،‏وتضفي عليها مزايا إيجابية.‏ ونجدفي الحلول التي ابتدعها المعمارالمحلي سواء أكان في تكويناتالمباني القديمة أم الحديثة تطبيقاتفائقة الجمال وبهية،‏ من استخدامالتربيع ات الخزفي ة الملون ة المكتوب ةبالحروف العربية.‏ أما األسلوباآلخر والشائع في تقنيات استخدامالحروفية العربية في المباني،‏فيكمن في توظيف أسلوب مايسمى بالنحت ‏»الرليفي«‏ ،Relief إنكان ذلك نحتاً‏ ناتئاً‏ أو نحتاً‏ غائراً.‏في الحالة األولى،‏ تكون الكتابةباألحرف العربية وتكون بارزةعن السطح.‏ أي أن الخطوط فيهامجسمة،‏ ومن ثم تمتلك بعداً‏ ثالثاً،‏وغالباً‏ ما كانت تطلى أعالي تلكاألحرف وقممها بألوان ذات بريقمعدن ي،‏ تكتس ب م ن خال ه الس طوحجمالية مضافة.‏ وفي الحالة اآلخرىمن النحت الرليفي،‏ تكون الكتابةإما غائرة عن السطح،‏ وإما أحرفالكتابة ‏»تبرز«‏ عن ‏)أرضية(‏ غائرة.‏وفي كلتا الحالتين،‏ تُؤشر حدودمن الجانبين لهذا القعر الذي عادةما تبرز تلك األحرف المنحوتةمنه،‏ والتي هي أيضاً‏ ذات بعدثالث.‏ وغالباً‏ ما يلون الفنان تلكاألرضية/‏ القعر لجهة تأكيد األحرفالبارزة.‏ في حاالت عديدة ياحظبأن المعمار المسلم،‏ يلجأ أيضاً‏ إلىترك أحرف الخطوط المشغولة منالمادة اإلنشائية ‏)اآلجر في الغالب(،‏تعمل بلونها الطبيعي.‏ وهو يعتمدفي هذه المقاربة على استثمارخاصية الضوء والظل المترعة بهاجغرافية مناطق العمارة اإلسامية،‏ما يضفي إلى منتج هذه العمارةتلك الخفة والرشاقة التي تميزهاعن منتج العمارات األخرى.‏تستقي ‏»الحروفية«‏ المعمارية،‏مرجعيتها الكتابية من مصادرمختلفة.‏ لكم المصدر األول،‏ ما انفكتبقى اآليات المستلة من القرآنالكريم أنها المرجع األول لغالبيةالكتابات المستخدمة في التكويناتالمعمارية،‏ كما أن األحاديث النبويةالش ريفة،‏ تج د له ا مج االً‏ واس عاً‏ ف يمثل هذا االستخدام،‏ عاوة علىكلمات العبر والنصائح والحكم.‏ويوظف المعمار المسلم هذه المروحةالواسعة من المرجعيات في أنماط54


مدرسة في قونيا ‏/تركيا )1242(، تفصيل في المدخل.‏مسجد الجمعة،‏ هيرات،‏ أفغانستان.‏ )1200 - 1498(، تفصيل في مدخل المسجد.‏مختلفة من المنتج التصميمي،‏ مراعياً‏طبيعة المبنى المشيد و»نوعيته«،‏،Typology سواء أكان المنشأ دينياً‏أم مدنياً.‏ ففي المساجد والجوامع،‏على سبيل المثال،‏ يفضل أن تكونكلمات اآليات القرآنية،‏ حاضرةبقوة في ‏»الحروفية«‏ المستخدمة.‏لك ن المعم ار يأخ ذ ف ي عي ن االعتب ارخصوصية وموقع األمكنة وطبيعتهافي المبنى المشيد.‏ فعادة مايصطفى لمداخل،‏ وبوابات المسجد،‏آيات قرآنية معينة،‏ وكذلك للصحنوللحرم،‏ وخصوصاً‏ للمحراب كلماتمستلة من آيات قرانية تناسبالمقام.‏ ونرى مثل هذا االستخدامالواسع لآيات القرآنية،‏ أيضاً‏ فيأبنية األسبلة والمدارس واألضرحةوالخانات،‏ باإلضافة إلى المساكنوالدور.‏ لكن مصادر االستخدام هناواسعة جداً،‏ فباإلضافة إلى ما ذُ‏ كِ‏ رسابقاً،‏ يمكن أن تكون كلمات أبياتشعرية حاضرة في هذه األنواع منالعمارة ‏»المدنية«.‏وتبقى خاصية توظيفات الخطالمدرسة المستنصرية،‏ بغداد ‏/العراق )1227 - 1233(، تفصيل في بوابة المدخل.‏العربي في العمارة اإلسامية،‏اختياراً‏ مفضاً‏ للمعمار،‏ سواءأكان ذلك في الماضي،‏ الذي تدللعليه النماذج المعمارية التي بنيتفي عهود وأمكنة مختلفة،‏ أم فيمنتج العمارة اإلسامية الحديثة.‏فكثير من المصممين المعاصرين،‏الذين يتعاطون مع ‏»ثيمة«‏ المسجداإلس امي،‏ تحض ر ‏»الحروفي ة«‏ كنم طمميز في صياغة مفردات الزخرفة،‏مثلما تكون ذات أثر بيّن،‏ أيضاً،‏في بقية المباني األخرى،‏ مضفياً‏هذا الحضور خصوصية واضحةللعمل المعماري المنجز.‏ لكن تلكاالستخدامات للحروفية الحديثة،‏تظل،‏ بالطبع،‏ مرتهنةً‏ بالذائقةالجمالية الراهنة،‏ المراعية للتبدالتالتي طرأت على أساليب مقاربةالعمارة في السنين األخيرة.‏‏*معماري وأكاديمي عراقيَ55


د.‏ فاتح بن عامر *انخرط في التّوجّ‏ ه إلى مغازلة الحرف والكتابة عدد ال يُستهان به منالتّشكيلييّن المعاصرين من العرب والمسلمين من أمثال تشارلز حسينالزندرودي،‏ وشاكر حسن آل سعيد،‏ وإبراهيم الصلحي،‏ وغيرهمكثر.‏ هؤالء الّذين وجدوا في الحرف والكتابة ضالّتهم من أجل مصالحةحقيقيّة مع تراثهم وبيئتهم،‏ فانبروا في نفض غبار النسيان عن فنّ‏ الخطّ‏العربي واستمدّوا من المتون ومن النّصوص التراثيّة بعضاً‏ من مستنداتتفكيرهم بهدف تأصيل مُ‏ مارسة تشكيليّة أصيلة ال تنعطي إلى مقتضياتالفنّ‏ التّشكيلي الغربي من إمالءات وشروط،‏ معتبرة أنّ‏ التّقنيات في حدّ‏ذاتها مُ‏ حايدة وبإمكانها أن تشكّل حامالً‏ ووسيطاً‏ لهواجسهم وإشكاليّاتهمالجماليّة التّشكيليّة والرؤيويّة الفنيّة.‏الحروفيّة العربيّةالتأسيس الّذي لم يُقرأ بعدواعتبر هؤالء الفنّانون الحرفوالكتابة العربيّة بدياً‏ عن الوجوهوالمشاهد التّصويريّة المُ‏ ستمَ‏ دّة منالواقع،‏ والّتي عالجوها بأساليباستشراقيّة أو انطباعيّة وتعبيريّةمُ‏ تّسمة بالواقعيّة البصريّة علىمنهاج وأسلوب غربيّ‏ . وهمبذلك يعتقدون في القيمة الرّمزيّةوالدّالليّة للحروف والكتابة ذات البعدالعاماتي والسيميائي من جهة وفيأبعادها الرّوحيّة المتوافِرة في عديدمن المتون الصّ‏ وفيّة الّتي سعوا إلىمحاورتها نصّ‏ ياً‏ وبصريّاً‏ كلّ‏ علىطريقته وبأسلوبه وبإمكانيّاته)‏‎1‎‏(.‏يعزى هذا االختيار إلى ما تعلّقوابه من طموح البحث عن أسسنظريّة لعلوم جماليّة عربيّة ومنممكنات التّقارب بين الرّوحانيّةالصّ‏ وفيّة وبين روحانيّة روادالتّجريد أمثال واسيلي كاندانسكيوكزمير مالفيتش وبيات موندريان.‏غير أنّ‏ هذا التّوجه الملحّ‏ نحوالحرف والكتابة في التّشكيلالعربي الحديث والمعاصر،‏ والّذيحقّق نوعاً‏ من الرّحلة،‏ على حدّ‏تعبير بلند الحيدري في وصفهإيّاها بالرحلة الثانية)‏‎2‎‏(،‏ بقييرزح تحت وطأة عدّة إشكاليّاتتتوزّ‏ ع على عديد الحقول المعرفيّةواإليبستميّة،‏ فبين مشرق ومغربعربيين وإساميين بون شاسعمن االختافات هو بحجم االئتافاتالمتوافِرة للبحث في عناصر هويّةحضاريّة وثقافيّة موحّ‏ دة في ظلّ‏بعد إقليمي يجمع الهويّات المحليّةأو الوطنيّة.‏ وفي هذه االختافاتواالئتافات ما يتأكّ‏ د من خالالمنطلقات والمباحث والممارساتالتشكيليّة المتلبسة بالرف وبالعامةالكتابيّة،‏ فما أنجزه المشرقيّونيختلف تماماً‏ عمّا أنجزه المغربيونمن باد العرب والمسلمين ولعلّ‏الجامع بين التّجربتين قائم فيحاضنة الغربة والمهجر لمعظمتجارب الرّواد بخاف نجيببلخوجة والشرقاوي أو جماعةمدرسة الخرطوم بالسّ‏ ودان.‏يطالعنا بيان جماعة ‏»البعدالواحد«‏ بمثل ما يطالعنا شاكرحس ن آل سعيد،‏ الّذي يعدّ‏ من أب رزروّ‏ ادها ومنظريها بفكرة تمضي فيتصوّ‏ ر،‏ يستحضر المتون الصوفيةمن الفكر العربي اإلسامي،‏ حتىلكأنّنا به يلغز قوالً‏ ولفظاً‏ ومقاربة،‏إذ يقول:‏ ‏»البعد الواحد فلسفة وتقنيةوأسلوب،‏ قد يلخّ‏ صه قول أحدالصّ‏ وفيّة:‏ ‏»أنا أقول أنا أسمع فهلف ي الداري ن غي ري؟«‏ فل و تأملن ا ه ذهالعبارة لوجدنا فيها بعداً‏ محورياً‏عميقاً‏ يرتبط إلى حد بعيد بفلسفات56


معاصرة ومواقف فلسفية وصوفيةقديمة«)‏‎3‎‏(،‏ وهو قول ال يستند إلىدقّة أو منهج علمي فيه ما يربطبين منطلقه ومنتهاه.‏ والماحظ أنّ‏بين هذا القول وبين بيان الحروفيّةالّذي ألقاه شاكر حسن آل سعيدبنفسه فوارق شاسعة،‏ إذ جاء فيه:‏‏»فالبعد الواحد ‏)كفكرة(‏ يقصد بهاتّخ اذ الح رف الكتاب ي نقط ة انط اقللوصول إلى معنى الخطّ‏ ‏)كقيمةشكليّة(‏ صرفة«،‏ وفي هذا القولما يشطب العاقة غير الواضحةبين المقاربات الفلسفيّة المعاصرةوالقديمة والصّ‏ وفيّة المجتمعة فيقول آل سعيد السّ‏ ابق،‏ إذ يبرز لناالبعد الشكاني في مقاربة هؤالءللحروف والكتابة العربيّة رغم مايؤكدون عليه من أبعاد وخلفيّاتروحيّة وتاريخيّة ومعرفيّة للحرفوالخطّ‏ . وليست الشكانيّة عيباً،‏لكّنّها تصادر وعلى حدّ‏ ما هذاالبعد من تاريخ الخط ومن معانيالحرف ورموزه،‏ وهو ما يتأكّ‏ د فيما جاء في بيان الحروفيّين العربالذي صدر بمناسبة المؤتمر األوّ‏ لللتشكيليّين العرب المنعقد ببغدادمن 20 إلى 25 أبريل/نيسان 1973بالعراق وتحديداً‏ بالفقرة الثّانيةما يلي:‏ ‏»لقد بلغ األمر بالخطّ‏ اطالعربي حدّاً‏ جعله يوفّق ما بينقواعد من الخطّ‏ نفسه ومن فنّ‏الزّخرفة.‏ إنّنا نستطيع استخدامالحرف كزخرف مفرغ من المضمونينعكس على الفنون األخرى وعلىطريقة الكتابة في مجاالت كثيرة،‏إنّه بهذا المعنى بحث علمي-‏ فنّي.‏وقد كانت األسباب التي دفعت إلىهذا االتجاه كثيرة أهمّها المنطقالشّ‏ كلي والرّغبة في إيجاد فنّ‏ عربي.‏إنّ‏ استخدام الحرف يشابه استخدامبعض العناصر الزّخرفيّة العربيّة،‏ولكليهما اتجاه واحد«.)‏‎5‎‏(‏ إنّ‏ التّشديدعلى احتساب الحرف مثياً‏ للزخرفداللة على أنّ‏ البعد الشكلي مهمّ‏للغاية في تصوّ‏ ر الحروفيّين فيهذا البيان.‏يتّفق أغلب الرسّ‏ امين والنقّادالعرب واألجانب أيضاً،‏ علىشاكر حسنأنّ‏ االستعماالت المتنوّ‏ عة للخطّ‏وللحرف العربي من طرفالتشكيليين العرب،‏ أنتجت تيّاراً‏مهماً‏ في سياق الرّسم المعاصر،‏الّذي اصطلح عليه بالحروفيّة،‏ رغمما تنطوي عليه ترجمة المصطلحمن مجازفة الوقوع في موجة‏»الاتريزم«‏ الغربيّة البعيدة شكاً‏ومضموناً‏ عن هذه التجربة العربيّة.‏ومع ذلك نقول بأنّ‏ المسألة مازالت في حاجة إلى دراسة أعمقممّا نتصوّ‏ ر باعتبار أنّ‏ الممارسةتأطّ‏ رت ضمن جماعات أو توليفاتمحليّة في الغالب،‏ وداخل رؤيةجماعيّة،‏ تريد البحث في تعصيرالفنّ‏ العربي الحديث،‏ كما تريدفي ذات الحين،‏ تشريع الخطابجميل حموديمن أعمال شاكر حسنمديحة عمرالتّشكيلي المحلّي والوطني،‏ علىأسس ذاتيّة متملّصة من سطوةالغرب باعتباره اآلخر في كلّ‏الحاالت.)‏‎5‎‏(‏ وهو ما يذهب إليهالدكتور الحبيب بيدة حين يقول:‏‏»في حين أنّ‏ ما قمنا به يدعونا إلىإعادة النّظر والنّقد الذّاتي،‏ حتّىيكون تعاملنا المقبل معها تعاماً‏مع العمق والجوهر ال تعاماً‏ معالمظهر،‏ وأن يكون عمق تعاملنامعها مثل عمقها وعمق تعاملها معإدراكنا«.)‏‎6‎‏(‏ إنّ‏ ما ذهب إليه معظمالحروفيين المشارقة من إسنادالقيمة الصّ‏ وفيّة للحروف المستعملةفي هيئاتها وحركاتها في اللّوحةالعربيّة الحديثة والمعاصرة ال يتّفقمع ما فسّ‏ ره بعض النّقاد المغاربيين57


أمثال النّاصر بن الشيخ في قولهبنزع القداسة عن الخط العربيفي تجربة نجا المهداوي،‏ وذلكمن أجل شحنه باألبعاد التّشكيليّةوالشّ‏ كليّة الممكن ة،‏ وه و ق ول اس تندإليه ادموند عمران المالح في كتابهعن أحمد الشّ‏ رقاوي.‏لقد قامت نزعة توظيف الحروفوالكتابة من عدّة منطلقات ذات أبعادتشكيليّة وأيديولوجيّة،‏ لعلّ‏ الوجودفي المهجر أهمّها وأكثرها تأثيراً،‏ إذيوفي شهادات عديدة لفنانين مثلمديحة عمر وجميل حمودي وحسينالزندرودي...‏ وهي قد شكلّت ماذالعديد الفنّانين المغتربين،‏ كييسكنوا الحرف ويُسكنوه لوحاتهمداللة على الغيريّة واالختافوطلباً‏ للهويّة المحليّة واإلقليميّة.‏وهو مطلب نضالي يراود التراثوينشد المعاصرة ويرغب فيالتأصيل والتحديث كخطاباترانت على الوضع الثقافي العاملفترة الستينيات والسبعينيات منالقرن العشرين،‏ إذ يقول النّاصربن الشيخ عن المهداوي في مقالبعنوان ‏»فنّان ملتزم:‏ رغم الظّ‏ اهر،‏فإنّ‏ اللّوحات الخطّ‏ ية ال تفترض خلقعالم آخر،‏ أو تستجيب إلى حاجاتالتّملّص ولألصالة المبالغ فيها.‏فللنّقاد الغربييّن حرّية اعتبار ذلك،‏لكنّ‏ المهمّ‏ بالنّسبة لنا نحن العرب،‏هو اعتمادها في اتجاه نضاليّ‏ «)7(.غير أنّ‏ هذه األبعاد ال تلتقي،‏ وفيجانب كبير منها،‏ ال تناظراً‏ أو توازياً‏مع ما جاء به بيان الحروفيّة،‏ألنّها ال تتفق في المبدأ والمنطلق والفي المنهج والممارسة،‏ رغم الظّ‏ اهرمن االلتقاء في سطح اللّوحة.‏ونرى أنّ‏ ما تا هذه التّجاربالرائدة بقي ينوّ‏ ع على ذات الفعلفي دائرة مغلقة وبنسق سيزيفي،‏قام بنقده الباحث السوري موريسسنكري،‏ كما قام كاتب هذه السّ‏ طورباحتساب الفاعلين فيها كحامليالبدالت العسكريّة للدّفاع عن الهويّة.‏والرأي عندي أنّنا حقّاً‏ لم نامسمن الحروفيّة العربيّة غير ظاهرهارغم التّحبير الكثير لبياض أوراقنا،‏باعتبار أننا وبانفعالنا مرغمين أومخيّري ن س عينا إل ى تمتي ن المواءم ةبين الحرف والكتابة واللّغة دونأن ننظر في المرجعيّات األساسيةوالرئيسيّة العميقة الكامنة خلفهذا االختيار.‏ وها نحن ذا نراودنفس النّبع وأرجو أال نعودعطشى والحروف العربيّة ترسموتوشم على الوجوه وفوق الزنودواللحافات في محافل البنيالياتوالعروض الفنيّة با عمق والتبصّ‏ ر،‏ بل في طمع لتكسُّ‏ بٍ‏ صارسهاً‏ ما دام أمد اللّذة عند المقتنيوالمتلقّي طوياً‏ ، وحجج األدلجةوالتّفاخر بالتّراث ماضية فياالرتفاع في بورصة المضاربةبقيم الخطّ‏ العربي وحروفه الّتيأفنى الوزير ابن مقلة عمره وسنيشبابه في نحت الكثير من معالمها.‏ّمن أعمال مديحة عمرالهوامش:‏* باحث وأكاديمي من تونس- 1 البعد الواحد،‏ فلسفة ورؤية،‏ شاكرحسن آل سعيد،‏ حوار الفنّ‏ التشكيلي:‏إع داد:‏ ش اكر حس ن آل س عيد،‏ نش ر مؤسس ةعبد الحميد شومان،‏ دارة الفنون،‏ عمان،‏األردن،‏ الطبعة األولى،‏ 1995. ص‎127‎‏.‏- 2 يقول:‏ « والخطّ‏ العربيّ‏ في رحلتهالثّاني ة الت ي ش ملت كلّ‏ أرج اء العال م العرب يتقريباً‏ وتخطّ‏ تها إلى إيران فتركيا والهند،‏يسعى ألن يقوم في كلّ‏ بقعة من تلكالت ي يص ل إليه ا بمغ زى ف ي خصائص ه،‏ ف يالحرف المتنوّ‏ ع األشكال وفي الكلمة العربيّةالمتميّزة بقدرتها على تغيير مضمونهاضمن تغيير مواقع حروفها فيها وعبرتركيب اشتقاقي،‏ وفي الجملة التي تتوسّ‏ عللمحتوى األدبي والفكري،‏ أن يلج العملالتّشكيلي ويعمّق من إمكانيّته التّعبيريّة،‏وذلك تأكيدا لخاصّ‏ ية فنّانينا في هذاالمجال.«.‏ بلند الحيدري:‏ مامح من أثرالتّراث العربي على فنّانينا.‏ مقال منقّح عنمقال صدر بالعدد 7 آلفاق عربيّة 1977 تحتنفس العنوان ص.‏‎56‎‏.‏ من كتاب زمن لكلّ‏األزمنة،‏ نشر المؤسّ‏ سة العربيّة للدّراساتص 146، الطّ‏ بعة األولى 1981.- 3 الخطّ‏ العربي:‏ البعد الواحد،‏ شاكرحسن آل سعيد،‏ ضمّنه شربل داغر،‏الحروفيّة العربيّة،‏ شركة المطبوعاتللتوزيع والنشر،بيروت،‏ لبنان،‏ الطبعةاألولى 1990. ص.‏ 143.- 4 شاكر حسن آل سعيد بيان الحروفيّة.‏فصول من تاريخ الحركة التّشكيليّةالعراقيّة،‏ الجزء األوّ‏ ل،‏ بغداد،‏ دار آفاقعربيّة.‏ ص.‏‎46‎‏.‏- 5 تحرير مجلّة الوحدة.‏ ملفّ‏ الوحدة،‏التّأصيل والتّحديث في الفنون التّشكيليّةالعربيّة/‏ العدد ص 70-71.- 6 الحبيب بيدة،‏ مقال:‏ الحوار التشكيليمع العامة الخطّ‏ ية في الفن العربيالمعاصر.الحياة الثّقافيّة التوّ‏ نسيّة العدد 71ص‎126‎‏.‏- 7 المجلّة المغربيّة باللغة الفرنسيّة:‏انتقرال شهر مايو 1975.58


الحروفأمّة من األممأحمد عبدالكريملم تحتفِ‏ أمّ‏ ة من األمم بالخطّ‏والزخرفة قدر احتفاء المسلمين بهذينالفنين اللذين عوّ‏ ضا غياب التصويروالنحت،‏ ولقد أبدع المسلمون فيالخطّ‏ أيّما إبداع جعلهم يباهونبنفائس المخطوطات واآلثار الخطّ‏ يةالتي مازالت شاهدة على العبقريةالفنية التي ال تُضاهى.‏لقد تعامل العرب مع الحرفبقدسية كبيرة وصلت حدّ‏ تماهيهمع المقدّس والممارسة الصوفية.‏ما حدا بالشيخ األكبر محي الدينابن عربي إلى القول ‏»إن الحروفأمّ‏ ة من األمم،‏ مخاطبون ومكلَّفون،‏وفيهم رُ‏ سُ‏ ل من جنسهم،‏ ولهمأسماء من حيث هم،‏ وال يعرفهذا إال أهل الكشف من طريقنا،‏وعالم الحروف أفصح العالم لساناً‏وأوضحه بياناً«.‏ه ذا المجت زأ يخت زل بباغ ة كبي رةكلّ‏ ما يمكن أن يقال عن الحرفالعربي وأسراره وجمالياته.‏ وهوبا شك يُحيل على كل القيمالتي ينطوي عليها الخطّ‏ العربيمن الناحية الدينية أو الداللية أوالجمالية.‏لقد ارتبط الخط العربي منذالبداية بالقرآن الكريم،‏ نتيجةاحتفاء الخطّ‏ اطين بنسخ المصحفالشريف،‏ وتزيين المساجد باآلياتواألحاديث الشريفة.‏ ما أكسبهممكانة عالية انعكست على مكانتهماالجتماعية بشكل عام.‏ ما منح الخط‏ّوالخطاطين هالة ربطتهم بالمقدّسوالديني،‏ وحوّ‏ لت الخط إلى تقليد‏“مصحف قطر”‏بخط السوري عبيدة محمد صالح البنكييحتاج إلى أخاقيات ومؤهاتخاصة.‏ فهو كما قال عنه الخطّ‏ اطياقوت المستعصمي ‏»الخط هندسةروحانية ظهرت بآلة جسمانية«.‏أقسمَ‏ اهلل تعالى في إحدى اآلياتالكريمة بحرف النون وبالقلم،‏ داللةعلى خطر شأن الكتابة وقدسيتها،‏وعظمة األسرار الكامنة فيها،‏ وفيلحظة من اللحظات كان القلم والناييصنعان كاهما من القصب،‏ وإذا كانسرّ‏ لوعة وشجن ناي جال الدينالرومي هو حنينه إلى القصبةاألمّ‏ التي فارقها،‏ لذلك فهو يتألّمويصدر أنغامه الشجيّة،‏ فإن حنينالقلم إلى القصبة األمّ‏ جعله ينزفحب راً‏ وصمغ اً‏ عربي اً‏ أش به م ا يك ونبالدمع األسود.‏هذا يعني أن القلم والناي شقيقانتؤأمان،‏ ذلك أن الخطّ‏ موسيقىالعي ن،‏ وأن الموس يقى خ ط الس مع..‏هذا هو ما حدا بي في إحدىقصائدي الشعرية إلى تشبيه األلفبالعصا التي أهشّ‏ بها على العزلة،‏وإلى تشبيه النون باألرجوحة..‏كان الفنان الفرنسي المسلم ناصرالدين دينيه أحد المعجبين بالخطالعربي.‏ يرى بأن اتجاه حركةالكتابة العربية من اليمين إلىاليسار يدل على رغبة الخطاط فياحتواء العالم الخارجي واستدراجهإلى الداخل الموجود في جهة القلباليسرى.‏ وفي حركة الكتابة العربيةمصافحة واحتضان للعالم،‏ وتعبيرقويّ‏ عن المحبة الجوانية،‏ في حينأن الكتابة الاتنية تفعل العكس فيمحاولة للتنفيس وإخراج المكنوناتالداخلية..‏من وجه آخر ارتبط الخطّباللغةالعربية التي تعتبر أحد مظاهراإلعجاز واالعتزاز العربي،‏ بلومقوّ‏ ماً‏ رئيسياً‏ من مقوّ‏ مات الهويّةالعربي ة.‏ وه و م ا جعل ه قمّ ة الفن ونالنبيلة التي تؤدي دوراً‏ حضارياً.‏ال غنى عنه.‏ فهو الذي نقل الثقافةمن طور الشفاهية إلى التدوين،‏وصار وعاء الحتواء األدب العربينثره وشعره ولوال جهود النسّ‏ اخينوالخطاطين ما وصلنا شيء منذخائر المخطوطات والدواوينوالمصنفات األدبية والعلمية.‏59


د.‏ إسامعيل مهنانةيسألونك عن الحروف قُلْ‏ هيّ‏ تصويتات ممدودة من الحنجرة إلى تخوماألشياء،‏ وَ‏ قُلْ‏ هي الوحدات المُ‏ تناهية لكالمٍ‏ ال نهاية لعوالمه.‏ إن معجزةاللغة كلّها تتأسس على هذه الواقعة اللسانية التي مفادها أنه انطالقاً‏من عدد محدود من الحروف )28 حرفاً‏ في العربية مثالً(‏ يمكن بناء عددٍ‏ المتناهٍ‏ من الكلمات.‏ وإذا كانت اللغة مسكن الكينونة،‏ كما قال هايدغر،‏ فإنالحروف لبِنات عجيبة في بناء بيت الوجود.‏العالم حروف متناثرة..‏تنبّهت البشرية منذ القدم فيالقدرة الخارقة للحرف في تثبيتالعالم في سجلّ‏ الكينونة،‏ فراحتتتهجّ‏ ى صوتها في حروفٍ‏ تُخلّدهاوشماً‏ ونسجاً‏ ونقشاً‏ صخريّاً،‏ حتىال تكاد تخلو ثقافة من التثبيتالحرفي لوجودها وحمايته مناالندثار داخل الحرف.‏رغم قيام الثقافة العربية علىالذاكرة الشعرية الشفاهية،‏ فيالزمن السابق على اإلسام،‏ إال أندخولها التاريخ لم يكن ليمرّ‏ دونبوابة الحرف المُ‏ هرّب من الفارسيةالى العربية.‏ في البدء كان الحرفُ‏ ،متوحّ‏ داً‏ مع صورته فمعناه منساقٌ‏في تعاريجه،‏ فكانت صناعة الحرففي تدوين القرآن فنّاً‏ قائماً‏ بذاته،‏أو هذا ما تشي به المخطوطاتاألولى التي احتفظت بها المتاحف.‏هكذا انحدرت جماليات الخط العربيتوّ‏ ا من عشق الحروف المؤدّية إلىمعنى اإللهي في القرآن،‏ كدروبٍ‏شُ‏ قّت في ركح السماء.‏ ويقرّ‏الكثير من المفسّ‏ رين أن لوقوعالقَسَ‏ م بالحروف في القرآن ثمانِيوعشرين سورة داللة بالغة،‏ إذ هوعدد األحرف العربية.‏ليس صدفة أن تتقوّ‏ م كل معجمية‏»لسان العرب«‏ لدى ابن منظورعلى البناء الحرفي للكلمة العربيةالثاثية.‏ فالكلمة العربية تتشكّل فيبنية اختافية بين ثاثة حروف،‏ كأنالحرف يشي سلفاً‏ بالمعنى منتظراً‏ومؤجّ‏ اً‏ مقصد المتكلّم.‏ وليس صدفةأن نظرية التقليب للزمخشري تتكئعلى استبدال الحروف لمواضعهافتتهادى معاني الكلمِ‏ متقاربةمتجانسة ومتضادّة،‏ كقولنا ‏)جنس،‏نجس،‏ سجن،‏ نسج،‏ جسن..(.‏فتكون خمسة ألفاظ عربية يُجهلسادسها،‏ ويكون الحرف بطلَ‏المعنى وشهيده المٌرجأ.‏للتصوّ‏ ف اإلسامي قصّ‏ ة طويلةمع الحرف العربي،‏ فهو يعودبالحرف إلى جذبته الصّ‏ وتية األولىلكي يجذّر الكام عند مخارجهالموسيقية،‏ والحروف درجات فيالشّ‏ رف والجذب،‏ حسب نظرية ابنعربي مثاً‏ ، فجذبة ‏»الحاء«‏ مثاً‏‏)يقابلها حرف ال V في اللغاتاألوروبية(‏ تتربّع على عرشالحروف لما يتناسل من توزّ‏ عهاداخل الكلمة من معاني ‏)الحقّ‏ ،الحيُّ‏ ، الحميد،‏ الرحيم،‏ الرحمن،‏الرّوح،‏ الحور،..إلخ(‏ فمن جذبةالح اء تتدفّ ق الحي اة وال والدة ورحِ‏ مالوجود،‏ ومن جذبة الهاء تنحدرمعاني الهو والله والهيام والهوىوالوله..‏ وهكذا.‏في معظم لوحات الخطّ‏ العربيتطغى حروفٌ‏ على حروفٍ‏ أخرى،‏يُهيمن الحاء ‏)بنقاطه ج/خ أوبدونها(‏ ويسافر ليحتل المكانويضع بقية الحروف تحت التواءاتهالعجيبة،‏ فالخط العَ‏ رَ‏ بِي هو الفنالجميل للكتابة العربية التي ساعدتبنيتها وما تتمتع به من مرونةوطواعية وقابلية للمد والرجعواالستدارة والتزوية والتشابكوالتداخل والتركيب،‏ على ارتقاءالخط العربي إلى فن جميل يتميزبقدرته على مسايرة التطوراتوالخامات.‏ فتشكّلت عاقة وثيقةبين كل نوع من أنواعه والموادالتي يكتب بها أو عليها،‏ فيكونُ‏ليناً‏ ينساب برشاقة وغنائية،‏ نجدهُ‏صلباً‏ متزناً‏ يشغل حيزه بجال يمتدإلى ما حوله،‏ ونجدُ‏ الصابة واللين60


يتبادالن ويتناغمان فيه.‏ وهو في كلأحواله يشدّ‏ الناظر ويمتعه بجمالياتهالخاصة وتجريديته المتميزة التيعرفها بشكل مبكرٍ‏ وراقٍ‏ ، مما جعلله مكانة خاصة بين الفنونالتشكيلية.‏ل م تحت ف ظاه رة بش رية بس طوةالحروف كما احتفى الوشمُ‏ بها وهويؤسس لذاكرة الجسد المتواترة فيالرموز والحروف والنقاط المُ‏ وسّ‏ مةوشماً‏ في كل الثقافات،‏ والحق أنالشّ‏ عر العربي يحتفظ لنا بشيء منهذه الحفاوة زمن الجاهلية،‏ فنقرأزهير وهو يقول:‏أَمِن ِ أُمّ‏ أَوفى دِ‏ منَةٌ‏ لَم تَكَ‏ لَّمِ‏بِ‏ حَ‏ ومانَةِالدُ‏ رّاجِ‏ فَالمُ‏ تَثَلَّمِ‏وَدارٌ‏ لَها بِ‏ الرَقمَ‏ تَينِ‏ كَ‏ أَنَّهاالعمل الفني:‏ عبدالناصر الصايغ - عُ‏ مانمَراجِ‏ عُ‏ وَشمٍ‏ في نَواشِ‏ رِ‏ مِعصَ‏ مِ‏يبدو أن انتقال البشرية إلىمرحلة الكتابة والكتاب المؤسّ‏ س/‏المقدّس،‏ كما في الدّيانات اإلبراهيميةكان مشروطاً‏ بكبت مرحلة الوشموالوسم على الجسد،‏ وكان استبدالالحرف المكتوب بالوشم المكبوتخطوة أساسية نحو اإلنسانيةالتوحيدية.‏تكشفُ‏ أنطولوجيا الوشم عنتاريخٍ‏ زاخرٍ‏ من المِلكية والتبادل،‏فالوشم كان دوماً‏ عام ة على تملّ كلجسد اآلخر أو تمليكه،‏ وخاصةجسد المرأة التي ظلّت تاريخيّاً‏مح لّ‏ ملكي ة وتب ادل بي ن الرج ال ف يمعظم الثقافات،‏ هكذا كان الحرفيُلقي بسطوته على الجسد األنثويكوثيقة ملكية وأرشيف جسدي،‏وقد حكم الحرف الموشوم والوصمردحاً‏ طوياً‏ من الزّمن السابقعلى الكتابة.‏ إن الوشم هو الحالةالمبتذلة للصّ‏ مت والعزلة الذي يسبحُ‏فيها جسد المملوك أثراً‏ وانتماءً‏ .يُخبرنا الفيلسوف جاك دريدا،‏ أنمعن ى ال كام ه و م ا تؤجّ‏ ل ه الف وارقواالختافات بين حروف الكلمات،‏فالكامُ‏ البشري لم يكن ممكناً‏ لوالهذا اإلرجاء الذي يقوم عليه كلنظام الكلمات والجمل،‏ بمعنى أنكلمة ‏»كَ‏ تَبَ‏ » هي نظام االختافوالتراتب بين حروفها الثاثة،‏ وهينظرية ال يمكن تجاوزها في فهمنال ‏»لسان العرب«‏ وهو يجذّر معانيالكام من خال ما تؤجّ‏ له البنيةالثاثية للكلمة العربية،‏ وإذا جرّبناذلك مع ما يوجّ‏ له حرفا ‏»ف.‏ ر«‏ منمعنى إلى الحرف الثالث سنحصلعلى المنظومة التالية:‏فَرَ‏ جَ‏ : فتح ووسّ‏ ع وباعد بينشيئينفرَ‏ دَ‏ : مدّ‏ أطراف الشيء وباعد بينهافرَ‏ رَ‏ - فرَّ‏ : ابتعد بنفسه عن المكانفرَ‏ زَ‏ : باعد بين أشياء مختلفة فجعلكل مجموعة متشابهة معاً.‏فرَ‏ سَ‏ - افترس : باعد بين الفريسةوبين القطيع ليسهل اصطيادهاوهكذا فرَ‏ شَ‏ ‏/فرَ‏ طَ‏ ‏/فرَ‏ عَ‏ ‏/فرَ‏ غ /فرَ‏ ق.‏61


يُعرِّف الفنان القطري علي حسن الجابر )1955(الفن؛ بكونه ليس ‏»نقل األشياء وتكرارها،‏ وإنماتحويلها إلى معانٍ‏ وأحاسيس بصرية«.‏ صاحباألعمال الحروفية ‏»مشاهد شرقية«،‏ ‏»قرية الشعراء«‏و»خيول الصحراء«‏ اكتفى بحرف النون وشيّد منهسفينة لإلبحار في الذاكرة المحلية،‏ بما تزخر به منروافد وتقاطعات ثقافية وتاريخية.‏ لم تشغله منذالبداية إلى اليوم أسئلة الحروفية العربية والجدلالذي دخل فيه الكثير من الحروفيين دفاعاً‏ عنانتماءاتهم الجمالية والفكرية،‏ فهو يصرّح بالحرف‏»أحترم كل االتجاهات والتجارب،‏ التعدُّد واالختافموجود في الطبيعة.‏ والعالم أذواق متفاوتة«.‏وعلى مدار مسيرته،‏ المتوَّ‏ جة بجوائز عديدة،‏في جعبة علي حسن الكثير من اإلنجازات محلياً‏ودولياً،‏ فأعماله تخطّ‏ ت الحدود،‏ كما اغتنمت منهامتاحف في العالم.‏ حصل على شهادة تقدير مناليونيسيف عام 1995، صَ‏ مّمَ‏ شعار الدوحة عاصمةالثقافة العربية 2010، تلقّى دورات في صيانةالتراث العربي اإلسامي بجامعة لوفات-‏ بلجيكا‎1984‎م،‏ وهو الذي واكب ووثّق بخط يده نشأةالصحف والمجات في موطنه...‏ في هذا الحوار ل ‏»الدوحة«‏نقت رب م ن مس يرة عل ي حس ن الجاب ر عب ر المحط اتاألساسية والقناعات التي شكّلت تجربته في عالمالحروفية العربية.‏علي حسن الجابر:‏طواعية الحرف الواحدحوار – محسن العتيقي§ لنتحدث بداية عن اللحظةاألولى التي اعتنقت فيها الحرفالعربي واعتمدته كسند للتعبير؟- لم يكن في البداية سنداً‏ للتعبيربالمعنى المتداول حالياً،‏ لكن يمكنالقول إنها مسألة موهبة وهوايةتحوّ‏ لت إلى عشق.‏ فقد أحببتالحرف العربي من الصغر،‏ وكنتأشغل نفسي بتعلّمه.‏ وتدريجياً‏وجدت نفسي اشتغلُ‏ خطاطاً‏ فيأول جريدة قطرية وهي ‏»العرب«،‏وكان مؤسسها ورئيس تحريرها،‏عميد الصحافة القطرية عبد اهلل بنحسين نعمة،‏ يشجعني.‏ كنت أكتبالعناوين الرئيسية،‏ كما بدأت خالهذه الفترة أخط الكتب المدرسية.‏§ والحقاً‏ انتقلت للعمل فيالمجات ثم الدعاية واإلعان،‏احكِ‏ لنا عن هذه المرحلة؟- نعم،‏ اشتغلت خطاطاً‏ فيمجلة ‏»العروبة«،‏ وفي المجاتالتي صدرت تباعاً:‏ مجلة العهد،‏الجوهرة،‏ وأسواق الخليج.‏وبالنسبة لعملي في الدعايةواإلعان أذكر أنه من المحاتاألولى التي ظهرت في قطر محلكان يديره يوسف قاسم درويش،‏وكان يشغّ‏ ل فيه أجانب يكتبون علىاليافطات بالخط اإلنجليزي،‏ وكانيطلب مني الكتابة بالحرف العربي.‏لكنها تجربة كانت على هامشمزاولتي المهنية،‏ حيث كان شغليفي المجات يستهويني أكثر،‏ وهكذاانتقلت إلى مجلة ‏»الخليج الجديد«،‏ثم إلى مجلة ‏»الدوحة«‏ أيام مديرتحريرها محمد إبراهيم الشوش،‏وبقيت فيها إلى أن عُ‏ ينت كخطاطرسمي بتليفزيون قطر،‏ وكنتحينها في سنتي األولى بجامعةقطر.‏ وهنا أشير إلى أن الدراسةالجامعية لم تبعدني عن مهنتيكخطاط إلى أن تخرجت في الجامعةعام 1982. كل هذه التجارب شكّلتمدرستي الحقيقية في الخط.‏§ ألم تتأثر بخطاطين معروفينخال هذه المرحلة؟- لم يكن ثمة خطاطون قطريونبهذه الصفة،‏ باستثناء خطاطين منالعراق وفلسطين كانوا يشتغلونفي المحات التجارية ككتابيافطات.‏ لكني أذكر جيداً‏ أنه عند62


تنقل ي مش ياً‏ م ن”‏ البراح ة ف ي س وقواق ف”‏ حي ث كان بيتن ا،‏ إل ى مدرس ةخالد بن الوليد في فريج الغانمكنت أتابع هذه اليافطات،‏ فكلشيء مكتوب بالخط كان يجذبني.‏§ سنة 1982، وهي سنة تخرجكفي الجامعة،‏ بدأ مسار آخر فيحياتك المهنية وبعدها في عاقتكبالحرف العربي،‏ كيف حصل ذلك؟وكيف اتضح لك االتجاه الجديدالذي سينقلك من الهواية والحرفةإلى التفكير في استخدامات فنيةللحرف العربي؟- بعد التخرج في الجامعةاشتغلت موظفاً‏ حكومياً،‏ وبعدهابسنة في شركة الماحة،‏ ثم فيوزارة اإلعام.‏ كان المرحوم الفنانجاسم زيني،‏ الذي كان حينها مديراً‏إلدارة المتاحف،‏ قد اطلع علىرسوماتي فقال لي مرة:‏ أنت أنسبلك أن تأتي عندنا إلى المتاحفواآلثار،‏ فسمعت كامه والتحقتبإدارة المتاحف واآلثار موظفاً‏ إلىاليوم.‏§ الرسومات التي اطلع عليهاالمرحوم جاسم زيني حينها،‏ هلكانت حروفية تشكيلية أم كتاباتكاسيكية؟- كانت استلهاماً‏ للخط العربيفي التشكيل،‏ لكنها كانت ضمنخطوات أولية.‏ إلى أن شاركت أولمرة في معرض عام 1982.§ بداية الثمانينيات هي فترةمبكرة للحروفية في قطر.‏ هلكنت مُ‏ تابعاً‏ للتجارب في العراقومصر على سبيل المثال؟- لم أكن أفكر في هذه األمور.‏فجيلي من الفنانين التشكيليينوالمجتمع بشكل عام كانوا ينظرونإلى الخط بدونية.‏ حتى أنه لماتم تأسيس الجمعية القطريةالفنان علي حسن الجابر في ورشتهللفنون التشكيلية من طرف زمائيلم يستدعني أحد ألكون عضواً‏فيها باعتباري خطاطاً،‏ على الرغممن أنني كنت الخطاط الوحيد فيالساحة القطرية.‏ لهذه األسبابلم أهتم بما كان يُقال في مجالالخ ط والحروفي ة حينه ا،‏ بينم ا كن تمُ‏ نساقاً‏ نحو الخط بالموهبة الفطريةوباالحتكاك المهني.‏§ متى تم االعتراف الحقيقي بككفنان،‏ وكيف تعاملت مع هذااالعتراف؟- حصل ذلك لما شاركت بأولأعمالي في معرض سنة 1982.واسمح لي هنا أن أشير أيضاً،‏إلى أن ابتعادي عن الخط بعدالتخرج في الجامعة،‏ لم يكن بدافععدم االعتراف،‏ لكني تساءلت،‏ ماذابعد؟ كل هذه الكتابات بكل الجهدالمبذول في تجويدها وتهذيبهاينتهي بها المطاف،‏ حين يفرغالناس من قراءتها على صفحاتالجرائد والمجات،‏ أوراقاً‏ مرمية فيالشوارع.‏ هذه نهاية قاسية لعمليأخذ وقتاً‏ وتركيزاً‏ أيضاً.‏ لذلك كانالخط في البداية غاية بالنسبة لي،‏وبعد ذلك أصبح وسيلة للتعبير.‏ويمكنني أن أضيف كذلك بأننيلم أكن،‏ وال زلت،‏ غير مَ‏ يَّالٍ‏ إلىالقواعد الصارمة،‏ وهذا جنبني أنأصير خطاطاً‏ كاسيكياً.‏63


§ لننتقل اآلن إلى بعض مامحتجربتك الحروفية.‏ يظهر في الكثيرمن أعمالك حرف الن ون،‏ فه ل ه وإحالة مباشرة على اآلية الكريمة‏»نون والقلم وما يسطرون«‏ أم هوحرف مفتاحي يأخذ داللته حسبكل لوحة على حدة؟- هو عنصر مركزي.‏ ويجب أنأذكر هنا،‏ بأن ثقافتي هي باألساسبصرية،‏ فلم أدرس الفن ولم أتخرجف ي كلية للفن ون،‏ كن ت أتعل م بش كلذاتي.‏ وضعت بيني وبين نفسيتحدي اً‏ بعدم ا الحظ ت ب أن الكثي ر م نالفنانين تناولوا الحروف العربية،‏لكن،‏ ال أحد تخصص في حرفواحد،‏ حسب معلوماتي،‏ فقلت لم الأبحث عن شيء متفرد.‏ وأعتقد بأنحرف النون هو الذي اختارني...‏جاء النون لوحده بصيغة قدريةفرسمته بتقنية كانت سائدة أيامها،‏فنجح ما فعلته وأُعجب الناسباألس لوب مم ا جعلن ي تدريجي اً‏ كلم اتناولته في لوحات الحقة أتعلّق بهوأستمر في تقديمه إلى اليوم.‏§ ألم تخشَ‏ السقوط في النمطية؟- لوال حبي لهذا المجال لكنتتركته منذ زمن.‏ في الكثير مناألعمال أحاول أن أنوِّ‏ ع في التقنياتوالمضامين؛ من ‏»مشاهد شرقية«‏ إلى‏»قرية الشعراء«،‏ و»خيول الصحراء«،‏هناك في كل معرض محاوالت فيتغيير السند والفكرة سواء أكانتباعتماد الكوالج أم النحت أم التركيبوغيرها من الوسائل المعروفة...‏ث م إن ه لدين ا 28 حرف اً،‏ وم ن الس هلاختيار حرف في كل مرة،‏ لكن منالصعب االشتغال على حرف واحد،‏فاألمر يتطلب الصبر والمغامرة.‏أريد من ناحية أن أثبت متانةوقوة الحرف العربي،‏ وطواعيةحدوده القصوى التي يمكن معهاأن تتناول أي حرف وتعيش طولمن»خيول الصحراء«‏حياتك تتعامل معه.‏ ومن أجل ذلكأرفض طلبات تريد أعماالً‏ بحروفأخرى غير حرف النون.‏ واآلنيوجد مقتنون لنفس الحرف؛ ففيمن»مشاهد شرقية«‏المتحف البريطاني هناك 3 أعمال،‏وعمل في كل من متحف لوسأنجلوس والمتحف الصيني ومتحفسنغافورة.‏ أشعر بأن هذا الحرف64


عن بيت شعري يتناسب مع هذاالتكوين الهندسي فوقع اختياريعليه.‏كطفل صغير،‏ في كل مناسبةأكسوه بمابس جديدة تبرزه فيحُ‏ لَّةٍ‏ جديدة داخل حيز اللوحة،‏وفي كل عرض أتخيل النون علىهذه الصورة،‏ إنه بمثابة كائن حي!‏§ تعتقد إذن بأن النون هو أصلالحروف أم ماذا؟- 24 سنة أعيش مع هذا الحرف،‏لك أن تتصوّ‏ ر ذلك!‏§ لنتحدث اآلن عن معرضكالشخصي ‏»قرية الشعراء«،‏ لماذاالعودة إلى ألف ليلة وليلة منخال البيت الشعري ‏»متىاأليام تسمح بالتاقي..‏وتجمع شملنا بعد الفراق«؟- عاقتي بالشعر وطيدةقراءةً‏ وكتابةً‏ . كنت قد استعملتهذا البيت الشعري منذ مطلعالثمانينيات.‏ أي في بدايةمشواري.‏ لكنني كررته فيكل أعمالي،‏ وكان بحثي فيالتقنيات يجعلني في كل مرةأعرض البيت بشكل مختلف،‏وأستخدمه كعنصر أبني عليهأفكاراً‏ جديدة،‏ فهو بيت يتجانسمع ‏»النون«‏ ومع ‏»قرية الشعراء«‏ومع ‏»مشاهد شرقية«‏ وفي كل هذهالمشاريع هناك أثر وامتداد لهذاالبيت الشعري.‏§ لماذا بالضبط هذا البيت؟- في بيتنا القديم،‏ كانت توجدمشربية تعلّقت بها،‏ وهي جزءمن ذكرياتي.‏ أعجبتني زخرفتهافرسمتها في لوحة،‏ ورحت أبحث§ ف ي معرض ك ‏»خي ول الصح راء«‏2013، ناحظ اعتمادك على اللونيناألبيض واألسود،‏ ألوان ناعمةوشفافة،‏ تركيبات ثاثية األبعاد،‏ونحت...‏ هل شَ‏ كّلَ‏ المعرض محطةجديدة في مسيرتك؟- في ‏»خيول الصحراء«‏ اشتغلتعل ى الخي ل،‏ وعل ى اللوني ن األبي ضواألسود كلياً.‏ هذا المعرض هونتيجة تخطيطات سابقة علىالكانفاس.‏ ويمكنني القول بأن‏»النون«‏ أوصلتني للصحراء،‏ ثموجدت نفسي أُشكّل عبرها الخيل.‏هو،‏ كما قلت،‏ محطة جديدة فيتجربتي،‏ ولم يكن القصد بالضرورةمن هذا المعرض أن يُخلّف هذاالتحول،‏ وأعتقد أن األمور أحياناً‏تأخذ طريقها المختلف حسبما نراكمه من مشاعر وتجاربوطموحات وزوايا للرؤيا.‏§ ‏»خيول الصحراء،‏ مشاهدش رقية،‏ قري ة الش عراء«...‏ عناوي نيبدو أنها مُ‏ ختارة بعناية؟- أحياناً‏ يكون العنوان أقوى منالعمل،‏ وأحياناً‏ العكس.‏ يأتيالعنوان مرة في البداية،‏ومرة عند االنتهاء منالعمل،‏ وأحياناً‏ في منتصفالطريق.‏§ هل عثرت على عنوانمشروعك القادم بعد ‏»خيولالصحراء«؟- ليس بعد،‏ ولكننيأشتغل على الحياة اليوميةووجوه الناس وحركاتهم،‏وقريباً‏ سيرى هذا المشروعالنور.‏65


حمد السعدي*‏تظهر البراعة الخطيّة في خطوط هاشم البغدادي الخطاط،‏ واسمهالكامل،‏ هاشم محمد درباس خليل القيسي البغدادي ‏)ولد عام 1917 بغداد- محلة الفضل(،‏ كونه من أهم الخطاطين الذين أولوا موضوع اإلتقانعناية بالغة،‏ ولم يقتصر ذلك على نوع واحد من الخطوط،‏ وإنما تعدّىذلك ليشمل أغلب الخطوط المُ‏ تداولة،‏ وتُعد هذه إحدى أهم المزايا التيميزت خطوطه مقارنة بخطاطين آخرين تميزوا بنوع واحد أو نوعين منالخطوط العربية.‏هاشم الخطاطفريد زمانهلقد كان هاشم البغدادي عاشقاً‏ للخط شديد الغيرةعلى التمسك بقواعده،‏ ولعلّ‏ من ميزات خطوطه هوالتأكيد على قولبة الحروف،‏ أي إمكانية إعادة كتابةنفس الحرف لعدة مرات بصورة مُ‏ تطابقة تماماً،‏ وهذهمن مميزات هاشم التي تدعو إلى الفخر والزهو،‏ واليمتلكها إالّ‏ من أَكْ‏ ثَرَ‏ من التمرين وأجاد وأتقن.‏إن قراءة لخطوط هاشم البغدادي تدخل في صميمهذه المعاني من الناحية السيميائية،‏ وإنعودة لمراجعة لوحات كبار الخطاطينأمثال راقم،‏ وسامي،‏ ونظيف،‏وحامد،‏ على الرغم من المستوياتالعظيمة التي حققوها فيإنجاز اللوحة الخطية الفنية،‏إالّ‏ أنهم جميعاً‏ لم يسعواإلى ابتداع شيء جديد علىمستوى التعبير الذاتي جمالياً‏في الخط العربي،‏ ذلك أنهذا الفن قد أسقط مسبقاً‏ هذاالعامل وجعله غائباً‏ سعياً‏وراء الحفاظ على ما يمتلكهالخط من معانٍ‏ وقيم نبيلة سبقذكره ا،‏ وه ذا يمكنن ا م ن الق ول:‏ إن قيم ة م ا وص ل إلي هالخط العربي من جمال هو:‏ حالة من اإلبداع الجماعيوليس الفردي،‏ وهذا في جوهره يناقض المفهومالجمالي في الفن،‏ وكذلك كان البغدادي تكملة لمسيرةهذا الفن بخصائصه المذكورة.‏هاشم البغدادي طود شامخ في أرض التراث وقلعةمن قاع الحضارة،‏ ونابغة من نوابغ الفن وأساطينهالذين يندر وجودهم في التاريخ،‏ ونرى لزاماً‏عليناً‏ نحن الذين عايشنا مثل هؤالءاألساتذة أو تتلمذنا على يده..‏وأنني من السعداء الذين تتلمذواعلى يده فكان نعم األستاذيتفقّد دروسنا ونحظىبتش جيعه دوم اً،‏ لكي يس موالنا الحرف العربي األصيل.‏خط هاشم البغداديأول الحروف على يدأستاذه المرحوم الماّ‏عارف الشيخلي في مدرسةاألحمدية.‏ ودرس الخط علىيد أستاذه المرحوم الماّ‏ علي66


مجموعة من أعمال الخطاطهاشم البغداديالفضلي الشيخ الجليل والعالم بالفروض واللغة.‏ عُ‏ يّنَ‏في مديرية المساحة عام 1937 بصفة خطاط،‏ ثمفي عام 1943 نال أول إجازة بالخط العربي.‏ وبعدهابسنة سافر إلى مصر ليعود حاماً‏ إجازتين من األستاذسيد إبراهيم،‏ واألستاذ محمد حسني،‏ رحمهما اهلل.‏ كماتخرّج في مدرسة تحسين الخطوط العربية من مصربدرجة امتياز.‏ وفي عام - 1950 1952 منحه الخطاطالمرح وم حام د اآلم دي إجازتي ن متتاليتي ن،‏ واعتب ره م نخيار الخطاطين وأولهم في العالم العربي واإلسامي.‏إلى أن عُ‏ يّنَ‏ عام 1960 في معهد الفنون الجميلة،‏ حيثتخرج كبار الخطاطين.‏ وفي سنة 1961 أصدر كراستهالشهيرة ‏»قواعد الخط العربي«،‏ وكان أول معرض للخطالعرب ي أقام ه هاش م البغ دادي س نة 1964 ببغ داد.‏ س افرإلى ألمانيا مرتين مُ‏ وفداً‏ من وزارة األوقاف العراقيةلإلشراف على طباعة المصحف الشريف،‏ وكان آخرهاع ام 1970، ولم دة ث اث س نوات..‏ وق د رَ‏ حَ‏ لَ‏ ه ذا النج مالعراقي عن الحياة في 1973/4/30.وحسبُكَ‏ ما خلّفتهُ‏ من مآثِرَ‏ستبقى على األيام خالدة الذِ‏ كرِ‏‏*خطاط عراقي67


الزحف الرقميمحمد بغداديظَ‏ لّ‏ الخط العربي يحتفظ بجالهورونقه كفن رفيع المستوى،‏إلى أن ظهرت الصحافة،‏ والفتاتالمحال،‏ والملصقات الدعائية لألفامالسينمائية،‏ فعندما ظهرت آالتالطباعة في العالم تقدمت فنونالكتابة وتم تداولها وانتشارها عبرالعديد من المطبوعات،‏ متمثلة فيالكتب والصحف والمجات،‏ وعندماأدخل نابوليون بونابرت ‏)المطبعة(،‏ضمن أدوات الحملة الفرنسية علىمصر عام 1798، كانت تلك أول مرةتتعرف المنطقة العربية على هذه اآللةالعجيبة،‏ وبعد رحيل الحملة الفرنسيةع ام 1801، ظَ‏ لّتْ‏ الرغبة في إتقان هذهالصنع ة الجدي دة حلم اً‏ ي راود كل أعم دةعصر التنوير.‏تحقّق الحلم مع إصدار أول صحيفةعربي ة مصري ة مص ورة وه ي ‏)الوقائ عالمصرية(،‏ التي صدر عددها األول فيالثالث من ديسمبر 1828، وافتتحت أولمطبعة مصرية وهي مطبعة بوالق،‏التي أطلق عليها فيما بعد ‏)المطبعةاألميرية(،‏ وكانت جريدة الوقائعالمصرية أول وسيلة لإلعام تستخدمالحروف العربية المسبوكة من معدنالرصاص في تحرير موضوعاتالجريدة،‏ وكانت أحرف الرصاصبأبناطها المختلفة قد وضع تصميمهاكبار الخطاطين الراسخين آنذاك،‏فكتبوا حروف اللغة العربية في جميعحاالت اتصالها وانفصالها،‏ وفي بدايةووسط ونهايات الكلمات،‏ واختيرتحروف خط ‏)الثلث الجلي ، والديواني(‏لكتابة العناوين الرئيسية للكتبوالموضوعات في جميع المطبوعاتالص ادرة م ن المطبع ة األميري ة،‏ وذل كمن خال عمل ‏)األكاشيهات(‏ لهذهالخطوط،‏ ثم توالى التوسع فيإصدار الكتب والصحف والمجات،‏حيث ظهرت تباعاً‏ المطابع في عددكبي ر م ن عواص م ال دول العربي ة،‏ إل ىأن بلغت ذروتها في منتصف القرنالعشرين.‏وال شك في أن التوسع في استخدامالخطوط العربية المتنوّ‏ عة عبر مختلفأجهزة الدعاية واإلعام كان ساحاً‏ذا حدين،‏ ففي بداية األمر أدى ذلكلارتقاء بالذائقة الفنية للمتلقّي،‏ ثمأصبح فيما بعد وباالً‏ على فنون الخطالعرب ي،‏ فف ي البداي ة كان يق وم بكتاب ةهذه الخطوط كبار الخطاطين فيالبلدان العربية،‏ ومن هنا كانت وسائلاإلعام واحدة من أهم العناصر التيأسهمت في تطوير الخطوط العربية،‏وإثراء حياتنا بفنونه،‏ والنهوض بهوتقديمه على غيره من الفنون،‏ ولكنعندما زادت اإلصدارات،‏ وتعدّدتالصحف الفكاهية والكاريكاتورية،‏وانتشرت الكتابات الساخرة،‏ بدأالتبسيط في كتابة الخطوط العربية،‏والخروج عن المألوف من فنونالخط العربي األصيل الوقور،‏68


وظهرت خطوط لينة،‏ وخطوط أخرىمتحرّرة تماماً‏ من قواعد الخطوطالعربي ة الراس خة لتس اير ه ذه الصح فوالمجات،‏ وتواكب السرعة التي تتمبها طباعة هذه اإلصدارات،‏ وكماحدث تطور في فن الكتابة الصحافيةفي المقال،‏ وصياغة الخبر الصحافي،‏ظهرت أيضاً‏ أساليب جديدة في كتابةعناوين المقاالت،‏ فاتخذت طابعاً‏تعبيرياً‏ يتاءم مع نوعية المقاالت،‏وطبيعة السياسة التحريرية للجريدةأو المجلة،‏ خاصة أن التوسع فيإصدارات الصحف والمجات على هذاالنحو أدى إلى االستعانة بأنصافوأرباع الموهوبين من ضعافالخطاطي ن،‏ وتح ول الخ ط إل ى وس يلةلارتزاق،‏ دون النظر إلى قواعدهوأصوله وفنونه الرفيعة،‏ إلى درجةأساءت لفنون الخط العربي.‏وازداد األمر سوءاً‏ عندما ظهرتأجهزة صف وتنضيد الحروف اآللية،‏بعد أن توارت صناديق الحروفالمسبوكة التي صمّم حروفها الرعيلاألول من كبار الخطاطين الراسخين،‏وظهرت تباعاً‏ األجهزة الحديثة لصفالحروف العربية بأشكال متعدّدةومتنوّ‏ عة:‏ ‏)بدءاً‏ من أجهزة ‏:اللينوتايب،‏واإلنترتايب،‏ والمونوتايب،‏ والمونوفوتو.‏ مروراً‏ بأجهزة:‏ الفوتوتايبسيتر،‏ والتلي ستر،‏ وحروف الليتراسيت الاصقة.‏ وانتهاء بظهور الجيلاألول من أجهزة الكمبيوتر المتطورة:‏‏)بي ‏.آي ‏.أم / BIM ) ثم أجهزة ‏)اآلبلماكنتوش/‏ ،)Macintosh Appleالتي أحدثت ثورة في مجال التصميمالجرافيكي،‏ وتنسيق صفحات الصحفوالمجات عبر برامجها المتطورة التيظهرت تباعاً،‏ مثل برامج:‏ ‏)الناشرالمكتبي،‏ الناشر الصحافي،‏ الكوارك،‏الفري هاند،‏ الفوتوشوب،‏ اإلن ديزاين،‏واآلليسترتور...(.‏وج اءت إلين ا ه ذه األجه زة بخط وطمستحدّثة،‏ ومشوّ‏ هة،‏ أخلّت باألشكالاألصيلة للخط العربي،‏ وضربتبقواعده وأسسه الراسخة عرضالحائط،‏ خاصة أن تلك الحروفعناوين جريدة الجمهورية سنة 1973الجريدة القضائية بخط الثلث القويصممها في األغلب األعم أجانبمستعربون،‏ أو خطاطون ضعافيقيمون في دول الغرب التي ابتكرتهذه الحروف،‏ أو فنيون أجانباستولوا على ‏)أمشق الخط العربي(‏واستخدموا حروفها المفردة فيتصميم برامج لمختلف أنواع الخطوطبشكل عشوائي،‏ ال يليق بجال الحرفالعربي،‏ وجمال تكوينه،‏ وتركيباتهالمنمقة،‏ وتشكياته وتنويعاته األنيقة،‏دون أن يلجأوا لكبار الخطاطينالمحترفين،‏ لبرمجة هذه الخطوطبالطرق الصحيحة،‏ ووفقاً‏ للقواعداألصيلة للخط العربي السليم،‏ وكانتالنتيجة إساءة بالغة لقواعد الخطالعربي،‏ أدت إلى طمس هوية الخطالعربي على أجهزة الكمبيوتر،‏ خاصةأن العديد من المصممين الجرافيكيينممن ليست لديهم دراية كافية بفنونالخط العربي،‏ استسهلوا األمر،‏فتوسعوا في توظيف تلك الخطوط،‏واستخدموها في تصميم أغلفة الكتب،‏والمجات،‏ والملصقات الدعائية،‏واإلعانات الضخمة الهائلة التيتوضع على جانبي الطرق السريعة،‏داخل العواصم العربية،‏ وخارجها،‏ فيطرق السفر،‏ عبر المسافات الطويلة،‏حيث تطالعك تلك الخطوط والكتاباتالضعيفة والمسيئة لفن الخط العربي،‏في تظاهرة ضخمة للتلوث البصري،‏حيث تم استخدامها بإفراط غير مبرر،‏مم ا أدى إل ى إفس اد الذائق ة الفني ة ل دىالمواطن العادي،‏ الذي اعتقد أن تلكالخطوط الرديئة هي أساس فن الخطالعربي.‏ولألسف الشديد دأب على استخدامهذه الخطوط الرديئة كثير منمصممي صفحات الصحف والمجات،‏ممن يجهلون أسس وقواعد الخطالعربي،‏ واألخطر من ذلك أن هذهالخطوط المشوّ‏ هة امتدت إلى أجهزةاإلعام المرئي كالتليفزيون،‏ والسينما،‏وهذا ال يعني أن نستغني عن أجهزةالكمبيوتر إلنقاذ الخط العربي من هذهالهجمة الشرسة للخطوط الرديئة،‏ فهذايجافي المنطق،‏ ويخالف سنة التطوّ‏ رالطبيعي لتقنيات األجهزة اإللكترونية،‏فعل ى الرغ م م ن ه ذه الص ورة الس لبيةألجهزة الكمبيوتر التي شوّ‏ هت الخطوطالعربة،‏ إال أن هناك دائماً‏ بارقة أملهنا،‏ وبادرة مشرقة هناك،‏ فقد ظهرتالعديد من المحاوالت الناجحة،‏ لبعضالشركات التي حاولت أن تحافظ علىالهوّ‏ ية العربية األصيلة للخط العربي.‏ومن هنا ال بد أن نبدأ فوراً‏ بتطويرالخط العربي،‏ في مواجهة الزحفاإللكتروني،‏ الذي يقدّم الخط العربيفي صورة قميئة ومنفرة،‏ نضيقبه ا أحيان اً،‏ ث م نتع وّ‏ د عليه ا ونألفه ا،‏ليس لجمالها،‏ بل ألنها أفسدت األذواقباالعتياد،‏ وحتى ال ينتابنا اليأسالبد أن نقدّم حلوالً‏ تأخذ بيد الخطالعربي وتقيله من عثرته،‏ ومن أهمتل ك الحل ول ه ي أن تس تعين الش ركاتالعربية الكبرى للحاسبات اإللكترونيةالمنتجة ألجهزة الكمبيوتر المتطوّ‏ رةبكبار الخطاطين الراسخين في كتابةوبرمجة خطوط أجهزة الكمبيوترلتقديم الوجه اآلخر الجميل للخطالعربي،‏ الذي يحفظ له أصالتهوقواعده السليمة،‏ حتى ال تتآكلالذاكرة البصرية للمتلقي،‏ حين تتعوّ‏ دعلى الخطوط الرديئة الحالية.‏69


