12.07.2015 Views

12850

12850

12850

SHOW MORE
SHOW LESS

You also want an ePaper? Increase the reach of your titles

YUMPU automatically turns print PDFs into web optimized ePapers that Google loves.

–بسم هللا الرحمن الرحيم–الحمد هلل رب العالمين،‏ هو الهادي إلى الصراط المستقيم،‏ نسأله أن يجعلنا من عبادهالصالحين وجنده المخلصين،‏ الداعين بدعوته،‏ المنافحين عن دينه،‏ ونسأله أن يبلغناجنته،‏ وأن يهبنا بمنّه وكرمه الفردوس األعلى مع النبيين والصدّيقين والشهداءوالصالحين وحسُن أولئك رفيقا،‏ والصالة والسالم على من بعثه هللا منقذاً‏ للبشرية منالضالل،‏ آخ ذاً‏ بأيديهم إلى كريم الخالل،‏ سيدنا محمد عليه د يَم الصالة وغمائمُ‏ السالم.‏أما بعد..‏–فقد نال كتابي:‏ ‏"قصص رواها النبي صلى هللا عليه وسلم"‏ القبول واالستحسان،‏ فما منوشجعني على االستمرار في هذاوهلل المنة والفضل أخ كريم قرأه إال أثنى عليه األسلوب من الكتابة.‏–––ونبهني بعضهم جزاهم هللا خيرا إلى جمع بعض قصص الصحابة رضوان هللاعليهم،‏ فهم الرجال األبرار،‏ والسادة األخيار،‏ الذين حملوا دين هللا تعالى إلى األمصار،‏ففتحوها وأرسَوْ‏ ا دعائم اإلسالم فيها،‏ وهم ورثة رسول هللا صلى هللا عليه وسلم،‏ فيحياتهم العبر،‏ وفي أقوالهم أغلى الدرر،‏ فحاولت أن أكون عند حسن ظنهم بي،‏ أسأل هللاتعالى العون والسداد،‏ وها أنذا أفتح باباً‏ واسعاً‏ إلخواني من األدباء الدعاة أن يلجوا هذاالباب،‏ فهو رحب،‏ وراءه رياض الصحابة المثمرة،‏ بأفيائها الوارفة،‏ يتنقون منها روائعالقصص الهادفة،‏ وفيها ينابيع ثرَّة يستقون منها العبر والعظات ويقدمونها ألبناء جيلناالمتعطشين للقدوة الحسنة،‏ لعل هللا تعالى يهديهم إلى الحق وإلى الطريق المستقيم.‏وآخ ر دعوانا أن الحمد هلل رب العالميند.‏ عثمان قدري مكانسي2


كعب بن مالك1تخلف كعب بن مالك رضي هللا عنه عن رسول هللا صلى هللا عليه وسلمتبوك من السنة التاسعة للهجرة من شهر رجب فقال:‏في غزوة–لم أتخلف عن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم في غزوة غزاها قط إال في غزوة تبوك..‏تخلفت عنها وقد أمر رسول هللا صلى هللا عليه وسلم المسلمين أن يتجهزوا جميعاً‏للخروج معه.‏غير أني تخلفت كذلك في غزوة بدر أول قتال بين المسلمين والكافرين،‏ ولم يعاتبرسول هللا صلى هللا عليه وسلم أحداً‏ ممن تخلف عنها،‏ فقد كان يريد عير قريش القادمةمن بالد الشام،‏ فخرج ومن كان معه من أصحابه،‏ ال يريدون قتاالً،‏ لكن هللا تعالى قدرهألمر يريده سبحانه،‏ فجمع بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد،‏ ونصرهم عليهم،‏ فكانذلك وسام فخر لمن حضرها،‏ فكان يقال له:‏ البدري،‏ وكان رسول هللا صلى هللا عليهوسلم يكرر في كل مناسبة مادحاً‏ البدريين قائالً:‏‏))كأن هللا اطلع عليهم فقال لهم:‏ اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم((.‏ولقد شهدت مع رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ليلة العقبة حيث تواثقنا على اإلسالم،‏فكنت من أوائل األنصار الذين بايعوا رسول هللا صلى هللا عليه وسلم على السمعوالطاعة،‏ في المنشط والمكره،‏ والعسر واليسر،‏ وعلى أثرة علينا .. وأن نكون دعاةإليه سبحانه.‏ وانطلقت الدعوة الوليدة إلى المدينة على أيدينا،‏ فكنا ال نعدل بهذه البيعةمشهداً‏ آخر،‏ وما أح ‏ُّب أن لي بها مشهد بدر،‏ وإن كانت بدرٌ‏ أذكَرَ‏ في الناس منها.‏أما قصة تخلفي عن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم في غزوة تبوك،‏ فقد كانت درساً‏بليغاً‏ لي ولغيري ممن عقلها.‏ فقد كنت إذ ذاك غنياً‏ موسراً،‏ صحيح البنية قادراً‏ علىتجهيز نفسي لهذه الغزوة التي ندبنا إليها رسول هللا دون عَنَتٍ‏ أو تكلف،‏ بل أستطيعتجهيز عدد ممن عذرهم رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ولفقرهم،‏ أو ضعف ذواتأيديهم.‏ولم يكن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم يريد غزوة إال ورّى بغيرها،‏ وأوهم أنه يريدسواها،‏ والحرب خدعة،‏ فكان المشركون يُؤخذون على حين غَرّة،‏ ويخافون أن يدهمهمالمسلمون كل لحظة فكانوا على خوف ووجل،‏ وزرع هللا في قلوبهم الرع ‏َبدائماً‏ –31أحد المسلمين من األنصار،‏ أحد الثالثة الذين خلّفوا.‏


