قطر الندى

قطر الندى
على أن املصريني يومئذ لم يكونوا من ضعف الهمة،‏ بحيث يرضون لأنفسهم هذه
املكانة،‏ فلم يكن الأمر ليستقيم طويلاً‏ لواحد من أولئك الولاة في مصر،‏ وكانت ثورات
املصريني على ولاتهم لا تكاد تهدأ،‏ على أن هذه الثورات املتتابعة لم تكن من القوة بحيث
تستطيع إحداث تاريخ جديد،‏ ولكنها مع ذلك كانت إرهاصً‏ ا 13 لأمر قد أظل َّ أوانه … 14
في هذه الفترة من تاريخ مصر كان باكباك التركي هو السيد الآمر في قصر الخليفة
املعتز،‏ وكان إليه الأمر كله،‏ ولكنه يطمع في مزيد من الجاه،‏ فسأل الخليفة أن يشرفه
بولاية مصر،‏ فولا َّه فراح يلتمس النائب الأمني الذي يخلفه على تلك الضيعة.‏
وكان ابن طولون قد بلغ تلك املنزلة فأنابه باكباك …
صاح املؤذن،‏ وقد اختفى حاجب الشمس وراء الأفق الغربي:‏ ‏«الله أكبر …» فابتدر الأمري
وجلساؤه إلى قصعة فيها تمر رطب،‏ ثم دارت عليهم أقداح الحليب فشربوا ورووا،‏ ومسح
الأمري فمه وتلا في صوت خشعت له الجماعة:‏ ‏«الحمد هلل الذي هدانا لهذا،‏ وما كنا لنهتدي
لولا أن هدانا الله!»‏ ثم دعا:‏ ‏«اللهم لك صُ‏ مْت،‏ وعلى رزقك أفطرت،‏ وبك آمنت،‏ وعليك توكلت
… اللهم فاجعلني في املقبولني من عبادك،‏ ووفقني في أمر هذا البلد لرضاك،‏ وأحسِ‏ نْ‏ رعيتي
في خَ‏ لْقِ‏ ك،‏ فإنه لا إحسان إلا ما أحسنت،‏ ولا هداية إلا ما وفقت،‏ يا أحكم الحاكمني!»‏
15
وأم َّن جلساء الأمري على دعائه.‏
ثم انتدب من بينهم فقيه أهل مصر ومحدثهم أبو عبد الله محمد بن عبد الحكم
املصري،‏ 16 فقال:‏ ‏«بل َّغك الله سؤلك أيها الأمري وأنعم بك،‏ إن هذه أمانة من أمانة الله في
عنقك،‏ وقد وليها قبلك أمراء،‏ منهم البرَ‏ ُّ والفاجر،‏ والأمني والغادر،‏ أما البرَ‏ ُّ والأمني منهم،‏
فكان للخليفة بره وأمانته،‏ ليس للأمة من ذلك نصيب،‏ وأما فجور الفاجر وغدر الغادر،‏
فكان للأمة من كليهما نصيبها،‏ وللسلطان نصيبه،‏ فعلى الأمة املَغْرَم في الحالني،‏ وإنما نحن
وفد هذه الأمة إليك،‏ وقد سبقتك إليها أنباؤك،‏ فاستبشر عامتها وخاصتها بمَقْدَمِ‏ كَ،‏ وإنها
13 إرهاصً‏ ا:‏ علامة.‏
14 أظل أوانه:‏ حان موعده.‏
15 قالوا:‏ آمني.‏
16 محمد بن عبد الحكم:‏ عالم من علماء مصر له كتاب مشهور في التاريخ.‏
14