القاهرة:‏سارة أحمد وسعاد سليامنقبل أربعة أعوام من اآلن،‏ وتحديداً‏ في العام 2010، أصدر وزير التربيةوالتعليم المصري آنذاك أحمد ذكي بدر،‏ قراراً‏ بغلق 400 مدرسة منمدارس الخط العربي،‏ ليقضي بذلك،‏ على فن أصيل ازدهر في مصر منذعهد الملك فؤاد.‏مدارس مغلقةمظاهرة لمدرسي وطلبة الخطوط العربية باألقصر 2011غلق المدارس لم يصمد طوياً‏ ،فبعد ثورة يناير 2011، عاد فنانوالخط العربي للمطالبة بإعادة فتحالمدارس مرة أخرى،‏ واستجاب لهموزراء تعليم تعاقبوا على الوزارةبعد الثورة،‏ إال أن عودة المدارس،‏كانت عودة بما يشبه اإلغاق،‏فتوقفت الوزارة عن تخصيصالميزانية التي تدفع للمدارس سنوياً‏ضم ن ميزاني ة ال وزارة من ذ س نوات،‏وتوقف معلمو الخط عن التدريسفيها فانهار الفن نفسه،‏ واستمرتالمش كلة حت ى الي وم،‏ وتوقف ت وزارةالتعليم في السنوات الفائتة عنطباعة كراسات الخط العربي التيتسلّم لطاب المدارس،‏ مما أدى إلىاختفاء الخط العربي كفن من مصر.‏ومع ذلك فإن العام 2012، شهدحدثاً‏ مهماً‏ في مسار الخط العربيالمصري،‏ حين افتتحت في مصرأول نقابة للخط العربي،‏ كأولنقابة في العالم للخط العربي؛وت م من ح أول درج ة ‏»إج ازة«‏ خ ارجتركيا لخطاط مصري.‏ والحدثانتواكبا مع زيارة أكمل الدين إحسانأوغلو أمين عام منظمة المؤتمراإلسامي؛ وافتتاحه أول نقابة فيالعالم للخط العربي يتولى رئاستهاالفنان خضير البورسعيدي نقيبالخطاطين،‏ وحصل فنان مصريشاب يدعى شريت عبد الصابر علىدرجة اإلجازة في الخط العربي ألولمرة خارج تركيا،‏ منحها له األمينالعام لمنظمة المؤتمر اإلساميأكمل الدين إحسان أوغلو،‏ إال أن كلهذه األحداث المبشرّة لم تدفع الماءالراكد في مسار الخط العربي فيمصر،‏ الذي تأثر كثيراً‏ بما حدثلمدارسه العريقة.‏الفنان خضير البورسعيدي نقيبالخطاطين ومدير مدرسة الخطالعربي بباب اللوق،‏ يؤكد أن مدارسالخط العربي لها ميزانية مُ‏ خصّ‏ صَ‏ ةوقائمة منذ عام 2006 ضمنالميزانية الرسمية لوزارة التربيةوالتعليم،‏ إال أن قرار الوزير السابقأحمد ذكي بدر بإغاق 400 مدرسةثم إعادة افتتاحها مرة أخرى،‏ لميُعِ‏ دْ‏ ميزانية المدارس لها مرة أخرى،‏وصدرت قرارات بتحويل المدارسمن المجانية إلى مدارس بمصروفاتس نوية تق در ب‎260‎ جنيه اً،‏ مم ا أدىإلى هجرها من محبي الخط فياألرياف واألحياء الفقيرة،‏ وعجز70


خضير البورسعيديإغالق المدارس أو إلغاء ميزانيتها تسببا فيالتوقف عن تخريج معلمين جدد،‏ وأصبحت دراسةالخط العربي في مدارس التربية والتعليمالرسمية تُسند إلى معلمي اللغة العربية عديميالخبرة في الخط العربيمعلمو الخط عن الحصول علىرواتبهم الشهرية الزهيدة التي تُقدّرب 150 جنيهاً‏ مصرياً‏ شهرياً،‏ فأغلقتالم دارس دون ق رار رس مي،‏ وص ارتمهجورة.‏وأضاف البورسعيدي:‏ مدارسالخط العربي لها وضع خاص،‏يلتحق بها من هم في أعمارال‎50‎ وال‎60‎ في القرى واألريافيعلمون حرف الخط العربي لألبناءواألحفاد،‏ إال أن إغاق المدارس أوإلغاء ميزانيتها تسببا في التوقفع ن تخري ج معلمي ن ج دد،‏ وأصبح تدراسة الخط العربي في مدارسالتربية والتعليم الرسمية تُسند إلىمعلمي اللغة العربية عديمي الخبرةفي الخط العربي كفن وحرفة.‏ولفت البورسعيدي،‏ إلى أنأعضاء النقابة حاولوا أكثر من مرةحل المشكلة مع أكثر من وزيرللتعليم،‏ ورغم الوعود،‏ إال أنه اليحدث أي جديد في هذا الصعيد،‏وما زالت المشاكل قائمة والمدارسمهجورة،‏ مؤكداً‏ أن كل الدول تكرّمالخط العربي وفنانيه،‏ وتقيم متاحفلحفظ تراثه إال مصر،‏ ومن المؤسفأنّ‏ وزارة الثقافة قادها فنان تشكيليألكثر من عشرين عاماً،‏ إال أنّه لميُقدّم لفنّ‏ الخط إال الوعود.‏الفنان أحمد األبحر،‏ يصفما حدث لمدارس الخط العربيبالمصيبة فيقول:‏ كانت هذه المدارسبصيص أمل وحيد لتعليم الخطالعربي،‏ وهجرها وإلغاء ميزانيتهابهذا الشكل،‏ جزء من الحرب على كلما هو جميل وأصيل في حياتنا بعدأن تمكّن القبح من كل شيء،‏ الفتاً‏إلى أن ما حدث تسبّب في إغاقمنفذ وحيد لمحبي الخط العربيوالخطاطين كانوا يُعلّمون فيه علىتنمية مواهبهم ورغم وجود كراساتخط عربي ضمن كتب وزارة التعليمإال أن ما حدث للمدارس تسبّب فيانهيار تعليم الخط أيضاً.‏وعن دور نقابة الخط العربيفي هذا الشأن،‏ قال األبحر:‏ النقابةتجمع محترفي الخط العربي،‏أما المدرسة فكانت حلقة الوصلبين المحترفين والهواة والمحبينالراغبين في التعلّم،‏ وعلى النقابةأن تكافح من أجل إعادة المدارسللحفاظ على الفن من االندثار.‏وأشار األبحر،‏ إلى أن مسابقاتالخط العربي التي انتشرت فيأكثر من دولة في الخليج مثل قطروالسعودية واإلمارات ساهمت فيإعادة االهتمام بالخط العربي،‏ ألنهاتخصص مايين الدوالرات وتنشئمعارض فنية من أجل رعاية هذاالفن األصيل،‏ فن لغة القرآنومخطوطات العصور اإلسامية،‏مُ‏ عتبراً‏ أن المسابقات دفعت الراكدفي مياه الخط العربي المصري،‏وحصل عليها الكثير من الخطاطينالمصريين.‏فنان الخط الشاب أحمد قشطة،‏نصح بالعمل على إحياء فن الخطالعربي وحمايته من االندثار منخال تنظيم دورات تدريبية فيمدارس الخط العربي،‏ يلتحق بهامحبو الخط ويشرف عليها فنانو71


« بيت السناري » التابع لمكتبة اإلسكندرية ضمن أنشطته تعليم الخط العربيباإلضافة إلى إقفال العديد من مدارس الخطالعربي وإلغاء الدعم المُ‏ خصَّ‏ ص لها،‏ فقد أ ‏ُهْ‏ دِ‏ ر ‏َتْ‏لوحات فنية نادرة للخط العربي في مخازن وزارةالثقافةالخط العربي من المتطوعين،‏ أوأن تتبنى المراكز الثقافية األهليةفي مصر تنظيم تلك الدورات حتىتنته ي مش اكل الروتي ن الحكوم ي م عوزارة التربية والتعليم دون أن تنتهيصناعة الخط من مصر نهائياً،‏خاصة في عصر العولمة الذييزداد فيه االتجاه إلى تعلّم الثقافاتالغربية على حساب ثقافتنا العربيةوفنونها الخاصة،‏ مشيراً‏ إلى أنالدورات التدريبية ستؤدي إلىتحسين خطوط طابنا في شتىالمراحل الدراسية،‏ حتى يحصلواعلى درجات أفضل في االمتحانات،‏وستواصل إنتاج أجيال جديدة منالخطاطين المصريين وتعمل علىاكتشاف موهوبين جدد.‏باإلضافة إلى إقفال العديد منمدارس الخط العربي وإلغاء الدعمالمُ‏ خصَّ‏ ص لها،‏ فقد أُهْ‏ دِرَ‏ تْ‏ لوحاتفنية نادرة للخط العربي فيمخ ازن وزارة الثقاف ة المصرية.الفن انالتشكيلي المصري عز الدين نجيب،‏أحد المهتمين بالحفاظ على هذااإلرث الفني،‏ وهو مُ‏ كتشف خبيئةوكالة الغوري من لوحات فن الخطالنادرة،‏ يصرح ل ‏»الدوحة«‏ بأنتركيا تتصدّر العالم في فن الخطالعربي،‏ رغم أن لغة الكتابة لديها لمتعد العربية منذ عهد كمال أتاتورك،‏ورغم ذلك فإن األتراك يعتبرونالخط العربي فناً‏ قومياً،‏ في حينأننا أصحاب الحضارة العربية نهملتاريخنا الثقافي والفني،‏ بدليل قلّةمدارس الخط في الوطن العربيبعامة،‏ والحال أن ما تبقى من هذاالفن العظيم نتعامل معه بمنتهىاإلهمال والتجاهل واالستهتار.‏ويضيف عز الدين نجيب:‏ في عام1996 اكتشفت ثمانين لوحة منأندر لوحات فن الخط العربيمُ‏ ذهّ‏ بة لفنانين من مصر والشاموإيران وتركيا،‏ وقمت بتنظيفهاوإعداد البراويز المناسبة لها،‏ وأقمنامعرضاً‏ في ‏»الوكالة«،‏ وبعدها قامتوزارة الثقافة المصرية بحيازة هذهاألعمال ومصيرها اآلن مجهول،‏فمنها ما تلف،‏ ومنها ما ضاع،‏ومنها ما وضع في مكتبة البلديةباإلسكندرية،‏ وما تبقى معتقل فيمخازن وزارة الثقافة.‏في ‏»بيت السناري«،‏ حيث تقامورش تعليم الخط العربي طوالالعام،‏ يؤكّد معلم فن الخط طهعبد الناصر أحمد أن االقبال علىالورش يفوق التوقعات وأنه يشملكل األعمار والفئات،‏ خاصة مناألطفال الموهوبين.‏ واستكماالً‏ لدورورشات ‏»بيت السناري«‏ في االهتمامبفن الخط العربي فإن البيتخصص مهرجاناً‏ سنوياً،‏ افتتحتدورته األولى عام 2013 تحت عنوان‏»مهرج ان القاه رة الدول ي األول للخ طالعربي«،‏ وشاركت فيه باإلضافةإلى الدول العربية كل من تركياوباكستان،‏ وخال المهرجان نُظِّ‏ مَ‏ تْ‏سلسلة من المحاضرات حول الخطالعربي،‏ وورش تدريبية ألطفالالمدارس،‏ وكذلك دورة تدريبيةللكبار حاضر فيها الخطاط العراقيرعد الحسيني.‏ وكانت توصياتالمهرجان قد تضمنت إطاق نداءإلنقاذ فن الخط العربي في مصرفي ظِ‏ لّ‏ الظروف القاسية التي تهدّدبإغاق مدارس تحسين الخطوطفي مصر.‏ ويستعد ‏»بيت السناري«‏التابع لمكتبة اإلسكندرية إلقامةالدورة الثانية من المهرجان فيفبراير/شباط 2015.72


لونيس بن عيلكتابة العربية بالحرف الالتيني هي من بين مظاهر االنحراف الثقافيالذي يصيب الوعي ويهدّد أحد مقومات الهوية الثقافية،‏ فال ننسى أنمن جماليات اللغة العربية هو شكل حروفها،‏ فإذا تصوّ‏ رنا أننا سنكتبالعربية بحروف غير الحروف العربية فهذا يعني القضاء على أحد مقوماتالهوية العربية.‏العربية في صيغتها الالتينية !يمكن أن نصف الثورة الكوبرنيكيةالجديدة بأنها ثورة اتصاالت،‏ فماحقّقه اإلنسان منذ منتصف القرنالعشرين من إنجازات في مجاالتاالتصال والتواصل التكنولوجي كانبمثابة طفرة حقيقية غَ‏ يّرتْ‏ منوجه الحضارة اإلنسانية وأثّرتفي البناءات االجتماعية ومنظوماتالقيم،‏ أي ببساطة غَ‏ يّرتْ‏ مفهومالحياة نفسها.‏وإذا تأملنا في أزمات هذا العصر،‏سواء أكانت على الصعيد الفرديأم على الصعيد الجمعي،‏ نجد أنالكثير من الفاسفة والمفكرينواألدباء يتحدّثون بلغة مُ‏ شتركةحول أزمة تواصل تعاني منهاالحض ارة اإلنس انية المُ‏ عاص رة.‏ كي فذلك؟ كيف يمكن إلنسان اإلنترنتوالفيسبوك والهواتف الذكية أنتكون مشكلته هي في التواصل؟هذا ما يُشكّل حالة تناقض قويةوسمت الحضارة المعاصرة،‏ فكثرةأدوات التواصل واالتصال أدت إلىتبطيل االتصال ذاته،‏ وعرقلتهوقمع ه،‏ ب ل والتهدي د بالقض اء علي ه.‏غَ‏ زتْ‏ وسائل االتصال كل مناحيالحياة،‏ فهي جزء من يومياتنا،‏فَمْ‏ نَ‏ مِ‏ نّا ال يملك هاتفاً،‏ وَ‏ مْ‏ نَ‏ مِنّا لميتواصل عبر السكايب أو الفيسبوكأو التويتر.‏ كلنا نشاهد العالم منشاشات التلفاز فائقة الدقة،‏ التيتغرقنا من ثانية إلى أخرى بطوفانمن المعلومات واألخبار،‏ حتىصِ‏ رنا من فرط كثرتها وتناقضها الندري ما الذي سنصدّقه؟لكن قلة من يقف ويتأمّ‏ لمُ‏ ستفسراً:‏ كيف أثرت هذه الوسائطعلى حياتنا؟ وأين يتجلّى ذلكالتأثير؟ وهل نحن أسياد لمانستعملها،‏ أم أننا مجرد عبيد لهاتتحكّم فينا في الوقت الذي نتوّ‏ همأننا نحن مَ‏ نْ‏ يتحكّم فيها؟تغييب البعد اإلنسانيفي التواصللم تعد الوسائط التكنولوجيةمج رد أدوات ف ي خدم ة اإلنس ان،‏ ب لهي حاملة لقيم جديدة،‏ ولتصوّ‏ رجديد لمفهوم االتصال والتواصل بينالبشر؛ لقد وصف الباحث المغربيسعيد بنكراد في آخر كتبه وهجالمعاني سيميائيات األنساق الثقافيةعصر االتصاالت الجديدة بعصرالاتواصل؛ فاإلفراط في التواصلوالوفرة في وسائل االتصال أدياإلى عرقلة التواصل وإلى تغييبهفي الفضاء االجتماعي.‏إنّ‏ التحوّ‏ ل الجوهري الذي جاءتبه هذه الوسائط هو تغيير عاقةاإلنس ان بذات ه،‏ وباآلخري ن،‏ وباللغ ةكذلك،‏ فبعد أن كانت الوسائطالتقليدية تحرص على أن يكونالتواصل مباشراً‏ وحيّاً‏ بحضورأطراف االتصال،‏ والحرص علىبروز كل عوامل التواصل من جسد،‏إشارات،‏ تعابير الوجه،‏ رعشاتالخط المكتوب باليد،‏ أصبحالتواص ل الي وم حريص اً‏ عل ى تغيي بكل تلك العناصر،‏ لصالح نوع منالتواصل االفتراضي غير المباشر،‏الذي تخلّى عن خدمات اللغةاالجتماعية،‏ واستعاضتها بأشكال73


العمل الفني : plensa - jaume إسبانياورسومات وأيقونات ورسائل نصيةقصيرة تختزل كل المشاعر الممكنة.‏إنّ‏ خطر هذه الوسائطالتكنولوجية يكمن إذن في تفكيكأنظمة التواصل التقليدية،‏ من خالتغييب األبعاد اإلنسانية في العمليةالتواصلية.‏فقر الخيال البنّاءراج منذ سنوات ما أصبح يسمىعند رواد الفضاءات اإللكترونيةبلغة ‏»الشات«،‏ والتي ظهرت معازدياد استعمال الشباب للوسائطالتكنولوجية الحديثة التي توفّرخدمات الدردشة والمحادثة،‏ وعلىالرغم من أهمية التواصل من خاله ذه الوس ائط الجدي دة إال أنه ا لعب تدوراً‏ خطيراً‏ في التأثير على عاقةالشباب باللغة العربية؛ فبعضالبرامج ال توفّر لمستعمليها إمكانياتالستخدام الحرف العربي للكتابة،‏ مايضطرهم إلى االستعانة بالحروفالاتينية لكتابة محاوراتهم،‏ كبديللضعف مستواهم في اللغاتاألجنبية،‏ من جهة،‏ ومن جهة أخرىقد تتحوّ‏ ل العربية ذاتها إلى مصدر‏»لاحتقار«‏ من قبل المستعملين منباب أنها ليست بلغة التكنولوجياالمعاصرة.‏وقد اعتبرت الباحثة ‏»نهىقاطرجي«‏ هذه الظاهرة خطة منخطط الغزو الثقافي،‏ التي تستهدفتدمير البنيات الثقافية والروحيةللمجتمعات العربية واإلسامية،‏وهو ما ظهر في مشروع أميركيللحد من استعمال اللغة العربية،‏وتشجيع استعمال اللغات العامية،‏والدعوة إلى استبدال الحرف العربيبالحرف الاتيني،‏ باسم التقريببين الشعوب العربية والشعوباألجنبية.‏ويلعب اإلعام دوراً‏ كذلك فيالترويج لمثل هذه الظاهرة،‏ منخال الومضات اإلشهارية التيتعتمد على كتابة كلمات عربيةبحروف التينية،‏ ليكون التأثيرعلى شرائح اجتماعية أكبر،‏ علىاعتبار أن المادة اإلشهارية هيتقريباً‏ من أكثر المواد اإلعاميةتأثي راً‏ عل ى الجمه ور؛ م ن هن ا،‏ ف إنّ‏مثل هذه الممارسات من شأنها أنتخل ق اغتراب اً‏ لغوي اً‏ ل دى أجي ال م نالش باب العرب ي،‏ ق د يص ل األم ر إل ىنسيان األصل واالعتقاد بجوهريةالشكل الدخيل في الكتابة.‏وبالعودة إلى التاريخ،‏ فإنّ‏ظاهرة كتابة العربية بالحروفالاتينية تعود إلى فرض الحرفالاتيني على اللغة التركية،‏ بعدسقوط اإلمبراطورية العثمانية،‏بهدف القضاء النهائي علىإمبراطورية ‏»الرجل المريض«‏وتجفيفها من منابعها العربية،‏وجاءت موجة االستعمار لتعزيز لغةالمستعمِر،‏ وفرض رموزه ومكافحةاللغة العربية في عقر دارها.‏ لقدصاحب هذا المشروع مشاريع أخرىكان غرضها التحريض ضد الثقافةالعربية واإلسامية،‏ وتقديمها فيصور سلبية.‏يقول محمد الصاوي في مقاله74


‏)الحروف الاتينية لكتابة لغةالعرب(:‏ ‏»وتدوين العربية بالحرفالاتيني من وجهة نظر تربويةيمثل فكرة ساذجة تفتقر إلى الخيالالبناء،‏ وينقصها الحد األدنى منالعقانية«.‏ الغرض منها،‏ نسف كلالتراث الفكري واألدبي الذي أنجزتهالثقافة العربية عبر عصور تطوّ‏ رها،‏وتهديد الخط العربي وتراثه الفني،‏وكل جمالياته التي جعلته من أجملالخطوط.‏ويذكر الصاوي أنّ‏ فرنسا أصدرتقراراً‏ في عام 2000، ينصّ‏ علىاستبدال الخط العربي بالخطالاتيني،‏ ويُلزم به متعلمي اللغةالعربية،‏ وهذا القرار لم يكنإالّ‏ تحقيقاً‏ ألحام المستشرقيناألوروبيين وعلى رأسهم ماسينون،‏الذي كان ينبذ العربية ثقافة ولغةعلى الرغم من أنه كان يتقنها.‏إنّ‏ كتابة العربية بالحرف الاتينيهي من بين مظاهر االنحرافالثقافي الذي يصيب الوعي ويهدّدأحد مقومات الهوية الثقافية،‏ فاننسى أن من جماليات اللغة العربيةهو شكل حروفها،‏ فإذا تصوّ‏ رناأننا سنكتب العربية بحروف غيرالحروف العربية فهذا يعني القضاءعلى أحد مقومات الهوية العربية،‏ممثّلة في جماليات الخط العربي،‏المرتبط بإيقاع اللغة نفسها،‏ فاللغةليست أداة تعبير فقط،‏ بل هيحاملة لقيم ثقافية وروحية تسكنأشكال حروفها،‏ وإيقاعها الصوتيالذي يجعلها حالة ثقافية ال يمكناستبدالها بأي شكل آخر.‏نتساءل:‏ هل اللغة العربية بخير؟هذا ما ينبغي االلتفات إليه والحرصعلى االهتمام به،‏ كون العالم اليومهو عالم عولمي،‏ وعالم فضائييقوم على تكنولوجيات اتصاليةتوفّر لإلنسان كل إمكانيات التواصلمع العالم،‏ وهذه اإلمكانيات المتاحةيمكن أن يستغلها في التعريفبهويته وبثقافته،‏ كما يمكن لهاأن تكون معوالً‏ لهدم كل مقوماتوجوده الثقافي.‏تغيّر اللغة...‏ تغيّر فكرة الوجودال أحد ينكر أنّ‏ وجودنا مرتبطباللغة،‏ بل وجودنا لغوي فيالجوهر،‏ حيث ال نستطيع أن نتصوّ‏ رحياة دون لغة نتواصل بها،‏ ونعبّرمن خالها عن أفكارنا ومشاعرنا،‏ونشبع بها حاجاتنا إلى المعرفة.‏السؤال األساسي الذي نطرحه:‏هل يمكن أن تكون اللغة التقنيةالبديلة التي تقترحها اليوم الوسائطالتكنولوجية بداية لنهاية عصراللغة البشرية؟هناك من يتحدّث بلغة المتفائل،‏وألن العصر هو عصر السرعة،‏ فإنّ‏على أنظمة االتصال التقليدية أنتنسجم مع روح العصر المتوثبةبشكل مجنون،‏ وأن تسير وفقمنطق السرعة،‏ وبذلك،‏ فإنّ‏اإلنسان الجديد – إنسان الثورةالتكنولوجية – سيتخلّص من فائضالكام،‏ ويكتف ي بالرسائل المقتضب ةالتي تؤدي الغرض باقتصاد لغويوداللي كذلك.‏كيف يمكن أن نقيّم مثل هذاالتحوّ‏ ل؟ ربما يكفي أن نستذكر مثاالً‏للتوضيح،‏ فالرسائل القصيرة التيتوفرها الهواتف الحديثة،‏ تفرضعلى المتصل حجماً‏ محدداً‏ للرسالةالهاتفية،‏ من حيث عدد الكلمات،‏فا نتصوّ‏ ر أنّ‏ ‏»الميسايج«‏ الهاتفيسيكون في طول رسالة خطية قدتأخذ صفحات عديدة،‏ وسناحظأنّ‏ نظام الرسائل الهاتفية يوفركذلك حلوالً‏ سحرية مثل الرسائلالجاهزة ‏)أحبك/‏ اشتاق إليك/‏ أنافي الطريق/‏ أرسل لي رسالة/‏ أنافي انتظارك/.....(‏ أو األيقوناتوالرسومات واألشكال التي تعبّرعن أفكار وتحاول أن تختزل عواطفمعينة...كخاصة،‏ ندرك أنّ‏ اإلنساناآلن أصبح يلتجئ في اتصاالتهاليومية إلى مثل هذه الصيغالتعبيرية،‏ اختزاالً‏ للوقت،‏ واقتصاداً‏للجهد.‏إنّ‏ النظام التواصلي الجديد هونظام اختزالي بالدرجة األولى،‏يختزل المشاعر واالنفعاالت فيأيقونات معينة أو في رسوماترمزية ألشكال تحاول أن تحاكيمشاعر معينة،‏ وفضاً‏ عن ذلك،‏فإنّ‏ اللجوء إلى هذا النظام يُقلّل منحاجة اإلنسان إلى التواصل اللغوياليومي؛ فهناك حاالت ألشخاصيقضون يومهم في التواصل علىالفيسبوك دون أن ينبسوا بكلمةواحدة،‏ كما أنه يُقلّل من حاجةالمتّصل إلى التواصل المباشر‏)الزيارات،‏ اللقاءات الشخصيةالحميمية(‏ إذ يمكن اآلن أن تهنّئشخصاً‏ بعيد مياده بإرسال أيقونةأو رسالة قصيرة جداً‏ ‏)عيد سعيد(‏دون أن تكون مضطراً‏ لحضورحفلته.‏لق د كت ب بنك راد مُ‏ عبّ راً‏ بعم ق ع نهذا الوضع الجديد:‏ ‏»لقد تغيّر كلشيء في حياتنا،‏ لم نعد نعشقأو نحب أو نكره كما كنا،‏ ولم نعدنبيع ونشتري كما كنا نفعل ذلكإلى األمس القريب.‏ إننا ال نخطالخط ثم نعيده ثم نمحوه باليداليسرى.‏ لم نعد نبدع رسوماً‏ والخطوطاً،‏ وال أشكاالً،‏ فالنماذجمتوافرة في الشبكة،‏ واإلبداع أصبحإضافة ال اختراعاً.‏ إننا نحب مندون رؤية المحبوب،‏ ونشتري مندون رؤية البائع،‏ ونحاور من دونرؤية المُ‏ خاطِ‏ ب،‏ لقد تسلل االفتراضإلى كل شيء في حياتنا،‏ إنهفي التاريخ والجغرافيا والمعارفوأجساد النساء والرجال على حدسواء«.‏هل يمكن أن نتصوّ‏ ر في األخيرمستقبل العاقات اإلنسانية دونأفراد يتواصلون؟ هل يمكن أننتصوّ‏ ر مستقبل اللغة في ظِ‏ لّ‏انتهاكات تمارسها الوسائط الجديدة؟75


منري اوالد الجياليلإن إثارة األسئلة المُ‏ تعلّقة بااللتزام في كل فعل يروم تحديد واختياراألبجدية المناسبة لكتابة لغة مُ‏ عيّنة،‏ يظلّ‏ مسألة غاية في التعقيدوالخصوصية،‏ بسبب التداخل العضوي بين جملة المعايير األيديولوجيةوالتقنية التي قد تعتبر دافعاً‏ أو شرطاً‏ لهذا االختيار.‏معركة الحرفضمن استراتيجية المصالحاتالوطنية التي دشنها الخطابالرسمي المغربي منذ عام 2001شَ‏ كّلَ‏ االعتراف باللغة األمازيغيةلحظة فاصلة ومؤسسة لسياسةتدبير التعدّد في المغرب تُوِّ‏ جَ‏ تْ‏في دستور 2011 بدسترة اللغةاألمازيغية وجعلها لغة رسمية.‏غير أن الفاعل السياسي والحكوميال زال لم يجدْ‏ بعد طريقاً‏ إلى إقرارالقانون التنظيمي ألجرأة الدستوربشأن اللغة األمازيغية واللّهجاتالمحلية،‏ وقد شهد هذا التأخيرمُ‏ ؤخراً‏ نقاشات طويلة حول أولويةالتدرّ‏ ج اللساني بين اللغة العربيةوالعامية.‏إلى عهد قريب كان المشهد اللغويبالمغرب يتسم باألحادية.‏ حيثكانت اللغة العربية تُشكّل اللغةالوحيدة الرسمية التي تحظىبالتأييد المؤسساتي إلى جانباللغة الفرنسية،‏ على حساب باقياللهجات واللغات الوطنية األخرى.‏غير أنه في السبعينيات منالقرن الماضي،‏ ورغم أن األجواءالسياسية لم تكنْ‏ مناسبة،‏ فقد بدأتبوادر خطاب مطلبي يروم داخلالجامعات والمنظمات المدنية،‏ الدفاععن األمازيغية ومحاولة إعطاءهابعدها التاريخي والوجودي،‏ تُوِّ‏ جَ‏مع دخول القرن الحالي باإلعانعن تأسيس المعهد الملكي للثقافةاألمازيغية ال ذي س يعمل،‏ كم ا صرحعميده أحمد بوكوس،‏ على إبداءاالستشارات السياسية بخصوصجميع التدابير التي من شأنها أنتساعد على االرتقاء باألمازيغية،‏باإلضافة إلى التعاون مع السلطاتالحكومية عن طريق عقد شراكاتقطاعية مُ‏ ندمِجة من أجل تطبيقسياسة الدولة في جميع القطاعاتذات الصلة.‏ عاوة على المهمةاألكاديمية التي تتجلّى من خالالبحث العلمي في مجاالت اللغةواآلداب والفنون والترجمة والعلوماإلنسانية واالجتماعية.‏في العاشر من فبراير/شباطسنة 2003 تمت المُ‏ صادَ‏ قة الرسميةعلى اعتماد حرف تيفيناغ لكتابةاألمازيغية،‏ بعدما كانت خافاتالمثقفين والسياسيين قد وصلتإلى الباب المسدود بسبب اختافالمرجعيات واأليديولوجيات حولاختيار الحرف الذي سيتم اعتمادهلكتابة اللغة األمازيغية،‏ أي مابين الحرف العربي والاتينيبالخصوص.‏ خافات وصلت إلىحد نعتها ب»معركة الحرف«‏ والتيأعادت إلى األذهان معركة كتابةالحرف التركي في الربع األخير منالقرن التاسع ما بين المحافظيندعاة الحرف العربي والعلمانيينأنصار الحرف الاتيني.‏لقد بدا من خال بيان أنصاركتابة اللغة األمازيغة بالحرفالاتيني الصادر بمدينة مكناسآنذاك،‏ بأن األبجدية الاتينية ورغمنخبويتها فهي تحظى باالهتماماألكبر من طرف العديد من الباحثيناألمازيغيين الذين يرون فيهامدخاً‏ إلى العالمية والتقدّم،‏ منخال اعتماد حرف كوني مسايرللتطوُّ‏ ر الهائل في مجاالت االتصالوالمعلومات،‏ باإلضافة إلى أننظامها الفونولوجي مرن وإجرائي،‏وهو ما يائم بشكل كبير النظامالفونولوجي لألمازيغية في جميعحركاتها وتردداتها الصواتية.‏76


العمل الفني:‏ ضياء العزاوي - العراقخط ونقش عربي على جدارغير أن دعاة الحرف العربياعتبروا أن هذا الطرح التغريبي،‏ الذييستهدف ضرب المكونات التاريخيةالمشتركة للعرب واألمازيغ،‏ ال يحملبين طيّاته سوى التطبيل للغرباالستعماري،‏ معتبرين التقدّموالعالمية ليسا خاصية سحريةلصيقة باألبجدية الاتينية،‏ مستدلينعلى ذلك بأن هناك دوالً‏ إفريقيةاعتمدت الحرف البربري المكتوبباألبجدية الاتينية ما يزيد علىخمسة عقود خلت،‏ ولكنها لمتغادر واقع التخلّف والتبعية،‏ فيالوقت الذي استطاعت فيه اليابانمثاً‏ ، والتي لم تستورد أية أبجديةدخيلة،‏ أن تتربّع على رأس أقوىالدول تصنيعاً‏ وتقدّماً‏ بالرغم منتعقيدات حروفها المحلية.‏أما من الناحية اللسانية والتقنيةفقد اعتبر خصوم األبجدية الاتينيةبأن التعديات الكثيرة التي أُدْ‏ خِ‏ لَتْ‏على طريقة كتابتها من أجل ماءمتهامع النطق األمازيغي،‏ جعلتهاصعبة القراءة بفعل التشوهاتالشكلية التي سببتها كثرة النقطوالخط وط والرم وز الموضوع ة ف وقرأس الحروف وأسفلها،‏ كما هوموجود في مجموعة من الكتاباتالنثرية والشعرية الحديثة ألدباءأمازيغ.‏من جهة أخرى استند دعاة كتابةاللغة األمازيغية بالحرف العربيمن األحزاب اإلسامية وبعضها منالمحافظين،‏ إلى األطروحة التيترى في هذا الخط ‏»القدسي«‏ داللةقوية إلى ترسيخ مزيد من القوةداخل األواصر التاريخية والدينيةوالسوسيو-‏ نفسية التي تجمعبين العرب واألمازيغ داخل وحدةوطنية مؤمنة بالتنوّ‏ ع والتعدّد.‏السيما،‏ وحسب نفس األطروحة،‏بأن المكانة العالمية التي وصلتإليها اللغة والحرف العربيان،‏ التقل قيمة عن المكانة التي تتقلّدهااألبجدية الاتينية.‏ عاوة على أنهسبق ابتداءً‏ من القرنين الثانيعش ر والثال ث عش ر،‏ حس ب مجموع ةمن المصادر التاريخية،‏ أن كتبت77


خطوط على أوانٍ‏ فخاريةاألمازيغية بالحرف العربي معالمهدي ابن تومرت،‏ الذي ترجمكتاب ‏»العقيدة«‏ إلى األمازيغيةمُ‏ عتمداً‏ على الخط العربي.‏ نفسالتجربة أقدم عليها بعض النشطاءالجمعويين في الوقت الحاضر منخال إصدار بعض المجموعاتالشعرية األمازيغية مكتوبة بالخطالعربي،‏ باعتماد تقنية ‏»أراتن«‏ فيالكتابة.‏غير أن هذه األطروحة بدورها لمتسلم من االنتقادات كذلك،‏ ومن جملةما وُ‏ جِ‏ هَ‏ إليها،‏ هو أن الحرف العربيليس عربياً‏ في جذوره التاريخية،‏بل هو ذو أصول آرامية وسريانيةقبل أن يعتمده العرب في كتابةلغتهم.‏ باإلضافة إلى أن خصوم هذهاألطروحة،‏ وغالبيتهم من الباحثيناألمازيغيين،‏ يرون بأن األبجديةالعربية ال تستوعب بشكل إجرائيوتقني النظام الفونولوجي داخلبنية اللسان األمازيغي،‏ مما يعرقلعملية االنسجام مع أنظمة الصوائتالخفيفة والقصيرة داخل اللغةالعربية،‏ التي تبقى من منظورهمغي ر ق ادرة عل ى تجدي د ذاته ا لتصي ربشكل فعلي لغة للتكنولوجياتالحديثة والعلوم واالقتصاد.‏بعيداً‏ عن حمى السجاالتالفكرية واإلعامية بين أنصارالعربية ودعاة الاتينية،‏ كان صوتالمدافعين عن اعتماد حرف ‏»تيفيناغ«‏كخط رسمي لكتابة اللغة األمازيغيةضعيفاً،‏ وال يُشكّل نقطة جذب قويةداخل قطبية معركة الحرف.‏ المعركةالتي انتهت،‏ العتبارات سياسية،‏استراتيجية وأمنية،‏ كما كتب العديدمن المحللين،‏ بتصويت الغالبيةالساحقة ألعضاء المجلس اإلداريللمعهد الملكي للثقافة األمازيغيةلصالح حرف تيفيناغ.‏تعني كلمة تيفيناغ،‏ حسبباحثين في اللسانيات األمازيغية:‏خطنا أو كتابتنا،‏ أي الكتابة التيتستعمل الرموز األمازيغية،‏ وقدتواترت هذه الكتابة،‏ منذ آالفالسنين عبر مجموعة من النقوشوالصخور وشواهد القبور.‏ منناحية أخرى،‏ يذهب بعضالدارسين إلى أن تيفيناغ مُ‏ شتقة منفينيق وفينيقيا.‏ وحسب هذه القراءةتصبح اللغة األمازيغية من فروعاألبجدية الفينيقية الكنعانية.‏وتتكوّ‏ ن الكتابة األمازيغية‏)تيفيناغ(،‏ والتي نالت اعترافاً‏ دولياً‏من طرف منظمة اإليسوا ISO-UNI-CODE في 25 يونيو/حزيران 2004من 33 حرفاً.‏ وعلى غرار الكتابةالاتينية تكتب األمازيغية مناليسار إلى اليمين.‏ ومن خصائصهذا الحرف يقول المدافعون عنه،‏بأنه يتسم بالبساطة في رسمه،‏ألنه ال يتضمن حروفاً‏ مُ‏ ركبة.‏وكذلك في نطقه،‏ حيث لكل صوتمقابل مكتوب.‏ زيادة،‏ وهذا هواألكثر أهمية،‏ االحتفاظ برابطاالنتماء التاريخي والرمزي إلىمختلف ألفبائيات تيفيناغ القديمةوالمُ‏ عاصرة.‏أصبح تيفيناغ الحرف الرسميللمغاربة األمازيغ،‏ لكن هل يجربطء تنفيذ التزامات الحكومةبخصوص ترسيم األمازيغية،‏ وتعثرتدريسها كلغة،‏ النشطاء األمازيغيينإلى معارك أخرى؟78


فاصلةعبد السالم بنعبد العاليالمفكّ‏ ر اإلعالميس بق ألحد المفكرين الذي ن تحدث وا ع ن كتاب ‏»صراعالحضارات«‏ لصامويل هانتينغتون،‏ أن اعترف بأنه اليذكر بالضّ‏ بط ما إذا كان قد قرأ هذا الكتاب،‏ بل إنهال يذكر حتى ما إذا كان كتاباً‏ بالفعل أم مجرّد مقال.‏قد يبدو األمر شديد المُ‏ بالغة،‏ لكن يكفي لكل منّا أنيسترجع ماضي قراءاته كي يُسلم بعدم استحالة األمر.‏َفأنا،‏ على سبيل المثال،‏ ال أستطيع أن أُحدّد بالضّ‏ بط ماإذا كن ت ق د ق رأت بالفع ل بع ض الكت ب أي ام كن ت طالب اً،‏أم أنني أعرف محتوياتها من كثرة ما كنت أسمع عنها.‏تلك،‏ فيما يخصّ‏ ني،‏ حال بعض مؤلفات ماركس.‏ أنااآلن عاجز عن الجواب عن السؤال عما إذا كنت قدقرأت بالفعل ‏»البيان الشيوعي«‏ أو ‏»العائلة المقدسة«‏أو»مخطوطات 44«، أم أنني أعرف محتويات هذه الكتبمن شدّة ما كنّا نتحدّث،‏ ويُتحدّث لنا عنها.‏قد يُقال إن هذا حصر على الكتب التي تتكفّلأيديولوجيات رائجة بغرس مضامينها في قلوبناوعقولنا،‏ فتجعلنا نتشرّب أفكارها من غير حاجة إلىاالطاع عليها.‏ لكن،‏ لو أن األمر كان كذلك،‏ لخفتتحدّة الظاهرة،‏ ولما استفحل أمرها على ما ناحظهاليوم،‏ خصوصاً‏ أن العصر كما يقال عصر ‏»أفولاأليديولوجيات«.‏في عبارة ال أذكر ما إذا كنت قرأتها أم أنها ‏»تناهتإل ى س معي«،‏ يتح دّث روالن ب ارت عم ا يص حّ‏ أن نس مّيه‏»ثقافة األذن«،‏ وهي ثقافة تعتمد أساساً‏ ‏»ما يتناقلعن طريق السمع«،‏ وهي التي تكرّسها اليوم وسائلاإلعام بمختلف أشكالها،‏ والتي ترفع شعاراً‏ لها:‏ ينبغيالحديث عن الكتاب بمجرد ظهوره والكتابة عنه و»القولعنه«‏ أكثر مما يقول هو نفسه،‏ بحيث يمكن في نهايةاألمر لمقاالت الصحف والحوارات والندوات وبرامجاإلذاعة والتليفزيون..‏ أن تحلّ‏ محلّ‏ الكتاب الذي يكفيهأن يظهر كعنوان وقّعَ‏ ه اسم معروف.‏ال ينبغي أن نفهم هذه العاقة بين الكتابة واإلعامعلى أنها عاقة ‏»خارجية«،‏ وأن هناك توزيعاً‏ لألدواربينهما،‏ بحيث يعمل اإلعامي على ‏»نشر«‏ ما ألّفهالكاتب.‏ العاقة التي تربط اليوم وسائل اإلعامبالكُ‏ تّاب والمفكّرين،‏ أكثر حميمية مما نتصوّ‏ ر ألوّ‏ لوهلة،‏ إنها عاقة تماهٍ‏ ، إذ غالباً‏ ما يتحوّ‏ ل الكاتب نفسهإلى إعامي فيتنَقّل بين منابر الصحافة والتليفزيوناتليحدثنا،‏ هو نفسه،‏ عن محتوى كتابه،‏ إلى حدّ‏ أنبإمكاننا أن نجزم أن أغلب المثقفين اليوم أصبحواصحافيين ونجوم مجات وشاشات.‏ فالصحافي اليومهو الوجه الجديد للمفكر،‏ ما يعني أن األمر ال يتعلّقفحسب بمجرد ظرفيات خارجية يعيشها الفكر.‏ ليسالفكر اليوم فكراً‏ ‏»يستعين«‏ باإلعام،‏ وإنما هو ‏»فكر«‏جديد،‏ فكر ينمو في اإلعام وعن طريقه،‏ فكر ال يذكر،‏من شدة ما يشاهد ويسمع ويتحدّث،‏ ما إذا كان قد قَرأبالفعل أم لم يقرأ.‏قد يردّ‏ البعض مُ‏ برئاً‏ اإلعام بتذكيرنا بأن المسألةلم تكن لتنتظر ازدهار وسائل اإلعام ، إذ يكفي أننتذكر،‏ على سبيل المثال،‏ ما كان أكّ‏ ده بول فاليريحينما أبدى احتفاءه بأعمال بروست مُ‏ عترفاً‏ بأنه قدقرأه ‏»بالكادّ«‏ على حدّ‏ تعبيره.‏ إال أن القضية ال تتعلّقبمعرفة مدى نزاهة القارئ،‏ إذ ال يكفي أن تطرح المسألةطرحاً‏ أخاقياً‏ ينشغل بما إذا كان هذا المتحدث أو ذاكقد قرأ فعاً‏ أو لم يقرأ.‏ فاألمر يتعلّق أساساً‏ باألسلوبالذي يعمل به الفكر اليوم،‏ والكيفية التي يحيا بهاالكتاب وتُطرح محتوياته في الساحة،‏ التي هي اليومأساساً‏ ‏»السّ‏ احة اإلعامية«،‏ إلى درجة يغدو معها منالمتعذّر على أيّ‏ كان،‏ من شدة ما يرى ويسمع،‏ أن يُحدّدبالضّ‏ بط ما إذا كان قد اطّ‏ لع بالفعل على مضمون كتاب،‏أم أنه يعتمد على ما ‏»تناهى إلى سمعه«.‏79


مقالبرلين في ذكراها الخامسة والعشرينجُ‏ دراننا التي لم تسقط بَعدُ‏أحمد دلباينّلم يحتفل العالمُ‏ قبل رُ‏ بع قرن،‏ في نوفمبر/‏تشرين الثاني 1989، بسُ‏ قوط جدار برلين فحسب،‏وإنما بنهاية مُ‏ بكِّرة للقرن العشرين،‏ كما رأى بحق،‏بعضُ‏ المفكرين.‏ لقد كان ذلك األمرُ‏ نهاية مشهدية لناللج دار الع ازل ال ذي جسَّ‏ د انقس امَ‏ العال م إل ى منظومتي نأيديولوجيَّتين تنازعتا األحقية - طيلة عشريات - علىاحتكار معنى التاريخ وشرعية الحديث باسم اإلنسانوالعدالة والمُ‏ ستقبل.‏ لم يكن هذا األمرُ‏ ‏»نهاية التاريخ«،‏كما ذهبَ‏ إلى ذلك - مُ‏ تسرِّعاً‏ - نبيُّ‏ العولمة في شكلهاالليبرالي المُ‏ نتشي آنذاك بانتصاره فرانسيس فوكوياما،‏وإنما نهاية العقائديات المُ‏ تصلِّبة وأنظمة احتكار المعنىالتي جسَّ‏ دت استبدادَ‏ الحقيقة في ‏»غوالغ«‏ ظلّ‏ يدَّعيأنهُ‏ أوقع طائرَ‏ العالم في شرَ‏ ك النظرية المُ‏ تعاليةعلى صخب التاريخ.‏ لقد انتهى،‏ بذلك،‏ زمنُ‏ السِّ‏ حرالذي مارستهُ‏ الغنائيَّات الخاصية الكبرى أو ‏»األديانالعلمانية«،‏ كما يُحب أن يُعبِّرَ‏ ريمون آرون.‏ولكنَّ‏ نهاية الزمن األيديولوجيِّ‏ في شكله المُ‏ تصلّبفتحت العالمَ‏ على فوضى كونية جديدة وجعلت الشكيتسرَّبُ‏ - شيئاً‏ فشيئاً‏ - إلى أحجية الخاص الذي بشرتبه الليبرالية المُ‏ نتصرة.‏ ونحنُ‏ نعرفُ‏ كيف أنَّ‏ الحريةالتي ظلّت مطلباً‏ أصياً‏ ومشروعاً‏ لألفراد والمُ‏ جتمعاتلم تكن إال مفتاحاً‏ لجنة تبيَّنَ‏ مقدارُ‏ عدم أهليتهاوجاهزيَّتها الحتضان صبوات اإلنسان العميقة إلىالعدالة والكرامة.‏ هذا ما يُفسِّ‏ رُ‏ نزعة االحتماء من صقيعالعولمة الليبرالية باالنكماش على الذات،‏ واالحتماءبمصابيح فراديس الهوية المُ‏ ستعادة.‏ لقد انتصر األبُ‏الغائ بُ‏ وانبع ث اآلله ة م ن جدي د باعتباره ا حصن اً‏ منيع اً‏أمام مخاطر السَّ‏ ديم الحاضر.‏ هذا ما يدعونا إلى القولإنَّ‏ سقوط جدار برلين كان إيذانا بانتصاب جدران أخرىما زال العالم يعاني منها إلى اليوم.‏ال نجدُ،‏ رُ‏ بَّما،‏ أفضل من عالمنا العربيِّ‏ نموذجاً‏للحديث عن حضور الجدران المُ‏ ختلفة التي تمزقُ‏مُ‏ جتمعاتنا إثنياً‏ ودينياً‏ وطائفياً.‏ إنها جدرانٌ‏ أتيحَ‏ لهاأن تجهرَ‏ باحتجاجها بعد فشل تجربة التنمية والثوراتالعربيَّة التي كانت في أساس بناء الدولة الوطنيَّة منذخمسينيَّات القرن الماضي.‏ لم تكن األحادية الفكريةواأليديولوجيَّة أو األصولية المذهبيَّة كافيتين لتحقيقالتنمية الشاملة وبناء اإلنسان العربيِّ‏ الجديد القادر علىمواجهة تحديات الحداثة ومُ‏ غامرة الدخول في العصربصورة واثقة.‏ هذا ما أنتج تبعيَّتنا على كل المُ‏ ستويات.‏لم نفهم جيِّداً‏ التعدّدَ‏ في إطار الوحدة،‏ كما لم نكنْ‏ علىوعي كافٍ‏ بأنَّ‏ الوحدة تقتضي إعادة النظر الدَّائمة فيهامن أجل إغنائها باالنفتاح على التعدّد وجعلها تتسعُ‏الختافنا بعيداً‏ عن كل تمركز إثني أو طائفي،‏ وبعيداً‏عن كل مذهبية أيديولوجية قوميَّة مُ‏ غلقة وشوفينيَّة.‏ لقدظلّت الواحدية وجهتنا في مُ‏ حاربة التعدُد الذي اعتقدنا،‏َّ القومي ويُمثل باباً‏ خلفياً‏ قددائماً،‏ أنه يُهدّدُ‏ وجودناتتسرّبُ‏ منهُ‏ مُ‏ ؤامراتُ‏ الخارج الذي يتربَّصُ‏ بنا.‏من المُ‏ احظ أنَّ‏ جدراننا لم تسقط بعد.‏ أعني الجدرانَ‏التي قامت على األيديولوجية القوميَّة واأليديولوجيَّةالدينيَّة في شكلها الطائفيِّ‏ باألخص.‏ لم ندخل عالمَ‏الحداثة السِّ‏ ياسيَّة وبقينا خارج مدارات التقدّم اإلنسانيالذي أتاح لمُ‏ جتمعاتٍ‏ أخرى أن تلجَ‏ فضاءَ‏ المُ‏ واطنةوتتجاوز أشكال الصِّ‏ راع االجتماعي والسِّ‏ ياسي القائم80


على االنتماء الدينيّ‏ / الطائفي.‏ ونعتقدُ‏ أنَّ‏ الصِّ‏ راع السني/ الشيعيّ‏ خيرُ‏ دليل على ذلك.‏ إنَّ‏ هذا االنقسامَ‏ جعلالكثير من بلداننا ‏»برلين«‏ أخرى كبيرة تُعاني - بصورةتراجيديَّ ة - م ن ج دران عازل ة بي ن أف راد الش عب الواح د،‏تستعيدُ‏ حروبَ‏ الماضي وذكريات الصِّ‏ راع الدَّمويّ‏ علىالسلطة في بدايات اإلسام بعيداً‏ عن القراءاتِ‏ التفكيكيَّةالمُ‏ حرِّرة من ثقل الذاكرة الطائفيَّة.‏ وهنا ناحظ أنَّ‏َّ ظلّ‏ إسهامهُ‏ مُ‏ حتشماً‏ أمامفكرنا السياسيمُ‏ شكات العلمنة والمُ‏ واطنة والمُ‏ ساواة،‏ ألنه ظلّ‏ فكراً‏إصاحي اً‏ تبريريّ اً‏ ول م يك نْ‏ ، ف ي عموم ه،‏ فك راً‏ تجاوزي اً‏يُعيدُ‏ النظر جذرياً‏ في المسألة السياسية بمعزل عنالتمترس الطائفي / المذهبي.‏ ومن جهةٍ‏ أخرى نستطيعُ‏أن ناحظ،‏ جيِّداً،‏ كيف أنَّ‏ الدولة الوطنيَّة العربية ظلّت- على العموم - مُ‏ ؤسَّ‏ سة قمعية تقومُ‏ على األحاديةالحزبيَّة واالستبداد وحكم العسكر.‏ وظلّت األيديولوجيَّةالقوميَّ ة باألخ ص مرجعيَّ ة نب ذٍ‏ حاول ت حج بَ‏ الفسيفس اءاإلثنية والثقافيَّة الغنية في عالمنا العربيِّ‏ الكبير.‏ كأنَّ‏العروبة لم تكنْ‏ فضاءً‏ ثقافياً‏ وحضارياً‏ استطاعَ‏ أنيحتضنَ‏ التعدّد في تاريخنا القديم.‏هذا ما يدعونا إلى اعتبار مُ‏ شكلة الجدران التيتنتصبُ‏ ، إلى اليوم،‏ في حياتنا مُ‏ شكلة سياسية ذاتجذر ثقافي / تاريخيّ‏ لم يُتح له أن يتعرَّض للنقدالكافي على غرار ما حدث تحت سماواتٍ‏ أخر،‏ وفيأوروبا تحديداً‏ منذ عهد النهضة.‏ فمن المعروف أنَّ‏الحداثة السياسية - أو بمعنى آخر حداثة الدولة - لمتكن إال انساخاً‏ من الروابط التقليديَّة وأشكال التضامنالتي مثلتها الطائفة الغالبة وهي تدَّعي احتكار الخاصوتمثيل الحقيقة األنطولوجية في شكلها الديني.‏ كانتالدولة انعكاساً‏ للسَّ‏ ماء.‏ وكانت المدينة العربية ‏»مدينةاهلل«،‏ كما حلم بذلك القديس أوغسطين.‏ ولكننا نعلمُ‏ أنَّ‏الدولة الحديثة أصبحت مُ‏ ؤسَّ‏ سة تخلّت عن مهمَّة حراسةالحقيقة أو تمثيلها لتصبحَ‏ فضاءً‏ قانونياً‏ ومُ‏ ؤسَّ‏ سياً‏يضمنُ‏ العيش المُ‏ شترَ‏ ك والمُ‏ واطنة ويصونُ‏ الحقوقَ‏المُ‏ تساوية لألفراد.‏ الدولة المدنيَّة الحديثة،‏ في كلمة،‏هي ‏»مدينة اإلنسان«.‏ ربما لم يشهد العالمُ‏ العربيّ‏ /اإلساميّ‏ ثوراته المعرفيَّة والفلسفية والثقافية الضروريةمن أجل زحزحة نظام الحياة القديم عن عرشه وتجاوزدولة الوصاية والطائفة الغالبة كلياً؛ كما لم يعرفتغيّراً‏ عميقا على مُ‏ ستوى مُ‏ ؤسَّ‏ ساته القاعدية وبقييُراوحُ‏ داخل دائرة زمنه الثقافيّ‏ التقليديّ‏ الرَّاكد - وهواألمرُ‏ الذي يُفسِّ‏ رُ‏ كل أشكال المُ‏ مانعة التي تقفُ‏ حائاً‏دون نجاح أي ثورة أو انتفاضةٍ‏ تتطلعُ‏ إلى التغييرالفعليّ‏ والقطع مع بقايا العصور الوسطى وقيمهاوموروثها المُ‏ ؤسَّ‏ سي.‏ كما نستطيعُ‏ أن ناحظ أنَّ‏ هذااألمر ظَ‏ لّ‏ كابحاً‏ لكل تململ نحو الديموقراطية الفعليةباعتبارها وعداً‏ بالخاص من بنيات االستبداد بمُ‏ ختلفأشكاله.‏ هذا ما يجعلنا نعتقدُ‏ أنَّ‏ ‏»الجدران العربية«‏ التيتمزقُ‏ مُ‏ جتمعاتنا اليوم تحتاجُ‏ منا إلى معاول األنسنةواالنفتاح على احتجاجات العقل النقديّ‏ من أجل إعادةبناء الرابطة السياسية على المُ‏ واطنة ال على أشكالاالنتماء التقليدية السَّ‏ ابقة على الحداثة.‏َّ العربي81


أماكنهمصدى ‏»الجنقو«‏عبد العزيز بركة ساكنأَعُ‏ دُ‏ أنَّ‏ النصوص هي التي تسوقني إلى األمكنة.‏ وتجارب كتابة رواياتمثل ‏»الجَ‏ نْقُو مَ‏ سامِ‏ يرُ‏ «، ‏»األرضْ‏ ومسيح دارفور«‏ و»الرجُ‏ لُ‏ الخَ‏ رَ‏ ابْ‏ «،براهينُ‏ ثاقبة أستشفعُ‏ بها الظنِّيَّات.‏ لم يدر بخلدي كتابة رواية،‏ وأناأستقل ‏»البربارة«-‏ وهي عربة الند كروزر قديمة الصُ‏ نع يستبدلونماكينتها العاطبة بماكينة تراكتور-‏ من مدينة صغيرة على شاطئ ‏»نهرباسالم«‏ بشرق السودان.‏بعد أن عبرنا النهر خائضينحاملين أمتعتنا القليلة فوقرؤوسنا،‏ بل كل الذي يدفعنيللس فر ه و إحس اس عص ي باكتش افاألماكن البعيدة ومعرفة ما يدورهنالك.‏ كيف يعيش الناس بعيداً‏عن المدينة وماذا يفعلون بالتحديدوفي الغالب أشاركهم متع الحياة،‏حيث إنني أتعلم من الطبيعةمباشرة ما يُستعصى عليّ‏ أخذهمن الكتب.‏ فالطبيعةُ‏ زبُور الزِبَرْ‏ .وكنت مُ‏ ستعداً‏ لاستمتاع أيضاً‏ بماينتظرني.‏ ألن الطريق سينتهي فيمثلث الحدود السودانية-‏ اإلثيوبية-‏اإلريترية عند قرية صغيرة اسمهاهمدائييت.‏ يفصلها عن إثيوبيا النهرال ذي خضت ه قب ل رك وب ‏»البرب ارة«،‏ولكنه يُسمى عندها ‏»نهر سيتيت«‏ومعروف في الجغرافيا بنهر عطبرة.‏وأن ا أح ب األطعم ة البلدي ة اإلثيوبي ةالمُ‏ تبَّلة وشراب السُ‏ وَ‏ اْ‏ المُ‏ صنَّع محلياً‏من الذرة،‏ الذي يهيئ الجميع ألداءرقص بهيج على إيقاعات المغنيةالجميلة ‏»هيلين ملس«.‏كان بالعربة العجوز قربيعدد كبير من العمال الزراعيينالموسميين ، في الحقيقة كانصندوق العربة الصغير يحملعشرين رجاً‏ ، وامرأتين تركبانيمين السائق كل منهما تحمل طفاً‏رضيعاً.‏ وكنت الشخص الوحيدالذي ليس من المكان.‏ ويبدوواضحاً‏ للجميع،‏ ليس ذلك منطريقة لبسي أو لغتي وهما مختلفانوغريبان بالطبع،‏ ولكن من طريقةجلوسي في العربة المُ‏ تهالكة،‏ حيثإنني كنت أمسك بكل قواي المقعدالخشبي الذي كان سيطير حتماً‏ فيالهواء مُ‏ تخلصاً‏ مني في تلك الفلواتالشاسعات واهباً‏ إياي طعاماً‏ للطينوهوامه.‏ والعربة تجري بأقصىما لديها من سرعة تراكتور ماركةماسي الروسية.‏ قافزة على الحفروالخيران والجداول المائية الجافةمثل كلب صيد يُطارد ثعلباً‏ ماكراً‏يَخْ‏ بَر طرائق الهرب جيداً.‏ وعلىالرغم من سحابة الغبار التي نغرقفيها جميعاً‏ وصوت البربارا الذييشبه نهيق مليون حمر مستنفرة،‏إال أن الرجال كانوا يتحدثونباستمتاع خاص ويضحكون وهمفي استرخاء تام،‏ ويسألونني بينالفينة واألخرى،‏ من أين أنا وإلىأين ذاهب ولم؟ وهذه األسئلة كماعرفت فيما بعد ليست نوعاً‏ منالتحشر فيما ال يعني،‏ ولكن يعتبرهاكل شخص حقاً‏ له أصيل في معرفةالح د األدن ى ع ن اآلخ ر.‏ فالحي اة ف يالمفازات ليست دائماً‏ آمنة،‏ المعرفةُ‏اطمئنانٌ‏ ومشاركةٌ‏ سريةٌ‏ للمصائرْ‏ :أَجْ‏ دَى عَ‏ َّ لي بشخصية عبدالرحمن.‏يبدو أن الرحلة كانت طويلة جداً،‏عبر المزارع التي لم يتبق بها سوىسيقان الذرة والسمسم،‏ حيث تمالحصاد منذ شهر مضى،‏ واألشجارشبه جافة واألرض يغلب عليها اللون82


البني وفي بعض المواقع المكشوفةتبدو شديدة السواد.‏ هنالك فيالبعيد بدا شبح مدينة ترقد أسفلوادٍ‏ عماق.‏ تلك هي التي أسميهافي ما بعد في روايتي:‏ ب»الحِ‏ لة«.‏تقع الحِ‏ لةُ‏ في أراض منخفضةتشقها الخيران الموسمية الكبيرةوالتال الترابية.‏ بها مستعمرةمتوحشة من نبات الحسك الشوكيوبعض المتسلقات الطفيلية التيتزيّن أسوار المنازل المصنوعة منقصب الذرة وأعواد أشجار الكِترومحاطة بأغصان شائكة حتىتبعد عنها شيطنة الماعز والحميرالضالة.‏ تقريباً‏ في كل بيت توجدشجرة نيم عماقة،‏ وبعض‏»القُطيات«،‏ وهي مبانٍ‏ مخروطيةكبيرة مصنوعة من القش والحطبوالبامبو وبعض الطين اللبِن.‏ وهيالبيوت األكثر مقاومة للمطر والريحواألكثر مواءمة للجو الجاف الساخنأيضاً،‏ ويمكن االعتماد عليها فيفصل الشتاء القصير.‏ إنها صنيعةالطبيعة.‏ كان الذين يجلسون قُربييرون من حقهم معرفة أين أريدأن أقضي ليلتي.‏ ألنني ال يمكن أنأذهب إلى الحدود اإلثيوبية اليوم.‏وكل السيارات الذاهبة إلى هنالكسوف تتحرك غداً‏ صباحاً،‏ خوفاً‏من اللصوص وقُطّ‏ اع الطرق الذين83


