قطر الندى

قطر الندى
وقُتِلَ‏ املتوكل على سريره بأيدي مواليه من الترك والعجم،‏ وتولى بعده ولده املنتصر،‏
فلم يستتم على سريره بضعة أشهر ثم هلك،‏ وبويع بالخلافة من بعده ابن عمه املستعني …
وبلغ املوالي مبلغهم من الطغيان والعَسْ‏ ف،‏ واجتمعت لهم أسباب السلطة،‏ حتى لا
يكاد الخليفة يملك معهم مخرجًا ولا مدخلاً‏ ، ولزم قصره في بغداد يتربص بنفسه كَيْدَ‏
املوالي،‏ ويتربصون به!‏
وضاقت نفس أحمد مما يشهد من غدر الترك وسوء أثرهم في الدولة،‏ فآثر الاعتكاف
والوَحْدَة،‏ وإنه يومئذ لَشَ‏ اب ٌّ في الثلاثني،‏ تَبْسِ‏ م ملثله الآمال،‏ وتتفت َّح لعينيه زهرة الدنيا.‏
وقال لصاحبه:‏ ‏«إلى كم نقيم يا أخي على هذا الإثم مع هؤلاء املوالي،‏ لا يطئون
موطئًا إلا كُتِب علينا الخطأ والإثم؟ … والصواب أن نتركهم وما اجتمعوا عليه من الضلال
والغواية،‏ ونسأل الوزير أن يكتب بأرزاقنا إلى الث َّغْرِ‏ 5 نقيم به في ثواب دائم وجهاد متصل!»‏
قال صاحبه،‏ وعلى شفتيه ابتسامة العتب والدهشة:‏ ‏«كأنك يا أحمد قد أيست من
التصرف في شيء من أعمال السلطان،‏ وإن كنتُ‏ لأرجو لك،‏ وإنك لأهل للولاية!»‏
قال ابن طولون:‏ ‏«خل ِّ عنك يا أخي حديث السلطان والولاية،‏ إن أمر الدولة يكاد يبلغ
آخره من سوء ما يصنع هؤلاء الترك والعجم،‏ وإن أمر الخليفة ليوشك معهم أن ينتهي
إلى مثل ما انتهى إليه أمر عمه املتوكل 6 وماذا بعد ذلك إلا انهيار الدولة،‏ فإن رأيت فإننا
نخرج إلى طَرَسُ‏ وسَ‏ 7 غازينيِ‏ مجاهدينِ‏ في سبيل الله،‏ حتى تنجلي هذه الغمرة،‏ أو يكون
أمر من الأمر!»‏
وأنِسَ‏ تْ‏ نفس أحمد بن طولون في طرسوس وزال استيحاشه،‏ واشتهرت له وقائع في جهاد
العدو تناقلها الركبان في الفلوات،‏ حتى بلغت سامر َّا حاضرةَ‏ الخلافة،‏ فذاع صيته وأكبر
الناس همته وعزمه.‏
وعاد من طرسوس وله ذكر ومكانة،‏ ودارت الأيام دورتها،‏ وإذا الخليفة املستعني
8
مخلوع قد خلعه املوالي وأقاموا على العرش ابن عمه املعتز،‏ ونفي املستعني إلى واسط
5 الثغر:‏ بلد على حدود العدو.‏
6 قُتِلَ‏ على سريره بأيدي مواليه.‏
7 طرسوس:‏ ثغر من ثغور العرب على الحدود الرومية بالقرب من حلب.‏
8 واسط:‏ مدينة بالعراق بني البصرة والكوفة عمرها الحجاج في القرن الأول.‏
12