والفزع فما يقرّ‏ لهم قرار،‏ وهكذا يجب أن يكون المسلمون مع أعدائهم .. إال في هذهالغزوة فقد أخبر رسول هللا صلى هللا عليه وسلم المسلمين بوجهته التي يريد،‏ ألسبابعدة منها:‏4-1-2-3-4-5-6أن المسافة بين المدينة وتبوك طويلة جداً.‏وأن الطريق مفاوز وصحارى،‏ يجب االستعداد لها أتم االستعداد.‏وأن العدو قوي عدَّةً‏ وعدداً،‏ فهم الروم أكبر دولة،‏ وأشرس عدو.‏وأنه صلى هللا عليه وسلم يريد تجنيد أوفى عدد من المسلمين،‏ فأرسل إلى القبائلكلها يأمرهم أن يشتركوا في هذه الغزوة.‏وأنه يريد أن يثأر للمسلمين في غزوة مؤتة من عدوهم الذي فاق عدده المسلمينعشرات المرات.‏وأنه مصمم على إثبات وجود هذه الدولة الناشئة في جزيرة العرب،‏ وعلىالروم أن يفكروا ألف مرَّة قبل أن يهاجموها.‏وأجاب المسلمون نبيَّهم،‏ فوفدوا إلى مدينته صلى هللا عليه وسلم،‏ فكانت تعُج بهم،‏بعضهم حمل معه جهازه،‏ ومنهم مَن سأل رسول هللا صلى هللا عليه وسلم أن يجهِّزَه،‏ودعا رسول هللا صلى هللا عليه وسلم المسلمين إلى البذل والعطاء،‏ فاألمر يحتاج إلىذلك،‏ وبذل المسلمون،‏ فهذا الصديق رضي هللا عنه يضع بين يدي رسول هللا صلى هللاعليه وسلم كلَّ‏ ماله،‏ وهذا عمر رضي هللا عنه يقدم نصف ما يملك،‏ وهذا ذو النورينعثمان بن عفان رضي هللا عنه يجهِّز الحملة كلها،‏ فقدّم ألف بعير محمّل بالزاد حتىدعا رسولُ‏ هللا صلى هللا عليه وسلم له بالخير،‏ وبشره بالجنة فقال:‏ ‏))ما ضر عثمان مافعل بعد اليوم((.‏ولم يبخل الصادقون منهم بما يستطيعون،‏ وهل يمتنع المسلمون عن اكتساب فرصالفوز برضا ربهم جلَّ‏ شأنه ونبيهم الكريم؟!‏ إنها نفحات مَنْ‏ تعرّض إليها أفلح ونجا.‏ولم يكن هناك ديوان يجمع المسلمين،‏ يحصيهم ويتابعهم،‏ فالدولة ما تزال فتيّة،‏ وكلجندي إذ ذاك متكفل بنفسه،‏ فمن عنَّ‏ على باله التأخر أو التخلف وعدم المشاركة فيالغزو،‏ فقد يضيع في زحمة هذا الزخم المتدفِّق على المدينة،‏ ولن يعرف بغيابه أحد إالإذا نزل فيه وحي يفضحه،‏ ويكشف لرسول هللا صلى هللا عليه وسلم وللمسلمين أمره.‏كان الصيف حاراً،‏ والسفر ذا مشقة،‏ ونفسي تميل للبقاء،‏ فقد أينع الثمر وطابَ‏ ، وشدّتنيظالل األشجار وبردُها إلى األرض،‏ فأنا أتأرجح بين االمتثال إلى دعوة الجهاد تحت