ينشطون بعد مغيب الشمس،‏فأخذني شخصٌ‏ طَ‏ ورتُ‏ شخصيتهفيما بعد ووسمته ‏»بود أمونة«‏إلى بيت مدهش يرتاده السُ‏ كارىوالعُ‏ شاق والفاسقون المهملون وَ‏ مَ‏ نْ‏تَقطّ‏ عت بهم السُ‏ بل وحُ‏ جاج المُ‏ دناإلثيوبية المجاورة:‏ أندَيَّتُ‏ عليهبيت األم.‏عندما تأكدت صاحبةُ‏ النُزلأنني لست من الجنقو،‏ ولست منجواسيس الحكومة وال يبدو عليمظهر من مظاهر التدين غير لحيتيالمهملة،‏ ولم يكن هنالك دليل علىأنني من أنصار بعض الجماعاتالمتطرفة التي تسمع بها كثيراً،‏أكرمتني بأن أتاحت لي فرصةأن أشغل ‏»قُطِّ‏ ية«‏ صغيرة وحدي.‏ووصَ‏ لَتَنِي بفانوس كبير الحجميعمل بالجازولين.‏ وضعته قريباً‏من النافذة حتى ال يخنقني دخانهالكثيف:‏ تلك المرأةُ‏ أسميتها فيرواية الجنقو:‏ ‏»اَدَّيْ‏ «، وتعني بلغةقبيلة التجراي،‏ األم.‏البيتُ‏ المجاور لبيتها،‏ كان يعجويضجُّ‏ بالسُ‏ كارى وطاب الكيفوالمزاج.‏ وأنا في قُطْ‏ يَّتِيْ‏ البعيدةتنسرق إلى حَ‏ رْ‏ وَ‏ ةُ‏ ‏»البنقو«‏ مختلطةبشميم جازولين الفانوس ونَشَ‏ رشواء لحم لذيذ ممزوجاً‏ بعبق الجعةالبلدية ‏»المَ‏ رِيسة«‏ وهي مشروبتدور حوله كثيرٌ‏ من الشكوك فيحقيقة كونه طعاماً‏ أو أحد المُ‏ سكراتالمُ‏ حرَّمة.‏ ولكن كانت متعتياألعظم،‏ في الحوار الذي يصاحبتلك الروائح مابين أم عجوز يبدوأنها لم تفقد نظرها تماماً‏ وسمعهاوابنتها التي كانت تظن عكسذلك،‏ وهمساتِ‏ عاشقٍ‏ العٍ‏ : صنعتمن تلك المحاورة خطة وتقنيةالسرد في رواية الجنقو والحقاً‏ فيمَ‏ خيلة الخندريس ومن يخاف عثمانبشري.‏عندما صدح أذان العشاء،‏ تتبعهالجميع بصمت تام وخشوع غريبوانتبهت ألول مرة إلى طنينالبعوض،‏ وخشخشة بعض الفئرانالصغيرة التي تشاركني الغرفة أوأشاركها موطنها،‏ ثم صوت خطواتصاحبة المنزل العجلة،‏ وهيتفتح الباب في هدوء وتضع ليبُرش الصاة المصنوع من السَّ‏ عفالذي يذكرني ب»مُ‏ صاية«‏ جدي عبدالكريم.‏ لم تقل شيئاً،‏ ولكن فيالمرة القادمة،‏ أقصد عندما أحضرتإبريق الوضوء سألتني ما إذا كنتأميز القِبْلَة أم ال.‏ ولم تنتظر إجابتيوضعت مقدمة السجاد السعفي فياتجاه الشرق وخرجتْ‏ : تلك كانتفكرة الفقيه علي الزغراد،‏ الذييجمع في فعله المتناقضات.‏لم تكن المدينة سوى معسكرعماق للفاحين ومن يخدمونهمومن يمتلكون تلك األراضيالشاسعة.‏ بالمدينة بنك صغيروسوق للمحاصيل وسوق للمابسالجديدة والمستعملة وأغراضالحياة المختلفة.‏ بها صيدلية ،طلمبة وقود وبها جامعان وكنيسةومعسكر يخص الاجئين اإلريتريينالفارين من وطيس الحرب التيدارت ما بين حكومتهم والثوارالذين أجبَروا الحكومة اإلثيوبية قبلسنوات كثيرة أن تعطي إريتريااستقالها.‏ ولكن ظَ‏ لّ‏ المُ‏ عسكرهنالك لألبد.‏ وأصبح الاجئونمواطنين سودانيين وذابوا من ثَمّ‏في المكان.‏ حيث إن جميع سكانالمكان مهاجرون ويتعايشون بصورةسلمية ومتسامحة مكونين مُ‏ جتمعاً‏مُ‏ تميزاً‏ وثقافة تخص المكان:‏ همُ‏الجَ‏ نْقو.‏عَ‏ بَرتُ‏ ‏»نهر سيتيت«‏ هذه المرةِ‏ عنطريق استئجار بعير ضخم.‏ حيث إنالنهر هنا أكثر عُ‏ مقاً‏ وأسرع سرياناً.‏وبالوصول إلى حانة صغيرة فيالشاطئ الشرقي للنهر تلك المبنيةمن البامبو والسعف والطين اللبِن،‏دخلتُ‏ أول بُقعةٍ‏ سكنيةٍ‏ في مدينةالحُ‏ مَ‏ را اإلثيوبية.‏ األرض حجريةحمراء،‏ مسكونة بأشجار الطلحو»الحمرايا«‏ العماقة التي سُ‏ ميتعليها المدينة.‏ في حي صغير،‏أخذني البعض إلى شجرة نيميموت فيها الجنقو عندما يمرضونأو يفقدون األمل في الحياة،‏ أُسميهافي روايتي:‏ شَ‏ جَ‏ رَ‏ ةُ‏ المَ‏ وتْ‏ .فكتب بذلك المكان-‏ السارداألعظم-‏ روايته.‏ بنى شخصياته.‏رسم لغته واختار أسلوبه.‏ّ84


استدراكأمجد ناصرأمطار رغدانهَ‏ بطّ‏ تُ‏ من ‏»جبل الحسين«‏ إلى ‏»مُ‏ جَّ‏ مع رغدان«‏ للنقليّاتألستقلّ‏ الحافلة إلى مدينة المفرق في شمال األردن.‏ بدأتاألمطار تنقر واجهة سيارة ‏»السرفيس«‏ ببطء،‏ ثم بتسارعٍ‏طرديّ‏ مع ‏»هبوطنا«‏ إلى أخفض بقعة في عمّان،‏ عاصمةالباد وكرسيِّ‏ الحُ‏ كم،‏ وما إن وصلنا إلى ‏»المجمَّع«،‏ الذييضمّ‏ نقليّات األقاليم،‏ حتى صار المطر أشبه ببراميل ماءتندلق من السماء.‏ نحو نصف ساعة من هذا المطر المدراركادت أن تغرق ‏»المجمَّع«‏ بمن فيه من بشر وما فيه منعربات.‏ التجأت،‏ مع آخرين،‏ إلى سقف صفيحيّ‏ بالقربمن موقف سيارات ‏»السرفيس«‏ يقيناً‏ أن هذا ‏»الكبُّ‏ » منال ربّ‏ .وجوه أهل هذه الباد ليست من النوع المتهلِّل،‏ لكنَّ‏هطول األمطار الغزيرة أفرجَ‏ عن تهاليل حبسية.‏ ضحكاتودعوات وتشكُّرات،‏ تُسْ‏ مَ‏ عُ‏ هنا وهناك،‏ لهذا الزائر المنتظربش وق ورج اء.‏قال أحد الملتجئين،‏ مثلي،‏ إلى السقف الصفيحيِّ‏ لصاحبله:‏ لو أنها تمطر هكذا ساعتين لغرق األردن!‏ يبدو أنَّه منأحد المخيَّمات القريبة من عمّان ألنه كان يتحدَّث،‏ إلىمن كان معه،‏ عن األمطار التي هطلت قبل يومين وجَ‏ رَّتسيوالً‏ في أزقّة المخيَّم.‏ يا اهلل،‏ يا كريم.‏ قال الرجل المتينالملتحي ألحدهم،‏ ثم أضاف،‏ موجِّ‏ هاً‏ كامه،‏ هذه المرّة،‏إل ى رج ل ب دوي عج وز وج د في ه مس تمعاً‏ عش وائياً:‏ مني حمشان الزيتون.‏ بيزيد الزيت.‏فعاً‏ ، األردنيون ال يقطفون زيتونهم إال بعد الشتوةاألولى لقناعة-‏ ال أدري مدى علميتها-‏ تقول إن الزيت يزدادفي حبّة الزيتون بعد تلقّيها أمطار الشتوة األولى.‏خفَّ‏ المطر قلياً‏ . انطلقت إلى موقف حافات المفرقفي آخر المجمَّع.‏ كان مجرى سيل عمَّان المصفَّح باإلسمنتيهدر.‏ كأنَّ‏ النهر القديم،‏ الذي عرفه هذا المجرى العريضذات يوم،‏ عاد من غيابه الطويل.‏ كأنَّ‏ هديره،‏ الذي يُسمعُ‏م ن ناف ذة حافلت ي الذاهب ة إل ى مدينت ي الصحراوي ة،‏ تذك رةٌ‏بماضيه األزرق العريق.‏ يمكن أن ال تحضر ‏»أنشودة المطر«،‏رائعة السيّاب،‏ لمجرَّد رؤية هطول المطر.‏ فالمطر،‏ منعادته،‏ أن يهطل في الشتاء على األقل.‏ هذا صحيح فيأماكن عديدة من منطقتنا إال في األردن المصنَّف بين أفقرعش رة بل دان ف ي العال م للم اء.‏ لذل ك يكتس ب هط ول المط رفي األردن بعداً‏ طقسياً،‏ يبطن ما كان له من منزلة فيأديان المنطقة القديمة.‏ كان للمطر في الباد السورية إلهخاص يدعى ‏»حدد«،‏ رفَّعه نبوخذنصر الكلداني إلى مرتبة‏»إل ه الس ماء واألرض«.‏ وج اء ف ي الرقُ م الطيني ة بخصوص هما يلي:‏ ‏»إذا سرق الحاكم ثيران الشعب وأخفاها،‏ أوعاث بحقولهم وزرعهم،‏ أو أعطاها إلى األجنبي فإن‏»حدد«‏ سيكون له بالمرصاد،‏ وإذا استولى على غنمهمفإن ‏»حدد«،‏ ساقي األرض والسماء،‏ سيبيد ماشيته فيمراعيها،‏ وسيجعلها طعاماً‏ للشمس«!‏في ‏»أنشودة المطر«‏ يحتفي السيّاب بالمطر..‏ لكنَّهيبدو كلعنة وعقاب،‏ وليس نعمة من السماء إلى األرضالعطشى.‏ فالمطر،‏ عنده،‏ مرتبط بالجوع،‏ نقيض مايعنيه المطر من خصب وبعث لموات الطبيعة.‏ وهو،‏عنده،‏ يبعث على الحزن واألسى عكس ما بدا في وجوهاألردنيين المتهلِّلين لرؤيته حتى وإن جرف،‏ أمامه،‏ كلَّ‏ مايصادفه في طريقه.‏ ليس المطر غريباً‏ على السيّاب،‏ ابنجنوب العراق الخصب،‏ ابن مياه شطّ‏ العرب وجيكور،‏لكنَّه غريب،‏ بعض الشيء،‏ لشاعر أردني.‏ ما سيكتبههذا األخير سيكون مختلفاً‏ عما جاء في رائعة السيّاب منوحشة وحزن وجوع يبعثه المطر!‏ بيد أنَّ‏ السيّاب يرىالجوع الذي يبعثه المطر من خال ‏»الجراد«‏ الذي يأتيعلى ما تغلُّ‏ به الحقول.‏ ‏»وكلّ‏ عامٍ‏ - حين يعشبُ‏ الثرى-‏نجوع،‏ ما مرَّ‏ عامٌ‏ والعراقُ‏ ليسَ‏ فيه جوع«.‏ فكيف يستويالمطر مع الجوع؟ كيف يتحوَّل الخصب الذي يحدثه المطرفي األرض والحقول إلى ما يشبه الندب الديني عند السيّاب؟هل يتعلَّق األمر-‏ فعاً‏ - بالمطر الطبيعي،‏ أم بمطر من نوعآخر؟ أم أنه هو مطر السماء،‏ ولكن مآل هذا المطر ال يذهبإلى أفواه الزارعين والحاصدين؟بوسعنا أن نرى في مطر السيّاب رمزاً.‏ هو الذياشتغل على الرموز واألساطير في شعره.‏ قد يكون مطرالس ياب رج ع ص دى للم اء والت راب عن د إيلي وت ال ذي ي رىفي نيسان،‏ منطلقَ‏ الربيع،‏ أقسى الشهور؛ أثر كهذا ممكنومتوقع عند السياب الذي فُتِن بالشاعر البريطاني ذياألصل األميركي.‏ ولكن الممكن أكثر أن نرى بعداً‏ يساريّاً‏ فيقصيدت ه ه ذه،‏ فمداه ا يتج اوز الع راق إل ى الظ رف العرب ي.‏85


98بول أوستركاتبُ‏ مصادفاتاستقرَّت نوبل لآداب،‏ هذا العام،‏ علىالروائي الفرنسي باتريك موديانو ، وأجّ‏ لتااللتفات إلى مشاهير الرواية األميركية،‏ مثلبول أوستر،‏ الذي ما يزال ينتظر فرصةلإلمساك بالشّ‏ رف األدبي العالمي األغلى.‏أدبأدبنصوص 108مع نيتشه وضده ............ بنسالم حِمِّ‏ يشضدّ‏ المُ‏ سَ‏ يَّرَة ...................... خطيب بدلةمقاالت 96تقليب التربة فيالسرد اللبناني<strong>86</strong>


ترجماتحوار<strong>86</strong>تيم باركسالكتب التي نتحدث عنهاقرأت لكاتبين لديهما النعمةاالستثنائية:‏ ‏)إيريكا ليونارداجيمس(،‏ وهاروكي موراكامي.‏اتُّهِمَ‏ ت األولى بكتاباتها التافهةواإلباحية الملطّ‏ فة،‏ والثاني تَمَّ‏تمجيده الستحضاره كل شيءمُ‏ حَ‏ يِّر.‏إنريكي بيال-‏ ماتاس..‏مهنة األدب خطيرةلتقريب عالم إنريكي بيا-‏ماتاس من قرّاء العربية نقدّم هذاالحوار العميق الذي يفتح أفقنا نحوتفاصيل مسار طويل من المكابدةمع الكتابة واألدب،‏ ويجعل منهمارسالة إنسانية ومهنة خطيرة فيزمننا الراهن.‏105114مديح الصداقةحتى وإن كانتتفصل بين الشاعرينالكبيرين الفرنسيرونيه شارواألرجنتيني راؤولغوستافو أغيريعشرون عاماً‏ وبحرشاسع،‏ ورغم الفارقالزمني والجغرافي،‏فإن صداقة أدبيةحميمة وخصبةجمعتهما.‏أن تتحدّ‏ ث اللّغة الصّ‏ ينيّة بالعربيّةكتبالصّ‏ ين لم تعدّ‏ بعيدة،‏ بل هي أقرب إلى العرب من بعضالجيران األفارقة.‏ لقد صار الصّ‏ يني،‏ في السّ‏ نوات الماضية،‏وجهاً‏ مألوفاً‏ في شوارع بيروت والقاهرة والدّار البيضاء،‏ومع الوقت،‏ اندمج في مشهد البلد العام،‏ حمل معه عاداتهونزواته،‏ وصار عرب يقلدِّونه فيها.‏ .87


ترجماتإنريكي بيال-‏ ماتاس:‏مهنة األدب خطريةترجمة وتقديم - خالد الريسوينولد إنريكي بيا - ماتاس في برشلونةسنة 1948، درس الحقوق والصحافة،‏وفي سنة 1968 اشتغل محرِّراً‏ في مجلة‏»فوتوغراماس«‏ ومجلة ‏»ديستينو«،‏وفي سنة 1970 قام بإخراج فيلمينقصيرين:‏ ‏»كل الشبان الحزانى«‏ و»نهايةالصيف«،‏ باإلضافة إلى ذلك اشتغلممثِّاً‏ في سبعة أفام كتالونية مُ‏ نِعتجميعها من طرف الرقابة الفرنكوية،‏وفي عام 1971 استُدعي للتجنيداإلجباري،‏ وفي المخزن الخلفي للمطعمالعسكري كتب أولى رواياته:‏ ‏»امرأة فيالمرآة تتأمل المشهد«،‏ والتي ستستعيدعنوانها األصلي في طبعة 2001 وهو‏»في مكان أعزل«.‏ بعد العودة إلىبرشلونة عمل ناقداً‏ سينيمائياً‏ فيمجلَّتَيْ‏ ‏»بوكاشيو«‏ و»ديستينو«،‏ وفيسنة 1974 اختار أن يعيش المنفىالذاتي في باريس ألعوام،‏ حيث أقامفي غرفة على السطح أَكْ‏ رَ‏ ته إياهاالكاتبة الفرنسية مارغاريت دوراس،‏وهنالك سيكتب روايته الثانية ‏»القاتلةالمتنوِّ‏ رة«،‏ وسينشر كتابيه الثالثوالرابع ‏»جنوب الجفنين«،‏ ‏»حكاية تعلّمكاتب«‏ والمجموعة القصصية ‏»ال أذهبقَطّ‏ إلى السينما«‏ تباعاً‏ سنَتَيْ‏ ‎1980‎و1982، وسينهي إنريكي بيا-‏ ماتاسمرحلة البداية برواية:‏ ‏»احتيال«،‏ لتبدأمرحلة النضج وتكريسه كاتباً‏ متميِّزاً‏فرض نفسه في المشهد األدبي فيإسبانيا وفي أميركا الاتينية مع كتّابآخرين،‏ ربطته بهم صداقة متينة،‏ هم:‏روبيرتو بوالنيو،‏ وسيرخيو بيتول،‏88


وخوان بيُّورُ‏ و،‏ وريكاردو بيغليا.‏ ومنذالثمانينات من القرن الماضي أصبحإنريكي بيا-‏ ماتاس من الكتّاب الدائمينلملحق مجلة ‏»دياريو 16«، وواصلالنشر في مجلة ‏»الماغازين ليتيرير«‏الفرنسية ما بين سبتمبر 2004 ومارس2008، وكتابة عموده ‏»قهوة بيريك«‏في القسم الثقافي من يومية ‏»الباييس«.‏واعترافاً‏ بأعماله الكبرى في مجالالمزج بين عالمَي البحث والتخيُّل منقبيل:‏ ‏»التاريخ الموجز لألدب المحمول«‏1985، ‏»وبيت إلى األبد«،‏ 19<strong>86</strong>،و»انتحارات مثالية«‏ 1991، و»أبناء باأبناء«‏ 1993، وفي مجال الرواية أعمالمن قبيل:‏ ‏»بعيداً‏ عن بيراكروث«‏ 1995،و»شكل حياة غريب«‏ 1997، و»سفرعمودي«‏ 2000.. وعلى الخصوص‏»الدبلينية«‏ 2010، ‏»وأجواء ديان«‏.2012نال إنريكي بيا-‏ ماتاس العديد منالجوائز األدبية:‏ ‏»جائزة ميديثيس«‏2003، ‏»رومولو غاييغو«‏ 2001،جائزة ‏»هيرالدي«‏ 2002، الجائزةالوطنية للنقد 2002، جائزة ‏»مدينةبرشلونة«‏ 2001، جائزة دائرة نقّادالشيلي 2003، الجائزة الدولية ‏»إنيوفايانو«‏ 2006، وجائزة مؤسَّ‏ سة‏»خوسيه مانويل الرا«‏ 2006، وجائزةاألكاديمية الملكية اإلسبانية 2006،وقائمة طويلة من الجوائز العالميةاألخرى،‏ آخرها جائزة ‏»فورمينتورلآداب«‏ 2014، التي سُ‏ جِّ‏ لَ‏ ، علىقائمة الفائزين بها،‏ كتّابٌ‏ كبارٌ‏ مثل:‏خورخي لويس بورخيس،‏ وخورخيسيمبرون،‏ وصمويل بيكيت،‏ وخابييرمارياس،‏ وخوان غويتيسولو،‏وكارلوس فوينتس.‏لتقريب عالم إنريكي بيا-‏ ماتاس منقرّاء العربية نقدّم هذا الحوار العميقالذي يفتح أفقنا نحو تفاصيل مسارطويل من المكابدة مع الكتابة واألدب،‏ويجعل منهما رسالة إنسانية ومهنةخطيرة في زمننا الراهن.‏هناك لعبةمنحرفة أتظاهرفيها بأنيأستغني عناألدب بمعناهالصارم§ الكتاب األول الذي كتبته ‏»امرأةفي المرآة تتأمَّل المشهد«‏ )1973( لكن‏»القاتلة المتنوِّرة«‏ )1977( كانت أولىرواياتك التي حظيت بشهرة.‏ يقولروبيرتو بوالنيو إن هذا الكتاب مع كتابخابيير مارياس ‏»نطاقات الذئب«‏ يؤرّخانلبدايات الجيل الذي ينتمي هو اآلخر إليه.‏ما رأيك في هذه الفكرة الجيلية؟ تحدثلنا عن ذلك الكتاب الذي ال يبرز كثيراً‏للعيان.‏- الكتاب األول كتبته في المخزن الخلفيللمطعم العسكري بمليلية.‏ أنا كنت أريدأن أكرِّس حياتي للسينما،‏ وكنت ‏-للتوّ‏قد انتهيت من إخراج فيلمين قصيرينقدّمتهما في بعض المهرجانات.‏ كتبتشيئاً‏ كي استطيع ‏-بكل بساطة-‏ أنأحسّ‏ أني أنمّي نشاطاً‏ فنياً،‏ فضاً‏ عنإمساكي بالبندقية خال األيام كلّها.‏عدت إلى برشلونة صحبة ‏»امرأة فيالمرآة تتأمّ‏ ل المشهد«،‏ الكتاب الذي كانعنوانه األصلي ‏»في مكان منعزل«‏ وهوالعنوان الذي سيؤثِّر،‏ قلياً،‏ في العملالاحق.‏ والواقع أني أتموضع في مكانمنعزل من السردية اإلسبانية.‏ لمّا عدتإلى برشلونة،‏ اكتشفتْ‏ بياتريس ديموورا ‏)التي كانت تشرف منذ ثاثسنوات على دار النشر توسكيتس،‏وكانت حينئذ دار نشر صغيرة،‏ وقرّاؤهاقليلون(‏ أني كتبت مؤلّفاً،‏ فطلبت منيأن تقرأه،‏ سلَّمته لها فقرَّرت،‏ نشرهتحت عنوان مغاير للعنوان األصلي ‏»فيمكان منعزل«،‏ ولم أكن قد كتبت الكتابوأنا أفكِّر أنه سينشر،‏ كتبته فقط لكيأواصل الحياة على امتداد سنة،‏ كانيجب عليّ‏ أن أمضيها مجنَّداً‏ في إفريقيا.‏لكني،‏ بعد شهور قليلة من عودتيمن إفريقيا،‏ حين ذهبت للعيش فيباريس - صرت أعتقد أني قد أصبحتكاتباً‏ بالفعل.‏ ففي نهاية المطاف،‏ سبقلي أن نشرت كتابي األول.‏ وهناككتبت ‏»القاتلة المتنوِّ‏ رة«‏ الذي جعلتهفي عملي ‏»باريس التي أبداً‏ ال تنتهي«‏كتابي األول...‏ وبخصوص بوالنيو،‏أنا أتفق تماماً‏ مع ما يقوله.‏ وعنخابيير مارياس كان مهمّاً‏ جدّاً‏ أن ألتقيبكتابه الثاني ‏»معبر األفق«،‏ فقراءتيله حفَّزتني على الكتابة ألنها فتحت ليآفاقاً‏ شاسعة،‏ واألمر نفسه بالنسبةلكتابه الاحق ‏»ملك الزمان«‏ الذي يقدّم89


على أساس أنه رواية،‏ والذي يتضمَّنبحثاً‏ جديراً‏ باإلشادة،‏ وهو البحثالمعنون ب»شذرة ولغز وحظّ‏ رهيب«.‏§ في ‏»مستكشفو الهوّ‏ ة«‏ )2007(، تَمَّ‏الحديث كثيراً‏ عن إرادة االستغناء عنالميتا أدبية لاقتراب من اليومي.‏ منالمؤكَّد أن العديد من القصص تبدو أنهاتحيل على حاالت آنية - بشخصياتمرَّت بعملية ما - لكن،‏ أيضاً،‏ ثمةإعادة كتابة لبعض قصص ‏»ال أذهبقطّ‏ إلى السينما«‏ 1982. هل حاولت أنتنجز لعبة مرجعية ذاتية جديدة،‏ أمأنك كنت تنشد الميل نحو رؤية أكثرواقعية؟- ثمة لعبة أدبية خاصّ‏ ة تقودني إلى‏»ال أذهب قَطّ‏ إلى السينما«‏ من خالإعادة اإلمساك ببدايات قصة ما،‏ للتمعُّ‏ نفي كيفية تنميتها وتطويرها اآلن.‏ فيالكتاب،‏ هناك لعبة منحرفة أتظاهرفيها أني أستغني عن الميتا أدبية،‏ أو‏-ببساطة-‏ عن األدب بمعناه الصارمجدّاً،‏ فأضع،‏ في بداية الكتاب قصّ‏ ةألناس عاديين في األوتوبيس في قصّ‏ ة‏»التواضع«؛ وذلك لكي أخدع القارئالذي ‏-بهذه الطريقة-‏ يعتقد أنه،‏ حقاً،‏قد حدث تغيُّر ما.‏ وهكذا أحقِّق لنفسي أنيلج القارئ الكتاب،‏ وهو على ثقة أنهسيعثر فيه على شيء بسيط،‏ فيمضيقارئاً‏ للحكايات،‏ ويكاد ‏-دون أن يشعربذلك-‏ أن ينتهي إلى ولوج شعريتيالحقيقية،‏ وهو شيء يمكن أن يخلص‏-بطريقة ال متوقّعة-‏ إلى شَ‏ دِّهِ‏ بقوَّ‏ ة.‏§ مفهوم الكتابة حاضر في ‏»ألنها لمتطلب ذلك«‏ التي تواصل فكرة لعبةالنصوص داخل النصوص.‏- يقولون إنها أفضل قصص هذا الكتاب،‏عدا أنها المرة األولى التي يتمّ‏ فيها‏-حقاً-‏ اللعب بالخيال والواقع،‏ والمزجبينهما بشكل يمكن أن أقول عنه إنهقوي،‏ لدرجة يفرض معه واقع الخيالنفسه،‏ وهو خيال وفيٌّ‏ بشكل مطلقألحداث واقعية يمكنها أن تبدو محتملة،‏فقط،‏ إذا حكيتها بالطريقة التي أقوم بهافي تلك القصة:‏ بتقديمها على أساسأنها مبتدعة.‏ إن كان ثمة شخص لميقرأ قَطّ‏ ما أكتبه،‏ ويريد أن يعرف كيفأكتب،‏ فإن أفضل ما يمكن أن يقوم بههو أن يقترب من نص ‏»ألنها لم تطلبذلك«‏ الذي أعتقد أنه النصّ‏ األكثر تمثياً‏لكل أعمالي.‏§ إعادة كتابة ‏»ال أذهب قَطّ‏ إلىالسينما«‏ يبدو أنها تقرِّبنا من فكرةالكتابة المتغيِّرة،‏ التي ليست ‏-قَطّ‏ -نهائية إال في حاضرها.‏ وهذا يحيلناعلى الفكرة الخوانرامونية ‏)نسبةإلى الشاعر اإلسباني خوان رامونرخيمينث(‏ عن المراجعة المستمرّة،‏التي ‏-كما قلت-‏ حاضرة في ‏»أذىمونتانو«‏ )2002(. لماذا تجد في إعادةالكتابة فعاً‏ جدّ‏ مشوّ‏ ق؟- أرغب في إعادة كتابة ‏»احتيال«،‏ وهيرواية ذات تيمة كبرى،‏ ذات حبكة هامّ‏ ةخصوصاً،‏ يمكنني اآلن أن أطوِّ‏ رهابشكل أفضل،‏ لكني لن أفعل ذلك ألننيأفضِّ‏ ل أن ألج حكايات وأفكاراً‏ جديدة.‏إعادة الكتابة تغوي ألنه ‏-وكما نعلمجميعاً-‏ إذا كان ثمة شيء ال نهائي حقاً‏فهو األدب؛ إذ إن المرء يتوخّ‏ ى،‏ دوماً،‏تحقيق الكمال في كل ما يكتب،‏ وينتهيإلى عدم تحقيق ذلك حينما يكون علىوعي بأنه إن لم يفعل ذلك فلن ينتهيأبداً،‏ لن ينتهي أبداً.‏§ بالعودة إلى األوتوبيوغرافي،‏فالكتاب الذي نجد فيه حضوراً‏ أكبرلتيمة األوتوبيوغرافي هو ‏»باريسالتي أبداً‏ ال تنتهي«)‏‎2003‎‏(‏ الذي،‏فضاً‏ عن كونه احتفاءً‏ بهمنغواي،‏فقد حدّدته على أنه محاكاة ساخرةلرواية التعلّم.‏ إلى أي حَ‏ دّ‏ حاولت أنتحقِّق من خالها هذه الغايات؟- لقد كان السارد،‏ من الناحية الجسدية،‏رجاً‏ مماثاً‏ لهمنغواي في المخطوطةاألولى التي سلّمتها إلى هيرالديالذي قال لي:‏ ‏»ثمة شيء لم يكتمل،‏ال أستطيع أن أومن بأن من يتحدَّثهو مماثل لهمنغواي،‏ أَصْ‏ لِحِ‏ األمر.«.‏حينئذ عدت إلى البيت وأصلحت مااستطعتُ‏ إصاحه،‏ أصلحته بطريقةغريبة األطوار شيئاً‏ ما،‏ وقد بقيت فيذاكرة العديد من قرّائي،‏ وبعضهم بلغحَ‏ دّ‏ االعتقاد بأن األمر يتعلَّق بنوع منالعبقرية الخاصّ‏ ة بي.‏ والواقع أنماغيَّرته قمت به مضطراً‏ بسبب هذهالمابسات،‏ لكن األمر نفذ إلى ذاكرةالعديد من القرّاء القريبين مني علىأساس االعتقاد الراسخ بأني،‏ دوماً،‏كنت أومن بأني أشبه همنغواي،‏ والأحد من محيطي األكثر حميمية كانمستعدّاً‏ ليقول لي ‏-بالفعل-إني منالناحية الجسدية كنت مشابهاً‏ له،‏ طبعاً‏كانت تلك الدراما،‏ حقيقةً‏ ، شيئاً‏ كنتأعيشه يومياً.‏ ألنني اليوم ‏-بالفعل-‏مقتنع،‏ حقيقة،‏ بأني مماثل لهمنغواي.‏وفعاً،‏ ففي السنة القادمة سأتقدَّمللمسابقة الرسمية ألشباه همنغوايفي كاي ويست،‏ ومن المؤكَّد أنهم ‏-علىاألقل-‏ سيقبلون ترشُّ‏ حي.‏§ نعتقد أن مفهوم الهوية الزائفةيوجد ضمن أسس األدب الذي تكتبه:‏على مستوى الموضوع.‏ وعلىمستوى حركة تثبيت وجه الممثِّلدانييل إيملفورك لفليبي تونغوي منمونتانو،‏ أو في التناصّ‏ الذي يتوخّ‏ ىمحو خطوط مرجعيّته لكي يحقِّقصوتاً‏ جديداً.‏ هل ثمة بيا-‏ ماتاسآخر حقيقي خلف كل ذلك؟- انتهيت،‏ للتوّ‏ ، من كتابة محاضرةتشتمل على فصل بعنوان ‏»التناصّ‏والميتا أدبية«،‏ أشرح فيه هذه الطريقةفي العمل.‏ يتعلَّق األمر بأن يكونالمرء متعدِّداً،‏ وأن يبني شخصيتهعلى أساس أن ‏»يكون كل الناس«‏ مثلجون فانسينت مون،‏ تلك الشخصيتهالبورخيسية.‏ أظن أن ذلك سيحدث معكتاب ‏»ذكريات مبتدعة«‏ )1994( حينمابدأت هذه الممارسة بتملُّك ذكرياتاآلخرين لبناء صوتي الخاصّ‏ من خالإجراء تحويرات وتعديات عليها.‏§ وبخصوص طريقة المحاضرةكاستراتيجية سردية،‏ نجدها فيأعمال كويتزي المتأخِّ‏ رة،‏ كيف كاناكتشافك للكاتب الجنوب إفريقي؟90


وإلى أي حَ‏ دّ‏ تستفيد منه وتحاكيه؟- كانت قراءة كويتزي متمنِّعة عليّ‏ حتىبلغت ‏»العار«‏ فتركتني منبهراً،‏ وإنكنت أعترف بأنها من روائع األعمالاألدبية،‏ ولقد هَ‏ مَّتني ‏-مع ذلك،‏ بشكلأكبر-‏ رواية ‏»الشباب«؛ إذ لها بعضالحضور في المعالجة النقد ذاتية التيأمنحها لشخصيتي الروائية في»باريسال تنتهي أبداً«.‏ ويهمّني أيضاً‏ كويتزيالاحق الذي مضى يشتغل دون أن يتأثّربالحدث التافه لجائزة نوبل،‏ لربَّما هوالكاتب الحيّ‏ الممارس األفضل،‏ ومنبين أبحاثه األخرى الكثيرة يجب قراءةمقاله المُ‏ عْ‏ جَ‏ ب بأعمال و.ج سيبالد،‏هنالك حيث ينبغي فهم بعض األشياء،‏فكويتزي يهمّه ‏-مثاً-‏ الشكل الذي عرفكيف يبتدعه سيبالد بعد استنفاذ األشكالالثيربانتيسية من خال مخطوطه الذيعثر عليه في طليطلة،‏ أو شكل ‏)دي فو(‏مع روبنسون كروزوي،‏ الشخصية التيما يزال ‏-حتى يومنا هذا-‏ العديد يعتقدونأنه أحدَثَ‏ ‏-حقاً-‏ تجديداً‏ تقنياً،‏ وَ‏ صْ‏ فَةجديدة لترجيح المحكي،‏ عودة إلىالنفي الضمني للسلطة المتخيّلة تتحقّقبطريقة محكمة:‏ إن تخيّله مزيج منحكايات الرحات والمذكّ‏ رات والبحوثوالصور الفوتوغرافية واليوميات،‏وأنا أفكِّر في البحث السردي المعنونب»إليزابيث كوستيلو«،‏ أقول إننيألتقي مع كويتزي ‏)أتمنّى ‏-على األقل-‏أن يتيحوا لي الحق في االلتقاء معه(‏ فيتوظيف جنس المحاضرة في الروايات.‏وإن كنت سأقول ‏-إذا ما استنفدوني-‏أني قد أمضيت وقتاً‏ أطول-‏ منذ أذىمونتانو-‏ وأنا أشتغل على هذا الجانب.‏ما يدهشني أنه ال أحد في إسبانيايتّهم كويتزي بالميتا أدبية،‏ بينما كلالتأصيليين يلومونني على ذلك،‏ ربّماألنني من هنا ‏)أو يظنّون أنني من هنا(.‏§ اآلن،‏ وأنت تقول ذلك،‏ في بدايات‏»بيا-‏ ماتاس المحمول«‏ )2007(شرحت أن هيرالد اقترح عليك أنتُعَ‏ نْوِ‏ ن كتبك الثاثة:‏ بارتليبي،‏مونتانو،‏ وباسابينتو ب»الكاتدرائيةالميتا أدبية«.‏- لم يقترح عليّ‏ ، بل عَ‏ نْوَ‏ ن تلكالثاثية هكذا دون إعان مسبق فيندوة صحافية.‏ وقد قيل ذلك بالنظرةاألحادية التي يمتلكها هيرالد بالنسبةللجميع،‏ وهو ما يجعل مؤلِّفيه األكثرذكاءً‏ يوا صلون االعتقاد بأنهم آلهة،‏لكنهم يتذكَّرون ‏-أيضاً-‏ أن كل شيءنسبي.‏§ مجموعاتك القصيصية تُفتتحبمحكيّ‏ استهالي يمنح المجموعةوحدة تيمية.‏ في»أبناء با أبناء«‏)1993( ثمّة تعارض ما بين المجالاالجتماعي والمجال األدبي والحميمي،‏هل تعطي األولوية للثاني على األول؟- إنها من األشياء التي ‏-مع مرورالزمن-‏ ال ينبغي لي أن أغيِّرها،‏ ألنيمازلت أفكِّر فيها بالطريقة ذاتها.‏ ما كنتأتوخّ‏ اه في ‏»أبناء با أبناء«‏ هو أن أضع‏-على األقل،‏ في نفس المستوى-‏ العالمالعمومي والحياة الشخصية لكل واحد.‏حين أتحدَّث،‏ دوماً،‏ عن هذا،‏ أتذكَّر ماكان يقوله إيفان كليما:‏ ‏»أمعنوا النظرإلى أن كافكا،‏ الذي كان يتحدث ‏-فقط-‏عن العاقات مع أبيه،‏ قد مُ‏ نِع من طرفالدولة التشيكية الشيوعية.«،‏ وذلكيبيِّن لنا أن ما هو خصوصي،‏ أحياناً‏‏)التحدُّث عن األب الذي تعتقد السلطةوبمبرّر أنك تتحدّث عنها(‏ يمكن أنيكون سياسياً‏ أكثر خطورة ممن يضعرواية ذات التزام اجتماعي كبير،‏ وهويعتقد أنه سيغيِّر العالم.‏§ باتّباع هذه المعارضات التاريخية،‏تنطلق رواية ‏»احتيال«‏ )1984( منحدث واقعي،‏ لكن،‏ باالستناد إلىصيغة روائية أنجزها ليوناردوشاشا،‏ ومع ذلك فسياق برشلونةما بعد الحرب المتشنِّجة يطفو فيالخلفية.‏- ولذلك قلت ‏-من قبل-‏ إنه كتاب كنتسأمنحه اآلن معالجة مختلفة.‏ كمدخل،‏كان سيهمّني أكثر أن أطوِّ‏ ر شخصيةالكاتب المتسكِّع الذي يجدونه يقومبسرقة القبور،‏ والذي ‏-فيما بعد-‏سيصير كاتباً‏ آخر،‏ لكنه موجود فيقواميس األدب اإليطالي كما لو أنهمؤلِّف واحد،‏ بينما هما مؤلِّفان اثنانكتبا كتباً‏ مختلفة.‏ أردت أن أحكي تلكالحكاية،‏ لكني انحرفت نحو حكايةشخصية برناوال،‏ شخصيتي الفالسريةاألولى ‏)نسبة إلى الكاتب السويسريروبرت فالسر(،‏ رجل يكتشف أنه يعجبهأن يكون مساعداً،‏ وكنت ‏-للتوّ‏ - قدانتهيت من قراءة روايته ‏»جاكوب فونغونتين«.‏ التي ستصير كتابي المفضَّ‏ لخال سنوات عديدة،‏ وأعتقد أن ذلك قداستطاع أن يؤثر في بشكل كبير،‏ ألنني‏-فعاً-‏ كنت أشعر بذاتي مفتوناً‏ بفكرةدخول مدرسة قصدَ‏ تعلُّم أن أكون فيالخدمة،‏ وعلى الخصوص أن أتعلَّم كيفأكون في الحياة ‏)روح الدعابة الاإراديةعند فالسر جدّ‏ مسلّية وجريئة(‏ صفراً‏مطلقاً‏ على اليسار.‏َّ§ حدِّثْنا قلياً‏ عن صورة الكاتبكجاسوس في ‏»شكل حياة غريب«‏)1997(. هل هناك لقاء مع بيغليا فيهذا الصدد؟- في هذا الكتاب ليس هناك تأثير لبيغلياألنني ‏-حسب ما أعرف-‏ لم أكن،‏ بعد،‏ قدبدأت قراءتي ألعماله.‏ لقد كان موجّ‏ هي‏»السيدة دالواي«‏ لفيرجينيا وولف،‏ مادامت حكاية ألربع وعشرين ساعة منحياة امرأة،‏ ويجب أن أشير ‏-أيضاً-‏ إلىأني قد اتّخذت ذلك الكتاب دلياً‏ لي دونأن أكون قد قرأته،‏ فقط كنت أتخيل ماالذي يمكن أن تكون قد فعلته وولف فيتلك الرواية.‏ أردت أن أنجز يوماً‏ لكاتبيتجسّ‏ س،‏ ألنه يبدو لي أن التجسُّ‏ سمهنة شبيهة بمهنة األدب؛ ففكرة كتابة91


حكاية كاتب يمتلك تقاليد عائلية فيالتجسُّ‏ س،‏ انبثقت من غاف العدد األولمن مجلة ‏»ال تيرال«‏ الذي ضَ‏ مَّ‏ ملفّاً‏ عنالتجسُّ‏ س واألدب،‏ عثرت على عنوانالكتاب في مطار لشبونة،‏ في غافقرص ألماليا رودريغيس حيث تبدوجدّ‏ شابة وفاتنة.‏ التوافق بين جمالالمغنّية وماحة العنوان كان حاسماً.‏كل الكُ‏ تّاب الجدّيين،‏ الكُ‏ تّاب الحقيقيينيحيَوْ‏ ن شكاً‏ غريباً‏ من الحياة.‏§ ‏»بعيداً‏ عن بيراكروث«‏ 1995 كتابيفتتح ما يسمّى الثاثية الواقعية،‏ويبدو أنه يمتلك تأثيراً‏ قوياً‏ منبيسوا،‏ وإن كانت أيضاً‏ تبدو لنا فيهأصداء لكتاب ‏»أمي«‏ أللبيرت كوهن‏)البناء المتفرِّد وأحد الشواهد(.‏- أجل،‏ لكنه ال يمكن أبداً‏ أن يكونواقعياً،‏ على األقلّ‏ لو أنك سألت عنذلك في المكسيك فسيقولون لك إنهليس كذلك،‏ ألنه صورة عن مكسيكمبتدع تماماً.‏ أما ما يتعلَّق ببيسوا فايبدو لي واضحاً.‏ لقد انبثق هذا الكتاببعد أن حكى لي خوسيه أغستينغويتيسولو في اإلسكوريال - بشكلمكثَّف،‏ وفي فضاء زمني موجز منثاث دقائق،‏ ودون أن أطلب منه ذلك-‏حكاية اإلخوة غويتيسولو الثاث.‏ فعلذلك بشكل غير متوقَّع،‏ ودون أن تكونلديَّ‏ معرفة مسبقة به على اإلطاق،‏وقد ذكّ‏ رتني حكايته ‏-كثيراً-‏ بحكايةاإلخوة بانيرو،‏ فأنا كنت صديقاً‏ حميماً‏لميشي األخ األصغر،‏ وكان دوماً‏ يحكيلي المأساة العائلية.‏ فكرة الكتاب وُ‏ لِدتهناك،‏ مما كان يحكيه خوسيه أغسطينغويتيسولو،‏ وكما ربطته بحكاية آلبانيرو،‏ والصوت السارد هو بديل منميشي نفسه،‏ الذي كان يرفض أن يكونكاتباً‏ في أسرة،‏ كل رجالها ‏)األب والعمواألخ األكبر واألخ األوسط(‏ يكتبون.‏كان ميشي يقول لي إن ما يرغب فيههو أن ينسى الشعر،‏ وأن يتزوَّ‏ ج منمليونيرة.‏ ومع ذلك،‏ فقد الحقته لعنةاألدب ألنه كان يكتب بشكل جيّد جدّاً.‏أما بخصوص كوهن فأنتم تتركوننيمندهشاً.‏ في البناء،‏ من المؤكَّد أنه ليسهنالك أيّ‏ تأثير،‏ ولكي أقول الحقيقية،‏فكوهن ال يعني لي شيئاً،‏ لم أهتمّ‏ بهقَطّ‏ ، فرواية ‏»جميلة اإلله«‏ أهديتهالشحّ‏ اذ في فُورْ‏ نِيلْس بمينورقة،‏ وكانهذا خال ذلك الصيف الذي كان فيه كلالعالم يقرأ كوهن،‏ وكنت أنا أتساءل إذاما كان من األفضل أن ينشغلوا بقراءةآدا نابوكوف مثاً.‏§ احكِ‏ لنا قلياً‏ عن تلك العاقة معبيتول.‏- النصّ‏ الذي سيكتبه بيتول،‏ حينكنت قد حصلت على جائزة رومولوغاييغوس،‏ يوجد في كتاب ‏»بيا-‏ماتاس المحمول«،‏ وأنا أعترف أنه نصّ‏يحرِّك مشاعري،‏ وهو الذي يعجبنيأكثر في كل ما كُ‏ تِبَ‏ عني.‏ إنه يفسِّ‏ ر ماتتضمّنه أعمالي:‏ سفر با عودة ممكنة،‏سواء أكان حقيقة أم لم يكن،‏ ويبدو ليأن ذلك ال يمكن أن يكون سوى حقيقة،‏وإن كان ليس ثمة أمر مؤكّ‏ د،‏ وال عودةممكنة إلى تأويات أخرى،‏ وبالتحديد،‏ما يقوله هناك سيرخيو عني هوالتالي:‏ ‏»منذ بدايات أعماله وضعلنفسه ‏-بشكل متكرِّر-‏ مشهد نزول،‏سقوطاً،‏ سَ‏ فَر المرء إلى أعماق ذاته،‏رحلة قصيرة نحو نهاية الليل،‏ الرفضالمطلق للعودة إلى إيتاكا،‏ وباختصارشديد:‏ الرغبة في السفر دونما عودة«.‏§ عند كتابتك ل»انتحارات مثالية)1991(، أكّ‏ دت أن صياغة الكتاب قدأنقذتك من االنتحار بالرهان هكذاعلى قدرة األدب المُ‏ خَ‏ لِّصَ‏ ة.‏ وفي كتاب‏»السفر العمودي«‏ )2000( يبدو أنهذا الرهان قد تَمَّ‏ إلغاؤه.‏ ماذا كانتغايتك في هذا الصدد؟- لقد كان لديّ‏ دوماً‏ إحساس بأن هذاالبلد بلد جدّ‏ بعيد عن الثقافة،‏ مثلمانفتقد إلى تقاليد ديموقراطية متينة.‏ إنإحساسي مرتاح جداً‏ لو كنت،‏ من مكانآخر أكثر ثقافة.‏ الفرنكوية قضت علىالثقافة.‏ ‏»السفر العمودي«‏ يعكس ذلكفي هذه الصورة التي تمتلك شيئاً‏ يماثلصورة أبي نفسه الذي ‏-وإن كان رجاً‏ذكياً‏ جداً-‏ إال أنه لم يجد منفذاً‏ لولوجالثقافة بسبب الحرب،‏ وهذا سَ‏ حَ‏ بَه خلفهكعبء خال زمن طويل.‏§ كنا قد تحدَّثنا من قبل عن الميتاأدبية،‏ وهي لصيقة ال تعجبك.‏ هلهي حاضرة في»القاتلة المتنوِّرة«إالأنها تتّخذ دور البطولة كاماً‏ في‏»التاريخ الموجز لألدب المحمول«‏‎1985‎؟ كيف ترى رهان هذا الكتاباليوم بعد التغييرات الحالية التيخضعت لها أعمالك؟ وما هو ‏-حسباعتقادك-‏ التجديد الذي حَ‏ وَ‏ لّه إلىمَ‏ عْ‏ لَمة،‏ إلى عمل كاسيكي حديث؟- لم يكن كذلك في البداية،‏ فقد نُشِ‏ رالكتاب سنة 1985 وبيعت منه ألفنسخة،‏ وعدّه نقّاد تلك المرحلة عماً‏عابثاً،‏ وسمّوه عماً‏ خفيفاً.‏ بعد انصرامعشر سنوات أو خمس عشرة سنةيتحوّ‏ ل الكتاب إلى ما تقوله.‏ نعود إلى92


ما قلناه بصدد أن إسبانيا رهيبة قلياً،‏ألن الكتاب كان متقدِّماً‏ على المرحلةالتي صدر فيها.‏ لقد تحوَّ‏ ل إلى عملكاسيكي بفضل القرّاء الشباب،‏ وعلىالخصوص بفضل شيء يتحدّث عنهبيتول في النص الذي كنت قد علَّقت عليهسابقاً:‏ « يجعل الكاتب الشاب ينظر إلىإمكانيات الحرّية المطلقة التي يمتلكهااألدب،‏ ويحرِّض على الكتابة.‏ أظن أنهكتاب فتح طرقاً‏ أمام األجيال الاحقة.‏أنا لم أمارس،‏ قَطّ‏ ، ما يمكن أن نسمّيهالخيال الجذري مثلما في هذا الكتاب،‏وبشكل جدّ‏ مكثَّف«.‏ أجل،‏ هكذا وجّ‏ ه إليهالتحية خوان بيورو من المكسيك.‏§ بالفعل،‏ يمكن فهم كتاب ‏»التاريخالموجز لألدب المحمول«‏ بوصفه بناءً‏خاصاً‏ لك كآخِ‏ ر طليعي حَ‏ يّ‏ ، فيكوكبة من الطليعيين الذين ماتوا،‏وخصوصاً‏ الفرنسيين،‏ لكن ‏-أيضاً-‏من أميركا الاتينية،‏ يمكن القول إنوضعيتك ستكون ما بعد جيلية بينالموتى،‏ ما رأيك في هذا التأويل؟- بالطبع إذا كان المرء يتحرَّك في ‏»مكانمعزول«‏ يمكن أن يحدث كل شيء،‏ بمافي ذلك أن يتحرَّك مثل ‏»آلة متوحِّ‏ دة«‏منعزلة عن األحياء كما عن األموات.‏لكن،‏ ما كان يجتذبني،‏ في تاريخيالموجز،‏ هو-‏ بالدرجة األولى-‏ إمكانيةاشتغالي ‏-بعمق-‏ على سرد مؤامرة.‏كانت تستهويني الدسائس،‏ وفي درجةثانية فكرة ما عن قطيعة طليعية معالمشهد الرصاصي و»الصلب«‏ للسرداإلسباني لتلك المرحلة،‏ ‏)هنالك‏-بالفعل-‏ كان العديد من الموتى،‏ حتىولو كانوا أحياء(‏ وفي العمق القناعةبأنه خلف كل مؤامرة توجد فكرة ثورية.‏§ في ‏»بارتليبي وشركاؤه«‏ )2001(نجد أن مورد المرجعية لم يعد يشتغلكأداة تكميلية،‏ بل كمادة خام جديدةينبثق عنها المحكي.أتعتقد أنه سيكونمن األفضل الحديث،‏ فقط،‏ عن الحكيواإللغاء الكلّي لِلَصيقة الميتا أدبية؟- ‏»بارتليبي«‏ ليس ميتا أدب،‏ بل هولو كنت أعرفكيف ستكونرواية المستقبللحاولت أنأكتبهامحكيُّ‏ صنفٍ‏ بائس من الشخصية التيال ترتبط بعاقات مع أحد،‏ والتي تجمع‏-فقط-‏ بارتليبيين.‏ يمكن أن تقرأ مثلرواية من روايات بيكيت حيث يوجدرجل يكاد ال يخرج من البيت.‏ فيهاالقليل جداً‏ من الميتا أدبيّ‏ ، إن هذا نوعمن القالب الجاهز اإلعامي الذي كانيتعقَّبني ومازال،‏ والمشكل ليس في أنيكون ميتا أدب أم ال،‏ ولكن هذا المفهوميستعمل ضدّي هنا بداللة احتقارية.‏وبالتحديد في بلد الكيخوتي،‏ ‏)حيث وُ‏ لدالتفكير في العاقة بين الحياة واألدب(،‏باإلضافة إلى ذلك ال يتحدَّث ‏-فحسب-‏عن كُ‏ تّاب توقّفوا عن الكتابة،‏ بل-‏ وكماالحظ ذلك بوالنيو بذكاء-‏ يتحدّث عنأناس يحيون،‏ ثم توقّفوا عن الوجود.‏§ في ‏»بيت إلى األبد«‏ )1988( تفكِّرأيضاً‏ في األدب موظِّ‏ فاً‏ مورد الحديثالباطني لإلحالة على الكاتب،‏ الذيتؤكِّد أنه ال ينبغي أن يكون له صوتواحد يمكن التعرَّف إليه،‏ بل يجب أنيمضي مغيِّراً‏ له باستمرار.‏ هل تظنأنك طبَّقت هذا المبدأ في إنتاجاتك؟- لقد طبَّقته فعاً،‏ يكفي ماحظة الخيطالذي يقطعه بارتليبي،‏ ومونتانو،‏وباسابينتو.‏ لقد كان الدكتور باسابينتو‏-في الواقع-‏ نهاية مسار لثاث محطّ‏ ات‏)بارتليبي،‏ مونتانو،‏ وباسابينتو(‏ الذييلخِّ‏ ص التطوُّ‏ ر التاريخي ألدب األنا،‏والذي يمكن أن يعلن عن نفسه كالتالي:‏ليس بعد مونتيني بكثير بدأنا نبحثعن ذواتنا«،‏ بدأ يتنامى انعدام ثقةبطيء لكنه متزايد في إمكانيات اللغة‏»بارتليبي وشركاؤه«‏ والخوف من أنذلك سيجرّنا إلى مناطق ذات ارتباكعميق.‏في بدايات القرن الماضي كانهوفمانشتال قد أعلن التخلّي عنالكتابة في رسالة متخيّلة باسم اللوردشاندوس،‏ ستسبق الكتابة دون كوابح‏)أذى مونتانو(،‏ لكن ‏-أيضاً-‏ ستسبقحاالت جاء وتبصُّ‏ ر كبرى مثل حالةفيرناندو بيسوا الذي أدرك،‏ مبكراً،‏ أنالمادة الكامية ال يمكن لها أن تكون مادةشفّافة بالكامل،‏ ووعيه بهذا جعله يتجزّأهو ذاته إلى سلسلة من الشخصياتاألنداد ‏)الدكتور باسابينتو(:‏ إنهااستراتيجية كاملة للتمكُّن من التوافقمع استحالة إثبات نفسه كذات متوحِّ‏ دة،‏ومندمجة ومكتملة،‏ لها صوتها الخاص،‏باسابينتو ‏-كما تعلمون-‏ يتحلَّل إلىأصوات عديدة.‏ أحدها ذلك الذي جمعنافي المجموعة القصصية المعنونةب»مستكشفو الهوّ‏ ة«‏ والصوت اآلخرذلك الذي يكتب كتابي الجديد.‏§ مهمّة هي الفكرة التي تقدّمهاعن رواية ‏»بيت إلى األبد«،‏ والتيتقرّ‏ بأنك ال تتطلَّع إلى االدّعاءالكلّي والجامع للقرن التاسع عشر،‏والقاضي باحتواء حياة بكاملها،‏بل بالتجزيء،‏ متجاوزاً‏ األنموذجالمختصّ‏ بالقرن التاسع عشر.‏ ما هيفي اعتقادك إمكانات الرواية؟ وماالطرق التي تهمّك؟- لقد انتهيت من الكتابة عن ستّ‏ مقترحاتترجع إلى قراءتي لرواية ‏»بحر سرت«‏لجولين غراك،‏ إنها شكل من المقترحات‏)على طريقة إيتالو كالفينو(‏ ألجل األلفيةالقادمة،‏ وإن كان ذلك دون البحث ‏-منجانبي-‏ عن أي دوغمائية.‏ إن كنت أذكرجيداً‏ فالمقترحات هي:‏ التناصّ‏ ، اللقاءبالشعر الراقي والمتسامي،‏ الكتابة مثلساعة تُسابِق الزمن،‏ انتصار األسلوبعلى الحبكة،‏ الوعي بالمشهد األخاقيالمتداعي والتجريبية.‏ أقول هذا كمالو كنت أعرف كيف ستكون روايةالمستقبل،‏ والحقيقة أني لو كنت أعرفكيف ستكون لحاولت أن أكتبها أناطبعاً.‏93


استطالعشاعر يتمرّنعىل مواجهة املوتعبدالحق ميفراينفي غفلة من الجميع،‏ اختارالشاعر المغربي عبدالقادرحاوفي 1965( - )2014 غرفةفي فندق بمدينة سيدي بنور‏)غربي البلد(،‏ وانتحر تاركاً‏رسالة يقول فيها:‏ ‏»أخفقت فيالشعر والكتابة والرسم،‏ ولمأُوَ‏ فَّق حتى في حماقاتي الجميلة عبدالقادر حاوفيفي حضن الحياة،‏ وأمام كلاإلخفاقات التي واجهتني فيالحياة سأقف اليوم قويّاً‏ في وجه الموت..‏ وداعاً«.‏الشاعر حاوفي ذكّر المشهد الثقافي في المغرببتراجيديات انتحار كُ‏ تّاب آخرين،‏ منهم الفنان حوريالحسين،‏ الشاعر كريم حوماري،‏ والقاص سعيدالفاضلي.‏ فهل االنتحار إرادة واختيار حتمي ألفق المبدعحينما تسقط اليقينيات،‏ وتنتهي مآالت الحياة؟يقول الشاعر خليل حاوي )1919-1982( أنا ‏»أهويلقاع القرار«،‏ صورة للكآبة وأنين الوحدة اللذينيهدِّدان قيم ‏»األمل«‏ في الحياة والوجود اإلنساني،‏ فهلاالنتحار تعبير عن فشل ما وخيبة من الحياة ذاتها؟ أمهو-‏ على طريقة الشاعر األردني تيسير سبول )1939- 1973(- لحمة من إخفاقات الواقع وتعبير عن عمقفلسفي لتقاطعات الحياة والموت،‏ الحضور والغياب،‏أحاسيس النكسة؟ كثيرون يتساءلون عن سرّ‏ قوّ‏ ةهذا النداء الذي يأتي إلى األديب والمبدع وهو يختار-‏بإرادته-‏ لحظة موته ورحيله!.‏نورد هنا مجموعة من آراء كتّاب ونقّاد عرب،‏ يحاولونتأمُّل هذه العاقة التراجيدية بين األدب واالنتحار.‏94


محسن الرملي:‏انتصار للحياةيؤكِّد الشاعر العراقي محسن الرملي أنه ضدّ‏ القتل بكلأنواعه،‏ بما فيه قتل اإلنسان لنفسه طبعاً،‏ بل هو ضدّ‏ أيّ‏نوع من أنواع اإليذاء،‏ سواء أكان مادياً‏ أم كان معنوياً،‏ لذايشعر الشاعر العراقي،‏ المغترب في إسبانيا،‏ بالحزن الشديدواألسى على األدباء المنتحرين أكثر من شعوره بصحّ‏ ةمواقفهم وقضاياهم أو دعمها.‏ وال يتّفق الشاعر مع هذهالطريقة في االحتجاج وإسماع الصوت،‏ وخاصة بالنسبةللمبدع،‏ فهو على األقلّ‏ يمتلك أدوات للتعبير عن ذلك أكثرمن اإلنسان البسيط،‏ فإن كان صاحب قضية فهو سيضرّ‏بقضيته أوالً،‏ ألنه يُخرِس أحد أصواتها الذي هو صوته،‏وبدل أن يجعل من موته صرخة واحدة كان بإمكانه أنيشكِّل-‏ من مواصلة إبداعه ومن كسب تأييد قرّائه ومتلقّيه-‏صراخات متتابعة يومية.‏ وكان عليه المواجهة حتى الموتبدل الموت قبل المواجهة أو في منتصفها،‏ لذا فهو يحيّيشجاعة الذين يضحّ‏ ون بأنفسهم عبر النضال والمواجهة.‏ وإذاكان األمر بسبب يأس شخصي فأمام المبدع خيارات كثيرة،‏منها اللجوء إلى التنفيس عن ذلك باإلبداع،‏ أو اللجوء إلىالخيال،‏ وتاريخ األدب اإلنساني حافل بالذين حوَّ‏ لوا مآسيهمإلى أعمال خالدة.‏الزهرة الرميج:‏لماذا ال نعلن عنالحب إال لألموات؟عندما يكتب الشاعر وال يجد من يلتفت إليه،‏ ومن يسلِّطالضوء على موهبته،‏ فإن الامباالة تتحوّ‏ ل إلى سوس ينخردواخله باستمرار،‏ خاصة إذا كان يعدّ‏ الشعر شرط وجوده،‏وهويّته الحقيقية،‏ وأن حياته بدونه هي والعدم سواء.‏ وهذافي اعتقادي،‏ ما دفع الشاعر المغربي عبد القادر حاوفيإلى االنتحار.‏ فهذا الشاعر المنعزل الذي عجز محرِّك البحثالشهير غوغل عن الوصول إليه،‏ وحارت المواقع اإللكترونيةوالصحف في البحث عن صورة له،‏ استطاع-‏ بانتحاره-‏ أنيزلزل الساحة الثقافية،‏ وأن يكشف عوارها،‏ ويجعلها ترىصورتها الحقيقية في المرآة.‏ لماذا لم يتمكَّن ذلك الشاعر مننشر ديوانه،‏ أو دواوينه ما دام قد واظب على كتابة الشعرألكثر من عشرين سنة؟ لماذا لم ينتبه النقّاد إلى شعره؟ لماذالم تمتدّ‏ أيادي األصدقاء إليه عندما كان يعلن عن يأسه،‏ وعنإخفاقه في الشعر؟إذا كان انتحار المبدع في الغرب،‏ غالباً،‏ مسؤولية فردية،‏كعدم تحمُّل نضوب قدرته اإلبداعيّة مثلما هو حال الكاتباألميركي أرنست همنغواي،‏ أو الخوف من الشيخوخةوعاهاتها وأمراضها المزمنة كما هو شأن الكاتب اليابانيميشيما وكاواباتا الذي كان يرى الشيخوخة قبحاً‏ ال يطاق،‏فإن انتحار شاعر في المغرب ظلَّ‏ يكتب الشعر دون أن يلقىاهتماماً‏ من النقد،‏ يصبح مسؤولية كل المعنيين بالشأنالثقافي،‏ ومنهم المقرَّبون من هذا الشاعر.‏ لقد استغربتالشهادات الكثيرة التي كتبها شعراء وأدباء بصفتهم أصدقاءهالمقرَّبين،‏ وكذلك من التمجيد الذي حظي به الشاعر بعدانتحاره.‏ ووجدتني أستحضر حالة أبي حيان التوحيديالذي أقدم على االنتحار بطريقة مختلفة،‏ عندما أحرق جميعكتبه،‏ فكتب إليه القاضي أبو سهل علي بن محمد يعاتبه علىصنيعه،‏ فكان ردّه الشهير الذي يرى فيه أن العلم ال جدوىمنه إذا لم يجد من يقدِّره،‏ كما أشار فيها إلى استغرابه منلوم القاضي له،‏ علماً‏ أن حاله لم تكن خافية عليه.‏ فهو لميقدم على إحراق كتبه إال بعد معاناة طويلة من الفقر وشظفالعيش والعزلة،‏ والمباالة الحكّام الذين ال يغدقون األموال إالعلى المتزلِّفين،‏ وأنصاف الموهوبين.‏الوضع الثقافي المأساوي نفسه يستمرّ...‏ أتساءل:‏ لماذا،‏في وطننا العربي،‏ ال نعلن عن الحبّ‏ إال لألموات؟ وإلى متىستظلّ‏ مقولة الشاعر عبد اللطيف اللعبي المحمَّلة بالمرارة‏»الشاعر الجيد هو الشاعر الميت«‏ سارية المفعول في هذاالوطن؟95


رانيا منصور:‏عن أحاديث الكاتبِ‏والمنتحِ‏ ر..‏ترى الشاعرة المصرية رانيا منصور أن األدب واالنتحار ‏»ربماهما وجهان لشخصٍ‏ واحدٍ«.‏ فما المنتحِ‏ ر سوى شخص رأىالعالَم بعينيه الواسعتين،‏ فوجده ضيِّقاً‏ حرجاً.‏ لم يحتملالمثول أمام سواده طوياً،‏ فآثَرَ‏ الرحيل بهدوء.‏ وما الكاتبسوى شاخص في الملكوت،‏ يترجم حركات األحياء ويلفظهاجماالً‏ يبهر السامعين،‏ ويموت،‏ في إثره،‏ جزءٌ‏ من رحابه.‏الشاعر يقتل نفسه مئة مرةٍ‏ ، في كل مرةٍ‏ يكتب بالقلم أو ‏)يدبَّ‏ )أصابعه في زخم حروف الكيبورد األسود.‏ يخرج الشاعر مننصِّ‏ ه منثوراً‏ في الفضاء،‏ ممزقاً،‏ مقتوالً‏ إال قلياً؛ ذلك القليلالذي يكمل به رحلة حياته الغامقة،‏ مبتلّ‏ ً بماء الحياة،‏ يكتبهاويرسمها فتعيش وترتفع قامتها في حين تذوب أوصاله هو.‏ابحثوا في أدراج بوعزيزي،‏ تجدوا كلماته منثورةً‏ هنا أوهناكَ‏ . ذلك الكيان الذي أحرقَ‏ جسده،‏ البدّ‏ أنه احترق ألفَ‏مرةٍ‏ من قبل.‏ مات،‏ قبل أن يموت ما نسمّيه عمرُ‏ ه.‏ كتب علىحوائطنا جميعاً‏ أن الموت في بعض األحيان حياة،‏ فعاش!‏من تراه عاش كذلك بعد قتل نفسه؟دنقل مثاً؟قتل الكام،‏ قتل البياض في سرير المرض،‏ قتل نفسه كاماً،‏تكلَّم بما فاضت به روحه،‏ وهو يدرك أن كامه يستنزفخاياه وحده،‏ وأنه يفقد-‏ بكل حرف-‏ ورقةً‏ من شجرته،‏فطال عمرُ‏ ه إلى اآلن.‏غادة نبيل:‏الشعر أنقذنيترى الشاعرة غادة نبيل أنه،‏ ربما،‏ يكتب كثيرون بأمل النجاةمن الحياة والموت معاً!‏ نعم،‏ ربّما يكتب البعض بأمل ‏»تثقيب«‏جنونهم وتعبهم ليسيا تدريجياً‏ وينسكبا،‏ فيتخفّفون منبعض اليأس القاتل في دواخلهم قبل نموّ‏ ه وتعملقه وقضائهعليهم.‏ الفن دائماً‏ كان وسيلة لتحمّل الحياة وتفادي العنفضدّ‏ النفس واآلخر،‏ وسيلة لكي نقول بها:‏ ‏»نعم نريد أكثرمنكم،‏ نحلم أكثر،‏ نتوحّ‏ ش،‏ ندين،‏ نغضب،‏ نريد«‏ وهدفهاإلنقاذي لدى بعضنا ‏)وأنا من تلك الفئة التي جرّبت االنتحاروتَمّ‏ إسعافي قبل أن ينقذني الشعر(‏ أحياناً‏ ال يكون كافياً‏في مواجهة اإلعتام الذي يلقيه عليك الشر واإليذاء المُ‏ تَعَ‏ مَّد.‏أصدق أن بعض السيكولوجيات عظيمة الرهافة التوّ‏ اقة إلىالجمال والعدل والطيبة ال تتخلّى عن منطق الحق في سيرورةالحياة؛ بمعنى أن مكافأة الخير ال ينبغي أن تكون شرّاً‏ خسيساً‏وكمائن..‏ هذه السيكولوجيات حين تتشبَّع بما نفرضه عليها،‏ونسكبه بداخلها من قسوة تقرِّر:‏ سأذهب وحدي.‏الشعور بالفشل في مواجهة الشر،‏ بمعناه الشامل،‏ يمكن أنيدمِّر الفرد،‏ لكن تبقى لكل حالة خصوصيتها،‏ كما رأينا فيرسالة الشاعر المغربي المنتحر عبد القادر حاوفي.‏ األقسىمعرفتنا نحن-‏ األحياء-‏ أنه لن يكون آخر المنتحرين فيالعالم.‏أظهرت دراسة قديمة نسبياً،‏ للبروفيسور جيمس بينيبكرأستاذ علم النفس في جامعة تكساس األميركية،‏ أن الشعراءهم الفئة األكثر مياً‏ لانتحار مقارنة ببقية الكُ‏ تّاب أو الناسالعاديين،‏ وكشفت تحليات بالكمبيوتر لقصائد 9 شعراءمنتحرين،‏ من جنسيات عدّة،‏ أن لغة هؤالء التعساء حملتاختافات جذرية مقارنة بلغة 9 شعراء غيرهم قضوا بصورةطبيعية؛ فمثاً‏ تزايد استخدام من انتحروا لكلمة ‏»أنا«،‏ولمفردة ‏»الموت«‏ كثيراً،‏ وكلما تقدّموا في العمر رصدتالدراسة تراجعاً‏ عن استخدام كلمات مثل ‏»نتكلّم«،‏ ‏»نتشارك«،‏‏»نستمع«،‏ على العكس من تزايد استخدامها في قصائد شعراءتقدَّموا في السنّ‏ ولم ينتحروا،‏ ويرى ‏»بينيبكر«‏ أن الكلماتالتي تبدو غير مهمّة هي التي تكشف عن حقيقتنا.‏دراسات عدة كنت أتعثَّر بها بيَّنَت أن الشعراء أكثر عرضةلقتل أنفسهم من الروائيين والكُ‏ تّاب المسرحيين،‏ لكن الغرابة-‏أيضاً‏ - في أن تقريراً‏ لجيمس كاوفمان صدر في مجلة‏»دراسات الموت«‏ نتاج فحص عَ‏ يِّنة قاربت ألفَيْ‏ شخص ‏)منالصين وتركيا وشرق أوروبا وأميركا(‏ أظهر أن الشعراء كانوايموتون مبكِّراً‏ أكثر ‏)متوسِّ‏ ط عمر الشعراء بلغ 62، ومتوسِّ‏ طعمر الكاتب المسرحي 63، ومتوسط عمر الروائي 66، بينماالكُ‏ تّاب في أشكال أدبية أخرى متوسِّ‏ ط أعمارهم كان ‎68‎‏(؛96


ما يثير تساؤالً:‏ هل الشعر يُقصّ‏ ر العمر؟ كما أظهر التقريرأن الشاعرات أكثر عرضة لإلصابة بأمراض عقلية؛ ومن ثميحاولن االنتحار أو ينجحن فيه أكثر مقارنة بأي كاتب آخر،‏أو بغيرهن من النساء الناجحات؛ ما دفع كاوفمان لوصفاألمر ب ‏»تأثير سيلفيا باث«.‏تتساءل الشاعرة المصرية:‏ هل الشعر قاتل؟ أم السيكولوجياتالميّالة إلى إلسوداوية هي التي تصبح شاعرة،‏ وتتفاوتالنتيجة بحسب قدرة كل حالة على التحمُّل؟ كيف يصل األمرحَ‏ دّ‏ أن يترك أب أسرته،‏ ويستأجر غرفة في فندق ليقتل نفسهوقد ذاب تماماً‏ شعوره بأبوّ‏ ته وبعذاب من سيحوّ‏ لهم إلىيتامى،‏ ربَّما،‏ ال يغفرون له أبداً،‏ وربما يعطفون على تألّمهذات يوم!‏ذكَّرني انتحار الشاعر عبد القادر حاوفي بطريقة انتحارمثقَّفة مصرية من سنوات بعيدة:‏ أروى صالح صاحبةكتاب ‏»المبتسرون«‏ ذَ‏ هَ‏ بَتْ‏ إلى أسرة أصدقاء أو أقارب،‏ ولياً‏سمعوا صوتاً،‏ فإذا بها قد ألقت بنفسها من النافذة،‏ لتسقطميتة على سقف سيارة.‏إبراهيم زولي:‏مَنْ‏ سوى الشعراءيتحمّ‏ ل قبح العالم؟فسحة من الكلمات وقليل من الضوء النبيل،‏ ذلك ما يدّخرهالشاعر في مواجهة العالم.‏ نعم،‏ بمحض إرادته يختار الشاعرطريقة موته،‏ الطريقة التي تتناسب وغربته الوجودية.‏ إنلم يستطع اختيار والدته،‏ فهو يختار حتفه بيديه،‏ لتكوننهايته كما يشاء،‏ ال كما تشاء له الصدف.‏ إنه فعل شعريبامتياز،‏ موقف من العالم الذي يناصبه العداء والسخرية،‏وال عجب أن يكون الشعراء أكثر المنتحرين من سواهم منالمبدعين،‏ فمثاالً‏ ال حصراً؛ خليل حاوي عربيّاً،‏ وعالمياً:‏سيلفيا باث،‏ وآن سكستون،‏ وصاحب ‏»غيمة في بنطلون«،‏الروسي ماياكوفسكي.‏حالة االنتحار-‏ إذاً،وكما يشير الشاعر زولي-‏ ال تبتعد كثيراً‏عن كتابة نصّ‏ مختلف،‏ نصّ‏ مفارق للسائد والمألوف،‏ كاهمافعل يجترح العادي،‏ ويلقي حجراً‏ في نهر واقع موسومبالركود والسكون.‏ هو مقامرة..‏ وحتماً،‏ ستكون القصائد منأوائل المشيِّعين،‏ ووحدها من ستتجمهر على نعشه دون أنتستأذن اآلخرين.‏سهى زكي:‏االنتحار فعل طفوليالمنتحر تُغويه كل وسائل االنتحار طول الوقت،‏ وعدميّتهتشجّ‏ عه دائماً‏ على تبرير كل وسيلة،‏ ويعتقد أن الحياة تتآمرعلى قتله،‏ لذلك يسارع هو إلى قتل نفسه قبل أن يقتله شخصآخر،‏ لم ألُمْ‏ يوماً‏ إنساناً‏ أقبلَ‏ على االنتحار،‏ يعلم اهلل وحدهكيف كانت تلك اللحظة التي دفعته التّخاذ هذا الفعل القاسي،‏وال أستثني نفسي من الوقوع يوماً‏ في مثل هذا الفخّ‏ المأساوي،‏فكل ما يحيط بنا يدفعنا إما إلى الجنون أو إلى العدمية التيتساوي االنتحار،‏ ولكننا-‏ بجنون مختلف-‏ نحتفظ ببعض العقلالحكيم،‏ الذي يشجّ‏ ع على استخدامه من نحبّهم ويحبّوننا،‏ أومسؤولية أُلقيت على عاتقنا أو حُ‏ مِّلت لنا،‏ هنا نتردَّد كثيراً‏قبل اإلقدام على االنتحار،‏ فالنار والكهرباء والحبال والسالموالمصعد الكهربائي واألسطح العالية،‏ كل هذه أدوات قتلللنفس متاحة،‏ لكننا نتجاهل دائماً‏ التفكير في تلك النقطةالسوداء،‏ وننحّ‏ يها جانباً‏ ألن هناك من يحتاجك للحظة أخرى،‏وبقليل من إيمان تصبر على وجع مختفٍ‏ في مكان بعيد في قلبكتقهره باإليمان،‏ وتتغلب عليه فتعيش يوماً‏ بعد يوم.‏ الفرق بينالموت العادي واالنتحار،‏ هو القدرة على احتمال الوجع.‏97


مقالتقليب الرتبة يف الرسد اللبناينلنا عبد الرحمنيختلف المشهد السردي الحالي في لبنان شكاً‏ ونوعاً‏ عماسبقه من إنتاج روائي.‏ لم يعُ‏ د مشهد الحرب اللبنانية يحتلّ‏بؤرة السرد في الكتابات الجديدة كما كان في روايات إلياسخوري،‏ وحنان الشيخ،‏ وإلياس ديري،‏ وغادة السمان،‏وليلى عسيران،‏ ومحمد أبي سمرا،‏ وعلوية صبح،‏ وهدىبركات،‏ وإيميلي نصراهلل،‏ وحسن داود،‏ وإيمان حميدانيونس،‏ ورجاء نعمة،‏ وغيرهم.‏كان مشهد الحرب اللبنانية،‏ يشغل الجزء األكبر من النتاجالروائي اللبناني منذ السبعينات وحتى نهاية التسعينات؛حيث - با مبالغة - لن يجد القارئ رواية لبنانية تخلو من ذكرللحرب،‏ وما تسببت به أوما تركته من آثار،‏ وهذا نتاج طبيعيجدّاً‏ لحرب استمرَّت سبعة عشر عاماً،‏ وكان لها مخلّفات منالدمارين:‏ الجسدي،‏ والنفسي،‏ وتركت إرهاصات مريرةمحفورة في الذاكرة اللبنانية،‏ وفي ذاكرة كل مَ‏ ن عاش فيلبنان خال تلك الحقبة.‏الحديث عن الرواية اللبنانية يستوجب التوقُّف عند تجربةالروائي رشيد الضعيف؛ لما فيها من خصوصية وتنوُّ‏ عفي القدرة على التجريب مضموناً‏ وأسلوباً‏ وفي الكتابة عنالماضي،‏ بحيث يكون المحور األساسي للرواية.‏ ينتميالضعيف إلى زمن الحرب،‏ فهو من مواليد 1945، إال أنالعديد من رواياته تنهض كتعبير جريء عن التمرُّد والرفض،‏بداية من عناوينها الغريبة كما في ‏»تصطفل ميريل ستريب«،‏و»إنسي السيارة«‏ و»ليرنينغ إنجلش«،‏ و»أوكي مع السامة«‏و»تبليط البحر«‏ وغيرها من أعماله.‏قامت كتابة الضعيف على كسر التابوهات بجرأة تترادفمع تحليل أسباب هذا الفعل،‏ ورغم هذا الميل إلى الجرأة فيالعناوين واألفكار،‏ إال أنه عاد في روايته ‏»هرّة سيكيريدا«‏ إلىالحرب األهلية اللبنانية؛ ليروي حكاية أبطاله الذين يعيشونفي بيروت ‏»المدينة المهزومة«،‏ تحت وطأة الحرب والخوفوالتمزُّق والحياة االجتماعية المتداعية.‏لكن الحرب رغم انتهائها،‏ ورغم أنها لم تعُ‏ د بؤرة السرد فيالرواية اللبنانية الحديثة،‏ إال أن الجيل الجديد من الكُ‏ تّاب اختزلذكريات الحرب التي شهدها بين سنوات الطفولة والمراهقة،‏ورغم تفتُّح الوعي في سنوات التسعينيات على بلد يُعادإعماره،‏ إال أن العطب المادي المرئي والعطب النفسي المعيشلمَن عاش معاناة الحرب تركا بصمة واضحة في الرواية،‏ هذاما نجده في روايات ربيع جابر،‏ هالة كوثراني،‏ سحر مندور،‏وكاتبة هذه السطور.‏هناك أيضاً‏ ذاتية وتعبير واضح عن الفردية والتمرُّد،‏ والرغبةفي انتزاع الذات من العبث االجتماعي نجده عند رشا األطرش،‏وهال شومان،‏ وجنى فواز الحسن.‏البطل أو ‏)البطلة(‏ في الرواية اللبنانية الجديدة وحيد،‏ فردي،‏يواجه معاناته الذاتية في تعبيره عن اإلحساس بالغربة،‏والرغبة في الهجرة من بلد لم يتعافَ‏ بعد،‏ ال نقف على رغبةباالنتصار،‏ أو انشغال بأفكار كبرى،‏ أو قضايا قومية ، بلتسيطر حالة من العبث،‏ والحاجة إلى الهروب من واقع ثقيليدفع بالفرد للبحث عن حلول فردية للنجاة،‏ بعد رؤية ماشوّ‏ هَّ‏ ته الحرب في النفوس،‏ وما دمَّرته في الواقع،‏ وهكذاتكون الغاية المرجوة هي األمان وحسب،‏ االستقرار في بلد اليوشك على خوض حرب جديدة.‏نجد هذا في رواية ‏»األسبوع األخير«‏ لهالة كوثراني:‏ البطلةمحبطة وتريد الهجرة إلى دبي،‏ ولم يبقَ‏ أمامها سوى أسبوعواحد قبل مغادرة بيروت؛ لذا نراها تقوم بمراجعة للوعيالسابق بكل ما حدث معها وحولها،‏ وتخيّم في جزء منالسرد ذكريات الحرب،‏ وليالي القصف وأصوات الرصاص،‏ومحاوالت االختباء من القذائف.‏في رواية ‏»االعترافات«‏ لربيع جابر،‏ يحكي البطل الساردعن الحرب األهلية اللبنانية في العامين 1975 و‎1976‎‏،‏ كيفيمارس أحد األبطال القتل بجنون ووحشية ألنه فَقَدَ‏ ابنهالصغير مارون،‏ وذات مرة يطلق النار على سيارة مدنية،‏يقتل كل مَ‏ ن فيها،‏ لكنه يجد داخلها طفاً‏ صغيراً‏ لم يمُ‏ ت،‏يأخذه القاتل،‏ يداويه ويحتضنه ويربّيه ويسمّيه باسم ابنهالميّت ، بعد سنوات طويلة يعرف مارون حكايته،‏ يبحث عناسمه الحقيقي وعن أهله الذين قُتلوا،‏ دون أن يتوصَّ‏ ل إلىنتيجة حاسمة تكشف له هويّته.‏يُعَ‏ دّ‏ ربيع جابر األكثر زخماً‏ في اإلنتاج الروائي بين الجيلالحديث من الكُ‏ تّاب في لبنان،‏ يتنوّ‏ ع إنتاجه بين الروايةالتاريخية كما في ‏»بيروت مدينة العالم«،‏ وبين العديدمن الروايات التي ينتقل فيها بين الماضي والحاضر:‏ مثل‏»أميركا«،‏ و»دروز بلغراد«،‏ و»طيور الهوليدي إن«،‏ و»يوسفاإلنكليزي«‏ و»تقرير ميليس«‏ وغيرها،‏ لكنَّ‏ ‏)جابر(‏ فيكتابته يتَّكل على السرد التقليدي من حيث الحكاية والحبكةوالوصف؛ ليشكّل لعبته الروائية في قدرته على جذب القارئعبر التفاصيل اإلنسانية الدقيقة،‏ والحسَّ‏ اسة التي تميّز نصَّ‏ ه،‏وتمنحه ثراءً‏ وبعداً‏ إنسانياً‏ ملموساً.‏تنهض الحرب اللبنانية كخلفية لألحداث في رواية ‏»مينا«،‏98


اللوحة:‏ ضياء العزاوي-‏ العراقعبر شخصية نايلة التي تعمل على تأليف نصّ‏ عن الحرب،‏ منوجهة نظر ذكريات الناس عنها ضمن مَ‏ ن هُ‏ مْ‏ في سنّ‏ الثاثين،‏أي أن ذكرياتهم عن الحرب ستنطلق من سنوات الطفولة؛أي ليسوا شهوداً‏ على واقع سياسي معيَّن بقدر استحضارما نقشته الحرب في وعيهم الماضي.‏ تطرّقت رواية ‏»مينا«‏للعاقات المثليّة،‏ من خال بطلة روايتها،‏ وال يمكن أن يمثّلطرح هذه القضية تجديداً‏ في الكتابة،‏ فقد سبق وأن تناولتحنان الشيخ موضوع المثليّة في روايتها ‏»مسك الغزال«.‏في مقابل حضور الحرب كخلفية سردية للحدث في الروايةاللبنانية الحديثة تبرز حياة األبطال مثل ستارة سوداء خلفالمشهد الرئيسي،‏ تحضر الوجودية الفردية التي تتقاطع‏-إلى حَ‏ دّ‏ ما-‏ مع الرواية المصرية المعاصرة،‏ ففي رواية رشااألطرش ‏»صابون«‏ نقف على ميل واضح نحو السرد الذاتيالمتحرِّر من الخلفية التاريخية للحرب؛ لتقدِّم صورة لنسق منالعاقات الشبابية الشائعة في بيروت في الزمن الحالي،‏ بكلما فيها من تخبُّط واضطراب نفسي،‏ يبدو وليدَ‏ عدم استقراراجتماعي؛ حيث الهزيمة في العاقات الخاصة تطغى علىالرواية بمجملها،‏ ويمكن عدّها محور األحداث.‏هذا ما نجده أيضاً‏ في روايتي هال شومان ‏»نابوليتانا«‏و»ليمبو بيروت«،‏ ففي رواية ‏»نابوليتانا«‏ يكشف البطلالسارد هيثم عن تفاصيل واقعية من حياته الشخصية،‏وأزمته الوجودية في عاقته مع العالم الخارجي سواء فيقصة حبّه المضطربة،‏ أو في طبيعة تواصله مع أصدقائه،‏لكن ظال الحرب تحضر في روايته ‏»ليمبو بيروت«،‏ التي تبدوأكثر تشعُّ‏ باً‏ وعمقاً‏ من ‏»نابوليتانا«،‏ من حيث تعدُّد الشخصياتوتنوّ‏ عها،‏ وقدرة الكاتب على تقديمها في تقنية سردية تَتَّكلعلى المشهد البصري في كشف ما تريده.‏في رواية ‏»أنا هي واألخريات«‏ تواجه جنى الحسن األزماتالمتكرّرة في عالم النساء؛ كما يتّضح من عنوان الرواية هناك‏»األنا«‏ في مواجهة العالم اآلخر الغريب،‏ لكن على مدار النصيتكشَّ‏ ف-‏ رويداً‏ رويداً-‏ أن ‏»األنا«‏ التي تكشف الراوية ‏»سحر«‏حكايتها ال تنفصل عن صوت ‏»هي«‏ أيضاً،‏ وال عن أصواتالنساء جميعاً،‏ ال تلعب جنى الحسن على تنوُّ‏ ع طرق السرد،‏وال تستعين بأساليب سرد مركَّبة بقدر ما تكشف عن تشظّ‏ يالذات في صراعها مع المجتمع وانقسامها إلى أكثر من هويّةوأكثر من وجه.‏أما ألكسندرا شريطح في روايتيها ‏-األقرب للنوفيا-‏ ‏»عليوأمّ‏ ه الروسية«‏ و»دايماً‏ كوكا كوال«،‏ فإنها تقدّم صوراً‏ تتشكّلعبر حكايات تعرّي تناقضات المجتمع اللبناني سواء منالجانب الديني أو االجتماعي.‏ تميّزت كتابة شريطح بجرأةمباشرة،‏ وسخرية في مقاربة موضوعاتها التي تدور ‏-أيضاً-‏حول حاالت فردية في عاقتها مع الجسد والجنس تحديداً،‏ال تشغلها قضية كبرى،‏ بقدر ما يشغلها الهاجس الذاتي فيتقاطعه مع اآلخر؛ مع تركُّز المشهد السردي عند شريطح فيدور السارد المراقب الذي ال يتردَّد في قول كل ما يريده،‏ مهمابدا صادماً.‏99


كامل الرياحياستقرَّت نوبل لآلداب،‏ هذا العام،‏ على الروائي الفرنسي باتريك موديانو، وأجّ‏ لت االلتفات إلى مشاهير الرواية األميركية،‏ مثل بول أوستر،‏ الذيما يزال ينتظر فرصة لإلمساك بالشّ‏ رف األدبي العالمي األغلى.‏فيما يلي مقاربة لعوالم وأعمال صاحب ‏»رجل في الظالم«.‏كاتبُ‏ مصادفاتيُعَ‏ دّ‏ بول أوستر )1947 - ...( أحد أهمّ‏ نجوم الرواية الغربيّةفي القرن العشرين.‏ ثمّة أسباب جوهريّة تجعل من أوستركاتباً‏ مهمّاً،‏ هي األسباب نفسها التي تجعل من صموئيلبيكيت،‏ وشيروود أندرسون،‏ وكوتزي وهمينغواي،‏ وفوكنر،‏وفيليب روث،‏ وغيرهم كتّاباً‏ مهمّين:‏ الرؤية المقلوبة للعالَمبصورته الثابتة أمام العَ‏ ين،‏ األحداث الضاربة في عبثيّتهاتأكيداً‏ لواقعيّتها،‏ الخيال الذي يسبحُ‏ في بحيرة الواقع.‏ أوسترال يبتعدُ‏ كثيراً‏ عن الواقع،‏ وهو بذلك كاتب ما بعد حداثيّ‏ فيكَ‏ ونه قادراً‏ على محاورة العالَم واإلنسان والواقع بالتخييل.‏تخرَّجَ‏ أوستر في جامعة كولمبيا حيثُ‏ تتلمذَ‏ هناك على يدالمفكّر العربي إدوارد سعيد،‏ ثمّ‏ اختار أن يشتغل مهناً‏ بعيدةكل البعد عن تخصُّ‏ صه،‏ فالتحَ‏ قَ‏ بالعمل على ناقلة بترول.‏وصل إلى باريس هرباً‏ من كآبة الواليات المتحدة بعد حربالفيتنام.‏ هناك،‏ عمِلَ‏ أوستر الشّ‏ اب حارساً‏ ألحد المنازل،‏100


ثم انتقل للعمل بالترجمة من أجل الخبز وحده.‏ كان يترجمكتباً‏ متوسِّ‏ طة القيمة وغير هامّ‏ ة أحياناً.‏ وفي الوقت نفسهكان يترجم بعض أعمال السرياليين،‏ وقد مثّلَ‏ ذلك جزءاً‏ منتكوينه األدبي.‏لعلّ‏ صور الكاتب طفاً‏ وصوره شاباً‏ ثم بالغاً،‏ في مقاطعمن سيرته المحوّ‏ رة أو المعجونة بسيَر البشر اآلخرين الّذينالتقى بهم على مرّ‏ السنوات،‏ كلّها تجذب القارىء إلى عوالمهالروائيّة وإلى سرده الحميميّ‏ . فالقارىء يعرفُ‏ مسبقاً‏ أنّ‏ ثمّةنميمة أدبيّة يخترق القارىء عبرها شيئاً‏ من حياة الراوي-‏الكاتب.‏ وهو بذلك يؤسِّ‏ س لميثاق بينه وبين القارىء يتّفق،‏عبره،‏ االثنان على كتابة الرواية،‏ وعلى قراءتها.‏كتب بول أستر الشعر،‏ في البداية،‏ وكذلك بعض النثر،‏وكعادة الشعراء الخائنين للشعر،‏ مرّ‏ بمرحلة جفاف كليّ‏ لميكتب فيها شيئاً‏ ليعود إلى الكتابة متحوّ‏ الً‏ إلى الرواية،‏ فكتبفي البداية رواية التحرّيات ؛ وهو جنس متفرِّع من الروايةالبوليسية،‏ كتبها من أجل المال،‏ ونشَ‏ رَ‏ ها باسم مستعار،‏ ثمكتَبَ‏ رواية رفضتها أكثر من أربعين دار نشر حتى استقرَّت فيدار فرنسية صغيرة لتكون انطاقته من هناك.‏يقول بول أوستر متحدّثاً‏ عن ضرورة القصص:‏‏»إننا بحاجة إلى القصص بقدر حاجتنا إلى الطعام والهواءوالماء والنوم.‏ ألن القصص هي نغمات متنافرة مدوّ‏ يةوصاخبة.‏ روافد من مايين االنطباعات المتدفِّقة علينا كللحظة،‏ وفصل أو عزل منمنمات وشظايا ذلك الطوفان أوالغزو،‏ والقدرة على إعادة صهرها وترتيبها معاً‏ ثم ربطها فيدوران الزمن،‏ هو ما تفعله القصص«.‏النقّاد احتاروا في تصنيف أعماله الروائية،‏ فقد جاءت مزيجاً‏من روايات التحرّي البوليسية والروايات الوجودية مستفيدةمن التراث الروائي العالمي األوروبي ومن كاسيكيات النثرالعالمي،‏ وفي الوقت نفسه هي منغمسة في الراهن السياسيالعالمي،‏ وتُقارِ‏ ب متونه،‏ وتطرح أسئلته.‏يعتمد أوستر على وقوع الصّ‏ دفة في األحداث.‏ هذه الصّ‏ دفةهي ما يحرّك البَشر وواقعهم،‏ ولعلّ‏ هذه الفكرة المتجذّرةفي أغلب ما كتب،‏ تحتاج إلى دقّة في التعبير السّ‏ رديّ‏ وإلىتمارين تأمّ‏ ليّة تستغرق أشهراً‏ وسنوات.‏ فالكاتب يقول فيأحد تصريحاته إنه يفكِّر في العمل األدبي لمدّة سنوات،‏ حتىتصبح الشخصيات جزءاً‏ من حياته وهواجسه وال وعيه،‏ فاتعود تفارقه عندما يشرع في كتابتها على الورق.‏في كتابه ‏»الدفتر األحمر«‏ )1992( يرسم أوستر لوحاتقصصية غاية في الرشاقة السردية،‏ قصصاً‏ يتراوح طولهابين صفحة وأربع صفحات،‏ ويحقّق منجزاً‏ أدبياً‏ في عدّةمستويات؛ إذ نراه يوغل في أحداث واقعيّة حدثت للكاتبمع محيطه الذي يتّخذ منه موضوعات لكتابه:‏ كيف احترقت-‏صدفةً‏ - فطيرة بصل في لحظات جوع حرجة،‏ وكيف أدتالصّ‏ دفة البحتة القائمة على الخطأ الى تأليف روايته،‏ وكيفضيّعت الصّ‏ دفة القدرية على الطفل بول فرصة أخذ توقيع منبطله المحبوب بسبب قلم رصاص.‏ حكايات كثيرة يعجّ‏ بهاهذا الكتاب الصّ‏ غير،‏ تتمازج بفعل الصّ‏ دفة والواقع،‏ أو واقعيّةالمصادفة،‏ التي ارتكزت عليها كتابة أوستر على مدار أكثر منثاثة عقود.‏‏»وُ‏ لِدت أول رواية كتبتها بفعل خطأ في رقم.‏ في إحدىالظهيرات؛ فبينما أنا جالس لوحدي إلى الطاولة في شقَّتيفي بروكلين أحاول أن أعمل،‏ رنّ‏ جرس الهاتف،‏ إن لم أكنمخطئاً‏ كان ذلك في ربيع العام )...( 1980 رفعت السماعة،‏وإذا بأحدهم في الطرف اآلخر يسأل إذا ما كان قد وصل إلىوكالة فينكرتون.‏ قلت:‏ ال،‏ خطأ في الرقم،‏ وقطعت المكالمة.‏ثم عدت إلى عملي وسرعان ما نسيت أمر المكالمة.‏في ظهيرة اليوم التالي رنَّ‏ جرس الهاتف من جديد.‏ تبيَّنأنه الشخص نفسه،‏ وأعاد سؤال اليوم السابق نفسه:‏ ‏»هلوصلت إلى وكالة فينكرتون؟«‏ قلت:‏ ال،‏ مجدَّداً،‏ وقطعتالمكالمة،‏ لكني هذه المرة بدأت أفكِّر:‏ ماذا كان سيحدث لوأجبت باإليجاب؟.انتظرت أن يرنّ‏ الهاتف من جديد،‏ لكنالمكالمة الثالثة لم تأتِ‏ .عندما شرعت بكتابة ‏»مدينة الزجاج«،‏ تحوَّ‏ ل خطأ الرقم إلىالحدث الحاسم للكتاب،‏ خطأ حرَّك القصّ‏ ة بكاملها.‏ شخصباسم ‏»كوين«‏ يتلقّى اتّصاالً‏ من شخص يطلب محادثة بولأوستر،‏ المحقِّق الخصوصي.‏ بالضبط كما فعلت أنا،‏ يقولكوين للمُ‏ تَّصل إنه أخطأ في الرقم.‏ يحدث األمر نفسه فيالمساء التالي،‏ ويقطع كوين المكالمة من جديد.‏ لكن كوين،‏خافاً‏ عني،‏ يحظى بفرصة أخرى.‏ عندما يرنّ‏ الهاتف فيالمساء الثالث،‏ يندمج مع المُ‏ تَّصل،‏ ويجازف.‏ نعم،‏ يقول:‏ أنابول أوستر.‏ وفي تلك اللحظة تبدأ المغامرة.«.‏ومن طقوس أوستر أنه يكتب بقلم الرصاص،‏ ثم ينقل،‏ آخرالنهار،‏ ما يكتبه إلى اآللة الكاتبة العجوز رافضاً‏ استعمالالكمبيوتر.‏ مازال يعيش فوبيا فقدان ما قد يكتبه علىالكمبيوتر:‏ رجل نيويورك يخشى التكنولوجيا ومنتجاتالحداثة!.‏لقلم الرصاص معه قصّ‏ ة ذَ‏ كَ‏ رها في ‏»الدفتر األحمر«:‏ فيطفولته كان يعشق البايسبول،‏ ويحبّ‏ العباً‏ شهيراً‏ آنذاك،‏وفجأة اعترضه في الشارع،‏ فلم يصدِّق الطفل بول أوستر،‏فهُرِع إليه يريد أوتوغرافاً،‏ طلب منه الاعب قلماً‏ فلم يعثر فيجيبه على أي شيء يكتب به،‏ تركه الاعب ومضى،‏ فظلّ‏الطفل يبكي على الحظّ‏ التعس.‏ من يومها يحمل بول أوسترفي جيبه قلم رصاص،‏ وقلم حبر،‏ ويقول ‏»إن فسد قلم الحبرفسيكون قلم الرصاص موجوداً‏ حتى ال أضيِّع على نفسيفرصة أخرى«.‏أوستر أديب من طراز رفيع،‏ يمارسُ‏ طقوسه في الكتاببثبات وروتينيّة.‏ ولعلّ‏ هذه الروتينيّة،‏ وهذا االستقرار فيالحياة في مثل هذه السّ‏ ن،‏ هما ما جعا منه اليوم كاتباً‏ عميقاً‏وغزيراً‏ وجريئاً‏ ومتنوّ‏ عاً،‏ متعدّد الرؤى،‏ يكتبُ‏ من زوايامختلفة تعكسُ‏ نظراته المتعدِّدة إلى العالَم وإلى المحيط.‏101


102


ابتداع العزلةحميد عبدالقادرلمقاربة الرواية الفنية في أميركا،‏ واالشتغالعلى تطوُّ‏ ر الثيمات،‏ ال مناص من العودة إلىمنتصف القرن الثامن عشر،‏ فهو التاريخ الذيعرف بروز الرواية الفنية بدءاً‏ بإدغار آالن بو)1808 1849(، - الذي دفع باألدب نحو حدود‏»الفنتانزتيك«،‏ والغرائبية،‏ إلى نثانيال هوثورن1804( ،)1<strong>86</strong>4 - وهرمان ملفيل 1819( - )1891الذي ألّفَ‏ رائعة ‏»موبي ديك«‏ )1851(، التي لميكتشفها جمهور القرّاء إال بعد سنة 1920. ويظلمارك توين )1835 - 1910(، الكاتب الذي أعطىالرواية األميركية أبعادها الفنية.‏ وهو أوّ‏ ل أديبيبرز من جهة الغرب،‏ بعيداً‏ عن صالونات ‏»نيوإنجلند«‏ في الشرق،‏ وبالضبط من ضفاف نهر‏»ميسوري«.‏ واستطاع توين بفضل كتاباتهاألدبية المتأثِّرة بالصحافة ‏)مغامرات توم سوير،‏وهاكلبيري فين(‏ أن يغيِّر من نظرة األميركيين إلىلغتهم،‏ فأبطاله يتحدّثون لغة أميركية هي خليطمن اللهجات المحلّيّة،‏ واللكنات الجهوية.‏قال فولكنر إن األدب األميركي بأكمله قد خرج منمغامرات ‏»هاكلبيري فين«.‏ أما هنري جيمس الذيوُ‏ لِد سنة 1843، فهو من األوّ‏ لين الذين أدخلواالرواية إلى فضاء الواقعية،‏ التي ستتطوَّ‏ ر بشكلكبير،‏ من 1880 إلى غاية الحرب العالمية األولى.‏تميَّزت الرواية األميركية خال مرحلة ما بعد1880، بتفضيل النزعات السيوسولوجية،‏واإلثنية،‏ والسياسية،‏ على حساب األبعادالجمالية لألدب،‏ فبرز روائيون تركوا بصماتهم،‏على غرار ستيفان كرين )1871 - 1900( صاحبرواية واقعية سوداء حملت عنوان ‏»ماغي ابنةالشوارع«‏ )1893(، وهي رواية متأثِّرة بتيار‏»المذهب الطبيعي«،‏ الذي أوجده إيميل زوال فيفرنسا.‏ تدور أحداثها حول عصابات المتشرِّدينفي نيويورك،‏ وتُعَ‏ دّ‏ أول رواية أميركية مليئةبالبذاءات وحديث الشارع.‏ أما الروائي ثيودوردرايزر )1871 - 1943(، صاحب رواية ‏»سيستركاري«‏ )1990(، فكان أوّ‏ ل األدباء الذين تأثّرواباالشتراكية،‏ التي انتقلت-‏ الحقاً-‏ إلى أبتونسنكلير،‏ وسنكلير لويس برواية ‏»آلمر غونتري«،‏وجاك لندن )1876 - 1916(، وروايته ‏»مارتنايدن«‏ التي جاءت كمرافعة ضدّ‏ الفردانية.‏ وكانلندن أوَّ‏ ل روائي أميركي يحقِّق ثروة طائلة بفضلالكتابة اإلبداعية.‏وتميَّز العقدان األول والثاني من القرن العشرين،‏بكونهما فترة مفصلية شَ‏ كَّلت نقطة تحوّ‏ ل فيحياة األميركيين،‏ أخاقياً‏ ومادياً‏ واجتماعياً،‏أطلقت عليها تسمية ‏»عصر الجاز«،‏ ومعها برزتيّار أدبي جديد،‏ سُ‏ َ مِّي ‏»الجيل الضائع«،‏ الذيبلغ مرحلة النضج خال الحرب العالمية األولى.‏أعطى هذا الجيل الرواية األميركية بُعدَها الجماليالمفتقد سنوات الواقعية المفرطة،‏ فظهرت أسماءروائية مثل إرنست همنغواي )1891 - 1961(،وفرنسيس سكوت فتزجيرالد )1896 - 1940(.ونتوقَّف عند ذكر هذين الروائيين كونهما األكثرقدرة على تغيير مسار الرواية األميركية،‏ بفضلأعمال مثل رواية همنغواي ‏»الشمس تشرق أيضاً«‏التي غيَّرت أسلوب الكتابة والحياة في أميركا،‏فتحوَّ‏ لت بطلتها ‏»آشلي بريت«‏ إلى أنموذج يقتدىبه وسط الفتيات األميركيات منذ صدورها سنة1926. ووضعت الرواية همنغواي في مرتبةالروائي المجدِّد.‏ كما تركت رواية ‏»غاتسبي103


العظيم«‏ )1925( لفيتزجيرالد أثراً‏ عميقاً‏ ما يزال مستمرّاً‏ إلىالوقت الراهن.‏ تُعَ‏ دّ‏ ‏»غاتسبي العظيم«‏ أحسن رواية أميركيةلكل العصور.‏ وتصوِّ‏ ر فترة رواج موسيقى الجاز،‏ حينماأخذ االقتصاد األميركي يحقِّق نموّ‏ اً‏ غير مسبوق،‏ رافقه عصراالستهاك والسعي وراء المتع الحسّ‏ ية.‏أما وليام فولكنر فقد كان أكثر الروائيين األميركيين استفادةمن أدب ‏»تيار الوعي«،‏ الذي تأسَّ‏ س في أوروبا على يدفيرجينيا وولف،‏ واعتمد على االبتكارات اللغوية،‏ والرسمالحيّ‏ للشخصيات،‏ وقدّم أعماالً‏ روائية تقوم على تعدُّدالحكي والنظر،‏ وعلى االنزياحات الزمنية ضمن السرد.‏حين ألّفَ‏ فولكنر رواية ‏»الصخب والعنف«،‏ شعر الروائيوناألوروبيون ألول مرة،‏ أن رواية جديدة ظهرت-‏ أخيراً-‏ فيأميركا،‏ رواية قادرة على مواجهة الرواية األوروبية،‏ فكتبعنها ‏»ألبير كامو«‏ ما يلي:‏ ‏»إنه عالم ينهار،‏ أقلّ‏ ما يمكنناأن نقول عن هذا الكاتب إنه رجل أمسك بسِ‏ رّ‏ األدب،‏ وجعلألميركا أدباً‏ تجابه به األدب األوروبي«.‏ وفي أميركا لم تلقَ‏الرواية أي استحسان من قِبَل النقّاد والقرّاء،‏ ألن فولكنر الذيأعاد ابتكار الجنوب األميركي،‏ ألقى بشخصياته في حاالتمن اليأس والقنوط،‏ في وقت كان ال يزال فيه الحلم األميركيواعداً‏ وممكناً.‏وبالموازاة مع بروز ‏»الجيل الضائع«،‏ كتب جون شتاينبك)1902 1968( - المولود بساليناس في كاليفورنيا رواياتعن مآسي عائات المزارعين في الجزء الغربي من أميركا،‏فاستنهض الواقعية من جديد،‏ ووقف بأعماله إلى جهةاليسار،‏ مثلما هو الحال في روايته ‏»عناقيد الغضب«‏ )1939(،أو ‏»في معركة مشكوكة«،‏ التي تقترب من نضاالت النقابييناألميركيين،‏ وتفضح تجاوزات كبار الماّ‏ ك.‏ وفي الفترةنفسها صوَّ‏ ر ريتشارد رايت )1908 - 1960( في أعمالهالروائية،‏ حياة الزنوج كضحايا للفقر والسياسة في الجنوبالمتعصِّ‏ ب،‏ المنغلق على عقلية عنصرية.‏ ومن جهته تناولأرسكين كالدويل )1903 - 1987( في معظم رواياته،‏ بدءاً‏من رواية ‏»طريق التبع«،‏ وصوالً‏ إلى ‏»أرض اهلل الصغيرة«،‏وقائع الحياة الريفية في الجنوب،‏ وبؤس المزاعين البيض،‏وظلَّ‏ كالدويل مرشَّ‏ حاً‏ لجائزة نوبل إلى غاية 1960، لكنالحظ لم يسعفه.‏أما جون دوس باسوس )1896 – 1970(، فقد سار على خطىفيتنجيرالد،‏ وتبوَّ‏ أ مكانة مميَّزة،‏ بفضل أعمال روائية صوّ‏ رتكيف ركضت أميركا وراء مجتمع استهاكي فرداني،‏ إذ نقلأجواء الخيبة والفشل،‏ وآثارها على حياة الفرد األميركي.‏لقد تطرق إلى كل ما أدى إلى االنهيار االقتصادي الكبير عام.1929ومن جهته وضع جيروم.‏ ديفيد سالينجر )1919 - 2010(،في روايته ‏»الحارس في حقل الشوفان«‏ )1951(، التي يُباعمنها إلى اليوم أكثر من مئتين وخميسن ألف نسخة سنوياً،‏في كل لغات العالم تقريباً،‏ وتحقِّق أرباحاً‏ تتجاوز خمسةوستين مليون دوالر،‏ الروايةَ‏ األميركية عند حدود مختلفة،‏عبر تناول حياة المراهق هولدن كولفيلد،‏ ذي السبعة عشرعاماً،‏ والذي يزدري مجتمعه،‏ ويرى أن األفراد جميعاً‏ غارقونفي نوع من الزيف والغباء.‏ وكما فعل سالينجر،‏ ألقى هنريميللر )1891 - 1981( بالكتابة األدبية في قلب الحياة،‏ ما جعلَ‏أعماله خليطاً‏ من السيرة الذاتية،‏ والنقد االجتماعي الصارم،‏والنظرة الفلسفية والتصوف.‏وفي الخمسينيات،‏ كذلك،‏ ظهرت حساسية أدبية جديدة،‏أطلق عليها النقاد تسمية ‏»جيل بيت«،‏ وذلك بفضل ثاثةأدباء،‏ هم وليام بوروز،‏ آالن غينسبرغ،‏ وجاك كيرواك.‏رفضت مجموعة ‏»جيل بيت«‏ الحياة األميركية لما بعدالحرب العالمية الثانية،‏ بعد أن غرقت في التمجيد المبالغفيه والوطنية المفرطة،‏ وصوَّ‏ رت معاناة جيلٍ‏ انساقَ‏ وراءالمخدّرات والجنس.‏ وحين كتب وليم بوروز )1914 - 1997(رواية ‏»وليمة عارية«‏ ونشرها في باريس سنة 1959،تحوَّ‏ لت إلى مرجعية أدبية،‏ بفضل لغتها المرنة،‏ ومخيالهاالامحدود،‏ وجملة االستعارات والفضائح التي تمأل الكتاب.‏ومن جهته نشر جاك كيرواك )1922 - 1969( رواية مماثلةبعنوان ‏»على الطريق«‏ )1957(، فجاءت كردّ‏ فعل على أميركاالتي لم تخرج،‏ بعدُ،‏ من بيوريتانية تحمل بين ثناياها مظاهر‏»السأم،‏ واالبتذال،‏ واالمتثال«،‏ وتكبح تلك الرغبة الجامحةفي الحياة على وقع التجربة واالكتشاف.‏ وظل كيرواكيعتقد،‏ منذ سفره الشهير إلى المكسيك سنة 1950، أن النقاءال يوجد إال بين المهمَّشين والفقراء والمقصيّين.‏ أما غير ذلك،‏فهو ليس إال خداعاً‏ واحتياالً،‏ بل إنه المكر الذي يُعَ‏ دّ‏ منالتعاليم األساسية التي يروّ‏ ج لها الحلم األميركي.‏وفي السبعينيات،‏ بدأت تبرز حساسية أدبية جديدة،‏ يمثّلهاروائيون قادمون من مدن داخلية،‏ على غرار جيم هاريسون‏)ميتشيغان - 1937(. يعدّ‏ هاريسون من أشهر الروائيين فيأميركا حالياً،‏ يعنى في أعماله بمواضيع الرجولة والبرّيّةاألميركية،‏ وكأن شيئاً‏ لم يتغير منذ القرن الثامن عشر،‏ منذرعاة البقر،‏ وتأوّ‏ هات الهنود الحمر.‏ وقد أوصل هاريسونالرواية األميركية إلى أبعد حدود النقد،‏ عندما قدّم أجداداً‏ بنوا104


مجدهم وثراءهم الفاحش على نهب الغابات وإبادة التجانس.‏وميزة هاريسون أنه يشبه آرنست همنغواي في إظهار منتبقى من الهنود في صورة إنسانية بعيدة عن النمطية التيبرزت في أفام ‏»رعاة البقر«.‏ ومثل هاريسون،‏ يفضِّ‏ ل كورماكمكارثي)‏‎1933‎ - رود آياند(‏ تخوم المكسيك على صخبالمدن،‏ لمعالجة ثيمة ‏»القيامة«،‏ والتدهور المطلق،‏ مثلماهو الحال في روايته الشهيرة ‏»الكبار ال وطن لهم«.‏ وعلىخاف مكارثي،‏ يفضِّ‏ ل ‏»داي دي ليلو«‏ المولود في نيويورك)1936(، ضجيج المدن،‏ للتعبير عن التيه األميركي لمرحلة مابعد الحداثة،‏ عبر تناوله مواضيع القلق والموت،‏ في أعمالروائية مثل ‏»أميريكانا«،‏ أو ‏»غريت جونز ستريت«.‏ ويضافإلى تيار ما بعد الحداثة الذي ينتمي إليه ‏»دي ليو«،‏ الروائيتوماس بينشون،‏ ‏)درس األدب على يد فاديمير نابوكوففي جامعة كورنيل(،‏ الذي ينقلنا الى األماكن األكثر غموضاً‏في الذات اإلنسانية.‏ ويعدّ‏ فيليب روث ثالث روائي ينتمي لهذاالتيار،‏ ويعتقد روث بأن الكتابة اإلبداعية عبارة عن معركةمستمرة ضدّ‏ الحماقة.‏ حين نشر رواية ‏»الرعوية األميركية«‏سنة 1997، التفت إلى تاريخ أميركا ضمن ثاثية روائية.‏وبعد رواية ‏»الرعوية األميركية«‏ نشر الجزء الثاني بعنوان‏»تزوّ‏ جت بشيوعي«،‏ ثم جاءت رواية ‏»الوصمة البشرية«‏ سنة2000، فقدَّم من خالها تفكيراً‏ عميقاً‏ في الشخصية األميركيةمنذ األربعينيات.‏ أما توني موريسون الحائزة على جائزةنوبل لآداب سنة 1993، فعادت إلى تقاليد ريتشارد رايث،‏وروح وليام فولكنر،‏ الستعادة ما تبقّى من الذات للزنوج.‏الروائي في عزلتهبقيت الرواية األميركية تعرف تنوُّ‏ عاً‏ من حيث الثيماتواألجواء وأساليب الكتابة،‏ تتجدّد عبر أزمنة مختلفة،‏ وتسيرخاضعة للتنوُّ‏ ع الجغرافي أحياناً،‏ ولتأثير التيارات الفلسفيةواألدبية التي كانت تظهر هنا وهناك،‏ تماماً‏ كما خضعتللراهن،‏ ولروح العصر.‏ وفي خضم هذا التطوُّ‏ ر،‏ برز،‏ خالالسنوات األخيرة،‏ روائيّون أميركيون مقتدرون،‏ تناولواحتى ماهية الرواية كما حدث مع بول أوستر.‏لقد قدَّم أوستر أعماالً‏ روائية مختلفة،‏ تبحث عن معنىالكون واإلنسان،‏ فهو أكثر الروائيين األميركيين انفتاحاً‏ علىالثقافات األخرى،‏ وتكمن قوته في أنه يملك القدرة على وضعالقارئ في متاهة السرد واستطرادات ال نهاية لها.‏ فكتبت عنهصحيفة ‏»سان فرانسيسكو كرونيكل«:‏ ‏»يمتلك أوستر موهبةً‏هائلةً‏ في خلق عوالمَ‏ فانتازيّة وقابلة للتصديق في الوقتنفسه«.‏من ثاثيته النيويوركية الشّ‏ هيرة اتَّضح أن هاجس أوستر،‏هو أن األحداث تحدث بسرعة من حولنا،‏ وتخضع للصدفة،‏وعليه-‏ بوصفه كاتباً-‏ أن يدوِّ‏ ن ما يحدث من حوله حتىال تختفي تلك األحداث،‏ وظلَّ‏ يسير على هذا التصوُّ‏ ر حتىروايته األخيرة الصادرة سنة 2013 بعنوان ‏»وقائع شتوية«،‏حيث رسم صورة الفنان وهو يسير إلى الشيخوخة،‏ حتىأننا نجده يطرح السؤال التالي في رواية ‏»موسيقى الصدفة«‏)1991(: ‏»عند أيّ‏ منعطف تلتقي األحداث العشوائية والصدفوتتّخذ لها طابعاً‏ حتمياً؟«‏ إن الصدفة هي التي جعلت شخصية‏»جيم ناش«‏ في رواية ‏»موسيقى الصدفة«‏ يعرف لحظة فريدةمن حياته العامرة بالفرحة والتعاسة معاً؛ فبعد أن كان يعملفي إطفاء الحرائق هبطت عليه ثروة مقدارها مئتا ألف دوالر،‏يرثها عن أبيه الذي لم يلتق به أو يحادثه منذ سنوات بعيدة،‏فيقرِّر أن يختار طريق الحرّية متنقّاً‏ بسيارته في كل أرجاءأميركا با هُ‏ دى حتى تنفد النقود،‏ فيعود-‏ من حيث أتى - كماكان.‏وبالرغم من مرور أكثر من عشرين سنة على روايته األولى‏»ابتداع العزلة«،‏ يظلّ‏ اإلنسان المتوحِّ‏ د ومسألة العزلة ثيمةرئيسة في أعماله الروائية.‏ يروي أوستر في هذه الرواية،‏ومن زاوية واقعية وفلسفية،‏ قصة عائلته انطاقاً‏ منوفاة والده،‏ فيغوص في تاريخ العائلة المثقل بالجراح،‏تلك العائلة اليهودية غريبة األطوار،‏ والتي عاش أفرادهامتوحِّ‏ دين،‏ بعضهم مصاب بالعصاب،‏ وأخرون منغلقونعلى أنفسهم،‏ ويشكِّل العالم الخارجي-‏ بالنسبة إليهم-‏ عالماً‏مخيفاً‏ يجعلهم يركنون إلى العزلة والتوحُّ‏ د.‏وعاد أوستر مرة أخرى إلى موضوع العزلة والعائلة فيروايته الرابعة ‏»مون باالس«‏ )1990(، لكن،‏ هذه المرة بِنِيّةمحاولة التأثير على العزلة،‏ وتغيير مسار الحياة،‏ وعدماالنسياق وراء التأثيرات السلبية التي تخلِّفها العزلة.‏ ويخبرناأوستر في الرواية ذاتها أن العزلة ال تقتل،‏ وأن الذي يقتل هوتجرُّد اإلنسان من االبتكار في أثناء عزلته.‏ وتروي الروايةقصة ‏»ماركو ستانلي فوف«‏ الروائي الذي يلتقي بجدّه ووالدهصدفة،‏ بعد أن كان يعتقد أنهُولِد من أب مجهول الهويّة،‏فاتَّخذ لنفسه اسم والدته ايميلي فوف،‏ وبعد حياة قاسيةأوصلته إلى حافة الجوع والفاقة في شوارع نيويورك،‏ يعثرعلى عمل في متجر رجل ضرير يدعى توماس ايفينغ فَقَدَ‏بصره وهو في العشرين،‏ األمر الذي وضع حدّاً‏ لحياته كفنان105


تشكيلي،‏ يتكفّل به ستانلي،‏ ثم يتعرّف بابن الضرير ويدعىباربر،‏ ونعرف-‏ الحقاً‏ بواسطة الصدفة مرة أخرى-‏ أن الرجلالضرير ليس سوى جدّه،‏ وأن باربر هو والده.‏ وباربر،‏بدوره،‏ لم يكن يعرف شيئاً‏ عن حياة والده،‏ وال يكتشفه إالبعد تعرُّفه إلى ستانلي في لحظة وفاة الرجل الضرير.‏وقد ظلّ‏ موضوع العزلة حاضراً‏ في أغلب أعمال أوستر،‏ولم يغب إال في روايتين اثنتين هما ‏»ليفيثان«‏ )1993( التيتمحورت حول ثيمة الصداقة،‏ و»السيد فيرتيجو«،‏ التياستعاد من خالها أجواء الميز العنصري ضدّ‏ الزنوج.‏أما رواية ‏»كتاب األوهام«‏ )2002(، فتتكوّ‏ ن من نصوصمتداخلة ومثيرة تنطلق كلها من قصة دافيد زايمر وهو أستاذجامعي منهك نتيجة وفاة زوجته هلين وابنيه إثر حادثسقوط طائرة،‏ وجاء في الرواية على لسانه:‏ ‏»قد يبدو هذاعديم القيمة،‏ لكن هذه هي المرة األولى التي أضحك فيها.‏أدركت أنني لم أصل إلى النهاية،‏ وأن شيئاً‏ يحثّني علىاالستمرار في العيش كان ما يزال في داخلي«.‏كتب أوستر هذه الرواية معتمداً‏ على الضمير المخاطب،‏ علىلسان دايفيد زايمر الذي يسرد تفاصيل حياة رجل أخر يدعىدايفيد هكتور،‏ توقَّف مسار حياته بعد رحيل أفراد عائلته،‏ويلجأا إلى الكتابة للتخلُّص من لحظة اليأس التي ألمَّت به.‏كا الرجلين غرقا في لحظات اليأس بعد فاجعة فراق أفرادالعائلة،‏ وكاهما لجأا إلى الكتابة لتجاوز المِحَ‏ ن.‏وفي رواية ‏»ليلة الوحي«‏ )2004(، وهي رواية داخلالرواية،‏ تتأرجح بين الواقع والخيال،‏ تناولَ‏ مسألة معنىالفن وتعقيدات اإلبداع الروائي،‏ وقدَّم أفكاره بخصوص فنالرواية عبر األخذ بيد القارئ في متاهة سردية،‏ إذ ينطلقالكاتب ‏»سدني أور«‏ ‏)بطل الرواية(‏ في كتابته لروايته المزمعةمن فكرة وردت في رواية بوليسية بعنوان ‏»الصقر المالطي«‏للكاتب األميركي الشهير ‏»داشيل هاميت«‏ تتحدَّث عن بطل نجامن الموت بأعجوبة،‏ فقرَّر أن يبدأ حياة جديدة ال عاقة لهابحياته السابقة.‏تحتلّ‏ الدفاتر مكانة مركزية في أعمال أوستر:‏ ‏»كوين«-‏ مثاً-‏في رواية مدينة الزجاج«‏ يدوِّ‏ ن ماحظاته في دفترٍ‏ أحمراللون.‏ أما ‏»آنا بلوم«،‏ وهي شخصية رواية ‏»في باد األشياءاألخيرة«،‏ فنجدها تكتب رسائلها في دفتر أزرق.‏ وفي رواية‏»السيد فيرتيجو«‏ )1994( يقوم والت بكتابة سيرته الذاتيةفي ثاثة عشر مجلّد مدرسي.‏ بينما يلجأ ويلي ج.‏ كريسماس،‏بطل رواية ‏»تومبوكتو«‏ إلى نقل جميع أعماله إلى مدينةبالتيمور ليسلِّمها إلى أستاذه قبل أن يموت،‏ كما نجد الدفاترفي ‏»كتاب األوهام«‏ وفي ‏»ليلة الوحي«.‏ ويُرجِ‏ ع أوستر ذلكلكونه ‏»يظن أن الدفتر عبارة عن سرداب للكلمات،‏ مكانسرّي للفكرة وللتوغّ‏ ل الذاتي«.‏ولم تختلف رواية ‏»رجل في الظام«‏ )2009( عن سابقاتها،‏فالعزلة وتقاطُ‏ ع الحكايات حضرا مرة أخرى.‏ وتبدأ الروايةبالجملة التالية:‏ ‏»وحدي في الظام،‏ أقلِّب العالمَ‏ في رأسي،‏فيما أنا أصارع نوبة أخرى من األرق،‏ وليلة بيضاء أخرىفي العراء األميركيّ‏ العظيم«.‏ يتعافى البطل الرئيسي‏»أوغوست بريل«‏ من حادث سَ‏ يْر.‏ يجافيه النوم في غرفته،‏فيحكي لنفسه قصصاً،‏ بغية االبتعاد عن األمور التي يفضِّ‏ لأن ينساها،‏ باألخص موت زوجته األخير،‏ ومقتل صديقحفيدته،‏ تايتس،‏ فيشرع في تخيُّل عالم موازٍ‏ للواقع،‏ال تكون فيه أميركا في حرب على العراق،‏ بل مع نفسها.‏ويستحضر مقولة ‏»شاتوبريان«‏ في ‏»مذكرات ما بعد القبر«:‏‏»أوقات األزمة تُحدِث ازدواج الحياة عند البشر«.‏ ولتجاوزمحنته يروي مغامرة ساحر من نيويورك،‏ يدعى ‏»بريك«،‏يفيق من نومه وهو في قاع ثقب عميق ال يسمع فيه سوىضجيج وعجيج معركة طاحنة.‏ ويخرج من هذه المعركةلِتُوكَ‏ ل إليه مهمّة خطيرة:‏ ‏»إنهاء الحرب األهلية التي تفتكبأميركا«.‏لقد لَخَّ‏ ص بول أوستر فلسفة العزلة التي شكَّلت محور أعمالهالروائية في المقولة التالية:‏ ‏»يعتقد كثير من الناس أن العزلةظاهرة سلبية،‏ أما أنا فا أنظر إليها من زاوية سلبية.‏ الحياةالحقيقة هي تلك التي نختزنها في دواخلنا.‏ صحيح أننانعيش بمفردنا،‏ لكن-‏ في الوقت نفسه-‏ لسنا سوى نتاجاآلخرين«.‏106


األعمال الفنية:‏ alireza darvish ‏-إيرانتيم باركسترجمة:‏ أماين الزارقرأت لكاتبين لديهما النعمة االستثنائية:‏ أي.‏ ل.‏ جيمس)إيريكا ليونارداجيمس(،‏ وهاروكي موراكامي.‏ اتُّهمت األولى بكتاباتها التافهة واإلباحيةالملطّ‏ فة،‏ والثاني تَمَّ‏ تمجيده الستحضاره كل شيء مُ‏ حَ‏ يِّر.‏الكتب التي نتحدث عنها *ماهي الوظيفة االجتماعية للرواية؟ أنا ال أفكِّر بما تعود بهعلى الكاتب الذي يطور من مهارته،‏ ويكسب لقمة العيشمنها،‏ ويُحصِّ‏ ل صورة عامّ‏ ة مرموقة بالمقابل،‏ وال بمكافأةالناشر الذي قد يجني قدراً‏ كبيراً‏ من المال،‏ وال حتى بمتعةالقارئ الفرد،‏ الذي يستمتع بساعات من الترفيه،‏ وربما يشعرباالستنارة أو بتحفيز مفيد.‏ ما أسأل عنه هو:‏ ما الذي فيالرواية،‏ بالنسبة للمجتمع عامة أو-‏ على األقل-‏ بالنسبة لذلكالجزء من المجتمع الذي يقرأ الروايات؟عندما بدأ لورانس ستيرن بنشر فصول من روايته ‏»تريسترامشاندي«،‏ كانت مراجعة الكتب الصحافية في مهدها.‏ التلميحاتالجنسية الطريفة للرواية،‏ تاعبها المستمر بين اإلبهاموالبذاءة،‏ إثارتها لاضطراب والهيجان في أوساط قرّاءالكتب.‏ كيف يمكن لألدب القصصي أن يُكتَب بهذه الطريقة؟أيّة عاقة كانت لحكاية ستيرن بالتجربة الواقعية،‏ بل بالكتب107


األخرى؟ هل االقتباس غير المشار إليه في العمل من كُ‏ تّابآخرين ‏)رابليه،‏ فرنسيس باكون،‏ إلخ(‏ يصل إلى حَ‏ دّ‏ السرقةاألدبية؟ كان النقاش حينها عنيفاً‏ بحيث استفاد ستيرنمنه،‏ مضمِّناً‏ إياه تعليقات المراجعين،‏ وردود فعله عليها،‏في أجزاء الحقة من الكتاب.‏ أصبح الكتاب جزءاً‏ من الحديثالمحلّي والحديث العالمي أحياناً.‏ يفهم الناس عاقاتهم بقياسمدى تعلُّقهم بالكتاب.‏بعد مرور أكثر من مئة عام كان النقاش أكثر سخونة حولنشر رواية توماس هاردي ‏»تيس من آل دوربرفيل«،‏المُ‏ عَ‏ نْوَ‏ نة-‏ كما هو معروف-‏ ب»امرأة نقيّة«،‏ كيف يمكن لهاأن تكون نقيّة؟ تساءل المراجعون عندما أنجبت-‏ أوالً-‏ طفاً‏غير شرعي من رجل عاشت معه كعشيقة،‏ في حين تزوَّ‏ جتمن آخر،‏ وكان سؤاالً‏ في محَ‏ لِّه.‏ لكن ‏»تيس«‏ كانت جذّابة جدّاً،‏محبوبة جدّاً،‏ وسيّئة الحظّ‏ بشكل ال يُصَ‏ دّق.‏ كان االختاف فيالرأي جدّ‏ قاسٍ‏ حيث أصبح من الصعب أن تجمع مؤيِّدين أومناهضين جنباً‏ إلى جنب على موائد المجتمع.‏ أجبرت الروايةالقرّاء-‏ بشكل أساسي-‏ على إعادة النظر في الرأي الفيكتوريالمتعارَ‏ ف عليه عن األعراف الجنسية،‏ فاضحة الجانبالرّهابي للصرامة األخاقية في المجتمع المهذّب.‏ وحتماً‏ كلمااحتدم غضب الناس على الكتاب زادت مبيعاته.‏يمكن للمرء إدراج أيّ‏ عدد من الروايات:‏ ‏)أوقات عصيبة،‏كوخ العم توم،‏ االبن األصلي(‏ تلك التي أثارت مستوىً‏حادّاً‏ من الجدل الشعبي،‏ غالباً‏ لكونها ضمّت حبكة مغرية،‏باإلضافة إلى قضايا تهمّ‏ الناس بعمق في تينك الزمانوالمكان المحدَّدين.‏ تصبح الرواية مركزاً‏ لمثل هذه القضايا،‏ربما-‏ فقط-‏ ألنها مثيرة لنقاشات كامنة في صميم الموضوع،‏ومن ثم تَضْ‏ مَ‏ نُ‏ هذه النقاشات نجاحاً‏ إضافياً‏ للعمل الروائيولشهرة الكاتب،‏ فيما ال يمكن تجاوز الجودة النهائيةُ‏ للكتابة،‏أو ‏»الفن«‏ معاً،‏ فهما غالباً‏ ال صلة لهما بالموضوع،‏ على األقلّ‏من أجل الوظيفة االجتماعية.‏فضاً‏ عن تصنيف الروايات بين جيدة أو مكتوبة بشكلسيّ‏ ء،‏ شعبية أو غير شعبية،‏ يمكن للمرء،‏ أيضاً،‏ وربمابشكل أكثر نفعاً،‏ أن يصنِّفها على أنها جزء من النقاش.‏ روايةجوناثان فرانزن ‏»التصويبات«،‏ صارت جزءاً‏ من نقاشمحلّي،‏ قصص ليديا ديفيس،‏ بكل روعتها،‏ لم تفعل.‏ فيأوروبا ميشيل أولبيك جزء من النقاش،‏ شئنا أم أبينا،‏ بيترستام كاتب انتُظِ‏ ر دوماً‏ عمله،‏ وهو ليس جزءاً‏ من النقاش.‏القضايا االجتماعية والطموح األدبي-‏ ربّما-‏ مهمّان هنا،‏لكنهما ليسا أساسيين حقيقةً‏ . كان هناك حديث ضخم محدثعلى نحو مثير للجدل حول ملحمة هاري بوتر التي لم يكن لهاعاقة بالقضايا االجتماعية،‏ لكن،‏ ربما كان النقاش-‏ إلى حَ‏ دّ‏كبير-‏ حول ماءمتها للبالغين ممن يقرؤون القصص المكتوبةلألطفال بتعطّ‏ ش.‏ بالمقابل هناك العديد من الكتّاب الذينيحاولون-‏ عمداً-‏ إثارة النقاش،‏ بتضمين القضايا المحلّية فيرواياتهم التي هي-‏ بالفعل-‏ في مركز الجدال،‏ لكنهم غالباً‏ مايفشلون فشاً‏ ذريعاً.‏ وعلى نحو مثير للجدل،‏ كانت روايةجون ابدايك ‏»إرهابي«‏ وهي من أقلّ‏ رواياته إثارة للنقاش.‏رغبة في ترسيخ نقاش عام،‏ أياً‏ كان محتوى أو جودةالرواية،‏ إال أنه على الناس قراءتها.‏ كم كنت،‏ في كثير مناألحيان،‏ أنخرط في نقاشات ربما في حفلة،‏ حيث أربعةأو خمسة أشخاص يسألون عما يفكِّر به اآلخرون حول هذهالرواية أو تلك،‏ فقط ليكتشفوا أنه ما من أحدسواهم قد قرأها.‏ حتى بين الناس الذينيقرؤون كثيراً‏ بشكل خاص،‏ هناك ‏-غالباً-‏صعوبة في إيجاد كتاب واحد نُشِ‏ ر مؤخَّ‏ راً‏يتوجَّ‏ ب علينا جميعاً‏ قراءته.‏ النقاش ينهار، واألدب فشل في جمعنا،‏ ما من جدلمثار،‏ وإليجاد كتاب نتحدّث عنه عليناأن نراه يتحوّ‏ ل إلى واحد من األفام،‏ أويغدو خبراً‏ في وسائل اإلعام الصاخبةفي هذه األيام.‏كيف يدخل كتاب دائرة النقاش اليوم؟تَمّ‏ االستعاضة عن الرواية المسلسلةبالمسلسات التليفزيونية التي أصبحت108