راية الرسول المجاهد،‏ وبين التثاقل إلى الدعة وخفض العيش،‏ ورخاء الحياة،‏ والبونشاسع بين هذه وتلك،‏ فكنت أخرج أحاول تجهيز نفسي فأعود متثاقالً‏ لم أقض شيئاً،‏وأقول في نفسي:‏ أنا قادر على ذلك إذا أردت،‏ ولم أزل على هذه الحال من الترددوالتباطؤ حتى استمر الناس بالجد،‏ وانطلق رسول هللا صلى هللا عليه وسلم والمسلمونمعه،‏ ولم أقض من جهازي شيئاً..‏ الرغبة في صحبة الرسول الكريم صلى هللا عليهوسلم وصحبه األبرار تشدني فأغدو ألجهز نفسي وأعد راحلتي وزادي،‏ فأعود وقداجتمع عليَّ‏ شيطاني وحبُّ‏ األرض والمال والنساء واألوالد،‏ فأراني اثاقلت إليهاوالتصقت بها حتى أسرعَ‏ ركب الجهاد وتسابق،‏ فخَلَت المدينة منهم،‏ ثم ابتعدوا عنهاوتفارطوا.‏ما أشد وحشة المدينة مذ فارقها ضوءها،‏ وما أشدَّ‏ كآبتي فيها حيث خال منها الحبيبواألنيس .. يا ويحي!‏ أهذه المدينة التي أهواها؟ أراها باهتة!!‏ أهذه المرابع التي مألتقلبي فأحببتها وجاهدت عنها في أحد والخندق؟ غاب عنها النور،‏ ابتعدت عنها مصابيحالهداية،‏ غادرها المسلمون بقيادة هاديهم إلى مهمة عظيمة،‏ يا ويحي!!‏ ما لي أنظر فيأرجائها فال أرى فيها إال المنافقين يرتعون ويمرحون..‏ أأنا منهم؟!‏ رحماك يارب ..هؤالء بعض الضعفاء من المسلمين جالسين،‏ تخلفوا عن رسول هللا صلى هللا عليه وسلملضعفهم..‏ ولست منهم،‏ فأنا صحيح الجسم معافى..‏ ما الذي أ ‏ّخرني عن حبيبي وقرّةعيني..‏ رحماك يارب،‏ وهؤالء بعض المسلمين الفقراء جاؤوا إلى رسول هللا صلى هللاعليه وسلم يسألونه أن يحملهم معه للجهاد فيعتذر حين ال يجد ما يحملهم عليه،‏ فيتولّونباكين،‏ وأعينهم تفيض من الدمع أن لم يجدوا ما يبلغون عليه تبوك..‏ وأنا غني ميسور..‏رحماك يارب!!‏ أي معصية حلت بي وأيُّ‏ فتنة لزمتني؟!‏أدور في أنحاء المدينة كاللديغ ال يقرُّ‏ لي قرار،‏ ثم أعود إلى بيتي وبستاني وزرعيوظلي وأهلي!!‏ بئس ما صنعتُ‏ .. رحماك يارب .. رحماك يارب ..ولم يذكرني رسول هللا صلى هللا عليه وسلم حتى بلغ تبوك،‏ فقال وهو جالس في القوم:‏‏))ما فعل كعب بن مالك؟((‏ واخجلتاه منك يا سيدي يا رسول هللا!‏ واخجلتي منك يا سيدالمجاهدين وبطل المحاربين،‏ قد خاب ظنك بكعب هذا..‏ ليت كعبا لم تلده أمه ..تسأل عني يا رسول هللا،‏ فيجيبك رجل من بني سلمة يغمز من قناتي،‏ وأنا أستحق ذلكبل أستحق أكثر من ذلك فيقول:‏ يا رسول هللا حبسه برداه،‏ والنظرُ‏ في عطفيه،‏ منعهاإلعجاب بماله والقعود بين أهل بيته في ظل ظليل وماء بارد .. حبسه تخل ‏ٌف عن ركب5