أي.‏ ل.‏ جيمسهاروكي يوراكاميناجحة جداً‏ في توليد النقاشات؛ ذلك أن أولئك الذين لميتابعوا Wire« »The Sopranos or The كثيراً‏ ما يشعرونبأنهم مستبعَ‏ دون.‏ في غضون ذلك،‏ يختار القرّاء في المكتباتعناوين محدَّدة من بين آالف العناوين المنشورة مؤخَّ‏ راً.‏ وفيبلدان أوروبا الغربية تأتي نسبة 50 بالمئة من تلك الكتب منالخارج؛ لذا فقراءات الناس ليست مركَّزة على المجتمع الذييعيشون فيه،‏ والقصص المقروءة،‏ تجري أحداثها - غالباً-‏في مكان آخر.‏ في عام 2011 عندما أطلقتُ‏ استبياناً‏ صغيراً‏في مكتبة ألمانية عن نوع الروايات التي كان الناس يقرؤونها.‏قال القراء الشبان-‏ بشكل خاص-‏ إنهم غالباً‏ ما يختارون قراءةالكتب األجنبية الشهيرة،‏ وبشكل خاص للكتّاب األميركيين أواإلنجليز،‏ ستيفن كينج أو إيان ماكوان،‏ أو فيليب روث،‏ أوزادي سميث.‏ وهكذا سيكون لديهم موضوعاً‏ مشتركاً‏ للتحدُّثعنه عندما يلتقون بشبّان آخرين خال أسفارهم الصيفية.‏خياراتهم تبدو عشوائية ومنتقاة بغضّ‏ النظر عن الجودة.‏عدا هذه الحالة،‏ فإن الناس-‏ بطبيعة الحال-‏ يجدون أنفسهميقرؤون الشيء نفسه،‏ ومن ثم يتحدّثون عنه،‏ ويميل بعضالقرّاء إلى المشاهير على أمل بأن يسمح لهم ما يقرؤونهباالنضمام إلى محادثات عالمية.‏وال يزال يحصل-‏ بشكل مفاجئ تماماً-‏ أن يصبح كتّابناجحين بِقدرٍ‏ يتجاوز األحام األكثر حماساً‏ لناشريهم،‏ وربمافي غياب الناشر مطلقاً،‏ جاعلين الناس يقرؤون أشياءَ‏ اليقرؤونها عادة،‏ يتحدّثون معاً‏ عن أشياء ال يتحدّثون عنهاعادة.‏ لقد قرأت لكاتبين كان لديهما هذه النعمة االستثنائيةأي.‏ ل.‏ جيمس،‏ وهاروكي موراكامي:‏ اتُّهمت األولى بكتاباتهاالتافهة واإلباحية الملطّ‏ فة،‏ واآلخر تَمَّ‏ تمجيده الستحضارهكل شيء مُ‏ حَ‏ يِّر وسريالي.‏هل يمكن أن يكون لمثل هذين الكاتبين المختلفين شيء مامشترك،‏ أي شيء يجلب هذا القدر من االهتمام بأعمالهما،‏ويخلق مثل هذا الجدل الحَ‏ يّ‏ من حولهما؟.‏ مَ‏ دَح موراكامي نوبلبشكل مؤقّت أحياناً،‏ وهو أيضاً‏ هاجم-بشكل متكرِّر-‏ الكتاباتالهزيلة،‏ الحساسية الصبيانية،‏ والسعي عمداً‏ للوصول إلىالجمهور العالمي المفكَّك.‏ ‏)كنت مؤخّ‏ راً‏ مدعوّ‏ اً‏ للتحدّث فيمؤتمر،‏ بدا أن موضوعه الوحيد هو مهاجمة موراكامي(،‏وأي.‏ ل.‏ جيمس،‏ رغم أنها طُ‏ رِدت من الطبقة المثقَّفة إال أنهاوجدت أعمالها مُ‏ راجَ‏ عة في أكثر الصحف األدبية جدّيّة،‏ وهيتجذب القراء في الخارج كما لم يحدث مطلقاً‏ مع عمل ينتميإلى اإليروتيكية الملطّ‏ فة.‏يبدو لي أن كا الكاتبين-‏ بطريقتيهما المختلفتين تماماً-‏مسحوران باألمر نفسه:‏ الحاجة الفردية للتعامل مع العاقاتاألكثر عمقاً‏ رغبة في ا لحصول على المزيد من الحياة بدونخسران االستقالية والذاتية.‏ إذا ما كان لرواية ‏»ظالالرمادي«‏ أيّة جدّية فقد كان ذلك نتيجة طرحها هذه األسئلة:‏كيف يمكن التعامل مع الجنسية في ثنائي؟ كيف يمكنني أنأمنح اآلخر ما يريده وأظل أنا نفسي؟ نوعاً‏ ما،‏ كيف يمكننيالتحكُّم فيما يظهر أنه ال يمكن السيطرة عليه؟ بأسلوب أكثرتعقيداً،‏ وبالتأكيد أكثر غموضاً.‏ يسأل موراكامي بين الحينواآلخر عن الكيفية التي يمكنني بها تجاوز كوني-‏ من ناحية-‏َّ علي من قبل اآلخر،‏ ومن ناحية ثانية وحيداً،‏ أينمُ‏ سْ‏ تَحْ‏ وَ‏ ذاً‏هو الطريق الوسط؟هناك-‏ بالطبع-‏ العديد من الكتّاب اآلخرين الذين يُعالجونهذه القضايا.‏ لكن كم من الكتب يمكن للعالم أن يتحدَّث عنهافي أي وقت من األوقات؟ أهي دزينة من الكتب؟ عشرون كتاباً؟من الصعب أالّ‏ يخامرك الشعور بأن هناك تدخُّ‏ ل من الحظالمجرَّد،‏ ولو إلى حَ‏ دّ‏ معين.‏* نشرت في النيويورك ريفيو أوف بوكس في 2/10/2014109


نصوصمع نيتشه وضدّ‏ هبنسامل حِ‏ مِّيشَواليوم،‏ وقد بلغتُ‏ من العمر زهاء ثلثيه،‏ هأنذا ‏-أخيراً-‏ أرسمُ‏المرمى وأغيّر البوصلة،‏ عساني أنجو بثلثي الباقي،‏ واضعاً‏العين واليد على الجوهر واألصل واألجدى،‏ دون العرَ‏ ضوالفرع والزّبَد.‏ ساعات لاطّ‏ اع والقراءة،‏ وسواها لقرعأبواب العزلة الذكية والغطس التأمّ‏ لي الناشط.‏َ ‏-افتتاحاً-‏ أن ألقي تحية المحبّ‏في قرع تلكم األبواب،‏ كان عليّ‏المحاسب على فريدرك نيتشه،‏ وعلى ما ظَ‏ لَّ‏ ، في كتاباته،‏يجذبني ويغري بي.وهذا بعضٌ‏ مما في هذا الشأن يعنُّ‏ لي:‏وإذاً،‏ سامٌ‏ على طلعتك العميقةِ‏ القلقة،‏ يا ذا الفكر الخصبالمنقّب في الدهاليز والمطامر وفي المرتفعات واألعالي،‏ ياأنت الذي،‏ بكتاباتك األخّ‏ اذة المضادة لهمجية العصر وثقالةالوجود،‏ تحكي نقاهاتك المديدة وتخطّ‏ ياتك الذاتية.‏لقد حدث مرة أن سألتكَ‏ في المنام:‏ أكلُّ‏ هذي المظالمِ‏والظُّ‏ لُمات،‏ وهذي المآسي والشقاوات،‏ وهذي الكسورواالنهيارات،‏ وتريدني أُسقطُ‏ من حسابي تلك األخرى؟ قوّ‏ ستَ‏حاجبيك الكثيفين،‏ وقلتَ‏ مستغرباً:‏ األخرى؟!‏ أجبت:‏ نعم،‏حياة أخرى تكون هي األجمل واألعدل واألسمى،‏ وسواها مناألوصاف الحسنى.‏ قلتَ‏ : هذا محض سراب ووهم!‏ رَ‏ دَ‏ دْ‏ تُ‏ : إنكان هذا هكذا ‏-وأنَّى لي معرفته!-‏ فإنه،‏ إذاً،‏ طامّ‏ تنا العظمى،‏فا أنا فزتُ‏ وال أنت،‏ وإنما في العدم موعدنا ولقيانا،‏ يحشرناويسحقنا سحقاً.‏ قال:‏ فرضُ‏ كَ‏ قمار وجُ‏ بن!‏ قلت:‏ بل رهانيحرِّك الفكر،‏ وحَ‏ دٌّ‏ وسط بين الجبن والتهوُّ‏ ر؛ هذا وال شيءيقيني من عللٍ‏ شتّى اعترَ‏ تْك،‏ وال من أن أدخل مثلك مشفًىلألمراض النفسية،‏ لما إذ هويتَ‏ مغمى عليك في تورينو،‏ بعدأن عانقت فرساً‏ كان يعنِّفهُ‏ مواله.‏ وكل ما أصابني،‏ وما قديصيبني مجدَّداً‏ من أرزاء وكبوات إنما ينمّي معرفتي بضعفياآلدمي وعجزي عن تخطّ‏ ي ذاتي إلى اإلنسان الكاملِ‏ األعلى.‏ لذاأؤثر لحياتي اللياذَ‏ بفرضية إيمانية تُبعد عنّي موتاً‏ يأتيني،‏وفي ذهني وكياني أبخرة رديئة،‏ وملءَ‏ صدري وحنجرتيغصصٌ‏ موجعةٌ‏ خانقة.‏تحثّني ‏-أيّها المتوحّ‏ د الشامخ-‏ على قول:‏ نعم،‏ للحياة،‏ وهذا ماأفعله غالباً.‏ لكن كيف لي ولك وأليِّ‏ ابن أنثى أن يقول للموت:‏ال؟!‏ إذاً‏ نعم للحياة إبّان فيضها وفورانها،‏ ونعم للموت حينتعتلُّ‏ األعضاء واألوصال،‏ وتضمُ‏ رُ‏ الطاقة الحيوية والملكات.‏ولقد جنّبك الزمان شَ‏ رّ‏ الشيخوخة التي ‏-لو بلغتَها-‏ لربّما كنتَ‏ليّنتَ‏ بعض مقوالتك ومواقفك،‏ ونقَّحتَها.‏نيتشه ذو الفكرِ‏ الفائق والجسمِ‏ العليل!‏في فصل الفقراء والمعوزين،‏ أفضّ‏ لُ‏ أيضاً‏ توديعَ‏ ك وهجررياحك.‏ ألني أريد البقاءَ‏ معك في فصولٍ‏ أخرى من سفر الحياةِ‏والصحة.‏ أؤثُر الرجوع من عليائك إلى أولئك الذين سمَّيتهمالرعاع والضعفاء والمنهارين.‏ فاألُذن التي وهبتني الحياةُ‏إياها هي من االّتساع والحساسية بحيثُ‏ تقدرُ‏ على مسايرةِ‏قصّ‏ تهم عقدةً‏ عقدةً‏ وخيطاً‏ خيطاً:‏ قصةِ‏ اتّصافهم بالضعف،‏فللضعف جينيالوجيا كما للدين واألخاق.‏ هل تسمعني؟وبعد،‏ يا ذا الفكر المبدع والرؤية الخارقة،‏ سأظل حافظاً‏لنصِّ‏ ك في ‏»الدجّ‏ ال«‏ عن حضارة اإلسام،‏ السيّما وأن بنيقومك،‏ وحتى المتخصِّ‏ صين في نتاجك،‏ أقبروه أيام حياتكوبعدها،‏ وغَ‏ يَّبوه،‏ كأنك في تحريره اقترفت إثماً‏ منكراً،‏ وعنالجادّة زغتَ‏ . أقرأ نصك هذا وأتأمّ‏ له،‏ وفي كلِّ‏ مرة يزدادعجبي،‏ وأندهش لكونه عنك صادراً،‏ وباسمك موقَّعاً،‏ وهذيسطور ساطعة منه:‏‏»لقد حرمتنا المسيحية من حصاد الثقافة القديمة،‏ وبعد ذلكحرمتنا ‏-أيضاً-‏ من حصاد الثقافة اإلسامية.‏ إن حضارةإسبانيا العربية،‏ القريبة منا حقّاً،‏ المتحدِّثة إلى حواسناوذائقتنا أكثر من روما واليونان،‏ قد كانت عُ‏ رضة لدَوْ‏ ساألقدام ‏)وأؤثر أال أنظر في أيِّ‏ أقدام!(‏ - لماذا؟ ألن تلك الحضارةاستمدّت نورها من غرائزَ‏ أرستقراطية،‏ غرائزَ‏ فحولية،‏ وألنهاتقول نعم للحياة،‏ إضافة إلى طرائق الرقّة العذبة للحياةالعربية.«.‏ختاماً،‏ بتحفيز منك أقول ألهل القلم والكتاب من حولي:‏َّ إلي بمُ‏ هَلٍ‏ ألغرّد خارج أسرابكم،‏ ألتنفّس بكلماتٍ‏ أسْ‏ طُ‏ رهالكم،‏ وإال فالربوُ‏ يتهدَّدني ثم اليأس.‏ أوكدها:‏110


رسوم:‏ يوسف عبدلكي-سوريةمعشرَ‏ الكتابيين والقلميين وسواهم،‏ إياكم أن تموتوا!‏تردّون:‏ األعمار آجال،‏ وتتعدّدُ‏ األسباب،‏ والموتُ‏ واحد.‏أجيب:‏ هل يخفى عليّ‏ أنّ‏ ‏»كلَّ‏ نفسٍ‏ ذائقةٌ‏ الموت«،‏ وأنيمثلكم نفْسٌ‏ وأني ذائقه!‏ ال،‏ ليس في هذا المناط تندرجوصيَّتي وتكمن،‏ وال حوله تحوم،‏ وإنما قصدي أن أحذِّركممن الموت العبثي،‏ أيّ‏ بأمراضٍ‏ ، عليكم فيها ما بذرتم وماحصدتم:‏ الكحولية،‏ وتلويث البواطن باألدخنة الرديئة،‏والتلهّي عن الضعف والهشاشة بالغيبة والنميمة،‏ وبالتنابذوسوء التواصل،‏ وباعتناق سيرة الغلِّ‏ والحسيفة،‏ إذ إنكم،‏بكل هذي األوصاف واألفعال،‏ تكونون في الحياة منطفئين،‏بل كأعجاز نخلٍ‏ خاوية.‏هذا،‏ وهل تنكرون أن أغلبكم ينغمسون في الحياد والخمول،‏فيقيمون تحت قباب السهوِ‏ والغفلة عن الشؤونِ‏ والهموم؛اإلنسانية،‏ والثقافية منها،‏ والعامة؟ إنهم ‏-إجماالً-‏ يضاجعونالخوف ‏)وال حياة لمن يضاجع الخوف،‏ يقول المثل(،‏وينزعون،‏ ولو من دون خوض معارك،‏ إلى التقاعد المبكرواالهتمام بفلح حدائقهم الخاصّ‏ ة،‏ ويصّ‏ حُ‏ عليهم وصفك ‏-يانيتشه-‏ للمنحلّين المنهارين:‏ ‏»إنهم أناس متكلِّسون،‏ تالفون،‏ال يخشون إال شيئاً‏ واحداً:‏ أن يصيروا واعين«.‏ وهكذا يُمْ‏ سونإجماالً‏ محتمين بمربّعاتهم وحيطانهم،‏ داخلين أفواجاً‏ أفواجاً‏في ‏»أسواق رؤوسهم«،‏ مصابين بتاشٍ‏ باطنيٍّ‏ وانكماشيةٍ‏صمّاء وانعزالية عقيمة جدباء،‏ كما لو أن سنواتٍ‏ جليديةأو أثقالَ‏ جاذبيةٍ‏ سالبة أدّت إلى خصيهم وضربهم بالرهبةوالضمور.‏111


رسوم:‏ يوسف عبدلكي-سورية112


ضدّ‏ املُسَ‏ ريَّ‏ ‏َةخطيب بدلةسقط رأسُ‏ ‏»ياسر«‏ على كتفه،‏ وغفا من شدّة اإلعياء.‏ ما يزال الدمُ‏ ينزُّ‏ من زندهرغم الرباط الذي أحكم صديقُه ‏»نزار«‏ شَ‏ دَّهُ‏ على الجرح في غفلة من حارسالسطح.‏عيناه غامتا،‏ وانتابَ‏ روحَ‏ هُ‏ خَ‏ دَرٌ‏ لذيذ...‏ هذا الخَ‏ دَرُ‏ يعرفُه المعتقلون هنا كلهم،‏فهو ينجم عن تراجعٍ‏ في تناذُ‏ ر األلم الشديد الذي يسبِّبه الضرب الذي يكيلُه لهمالحرّاسُ‏ على حين غرّة،‏ وباألخص في باحة السجن إبّان فرصة التنفّس.‏يكون الضرب،‏ عادةً‏ ، بأحزمة البنطلونات،‏ أو بقضبان لينة،‏ أو باألحذيةالعسكرية،‏ على الجسم والرأس واألطراف كيفما اتَّفق،‏ فيترك على األجسادبعضَ‏ الرضوض والكدمات التي تَسْ‏ وَ‏ دُّ‏ مع مرور الزمن وتتندّب،‏ ولكن،‏حينما يأتي إلى السجن زائرٌ‏ ما،‏ من قيادة المخابرات العامة،‏ أو من شعبةالمخابرات العسكرية،‏ أو من الدائرة المقرَّبة من األسرة الحاكمة؛ ينزل مديرالسجن ومعاونوه،‏ شخصياً،‏ إلى الساحة،‏ ويستخدمون الكابات النحاسيةفي ضرب السجناء عشوائياً،‏ ليُرُ‏ وا ضيوفَهم،‏ عن كثب،‏ كيف أنهم ال يتساهلونفي سحق هذه الحشرات اآلدمية التي تطاولت-‏ في يوم من األيام-‏ على هيبةالقائد التاريخي المُ‏ لْهَم،‏ وعارضت سياسته،‏ وليُمَ‏ تِّعُ‏ وهم بمشاهدة الدم وهوينشب من شرايين المعتقلين،‏ على هيئة نوافير تنزل على الجدران،‏ ثم تسيلرويداً‏ رويداً‏ حتى تصل إلى األرض بفعل الجاذبية،‏ وتتجمَّع في برك صغيرةيمرّ‏ عليها الزمن فتُكَ‏ وِّ‏ نُ‏ رؤيتُها مساحة لحزن تاريخي رهيب.‏ولألسف،‏ فإن الخدر ال يدوم طوياً،‏ إذ سرعان ما يتعرَّض المعتقلُ‏ لعدوانجديد على روحه،‏ وجسده،‏ فتستنفر أعضاؤه،‏ وتبدأ غددُ‏ ه الصمّ‏ باإلفراز،‏ويعود األلم أشدّ‏ ما كان عليه قبل تلك اللحظات الرهيبة.‏تغبَّشَ‏ ت عينا ‏»ياسر«.‏ وكما لو أنه يرى ما يراه في الحلم،‏ رأى بضع شعراتشائبات في رأس حارس السقف الذي كان يذرع المكان جيئة وذهاباً،‏والكاشينكوف الروسية معلّقة على كتفه،‏ وبين الفينة والفينة يقرفص ويلقينظرة على المعتقلين المُ‏ كَ‏ وَّ‏ مين،‏ بعضهم فوق البعض اآلخر،‏ في الداخل،‏يسودهم هدوءٌ‏ وصمتٌ‏ وكأنهم مقبرة لألحياء،‏ فإذا ما تحرَّك أحدٌ‏ منهم،‏ علىنحو ال إرادي،‏ يأمره قائاً:‏- الكلب الذي تحرَّك يحدّد رقمه!‏فيقول السجين الذي تحرك:‏ 87، مثاً..‏ وفي صباح اليوم التالي يخرج السجناءالذين دُ‏ وِّ‏ نَتْ‏ أسماؤهم في مختلف المهاجع إلى الباحة،‏ ويتعرَّضون لتعذيب لميعرف له تاريخ المعتقات التتارية والمغولية والنازية والفاشستية والعربيةمثياً.‏اعْ‏ تُقِلَ‏ ‏»ياسر«‏ في سنة 19<strong>86</strong>، وزُ‏ جَّ‏ به هنا في سجن تدمر،‏ واكتسبَ‏ ، خال أيامقليلة،‏ لقب ‏»أبو المُ‏ سَ‏ يَّرة«،‏ وقد طوَّ‏ ر الدكتور ‏»أيمن«‏ اللقب،‏ فسمّاه بالمصطلحالاتيني Mosayyara« »Anti وتعني ‏»ضد المُ‏ سَ‏ يَّرة«،‏ ألنه كان يحكي لهم،‏على الدوام،‏ حكايته مع المُ‏ سَ‏ يَّرة التي أوصلته إلى هنا.‏ وكان هذا الحارس،‏113


سنتئذٍ،‏ موجوداً‏ عند فتحة السقف،‏ وكان شعره أسودَ‏ غامقاً،‏مشعَّ‏ ثاً،‏ وملتفّاً‏ حتى ليصعب تمشيطه.‏قال ياسر لنفسه:‏ ياه..‏ كم لبثتُ‏ هنا إذاً!‏افترَّ‏ فم ‏»ياسر«‏ عن شيء يشبه االبتسامة.‏ ارتسمت في مخيِّلتهلوحة مضطربة لمعالم باب غرفته في المديرية التي كان يعملفيها،‏ وهو يفتح فجأة،‏ ويدخل منه المدير ذو الشعر الشبيهبشعر حارس السقف هذا.‏ ويقول له ولزميليه أحمد ولشيرين:‏ما هذا؟ أما زلتم هنا؟ الناس وصلت إلى ساحة هنانو.‏ أالتسمعون صوت الطبول والزمور؟قال له ياسر باستهزاء:‏ ولماذا الطبول والزمور؟ يعني حضرته114


حافظ األسد ناوي يتزوَّ‏ ج على امرأته؟!‏أسقِط في يد المدير،‏ وأدخل أصابعه بينأكداس الشعر المتغوِّ‏ لة فوق رأسه بحركةعصابية يلجأ إليها عادةً‏ في أوقات الزنقة..‏ولكن ياسر لم ينتظره حتى يعثر على العبارةالمناسبة،‏ قال له:‏أنا لست مستعدّاً‏ ألن أكون أهبل،‏ وال تافهاً،‏ والرقماً‏ بين المايين الذين يُسَ‏ يَّرون بين الحينواآلخر ليمثِّلوا أمام العالم أنهم يحبون هذاالمجرم الطاغية الذي يريد أن يذلّنا ويمحوإنسانيتنا.‏قبل أن يكمل ياسر حديثه،‏ انسلَّ‏ أحمد وشيرينخارجَ‏ يْن من المكتب،‏ وهما يتلفَّتان إلى الخلفمن فرط الدهشة والذهول،‏ بينما تابع ياسريقول للمدير:‏أخي ال يوجد أي داعٍ‏ للحيرة وإضاعة الوقت،‏أنا لن أشارك فيمهزلة ‏»المُ‏ سَ‏ يَّرَ‏ ة«،‏ فاذهبأنت إلى مكانك الطبيعي هناك،‏ وحينما تنزلإلى الدبكة حاول أال تبالغ في الحركات،‏وباألخص عند الهبوط المفاجئ،‏ فأنت ‏-ماشاء اهلل-‏ ممتلئ بالعافية،‏ ويوجد احتمالكبير أن ينفتق بنطلونك!‏منذ ذلك التاريخ،‏ وحتى هذه اللحظة،‏ لميتوقّف جسم »ياسر«‏ عن تلقّي الضرب،‏وكذلك رأسه،..‏ ولو كان القلبُ‏ خليَّاً‏ لضحكعلى نفسه لكثرة تقلب ألوان جلده بين األحمرواألزرق واألصفر واألسود،‏ وكيف ترتفعفيه الفقاعات،‏ تتاشى بالتدريج،‏ على نحويجعل بقاءه على قيد الحياة،‏ حتى اآلن،‏ مثيراً‏لاستغراب.‏- تركّ‏ كّ‏ كّ‏ !فقس »ياسر«‏ بإبهامه ووسطاه،‏ قائاً‏ لنفسه:‏- وجدتُها!‏ويبدو أن صوته ارتفع قلياً‏ عن حَ‏ دّ‏ األمانالمتعارف عليه في المهجع،‏ مما جعل أكثر منزميل نائم يفتح عينيه وسط الظام مستطلعاً‏ما يجري.‏ واقترب منه نزار،‏ وهمس له:‏- ما بك أخي ياسر؟ ماذا وجدت؟قال وهو يتمطّ‏ ق بالحروف متلذِّذاً‏ بها:‏ وجدتُها.‏أريد أن أخرج،‏ غداً،‏ في مسيرة تأييد للقائدالمناضل.‏ هه هه..‏ أي نعم.‏ سأخرج.‏ وأنتمكذلك.‏ اخرجوا معي.‏ ال يوجد غير هذا الحَ‏ لّ‏ .وبمجرَّد أن نصبح في الباحة،‏ أنا أصيح»بالروح،‏ بالدم،‏ نفديك يا حافظ«،‏ وأنتمردِّدوا ورائي..‏ ثم احملوني على أكتافكم،‏ودوروا بي بين المهاجع..‏ ووقتها سينضمّ‏إلينا عدد كبيرٌ‏ من اإلخوة السجناء.‏ أجل..‏ هذاهو الحَ‏ لّ‏ ، أفضل حَ‏ لّ‏ .. على طريقة أبي نواس:‏دع عنك لومي فإنَّ‏ اللومَ‏ إغراءُ‏ ‏وداوني بالتي كانت هيالداءُ‏وانتابه حماس أكبر فقال:‏- أي أي،‏ أي نعم،‏ وهكذا تنتهي مشكلتنا كلها.‏يعني الجماعة،‏ لماذا اعتقلونا أساساً؟ أنااعتقلوني ألنني رفضت أنا أشارك في مسيرةتأييد،‏ حكيت لكم هذا أكثر من مرة..‏ يا سيديحصل،‏ فاإلنسان يتصرَّف أحياناً‏ بشكل غبي،‏بشكل عنيد،‏ بشكل خاطئ،‏ ولكن..‏ القاعدةالفقهية،‏ عفواً،‏ أقصد القاعدة الحقوقية تقول:‏»الرجوع عن الخطأ خير من التمادي فيه«،‏وأنا سأرجع عن خطئي..‏ خلص.‏ اتِّفقنا؟ما كاد»ياسر« ينهي جملته األخيرة حتى بدأباب المهجع يضرب بقوة،بواسطة األقدام..‏وعندما فتحه السجان ورأى مدير السجن ومعهمجموعة من مرافقيه صاح بالسجناء بصوتمدوٍّ‏ : استيقاااااااااااااظ.‏فاستيقظوا ووقفوا أمامه كأنهم أخشابمسندة.‏قال:‏ يا حمير،‏ ماذا يحدث عندكم؟ وكيفتجرؤون على رفع أصواتكم؟قال»ياسر«:‏ عفواً‏ سيدي.‏ اإلخوة لم يفتحواأفواههم بحرف.‏ أنا الذي كنت أتكلَّم.‏ كنتأشرح لهم فكرة مسيرة التأييد للقائد التيسننفِّذها صباح الغد.‏ ما رأيكم سيدي؟ضحك المدير ضحكاً‏ عالياً،‏ ثم عبس وقال:‏ ياسام!‏ طول عمرك فهيم..‏ لهذا السبب احتفظنابك عندنا.‏وقال لمرافقيه:‏ هاتوا لي هذا الكرّ.‏وأدار ظهره وخرج،‏ بينما شرع مرافقوهيشحطون»ياسر«..‏ وفي أثناء ذلك أخذتأيديهم الخشنة تضغط على جسمه المتورِّم..‏فصاح با إرادة:‏ أخّ‏ .. ولكنه كَ‏ زَّ‏ على شفتهخشية أن يكون الحارس قد سمع صوته،‏وابتسم وقال لنفسه باندهاش:‏- مسيرة تأييد؟!‏115


كتبأن تتحدّ‏ ث اللّغة الصّ‏ ينيّة بالعربيّةخاص بالدوحةالصّ‏ ين لم تعدّ‏ بعيدة،‏ بل هي أقربإلى العرب من بعض الجيران األفارقة.‏لقد صار الصّ‏ يني،‏ في السّ‏ نوات الماضية،‏وجهاً‏ مألوفاً‏ في شوارع بيروت والقاهرةوالدّار البيضاء،‏ ومع الوقت،‏ اندمج فيمشهد البلد العام،‏ حمل معه عاداتهونزواته،‏ وصار عرب يقلدِّونه فيها.‏انخرط سريعاً‏ في دورة الحياة وصارمواطناً،‏ وليس فقط وافداً،‏ هذا ما تخبرنابه رواية ‏»الملكة«‏ ‏)منشورات ضفاف،‏االختاف،‏ 2015(، ألمين الزّاوي،‏ الذييتنبّأ بأن الجزائر سيحكمها،‏ نهاية القرنالحالي،‏ رئيساً‏ من أصول صينية.‏ هلهي مبالغة؟ ربما،‏ لكنها مُ‏ مكنة.‏‏»الملكة«‏ رواية التناقضات بامتياز،‏عن صين واقعيّة،‏ ينظر إليها العربيمن زاوية إيكزوتيكية،‏ وجزائر مُ‏ شتَّتة،‏ترفض النّظر إلى نفسها،‏ هي نصّ‏قاسٍ‏ في محاكمة سلطة القهر،‏ وأنانيةالمجتمع،‏ نصّ‏ ينتصر للعقل في صدامهالطويل مع بناة الجهل ورعاة الوهم.‏كل شيء بدأ من واقعة اغتيال عاملصيني في الجزائر العاصمة،‏ ليذهبقريب له يدعى ‏»يو تزو صن«‏ ‏)يسمّينفسه يونس(،‏ كان زمياً‏ له في ورشةالبناء نفسها،‏ ليلقي نظرة على الجئة فيالمشرحة،‏ ويلتقي هناك صدفة ‏»سكورا«،‏شابة أمازيغية،‏ رئيسة مصلحة األمنوالوقاية والجنائز،‏ وسرعان ما تتطوّ‏ رالعاقة بينهما،‏ وتنتقل من اإلعجاب إلىالحبّ‏ ، ثم إلى جنين يكبر في أحشائها،‏في بلد حيث الموت والحياة يتجاوران،‏الحقيقة والخرافة تعيشان تحت رعايةيد جامعة واحدة.‏ جزائرية تحبّ‏ صينياً!‏هي معادلة لم تكن سهلة،‏ في مجتمعذكوري،‏ يتعامل مع المرأة كتابع له،‏ويريدها دائماً‏ أن تبقى في خانة المُ‏ هيمَنعليه،‏ ولهذا وجب على ‏»سكورا«،‏ ‏)مُ‏ طلَّقةوأم لطفلين(‏ أن تتحايل على نفسها وعلىعائلتها ومحطيها،‏ لتصنع حياة مشتركةمع صيني،‏ غريب يختلف عنها كثيراً،‏تعلَّمت منه أدب وثقافة شعب لم تكنتعرف عنه سوى كليشيهات إعامغربي،‏ ودفعته هي لتعلُّم األمازيغية،‏وتقبّل رغبتها في الجمع بين هويّتينمختلفتين.‏في خضمّ‏ اليوميات المُ‏ تقلّبة التيتجمع بين البطلين،‏ تبرز شخصياتثانوية،‏ لتكرِّس عبثية الحياة في بلدلم يتعلَّم كثيراً‏ من دروس الماضي.‏سنجد ‏»حفيظة«‏ التي أسَ‏ رَ‏ تها جماعةإرهابية سنوات التسعينيات،‏ وصارت-‏الحقاً-‏ عاملة نظافة في مخفر شرطة،‏و»عبد الرحمن«،‏ الذي قاوم،‏ مع قواتالدفاع الذاتي،‏ الجماعات اإلرهابية،‏ليجد نفسه سائق سيارة إسعاف،‏يستخدمها لنقل األحياء ونقل الجثثفي آن معاً،‏ ثم يصير مُ‏ خبراً‏ للشرطة،‏ساعد ضابطاً‏ في نقل جثّة الصينيالمغتال بعيداً‏ عن الجزائر العاصمة،‏ودفنها في قرية نائية،‏ على أنها جثةشيخ صيني مسلم،‏ يستجيب لدعواتمريديه.‏كل فصل من فصول الرواية مشهدسينمائي مختلف،‏ مع شخصيات تتجدّدمن موقف إلى آخر،‏ مع تركيز ملحوظللكاتب على التعمُّق في الخصائصالثقافية الصّ‏ ينية،‏ واإلحاطة بالجوانبالمشتركة التي تربط بينها وبين الثّقافةالعربية.‏ ورغم بعض المقاطع،‏ التيتبدو للقارئ غير ضروريّة،‏ وكان يمكنالتّخلُّص منها،‏ فقد وصلت الرواية إلىجوهر وصف ‏»االستثناء«‏ الجزائري،‏الشيزوفريني،‏ وغير القادر على التّقدُّمخطوة واحدة،‏ وهو ما ترمز إليه-‏ ربّما-‏ساعة مخفر الشرطة الحائطية،‏ التيتوقَّفت عن الدوران كما توقَّفت عجلةتقدُّم البلد عن السير.‏وبما أن أحداث الرواية تدور عامالحصان )2014(، فقد وجد الروائيهامشاً‏ لنقد الواقع المعيش على ألسنةالشخصيات:‏ صورة الرئيس،‏ نجوميةمشعوذ يظهر على القنوات التليفزيونية،‏تحوّ‏ الت شوارع الجزائر العاصمةالكبيرة،...‏ إلخ.‏هل هي هزيمة العربي في مواجهةالصيني كما تعبِّر عنها حكاية ‏»يو تزوصن«‏ في الجزائر؟ الرواية ال تفضح كلشيء،‏ وتكتفي بإشارات تفيد أن العاقةبين الصين والوطن العربي تتقدّم نحوتغيّرات عميقة.‏116


أفكار تتهاوىزياد إبراهيمعن ‏»دار المصري للنشر والتوزيع«‏صدرت-‏ حديثاً-‏ رواية ‏»سيرة عبادالشمس«‏ للكاتب المصري أسامة الشاذلي.‏أفكار هذه الرواية تنهار وتتداعي منأوّ‏ ل سطورها،‏ وتجعل قارئها يرى ماال يريد أن يراه.‏شخصيات الرواية:‏ نورسين ‏)األم(،‏وشكري أبو عياد ‏)المصوِّ‏ ر الراحل(،‏وعيد أبو عياد ‏)العمّ‏ (، وأيمن شكريأبو عياد ‏)محرِّك األحداث(،‏ وإذا ماوضعنا كل شخصية من هذه الشخصياتبجوار األخرى فسنجد أنفسنا أمام قطعمنثورة من مرآة محطّ‏ مة،‏ ولو حاولناأن نعيد تصليحها وتجميعها،‏ فسوفتعكس صوراً‏ متناثرة غيرمنتظمة لوضع مأساويوصلت إليه الباد.‏األب واألم والعميدينون بالبهائية ‏)ديانةألقلّيّة في مصر(،‏ يتلونصاوتهم سرّاً،‏ يتبعونتعاليم دينهم همساً،‏يظن الجيران أنهممسلمون،‏ ومن هنا تبدأالمعاناة،‏ ولكن معاناةنورسين مختلفة.‏تبدأ سطور الرواية بوفاة األب شكريأبو عياد مصوِّ‏ ر الفوتوغرافيا،‏ صاحباستوديو ‏»اضحك،‏ الصورة تطلعحلوة«،‏ ويعلِّق مساعده حسن ورقةإعاناً‏ عن وفاة المصوِّ‏ ر على جذع شجرةبجوار األستوديو،‏ لكن الورقة تطير منفوق الجذع.‏ هنا يرغمنا المشهد علىالتساؤل:‏ هل ستكون الرواية علىطريقة ‏»الفاش باك«؟أيمن يظن أن والده خان أمَّهنورسين،‏ وكان يعذّبه،‏ ويمنعه مناللعب مع أطفال الجيران،‏ إضافة إلىأن أيمن لم يعرف حقيقة ديانته التيأخفاها عنه والده طوال عمره.‏ تبدأ روحشكري أبو عياد بإلقاء صور فوتوغرافيةفي طريق أيمن الذي لم يحضر عزاءوالده،‏ وبالفعل ينجح شكري أبو عيادفي إثارة فضول ابنه أيمن بعد أن ألقىفي طريقه صورتين:‏ األولى له معأبيه وأمه وعمه،‏ والثانية لشكري أبوعياد مع نورسين.‏ لم يجد أيمن إال أمّ‏ هنورسين ليعرف منها السرّ‏ وراء هذهالصور التي أصابته بالحيرة،‏ ولكنّ‏ أمّ‏ هتعاتبه على عدم حضوره عزاء والده،‏فيخبرها أنه لم يحبّه ألنه خانها،‏ ولكننورسين تصرخ،‏ وتَتَّهمه بالجهل.‏ومع نورسين تبدأ الرحلةمن إيران،‏ مع هذه النقلة التيتشمّ‏ فيها رائحة أشجار السروالتي تعانق مزارع الكروموعناقيد العنب الناضجة.‏تحتفل نورسين بعيدميادها ال 18 في ثورة معاليساريين حينما أُسقِط شاهإيران،‏ وعُ‏ يِّن الخميني،‏ ثمقرَّر األب مغادرة إيران إلىبيروت،‏ ولكن نورسين ترفضالمغادرة فقد صنعت لنفسهامستقباً‏ أفضل،‏ أو هكذا كانت تظن،ولكنسرعان ما وجدت نفسها في المعتقاتاإليرانية،‏ يعذِّبها زبانية السجن حتىتعترف على أصدقائها اليساريين،‏صانعي الثورة،‏ وفي السجن تتعرَّضإلى أبشع أنواع التعذيب.‏استطاع األب تهريب نورسين منالسجن لتسافر إلى بيروت،‏ وهناكتتعرّف إلى شكري أبو عياد الذي أحبّهاوطلبها للزواج،‏ ولكنها تتردَّد بسبب ماأصاب عِ‏ فَّتها في السجن،‏ وتبدأ الحرباألهلية فا تجد غير مصر التي عرفتهاعن طريق صور شكري الذي كان يرسلهالها من حين إلى آخر،‏ فلم تشعر أنهاغريبة عن البلد.‏يرسل شكري أبو عياد صورة أخرىإلى أيمن يذكِّره فيها بعمِّه عيد أبو عيادالذي كان يعمل في فرقة ‏)المدبوليزم(‏مع الراحل عبد المنعم مدبولي،‏ والذيلم يستمتع يوماً‏ بالسينما ألنه تعوَّ‏ درؤية أرجل الممثِّلين وهو جالس فيالكمبوشة،‏ كانت حياته هي القراءة،‏والمسرح.‏وفي لقاء أيمن مع عيد أبو عياد الذيفرح كثيراً‏ بسبب أن أيمن تعرّف-‏ أخيراً-‏حقيقه دينه،‏ يعرف أيمن سبب تعنُّتوالده معه،‏ ويتفهَّم األمر،‏ ويستخدمالكاتب هنا صديق األسرة وصديقتهاالتي ترفض أن تأكل مع البهائيينالكفرة،‏ في التركيز على خوف شكريأبو عياد من أن يجهر بحقيقه ديانتهالبنه الذي ما زال طفاً‏ صغيراً،‏ حتىال يخبر المقرّبين أو الجيران،‏ ثم يأتيشابّ‏ ليُقرِّر أن يقتل هذه األسرة طمعاً‏في جنة األخرة.‏يقرّر أيمن أن يذهب مع نورسينلرؤية فيلم في السينما،‏ وفي السينماترى نورسين حبيبها شكري أبوعياد في الزي نفسه الذي ارتداه يومالتقاها في المطار،‏ جالساً‏ على ركبةونصف ينظر في عينيها ويغنّي لهافي سعادة ‏»على قَدّ‏ ما حبينا وتعبنافي ليالينا«،‏ وفي الركن يعزف بليغحمدي لحن األغنية،‏ وبعد االنتهاء مناألغنية يحيّيها وينصرف.‏في هذه الرواية،‏ نحن أمام بطلةحقيقة اسمها نورسين شهدت علىالتاريخ حين يسقط ويخيب،‏ حينسرقت ثورتها،‏ نورسين التي تحبّ‏وتعشق وهي مشوَّ‏ هة.‏117


نافذة الخالصعبد القادر ضيف اللهالمجموعة القصصية ‏»الدخاء«‏‏)فضاءات،‏ 2014( تأخذ القارئ إلىعالم سردي يمتاز بساسة الحكيوبتفاصيل متشعِّ‏ بة تأتي على أكثرمن حدث في القصة الواحدة،‏ الشيءالذي يجعله في حيرة من أمره حولإمكانية أن يستوعب الجنس القصصيكل تلك التفاصيل والشخصيات التيتتزاحم في القصة الواحدة لتحريكالحدث الواحد في القصص الخمسالتي وُ‏ زِّعت كالتالي:)‏ القطة...‏ سيدالبيت،‏ انتحار شاب طموح،‏ فيغياهب الشهوة،‏ لعنة األصابع،‏ ورجلعلى حافة الذاكرة(.‏ هي-‏ إذاً-‏ كَ‏ مٌ‏ منحكايات الغبن اإلنساني التي تحتاج إلىانعتاق؛ لهذا فإن المؤلِّفة سارة النمسال تريد أن تختصر أوجاع اإلنسان فيشخصية واحدة،‏ وال في حدث دخيلواحد وال في لحظة واحدة،‏ بل تريدلهذه الشخصيات أن تتعدَّد وأن تنمووتتحرَّك في أكثر من حدث كما تنموفي الحياة بصورة طبيعية وفي توازٍ‏مع شخصيات وعوامل أخرى مساعدةوأخرى مضادّة،‏ وهنا تستدعي الكاتبةموضوعة العالم اآلخر كبنية تخييليةجمالية تساهم في تشكيل النصالقصصي من جهة،‏ وتساهم-‏ من جهةأخرى-‏ في طرح العديد من المشاكلاالجتماعية المتعلقة بالعاقات اإلنسانية،‏إذ يصبح العالم اآلخر المتمثِّل في تلكاألشباح التي تظهر فجأة في حياةاألبطال موضوعاً‏ مركزياً‏ تلتقي فيه هذهالمتوالية القصصية كلها،‏ كما تصبحكل قصة من خال إشباعها بالتفاصيلالتي تحرص القاصّ‏ ة على حشدهاموضوعاً‏ آخر يشدّ‏ القارئ ويمنحهسعة من الفضاء السردي محكم الحبكعبر صور مشهدية تمتاز بالتشويق،‏وتجعل القارئ كما لو أنه أمام شاشةبازما،‏ هذه التفاصيل تمثِّل خاصيةفنية يمتاز بها النفَس السردي عندسارة النمس والذي تشكِّله كمقدّمةلتحضير القارئ لتقبُّل تلك العاقةالغرائبية التي تحدث بين تلك األشباح،‏وهي تحاول إغراء األحياء بشهيّة الموتوبشهية الخاص بعد أن أصيبوا بشرخفي حياتهم الشخصية جراء ظروفهمومشاكلهم الحياتية الصعبة التي دفعتبالبعض إلى االنتحار،‏ كما في قصة‏»انتحار شاب طموح«.‏ التي يقولفيها:‏ ‏»راودني كابوس يشبه الواقعبألمه،‏ رأيتني في الحلم أبكي بالدموعوالشهقة والحرقة كالطفل الصغير،‏وبعد ذلك تقدَّمت من النافدة ورميتبنفسي من أعلى طابق بالعمارة،‏وسقطت سقوطاً‏ عنيفاً،‏ اقتربت مناألرض فاصطدم رأسي بها،‏ تحطّ‏ متجمجمتي،‏ ونزف رأسي دماً‏ يتصاعدالدخان منه لفرط حرارته،‏ وعلى صورةذلك الدم استيقظت هَ‏ لِعاً.«‏ يتكرّر هذاالكابوس كل ليلة فيقرِّر الشاب زيارةطبيب نفسي يصف له مهدِّئات بعدأن قال له إن فكرة االنتحار كامنة فيعقله الباطن.‏يعود الشاب إلى غرفته الجامعية بعدأن خذله الطبيب الذي لم يصدِّق حكايته،‏فيقرر أن يتحدّى هواجسه بترك رسالةلهذا الشبح الذي يجده في انتظاره فيغرفته،‏ فيدرك أن الرسالة قد وصلتهبعد أن يدخل معه في حوار فلسفيعن الموت وعن االنتحار،‏ يردِّد الطيفكام الطبيب نفسه،‏ ويقول للبطل إناالنتحار هو رغبته الباطنية التي يحاولالهروب منها،‏ ثم يبدأ في إغرائه بشهيةالخاص،‏ وكيف أن الموت يحرِّر الروحمن قيد الجسد ويمنحها الخلود،‏ وحينمايقترب الشاب من النافدة يدفعه الشبحللسقوط.‏هنا تقدِّم الكاتبة انتقادها بطريقةغير مباشرة للمعاناة اإلنسانية فيالحياة من خال الذهاب إلى أقصىالحلول،‏ حتى وإن كانت بفعل االنتحار،‏الذي يصوّ‏ ر نهاية الشاب المأسوية،‏جاعلة من التراجيديا عامة تخييلسينمائي تُعاد في كل مرة،‏ وكأنهالعنة المكان ولعنة روح المنتحر فيالوقت نفسه،‏ لكن الكاتبة،‏ حتى وإنبدت من خال الحوار الذي شكَّلتهفي هذه القصة،‏ أنها تمدح االنتحار،‏118


حقيقة الثورة التونسيةوتمدح الموت بوصفه خاصاً‏ منمعاناة الحياة وقسوتها،‏ إال أنها تنتصرفي نهاية القصة للحياة حينما تنهيالقصة بنجاة هذا الشاب بعد سقوطهمن أعلى نافدة الغرفة 399، الذي لميتذكَّر سوى أن يداً‏ دفعته ليقوم بهذاالفعل،‏ وكأن صاحبة النص تقول لناإن ال أحد يستطيع أن يقدم على فعلشنيع كهذا.‏ هناك،‏ دائماً،‏ سبب أقوىأويد تدفع لهذا الفعل.‏تحرص الكاتبة على بناء مجموعتهاعلى نوع من التخييل الماورائي كتجربةسردية وجمالية تستنطق بها أوجاعشخصياتها الحالمة والفتية التيتترقَّب فرصتها في الحياة أكثر منترقُّبها لشيء آخر،‏ وهذا ما تترجمه-‏أيضاً-‏ أغلب الشخصيات المحورية التيتمثِّل شخصيات شابة شكَّلت مجموعةالدخاء؛ لهذا تأتي عتبة العنوان فيهذه المجموعة القصصية:‏ ‏»أقتحمعالمك،‏ أنا ودخائي،‏ وأعرِّفك إليهمشخصية شخصية،‏ قصة،‏ قصة،‏ أتمنّىأن تروقك رفقتي ورفقتهم«،‏ بداللتهاالرمزية،‏ معبِّرة عن قصدية التجربةالسردية التي راهنت عليها القاصّ‏ ةلتكون مختلفة عن السائد من القَصّ‏العربي المعاصر الذي طالما ركَّز تخييلهعلى الواقعي كَ‏ بُنية جمالية وفنيةتخدم موضوعه،‏ الذي غالباً‏ ما يُطرَ‏ حليعبِّر عن آفة اجتماعية ما،‏ وأيضاً‏لتجرّ‏ قرّاءها إلى تقبُّل تلك التفاصيلالواقعية المحيطة بالحدث الغرائبيالذي يدفع القارئ إلى شَ‏ دّ‏ عصبي،‏بتركيزه،‏ وبانتظاره مصائر األبطال.‏صدر،‏ مؤخَّ‏ راً،‏ عن المركز العربي لألبحاث ودراسةالسياسات،‏ كتاب مهمّ‏ ، حمل عنوان ‏»الثورة التونسية،‏القادح المحلّي تحت مجهر العلوم اإلنسانية«،‏ شاركفي تحريره سبعة باحثين تونسيين،‏ اتَّفقوا علىأن ‏»حقيقة«‏ الثورة التونسية ال تكمن في إسقاطهانظاماً‏ استبدادياً‏ خنقَ‏ الحرّيات،‏ واستهتر بالحقوق،‏وأسقَطَ‏ األخاق من مضمون العمل السياسي،‏ بقدرما هي كامنة في التساوق التاريخي المثير الذي حدثبين المضمون االجتماعي،‏ والثقافي،‏ والسياسي،‏واألخاقي،‏ والحقوقي لمطالب المحتجّ‏ ين،‏ وجملةالتحوّ‏ الت التي عرفها المجتمع التونسي على مستوىإعادة بناء هويّات األفراد وحقوقهم،‏وهويّات المجموعات ووظائفها.‏في الفصل األوّ‏ ل من الكتابيشرح عبد الحميد هنية العمقالتاريخي لمشروع التحديثالسياسي في تونس في الوسطالغربي من الباد خال القرنينالثامن عشر والتاسع عشر،‏ وفيالفصل الثاني يبيِّن المولدي األحمرأن العامل السياسي العميق الذيفَجَّ‏ ر الثورة التونسية انطاقاً‏ منسيدي بوزيد والقصرين هو انهيارالمعادالت التقليدية للتبادل في سوق سياسية محلّيّةمتخمة ومزيَّفة،‏ وفي الفصل الثالث،‏ يقدِّم محمد عليبن زينة مقاربة جيلية لسيرورة تشكِّل شعورالشباب،‏ في سيدي بوزيد والقصرين،‏ باإلحباط،‏ويعود أحمد خواجة في الفصل الرابع إلى األزمةالعميقة التي كان المجتمع المحلّي يعيشها في سيديبوزيد والقصرين،‏ ويصف حمادي التيزاوي في الفصلالخامس تاريخ تهميش المنطقتين،‏ بينما دقَّق حاتمكحلون في الفصل السادس في مسار التحضُّ‏ ر الذيعرفته المدينتان،‏ أما الفصل السابع فتناولت فيهسامية صميدة حادثة البوعزيزي من وجهة نظرنفسية،‏ واعتمدت الدراسات الواردة في الكتاب علىمعطيات رسمية،‏ وكذا على أبحاث ميدانية.‏أهمّيّة الكتاب تبدو في تقديمه قراءة نقدية جديدة،‏مع بلوغ خاصات عميقة حول الثورة التونسية.‏119


فنجان قهوة لطاولة املقعد الفارغسامل الشبانةحقّقت قصيدة النثر العربية منجزاً‏حداثياً‏ بخلخلتها للثابت،‏ إنها كتابة باقاعدة أو مثال سابق عليها،‏ ومن تجلِّياتها:‏الهامشي,‏ والمعيش,‏ واالحتفاء بالتفاصيلاليومية،‏ ومن ثَمّ‏ ابتعدت عن المقوالتالكونية والمسكوكات والمشاريع الكبرى.‏من هذا المنطلق ندلف إلى المجموعالشعرية الجديدة ‏»فنجان قهوة لطاولةالمقعد الفارغ«‏ للشاعر صاح فاروق،‏الصادرة عن ‏)دار األدهم(.‏العنوان هو العتبة التي نعبر منها إلىعالم بناه الشاعر في أنساق لغوية ومنمنطلقات جمالية وفكرية،‏فالافت للنظر احتفاءالعنوان بالفراغ الذي هوضدّ‏ االمتاء؛ فالفراغ هنافقدٌ،‏ وفنجان القهوة احتفاءوضيافة،‏ إنه احتفاء بالفقد.‏ولعلنا ال نغفل عن السخريةالمُ‏ رّة في العنوان.‏ولعل التيمة األساسيةفي الديوان هي الرثاء:‏ رثاءالصديق:‏ مرآة الذات/‏ رثاءالذات يف اغرتابها وفراغالعامل من وجودها اخلافت:‏‏»خسرت هذا العام قدمني/‏ واحدة رفيقغربة/‏ والثانية تسأل عني يف غربتي«‏‏)حين نخسر األقدام،‏ ص 25(.إن الشاعر جعل الصديق قدماً‏ تمشي بهنحو الدفء اإلنساني والبهجة،‏ وتفاعلهمع العالم واالنخراط فيه بكل ما يعتملفيه من غربة ومكابدة،‏ إنها حامل األمنياتوالرغبات المرجوّ‏ ة.‏رثاء الذات التي استُلِبَتْ‏ وفقدتحضورها وتفاعلها مع ما تحبّ‏ ، بسقوطهافي نُظُ‏ م اجتماعية أرهقتها بالقيود وألقتبها في جحيم االغتراب:‏ المدينة،‏ العائلة،‏الغربة،‏ العالم:‏ ‏»ماذا لدينا سوى البقاءفي مقاعدنا / نراقب الخلق وهي تجري«‏‏)المقعد الفارغ،‏ ص 8(.ولعل رثاء الذات تجلّى في نصّ‏‏)خريف 2012( يقول الشاعر:‏ ‏»برد يفعظامي/‏ ووحدة يف قلبي/‏ وفراغ العاملكلّه حاضر إيلّ/‏ يبكي معي ويضحك/‏يبك ي وي دس رأس ه يف عي ون غريب ة/‏وفراش مل يعد يطيقني/‏ وال يصدق أني:‏رفيقه الوحيد«‏ ‏)خريف 2012 ص 46(.الغربة واالغتراب من مظاهر ضياعوذوبان الذات اإلنسانية الفردية وانسحاقهافي العالم الهادر المركّ‏ ب،‏ الذي يتشابكويتصارع بعاقات عصيّةعلى التفكيك وإمكانية فكّ‏شيفراتها؛ فتبحث عن حلوللتفادي هول االنسحاق منخال بُنى شعرية تستحضرالغربة؛ كأنها السحرالتشاكلي كما كتب جيمسفريزر في كتابه ‏»الغصنالذهبي«‏ الذي يقوم علىاستحضار اإلنسان البدائيللحيوان المفترس،‏ الذييخشاه وال يقدر أن يواجهه،‏في رسم أو دمية،‏ وطَ‏ عَ‏ نهللتخلُّص منه.‏ مثال ذلك نصّ‏ ‏)الغربةوالحلم المؤجَّ‏ ل،‏ ص 33(كيف تتخلّص الذات من رعب الغربةوالذوبان في صقيع العالم؟!‏ إن الشاعريرتدّ‏ إلى جنّة النوستالجيا والحنين الذيهو أيضاً‏ ‏»عبودية زرقاء«‏ كما قال مرةالشاعر محمد فريد أبو سعدة.‏أقام الشاعر بُناه الشعرية وتصوّ‏ ره عنالعالم والذات والحياة عبر آليّات لغوية،‏من مامحها استفادته من تقنيات السردكما في نصوص:‏ ‏»اآلباء العصريون-‏ حيننخسر األقدام،‏ كما في األفام«‏ فنجد فيها:‏وصف اليومي والهامشي وتسليط الضوءعلى حدث بؤري،‏ الحوار،‏ اللغة المحايدة؛أقصد عدم انشغالها بالمحسنات الباغيةالقديمة،‏ فهي أقرب إلى لغة اإلنسانالبسيط،‏ خالية من التنميق والمجاز،‏وتؤدّي رسالتها اإلشارية في التواصل،‏عارية من بهرج يعيق رشاقتها،‏ ويفرغهامن محتواها الفكري والشعوري:‏ ‏»ماذايفعل األصدقاء اآلن؟!/‏ يشربون الشاي/‏ويشدون حجرين/‏ واعدين النفس بالكَ‏ فّ‏عن هكذا عادة يف الغد/‏ القريب«‏‏)المقعد الفارغ،‏ ص 5(.الصورة في الديوان هي ‏-غالباً-‏ صوركلّيّة؛ فتقريباً‏ النص الواحد كلّه صورةتعتمد المفارقة والتضادّ‏ الذي يخلق التوتُّروالدهشة؛ وقد تجد صوراً‏ جزئية الفتةمثل قصائد:‏ ‏»الصدر المنتفخ كبالونمتهدِّل،‏ المقعد الفارغ،‏ أصبحت ظلّ‏ ً ناتئاً‏في الدروب،‏ القلب الذي يكلّم نفسه،‏والفتى الحالم«.‏أيضاً‏ من تقنيات الكتابة في الديوانالتناصّ‏ ، سواء مع الكتاب المقدَّس كمافي ‏»القلب الذي يكلم نفسه والفتى الحالم/ هيباتيا«‏ أو مع القرآن الكريم كما فينص ‏»الطريق«.‏ إن التناصّ‏ هنا نسج علىمنوال األسطوري مما يمنح النص مذاقاً‏جديدا،‏ يحيل األسطوري على اليوميوالمعيش وعلى تجربة الذات الشاعرةالتي تحاول صناعة أسطورتها في العالمبآلياتها التي تملكها وهي اللغة.‏إن تجربة الشاعر صاح فاروق فيهذه المجموعة الشعرية تجربة هادئةفي صياغتها،‏ استطاعت أن تعبِّر عنتمزُّق اإلنسان في المدن ومعاناة الغربةوالفقد،‏ والنوستالجيا التي حاولت أنتصنع جنةّ‏ من مواقف وخبرات سعيدةمَ‏ رَّت بالذات الشاعرة.‏120


أبطال خرسوا املعركةخاص ب»الدوحة«‏حصل الروائي الفرنسي أنطوانفولودين على جائزة الميديسيس )2014(عن روايته ‏»المحطّ‏ ة األخيرة المشعّ‏ ة«‏الصادرة عن ‏)دار سوي(.‏ العنوان الساخرال يعكس مضمون الرواية التي تحكيعن مناطق متخيَّلة تعرضت لإلشعاعاتالنووية بعد ‏»االتحاد السوفياتي الثاني«،‏حيث نعثر على ناجين قليلين من اليوتوبيااالشتراكية:‏ سائقي جرّارات،‏ كولخوزيينوكومسومولزيين،‏ وسجناء متحرِّرين،‏وقَتَلة مأجورين.‏ هؤالء هم أبطال هذهالرواية الهذيانية التي تتناول-‏ بأسلوبقوي-‏ قصص أشخاص أصبحوا ‏-بفعلالكارثة-‏ مسوخاً،‏ ال يعرفون إن كانواأحياء أم أمواتاً.‏وسط غابة ‏»التايغا«‏ المظلمةوالشاسعة،‏ وسهوب ال نهاية لها،‏يعرض أنطوان فولودين المشهد األولالذي يحدث بعد انتشار اإلشعاع الكلّيفوق سيبيريا،‏ وانهيار االتحاد السوفياتيالثاني،‏ وانصرام قرون فيما بعد.‏ المنطقةدمَّرَ‏ تها الحوادث النووية ولم تعد صالحةإطاقاً‏ للسكن.‏ بعد هذه األحداث أصبحللعالم المنهار مركزاً‏ يدعى ‏»المحطةاألخيرة المشعّ‏ ة«،‏ حيث رئيس القرية،‏يضع قوّ‏ ته الخارقة في خدمة حلمه المتمثِّلفي الهيمنة الشاملة على الحياة والموت،‏والحب الخالد،‏ والوالدة.‏ تساعده في هذااإلنجاز ‏»ميمي أودغول«‏ الخالدة.‏ يحكمويتحكَّم في مصير الرجال والنساء الذيناستوطنوا المنطقة.‏وليس بعيداً‏ عن الكولخوز السكنيوالزراعي تمرّ‏ السكة الحديدية التييعبرها القطار نفسه دائماً.‏ يبحث السجناءوالجنود با جدوى عن مخيم حيث قدينهون تيههم الانهائي.‏ ولكن-‏ مرةأخرى-‏ يحتاج هؤالء إلى آالف السنينكي ينطفئ كابوس الفاجعة في ذاكرتهم.‏الرواية تتجاوز كتب أنطوانفولودين السابقة،‏ فهي بوّ‏ ابة علىعالم غريب،‏ أبطاله خسروا المعركةبعد فشل وغرق االتّحادالسوفياتي الثاني،‏ فيأعقاب سلسلة من الحوادثالنووية الصغيرة المتهالكةوانهيار منطقة األوربيس،‏آخر معقل للمقاومة ألولئكالذين قاتلوا من أجل عالمالمساواة،‏ والحرّية،‏ وهم:‏إيليوشينكو،‏ كروناويروفاسيليسا ماراشفيلي الذينيشكِّلون ثاثة محاربينيسابقون الساعة من أجلإنقاذ حياتهم من مذبحة محقَّقة،‏ لم تكنأمامهم خيارات كثيرة سوى اللجوء إلىالمناطق غير الصالحة للسكن بسبب تلوُّثهاباإلشعاعات.‏وخال مسيرتهم نحو الموت،‏يخوضون في أمكنة قاحلة وفيفاء التايغا،‏ثم يقتربون من الكولخوز الذي يطلقونعليه ‏»المحطّ‏ ة األخيرة المشعّ‏ ة«،‏ تجمُّعبشري منعزل عن العالم وعن مسار الحزبمنذ زمن بعيد،‏ حيث يوجد الرئيسوشخص آخر يدعى سولفويي.‏ رجليفرض نفسه،‏ ذو مامح فاح روسيأشعث،‏ ساحر يلجأ إلى ممارساتغامضة،‏ تشاركه فيها الميمي أوغدول.‏يُعَ‏ دّان معاً‏ ظاهرة خاصة ألن جسدهماال يتأثر باإلشعاعات النووية.‏ يفرضسولفويي هيمنة ذهنية بحيث أصبحبمقدوره التغلغل إلى داخل أحام الناس.‏داخل هذه الطبيعة التي حوَّ‏ لهااإلنسان،‏ منذ قرون،‏ إلى يباب،‏ تدفعاإلنسانية ضريبة حمقها الوجوديوإسرافها في القوة والتسلُّح.‏يقدِّم الروائي الفرنسي أنطوان فولودينحكاية مؤثِّرة عن أفول البشرية داخلمكان وزمان يبدو أنهما يتمدَّدان إلى ماالنهاية وفي اتِّجاهات متناقضة،‏ لكن،‏وسط صور باهرة وأحام عجيبة ‏»فوقالسهوب سماء تومضوقوس جميل رمادي ذو لونمتساوٍ‏ . تشهد الغيوم والهواءالدافئ واألعشاب أن ال مكانللبشر على هذه األرض،‏ورغم ذلك تدعونا إلىملء رئتينا بهوائها وغناءأناشيد إلى الطبيعة،‏ وإلىقوّ‏ تها التواصلية وجمالها«.‏سيواصل كرونواير الجنديالسابق مسيره دون تفكير،‏مقتحماً‏ هذا الجمال الطبيعيالخادع ومانحاً‏ الرواية فصاً‏ سياسياً‏وشاعرياً‏ ابتدأ أنطوان فولودين كتابته منذثاثين عاماً‏ مكرّراً‏ ومدقّقاً‏ ومتعمّقاً‏ على مرّ‏السنين وتوالي اإلصدارات،‏ حافظ خاله،‏على عوالم متخيَّلة متفرِّدة بانسجامها،‏عوالم منهارة وقاحلة كما لو أنها مدمَّرةبواسطة حرب كارثية صانعها الوحيد هواإلنسان.‏ عالم مهزوم بالثورات الضالةوالحروب والمجازر الدموية.‏ وحيثاإلنسانية في رمقها األخير ولكنها صامدة،‏بشكل ال يصدق،‏ للمحافظة على الشعلةالصغيرة التي ستحافظ على الحياة،‏وربما بقاء اإلنسان على قيد الحياة.‏وكما هو الحال دائماً،‏ مع رواياتأنطوان فولودين،‏ هناك مزج بينالفكاهة والمأساة،‏ مع إحاالت قويةعلى الواقع والتاريخ جنباً‏ إلى جنبمع تشويش محيّر للمعالم الفضائية.‏في هذا السياق كل شيء يظهر كارثياً‏وملموساً،‏ لهذا تصبح مغامرات كرونوايردعامة ألحام يقظة شاعرية ومكثَّفةومؤثِّرة.‏ وربما هذا االنحياز السرديالغرائبي والجمالي الملتزم ما استماللجنة جائزة ‏»الميديسيس«‏ ودفعها إلعانهامتوَّ‏ جة بالجائزة هذا العام.‏121


مديح الصداقةرسائل بين شاعرين - 1952 1983سعيد بوكراميحتى وإن كانت تفصل بين الشاعرينالكبيرين الفرنسي رونيه شار ‏)ولد فيعام 1907( واألرجنتيني راؤول غوستافوأغيري ‏)ولد عام 1927( عشرون عاماً‏وبحر شاسع،‏ ورغم هذا الفارق الزمنيوالجغرافي،‏ فإن صداقة أدبية حميمةوخصبة جمعتهما،‏ أثمرت مراسات عميقةامتدَّت على مدار ثاثين عاماً.‏ هذا مايمكن االطّ‏ اع عليه،‏ عن كثب،‏ من خالرسائلهما المنشورة-‏ ألوّ‏ ل مرة-‏ عن دارغاليمار بفرنسا.‏تكشف الرسائل المؤرَّخة ما بين 1952و‎1983‎ عن روابط أدبية وإنسانية رفيعةنسغها التقدير واإلعجاب والمودّة.‏في عام 1952، كتب أغيري،‏ باللغةالفرنسية،‏ رسالته األولى التي عَ‏ بَّرَ‏ فيهاعن إعجابه تجاه هنري شار:‏ ‏»منذ فترةطويلة وأنا أعكف على قصائدك،‏ وأعودإليها باستمرار،‏ ثم انتهى بي األمر إلىأَالّ‏ أومن إال بك«‏ وبعد عام،‏ سيترجم،‏أغيري،‏ بسخاء،‏ قصائد رينيه شار وينشرمختارات منها.‏ هذه اليد الممدودة،‏ سيردّ‏عليها شار باالمتنان واإلعجاب والصداقة.‏على مدى السنوات التالية،‏ سيتكثَّفالحوار،‏ وتتعزَّز المراسات مشحونةبالقصائد والترجمات،‏ واستحضار المحن:‏بالنسبة لرونيه شار كان المرض،‏وبالنسبة ألغيري كان القمع في ظلالديكتاتوريات المختلفة في األرجنتين.‏ولمواجهة األمر تَعَ‏ لَّقا معاً‏ بالشعر األبدي،‏وبالصداقة متقاطعة المصائر والقضايا.‏في شهر مايو/أيار 1974 سيستضيفشار أغيري في بيته ببوسكا في فرنسا،‏فتتوطّ‏ د العاقة بينهما إلى شجونوشؤون أدبية ومشاريع مشتركة.‏الكتاب عاقة أخوية بين عاشقينللكلمات العادلة،‏ كانا،‏ معاً،‏ مناضلينشرسين من أجل الحرّية.‏ فإلى جانبقصائدهما القصيرة،‏ نكتشف،‏ أيضاً،‏تعليقات وردود فعل بهلوانَيْن بالكلمات،‏حيث تعبر الرسائل عن عاقة أدبيةوإنسانية حميمة،‏ رغم حاجز اللغةوالترجمة؛ لذلك عندما يكتب رينيه شارفي ديسمبر/كانون األول 1975: ‏»صديقيالعزيز،‏ قد يتعذَّر عليّ‏ التواصل،‏ لكنليست هذه هي العبارة الصحيحة،‏ ألننيقد أتخلَّف عنك في فهم الفكرة وفيالشعر«‏ وفي فبراير/شباط عام 1976،أغيري يكتب،‏ بدوره،‏ إلى صديقه:‏ ‏»لقدمكثت متأثِّراً‏ كثيراً‏ بقصيدة ‏»ماحظةسيبيرية«‏ التي أكرمتني بكتابتها ليبخطّ‏ يدك«.‏مثل هذا الحوار األدبي العميق،‏ بينمستكشفَيْن لينابيع الكلمات،‏ يضيءجيداً‏ طريقة تشكُّل أعمالهما الشعريةعبر سنوات من اإلبداع واإلشعاع.‏بعد 61 سنة من نشر إبداع الشاعراألرجنتيني راؤول غوستافو أغيري )1927- 1983( احتفاء بالشاعر الفرنسي رونيهشار )1907 - 1988( في مجلة ‏»شعربوينس آيريس«‏ الطليعية،‏ يلتقي هذانالشاعران الكبيران في كتاب نشرته دارغاليمار.‏ فكيف تَمَّ‏ هذا اإلنجاز؟قامت أرملة شار،‏ ماري كلود،‏ بزيارةلبوينس آيرس تلبية لدعوة مارتا أرملةراؤول غوستافو أغيري،‏ فطلبت منها أنتتكلَّف بنشر مراسات الشاعرين.‏ وهذاما قامت به أرملة شار حينما أعلنتأنها ستنشر الرسائل هذا العام »2014«.كان لقاء الشاعرين،‏ في مستوىالكلمات المشتركة بينهما يوفِّر للقارئاالطِّ‏ اع على تفاصيل غائبة من حياتهما.‏تفاصيل حياة الشاعر المتصادم بكلماتهالصغيرة محاوالً‏ السموّ‏ بالجمال والدنوّ‏من األعماق الذاتية،‏ ومن خالها،‏ سبرأعماق اآلخر والعالم.‏122


أمامنا كلمات عن أفضل الذكرياتوأنبلها،‏ عن الفرح والحزن واإلخفاقوالحيوية والعجز.رسائل تخطف القارئإلى عالمين شعريين فرّقتهما السنونوالمسافات،‏ وجمعتهما الصداقة.‏6 أكتوبر 1952من راؤول غوستافو أغيريإلى رونيه شار)‏‎1‎‏(‏رونيه شار،‏إنه عنفوان الشباب،‏ أجل،‏ حتى فيبلد مخنوق)‏‎2‎‏(‏ نحن بحاجة إلى حركةشعرية ‏)خارجنا وفي داخلنا(.‏أصدرنا Aires« »Poesía Buenosنريد أن نهديك عدد خريف 1953 ‏)حيثتوجد قصائد مترجمة إلى اإلسبانية،‏ فصل‏»اإلنسان«‏ المأخوذ من مونان.‏ ومقتطفاتمن حوارك مع بيير بيرجي،‏ ومشاهدمن ‏»محار«‏ و»شمس المياه)‏‎3‎‏(«.‏يؤسفني عدم حصولي على كتابموريس بانشو:‏ ‏»حصة النار«)‏‎4‎‏(،‏ وكذاقصائد كتبك األولى.‏منذ فترة طويلة وأنا أعكف علىقصائدك وأعود إليها باستمرار،‏ ثمانتهى بي األمر إلى أَالّ‏ أومن إال بك.‏ ماالعمل-‏ يا رونيه شار-‏ أمام هذه العزلةالتي أعيشها،‏ غير أن نكون أصدقاء؟أعتذر عن فرنسيتي المتوحِّ‏ شة.‏ هلتقرأ اإلسبانية؟في انتظار موافقتك.‏تقبَّل تحياتي األخوية.‏راؤول غ أغيريكورينتس 745.بوينس آيرس ‏)ر 31(األرجنتين.‏18 نوفمبر 1952من راؤول غوستافو أغيريإلى رونيه شار )5(‏»وصلت هذه األطعمة السعيدة )6(أباشر اآلن عماً‏ سهاً‏ وخالصاً،‏ستصلك نتائجه نهاية إبريل،‏ ويونيو.1953أحيّي حضورك على هذه األرض،‏طيِّبة متدفِّقة،‏ وتأكيد لإلنسان.‏راؤول غ أغيريبوينس آيرس،‏ 1 يونيو 1953صديقي العزيز،‏رجاءً‏ ، اسمح لي أن أكتب لك بلغتي.‏التواصل صعب،‏ ويعسر أكثر عندمايكون من خال لغة،‏ أنا أعرفها جيداً‏طبعاً،‏ ولكن،‏ ال أستطيع أن أعبِّر بهاعن نفسي دون فظاظة،‏ خاصة وأنّيلم أترعرع داخلها.‏كيف أعبر لك عن مدى تقديري لكوإعجابي بك؟ أعلم أن ذلك سيكون منالمفيد،‏ ألن من وصل،‏ مثلك،‏ إلى هذاالمستوى من الوعي الدقيق يجب أن يكونمتعباً‏ من االعتراف المصطنع والمديحالعقيم واإلعجاب المخيف،‏ خاصة منأولئك الذين يعدّون الشعر مهارة لفظيةالنهائية.‏تبلبلني عزلة الشاعر التي تعيشها،‏بوضوح جليّ‏ ، وسط فوضى هذا القرن.‏أُكِ‏ نّ‏ لك إعجاباً‏ كبيراً،‏ ومعجب أكثربعالمك الذي ال يحتاج إلى براهين للتأكيدعلى إنسانيتك.‏هامش:‏1- رسالة مرقونة،‏ كُ‏ تِبت باللغة الفرنسية.‏2- في فبراير 1946، أصبح خوان بيرونرئيس األرجنتين رفقة زوجته إيفا،‏ حدثتالعديد من اإلصاحات االجتماعية؛ لكن المثقَّفيناضطُ‏ هِدوا،‏ وحوصرت الجامعة.‏ في سبتمبر 1955،أَجبرَ‏ ت ‏»الثورة التحررية«‏ ديكتاتورية خوانبيرون على االستقالة.‏3- رونيه شار.‏ ‏»محار،‏ مسرح العشب«.‏غاليمار،‏ يوليو 1949. ‏»شمس المياه،‏ عرضلشبكة الصيادين«-‏ غاليمار.‏ إبريل 1951.4- موريس بانشو.‏ ‏»حصة النار«-‏ غاليمار،‏يونيو 19495- رسالة مرقونة باللغة الفرنسية.‏6- يقصد القصائد التي كان يرسلها إليهرونيه شار.‏123


تشكيل124


وَرْشَ‏ ةُ‏فَ‏ ريد بَلْكاهِ‏ يَةافتقدت الساحتان المغربية والعربيةمؤخراً‏ الفنان التشكيلي المغربي المائزفريد بلكاهية،‏ الذي يُعد أحد أقطاب الفنَّيْنالعربي واإلفريقي المُ‏ عاصِ‏ رَ‏ يْن.‏ في هذاالملف الخاص تقدم « الدوحة«‏ جوانبمتعددة من تجربته الفنية من خالل نقادعرفوه وخبروه عن كثب.‏125


بنيونس عمريوشترعرع بلكاهية في عائلة بالبادية،‏ حيث وُ‏ لِدَ‏ عام 1934، وعلى إثرحرمانه من أمه التي لم يعرفها نتيجة طالقها من والده،‏ تكفَّلت جدتهمن أبيه بتربيته،‏ وظلّت مصدر انشداده برائحة الحِ‏ نَّاء.‏سرية متواصلةمنذ نعومة أظافره،‏ عاش بلكاهية قريباً‏من مشاهير المُ‏ صوِّ‏ رين Les peintres‏)نيكوال دوستاييل ،Nicola de Staelجانين غيو ،Jeannine Guillou هنريماتيس )...Matisse Henri وكان أبوهقد تعرف على هؤالء الفنانين خال رحاتهالمرتبطة بعمله كمتخصص في مستخلصاتالعطور،‏ كما كان يستقبلهم في ضيعته،‏فكان فريد يَسْ‏ تَحْ‏ سِ‏ ن القيام – معهم-‏ بدورالموديل ،Model الشيء الذي كان يشكلمنتهى الغرابة في المغرب وقتذاك.‏بعد دراساته الثانوية بمدينتَيْ‏ الجديدةومراكش،‏ اشتغل مُ‏ علماً‏ بوَ‏ رْ‏ زازات،‏ وبعدأول معرض له بأحد فنادق مراكش في1953، التحق بمدرسة الفنون الجميلةبباريس بين 1954 و‎1959‎‏،‏ حيث تَمَ‏ لَّكَ‏ هالتمرد تجاه صرامة المِنْهاج التعليمي،‏مما دفعه إلى االحتكاك المباشر بالحركيةالفنية الخارجية السائدة بالحي اللّ‏ تيني،‏والموصولة بالعصر الذهبي لسان جرمان.S Germain آنئذ،‏ حيث التقى بالفنانِينسيزار Cézar وسالفادور دالي وماكسإرنست .M، Ernest وبالسينمائي أبلجانس Abel Gance والمسرحي أدموف...Admov وعرفت هذه الفترة تأثرهبالبُعْ‏ دين الديني والتراجيدي في لوحاترُ‏ وُ‏ و .Roueauفي أوج الصراع السياسي وتصاعد حركةالصمود في 1955، وبتحفيز من الشيوعيعبد العزيز بال،‏ سيشارك في مهرجانفارسوفيا الدولي للشباب،‏ ويزور مخيماتأوشويتز ،Auschwitz مما رَ‏ سّ‏ خَ‏ لديهالمعانات اإلنسانية،‏ لتنطبع تعبيريتهبأحاسيس العنف والرعب.‏بدافع االستطاع والفضول،‏ سيتمكنمن الحصول على منحة،‏ خوّ‏ لت له استكمالدراسته في مجال الديكور المسرحي فيبراغ بتشيكوسلوفاكيا بين 1959 و‎1962‎‏،‏ليمسي تشاؤمه من الشيوعية ملموساً؛فعمل على تجويد بحوثه،‏ وبدت الوجوهبألوان قاتمة تجتاح مساحة لوحاته،‏ بتأثيرمن أسلوب بول كلي .P، Klee بينمااستعاد العامات ‏)الدائرة والسهم(‏ ذاتالبعد الصوفي الموغل في الذات اإلنسانية.‏بعد عودته إلى المغرب،‏ سيتولى إدارةمدرسة الفنون الجميلة بالدار البيضاء)1962 1974( - ويعمل بمعية فريقهالبيداغوجي ‏)الفنانان محمد المليحيومحمد شبعة،‏ اإليطالية طوني مارايني،Toni Maraini الهولندي بيرت فلينت)Bert Flint على تكوين محترفاتالصناعة التقليدية:‏ الزربية،‏ الفخار،‏الخشب المصبوغ،‏ الجواهر،‏ في اتجاهإيجاد صيغة مبتكرة للثقافة المغربية.‏ كمانظموا معرضاً‏ فنياً‏ بجامع الفناء بمراكش‏)وبعده بالدار البيضاء(،‏ باعتباره أولتظاهرة في الفضاء العام وأول تجربة تقطعمع التصوير التشخيصي La peinture.figurative وفي 1966 انضم بلكاهيةإلى ‏»أنفاس«،‏ المجلة اليسارية التي كانيديرها الشاعر عبد اللطيف اللعبي،‏ إذ ظَ‏ لّ‏رفقة مجايليه نبيهاً‏ ومنخرطاً‏ في الجدلَيْنالسياسي والفكري اللذيْن طبعاً‏ تلك الحقبةالعصيبة من تاريخ المغرب المعاصر.‏بعد اشتغاله على الورق،‏ واستبعادأسناد القماش،‏ غامر في تجربته النحاسيةالتي أطلقت عنان طاقته الجسمانية،‏ إذاشتغل بمهارة الصانع في تقطيع الخشبوتغليفه بصفائح النحاس،‏ وبرؤية المبدعالذي يؤلف الموتيفات واألشكال العضوية،‏المشتقة من لولبية أُنثوية قائمة علىتجزيئية جَ‏ سَ‏ دانِية،‏ خارج نطاق األضاعوالمقاييس ‏)المربع والمستطيل(‏ المتواضععليها في تقديم اللوحة لدى الغرب.‏إن انتصار فريد بلكاهية المُ‏ ستدامللتقنيات الحِ‏ رَ‏ فِية،‏ هو النتيجة المنسجمةمع مقولته الرُّؤيوية والنافذة ‏»التقليدمستقبل اإلنسان«،‏ بحيث اعتمد الموادوالمُ‏ لَوِّ‏ نات المحلية والتقليدية،‏ كبنيةمادية وبصرية قابلة للتطويع والتحويلوالمساءلة،‏ وذلك ضمن تَصَ‏ وُّ‏ ر تعبيري126


يتخذ فيه الشكل La forme قطب الرحىفي التعبير الذي ينهل من مفاهيم الحداثةبناءً‏ على تَمَثُّل القيم العتيقة،‏ وينحاز – فيالوقت نفسه-‏ إلى أسلوب فريد ومعاصريستوعب المزاج اإلفريقي على وجهالخصوص.‏ فاعتماداً‏ على هذه التكاملية،‏ترجم مختلف صور المُ‏ جابهة بين الرغبةوالمُ‏ قَدَّس.‏ ومن منطلق المقدس أيضاً،‏ومع تَفَرُّغه الكلي إلبداعاته في 1974،سيدشن تجربة جديدة باعتماد الجلد ‏)جلدالخروف(‏ باعتباره مادة نبيلة،‏ تستجيبلألصْ‏ باغ الطبيعية ‏)الحناء،‏ الزعفران،‏قشور الرمان،‏ الكوبلت،‏ ومختلف األلوانالترابية(،‏ وهي التجربة التي استرجعمعها أبجدية تيفيناغ الطّ‏ وارِ‏ ق،‏ ودائماً‏ضمن تكوينات عضوية خاضعة للتطويروالتدبير المُ‏ كابِر،‏ والمدفوع بحس جماليحديث.‏في السنة المنصرمة ‏)أكّ‏ توبر/تشريناألول 2013(، مَ‏ ثَّل الفنان فريد بلكاهيةالحضور المغربي واإلفريقي في المعرضالدولي الكبير المُ‏ نظّ‏ م من قبل المتحفالوطني للفن الحديث بباريس:‏ ‏»الحداثةبصيغة الجمع«،‏ من خال عمله الموسومب ‏»تكريماً‏ لغاستون باشار«،‏ الذي اقتناههذا المتحف المعروف بمتحف جورجبومبيدو،‏ حيث أكد مديره ميشيل غوتييه،Michel Gauthier على أن مسألة اقتناءعمل ‏»تكريماً‏ لغاستون باشار«‏ مبرَّرةباالستناد إلى توقيع فريد بلكاهية،‏ الذي‏»يُعد من الفنانين التاريخيين للحداثة فيالمغرب وبشكل أوسع في شمال إفريقيا«.‏إلى»‏ غاستون باشار«‏ متحف جورج بومبيدو باريسفريد بلكاهيةإنه إبداع فني مُ‏ تميّز لفنان باحث،‏ ظَ‏ لّ‏ مُ‏ تعلقاً‏ باالستقالية الخيميائية للمادة،‏مُ‏ ستكشِ‏ فاً‏ الفنون المألوفة،‏ وأيضاً‏ هذا الفضاء الامحدود بين الرسم والنحت.‏لقد واجه النحاس،‏ ثم الجلد المبسوط على ألواح الخشب بطاقة تجعل شفافيته،‏بعد المعالجة التقنية تخفف نوعاً‏ ما من اشتداده وتوتره.‏ يضع في كل ذلكوبجماليته الخاصة،‏ رموزاً،‏ عامات،‏ شعارات،‏ أشكاالً‏ واضحة،‏ شارات منسيّة،‏رسوماً‏ تخطيطية جنسية أو نجمية.‏ إنها مذكرة تمنحه القدرة على توهم الصورواآلثار األصلية النموذجية،‏ جاعاً‏ منها لعبة مُ‏ ربكة أو مسلساً،‏ حيث يكونالاعب ‏)الفنان(‏ هو في الوقت نفسه جزء من اللعبة.‏عبد الكبري الخطيبي‏)روائي وشاعر الغيرية واالختاف(‏127


إلكسندر كازيروينترجمة:‏ محمد مروانيرتبط محترف فريد بلكاهية حميمياً‏ بمنزله في مراكش،‏ والذيصوّ‏ ره راؤول رويز Raoul Ruiz في فيلمه Talla« .»Paya et فيهذا العمل السينمائي الذي عُ‏ رِضَ‏ أول مرة في 1988، يقحم المخرجالشيلي المشاهد في الفضاءات الخاصة بالفنان،‏ مُ‏ برزاً‏ الروابطالقائمة بين فضاءات الحياة واإلبداع.‏ والمحترف 21 يسعى اليومإلى محاولة مُ‏ شابِهة وفي غاية الطموح نفسه،‏ ليؤكد الدور المهمواألساسي الذي يلعبه سلفاً‏ هذا الرواق الفني في هيكلة المشهد الفنيالجديد في المغرب،‏ وفي العالم العربي بوجه أعم.‏املحرتف والكرة األرضيةفريد بلكاهية والخريطة الجديدة للعالم *إن المحترف 21، وعلى طول الفترةالممتدة من ‎10‎نوفمبر/تشرين الثاني 2013إلى غاية 20 يناير/كانون الثاني 2014،سيتيح لجمهور عريض فرصة مُ‏ شاهَ‏ دةمحترف فنان،‏ تماماً‏ كما تفعل المتاحفعادة.‏ محترف فريد بلكاهية سيُعاد إنشاؤهوتشكيله في مدينة الدار البيضاء.‏ وهذا المقال،‏بدل أن يتدخّ‏ ل في عاقة الزائر بالمحترف،‏يحاول إتمام رحلة بأخرى،‏ رحلة تتعقّبالمسالك والطرق التي بصمها بلكاهية خارجالمغرب منذ الخمسينيات من ق 20، في هذاالمحترف اآلخر بدون جدران،‏ والذي تمثّلفي الكرة األرضية بالنسبة إليه.‏إهداء إلى غاستون باشار Gaston:Bachelard ذلك هو عنوان أحد أهماألعمال الفنية لفريد بلكاهية.‏ عمل يعودإلى سنة 1984 اقتناه مركز بومبيدو.‏Pompidou سنة ‎2013‎؛ وهو اآلن مناألعمال المعروضة والمعلّقة بشكل دائم ضمنمعروضاته.‏ مندوب هذا المركز أطلق عليهاسم ‏»حداثات مُ‏ تعدّدة«.‏ والحضور الوازنلهذه القطعة الفنية ذات مقاس حوالي ثاثةأمتار على اثنين،‏ والتي يصعب تصنيفهاضمن خانة الرسم أو النحت أو اإلنشاء،‏في قسم ‏»حداثات شرقية«،‏ يتمثل في أنهاإهداء من فنان مغربي إلى أحد كبار الفاسفةالفرنسيين في ق 20. هذا الحضور هو أيضاً‏اعتراف من قبل السلطات الثقافية الفرنسية،‏المنتجة دائماً‏ للقيم العالمية في مجال الفنالمعاصر،‏ بمساهمة باقي فناني العالم فيكتابة تاريخ الفن الحديث،‏ ومن أبرزهموأهمهم فريد بلكاهية في بداية هذا القرنالحادي والعشرين.‏إهداء إلى غاستون باشار،‏ هو عملينتظم وفق مشهدين طبيعيين،‏ األول:‏أرضي وسماوي،‏ ويحيل على غاستونباشار )1962-1884(، مفكر العناصراألربعة:‏ الماء،‏ التراب،‏ الهواء والنار.‏بركان ممتلئ حمماً‏ ينتصب أمام قوس قزح،‏وسحب فوقه تهدّده بأمطار غزيرة.‏ والثاني:‏جسدي وذهني،‏ ال يظهر بشكل مباشر للذينال يعرفون اإلنتاج الفني لفريد بلكاهية.‏في هذا العمل،‏ يلعب الجسد األنثوي دورخيط ناظم يربط المخلوقات ببعضها البعض،‏كما يربط أيضاً‏ حياة وعمل الفنان بما هوكوني،‏ من خال الرغبة والحب واالرتباطباألم.‏إن األشكال الممتلئة والمستديرة للبركانهي أشكال جسد تحوّ‏ ل إلى عامات؛ واألشكالالمجوّ‏ فة والمتشابكة أو المتعالقة للسحب هيحدود للعقل.‏ هذا السحاب هو عالم باشار،‏أما عالم بلكاهية فهو هذه الرموز العضويةالمائلة.‏ وبغض النظر عن الهدف األصليللفنان،‏ فإن من الممكن اعتبارها خريطةلحياته،‏ خريطة للجدل القائم بين أوروباوإفريقيا،‏ بين شمال أنهكته الحروب التي أدتإليها أفكاره،‏ وجنوب يفرض ذاته باستمراركطاقة ديموغرافية في إطار العولمة الجديدةالتي أعلنت بدايتها سنوات الثمانينيات منالقرن الماضي.‏غاستون باشار،‏ ذو اللحية البيضاءالطويلة في خريف حياته والشبيهة إلى حدما بسحابة،‏ كان ذا هالة وصيت ذائع في128


الحي الاتيني Le Quartier Latin وسان- جرمان – دي ‏–بري Saint-Germain-des-Prés في الخمسينيات من ق 20، حيثبدأ فريد بلكاهية آنذاك االستكشاف والتجوّ‏ لفي أزقتهما وشوارعهما.‏ وفي سنة 1955سيحل بباريس لالتحاق بمدرسة الفنونالجميلة الواقعة في شارع بونابارت بيناللوڤر،‏ السوربون ومونبارناس.‏ كان عمرهآنذاك واحداً‏ وعشرين عاماً،‏ كما كان ممتلئاً‏طاقة مثل بركان.‏ قبل ذلك،‏ مارس الرسمفي المغرب.‏ واحتكاكه األول بالفن الحديثيرجع إلى مرحلة الطفولة،‏ حيث كان أبوه،‏الذي تحوّ‏ ل إلى موظف،‏ بعد بوار تجاربهالتي كانت مُ‏ زدهرة أثناء بيعه رحيق العطورالطبيعية،‏ كان يملك إقامة في أمزميز قريباً‏من مراكش.‏ هناك،‏ كان يستقبل فنانين مثلنيكوال دو ستايل ، Nicolas de staëlوكان يقيم أيضاً‏ خاصة خال الثاثينياتمن ق 20، رسامان بولونيان هما الخوانأنطوان Antoine وأوليك Olek تيسار،Teslar صديقاً‏ بلكاهية األب،‏ وهناككان مرسمهما.‏استطاع فريد بلكاهية،‏ أثناء إقامتهبالعاصمة الفرنسية،‏ تعميق معرفتهبالحياة الثقافية األوروبية،‏ التي كانتلديه عنها لمحة موجزة في المغرب إبانالمرحلة االستعمارية.‏ ففي باريس كانيلتقي صدفة أثناء تجوّ‏ له بممثلين،‏ كماحدث ذات مساء مع سلڤادور دالي Sal-vador Dali ببوابة أحد المقاهي،‏ حيثدعاه إلى حضور مرتجلته المسرحية التيعُ‏ رِضَ‏ تْ‏ على إيقاع صخب كبير من الجمهور.‏إن السنوات الباريسية األولى لفريد بلكاهيةلم تكن فقط مرحلة ارتباط بالتيارات الفنيةلما بعد الحرب،‏ بقدر ما كانت استئناساً‏باألسس الفلسفية والسياسية لديناميةهذا الغرب الذي أدرك جماله،‏ ولكن أيضاً‏انحطاطه.‏ في سنة 1955 سيقرّر الذهابإلى بولونيا،‏ حيث قضى بضعة أيام فيأوشفيتز .Auschwitz وبدل أن تستهويهمدرسة الفنون الجميلة،‏ كان يرى فيها عالماً‏‏»رمادياً«.هذا المصطلح/النعت يرجع إليهفريد بلكاهية باستمرار حين الحديث عنزمائه في المدرسة،‏ ومدرسيه وأعمالهمالفنية.‏ فقد كان يرى في مناهجهم تهديداً‏حقيقياً‏ إلبداعيته الخاصة.‏ كما أن البقاءهناك،‏ معهم وضمنهم،‏ يجعله يخشىأن ‏»يفقد ألوانه«‏ على حد تعبيره.‏ وهكذا،‏سيقوده بحثه عن بديل إلى مغادرة باريسفي اتجاه براغ Prague سنة 1959، حيثقضى هناك ثاث سنوات.‏ هذا العبور للجدارالفاصل بين الكتلتين ال يعني تبني األفكاروالمُ‏ ثل الشيوعية.‏ فقد توجه فريد بلكاهيةإلى هناك باعتباره شخصاً‏ فضولياً‏ أكثرمنه مُ‏ ناضاً‏ سياسياً.‏مرجعياته والرهانات الدالة واألساسيةبالنسبة إليه كانت مختلفة عما نجده لدىأقرانه من الشباب األوروبيين.‏ لم يكناألمر يتعلّق بأهوال الحرب العالمية الثانيةوال بجدلية الليبرالية والماركسية،‏ وإنماباإلشكاليات المرتبطة بالظاهرة الكولونياليةأو االستعمارية.‏ إنها مرجعيات ورهاناتوجهة نظر أخرى عن العالم،‏ مُ‏ تمركزة حولشمال إفريقيا وليس غرب أوروبا.‏اهتم فريد بلكاهية مُ‏ بكراً‏ باستكشاف آسيا‏)رحلة إلى الصين في 1978(، وأميركا ‏)رحلةإلى الواليات المتحدة سنة 1971(، وأيضاً‏وخاصة إفريقيا السوداء ‏)من أجل إخراجفيلم عن الجلد رفقة محمد بنعيسى سنة1970، والحقاً‏ كمسؤول عن انتقاء فنانينمن جنوب الصحراء للمشاركة في معرض‏»لقاءات إفريقية«‏ سنة 1944 بمعهد العالمالعربي(،‏ وذلك لخلق نوع من التوازن فيعاقته بأوروبا.‏ كما لم تكن رحلته إلىتشيكوسلوڤاكيا أول متنفس من الغِ‏ لّ‏االستعماري.‏ فقد توجّ‏ ه سنة 1958 إلىسورية،‏ مروراً‏ بمصر ولبنان،‏ الموطنالرئيسي للقومية العربية،‏ ليلتقي من جديدبما يعتبره أصوله وجذوره.‏ آنذاك،‏ كانعبد الناصر حاكماً‏ قوياً‏ إثر انتصاره الرمزيالمتمثل في تأميم قناة السويس؛ كما كانتقيد التشكّل جمهورية عربية متحدة تضم كاً‏من مصر وسورية؛ إضافة إلى االنقاب علىالملكيّة العراقية المدعومة من قبل إنجلترا.‏لقد اكتشف فريد بلكاهية مشرقاً‏ في أوجالغليان والهيجان مثلما هو خياله الخاص.‏عاش فريد بلكاهية التجربة الكولونياليةفي المغرب،‏ وأيضاً‏ في فرنسا.‏ ولهذا السبب،‏كانت عاقاته مع طلبة مدرسة الفنون الجميلةعلى درجة كبيرة من الصراع والتوتر.‏ إالأنه،‏ وفي بلده خاصة،‏ كان يتأثر للتراتبيةالتي يسعى النظام االستعماري إلى ترسيخهاإضراراً‏ بالسكان المحليين.‏ ورغم مسارهالدراسي الرفيع،‏ كما أراده والده،‏ لم يكنمتحمساً‏ إلتمام دراساته العليا في ظِ‏ لّ‏ الحكماالستعماري.‏ لذلك،‏ اختار مجاراة ألقرانهمن الشباب المغاربة،‏ أن يصبح مدرساً‏ وقدغادر بالكاد الثانوية التي كان يدرس بها.‏هكذا،‏ سيقبل منصباً‏ سنة 1953 بمدينةورزازات،‏ وبالمدرسة الوحيدة هناك.‏في عام 1954، قبل قدومه إلى باريسبقليل،‏ رسم لوحة عنونها ب ‏»محمدالخامس في القمر«.‏ هذه اللوحة تعبر عنمشاعره،‏ وفي نفس الوقت،‏ عن نوع منااللتزام السياسي.‏ سنة قبل ذلك،‏ كان قدتَمّ‏ عزل محمد الخامس من طرف فرنساونفيه قسراً‏ إلى كورسيكا،‏ ثم مدغشقر،‏129


فتوهم العديد من الرعايا/‏ المواطنين أنوجه السلطان المعزول والمنفي عن عرشهوأرضه،‏ يمكن رؤيته في القمر.‏ هذا الشكلمن التعبير الجماعي عن الوجدان السياسيومقاومة الهيمنة االستعمارية،‏ منحه فريدبلكاهية تجسيده وتمثيله البصري الوحيد.‏في 1956 حصل المغرب على استقاله،‏وفي 1962 عُ‏ رِضَ‏ على فريد بلكاهية منصبمدير مدرسة الفنون الجميلة بمدينة الدارالبيضاء،‏ باقتراح من المحجوب بن الصديق،‏الوطني المتحرّر المعارض للحماية الفرنسيةومؤسس أول نقابة شعبية بالمملكة،‏ فشكّلفريد بلكاهية فريقه مُ‏ ستخلصاً‏ الدروس منتجربته األوروبية الخاصة.‏ كان يريد منهذه المؤسسة أن تمنح الطلبة حرية أكبروأوسع في اإلبداع؛ كما ساهم في إرساءدعائم سياسة تنموية على غرار الدول التيتحرّرت من االستعمار،‏ لكن مع خصوصيةجديرة بالذكر والتوضيح.‏عرف العالم العربي في القرن 20شكلين أيديولوجيين مختلفين هما:‏ القوميةوالوطنية.‏ وقد مَ‏ ثّلَ‏ األول الرئيس جمال عبدالناصر كشخصية سياسية بارزة،‏ وهيقومية تدافع عن عروبة تتجاوز خصوصياتالمناطق والدول الحديثة.‏ لم يكن عبد الناصريحيل على مصر الفرعونية أو على الفلكلورفي مختلف خطاباته،‏ وأصبحت القاهرةالمحرك والموجه األساسي لثقافة عربيةراقية ومشتركة.‏أما األيديولوجيا الوطنية فهي قريبةباألحرى من القوميات األوروبية.‏ إنهاتسعى إلى تعزيز الدول على أساس أنكل واحدة منها هي أمة تتكوّ‏ ن من مواطنيهافقط،‏ وترسيخ ثقافة محلية،‏ تحترم الحدودالموروثة عن العهد االستعماري.‏ وقد مَ‏ ثّلَ‏العراق البعثي منذ الستينيات من ق 20النموذج األول لهذه الرؤية،‏ حيث أعطيتأهمية كبرى للفن والمتاحف من أجل إبرازعروبة عراقية تمتح من مياه دجلة والفرات،‏من الفلكلور الكردي،‏ الموروث الجمالي لبادما بين النهرين،‏ وأيضاً‏ من الفن اإلساميلمدرسة بغداد في الرسم.‏ زعيم هذه الحركة،‏الفنان جواد سليم )1961-1919( يرتقيبرسام المخطوطات من القرن الثامن يحيىبن محمود الواسطي إلى مستوى النموذجالذي يجب احتذاؤه،‏ ألنه كان من بغداد وليسمن إيران،‏ كما هو األمر بالنسبة لألساتذةالكبار الاحقين.‏إنه من الصعوبة بمكان إقحام فريد بلكاهيةفي إحدى هاتين الفئتين اللتين تسمحان معذلك،‏ بتصنيف معظم الفنانين العرب.‏ ففيسنة 1965 سيتخلّى عن الرسم على القماشالمبسوط على إطار ليشتغل على المعدن،‏وبالضبط على النحاس،‏ مُ‏ ستلهماً‏ طريقةالنحاسين في العالم اإلسامي.‏ وفي سنة1974، سيبتعد أكثر عما يُروّ‏ ج له اإلعامالرسمي في الفن الحديث األوروبي من خالاإلنتاج المُ‏ نتظم ألعمال على الجلد المثبّتعلى ألواح خشبية.‏ هنا أيضاً‏ يمكن اعتبارمادة االشتغال المختارة،‏ رغبة في ترسيختقنية اشتهر بها المغرب دولياً‏ والمتمثلةفي صناعة الجلد.‏ لقد أنشأ الئحة الرموزالخاصة به،‏ مُ‏ وظِ‏ فاً‏ الرموز البربرية.‏ إال أنالرمز المهيمن على سائر أعماله هو كونيةالجسد البشري،‏ وجسد المرأة بشكل خاص.‏إن البحث عن أصالة وعن هويّة خاصةحاضر في أعمال فريد بلكاهية،‏ كما أن التراثمصدر مهم بالنسبة إليه.‏ إال أنه لم يهدفأبداً‏ إلى خلق حداثة بديلة أخرى،‏ عربية،‏بربرية أو إسامية،‏ على غرار ما قام به جوادسليم.‏ فقد كان هدف مدرسة الدار البيضاءالتي تولى إدارتها من 1965 إلى 1974 هوتكوين مغاربة بشكل يسمح لهم بخوضغمار الفن الحديث المُ‏ ترسّ‏ خ في التاريخاألوروبي.‏ ال يتعلق األمر إذن باالنطاق منأشكال مغربية في التعبير وجعلها جديرةبصفة الفن المغربي الحديث أو المعاصر.‏ولعلّ‏ اختيار العمل الذي يرى أنه يستحقتمثيله في مركز بومبيدو له داللته العميقةفي هذا السياق.‏ إنه إهداء إلى مثقف أوروبيوليس إلى مفكر عربي أو إسامي.‏ ال غرابةإذن أن نرى عدم االحتفاظ بفريد بلكاهيةمن قبل ‏»سحرة األرض«‏la Magiciens deterre سنة 1989. هذا المعرض الذي أقيمبمركز بومبيدو وبالقاعة الكبرى الڤييتLa villette بباريس بين 18 مايو/أيارو‎14‎ أغسطس/آب 1989، يُعد،‏ خطأً،‏ أنهنقطه انطاق عولمة للفن المعاصر في طوراإلنجاز.‏ فقد اشتهر بأنه الخطوة األولىنحو اعتراف الغرب باإلبداع الفني لباقيالعالم.‏ إال أن العكس هو الذي حصل معهذا الحدث،‏ حيث أُقصي جميع الفنانينغير الغربيين الذين حاولوا،‏ منذ أواخرالقرن 19، اإلسهام في المغامرة الغربيةللفن الحديث والمعاصر.‏ هكذا،‏ وإلى جانبفنانين أوروبّيين وأميركيين مقتدرين مثلمارينا أبراموفيتش Abram- Marina،Alighero Boetti أليغيرو بوويتي ،ovicكريستيان بولتانسكي Boltan- Christian،Louise Bourgeois لويز بورجوا ،skyسيغمار بولك ،Sgmar Polke وأيضاً‏130


أنسليم كييفرKiefer ،Anselm ظهر أيضاً‏فنانون أصليون،‏ مبدعو موضوعات نذريةأفارقة،‏ وفنان واحد بالنسبة لمجموع العالمالعربي هو الخطاط العراقي يوسف ذنون.‏عمله كان عبارة عن لفة ورق من بضعةأمتار،‏ نسخ عليها،‏ بطريقة أكاديمية،‏ اآليةالقرآنية 13 من سورة ‏)الحجرات(‏ مسبوقةبالبسملة.‏بعد هذا،‏ سيختفي يوسف ذنون كليّةعن المشهد الفني العربي،‏ دون أن يحتلأي مكانة تذكر في المشهد الفني الحديث فيالعالم العربي وال في المشهد الجديد للشرقاألوسط،‏ والذي أصبحت دبي منذ - 20052008، عاصمته ذات اإلشعاع الدولي.‏ إنمعرض ‏»سحرة األرض«‏ يكشف عن عاقةأوروبا المتمركزة على ذاتها ببقية العالم،‏عاقة قوامها الوصفات والتعليمات.‏ فالجيلاألول للفنانين العرب المحدثين،‏ ومعهم أيضاً‏الصينيون والهنود واإليرانيون،‏ قد ضَ‏ لّ‏الطريق في نظر هذه المؤسسة الفرنسية.‏كان من الضروري أن يولد إبداع جديد انطاقاً‏من تقاليد،‏ دينية في الغالب،‏ مُ‏ نتقاة منطرف المفوضية الباريسية التي تسعى إلىتوجيههم للطريق الذي يجب اتباعه.‏ أحدأبرز وأهم ممثلي الحروفية – اسم يطلقعلى الرسامين العرب المهتمين بالحروف-‏شاكر حسن آل سعيد )2004-1924(، كانال يزال حياً‏ ومستقراً‏ ببغداد،‏ إال أنه لم يقععليه االختيار هو اآلخر،‏ مثله في ذلك،‏مثل الخطاطين اإليرانيين لمدرسة نقاشي-‏خط ،Naqqashi-Khat ومن بينهم محمدإحصائي )1940( وحسين زندرودي )1937(.في القاعة 39 بمركز بومبيدو،‏ يوجدعمل ‏»إهداء إلى باشار«‏ جنباً‏ إلى جنبوعلى نفس الجدار مع لوحة للفنان اإليرانيحسين زندرودي )1937(، مؤسس السقاخانةأو النافورة العمومية في طهران خالالخمسينيات من ق 20، والذي يعتبر،‏ بمعيةمواطنه بهمن محصص Mohas- Bahman،)ses 2010 - 1931 الذي رحل عنا مؤخراً،‏أحد أهم الفنانين البارزين في تاريخ الفناإليراني الحديث.‏ زندرودي هو أحد التاميذالقدامى لمدرسة الفنون الجميلة بباريس،‏ مثلهفي ذلك مثل فريد بلكاهية.‏ كما أنه استكشفالعاصمة الباريسية بعمق،‏ وتعلّق بها إلىدرجة أنه استقرّ‏ بها نهائياً‏ خال الستينياتمن ق 20 مكوناً‏ عائلة هناك،‏ وعمل أيضاً‏على تغيير اسمه الشخصي ليصبح اسمهالكامل هو شارل حسين زندرودي،‏ كما تدلعلى ذلك لوحته الموقعة والمعروضة بمركزبومبيدو.‏ ويرجع الفضل إلى سوق دبيالفني وهواة اقتناء وتجميع األعمال الفنيةالقادمين من طهران خال عقد من الزمن،‏في لفت انتباه العالم إلى مكانة وأهميةهذا الفنان المنتمي إلى العهد اإلمبراطوري،‏والذي انطفأت جذوته في بلده األصل خالالثمانينيات والتسعينيات بسبب الثورةاإلسامية والحرب اإليرانية-العراقية.‏ إنمعرض ‏»حداثات متعددة«‏ بمركز بومبيدو،‏ال عاقة له بتاتاً‏ مع ‏»سحرة األرض«.‏ فهولم يَعُ‏ دْ‏ تعبيراً‏ عن أوروبا صاحبة الكلمة،‏وإنما عن أوروبا المأزومة ثقافياً‏ واقتصادياً،‏والتي يجب عليها أن ترضى باإلصغاء لهذهاألصوات القادمة من دول حديثة الظهورواالنبعاث،‏ وأن تفهمها وتعمل على بثهاونشرها حتى تستفيد من جزء من هذهالثروات المادية.‏ لقد حاول معرض ‏»حداثاتمتعددة«‏ أن يكون صدى إلشعاع فئات جديدةظهرت خارج أوروبا،‏ وأن ينشر ظالها،‏عكس ‏»سحرة األرض«،‏ من خال وضعبلكاهية وزندرودي جنباً‏ إلى جنب،‏ األولعربي واآلخر إيراني،‏ قادمان من أقاصيالعالم العربي اإلسامي الكاسيكي،‏ منالمغرب األقصى،‏ أي المغرب ومن المشرقاألقصى الذي هو إيران.‏ إن سوق الفن ‏»فيالخليج«‏ هي سوق عربية وإيرانية،‏ عملتعلى هدم الجدار الذي وضعه االستعماروالحركات القومية للدول الوطنية الحديثة‏»المستوردة«‏ من أوروبا،‏ من خال وضعأرضية فنية مشتركة بين العالمين،‏ تسمحبرؤية خريطة جديدة رسمتها االمتداداتاالقتصادية الجديدة لما بعد الحرب الباردة.‏ففي اإلمارات العربية المتحدة ‏»أوالً«،‏ثم في قطر الحقاً،‏ تمكّن هذا الباريسي،‏الذي هو أنا،‏ أن يطّ‏ لِعَ‏ للمرة األولى علىاألعمال المعروضة لفريد بلكاهية.‏ وخالشهر ديسمبر/كانون األول من سنة 2010،خَ‏ صّ‏ صَ‏ تْ‏ أحد المعارض االفتتاحية ل ‏»متحف،»Mathaf المتحف العربي للفن الحديث‏–والذي كما يدل اسمه على ذلك ليس متحفاً‏للفن العربي الحديث ويضم،‏ تمشياً‏ مع هذاالمبدأ الثوري،‏ أعماالً‏ لفنانين إيرانيين مثلحسين زندرودي-‏ خصصت قاعة بكاملهالفريد بلكاهية.‏ وسط هذه القاعة كانتهناك منحوتة تذكارية موسومة بعنوان‏»بوابات الانهائي«.‏ قلت في نفسي،‏ أثناءمشاهدتها،‏ إنها الخريطة الصحيحة للشرقاألوسط الجديد،‏ الذي كنت أرقبه عبر نافذةالفن والمتاحف.‏ في هذه المدن ذات المرافئوالمراسي،‏ حيث تتم المبادالت التجاريةبين التجار العرب والعجم ‏-اسم يطلق علىالفارسيين في العالم العربي منذ ق -12انفتحت خال التسعينيات،‏ بوابة وسطجدار الهويات الحديثة،‏ بين إيران والعالمالعربي،‏ واعدة بانبعاث حوار النهائي بينالصورة والكلمة.‏ وقد كنت محظوظاً‏ باإلسهامفي هذا الحوار إلى جانب فريد.‏ فليجد هناأيضاً‏ كل دالئل تقديري ومودتي.‏‏*كتبت بمناسبة تقديم محترف فريد بلكاهيةب L’atelier 21 بالدار البيضاء - 10 ديسمبر /201320 يناير 2014بالنسبة لبلكاهية المدعوم بعقلية مُ‏ نفتحة ومُ‏ غامرة ال يتعلّق األمر بمجردتحويل ثقافته إلى رموز محلية معدودة يضعها على قماش.‏ فقد كانت ممارسةخاضعة لتحليل نقدي صارم تأدى به إلى مساءلة جميع مكوناتها وعناصرها،‏بما في ذلك الدعامة أو السند واأللوان من حيث هي مواد للعمل.‏ إن شغفه بالثقافةالمادية لبلده وتأثره الكبير بخصائص وأشكال ومواد الموضوعات المغربيةهما ما أوحى له بالحل.‏جان ‏–هوبير مارتن‏)مدير قاعة الفن يبرن السويسرية والمتحف الوطني للفنون بإفريقيا وأوقيانوسيا ومتحفدوسلدورف قصر الفن(‏(131


من املحلية إىل الكونيةشفيق الزكارييُعد فريد بلكاهية من أحد أعمدة الفنالتشكيلي المغربي،‏ حيث تخرّج على يديهعدد كبير من الفنانين المغاربة الذين أصبحوابدورهم أساتذة للفن،‏ نظراً‏ لمساهماتهالمُتعدّدة في المغرب وفي المحافل الدولية،‏ونظراً‏ لعطاءاته على مستوى التكوين منخال منهجيته في تلقين هذا الجنس فيفترة مُ‏ بكِّرة من تاريخ التشكيل المغربي،‏سواء أكان على مستوى البحث أم تجديداألنماط التقليدية التي كانت تخضع لتبعيةاالستعمار الغربي،‏ حيث وصفه وزير الثقافةالفرنسي السابق ‏)جاك النغ(،‏ اعترافاً‏ منهبأهمية األسئلة الحقيقية المطروحة،‏ التيحاول من خالها الغور في مضامين عميقةلها عاقة بالوجود والهوية المغربيتَيْن،‏إذ قال بأن:‏ ‏»فريد بلكاهية عاش كبيراً،‏وغادرنا كبيراً،‏ وسيبقى كبيراً‏ في تاريخالفن،‏ مكانته رفيعة،‏ ويعد من أكبر الفنانينالمغاربة والعرب...«.‏ال يتسع المجال هنا للحديث عن تجربتهبرمتها،‏ ألنها غنية بمعطياتها على جميعالمستويات التعبيرية الفنية،‏ حيث كانتله اهتمامات متنوّ‏ عة أخرى،‏ من بينهامساهمته كممثل بأحد األفام السينمائيةالمغربية،‏ واشتغاله بتقنية االستنساخعلى القصيدة الشعرية مع عدد من الشعراءالمغاربة واألجانب،‏ كما أنه قام بإنجاز عددمن المنحوتات الحديدية الضخمة بمراكشومناطق أخرى،‏ كان آخرها بالطريق السياربين الدار البيضاء والرباط...‏لكن ما مَ‏ يّزَ‏ تجربته،‏ هو انخراطهفي الحركة الثقافية والفنية بمستوياتهاالمُ‏ تعدّدة،‏ استنادا إلى مرجعيات مرئيةوليست نظرية مكتوبة،‏ ألنه من بين الفنانينالقائل الذين راكموا إنتاجات مُ‏ تنوّ‏ عة طالتتقنيات عديدة بحثاً‏ عن وسيلة مقنعة فينظره،‏ لإلجابة عن أسئلة هي أبعد مننوعية األسئلة التي كانت مطروحة في فترةمعينة من تاريخ التشكيل المغربي،‏ علىفريد بلكاهيةالمستويين الجمالي والتقني،‏ خاصة عندانخراطه،‏ وتعهده والتزامه بالقضايا الكبرىالمُتعلّقة بتحديد الهوية في بعديها الشموليوالكوني.‏ فلم يعتمد قط،‏ كما حدث للبعض،‏على تكرار ما أفرزته العامات واألشكالالتقليدية المُ‏ رتبطة بالصناعة التقليدية،‏بقدر ما كان يحاول تجاوز هذه األنماطالفلكلورية،‏ ليجعل منها مبحثاً‏ لما تختزنهمن الناحية األنطلوجية والسيميائية...‏ لكلمفرداتها،‏ في محاولة لتجنيس هذا الفعلوإعطائه بعداً‏ مفاهيمياً،‏ دون االنتظار فيماقد يترتب عن هذا الفعل من أرباح ماديةتشترط انبطاح الفنان للمقتني،‏ قناعةووفاء منه باألمانة العلمية.‏ففي عمله األخير الذي قدمه بالدارالبيضاء بعد مرضه،‏ اشتغل على طريقةحديثة في عرض أعماله ،présentationفقرر تقديمها فوق جدار يحمل صوراً‏ منأيقوناته بتدرجات لونية خافتة،‏ لينصهرالعمل بفضاء القاعة بتناغم وانسجام،‏وتصبح بذلك عبارة عن مغارة تحفزعلى التساؤل واالكتشاف،‏ ليحفز المشاهدعلى االنخراط في تجربته حسياً‏ وفكرياً‏وجسدياً،‏ ككتلة موحدة تتفاعل في محورالتيمة المطروحة ذهاباً‏ وإياباً.‏خاصة أن اختياره انطلق من جذورالتراث المغربي،‏ مُ‏ ستعماً‏ ‏»الحنّاء«‏ كأداةتقليدية في رسم أشكاله،‏ ومستخدماً‏ الجلدوالنحاس والخشب كسند ألعماله عوضالقماش،‏ مما أعطى إلبداعاته نفحة مغربيةوأسلوباً‏ شخصياً‏ انطلق من المحلية إلىالكونية،‏ وليثبت استغناءه عن كل ماقد يؤثر على إبداعاته،‏ من خارج التربةالمغربية،‏ سواء أكان األمر متعلقاً‏ بالموادالمستعملة أم بالمفاهيم المستوردة...،‏وليظهر بأن إمكانية الكونية أو العالمية اليمكن أن تنطلق إال مما هو محلي،‏ بإضافاتنوعية قد تسهم في إغناء الثقافة والفنفي بعديهما اإلنساني.‏بعد قضاء خمس سنوات بمدرسة الفنون الجميلة بباريس من 1954 إلى1959 توجّ‏ ه فريد بلكاهية إلى براغ ليقضي ثاث سنوات هناك،‏ حيث سيبلغبتجربته مرحلة النضج.‏ والواقع أن ولعله بالقوس والسهم يبدو سلفاً‏ كنوعمن األبجدية الشخصية.‏ أبجدية تلعب،‏ عبر سائر أعماله،‏ دور معلم repèreضروري للتعبير عن تصوّ‏ ر للوجود.‏ ففي وقت مبكر،‏ اعتبر أن الوجود هومجموعة قوى أرضية،‏ بتواصلها القوي مع العناصر المُ‏ ختلفة والمُ‏ تعدِّدة،‏ يجبأن تنزع إلى نوع من االمتاء الصوفي...‏ لذلك خصّ‏ ص وقتاً‏ طوياً‏ للمدرسةواستكشاف تقنيات جديدة للعمل.‏ هكذا سيترك الصباغة الزيتية على الورقليشتغل على مادة تقليدية هي النحاس.‏رجاء بنشميس‏)روائية وناقدة فنية(‏132


أحمد لطف اللهتستمر حبات عقد جماعة 65 الذهبي في االنفراط.‏ باألمس )2013(ودّعنا الفنان الكبير محمد شبعة،‏ واليوم،‏ يرحل عن سماء الفنالتشكيلي المغربي الفنان الهائل فريد بلكاهية عن عمر فني طويل،‏وصيت جمالي ذائع في أرجاء عواصم الفن.‏سبب ابتعاده عن القماشال يمكن اختزال مسار بلكاهية الفنيوالثقافي في سطور مهما اُسترسل طولها،‏لكن من أبرز العامات المضيئة في هذاالمسار،‏ ريادته رفقة مُ‏ جايلَيْه:‏ محمد شبعةومحمد المليحي لفن التصوير Peintureبالمغرب،‏ بعدما تسلّمت هذه الجماعة المشعلالفني من يد الراحلَيْن:‏ محمد الشرقاويوجيالي غرباوي،‏ اللذين مثَّا أفق المعاصرةفي الفن المغربي.‏ ولقد كان الوعي بالريادةفي مجال الثقافة البصرية التي كانت أرضاً‏بكراً‏ آنذاك،‏ مشتركاً‏ بين هؤالء الثاثة،‏ وإنكان هو األسبق لذلك.‏ ومن بين معاصريهمنذكر:‏ حميدي وحفيظ وأطاع اهلل.‏ غير أنلكل من بلكاهية والمليحي وشبعة أسلوبهالفني الخاص،‏ وكل واحد منهم خلَّف بصمتهالشخصية في سجل فن التصوير المغربيوالفنون التشكيلية بصفة عامة.‏ فبقدر مااحتفى المليحي وال يزال باللون،‏ اختارمحمد شبعة في مختلف مراحله التأرجحبين الهندسي والغنائي،‏ بينما مثل بلكاهيةصور التراث في حُ‏ لة حداثية.‏في مختلف أعماله وتحفه الفنية ولعشديد بالمادة،‏ فقد شكَّل من الورق والخشبوالنحاس والجلد رؤاه الجمالية،‏ وإن كانتمرحلتا النحاس والجلد هما الطاغيتان فيمسيرته التشكيلية.‏ فبذوق فني أصيل،‏يتم تطويع مادة النحاس لتتخذ رمزيتهاالتعبيرية عبرَ‏ ما يمنحه لها من أشكال تعتمدعلى الخط المنحني.‏ أشكال تترنح مُ‏ نْسابَةوسط اللوحة بفعل انفاتها من الصرامةالهندسية.‏ ولعلّ‏ في المرحلة النحاسية،‏كانت لوحاته ترغب في أن تحفر عميقاً‏في ذواتنا،‏ وتناجي فينا ألق الوجود منخال اإلحساس بنقائه.‏ ففي الصفرة الذهبيةالفاقعة للنحاس،‏ أو في حمرته الحِ‏ نّائية،‏نتذوق ذلك الصفاء األزلي الذي نَطعَ‏ مُ‏ همثاً‏ حين نشرب الماء في طست نحاسمن يد السَّ‏ قّاء.‏لذلك كانت لبلكاهية درجة عالية منالوعي في اختيار المادة،‏ وهو وعي يتداخلفيه الجمالي باأليديولوجي،‏ بالمعنى الواسعلكلمة األيديولوجيا،‏ أي أيديولوجيا اإلنسانالذي هو كائن كوني،‏ ليست خصوصيتهسوى بصمة تبيح التعارف والتاقح بينالثقافات.‏ ولعلَّ‏ هذه الرؤية المتحرّرة منهوس اإلقليمية المجانية،‏ هي ما يسَّ‏ روُ‏ لوجه إلى العالمية.‏ ولقد ارتأى بلكاهيةالسير نحو المنابع الفنية المحلية التيتقدمها الفنون التقليدية بالمغرب،‏ والتيتتغذى من األصباغ الطبيعية التي تستدعيهاالمعالجة الفنية للمادة.‏ وهذه المُلَوِ‏ نات تتوافرعلى كيمياء سحرية،‏ يتم توظيفها وفقاألشكال والتكوينات الحداثية.‏ كما تسعففي خلق التكامل الجمالي داخل اللوحة،‏133


استناداً‏ إلى انسجامهامع المادة المختارة،‏ والتي هي أيضاً‏ منمُ‏ سَ‏ خّ‏ رات الطبيعة.‏ هكذا تعامل الفنان فيصبغ أشكاله باستعمال الحنّاء والزعفرانوالصمغ والكحل والكوبلت وغيرها.‏إن مواد بلكاهية ال تتقشف في مخاطبةالحواس،‏ فهي ال تهجم على البصر فقطكما ناحظ في مختلف األعمال الفنية،‏ بلوأيضاً‏ تدعو للرغبة في اللمس،‏ كما هواألمر في النحاس،‏ وقد تناوش الشم كذلكفي الجلد الذي هيمن على ريبيرتواره الفني،‏والذي هو على درجة عالية من النعومة،‏ إذأقام معه رباطاً‏ وجدانياً‏ غائراً‏ في النفس،‏لدرجة أن أصبح عامته المائزة.‏تبدو نحاسيات بلكاهية التي استهلاشتغاله بها حوالي منتصف الستينياتمن القرن المنصرم،‏ مرسِّ‏ خة لحُ‏ دوسه الفنيةالتي مارسها في أعماله على الورق،‏ حيثال يتم التخلّي عن توظيف األشكال العضويةحسب مبدأي التناظر ،Analogie واإليقاع،‏اللذين يحكمان مختلف أعماله.‏ هذه األشكالالمعتمدة على البروز الضئيل ،Bas-reliefsتنساب متموجة،‏ وتُنبئ بتحكم شديد لصنعةالفنان في تشكيلها،‏ حيث تخضع المادةبصورة واضحة للتصوّ‏ ر الفني،‏ بعيداً‏ عنأية تلقائية غير واعية،‏ إذ يحُ‏ د بلكاهيةمن سطوة األشكال،‏ ومراوغات المادةالمنصهرة،‏ والتي يُغريوهجها باالنفات،‏فيمنحها الفنان ما يشاءمن التموج والجسدانية،Corporalité مُ‏ ستعيناً‏بلمعان النحاس وحياكتهTexture وألوانه ‏)األصفر-‏األحمر-‏ البني بتدرجاته الضوئية(،‏لترتيب األشكال بحسب المستويات Les،plans والتي عادةً‏ ما تكون مُ‏ تعانقة،‏أو مُ‏ تماثلة En symétrie أو مُ‏ تداخلة،‏أو مُ‏ تصاعدة نحو األعلى تصاعداً‏ حلزونياً‏أو هرمياً.‏ في حين تحقق الخلفية الحاملةللمادة المشكَّلة تناغماً‏ لونياً‏ معها.‏في اشتغاله وانشغاله بمادة النحاس،‏يُراوح بلكاهية بين األسطح الملساءالمنحوتة بعناية،‏ وتلك التي تزدهيبالثَنْيات ،Plissures كما أنه يولج الشكلمن منظور العاقة بين الذكوري واألنثوي،‏أو يجعلهما مُ‏ هيئين لذلك.‏ وهو في ذلكيُزاوج بين الفعل الطبيعي،‏ حيث الطبيعةتُدخل األشكال واألعضاء في بعضها البعضلضمان البقاء،‏ والفعل الثقافي من خالتشكيل مواد تراثية أصيلة،‏ تتشبت بوجدانالمجتمعات اإلفريقية،‏ كالنحاس والجلدوغيرها.‏ فبلكاهية حسب توصيف الشاعراللبناني صاح استيتة،‏ يمتلك ثقة كبيرةفي الطبيعة،‏ وفي جودة تقاليده وكفاءتها،‏التقاليد العربية واألمازيغية واإلسامية،‏وتقاليد حوض البحر األبيض المتوسط.‏فريد بلكاهية،‏ تشكيلي ،Plasticienبما تحمل الكلمة من معانٍ‏ ، ولعلّ‏ هذا مايفسر عدم تعامله مع القماش،‏ باستثناءعمل واحد،‏ ومن هنا نفهم أيضاً‏ احتفاءهبين الفينة واألخرى بفن النحت عبر العديدمن األعمال.‏يُقيم فريد بلكاهية بالضبط على هذه األرض الممتدّة غرب األطلسي،‏ والتيتحدّها المياه الغامرة للمحيط.‏ في هذه النقطة من الكون حيث يتواجد،‏ فإنالانهائي المائي يستدعي ويحثّ‏ على التخيل.‏ وهكذا من الموجة إلى البخار،‏ومن البخار إلى السحب،‏ فإن شكل السحاب هو نفسه ما يمنح مفردات اللغةليده الخرائطية.‏ورغم حضور اإلدريسي كظلّ‏ منعكس في أعماله،‏ فإن الفنان بلكاهية ال يعتبرنفسه عالماً‏ جغرافياً.‏ والتغيرات التي طرأت على خريطة اإلدريسي،‏ والتي نراهااليوم،‏ ال تهمه بقدر ما تهمه قدرتها الخارقة،‏ والمجردة كلياً‏ على إعطاء صورةللعالم.‏ ألن العصر يفكر في العالم النهائي والمحدود،‏ ولعلّ‏ شكل الكرة األرضيةالذي يعبر عن نهائيته هذه رمزياً،‏ يُعزّز هذا االنطباع.‏ واإلدريسي يعرف،‏ أويحس على األقل أنه فيما وراء النهائي،‏ تمتد أرض أخرى للقلق والحلم.‏ ففيماوراء العين ضباب كالعدم.‏جاك لينهاردت‏)سوسيولوجي وناقد فني(‏134


إبراهيم الحَ‏ يْسنفريد بلكاهية هو،‏ بال شك،‏ من التشكيليين المغاربة الذينأعطوا للرمز بعداً‏ كونياً‏ يتجاوز الجغرافيا،‏ وقد ظَ‏ لّ‏ يركز في جُ‏ لّ‏قطعه التشكيلية على البعد الحِ‏ رفي ‏)بكسر الحاء(‏ المستعار منالصناعات التقليدية المغربية،‏ حيث اتخذها مصدراً‏ استلهامياً‏يستقي منه عالماته ورموزه..‏الحنّاء بدل الصباغةأضف إلى ذلك ثأثره ‏)بداية(‏ برمزيةكلي Klee الغارقة في االختزال الهندسي..‏‏)لقد قلب الرسام بول كلي وعيي رأساً‏ علىعقب..أحسست بأني قريب من العامة فيأعماله..‏ في ما بعد علمت أنه عاش لفترةفي إفريقيا الشمالية وأن أعماله عرفت آنذاكمنعطفاً‏ حاسماً‏ - الكام للفنان بلكاهية(.‏في مجموع تجاربه الممتدة عبر عدةعقود،‏ ظَ‏ لّ‏ الفنان بلكاهية وفياً‏ لعملهالحِ‏ رفي ،Artisanal إلى أن انتهى إلىتهييء الجلود بالحنّاء ليقوم،‏ عقب ذلكبمعية حَ‏ نّايَة،‏ بزخرفتها بواسطة عاماتورموز قديمة أغلبها من أصل بربري،‏ ليتمتوزيعها داخل مساحة السند بكيفية مختزلة.‏هذا االشتغال الحِ‏ رفي ظهر لدى الفنانبلكاهية كردِّ‏ فعل على االشتغال الصباغيPictural بالمفهوم الذي كرَّسته المدارسالغربية في الرسم،‏ وأيضاً‏ كتخلٍّ‏ نهائيعن استعمال الزيت والقماش في تجربةالفنان،‏ كما جاء في تعليله:‏ ‏»الحنّاء والجلدذكرياتي،‏ جدَّتي،‏ الوسط الذي كبرت فيه،‏الروائح التي ألفتها«.‏الجلد في لوحات بلكاهية أكثر من مادةوسند..‏ إنه رمز للهوية والكينونة والذات..‏الجلد الذي يقوم بغسله وتجفيفه وتمديدهعلى أشكال وهياكل كبيرة ومتنوِّ‏ عة منالخشب،‏ قبل أن يقوم بطليه وتزيينه بواسطةأصباغ طبيعية كالحنّاء والزعفران وقشورالرمَّان،‏ إلى جانب الكوبالت والميثيليناألزرق.‏عن هذه التجربة الفنية تحكي الكاتبةرجاء بنشمسي زوجة الفنان بلكاهية منذ عام1990: ‏»تُشكِّل الذاكرة مصدر إلهام أفقي فيعمله التشكيلي،‏ تتخلله محطات تاريخيةوثقافية،‏ وتناسب العامات الخطية،‏واالستِناد إلى رمزية كونية تشمل أيضاً‏العامات األمازيغية،‏ وعامات حضارية«.‏كما اشتغل الفنان بلكاهية - من قبل-‏على صفائح المعدنيات والنحاس األحمر135جدارية القدس


قطعة نحتيةالمطروق والمنقوش،‏ وفي ما بعد الورق..‏مع وجود ماحظة أساسية،‏ هي أن جُ‏ لّ‏لوحات الفنان بلكاهية اتسمت بطابع إيروسيشبه مباشر يتمثل في االشتغال على الرموز‏»الحديث اإلبداعي«‏تأليف رجاء بنشمسيالحسية والجسدية،‏ فأعماله قدمت الجسدفي صور مختزلة ذات أبعاد تترجم فعلالزواج والتعالق.‏ هذا الجسد،‏ أو باألحرىاألجساد،‏ كانت تظهر في لوحاته في هيئةأشكال ملتوية ومتموِّ‏ جة وحرَّة عائمة فيالفضاء ومُ‏ تباعدة أحياناً..‏ متاحمة أحياناً‏أخرى على طريقة الذكر واألنثى،‏ يتم إنجازهاعلى سنائد ورقية وصفائح معدنية وقطعجلدية خاضعة لتصاميم جغرافية ذات أبعادكونية،‏ ومنها اللوحات الدائرية التي تبدو‏-بتعبير الناقد جاك لينهارد-‏ على أهبةالدوران والرحيل في اتجاه أعماق سماويةوكأنها عوالم سيارة في كواكب احتمالية.‏في أعمال الفنان بلكاهية تعبِّر النماذجالمرسومة والمنحوتة عن مزاوجة بين أشكالعضوية وعامات،‏ ومن ذلك األشكال النافرةوالعمودية التي تلتقي مع األشكال الغائرة،‏وذلك على إيقاع توليفات ملتحمة تعكسنوعاً‏ من الرمزية الجسمانية في تعبيراته.‏وتوضح الشاعرة نيكوال دوبونتشارا)19<strong>86</strong>( بأن الرسم عند بلكاهية يُجسِّ‏ دحالة من الغليان الشديد والمميز،‏ حالةمشهودة تتغذى من طبيعة صلبة مستمدةمن جغرافيا وتاريخ حيويَّيْن.‏ مضيفة بأنهيجازف بمغامرة التجربة النادرة والفعالة،‏كما يطرح تساؤالت خاصة عن الجسدواألساطير،‏ حيث يمتزج اليقين بالقلق.‏وفي بحثه البالغ حدّ‏ الهوس،‏ يشق طرفاً‏للعبور ويمهِّد ترابُطاً‏ نحو عالمية التواصل.‏هكذا شكل الجسد أساساً‏ وحيداً‏ في عملفريد بلكاهية،‏ ولكن أي جسد؟ وأي شيء منسنة 1965، سيترك بلكاهيةممارسة رسم اللوحات لينتقلإلى االشتغال على النحاس كمادةجديدة بالنسبة إليه؛ فيعمل علىطرقه وحرقه،‏ يؤكسده،‏ يقصهبعناية ويدعكه حتى يصير جاهزاً،‏أي حتى تنبجس منه عاماتوبصمات،‏ تشكيات ذات نتوءاتدقيقة،‏ مُ‏ تموّ‏ جة،‏ مرنة ومنتظمةاإليقاع.‏ وبعد استنفاد كافة إمكانياتالتعبير بواسطة هذه المادة التيتمكّن منها بدرجة عالية من التحكّم،‏سيتوجه الفنان نحو مواد أخرى.‏هكذا سيختار،‏ سنة 1974، االشتغالعلى جلد الحمل؛ فيعمل على دباغتهوتليينه حتى يصير ناعماً‏ وفي غايةالشفافية في نهاية عملية تطهير يراهاضرورية،‏ ألنها تسمح بتحرير طاقةيجب التخلّص منها.‏ هذا الجلد الرقيقيُمدّد على ألواح خشبية ذات أشكالطوطمية،‏ ليصبح وعاء تستقر فيه‏»الذاكرة الموشومة«.‏إبراهيم علوي‏)مدير معارض معهد العالم العربي(‏الجسد!‏ كما في العديد من األساطير والخرافاتالطفولية،‏ هناك الجسد المجزأ،‏ جسد حيثاألعضاء مركبة بالرسوم واألشكال المتقطعةكحالة األقسام المستقلة.‏ ففي هذه الحركيةيكمن سِ‏ رُّ‏ الرمزية ذات األشكال المختلفة‏)كراس رقم 2، معهد العالم العربي،‏ 19<strong>86</strong>(.136


ورشة مفتوحة ومغلقةأحمد جاريدعندما أنهى فريد بلكاهية دراسته الفنيةبالخارج وعاد للمغرب،‏ حيث عُ‏ يّنَ‏ بعدئذمديراً‏ لمدرسة الفنون الجميلة بمدينة الدارالبيضاء،‏ كانت الحركة اليسارية الجديدةحينها في طور التبلور مُ‏ نسلِخة في جزءمنها من الحزب الشيوعي المغربي،‏ وكانمن المبادرين الذين أرْ‏ سَ‏ وْ‏ ا هذه الحركة كلمن أبراهام السرفاتي،‏ وعبد اللطيف اللعبي،‏هذا األخير الذي أسس مجلة ‏»أنفاس«‏ التيالتف حولها مثقفون من مشارب يساريةمختلفة.‏ وكان لها تأثير على مجموعة منالفنانين التشكيليين المغاربة العائدين لتوهممن الغرب بعد إنهاء تكوينهم الفني.‏ مرحلةالستينيات هاته،‏ عرفت حركات تحرريةشملت العالم الثالث وعرفت فرنسا حركة68 وعرف المغرب مظاهرة 65 الكبرى.‏وألقى هذا الوضع بظاله على مدرسةالفنون الجميلة وفوج األساتذة المغاربةالعائدين من أوروبا الغربية والشرقية،‏وهكذا تكونت مجموعة 65 التي ضمت فنانينمن بينهم فريد بلكاهية ومحمد المليحيومحمد شبعة...‏كان من بين اإلشكاليات المُ‏ قلقة التيطرحتها مجلة أنفاس،‏ إشكاليات الهويةالثقافية.‏ فوجدت مجموعة 65 نفسها مُ‏ لزمةبحل هذا اإلشكال على الصعيدين الفنيوالبصري تحديداً.‏ وهكذا قدم الفنانونمقترحات تشكيلية إلدماج ما تعلموه أكاديمياً‏ضمن نسق أيديولوجي مطروح بحدة.‏ومن أهم مشاريع اإلجابة عن هذااإلشكال،‏ كان مشروع أحمد الشرقاويالمطبوع بالرجوع للتراث البصري القرويوالبربري وبمقاربة تعبيرية تستثمر المحيطاللوني والكرافيكي للسجاد ‏)الزربية(‏ والفخاروالوشم...‏ ثم كان جواب فريد بلكاهية الذيوجد حاً‏ لإلشكال بالعودة لصفائح النحاسوالجلد الطري الذي يحضره على طريقةالدَّبْغ المعمول بها في الحِ‏ رف العتيقة،‏فيتخذها كسند يشتغل عليه بمسحوق الحنّاءوالزعفران ومساحيق أخرى نباتية ومعدنية.‏مُ‏ عتمداً‏ في جمله التشكيلية على الموروثف.بلكاهيةالبصري البربري بخاصة.‏المحصلة في القيمة المضافة لبلكاهيةعلى طول تجربته )...( ليست مسألةالهوية التي غَ‏ دتْ‏ مع النقد الفني المعاصرالسطحي والسياحي ضرباً‏ من الغرائبيةالفلكلورية،‏ بل هو االنزياح لعامات الجسدولاستيهامات .)fantasme( وهذا التمفصلفي بحث الفنان هو ما جعل،‏ في الحقيقة ،قضية الرغبة وقضية المتعة تطفوان منمنطقة ما الينقال إلى منطقة المقام األول فيمركز اهتمام الفنان وفي استقبال المتلقي.‏فالموضوع االستيهامي المتخيل لِما بين137


ما هو مُ‏ صَ‏ رَّح وما لم يُصَ‏ رَّح به،‏ هو مايغمر اللوحة باللوعة du( la passion)signifiant وباقي األشياء ال تعدو أنتكون وسائل فحسب.‏لوحة بلكاهية عبارة عن غرفة مفتوحةومغلقة في آنٍ‏ واحد،‏ وهذه الحركية فيعمله،‏ أي من الهوية إلى الجسد ومن التراثإلى الذات ومن المقدس إلى الرغبة ومنالحِ‏ رَ‏ فية إلى الجمالية هي المشروع الذيكَ‏ رّسَ‏ له حياته الفنية.‏بلكاهية رسام ال يندرج ضمن نوع الفنانالقلق،‏ وليس ثمة بعد تراجيدي في إبداعه،‏فدربته التقنية عفت له ما يسمى بمعاناةاإلبداع شأنه في ذلك شأن كل عناصرمجموعة 65 التي بلغ فيها مشروعهم الفنيسقفاً‏ من البحث لم يتلوه طموح أكبر علىعكس من جايلهم من أمثال محمد القاسميومحمد شبعة اللذين لم يتوقف بحثهما الفنيإلى أن وافتهما المنية.‏مِ‏ لْكٌ‏ إنساينعبد الحي املالخ *هل كان بلكاهية مُ‏ جدِّداً؟ نعم،‏بالتأكيد،‏ لكنه ليس من قبيلة هؤالءالذين يرون أن التجديد يبدأ بهدمالتراث الذي صدروا عنه شاءوا أمأبوا ذلك.‏ فهو مقتنع تمام االقتناعبطبيعة وأهمية تراثه العربيواألمازيغي اإلسامي والمتوسطي،‏الراسخ في الماضي والمتطلِّع إلىالمستقبل،‏ العابر للشرق والغرب معالقدرة على التمييز والتحكّم أيضاً.‏لكنه ليس تحكّم اإلرادة،‏ وإنما تحكّماالفتتان ‏)الغريب والملغَّز(.‏ الرسم هومهنة األعمى،‏ وفي عمق عين الرسام،‏في تلك النقطة المسماة ‏»عماء«‏ تولدالصور وجميع اإليقونات التي تمنحمن هذا الجوهر األسود الاماديهذه الشاشة المليئة بالمفارقاتوالغموض وبتعبير فلسفي،‏ آلةالحلم الغريبة هذه التي هي كلواحد منا.‏صالح ستيتية‏)كاتب،‏ شاعر،‏ وناقد فني(‏يُعد الفنان فريد بلكاهية أحد كبار الفنانين التشكيليين األفارقةوالعرب والمغاربيين،‏ ساهم بشكل وفير في تأسيس وكتابة الفنونالتشكيلية العربية،‏ وقَدّمَ‏ شهادة مُ‏ شرّفة عن الفن اإلفريقي بحكمتنقاته العديدة عبر العواصم العالمية.‏ وإليمانه بكون الفن مرآةللمجتمعات،‏ فقد كَ‏ ثّفَ‏ اشتغاله حول اليد،‏ باعتبار اليد ذات أبعادقدسية،‏ وتعبر عن دفائن صاحبها،‏ وهكذا عمل بأسلوبه الخاصفي تصوير اليد الذاكرة،‏ اليد المفكرة،‏ اليد المبدعة،‏ بحيث منح اليدوضعها اللّ‏ ئق ومكانتها الحقيقية التي تعمل على خلق آثار وكتابةحضارات عميقة ومؤثرة.‏ من ثمة،‏ فإن تشكيل بلكاهية المهتم باليدوالكف ورمزياته اإلشارية،‏ يتموضع في رتبة تصوفية راقية،‏ بلهو نفسه يعتبر من كبار المتصوفة القتناعه الراسخ في جدوىالشعائر الصوفية التي ينهل منها بتفانٍ‏ وجداني وروحي،‏ ولذلكاعتمد في تعبيريته على مقامات نفسية وروحية عميقة،‏ مما جعلأعماله المنبعثة من دواخله تتسلل بسهولة إلى وجداننا.‏ لذلك،‏ تبقىأعمال فريد بلكاهية خالدة،‏ تعكس حضارتنا العربية اإلفريقية،‏ كماتمثل أبهى صور العبقرية اإلفريقية.‏فريد بلكاهية مِلْكٌ‏ إنساني،‏ مِلْكٌ‏ لإلنسانية جمعاء،‏ ال يمكنلحضارتنا أن تتنكر لجميله اآلن.‏ خاصة وهو مُ‏ مَ‏ ثَّل اليوم بمتحفجورج بومبيدو في باريس،‏ ويعرف الجميع مدى أهمية هذا المتحففي البناء التشكيلي العالمي.‏ ورجاؤنا أن يُفتَتَح متحف خاص بهفي مدينته مراكش،‏ واألمل معقود على فتح وتشييد هذا المتحف.‏* فنان تشكيلي ورئيس النقابة المغربية للفنانين المحترفين138


تأمالتمرزوق بشير بن مرزوقمرئيات مستقبلية للمسرح القطري)‏‎2‎‏(‏في مقالتي هذه سوف نتناول المرحلة الثانية،‏ وهيمرحلة تنظيم،‏ حيث يتفق معظم دارسي المسرح القطريمن باحثين ونقاد على أن البداية الرسمية للمسرح في قطره ي ع ام 1972، وذل ك بإش هار وزارة اإلع ام لفرق ة المس رحالقطري كأول فرقة مسرحية رسمية،‏ ويمكن اعتبار هذااالعت راف الرس مي ه و البداي ة األول ى للتخطي ط للمس رح ف يدولة قطر وبدعم مباشر من الدولة،‏ حيث أصبح هناكقسم للنشاط المسرحي بإدارة الثقافة والفنون التابعةلوزارة الثقافة،‏ ومن أهم أهدافه دعم الحركة المسرحيةمادياً،‏ والتخطيط للحركة المسرحية،‏ وانتظام هذه الحركة،‏ومساندة الدولة لقسم المسرح،‏ ثم االستعانة بمختصينوخبراء في مجاالت المسرح المتنوِّ‏ عة من داخل وخارجقطر،‏ الذي كان القصد من االستعانة بهم هو االستفادةمن خبراتهم في العمل المسرحي،‏ ووضع الخطط للنهوضبالحركة المسرحية،‏ وربما نتذكر هنا أن أول رئيس لقسمالمسرح هو الفنان البحريني محمد عواد،‏ كما نتذكّ‏ ر منال خ براء األس ت اذ ن ب ي ل األلفي.‏وفي مرحلة التنظيم والتخطيط،‏ تم إشهار أربع فرقمسرحية هي:‏‏*فرقة المسرح القطري.‏‏*فرقة مسرح السد.‏‏*فرقة مسرح األضواء.‏‏*الفرقة الشعبية للتمثيل.‏وكانت تلك الفرق تتلقّى دعماً‏ مالياً‏ يغطي أيجارم قرات ه ا،‏ ودع وم اً‏ أخرى إلن ت اج أع مال مسرح ية.‏وقامت الدولة ضمن خطة النهوض بالمسرح القطريباالستعانة بعدد من كبار المخرجين العرب وغير العربللتدريب المسرحي،‏ كما أنها ساهمت بمشاركات الفرق فيالمهرجانات العربية والدولية.‏وحرصاً‏ من الدولة على تعزيز األداء النوعي للمسرحالقطري،‏ خططت إلنشاء فرقة مسرحية وطنية احترافية.‏ومع بداية الثمانينيات أنشأت وزارة اإلعام خشبة مسرحعلى مستوى عالٍ‏ من المعايير العالمية،‏ وكان الهدف أيضاً‏هو تقديم أعمال نوعية ومتميزة للمسرح المحلي،‏ واستقبالمسرحيات عالمية،‏ والمرحلة األهم في التخطيط للمسرحالقطري،‏ هي قيام وزارة التربية والتعليم بابتعاث الطلبةالراغبين في دراسة فنون المسرح المختلفة إلى معاهدالفنون المسرحية العربية،‏ وأيضاً‏ المشاركة في دوراتتدريبية مسرحية في الوطن العربي وخارجه،‏ وكانت لعودةالكثير منهم إضافة علمية على مسيرة المسرح القطري،‏على الرغم من الجهود التي بذلتها وزارة الثقافة واإلعاممن دعم الفرق المسرحية مادياً‏ وفنياً،‏ وتدريباً‏ وابتعاثاً،‏ إالأن هذا الجهد لم يكن كافياً‏ ويعود ذلك لعدة أسباب من أهم ه ا:‏- 1 عدم وجود رؤية واضحة وغايات وأهداف لمسيرةالحركة المسرحية في قطر،‏ ومن ثم لم تتوافر استراتيجيةقائمة تستقرئ الواقع وتخطط للمستقبل،‏ وخضع تقييمهذه الحركة لألفعال وردود األفعال اآلنية دون توافر خطةطري ق م من ه جة ل ت ط وير ال حركة ال مسرح ية.‏- 2 عدم توافر منظومة ثقافية شاملة ومتكاملة تضمالمخرجات الثقافية في قطر من فنون وآداب،‏ ومن ثمافتقد الشأن الثقافي عامةً‏ والمسرح خاصةً‏ التنسيق بينوسائل أخرى مؤثرة على الحركة المسرحية مثل التعليمواإلعام واالقتصاد وغيرها من المؤسسات المرتبطة فيدعم المسرح.‏في مقالنا القادم سوف نتناول المتطلبات األساسية نحورؤية مس ت ق بل ية لل مسرح ال ق طري تن طل ق من واقعه ال ح الي.‏139


سينمامحمد ملص يف ‏»سُ‏ لّم إىل دمشق«‏عن الذين صعدوا بحريةيؤسِّ‏ س محمد ملص فيفيلمه ‏»سلم إلى دمشق«‏ لسينمامُ‏ غايرة ومُ‏ ختلفة عن سينماملص السردّية الروائيّة،‏ التيعوَّ‏ دنا عليها في أفامه األثيرة مثل فيلم‏»أحلام مدينة«،‏ وفيلم ‏»الليل«،‏ وتحكيأساساً‏ بالصورة وحركة األحداث،‏ يؤسِّ‏ سملص هنا لسينما تأملية فلسفية بإيقاعجد مُ‏ تمهل وبطيء،‏ تبرز وتضع ‏»الكام«‏أو ‏»الخطاب الفيلمي«‏ DISCOUR فيالمقدمة،‏ بحيث تبدو الشخصيات وقدانطلقت في نوع من ‏»المناجاة«‏ الذاتيةلتطرح من خالها همها في العيش فيالمجتمع السوري الراهن.‏يحكي الفيلم - حيث ال توجد قصة بالمعنى المتعارف عليه- عن فتاة تحب السينما وتتعرّف على شاب مهووس بالفن،‏وتنتقل بمساعدته إلى حجرة في دمشق،‏ داخل بيت تتقاسمفيها العيش مع مجموعة أشخاص،‏ وحين يحكي أحدهمعن تجربة العيش في سورية،‏ يقوم الشاب بعرض بعضاألفام التي صورها لمناظر ومشاهد في الشارع الدمشقي يتمإسقاطها على شخصيات الفيلم.‏ وينهل ملص هنا من تجربتهالسينمائية العريضة كأحد أبرز مخرجي ‏»سينما المؤلف«‏ فيالعالم العربي،‏ فيرسم ‏-عبر ‏»وحدة المكان«-‏ لوحات رائعةليصنع فيلماً‏ داخل الفيلم الذي نشاهده،‏ ويجعل من ‏»سلمإلى دمشق«‏ شهادة أو ‏»وثيقة فيلمية«‏ لمخرجسينمائي كبير.‏وهي شهادة موضوعها السينما ذاتها،‏التي يعتبرها ملص أداة تأمل وتفكير فيواقع مجتمعاتنا اإلنسانية..‏ وأداة تستطيعأن تكون أكثر من ‏»إضاءة«‏ لواقع القهر والقمعوالظلم واالستبداد والتعذيب،‏ الذي يتعرّضله المواطن في بادنا.‏ كما تستطيع السينما،‏يضيف ملص في مستهل حواره ل»الدوحة«،‏بأن تكون سلاحاً‏ ضد الفاشية والرعب الذييترصدنا في الخارج،‏ وحتى ذلك ‏»الوحش«‏الذي يقبع داخلنا.‏أبرز مشاهد فيلم ‏»سلم إلى دمشق«‏ تُلخصالرعب الذي في الخارج،‏ حيث توقيف الناس في الطريقوقتلهم أو اقتيادهم للحبس،‏ في هذا المشهد تعود امرأة منالخارج وتصيح:‏ يا إلهي ماذا يحدث في هذا البلد؟ كا،‏ الأستطيع أن أصف لكم الرعب الذي شاهدته في الخارج،‏ ثمتبكي وتلطم وتنعى حال السوريين في الشارع الدمشقي.‏هذا الرعب هو الذي يدفع أهل البيت في نهاية الفيلم إلىصناعة سلم وأن يصعدوا به إلى سطح البيت ويتسلقونهويصرخون ‏»حرية..حرية«.‏ في ما يلي تفاصيل يرويها ملصفي هذا الحوار الخاص الذي أجريناه معه مؤخراً‏ على هامشمشاركته في مهرجان ‏»مالمو«‏ للفيلم العربي الذي يُقام فيجنوب السويد.‏حوار - هاشم صاح§ ماذا أردت أن تقول من خال‏»سلم إلى دمشق«؟- فيلم ‏»سلم إلى دمشق«‏ هو تعبيرعن ‏»العجز عن الصمت«،‏ حين تصبحغير قادر على الصمت عليك أن تبوح،‏وحين يكون كل شيء حاضراً‏ من الدماروالقتل والسجن والتليفزيون،‏ كانالشيء الغائب بالنسبة لي هو السينما،‏وكان البد من أن تكون السينما باعتبارهاالفن األكثر أهمية حاضرة،‏ فكان هذاالفيلم ‏»سلم إلى دمشق«،‏ الذي هو ‏»ابناللحظة«‏ وابن وضع قمعي شديد،‏ ليقولإن الكاميرا ليست عدواً‏ يجب قتله،‏ إنماهي مرآة الروح،‏ كي ال تخون السينما.‏§ يحتشد الفيلم بالعديد منشهادات المساجين المظلومين التيتربط حاضر الفيلم بماضي سوريةبما يعني ‏»استمرارية القمع«..‏- بعض اإلسقاطات والمشاهدالتسجيلية في الفيلم مأخوذة عن فيلمحققته في العيد الخمسيني لإلعلان140


العالمي لحقوق اإلنسان بعنوان ‏»فوقالرمل،‏ تحت الشمس«‏ عام 1995، ويقولوالد زينة في ‏»سلم إلى دمشق«:‏ »..لقد أفنت القضبان عمرها واقفة أمامي،‏قضبان من حديد مدهونة بالرماد،‏ وأناخلفها مدهون باللحم والدم،‏ والقلبغراب ينعق..«..‏§ هناك شهادة أيضاً‏ بخصوص‏»الكاميرا«‏ وخطورتها..‏ وكيف يمكنللسينما أن تكون ساحاً‏ ضد البربرية،‏أليس كذلك؟- أجل،‏ كما تقول شخصية في الفيلم:‏».. لقد أرسل إليّ‏ أبي كاميرا،‏ ونصحنيبأن أهبط إلى الشارع وأصوِّ‏ ر ما يحدث،‏لكنه لم يكن يعرف أن من يطلع عالشارع ومعه كاميرا يُقتَل..«..‏ وقد كانلدي بخصوص الكاميرا احتياج للتعبيرفوق كل الحسابات،‏ وكما ذكرت..‏ العجزعن الصمت رهان الصدق..‏§ تنتمي كل شخصية في الفيلم إلىشريحة معينة من المجتمع السوري،‏فهل أردت بذلك أن تمثل في مجموعها‏»صورة مصغرة«‏ للمجتمع السوريالكبير؟- كل شخصيات الفيلم شخصياتحقيقية،‏ وموجودة في الفيلم بأسمائهاالحقيقية،‏ وهم يتحدثون عن تجاربخبروها وعاشوها بالفعل،‏ فصانعالتماثيل في الفيلم من الدروز فيسورية،‏ وقد صنع في الفيلم تمثاالً‏لرجل يحمل رأسه لكي يرى الضوء..‏كل شخصية في الفيلم تتحدّث عنتجربتها،‏ تتحوّ‏ ل أثناء التصوير،‏من إنسان يتحدّث عن تجربته..‏ إلىممثل..‏ ولذلك أخذ مسار الفيلم صبغةأكاديمية..‏ تعليمية..‏ وكنت سعيداً‏ عندماأتاح لي مهرجان ‏»مالمو«‏ في دورتهالرابعة فرصة عرض الفيلم،‏ والحظتأن الجمهور العربي مغمد بالحنين لرؤيةبلاده ولو على الشاشة،‏ وكثيراتتقدمن إليّ‏ بعد العرض،‏ والدموع فيمآقيهن من فرط تأثرهن.‏§ في ‏»سلم إلى دمشق«‏ يحملحسين السلم،‏ فيتبعه أهل البيت بكلأطيافهم،‏ العلوي والدرزي والمسيحيوالفلسطيني وغيرهم،‏ وهم يسألونهإلى أين تذهب؟ فيجيب:‏ ‏»أنا ذاهب عنداهلل..«.‏ فيصعدون معه وهو يصرخبعد أن بلغوا السطح ‏»حرية..‏ حرية«،‏ثم نسمع صوت دوي انفجار.‏ هل هذااالنفجار هو مآل سورية ونهاية - برأيك- لعصر بأكمله؟- في رأيي،‏ ال أحد يعرف اإلجابة،‏فقد خرج األمر من يد الذين أرادوا أنيصعدوا السلم حتى يروا بادهم كماكانوا يحبون أن تكون.‏ لقد صعدوايبحثون عن حلمهم بالحرية،‏ ثمسمعنا صوت انفجار،‏ مما يعني إماأنهم قتلوا أو اختفوا عن الوجود.‏ منالبداية كان الهدف هو الحرية،‏ أما اآلنفنحن مهددون بالعودة مئات السنينإلى الوراء..‏§ لديك اآلن مشروع بعنوان ‏»سينماموءودة«،‏ ماذا عن هذا المشروع؟141


من ‏»سلم إلى دمشق«‏- أنا اخترت في حياتي الطريق إلىالكتابة تارة عبر الكاميرا وتارة عبرالقلم،‏ وإذا اختفت الكاميرا يكون القلمحاضراً‏ يومياً،‏ وال أخفي بأن لديمفكرتي الشخصية التي تعود إلى عام1968 ولحد اليوم.‏ وأمام الحالة التينعيشها هذه األيام في بلدي،‏ كنت أشعربالحاجة للبحث عن ‏»سماكة«‏ ‏-منسميك-‏ زمنية لما يحدث دون الرغبةفي التنظير واالستنتاجات.‏ عدت إلىهذه المفكرة،‏ فتبين لي أن ما نواجههفي عاقتنا بهذا النظام،‏ يعود إلى مجملالتفاصيل التي كان يعيشها اإلبداع دائماً،‏ولذلك اخترت عبارة ‏»سينما موءودة«‏لمشروع كتاب يضم مفكرة سينمائيسوري في الفترة من عام 1974 وإلىالثمانينيات،‏ واخترت العام 1974 ألنهالعام الذي بدأت به حياتي السينمائيةكمخرج عائد من الدراسة في الخارج،‏واخترت أن أتوقف عند فترة الثمانينياتألن سورية كانت تواجه آنذاك مأزقاً‏سياسياً‏ أيضاً،‏ والذي دفعني حينهالتحقيق فيلم خارج سورية ‏،وأعنيبه فيلم ‏»المنام«‏ الذي كرست له أيضاً‏كتاباً‏ خاصاً‏ نشر عام 1990 عن داراآلداب،‏ فكأن كتاب ‏»سينما موءودة«‏ هوأسبق على كتاب ‏»المنام«.‏ كما قررت أنفيلم ‏»سينما الدنيا«‏ الذي كنت قد بدأتبكتابته بعد فيلم ‏»الليل«‏ مباشرة عام1995، هذا النص الذي يعتبر بالنسبةلي األكثر وجدانية وتألقاً‏ سينمائياً،‏ هذاالفيلم ‏»سينما الدنيا«‏ حيل بيني وبينتحقيقه ضمن مؤامرة مُ‏ صطنعة من قبلالمؤسسة العامة للسينما في سورية،‏ويبدو لي أن ثمة شعور بعدم الرضاعما أحققه نتج لدى الجهات الرسميةبعد فيلم ‏»الليل«،‏ وبقي هذا النص الذيقيل فيه دائماً‏ من قبل محمد األحمد المديرالعام للمؤسسة بأنه..»أجمل نصقرأته«..‏ فقررت أن أصدر هذا النص فيكتاب بعنوان ‏»مفكرة وسيناريو فيلم«‏لم ينفذ ككتاب أدبي،‏ وليس ككتابإخباري،‏ وقد سبق لي إصدار عددمن الكتب لتشكيل التعبير عن تجربةعبر الفيلم أو الكتابة،‏ من ذلك كتاب‏»الليل«،‏ وكتاب ‏»الكل في مكانه،‏ وكلشيء على ما يرام سيدي الضابط«،‏وكتاب ‏»مذاق البلح«،‏ الذي يعد بمثابةمفكرة مدن عشت فيها في إطار العملالسينمائي..‏§ ما هي في رأيك أسباب عدمحصولك على فيزا دخول إلى مصرلحضور التكريمين اللذين أقيما لك فيمهرجاني اإلسماعيلية اإلسكندرية..؟- ال أعرف ‏-أنا نفسي-‏ لذلك سبباً،‏ربما يكون السبب هو أن ‏»الحكومة«‏تدير ‏»البلد«‏ في وضح النهار،‏ أما‏»األمن«‏ فهو الذي يدير ‏»الوطن«‏ أحياناً‏في الخفاء،‏ ومطلوب منه هو وحده أنيمنح أو يسمح بالدخول،‏ ولكن،‏ لكيال يبقى األمر غامضاً،‏ فليعرف السيدجابر عصفور وزير الثقافة في مصرسبب المنع ويعلنه،‏ وكل هذا التساؤلواإللحاح من جانبي،‏ ألنني أعتبر أن هذا‏»الموقف«‏ تجاه سينمائي،‏ هو..‏ إساءةلمصر،‏ وليس لي..‏142


حكيم بلعباسيف محاولة لتعريف الحبمحمد اشويكةيمكن الحديث عن المرجعية السينمائيةلفيلم ‏»محاولة فاشلة لتعريف الحب«‏للمخرج حكيم بلعباس بربطه،‏ شكلياً،‏بفيلم ‏»وقائع صيفية«‏ Chronique((1961 - été) )d’un للمخرج جونروش Rouch( )Jean والفيلسوفإدغار موران Morin( )Edgar اللذينحاوال مساءلة بعض الفرنسيين حولمفهوم السعادة..‏ ثم بالفيلم األميركي‏»البحث عن ساحرة بلير«‏ Blair( The(1999 Projec) )Witch للمخرجيندانييل ميريك وإدواردو سانشيز ( Dan-)Eduardo Sánchez و iel Myrickالذي يبدأ أيضاً‏ بمساءلة الناس حولاعتقادهم بوجود ‏»عيشة قنديشة«‏ فيالغابة؟ فتنطلق أحداث الفيلم بعد ذلكثم تنزل الكاميرا إلى الكهف أو المغارةكما هو الحال في فيلم ‏»محاولة فاشلةلتعريف الحب«‏ الذي يلج فيه البطل‏)حمزة عبد الرَّازِ‏ ق(‏ والبطلة ‏)زينبالناجم(‏ ردهات إحدى المغارات للبوحبما يمور في أعماقهما..‏ والكهف هنااستعادة لرمزية أسطورة الكهف فيطابعها األفاطوني والديني،‏ وفيعاقاتها بالجدل الصاعد والهابط ‏)عاقة143


السماء باألرض،‏ والتجربة بالعقل...(،‏وبسجن اإلنسان داخل مملكة الحواس،‏وثنائية الظلام والنور.‏بدأ المخرج حكيم بلعباس شريطهبمساءلة بعض الناس،‏ وهو في الطريقإلى بحيرتي ‏»إيسلي وتيسليت«،‏ عنأصل أسطورتهما،‏ محاوالً‏ استجماع مايعرفونه عنها،‏ وهل ما يُروّ‏ ج عنهمايدخل في باب الحقيقة أم الخيال؟ وذلكالستجماع متن شفاهي سنفهم،‏ فيمابعد،‏ بأنه سيعتمده لتأثيث فصولالحكاية/السيناريو/الفيلم،‏ خاصة أنالمخرج ينطلق من الفكرة ثم يكتبها/‏يصورها محطماً‏ الحدود الكاسيكيةللكتابة السينمائية ‏)سيناريو،‏ تقطيع،‏تصوير...(...‏ وهو بذلك،‏ يعثر علىذريعة فنية مناسبة الستعادة الحكايةاألصل بشكل يتداخل فيه الوثائقيبالدرامي،‏ حيث ينخرط الممثلان فيالبحث عن ذلك الحب األسطوري،‏ويصادفان في سياق حفرهما‏)المستحيل(‏ ذَ‏ اكَ‏ أَحَ‏ دَ‏ رعاة األغنامالمتيمين،‏ فينخرطان معه في ما يشبهلعبة الحب التي تنبني على استنطاقدالئل الواقع،‏ ومجازات األسطورة،‏ومعاناة العشاق...‏أفلمة األسطورةتنهل أسطورة ‏»إيسلي وتيسليت«‏‏)العريس والعروسة(‏ من األصولالحكائية الضاربة في الميثولوجيااألمازيغية،‏ فالبطلان يحملان منالصفات السردية المشتركة بيناألساطير الكونية ما يؤهلهما الرتياب كلدرجات التشويق:‏ يحكى أن البحيرتينالموجودتين بإملشيل الواقعة في قلباألطلس الكبير،‏ قد شهدتا قصةَ‏ حُ‏ بٍّ‏عَ‏ اصِ‏ فَةِ‏ األطوارِ‏ بين شابة وشابينتميان إلى قبيلة ‏»آيت احديدو«‏المعروفة بصراعات مكوناتها العرقية- ‏)»آيت ابراهيم«‏ و»آيت إعزة«(‏ - التيحالت دون زواجهما،‏ فبكى ‏»موحا«‏‏)إيسلي(‏ و»حادة«‏ ‏)تيسليت(‏ إلى أنامتألت البحيرتان من شآبيب دموعهما..‏ومع مرور الزمن صَ‏ ارَ‏ ت البحيرتان رمزاً‏للعشاق،‏ ومزاراً‏ للولهانين،‏ وموسماً‏سنوياً‏ يقصده مجانين الغرام...‏يراهن المخرج على تعويم المسافةالفاصلة بين العرض السينمائيوالمرجعية الواقعية من خالل ردم الهوةبين ما هو واقعي وما هو تخييلي فيالحياة المغربية المعاصرةتُرَ‏ ى ما الذي يمكن أن يضيفه هذاالبعد األسطوري إلى الفيلم؟ بأي معنىيتمثل الفيلم الحب لينقله من األسطورةإلى السينما؟ وما الذي أضافه إلىقصص الحب التي تعجّ‏ بها السينما؟حاولت السينما أن تبحث عن مساراتاإلنسان التراجيدية في األسطورة قصدفهم ومعالجة االمتدادات المُ‏ ؤَ‏ سِّ‏ سَ‏ ةلحضارتنا الراهنة باعتبار أن الفكراألسطوري ‏)الميتوس(‏ قادر على تجديدآلياته،‏ وإعادة إنتاج خطابه جنباً‏ إلىجنب مع نظام اللوغوس،‏ بل يتحيناالنهيارات الكبرى للعقل كي يحل محلهفي أية لحظة،‏ خصوصاً‏ أن العَ‏ الَم اليومضَ‏ اجٌّ‏ بمظاهر اإلحباط واالضطرابوالقلق وشتى أنواع الضيق والتمزقالعاطفي والوجداني..‏ وبما أن السينماتَأْسرُ‏ وتُفْتِنُ‏ ، فصناعها ال يدخرون الجهدفي استعادة األسطورة وإحيائها بغيةإضفاء طابع التشويق على األحداثوالوقائع الفيلمية..‏ ومن أشهر األفامالتي استوحت المتن األسطوري أوبعض أبطاله وآلهته نذكر:‏ ‏»صراعالجبابرة«‏ Titans( )Le Choc des«للمخرج لويس لوتيريي Le- Louis)Troie( و»معركة طروادة«‏ ،»terrierو»بوسيدون«‏ )Poséidon( للمخرجوولفغانغ بيترسين Wolfgang«..»Petersen كما أن شخصية هرقل)Hercule( باتت معروفة في السينماوالتليفزيون والرسوم المتحركة...‏يُعالِج المخرج أسطورة ‏»إيسليوتيسليت«‏ انطاقاً‏ من وجهة نظرخاصة تروم مطارحة القضاياالعميقة للمجتمع المغربي من وجهةنظر متعددة المقاربات:‏ ميثولوجية،‏أنطروبولوجية،‏ سوسيولوجية،‏إثنوغرافية،‏ ثيولوجية..‏ وذلك لاقترابمن مجتمع تَتَجَ‏ اوَ‏ رُ‏ فيه متناقضاتكثيرة:‏ السحر/التقنية،‏ األصالة/‏المعاصرة،‏ التقليد/الحداثة،‏ التقدّم/‏الرجعية..‏ وهي تقابلات مُ‏ لتبسةالعاقات،‏ يصعب تحليلها استناداً‏ إلىمرجعية أحادية االتجاه نظراً‏ للتحوالتالفجائية التي تطالها،‏ واندساسهاالدائم في ثنايا اليومي..‏ فالمجتمعالمغربي يجدّد أساطيره،‏ باستمرار،‏ككل المجتمعات الحية المضطربة..‏وما الحب ومشتقاته إال أسطورة منأساطيره األزلية التي يَدُسُّ‏ فيها جُ‏ لّ‏همومه،‏ ويَسْ‏ قُطُ‏ في شِ‏ رَ‏ اكِ‏ ها كل الناسعلى اختاف طبقاتهم،‏ فتتمايز رؤاهم،‏وتتنافر ميوالتهم،‏ وتختلف درجاتشغفهم بالحياة ألن الحب وإِيَّاهَ‏ ا الينفصلان..‏ وتلك متاهةُ‏ فيلم ‏»محاولةفاشلة لتعريف الحب«...‏أدبية السينما،‏وسينمائية األدبال أريد هنا أن أطرح بعض القضاياالتي باتت كاسيكية بين األدبوالسينما،‏ وإنما أود اإلشارة إلىتبادل تقنيات ‏»الكتابة/األَفْلَمَ‏ ة«‏ ألننانقرأ روايات بصرية دون أن نرغب فيتحويلها إلى السينما،‏ وقد نشاهد أفاماً‏مصورة بطريقة مكتوبة Littéralité«...»du filmيستعصي تبني مثل هذا األسلوبمن طرف كل المخرجين،‏ ونفس األمربالنسبة لألدباء،‏ فغالباً‏ ما تتحقق تلك144


من ‏»محاولة فاشلة لتعريف الحب«‏اللحظات اإلبداعية الباذخة لثلّة قليلةمن المبدعين الذين ينفذون إلى الحدودالفاصلة بين األجناس فيكسرون تلكالحدود والمتاريس الوهمية،‏ فيقدمونآثاراً‏ فنية تقع على تخوم األجناس..‏يغتني العمل الفني بهذا االنفتاحفتتضاعف قيمته،‏ وتسعف بعضالتقنيات المتبادلة في تطوير اإلبداع...‏استناداً‏ إلى فلسفة االنفتاح تلك،‏يمكن القول بأن فيلم ‏»محاولة فاشلةلتعريف الحب«‏ قد استطاع من خلالتقنية العناوين الفرعية المكتوبة أنيخلق نوعاً‏ من االستطراد الذي لمتستطع الصورة أن تعبر عنه،‏ فعوضتهاتلك الجمل الشذرية ذات اإليحاء الفلسفيالنِّيتشوي التي ساهمت في تطوير السردالفيلمي،‏ وبَثَّت في الفيلم روحاً‏ حِ‏ كَ‏ مِيَّةتعيدنا إلى لحظات الصفاء والعشق التييحتاجها العاشق،‏ وباستعادة لحظاتالتأمل المرتبطة بالطبيعة،‏ واالختلاءبالذات...‏إذا كانت الكتابة قد اخترقت المتنالفيلمي مع السينما الصامتة بغرضتسهيل الفهم،‏ وتجاوز مشاكل غيابالصوت،‏ وتنظيم الزمن الفيلمي..‏ فإنتوظيفها اليوم فِعْ‏ لٌ‏ إبداعي وَ‏ اعٍ‏ ومقصوديهدف إلى إضفاء طابع التَشَ‏ عُّ‏ ب علىالخطاب الفيلمي.‏ حينما ننظر إلىتلك العناوين الفرعية بشكل شموليداخل فيلم ‏»محاولة فاشلة لتعريفالحب«‏ نجد أنها ال تنفصل عن التصوّ‏ رالبصري لألحداث،‏ بل إنها تدخلفي سياق توظيف الحواشي لتمريروإبراز بعض الدالالت واإليحاءاتاإلضافية عَ‏ بْرَ‏ منظومة لسانية تخترقالمنظومة البصرية للفيلم مع مراعاةشروط التعامل السينمائي مع الموروثالشفاهي المغربي في شقه غير المادي..‏هكذا،‏ إذن،‏ يتشظى الفيلم وفق بنيةعامة،‏ وأخرى خاصة:‏- البنية العامة:‏ تقوم على تكسيرالبنية التقليدية للبناء الفيلمي اعتماداً‏على توضيب ذهني يسعى إلى جمعشتات المَ‏ شَ‏ اهِ‏ د واللقطات في وحدةتيماتيكية وأسلوبية منسجمة...‏- البنية الخاصة:‏ تتأسس علىمنظور فني ينطلق من تشذير النصإلى تشذير السينما.‏ال يمكن الحديث عن فيلم ‏»محاولةفاشلة لتعريف الحب«‏ دون ربطهبفيلموغرافيا المخرج في شقيها القصيروالطويل،‏ فالتقاطعات على مستوىدمج معطيات الواقع ضمن خرائطالخيال،‏ قد بَاتت من توابل اإلبداع لدىحكيم بلعباس،‏ وهنا تجدر اإلشارة إلىأن وظيفة السينما لدى المخرج تبدومُ‏ لتبسة التباسَ‏ الواقع ذاته:‏ هل يمكنفصل الواقع عن الاواقع؟ بأي معنىيندمج الخرافي مع الواقعي في المخيالالجمعي المغربي؟ أال يتجاوز الواقعالخيال إلى درجة يصعب معها إقناعالمتلقي المغربي بما تقترحه السينمامن أفلام؟يسعى حكيم بلعباس في فيلم‏»محاولة فاشلة لتعريف الحب«‏ إلىردم الهوة بين ما هو واقعي وما هوتخييلي في الحياة المغربية المعاصرة،‏فأسلوبه السينمائي يراهن على تعويمالمسافة الفاصلة بين العرض السينمائيوالمرجعية الواقعية،‏ خاصة أن تقديمبعض الحاالت الفيلمية،‏ خَ‏ امَّة كما هي،‏تُوَ‏ لِّدُ‏ االنطباع لدى المتلقي بأن المخرجيتماهى كلياً‏ مع الموضوع،‏ وال يمكنالوقوف عند وظيفته:‏ هل هو باحث أمفنان؟ هل يكتفي بالعرض والوصف أميسعى إلى النقد؟ هل يُصَ‏ وِّ‏ رُ‏ فيلماً‏ درامياً‏أم وثائقياً؟أو بطريقة تساؤلية أخرى:‏كيف يشكل الواقع تَحَ‏ دِّياً‏ مباشراً‏ فيوجه السينما،‏ وكيف تسعى السينما إلىاالبتعاد عن الواقع لكي تخط حدودها؟..‏هل المسافة ‏)القاطعة/الواصلة(‏ بينهماتمثل العمق األمثل إلنجاز فيلم جميل؟تلك كانت محاولة المخرج حكيمبلعباس السينمائية للدُّنُو من الواقعالمغربي أو االنفصال عنه بغيةترميز بعض قضاياه الوجودية،‏ وفكارتباطاته،‏ المباشرة وغير المباشرة،‏الظاهرة والمضمرة،‏ وذلك عبر اقتحامحقول فنية وأدبية وفلسفية تتقاطعمجاالتها االستعارية والمجازية داخلبوتقة السينما ‏)طرق التأطير،‏ إيقاعالمونتاج،‏ مكونات الشريط الصوتي،‏زوايا التقاط الصورة...(،‏ والنتيجة:‏السعي إلى إعلان موت السينمابمعناها الصناعي الثقيل وتوليد نوعمن ‏»الاسينما«‏ الموازية.‏145


من فيلم ‏»رحلة المئة خطوة«‏مذاق االغرتاب يف مئة خطوةغيدا اليمنالطعام هو أيضاً‏ ذكريات،‏ هذامايلخص فيلم ‏»رحلة المئة خطوة »المأخوذ عن قصة لريتشارد موريهحولها إلى سيناريو ستيفن نايت،‏ الذيأضاف بعض التفاصيل التي لم تكنموجودة في الكتاب الوارد مؤخراً‏ علىالئحة الكتب األكثر مبيعاً‏ في العالم.‏شارك في إنتاج الفيلم ستيفنسبيلبرغ وأوبرا وينفري،‏ وأخرجه السهولستروم المولود في السويد في العام1946، والذي يحمل سجله أفاماً‏ مهمةمنها ‏»ما الذي يؤرق جيبلبرت غريب«‏)1993( و»قوانين منزل سايدر«‏ )1999(الذي جلب لمايكل كين ‏»أوسكار«‏ كأفضلممثل في دور مساند،‏ والفيلم البديع‏»شوكوال«‏ )2000(، الذي جمع فيهنجماتٍ‏ من الطراز األول:‏ الفرنسيةجولييت بينوش،‏ والبريطانية جوديدنش،‏ والسويدية لينا أولين،‏ زوجتهمنذ العام 1994، في أدوارٍ‏ ال تُنسى.‏‏»حين تتعَ‏ طّ‏ ل مكابِح السيارة،‏ فا بدأن ذلك قد حدث لسببٍ‏ وجيه«.‏ هذا مايؤمن به بابا كاظم،‏ ربّ‏ العائلة الهنديةالتي فُجِ‏ عت بخسارة األم واحتراقالمطعم الذي يملكه في اضطرابات عنيفةوقعت على خلفية انتخابات محلية فيمدينة مومباي الهندية،‏ ما دفعها إلىاللجوء إلى لندن في محطةٍ‏ أولى.‏لكن ظروف الحياةِ‏ غير المريحة هناكتدفع بابا كاظم إلى اتخاذ قرار االنتقال146


َبعائلته إلى فرنسا أماً‏ في بدايةٍ‏ أفضل.‏وهناك،‏ وبينما هم يبحثون عن مكانٍ‏لاستقرار فيه تتعطل مكابح السيارةعلى دربِ‏ إحدى المدن الريفية،‏ وتتوالىمسبحة الصدف المؤاتية التي تدفعاألب إلى اختيار هذه المدينة بالذاتليفتتح فيها مطعمه المتخصص فيتقديم األطعمة الهندية التقليدية،‏ علىالرغم من احتجاج أبنائه الذين يرونفي هذا المشروع خطوةً‏ شديدة التهوُّ‏ ر.‏فاألمور ليست بالبساطة التي يتخيلهابابا كاظم،‏ وال سيما بالنظر إلى حالةالمنزل القديم المتهالك الذي اختارهاألب ليحوله إلى مطعم يقعُ‏ ، للصدفة،‏على بعد مئة قدم فقط من مطعمراقٍ‏ يحمل اسماً‏ فرنسيّا بامتياز،‏ ‏»لوسول بلورور«‏ أي الصفصاف الباكي،‏تديره مدام مالوري السيدة المتعاليةوالمتمسكة بشراسة بتقاليد المطبخالفرنسي العريق.‏في هذه المئة قدم الفاصلة بينمطعمين،‏ وبين عالمين،‏ ستدورمعارك مُ‏ علَنة وسرية،‏ عنيفة وغيرعادلة أحياناً،‏ سنتابع مساراتها التيتكتنفها روائح ونكهات األطعمة،‏ بينماتتشكّل المصائر وتنسَ‏ ج عاقات الحبوالمنافسة.‏ساعتان من الزمن تنتقل فيها الكاميرامن مومباي التي تظل حاضرةً‏ طوالالفيلم من خال الروائح المتخيّلة للهالوالكركم والكمون،‏ إلى الريف الفرنسيومناظره البديعة الخارجة كأنها للتومن قصة خيالية والتي تشكل خلفيةخابة لحربٍ‏ أدواتها الوصفات السريةالمتوارثة من جيلٍ‏ إلى جيل،‏ وسكاكينالمطبخ التي ال تهدّد إال الخضراواتوالحمام واألسماك الطازجة القادمةلتوها من النهر،‏ وتتطاير فيها ذراتالملح والتوابل وتُدرَ‏ سُ‏ فيها الخلطاتكمناوراتٍ‏ حربية ال تخلو من الجرأة.‏شخصية مدام مالوري تؤديها الممثلةالبريطانية من أبٍ‏ روسيّ‏ هيلين ميرين،‏الفائزة بجائزة أوسكار عن دورها فيفيلم الملكة )2006(، وقد بدت مقنعةً‏ فيدور السيدة الباحثة في كهولتها عن مجدٍ‏شخصيّ‏ تتوّ‏ ج به حياةً‏ سخّ‏ رتها بالكاملللحفاظ على مكانة المطعم الذي ورثتهعن زوجها.‏ أما دور بابا كاظم فقد قام بهأوم بوري،‏ الممثل الهندي الذي شاركفي أفامٍ‏ عديدة من إنتاج بوليوود،‏ وفيأفلام أميركية وبريطانية منها ‏»الغربهو الغرب«‏ )2010(، وقد تركت مامحهالسمراء الغليظة ومواقفه االنفعاليةالمعبرة عن المزاج الهندي بصمتها فيمفارقاتٍ‏ لم تخلُ‏ من الطرافة.‏وقام مانيش دايال بدور حسن،‏الطباخ الماهر الذي تتلّمذ على يد أمه،‏في أداءٍ‏ بدا عاديِّا مقارنةً‏ بأداء الممثلةالفرنسية-الكندية المولودة في مونتريالشارلوت لو بون في دور مارغريت،‏مساعدة الطاهي الرائقة المامح التيسيقع حسن في حبها على الرغم منعملها في المطعم المنافس،‏ ما يضعهافي خانة العدو،‏ ولكن إلى أجلٍ‏ مسمى.‏جاءت الموسيقى التصويرية التيألفها أي آر رحمن،‏ واضع موسيقىفيلم ‏»المليونير المتشرد«،‏ المازجة بيناألنغام الهندية واألوروبية الكاسيكيةوالمعاصرة لتعبر عن التباينات المتأتيةمن جيرةٍ‏ صنعتها األقدار بين ثقافتينشديدتي االختلاف،‏ وتصوغ في الوقتعينه إيقاعاتٍ‏ جديدة تحتفي بوالدةعاقاتٍ‏ جميلة ناجمة عن اجتماعحضارتين،‏ من خلال تاقح مذاقاتمطبخيهما.‏ال مفاجآت هنا وال توليفات دراميةتنهك العقل وال مكان للتراجيديا،‏ ولو أنالفيلم يبدأ بمأساة فقد األم التي تتحولعلى مَ‏ رّ‏ األحداث إلى ألمٍ‏ شفيفٍ‏ مُ‏ لهمٍ‏الفراد العائلة الذين يرَ‏ ون في نجاحمشروعهم تخليداً‏ لذكرى األم التيأورثتهم وصفاتِها،‏ كنزاً‏ ال يزولُ‏ سحره.‏لم ينجُ‏ الفيلم من السقوط في فخالكليشيهات الدرامية والمواقف المتوقّعة.‏فثيمة الصراع الحضاري بين الشرقوالغرب وفكرة قبول اآلخر عولجتافي بعض األحيان بسطحية ال تخلومن شيء من السذاجة،‏ وقصةُ‏ النجاحالصاروخي للطباخ الشابّ‏ الذي يتحوَّ‏ لفي وقتٍ‏ قياسي إلى نجمٍ‏ تغطي صورتهأغلفة المجات المتخصصة تبدو مبالغةً‏ال داعي لها.‏مع ذلك يتركك الفيلم في النهايةجائعاً‏ إلى الجمال وإلى الحب،‏ ومصاباً‏بشيءٍ‏ من األمل،‏ الساذج ربما،‏ الذييدفعك إلى إطلاق بعض األسئلةالبريئة:‏ ما المانع أن تتصالح الشعوبمع بعضها البعض بصرف النظر عنعرقٍ‏ أو دينٍ‏ ؟ لماذا ال يلتقي الشرقوالغرب ويتكاملان ويتناغمان بدالً‏ منالتنابذ والتقاتل؟لكن اإلجابة ليست بكل تأكيدبالبساطة التي يدّعيها هذا الفيلم.‏147


من فيلم ‏»يومان وليلة«‏قليل من الدراما يف ‏»يومان وليلة«‏محمد الفقييبدو فيلم ‏»يومان وليلة،‏ 2014«من الوهلة األولى واعداً‏ بمغامرةسينمائية مُ‏ دهشة،‏ فصانعا الفيلم هماالبلجيكيان األخوان جان-بيير ولوكداردين ‏)الحائزان على السعفة الذهبيةمرتين(،‏ وبطلة الفيلم هي الفرنسيةماريون كوتيار ‏)الحائزة على أوسكارأفضل ممثلة،‏ 2007(، واألهم،‏ أن ثيمةالفيلم تبدو من القوة بأن تسوغ لناتوقع مثل هذه الدهشة.‏ والفكرة ببساطةهي:‏ أنه في أحد األيام،‏ يُجرى تصويتبين العمال من زملاء البطلة ‏)ساندرا:‏ماريون كوتيار(،‏ في المصنع الذي تعملبه،‏ ليختاروا ما بين استمرار زميلتهمساندرا في العمل،‏ أو فصلها في مقابل أنيحصل كل منهم على علاوة قدرها ألفيورو.‏ ويتم التصويت في غياب ساندرا،‏ويختار العمال العلاوة،‏ ويتخلون عنساندرا.‏ لكن ساندرا ‏-بمعاونة زميلةلها-‏ تنجح في إقناع المدير بأن يُجريالتصويت مرة أخرى في حضورها،‏في أول يوم عمل في األسبوع الجديد،‏ويوافق المدير،‏ فتصبح لديها عطلةنهاية األسبوع؛ يومان وليلة،‏ لكيتخوض رحلة لمقابلة كل زميل لها منزمائها ال 16 الذين صوتوا ضدها؛ فيحملة لتغيير رأيهم والتصويت لصالحهاهذه المرة.‏ أي أن على ساندرا أن تُقنع16 شخصاً‏ بالتخلي عن مصلحتهمالشخصية واآلنية والمباشرة فيالحصول على 1000 يورو،‏ من أجلروح التضامن والتعاضد والمساندة.‏وتبدأ ساندرا رحلتها فعاً،‏ بمساعدةزوجها ‏)الذي يعمل نادالً‏ في مطعم(،‏والذي يرافقها في أغلب الرحات،‏ شاداً‏من عضدها في لحظات اليأس.‏ ونتذكرونحن نشاهد بداية الفيلم محاوالتهنرى فوندا في فيلم سيدني لوميت ‏)اثناعشر رجاً‏ غاضباً،‏ ‎1957‎‏(؛ وهو يحاولتغيير رأي زمائه المحلفين من النقيضللنقيض،‏ إلنقاذ حياة فتى بريء مسكين.‏ويستدعي الذهن أيضاً‏ فيلم فيتوريودي سيكا ‏)سارقو الدراجات،‏ ‎1948‎‏(؛ورصده ألوضاع العمال اإليطاليين،‏وتصويره للضحية التي تسرق فرصةضحية أخرى مثلها،‏ في صراع علىلقمة العيش في إيطاليا ما بعد الحربالعالمية الثانية.‏ كما نستدعي أيضاً‏أعمال المخرج اإلنجليزي كين لوتش فيفترة التسعينيات من القرن الماضي؛وأفامه عن الطبقة العاملة البريطانية،‏وحقوق العمال،‏ ومشاكل الشريحة الدنيامن الطبقة الوسطى،‏ إضافة إلى سلسلةاألفلام الجميلة عن البطالة واألزمات148


االقتصادية للمخرج الفنلندي الكبير آكيكورسماكي،‏ بل وفيلم األخوان دارديننفسيهما ‏)روزيتا،‏ 1999(، الذي حازالسعفة الذهبية،‏ وجائزة أفضل ممثلة‏)إليميلي ديكون(،‏ في مهرجان كان.‏لكن المؤسف أن الفكرة الرئيسيةال يتم التعامل معها بشكل جيد،‏ والإبداعي.‏ مع مخرجين كبيرين مثلاألخوين داردين،‏ كان المرء يتوقع أنتُعالج الفكرة ببراعة فنية،‏ وبقدرة علىابتداع حيل وذرائع درامية؛ لحل مشكلةالنمطية في مقابات ساندرا مع زمائها.‏أو،‏ السير في الطريق اآلخر،‏ وخيانةالفكرة الرئيسية،‏ بالسير وراء فكرة/‏أفكار أخرى ثانوية تنبت أثناء المرحلةاألولى لرحلة البطلة ‏)كما تاه الهدفمن البطل،‏ ثم ابتلعه الطريق في فيلممايكل أنجلو أنطونيوني ‏»المغامرة«،‏‎1960‎؛ فنسي حبيبته التي اختفت فجأةفي أول الفيلم،‏ وصار الطريق نفسههو الهدف(،‏ لكننا نجد األخوين داردينيختاران التعامل مع رحلة ساندرا بنزق،‏وبروح سطحية،‏ تسجيلية من الخارج،‏مما أدى إلى التسلل السريع لإلحساسبالملل،‏ وبأنانية قضية ساندرا،‏ وضياعالقوة الضاربة لفكرة الفيلم الرئيسيةبسبب االستسهال في التناول.‏ هلنضرب أمثلة على االستسهال؟ حسناً:‏- 1 هناك أوالً‏ محاوالت إقناع ساندرالزمائها عن طريق االتصال الهاتفي بهم‏)وهو ما لن يلجأ إليه هواة صناعةالسينما(.‏2 ‏-وفي المقابلات التي تجريها معبعض زمائها لن تدخل إلى بيوتهم،‏بل ستتم محاولة اإلقناع بسرعةواقتضاب من على باب بيت الشخصية.‏ويحتار المرء؛ فلماذا لم يلجأ األخوانداردين إلى ذرائع درامية لجمع أكثرمن شخصية في مكان واحد،‏ مادامتخصوصية مكان كل منهم ليست بهذهاألهمية،‏ لدرجة إجراء المحادثات منعلى عتبات أبواب البيوت؟!‏3 ‏-أضف إلى ذلك أن الشخصياتكلها نمطية ومتوقعة،‏ ومن الطبيعيأن يكونوا في أمسّ‏ الحاجة إلى مبلغاأللف يورو العلاوة:‏ أحدهم يحتاجالعلاوة لدفع مصاريف الجامعة،‏ وآخرلترميم بيته،‏ وثالث أسود ويخشى أنيصوت بطريقة مختلفة عن زمائه،‏فيضطهدونه ويبلغون عنه سلطاتالهجرة..‏ إلخ.‏4 ‏-حتى فكرة األلم النفسي الذييصيب ساندرا متحوالً‏ إلى ألم عضويأحياناً،‏ لم يتم استثماره بشكل جيد‏)وهو ما كان سيمنح شخصية ساندراثقلاً‏ دوستويفسكياً(.‏5 ‏-باإلضافة إلى محاولة انتحارهاالمفتعلة والمقحمة على النصف الثانيمن الفيلم،‏ ثم الحماس،‏ غير المبرر مرةأخرى،‏ لمواصلة رحلتها،‏ بعد أن يتمإنقاذها من محاولة االنتحار.‏ما نحسبه استسهاالً‏ في معالجةالفكرة،‏ قد يكون سببه هو محافظةاألخوين داردين على أسلوب عملهما،‏في حين كانت طبيعة الفيلم تستدعيتطويراً‏ ألسلوبهما التسجيلي؛ وهواألسلوب الصالح أكثر لعرض طقوسوعادات وتفاصيل شخصية،‏ أو حتىتأمل الطبيعة والموجودات.‏ في هذهالحالة يعمل األسلوب التسجيلي كأنهالمحقق الذي يستنطق العالم ليبوحبأسراره.‏ لكن األمر ينقلب فيصبحعجزاً‏ يُولِّد مللاً‏ إذا ما تم اإلصرار علىاألسلوب التسجيلي لمعالجة فكرة تحتاجالكثير من الخيال الروائي،‏ والبراعةفي ابتداع حيل وذرائع درامية؛ خدمةللتكثيف،‏ وتحقيقاً‏ للمفاجأة،‏ وغوصاً‏في األعماق اإلنسانية بما تزخر بهمن معانٍ‏ وصراعات،‏ ال مجرد السطحالظاهري بتصلبه التسجيلي.‏إن كانت هناك حسنة في ‏»يومانوليلة«،‏ فهي محاولة األخوين داردين‏-أخيراً-‏ لصنع صورة جميلة،‏ والتخليعن الحركة المقززة لاهتزاز العنيفللكاميرا المحمولة على الكتف.‏ ويُحسبلماريون كوتيار أيضاً‏ بعض اللحظاتالفردية القوية في أداء الممثل؛ والتياستطاعت فيها ‏-بأقل قدر ممكن مناإليماءات-‏ أن تمرر لنا ما تشعر بهالشخصية من تهديد وفزع وإهانة.‏تبقى كلمة لموزعي الفيلم.‏ ال تعولواكثيراً‏ على إيرادات من دول الجنوب.‏شخص من الجنوب مثلي لن يتعاطف،‏ولن يتوحّ‏ د،‏ مع مشكلة ساندرا التيتعيش في بيت نظيف من طابقين،‏ فيحي راقٍ‏ ومشجر،‏ ولديها سيارة فوردحديثة،‏ وتتناول طعاماً‏ جيداً.‏ التهديدالذي تواجهه ساندرا في حالة فقدهالوظيفتها،‏ هو أن تفقد بيتها الكبيروتسكن في مساكن الضمان االجتماعي،‏وال أظنه يمثل كارثة يمكن أن يتوحّ‏ دمعها المشاهدون في الجنوب.‏ كان األمرمختلفاً‏ في ‏)روزيتا(،‏ حين كانت الفتاةالمراهقة تعيش في أحراش الغابة،‏ فيسيارة/بارافان على أطراف المدينة،‏وتغزو المدينة كل يوم محاولة الحصولعلى لقمة عيش.‏ كانت روزيتا مُ‏ عدَمة،‏أشبه بفتاة بدائية وثنية،‏ ترعى أمهاالسكيرة،‏ وكانت حاجتها إلى العملمسألة حياة أو موت،‏ للدرجة التيتخون فيها حبيبها في آخر الفيلم؛ فتبلِّغعنه مديره ليطرده وتحل هي محله فيالعمل،‏ متمتعة بامتياز راحة الضمير،‏كحيوان بري بريء.‏ربما يتطلب نقد الوضعية الوحشيةللرأسمالية جهداً‏ أكبر من مجرد النواياالحسنة.‏ كان هيتشكوك يؤمن بأن قوةالفيلم تتناسب طردياً‏ مع قوة الشرير.‏والشرير في مثل هذه األفام التي ترصدالتوحش الرأسمالي،‏ هو األوضاعالهيكلية في المجتمعات الرأسمالية،‏والجو العام في اقتصادات السوق،‏والمزاج الخاص الذي تولده األزماتواإلفلاس.‏ والحقيقة أننا لم نرَ‏ شريراً‏في ‏»يومان وليلة«.‏149


‏»مومي«‏عاصفة مخرج شابخاص بالدوحةبمثابة تحية إلى ‏»األم«‏ التي صنعتنا،‏وتحية إلى ‏»فن الممثل«‏ في السينما،‏ولذا استحق الفيلم جائزة النقاد فيمهرجان ‏»كان«‏ 67، ويستحق المشاهدةعن جدارة،‏ ‏.من أجمل األفلام التيتُعرَ‏ ض في باريس حالياً‏ فيلم ‏»مومي«‏)MOMMY( أو ‏»أمي«‏ للمخرج الكنديالشاب إكزافييه دوالن،‏ الذي يُعد عنجدارة ‏»طفل السينما الكندية المرعب«.‏فقد حَ‏ قّقَ‏ دوالن،‏ وهو لم يتجاوزالخامسة والعشرين من عمره بعد،‏ 6أفلام روائية طويلة لحد اآلن!‏والمدهش في األمر أن هذه األفلاممتميزة،‏ ومتنوعة و»فريدة«‏ وتبدو كمالو أنها كانت من صنع ستة مخرجين،‏وليس من صنع مخرج واحد.‏ فكل فيلممنها يقف لوحده وبمفرده على حدة،‏لتميزه عن بقية األفلام األخرى.‏ ومنشاهد فيلمه البديع ‏»توم في المزرعة«‏TOM A LA FERME ذا المنحىالبوليسي،‏ لن يحسب بعد مشاهدة فيلم‏»مومي«‏ الفاقع للغاية وإلى أبعد الحدودفي ‏»ميلودراميته«‏ - لكن ربما كانتهذه الميلودرامية أيضاً‏ سر نجاحه،‏لن يحسب أنه من صنع نفس المخرج.‏هذا اإلكزافييه دوالن الحكواتي الكنديالشاب المعجزة،‏ الذي صار ‏»ظاهرة«‏ليس في السينما الكندية وحدها،‏ بل فيالسينما العالمية أيضاً،‏ وليس بكامهوتصريحاته،‏ بل بتجاربه السينمائيةالفذة - وهو سائر و»ثائر«‏ أيضاً‏ علىدرب المخرج األميركي كوينتن تارانتينو‏-إذ يدلف مثله ومع كل فيلم..إلى..‏‏»مغامرة«‏ فنية جديدة.‏ والذي شاركتأفامه في العديد من المهرجاناتالسينمائية العالمية،‏ وتوهجت مثلاً‏مؤخراً‏ في مهرجان ‏»كان«‏ السينمائيالعريق الذي عرض لدوالن فيلمه األول‏»أنا قتلت أمي«،‏ وهو في سن 19سنة!‏ ‏)مثل الفرنسي فرانسوا تروفوالذي عرض فيلمه »400 ضربة«‏ فيالمهرجان وهو في سن مماثلة(.‏ ثمتَوّ‏ جَ‏ ‏»مسيرته السينمائية اإلبداعية هذاالعام في دورة المهرجان »67« بمنحفيلمه ‏»أمي«‏ ‏»جائزة النقاد«،‏ مناصفةمع المخرج والمفكر السينمائي الفرنسيالعملاق جان لوك جودار بفيلمه البديع‏»وداعاً‏ للغة«.‏ يحكي فيلم مومي - الذييبدأ بفقرة من نوع الخيال العلميمكتوبة على الشاشة تقول إن ثمةحكومة جديدة انتخبت عام 2015 فيكندا وأنها أصدرت قانوناً‏ جديدا يتيحللوالدين إذا فشلا في تربية أوالدهماتسليم الولد المعني إلى أقرب مستشفى!‏- يحكي من ناحية الموضوع أوالً،‏ وكماتمثلته عن شيئين مهمين جداً‏ في حياتنا.‏يحكي عن ‏»موضوع ‏»التربية«‏ ومشاكلنامع أوالدنا في تربيتهم وتعليمهم،‏ويجعلنا نتعاطف في الفيلم مع هذهاألم الكندية التي تذهب وتتسلّم ابنها‏»ستيف«‏ وعمره 15 سنة في أول مشهدمن الفيلم من رئيسة ‏»إصاحية«‏ ‏-دارلعلاج المراهقين واألحداث-‏ بعد أنفشلوا في عاجه وبعد أن تقرر بسببجرم ارتكبه وكاد معه يحرق زميله فياإلصاحية،‏ أن ينقل من االصاحيةإلى سجن لقضاء فترة عقوبة.‏ وإما أنتحضر أمه الستامه..‏ وتعالجه بنفسها.‏فهو من نوع المراهقين من ذوي الطباعالحادة والحركية الدائمة HYPERAC-TIVITY في أعتى أشكالها،‏ ومُ‏ تقلّبالهوى والمزاج والمزاح،‏ واليستقر أبداً‏في مكان،‏ ومتطرّف ومشاغب في كلتصرفاته،‏ وإما أن يودع الحبس.‏وتتأسى مديرة اإلصاحية لحال ‏»األمالشجاعة«‏ التي حضرت لتتسلم ابنها.‏ثم تجيئها مكالمة تليفونية من بعضالعاملين في الدار،‏ من أن ستيف الملعونيعاكسهم ويثور عليهم ويقاومهم بشدةوهم يسحبونه،أو باالحرى يجرونه جراً‏لتسليمه إلى أمه،‏ وتردّد الرئيسة أنهذا ولد ملعون ومجنون بحق.‏ وهذه150


من فيلم ‏»مومي«‏االفتتاحية الفيلمية هي بمثابة مقدمةضرورية لمتابعة أحداث الفيلم في مابعد،‏ ومعرفة إن كانت هذه األم،‏ سوفتنجح في مجابهة ذلك ‏»التحدي«‏ الذيوضعته لنفسها،‏ ونجاحها أو فشلها في‏»تربية«‏ وتعليم وتهذيب ذلك ال»ستيف«‏الملعون الشقي..‏ ومحاولتها في أنتجعل منه إنساناً‏ سوياً.‏ ونحن نتفهمطبعاً‏ رغبتها في أن يكون ‏»ستيف«‏ علىالمستويين المادي واالجتماعي كما تحلمكل أم في كل الدنيا أن يكون ابنها أحسنمنها.‏ومن جانب آخر يعالج الفيلمموضوع ‏»الصداقة«‏ حيث تنشأ في الفيلمعاقة صداقة بين ستيف وأمه،‏ وبينجارتهم في البيت المقابل لبيتهم،‏ فيتلك الضاحية الكندية الموحشة،‏ - الأحد يسير أو يظهر هنا في الشارع -التي تتحول بشوارعها إلى ساحة للجريوالركض واللهو البريء لثاثتهم،‏ والتيينطلق فيها ستيف عند عودته معهمامن السوبر ماركت،‏ وهو يركب عجلةسلة البضائع وينطلق يسابق الريحوهو يستمع إلى أغانيه ومقطوعاتهالموسيقية المفضلة ويصرخ:‏ حرية..‏حرية.‏يؤسس دوالن في فيلمه لموضوعالصداقة من خلال العاقة التي تنشأمع تلك ‏»الجارة«‏ التي تعمل مدرسة -مرة أخرى موضوع ‏»التربية«‏ - وتعيشمع ابنتها وصديقها في عزلة موحشة،‏ويؤكد دوالن على تلك العزلة بحيلةسينمائية بارعة،‏ عندما يجعل الجارةتتلعثم حين تهم بالكام،‏ وتتردد،‏ وتجدصعوبة في نطق ما تريد أن تفصح بهويجعلنا نتعاطف معها،‏ وهي تحاول أنتخرج من عزلتها،‏ وانكفائها على حياتهاالخاصة،‏ بتبادل الزيارات مع جارتها أمستيف،‏ بل وتساعدها أيضاً‏ في تربيةابنها،‏ وتعطيه دروساً‏ خصوصية قبلأن يدخل االمتحان ويحصل على شهادة.‏يجدِّدمخرج هذا الفيلمً‏ في النوعالسينمائي على مستو ى اإلخراجوجماليات السينما،‏ حين يصورالفيلم كله بطريقة ‏)‏‎1:1‎‏(ويغلق الكادرالسينمائي المستطيل الذي تعودنا عليه،‏ويجعله يحتل ثلت الشاشة فقط،‏ كمافي كادر الصورة الفوتوغرافية،‏ ويصوردوالن فيلمه بهذه الطريقة في ما عدامشهدين:‏ مشهد عودة ستيف الولد معأمه وجارته من السوبر ماركت،‏ ومشهدالرحلة إلى البحر حين يفتح الكادرويجعله مستطياً‏ كالمعتاد،‏ وال يجدِّدهنا دوالن في فيلمه من ناحية الكادر حباً‏في التجديد،‏ بل لحاجة سينمائية ارتآهالفيلمه أال وهي التركيز على الشخصياتفي الفيلم،‏ بحيث تتواجد كل شخصيةفي ‏»قلب«‏ الكادر أو اإلطار السينمائي،‏وبحيث يكون جُ‏ لّ‏ اهتمامنا هو التركيزعليها وحدها،‏ ومن ثم الحاجة إلىاألشياء األخرى التي يمكن أن تكونمتواجدة معها في الكادر المستطيل.،‏كما ينجح دوالن أيضاً‏ على مستوىشريط الصوت الباهر في الفيلم الذييحقق من خال أغنياته وموسيقاه أعلىمستوى من الميلودرامية المؤثرة لفيلمه،‏فتجعلنا نحلق في بعض مشاهد الفيلمونكاد نطير.‏ربما يكون أهم إنجاز فني حققهدوالن بفيلمه ‏»مومي«‏ - وهو االسمالمكتوب على قلادة أهداها ‏»ستيف«‏ألمه وحاول أن يقنعها بأنه لم يسرقهامن السوبر ماركت،‏ بل اشتراها بنقودهمن دون جدوى - هو أنه كرس فيلمه كلهللرأي القائل إن السينما هي ‏»فن الممثل«‏وعن جدارة،‏ وأن أي فيلم اليشمخ،‏ الب»سيناريو«‏ الفيلم المكتوب،‏ كما يرىبعض المخرجين في السينما العالمية،‏ أوب ‏»مونتاجه«‏ كما يرى المخرج اإليطاليالكبير انطونيوني.‏ بل يشمخ فقط،‏ كمايرى المخرج األميركي الكبير أورسونويلز،‏ يشمخ بتمثيله..‏فقد نجح دوالن في أن يجعل منفيلمه وعلى الرغم من أنه ينتهيبمأساة،‏ فيلماً‏ متدفقاً‏ جداً‏ ب»حيويته«‏من خلال إيقاعه المتدفق السريع مثل‏»شال«،‏ ومن خال األداء التمثيلي:‏ عندالممثلة الكندية آن دورفال في دور ‏»دايأو ديانا«‏ األم،‏ والممثلة الكندية سوزانكليمان في دور ‏»كياال«‏ الجارة،‏ والممثلالكندي الشاب الموهوب انطوان أوليفييهبيلون في دور الفتى المراهق ‏»الملعون«‏‏،ستيف .151


‏»جلدة السوط«‏حياة العازفني املريرةد.‏ رياض عصمتال شك أن فيلم ‏»جلدة السوط«‏ )2014(للمخرج وكاتب السيناريو داميان تشازيلسيكون أحد األفلام النادرة في تاريخالسينما.‏ إنه فيلم مخرج بكل ما تعنيهالكلمة من معنى،‏ إنما هو أيضاً‏ بامتيازفيلم ممثل،‏ وفيلم مصور،‏ وفيلم مونتير.‏نجح الفيلم نجاحاً‏ باهراً‏ حين عُ‏ رِضَ‏ ألولمرة في ‏»مهرجان صن-دانس«‏ الشهيرلألفام الجادة والمُ‏ ستقلّة،‏ وحظي بثناءهائل من النقاد السينمائيين.‏ الحق يقال،‏إن هذا الفيلم زهيد التكلفة والخالي منأسماء النجوم الطنانة نموذج رائع المثاللما يمكن أن يصنعه فنان مُ‏ قتدر يمتلكرؤية تجمع ما بين القصة والمشهديةالبصرية،‏ يضاف إليهما حكماً‏ في هذاالفيلم حس وذائقة موسيقيين علىمستوى بالغ الرفعة.‏ لكن فيلم ‏»جلدةالسوط«‏ ليس فيلماً‏ موسيقياً‏ يجريفي كواليس الموسيقا فقط،‏ إذ يمكنبقدر من التغيير أن ينطبق على أي فنإبداعي كالمسرح أو الرقص.‏ إنه فيلم عنالطموح،‏ عن المسؤولية،‏ عن اإلرادة،‏عن الحافز،‏ وجميعها أمور قد تثقل ظهراإلنسان في شبابه كلسع السوط وهويجلده،‏ بل يدميه،‏ لكنها وحدها ما تكشفعن العبقرية الكامنة.‏‏»جلدة السوط«‏ هو عنوان المقطوعةالموسيقية التي دأب األستاذ على تدريبفرقته لعزفها بإتقان تام،‏ وهي العذابالذي سامه إياهم،‏ وباألخص بطل الفيلمأندرو،‏ كي يصل بهم إلى تجاوز قدراتهم،‏ألن الفن يلفظ أنصاف الموهوبين.‏أندرو فتى في مقتبل العمر،‏ انفصلتأمه عن أبيه وهو في سن الطفولةالمبكرة،‏ فرباه أبوه المدرس المكافحمن أجل أن يحقق إنجازاً‏ أدبياً‏ دونفائدة.‏ يدرس أندرو عزف الطبول فيمدرسة نموذجية للموسيقا،‏ ويفرحعندما يختاره فلتشر - أقسى أساتذتهاوأشهرهم - ليكون متدرباً‏ على اإليقاع فياألوركسترا التي يقوم بتأهيلها من أجلخوض مسابقة مهمة للفرق الموسيقية.‏لكن العاقة بين الطالب واألستاذ تشكلصدمة لألول،‏ إذ إن فلتشر قائد أوركسترابالغ الصرامة إلى درجة تفوق االحتمال،‏مستفز وقاسٍ‏ وفظ ومرعب.‏ في الوقتنفسه،‏ ال يتردد المدرب وقائد األوركسترافلتشر عن مصارحة أفراد فرقته وهويقاوم الدموع أن أحد تامذته القدامىتوفي،‏ فيدرك أندرو حساسيته وعاطفتهالمرهفة وراء قناع القسوة.‏ خال ذلك،‏يضطر أندرو للتخلي عن نيكول الفتاةالتي يحبها ليركز على تدريبه اليوميالطويل وتركيزه على إيقاعات الجازالمعقدة.‏ يعمل أندرو طويلاً‏ تحقيقاً‏لطموحه وإرضاءً‏ ألستاذه،‏ وبعد جهدجهيد وشاق تنزف خاله يدا أندرو دماً‏وروحه ألماً‏ تفوز الفرقة في المسابقة،‏وينتزع أندرو إعجاب الجمهور ورضاأستاذه.‏ لكن،‏ بالرغم من النجاح النسبيالذي أحرزه،‏ يجد أستاذه فلتشر يضعأمامه تحدياً‏ جديداً‏ وراء آخر،‏ خاصةعندما يضم عازف طبول جديداً‏ إلىالفرقة،‏ ويخلق تنافساً‏ رهيباً‏ بينأندرو وسابقه والحقه للفوز بالموقعالوحيد للعزف في حفلة الفرقة القادمة.‏لكن ضغط فلتشر النفسي يستمر،‏ بليتصاعد،‏ ويبذل أندرو المستحيل ليتطورويرضي أستاذه الذي يبدو وكأن شيئاً‏ال يرضيه سوى الكمال،‏ إلى أن يصابأندرو في حادثة سيارة وهو يهرعللوصول إلى موعد التقاء الفرقة خشيةأن يتعرض للطرد.‏ يصل أندرو على آخرنفس وهو مغطى بالدم نتيجة الحادثةالتي كادت أن تودي بحياته،‏ ويعزفبما أمكنه من قدرة ليواجه بنقد األستاذاللاذع الذي ال يتورع أن ينحيه دون152


من فيلم ‏»جلدة السوط«‏شفقة أو رحمة معطياً‏ الموقع لمنافسه.‏يجن جنون الفتى أندرو ويهجم ألول مرةكالمجنون ليحاول االعتداء جسدياً‏ علىاألستاذ.‏ بالطبع،‏ يُطرَ‏ د من الفرقة،‏ لكنمسؤولة تستدرجه للشهادة سراً‏ ضدتصرفات ذلك األستاذ االستبدادية التيسببت األذى النفسي لبعض الطلبة.‏ يفعلأندرو ذلك،‏ ويترك المعهد الموسيقي،‏في حين يُطرَد األستاذ فلتشر دون أنيعرف السبب.‏ يدخل أندرو ذات مرةحانة تعزف فيها فرقة جاز،‏ فيرىأستاذه فلتشر يعزف البيانو برقةومهارة.‏ يتقابلان،‏ فيحكي له فلتشرأن دافعه كأستاذ ومدرب هو أن يحفزالموسيقيين الشباب إلى تجاوز قدراتهمكي يصل بعضه إلى أداء عبقري مثلقائل من عازفي الجاز في تاريخ أميركا،‏ثم يعرض عليه فلتشر االنضمام إلىفرقة محترفة سيقودها في حفل كبير.‏يفاجأ أندرو ويفرح بعودة المياه إلىمجاريها.‏ يحاول أندرو استعادة حبيبتهنيكول،‏ فيجد أن لها حبيباً‏ جديداً.‏ في يومالحفل،‏ الذي يحضره والد أندرو المعتزبابنه على نقيض بقية أفراد األسرة،‏يدخل فلتشر المسرح ليهمس ألندرو فيتلك اللحظة الحرجة أنه اكتشف كونهوشى به ورفع تقريراً‏ أدى إلى طردهمن المعهد،‏ ويحرج أندرو أمام الجمهوروالفرقة بعزف مقطوعة جديدة كلياً‏ال يعرفها ولم يتدرب عليها.‏ بالفعل،‏يبدو الفشل جلياً‏ على أندرو،‏ ويغادرالمسرح شبه مهزوم ليتلقى عزاء أبيه.‏لكنه،‏ فجأة،‏ يقرر العودة إلى موقعهفي الفرقة كعازف طبول،‏ ويتمرد علىفلتشر فيقود بقية العازفين ألداء مقطوعةجاز مع ارتجاالت مذهلة وخارقة يقومبها.‏ يكظم فلتشر غيظه في البداية،‏ويحاول لجم طالبه المتمرد،‏ لكنهيستسلم لروعة إبداعه في العزف،‏ بليظهر الرضا على مامحه،‏ فقد أوصلهتحريضه واستفزازه إلى قمة اإلبداع التيكان ينشدها.‏تميز في الفيلم،‏ بشكل خاص،‏الممثل المخضرم ج.‏ ك.‏ سيمونز فيدور األستاذ المدرب القاسي فلتشر،‏فقدم أداء خارقاً‏ لشخصية تجمع مابين بث إحساس الرهبة والنفور وبينالتعاطف مع هدفها التعليمي واإلبداعيالنبيل،‏ مما يجعله مؤهاً‏ لخوض منافسةالتمثيل في المهرجانات الدولية.‏ كذلك،‏قَدّمَ‏ الممثل الشاب ميلز تيلر دوراً‏ صعباً‏للغاية،‏ يتطلب حساسية موسيقيةعالية،‏ إضافة إلى مهارة األداء الذييكبح جماح العاطفة لتنفجر في لحظاتمعينة وحسب.‏الافت للنظر في فيلم ‏»جلدة السوط«‏)2014( أنه بالرغم من كونه فيلماً‏ عنموسيقا الجاز وحياة العازفين،‏ فهوخالٍ‏ من أية موسيقا تصويرية.‏ إنالموسيقا الوحيدة التي نسمعها خلالالفيلم هي الموسيقا التي يعزفها أولئكالشبان تحت قيادة أستاذهم القاسي.‏بين تصوير شارون ماير المقنع بواقعيةما يجري وكأننا أمام كاميرا خفيةأو تليفزيون الواقع،‏ وبين موسيقاجوستين هورويتز األصيلة البارعة،‏ومونتاج توم كروس الفذ في إتقانه،‏يتألق سيناريو وإخراج داميان تشازيلقائداً‏ ألوركسترا الفنانين والتقنيين فيفيلم مرهف الحساسية وبالغ العمقفي رصد كواليس اإلبداع.‏ بأن ‏»جلدةالسوط«‏ ليست جلداً‏ يمارسه األستاذوقائد األوركسترا فلتشر على طابهالعازفين،‏ بل هو جلد للذات يمارسهحتى على نفسه،‏ ألنه يؤمن بأن عباراتكيل المديح أو تشجيع المستوى المقبولفحسب معناها عدم حفز الشباب علىبذل أقصى طاقتهم وتجاوز إمكانياتهمللوصول إلى قمة اإلبداع.‏ لقد وجدفلتشر في ختام الفيلم الرضا،‏ ألنهاستطاع بالوصول بتلميذه إلى اختراقمذهل لعزف الطبول تجاوز به المألوفوأدهش جمهور الحضور.‏هذا فيلم غير عادي،‏ فيلم من المرجحأن ينافس في عديد من مهرجانات العالمويحظى بالجوائز،‏ سواء أكان فيالتأليف أم اإلخراج أم التمثيل أم التقنياتأم الموسيقا.‏ كما أنه من المتوقع أن يكون‏»جلدة السوط«‏ أحد األفام المنافسة علىجوائز األوسكار الممنوحة من األكاديميةاألميركية للسينما.‏153


‏»رجالن يف المدينة«‏هل أضاع بوشارب بصمته اإلخراجية؟أحمد ثامر جهادما هي الضرورة الدرامية في السيناريو لجعل غارنيت مسلماً،‏ وما الذييمكن لهذه المسألة أن تضيفه ألبعاد الشخصية وخياراتها؟ أليس كافياً‏لتمرير حكاية الفيلم على النحو الذي طرحت فيه،‏ أن يكون غارنيت مجردرجل أسود،‏ خانته ظروفه ودفعته إلى عالم الجريمة؟ لكن في المقابل أنيكون غارنيت؛ زنجياً‏ مسلماً‏ وصاحب سجل إجرامي فتلك مجتمعة،‏ فيعالم ما بعد 11 سبتمبر،‏ ستجعله شخصاً‏ غير مرغوب به،‏ مهما تفانى فيالبرهنة على سويته ورغبته في االندماج مع مجتمعه.‏من موطنه فرنسا إلى الوالياتالمتحدة يُغيِّر المخرج الجزائرياألصل،‏ الفرنسي الجنسية،‏ رشيدبوشارب،‏ وجهته مع فيلمه الموسوم‏»رجان في المدينة«،‏ والذي شاركفي الدورة )64( من مهرجان ‏»برلين«‏السينمائي 2014، وعُ‏ رِضَ‏ مؤخراً‏ ضمنفعاليات مهرجان أبوظبي السينمائيالثامن.‏ الفيلم الذي كان بعنوان ‏»طريقالعدو«‏ هو إنتاج مشترك بين أميركاوفرنسا وبلجيكا والجزائر،‏ وتستندقصته إلى سيناريو مقتبس عنكتاب جوزي جيوفاني ‏»رجان فيالمدينة«،‏ شارك في كتابته إلىجانب المخرج،‏ كل من أولفيي لورالوالروائي الجزائري محمد مولسهولالمعروف باسمه المستعار ‏»ياسمينةخضر«.‏ وسبق للمخرج أن قَدّمَ‏ أعماالً‏سينمائية نالت استحسان الجمهوروتقدير األوساط السينمائية،‏ أهمها:‏‏»غبار الحياة«-)‏‎1996‎ (، رشح لجائزةأفضل فيلم في حفل األوسكار،‏‏»بلديون«-)‏‎2006‎ (، عن الجنودالمغاربة الذين قاتلوا في صفوف154


القوات الفرنسية عشيّة الحربالعالمية الثانية،‏ ثم فيلم ‏»نهر لندن«-‏)2009(، والحقاً‏ فيلمه المثير للجدل‏»الخارجون عن القانون«‏ )2010(،ورغم أن الجزائري بوشارب تعاملفي فيلمه هذا مع نجوم أميركيينبارزين،‏ إال أنه افتقد بشكل ملحوظبصمته اإلخراجية المعهودة في أفامهالسابقة،‏ ليس ألسباب تتعلّق باألداءالتمثيلي،‏ وإنما لعوامل أساسيةتتعلّق بفكرة السيناريو وبطريقةكتابة العمل على الشاشة،‏ حتىإن إيقاع الفيلم ‏-والحال كذلك-‏ جاءمتناغماً‏ إلى حَ‏ دٍ‏ ما مع إيقاع األفاماألميركية التقليدية،‏ سواء أكان فيطريقة السرد أم أسلوب المعالجةالفنية.‏ وليست تلك بكل األحوالسمة تقلّل من أهمية هذا الفيلم،‏لو أنه أحكم على نحو أفضل بناءمساراته الدرامية وعالج حكايتهبشكل أشد إقناعاً،‏ كي يبدو منطقياً‏ومقبوالً‏ ما صرح به المخرج في أكثرمن مناسبة،‏ من أن الفيلم يتصدّىلعاقة اإلسام بالغرب والنظرةالعدائية تجاه اآلخر،‏ السيما حالةاإلساموفوبيا التي تنامت بشكلكبير عقب أحداث 11 سبتمبر.‏ ولكنهذه الموجهات التي من شأنها لفتنظر الجمهور إلى حساسية موضوعةالفيلم،‏ بدت أكبر مما طرحه فعلياً،‏وإن كان بوشارب قد عُ‏ رِفَ‏ بأفاممؤثرة تصدّت لقضايا حيوية تهمالجمهورين العربي والغربي،‏ كالهجرةوالثقافات المختلطة والنظرة إلىاآلخر،‏ وكأن ما جرى الحديث عنهمع هذا الفيلم،‏ ربما بغرض الترويج،‏خيّب آمال الجمهور في التعامل معهموم واقعية تبدو أعقد مما يراهعلى الشاشة.‏إذا أجلنا الحديث عن قصة الفيلملمعاينة ما افترض أنه الجوهريفيه،‏ سيكون إسام بطل الفيلم)وليمغارنيت(‏ أمراً‏ ثانوياً‏ ومقحماً‏ علىالموضوع،‏ بل إنه لم يتجاوز تصويرغارنيت ‏)فوريست وايتكر(‏ وهو يشرعبالوضوء لتأدية فريضة الصاة،‏والهمس بعبارات دينية تعبديّة،‏ولبعض الوقت يجوب الطرقاتالخارجية بدراجته النارية،‏ عازماً‏الوصول إلى محطة آمنة.‏ وعليهاكتفى السيناريو برسم حدود شكليةغير فاعلة لشخصية األميركي األسودالذي اعتنق اإلسام عقب خروجه منالسجن،‏ والذي سترتبط كل أحداثالفيل م ب ه.‏استعار المخرج مشهد النهايةليكون أول مشاهد الفيلم،‏ فوضعاستهاالً‏ درامياً‏ رسم بإيقاع جذاب،‏بدا متناغماً‏ مع الموسيقى التصويريةالموحية ل)اريك نيفكس(،‏ والتيتتصاعد تدريجياً‏ وتشي بغموضمحبب وترقّب محسوب.‏ وفي هذاالمشهد نطالع وليم غارنيت وهويسحب جثة رجل ال تبدو مامحهواضحة.‏ لحظات ويغادر غارنيتالكادر لتبقى الكاميرا مصوّ‏ بة علىالجثة،‏ لكنه يعود ثانية وبيده حجر،‏يدور حول ضحيته،‏ يقترب منها،‏ ثمينهال عليها بقوة في أرض خاليةومعزولة استسلمت لسياط الشمس.‏لقطة بعيدة مطلة على عمق الشاشةستضع الرجلين في لغز الخطيئة،‏التي يتعزّز حضورها بفعل عزلةالمكان وغضب القاتل الذي يعلوصوته مع كل ضربة تهشم عظماً‏آخر في جسد الضحية.‏ وكأن القاتلقد استسلم إلحساس النهاية،‏ أسوةبسلفه ‏»ماكبث«‏ بطل التراجيدياالشكسبيرية،‏ حيث يبدو في أحايينكثيرة،‏ أن المضي في الجريمة أسهلمن التراجع عنها،‏ خاصة لمن لميعد يعبأ بعواقبها.‏مسار التوبةفي والية نيومكسيكو يطلق سراحاألميركي األسود وليم غارنيت بعدأن أمضى 18 عاماً‏ في السجن لقتلهرجل شرطة.‏ غارنيت الذي اعتنقاإلسام في السجن يريد أن يبنيحياة سوية،‏ تهبه بيتاً‏ وزوجةوأبناء.‏ وعلى ما يبدو ‏-مثلما درجتالعادة في األفام األميركية-‏ فإن بلدةنائية على الحدود المكسيكية يتحكمبها بضعة أفراد نافذين تربطهم شبكةعاقات وتحركهم مصالح خاصة،‏لن تكون مكاناً‏ مائماً‏ للعيشبسام.‏ هاهو غارنيت ومن اليوماألول لخروجه من السجن يصبحعرضة لضغوط متواصلة من قبلمأمور البلدة بيل)هارفي كيتل(،‏ الذيقتل غارنيت نائبه،‏ والذي يعتقد أنانقضاء 18 عاماً‏ على الجريمة غيركافية لجعل غارنيت إنساناً‏ صالحاً،‏فاألخير بنظره ما زال يشكل خطراً‏على المجتمع.‏ فيما تخالفه االعتقادالشرطية الصارمة اميلي سميث)‏ بليندابليثين(‏ المسؤولة عن متابعة إطاقسراح غارنيت المشروط،‏ إذ تعتبر أنالثقة هي كل ما يحتاجه مدان سابق.‏فتطلب من المأمور الكف عن مضايقةغارنيت كونها المسؤولة عنه اآلن،‏ وكلما ينبغي فعله هو إبداء حسن النيةتجاه،‏ معاملته بلطف ومنحه فرصةبناء حياة جديدة.‏هكذا يصبح بيل)وقد أدى هارفيكيتل الدور بتمكن وإقناع(‏ مصدرإزعاج غارنيت،‏ فيما الشرطيةاميلي هي خيط نجاته على قدرتفهمها لوضعه الذي يزداد تعقيداً،‏السيما مع ضغط آخر يواجه منقبل زميل سابق يغويه للعودةإلى حياة الجريمة ثانية.‏ وإلى حدم ا تب دو فك رة غواي ة مج رم س ابق،‏مُ‏ ستهلَكة في السينما ومُ‏ توقّعَ‏ ةالنتائج للمشاهد،‏ وهو ما يحصلبالفع ل حي ث يتم ادى رج ل العصاب ةفي إلحاحه على غارنيت الذي يواجه155


بالرفض دائماً،‏ فيحاول،‏ كنوع مناالبتزاز،‏ االعتداء على عشيقة غارنيتفي منزلهما،‏ مما يضطر األخير لقتله،‏ومن ثم تحطيم كل جهوده في أنيك ون إنس اناً‏ مس الماً‏ حس ن الس لوكبنظر المجتمع.‏ هذا القتل الذي كانتتويجاً‏ لعدالة الحل الفردي،‏ هومشهد النهاية الذي استهل به المخرجبداية الفيلم،‏ بطريقة تشويقية توهمالمشاهد أن الجريمة التي يراها علىالشاشة في الدقائق األولى هي ذاتهاالتي أدين غارنيت بسببها،‏ والتي النراها في الفيلم،‏ لكنها في واقع الحالوضمن سياق الفيلم الجريمة الثانيةالت ي س تضع نهاي ة مأس اوية لتوب ةغارنيت الذي يُغيبه المشهد،‏ وحيداً‏ف ي البري ة.‏ والاف ت ف ي ه ذا المش هدالختامي المؤثر أن غارنيت حاولأن يؤدي صاته األخيرة واستعدللوضوء في نهر صغير،‏ لكنه لميفعل،‏ ربما طالع صورة القاتلمرسومة على وجه الماء،‏ اذ لم يعدثمة عزاء شاف لعذابات الروح.‏تقاطع مساراتإلى حد ملحوظ،‏ تفتقد مساراتحكاية الفيلم إلى اإلقناع المطلوب،‏ويشوبها التصنّع،‏ خاصة إذا ماالحظنا أن ثمة تناقضاً‏ في رسمشخصية المأمور بيل،‏ على نحويربك المشاهد في عملية استيعابه،‏فهو من جهة يتصرّف بعدائية مبالغفيها وغير مبررة أحياناً‏ من أجلمعاقبة غارنيت تحت أية ذريعة كانت،‏والتشكيك بحسن نواياه،‏ فيما يغضالطرف عن شبكة المتعاملين بتجارةالمخدرات في المدينة،‏ ومن بينهم منيسعى إلى استدراج غارنيت للقيامبأعمال خارجة عن القانون.‏ وربمااألمر األهم الذي يُعزّز هذا التناقض،‏هو أن بيل ظهر في المشاهد األولىللفيلم متعاطفاً‏ مع ثُلّة مهاجرينغير شرعيين،‏ ألقت شرطة الحدودالقبض عليهم،‏ وقيدتهم بشكل مهين.‏فنراه يحذر عناصر البوليس منمغبة ما فعلوه،‏ ويخطب بهم مُ‏ دافعاً‏عن ضرورة تطبيق القانون بشكلصحيح.‏ كما نراه في مشهد آخريختلي بنفسه ويذرف الدموع لمجردرؤيته جثة مهاجر آخر تعرّض إلطاقنار.‏ ورغم ذلك يبقى شغله الشاغلاستفزاز غارنيت بكل وسيلة ممكنة،‏ومحاولة دفعه الرتكاب أية حماقةتدخله السجن ثانية،‏ أو على األقلإرغامه على مغادرة المدينة من دونأسباب واضحة.‏لنا أن نتساءل هنا:‏ هل يحصل ذلكألن غارنيت خرج من السجن مُ‏ عتنقاً‏اإلسام؟ مع أن دوافع إسامه مجهولةللمشاهد،‏ ولم يتوقف الفيلم عندها.‏ليس ثمة شيء في الفيلم يدعونا لفهمأزمة غارنيت على هذا النحو المبالغفيه.‏ فإسامه لم يتخطَ‏ تأدية الصاةفي البيت أو أمام زمائه في العمل،‏وال حاجة ألن نفتش عن مكامن الخطرفي عقيدته،‏ فلن يضعه ذلك السلوكالمتوازن مع معتقلي غوانتانامو.‏ لميشكك غارنيت بأفكار من يخالفونعقيدته،‏ كما لم يتجادل في أيشأن سياسي.‏ وعليه فإن إسامهليس أكثر من اختيار طريقة جديدةللحياة،‏ مثلما قال في رده علىسخرية ‏»بيل«‏ منه التي تغمز إلىسؤال تهكمي مفاده،‏ هل أن المسيحلم يعد مناسباً‏ لك؟ وما هي محطتكالتالية؟مرة أخرى،‏ ال شيء في أحداثالفيلم يؤشر إلى أن التضييق علىغارنيت كان بدافع ديانته ‏)إسامه(،‏وليس هناك ما يدعم هذا االفتراضوإن كان المخرج راغباً‏ به،‏ وإنمامنطق األحداث يرجح حقيقة أنغارنيت محاصر من جراء ماضيهاإلجرامي الذي سيجعله بنظر البوليسشخصاً‏ غير قابل لإلصاح،‏ ففيسجله خمس جرائم،‏ بينها االتجاربالمخدرات.‏ وكأن غارنيت هو الوحيدالذي أدين بجريمة قتل ودفع قرابةالعقدين من حياته ثمناً‏ لها.‏نهاية إسالم غارنيتبذل غارنيت جهداً‏ كبير لتجاوزماضيه،‏ حصل على عمل في حظيرةلألبقار،‏ وتعرّف مصادفة على امرأةمكسيكية تعمل في مصرف،‏ لكنهبقي رغم أدائه المتميز شخصية غيرمقنعة على الشاشة.‏ ربما بسبب أنالمخرج رسمها على هذا النحو،‏ ولميتوقّف عند بعض المفاصل المهمة،‏مثل نظرة المجتمع إلسام غارنيت،‏كيف سيرى أو يتقبل اآلخرون تحوّ‏ لرجل مسيحي إلى مسلم في الزمناألميركي الراهن؟ إرباك ملحوظ جعلالتفاصيل الصغيرة غير متقنة أيضاً،‏خاصة مشاهد الوضوء والصاة التيأخذت حيزاً‏ في الفيلم،‏ للتدليل علىالتزام غارنيت،‏ الذي يبقى هو اآلخرمتناقضاً‏ مع ارتياده حانات الرقصوالعيش مع امرأة في منزلها من دونزواج رسمي،‏ وإن كان الرجل مواظباً‏في أحايين،‏ على قراءة تعاليمالشريعة اإلسامية من كُ‏ تيّب صغيرال يفارقه حتى عند تناوله وجباتالطعام.‏بكل األحوال لن يعرف المشاهد،‏على وجه التحديد،‏ األسباب التيدعت غارنيت العتناق اإلسام فيالسجن،‏ وعدم التفات الفيلم إلى هذهالنقطة الجوهرية في السيناريو معأنها تؤسس لفهم طبيعة الشخصيةوتبين دوافعها وأهدافها،‏ ومسوغاتتفاعل اآلخرين معها،‏ سيزيد قصةالفيلم ارتباكاً‏ ويفتح الموضوع علىفرضيات مختلفة.‏ هل كان غارنيتينوي االنتقام من ديانة الرجلالمسيحي األبيض والتشكيك بجدواهاعبر اعتناق ديانة الخصم؟ أم أنه خياررجل يريد طي صفحة مريرة منحياته واختيار طريقة أخرى للعيش،‏وإن بدا طريقها مشفوعاً‏ بالمصاعبوس وء الفه م.‏غارنيت الذي اعتاد طوال الفيلمعلى أن يجوب الطرقات بدراجتهالنارية من دون أن يصل إلى غايته،‏ربما رحل صوب الموت أو صوبحياة أخرى،‏ لكن األكيد أنه فقدَ‏حماسته لألشياء،‏ ولم يعد إيمانهخصلة اطمئنان،‏ وال إشارة يقين.‏156


ضغط الكتابةأمير تاج السرفتاة راحلةمن األفام السينمائية المميزة التي شاهدتها مؤخراً،‏فيلم:‏ ‏»فتاة راحلة«،‏ المأخوذ عن قصة الكاتب األميركيالمعروف:‏ جليان فلين،‏ وهي قصة رائجة على الئحةاألكثر مبيعاً‏ منذ فترة،‏ وأخرجه للسينما المبدع دائما:‏ديفي د فينش ر.‏حقيقة لم أقرأ الرواية كاملة،‏ بعد،‏ لكن الفيلميبدو أميناً‏ في تناول ما يمكن بالفعل أن يبدو روايةناجحة،‏ مع التغييرات المطلوبة للعمل السينمائي،‏ كماهو معروف،‏ فالرواية درب من دروب اإلبداع،‏ وتحويلهاإلى عمل درامي،‏ إبداع آخر،‏ لن ينقص من قدر العملالمكتوب،‏ فقط يغير بعض مامحه من أجل سكةإبداعية جديدة.‏فالفتاة الزوجة التي تختفي فجأة،‏ من بيت زوجهاوكانت كاتبة ناجحة،‏ اخترعت بطلة شعبية،‏ فيكتابتها،‏ وتعلّم الكتابة أيضاً،‏ مع زوجها،‏ للناشئين،‏تثير مئات عامات االستفهام في المدينة الصغيرة التيانتقل إليها الزوجان من نيويورك،‏ بعد أن مرضت أمالزوج وماتت بعد ذلك.‏ عامات االستفهام كانت فيالحقيقة شكوك بشأن الزوج،‏ واحتمال قيامه بقتلهامن أجل مصالح كثيرة ستتبيّن فيما بعد،‏ منها التأمينعلى حياة الزوجة لصالحه،‏ منها وجود طالبة صغيرةوجميلة من طالباته،‏ على عاقة به،‏ لكن ما يحدثبعد ذلك،‏ يبدو مختلفاً‏ تماماً‏ عما فكّر به المشاهد،‏وظلّ‏ يترقّبه طوال عرض الفيلم.‏ما يهمني هنا هو الحديث عن رواية حُ‏ وِ‏ لَتْ‏ إلى شريطسينمائي،‏ وكما قلت قطعاً‏ تغيرت بعض مامحها،‏لصالح المشاهدة،‏ لكن ما حيّرني هو إحساسي طوالعرض الفيلم،‏ بأنني أقرأ في رواية فلين ورقياً.‏ نعمفق د نج ح المخ رج بج دارة ف ي نق ل الن ص المكت وب،‏ ف يرأيي ولم يظلمه كثيراً،‏ وبذلك أرضى قارئ الكتابالذي ربما جاء ليشاهد نقائص يتوقعها في كتاب قرأه،‏حين تحوّ‏ ل إلى فيلم،‏ وفي نفس الوقت أرضى المشاهدالبعيد عن القراءة،‏ حين قَدّمَ‏ له قصة جيدة،‏ ومختلفة،‏وتله ب الخي ال.‏ وأعتق د ش خصياً‏ أن ثم ة تعاون اً‏ جي داً‏ ق دحدث بين كاتب القصة،‏ والذي حوّ‏ لها إلى سيناريوومخرجها من أجل هذا النجاح.‏في بادنا العربية،‏ هناك قصص تحوّ‏ ل إلى سينماكثي راً،‏ قص ص تح ول إل ى مسلس ات درامي ة،‏ ودائم اً‏ م اتجد الكاتب األصلي للقصة،‏ يصرخ حين يشاهد عرضالفيلم أو المسلسل المأخوذ من قصته:‏ إنها قصة أخرىوليس ت قصت ي.‏الذي يحدث هنا أن السيناريست يعمل منفرداً،‏ ملغياً‏جهد الكاتب األصلي للنص،‏ ومن ثم ال يغير من النص،‏من أجل السينما أو التليفزيون فقط،‏ وإنما يتجنى علىالنص كاماً‏ بانتهاكه،‏ وتحويله إلى جنين غير واضحالمعالم،‏ ومن ثم ال نشاهد القصة وكأنها في كتاب كماحدث لي مع قصة فلين،‏ حين أخرجها فينشر.‏اإلبداع الكتابي،‏ هو األساس في رأيي،‏ ما دام هناكمن يريد تحويله إلى سينما أو دراما تليفزيونية،‏ وكاتبالقصة له حقوق ال يجب تجاوزها،‏ منها أن يستشاربجدية في كثير من أمور النص،‏ أو يطالب هو شخصياً‏بتعديل بعض المشاهد من أجل إنجاح العمل،‏ وحتى اليأتي كاتب فيما بعد ليصرخ:‏ ليست قصتي.‏157


علوممزحة ناساعيل فاضلقصة من وحي الخيال على موقعإلكتروني رسمي شغلت،‏ في وقتقياسي،‏ العام والخاص في العالم،‏وانتشرت على نطاق واسع،‏ وامتألتبها حساباتهم في تويتر والفيسبوك.‏ فمعاقتراب فصل الشتاء وما يحمله من بردوثلوج ونقص طبيعي لضوء الشمس فيالنهار،‏ تطالع مواقع التواصل االجتماعيالمتتبع بخبر منقول – يقال إنه علىوكالة ناسا األميركية-‏ مفاده أن األرضتتجه قريباً‏ نحو ‏»ستة أيام من الظلامالدامس«.‏وقد قام الموقع اإلخباري الساخر»Huzlers.com« بنشر هذه القصةالوهمية لتصل القاصي والداني علىشبكة اإلنترنت،‏ وتنتشر على نطاقواسع في أسبوع واحد،‏ وتشغل بذلكالعديد من مستخدمي الفيسبوك وتويتر،‏وتشجعهم على المشاركة والتعليقبخصوص ما هم فاعلون خلال فترةالظام التي كانت ستشهدها نهاية الشهرالحالي.‏وجاء في تفاصيل القصة على الموقعالرسمي ‏)الغامض(‏ تحت عنوان ‏»ناساتؤكد أن األرض ستشهد قريباً‏ ستة أياممن الظلام الدامس في شهر ديسمبر/‏كانون األول 2014!« وبأن ذلك راجعإلى عاصفة شمسية قادمة،‏ وستكونالمسؤول األول عن حجب ضوء الشمس،‏بعد أن تتسبب في إثارة كتلة هائلة منالغبار والحطام في الفضاء لتبلغ كميةغير مسبوقة،‏ ومن ثم ستحجب ٪ 90 منأشعة الشمس عن األرض«.‏إال أن هذا األمر ال يمكن أن يكون صحيحاً‏وفق نفس المصدر.‏ فعلى الرغم من أنالعواصف الشمسية هي بالتأكيد تُعدّ‏ منالظواهر الحقيقية ‏)التي تحدث نتيجةلتقلبات في الحقل المغناطيسي للشمس(،‏إال أنها ال تشبه العواصف األرضية التي158


يمكن أن تنسف الغبار واألتربة واألوساخفي الجو.‏ وفي الواقع تتسبب العواصفالشمسية في اضطرابات طفيفة جداً‏ فيالغاف المغناطيسي لألرض.‏ تاريخياً‏ لمتسجل الناسا سوى عدد محدود جداً‏ منالعواصف النادرة التي يمكن أن تضربأو تؤثر في األنظمة الكهربائية التييستخدمها العالم اليوم،‏ بل كانت فيالغالب عواصف من الحجم الذي يمكنأن يحدث اضطراباً‏ عند الحمام الزاجلليحيد قليلاً‏ عن مساره – ولكن ال يمكنأن تمحو ضوء الشمس بحال من األحوال.‏وفي الواقع،‏ فإن ما جعل هذه القصةالوهمية محل اهتمام بالغ هو أنها قدتسربت من بعض المصادر والشخصياتالتي تحظى بالمصداقية،‏ ومن أبرزهمرئيس وكالة ناسا تشارلز بولدن،‏ الذيحث المتقبل على التزام الهدوء.‏ بل إنبعض المستخدمين قد ذهب إلى تضمينفيديو ‏)حقيقي(‏ لتارلز بولدن مُ‏ تحدثاً‏ عن‏»االستعداد لحاالت الطوارئ«‏ - وهيعبارة رسمية التداول،‏ وتتجاوز علىما يبدو حدود المنطق والتفكير السليملتامس زر ‏»الهلع«‏ الكبير في الدماغ.‏في الواقع قام بولدن بتسجيل الفيديوبهدف تشجيع األسر في الواليات المتحدةعلى التفكير في ما يمكن أن يقوموا بهفي حالة وقوع زلزال أو إعصار – وهيالكوارث الطبيعية التي تشكل في الغالبتهديداً‏ حقيقياً‏ للواليات المتحدة األميركية.‏ويبدو أن خدعة الظلام الكلي هذهقد وردت ضمن نكهات مُ‏ تعدّدة ‏)يدعيالبعض أن عدم وجود ‏»حزام الفوتون«‏هو المسؤول عن حالة الظلام(،‏ والتيانتشرت على نطاق واسع مما دفعالموظفين في ناسا إلى العمل بأنفسهمعلى دحض الشائعات في عام 2012 بعدقصة وهمية مماثلة.‏159


صفحات مطويةهل تحقّ‏ قت أحالم املصلحني ؟منى عالمشهدت مصر خال القرن التاسع عشر ظهور عدد من الزعماءالسياسيين والمصلحين الدينيين واالجتماعيين الذين عملواعلى تحقيق اإلصلاح والنهوض ، ورغم الجهود الكبيرة التيبذلها هؤالء إال أن اإلصلاح ظلّ‏ مطلباً‏ غير متحقِّق بالصورةالتي دعوا إليها،‏ بل إنه يمكن القول إن األوضاع-‏ بوجهعام-‏ اتّجهت نحو األسوَ‏ أ؛ ربّما هذا ما دفع مجلة الهال،‏ فيعددها الصادر في نوفمبر/تشرين الثاني 1933، إلى طرحسؤال:‏ ‏»هل صَ‏ حَّ‏ ت أحام المصلحين؟«‏ وذلك من خال استفتاءطائفة من المفكِّرين وأصحاب الرأي حول ‏»كبار المصلحينوالزعماء الذين ظهروا في مصر،‏ وكان لهم أثر بارز في حياتهاالجديدة من النواحي السياسية،‏ أو االجتماعية،‏ أو الدينية«.‏وتمثَّلت أسئلة االستفتاء التي توجَّ‏ هت بها إليهم في:‏ بماذاكان يحلم المصلحون والزعماء في مصر؟ وماذا تحقَّق منأحامهم؟ وماذا يُنتَظَ‏ ر تحقيقه منها في المستقبل؟ وقد نُشِ‏ رَ‏ تاإلجابات على شكل مقاالت تناول كلٌ‏ منها واحداً‏ ‏)أو اثنين(‏من المصلحين والزعماء.‏ فقد كتب عبد الرحمن الرافعي عنمحمد علي والخديوي إسماعيل،‏ ود.يحيى أحمد الدرديريعن جمال الدين األفغاني،‏ وكتب محمد رشيد رضا عن الشيخمحمد عبده،‏ وحافظ رمضان عن مصطفى كامل،‏ وإبراهيمالهلباوي عن قاسم أمين،‏ وأحمد فريد رفاعي عن سعد زغلول.‏وسوف نركِّز-‏ هنا-‏ على المقالين الثاني والثالث عن جمالالدين األفغاني ومحمد عبده.‏كان مطمح األفغاني األسمى ‏-كما يشير الدرديري-‏ الجامعةاإلسلامية،‏ ولكنّه تحدَّث عن إخفاق فكرته تلك في حياته،‏ويأسه من تحقيقها بعد وفاته،‏ فقال في سنة 1892 قبلوفاته بخمس سنوات:‏ ‏»إن المسلمين قد سقطت هممهم،‏ونامت عزائمهم،‏ وماتت خواطرهم،‏ وقام شيء واحد فيهمهو شهواتهم«.‏إال أن جمال الدين،‏ إذا كان قد أخفق في تحقيق مَ‏ ثَله العالي،‏فقد حَ‏ قَّق ألمم الشرق مُ‏ ثُلاً‏ عليا عديدة.‏ وما أخفق في واقعاألمر إال ألنّ‏ ما ابتغاه كان صعب المنال عسير المرتقى،‏ فيوقت طمع فيه الغرب في الشرق،‏ وألّبَ‏ عليه اإلحن واألحقاد،‏ودسَّ‏ ساستُه السمّ‏ في نواحي العالم العربي اإلسامي.‏ وهو،‏بالذات،‏ كان مطارداً‏ من قِبَل االستعمار أينما حَ‏ لَّ‏ وسار.‏ على أنهذا المصلح الكبير قد نجح في حياته،‏ كما نجح بعد وفاته،‏وكان نجاحه متعدِّداً‏ كثير النواحي شهيّ‏ الثمرات؛ ففي ناحيةالفكر الحُ‏ رّ‏ نجده بذر بذوراً‏ صالحة أينعت بسرعة خارقة للعادة،‏فما إن بشَّ‏ رَ‏ بتعاليمه في مصر حتى أقبل يرتشف من منهلهطلّ‏ ب األزهر،‏ على رأسهم محمد عبده،‏ وسعد زغلول،‏ وإبراهيمالهلباوي،‏ ومن مفكِّري اإلسكندرية عبد اهلل النديم وأديب إسحقوسليم نقاش،‏ وغيرهم ممّن استفادوا من علمه وفكره.‏من جهته،‏ يبدأ محمد رشيد رضا مقاله عن الشيخ محمدعبده باإلشارة إلى أنه نشر في الجزء األول من ‏»تاريخ األستاذاإلمام«‏ ما كتبه األخير بيده في بيان ما دعا إليه من اإلصاح،‏وهو ينحصر في ثلاث دعوات جامعة لعدّة مقاصد ما عداالوسائل،‏ وهي:‏ اإلصلاح العقلي الذي يجمع بين هداية الدينومنافع العلم،‏ وذلك بتحرير الفكر من قيد التقليد وفهم الدينعلى طريقة سلف األمة قبل ظهور الخلاف،‏ والرجوع فيكسب معارفه إلى ينابيعه األولى.‏ وقد بَيَّنَ‏ ذلك بالقلم في‏»رسالة التوحيد«وهي مجملة موجزة،‏ وأما تفصيله له باإلطنابالتام فقد كان فيما قرَّره في دروس تفسير القرآن الكريم فياألزهر الشريف.‏ وقد جاهد إلصلاح التعليم في األزهر،‏ وهذا160


وثانيهما قراءته فيه ألعلىكتب الباغة وأنفعها:‏ أسرارالباغة،‏ ودالئل اإلعجازلواضع فنها األول اإلمام عبدالقاهر الجرجاني.‏ وتاميذهفي هذه المرحلة كثيروناإلصلاح لم يتحقَّق كما كانيريد،‏ ولكن ال يقال إنسعيه إليه قد خاب،‏ بلوجد من وسائله التيرسمها له:‏ النظام،‏والتخصُّ‏ ص،‏ والعلوممنهم الشيخ مصطفىوتحضيرالعصرية،‏ عبد الرازق والشيخ عبدالعزيز البشري،‏ والشيخعبد الرحمن البرقوقي،‏ومصطفى لطفي المنفلوطي.‏وكان األستاذ اإلمام يرأس فيكل سنة لجنة امتحان طلاّ‏ ب دارمحمد عبدهالدروس في األقسامالعالية بدالً‏ من المناقشاتاللفظية في عبارات المتونوالشروح والحواشي.‏أما الدعوة الثانية فقد كانت إلصلاحاللغة العربية؛ إذ كان يرى أن ارتقاء األمّ‏ ة متوقِّفالعلوم،‏ ويرشد الطلبة في أثناء االمتحان إلى ما ينفعهم فياكتساب ملكة البيان.‏أما الدعوة الثالثة فكانت ‏-كما كتب رشيد رضا-‏ دعوةإلى اإلصاح السياسي المصري فاإلسامي،‏ حيث كان ناصراً‏ومؤيِّداً‏ لداعيته األول وواضع أسسه،‏ وهو أستاذه موقظالشرق وحكيم اإلسلام جمال الدين األفغاني.‏ وقد أسَّ‏ س معه،‏في مصر،‏ الحزب الوطني األوّ‏ ل في عهد إسماعيل،‏ ثم كانله معه سعي آخر لإلصاح السياسي اإلسلامي الراقي العاموتأسيسهما جمعية العروة الوثقى السياسية التي أصدراباسمها جريدة ‏»العروة الوثقى«‏ في باريس.‏ ثم تصريحه بأنهترك العمل السياسي ألنه ثمرة لتربية األمة تربية خاصة،‏فالواجب األوّ‏ ل العناية بهذه التربية.‏ وكان كل رجائه،‏ فياإلصاح الديني.‏على ارتقاء لغتها.‏ وكان له في إصلاح اللغة العربيةمراحل:‏ أوالها طريقته في التعليم والتدريس في مدرسة‏»دار العلوم«،‏ إذ كان من أساتذتها األوّ‏ لين منذ إنشائها.‏ ومنأنفع محاضراته فيها ما كان يلخِّ‏ ص به مقدِّمة ابن خلدونوينتقدها،‏ وثانيتها عمله في إدارة المطبوعات ورياسة تحريرجريدة الحكومة الرسمية ‏»الوقائع المصرية«‏ حيث أنشأ فيالجريدة قسماً‏ أدبياً‏ كان ينتقد فيه كل ما يراه منتقداً‏ من أعمالالحكومة ولغة دواوينها ومصالحها.‏ وكان من تأثير انتقادهللغة الدواوين أنه ألجأ جميع الكتاب فيها إلى دراسة اللغةفي مدرسة ليلية أنشئت لذلك.‏ وكان من أشهر تاميذه فيهذه المرحلة سعد زغلول،‏ وثالثتها األزهر،‏ وكان عمله فيإصلاح اللغة فيه على نوعين:‏ أحدهما إلقاء دروسه كلهاباللغة الفصحى الممتازة برشاقة التعبير وباغة التأثير،‏161


جنى فواز الحسنأكتب كي ال أشعر بالوحدةالحظت مُ‏ ؤخراً،‏ وقد صدرت منذ وقتٍ‏ قريبٍ‏ روايتي ‏»طابق99«، أنّي لست على ما يُرام.‏ ال أعاني من الفراغ،‏ أيّ‏ حياتيمزدحمة بما يكفي من الناحية المهنية،‏ وأحياناً‏ ال أجد الوقتالكافي لحياتي االجتماعية-‏ أغلب األحيان صراحةً‏ . خجلت منأن أقول إنّي لست بخير،‏ وإنّي على الرغم من العمل والعائلةواألصدقاء،‏ أشعر بأنّ‏ شيئاً‏ ما ينقصني.‏ خجلت من نفسيأيضاً‏ وأشفقت عليها.‏ليسوا هنا،‏ ال هُ‏ م وال من سبقهم من أبطال روايتي،‏ وأحياناً‏أشعر كالقارئ بأنّي أوّ‏ د أن أعرف ما حَ‏ لّ‏ بهم بعدما هجرتحكاياهم وانتهت الروايات.‏ لقد أصبحوا أحياء بشكل أو بآخر،‏وهم اآلن كمن هاجر إلى بلاد بعيدة،‏ ولم نعدْ‏ نعرف عنأحواله شيئاً.‏ قد يبدو ما أقول مبالغةً‏ ، لكن الرواية عنديترتكز على أشخاص،‏ تنمو بيني وبينهم أُلفة ونستأنسببعضنا البعض.‏ ومن دون رواية،‏ أنا با أنيس.‏ال أعرف كيف يمكن للخيال أن يصبح واقعاً،‏ أو إن كانهذا العالم الذي يبنيه الروائي هو مجرد وهم.‏ وتكاد لوهلةفكرة أن ما بين دفتيّ‏ الكتاب أقلّ‏ من حياة كاملة تثير فينفسي الخوف واألسى.‏ كلّ‏ هذا الصدق في أن تعرّي شخوصالحكايا وتعجنهم بماء التجربة وتجعلهم يقولون ما لن تجرؤعلى قوله في حكايتك العادية.‏ ال يمكن أن يكون هذا وهماً.‏نفعل كل هذا ككتاب،‏ ولماذا؟ ال أعرف إن كانت إجابةلاعتراض على الحياة تكفي،‏ وال أدري إن كانت هناك إجابةمنطقية لسؤال الكتابة،‏ كأن نرى مثاً‏ فيها تعويضاً‏ عن آالمناومخاوفنا.‏ هي تزيد هذا اإلرباك فعلياً،‏ وتتركنا مع المزيدمن الحيرة.‏لذا سأصفها كالتجربة،‏ الغواية،‏ الرحلة التي تأخذنا إلىأماكن ال نجرؤ أن نطأها،‏ المرآة التي ال نقوى على النظرإليها.‏ ربما ال تستطيع الكتابة،‏ كما ظننت حين بدأت بها،‏أن تعيد إليّ‏ ما سلبتني إياه الحياة،‏ وال هي تعويض فعليعن الخسارات.‏ ولكن يا إلهي كم أنّها نعمة.‏إنّها تلك النقطة التي ال رجوع عنها.‏ ال تستطيع الكتابة،‏ربما،‏ فعل الكثير إزاء معضلة الوجود،‏ وال هي تدفع فواتيرناآخر كل شهر أو تشفي مرضانا،‏ أو تعيد إلينا األحبة.‏ ال قوةسحرية فيها مثاً‏ تمكننا من التخلّص من األنطمة االستبدادية،‏وال هي خلاص البروليتاريا من عذاباتهم اليومية.‏ إنّها فعلياً‏مثلنا عاجزة عن تغيير الحياة.‏وعند النظر إلى كل تلك الكتب بما حفظت من تجاربإنسانية واجتماعية وسياسية،‏ وعند قراءتها،‏ ال يمكن إال أنينبهر المرء بقدرة اللغة الباذخة على التأثير،‏ وبقدرة عبارةواحدة أحياناً‏ أن تفتح آفاقنا إلى مجاالت عدّة.‏إنّها قوة ‏»األشياء العادية«،‏ مكرها وسحرها،‏ وبساطتها.‏ونعم أنا وحيدة حين ال أكتب.‏ وحيدة وال تعوضني كلماتالحب أو عطف األصدقاء وال المشاكل اليومية وال حتّى صوتابنتي أو هاتف من أخي من البلد الذي هو فيه.‏ أنا وحيدةهذه الوحدة التي تتركني مُ‏ جوّ‏ فة،‏ بحاجة أن أجدهم ألستأنسبهم.‏ أنا أتوه من دون خطوط الحكاية وهمومها وانشغاالتهاوتساؤالتها،‏ وأجدني خائفة من أال أجد ما أكتبه،‏ مسكونةبهاجس الشوق إلى الفكرة الجديدة.‏ليست مسألة توقيت،‏ كأن نقول إن هناك استراحة تمتدعلى فترة معينة بين رواية وأخرى،‏ بل هي أشبه بيومتستيقظ فيه صباحاً،‏ كما تستيقظ الصغيرة وتنظر إلى المرآةوتقول لقد كبرت.‏ هكذا حين ستأتي الفكرة،‏ سأكون جاهزةلها بشكل طبيعي.‏وحتى ذلك الحين،‏ أستمر في القلق الذي تفرضه عليكالكتابة،‏ ككل األمور التي لها قيمة في الحياة.‏ وأسكت فيهذه الفترة وأنا أنفصل عن شخوصي السابقين،‏ أعود ألسألنفسي هل أخبرت الحكاية بما يليق بهم أم أنه كان هناك مايمكن قوله بعد.‏ أحاول أن أخرج منهم وأن أخرجهم مني.‏وبينما أنا أتخبط بين كل هذا،‏ أمسك كتاباً‏ ما وأقرأه.‏أعرف عندها أن الكتابة ليست مضيعة للوقت.‏ حين أرى بينأسطر اآلخرين كل ما يستحق أن نحترمه،‏ أي عندما أقرأرواية جديدة،‏ أعرف أن شعوري بالوحدة مشروع ومُ‏ باح.‏هي ليست إكسسواراً‏ أو تسريحة شعر،‏ هي فروة الرأس،‏وليست أيضاً‏ فستاناً‏ نلبسه،‏ هي الجسد.‏أكتب لكي أشعر أني لست وحيدة،‏ وكل ما يحدث أن وحدتيتزداد،‏ وكذلك عطشي.‏ إنها البئر التي ال تجف.‏ تعرف أن فيهالحظات فرح ولكن عناءها يفوق ذلك،‏ وتبقى في النهاية،‏الفتنة.‏ هل يجب فعلاً‏ أن نفسر الفتنة،‏ أم نتركها كما هيلتزداد فتنةً‏ ؟162


163


164

Hooray! Your file is uploaded and ready to be published.

Saved successfully!

Ooh no, something went wrong!