الهداة الصالحين وإيثارُه الراحة على التعب،‏ والرخاء على الشدة .. رحماك ياربرحماك يارب .. ويحسُّ‏ معاذ بن جبل وهو أخي وصاحبي،‏ يحسُّ‏ بي وهو بعيد عنيمئات األميل،‏ فيعلم أنني جواد أصيل كبا به حظُّه وخانه تفكيره وتدبيره،‏ فيدفع عنيهذه التهمة التي أستحقها،‏ ويخفف من وَ‏ جد رسول هللا صلى هللا عليه وسلم فيتوجه إلىذلك الرجل مؤنباً:‏ بئس ما قلتَ‏ ، فالمسلم يلتمس ألخيه سبعين عذراً،‏ فهال قلت خيراً‏ يارجل .. ويلتفت إلى رسول هللا صلى هللا عليه وسلم فيقول راغباً‏ في الدفاع المه ‏ّدئالحاني:‏ وهللا يا رسول هللا ما علمنا منه إال خيراً.‏رحمك هللا يا أخي معاذ،‏ وأجزل لك المثوبة،‏ هكذا تكون األخوُّ‏ ة..‏ جزاك هللا خيراً،‏جزاك هللا خيراً.‏ويسكت رسول هللا صلى هللا عليه وسلم فال ينبس ببنت شفة،‏ فلعله قصد من سؤاله أنهعلى علم بمن تبعه،‏ ومن تخلّف عنه،‏ وأن الفرق كبير بين من استجاب ولبى،‏ ومنتخلّف وتكاسل..‏ نعم إن الفرق كبير والبَوْ‏ ن واسع،‏ وينظر رسول هللا صلى هللا عليهوسلم أمامه،‏ فيرى في قلب الصحراء المترامية األطراف م نْ‏ بين السراب المتأللئهيولى تتحرك باتجاه المسلمين،‏ سرعان ما يظهر رجل يخب السير نحوهم،‏ يلبسالبياض..‏ ويبتسم رسول هللا صلى هللا عليه وسلم،‏ لقد عرفه،‏ إنه الصحابي الجليل أبوخيثمة الذي لم يستطع أن يقدّم لجيش المسلمين سوى صاع تمر،‏ فلمزه المنافقونوضحكوا منه،‏ وقالوا:‏ إن هللا غني عن صاع هذا،‏ ونسي هؤالء الطاعنون العابثون أناألعمال بالنيات،‏ وأنّ‏ د ‏ْرهماً‏ سبق ألف درهم..‏ لم يستطع الرجل أن يلحق بالمسلمينأوّ‏ ل مسيرهم،‏ فلحق بهم،‏ بَعْدُ‏ مسرعاً‏ وسرَّ‏ به رسول هللا صلى هللا عليه وسلم،‏ فعبَّر عنسروره حين قال:‏ ‏))كن أبا خيثمة((‏ فكان أبا خيثمة،‏ وتمنى كعب لو فعل مثل ما فعلأبو خيثمة،‏ ولكن سبق السيف العذل،‏ وهذا رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ينتظر جيشالروم ليعلمه كيف يكون الجهاد والقتال،‏ وكيف يكون الصبر على المبدأ والدفاع عنه،‏لكنَّ‏ الروم الذين عجبوا لصمود ثالثة آالف مسلم في غزوة مؤتة أمام مئة ألف منهم،‏هابوا وهم مئتا ألف أن يثبتوا أمام ثالثين ألف مسلم،‏ قائدهم رسول هللا صلى هللا عليهوسلم بطل األبطال ورأس المجاهدين فانسحبوا إلى الشمال مضحين بما كان لهممن مهابة وجبروت،‏ راضين من الغنيمة باإلياب،‏ لقد نصر هللا نبيه بالرعب مسيرةشهر،‏ فكيف وهو وجيشه على تخوم بالد الشام؟!‏6–-قال كعب:‏ فلما بلغني أنّ‏ رسول هللا صلى هللا عليه وسلم قد توجّه قافالً‏ من تبوك،‏ اشتدحزني،‏ سوف أقف أمام رسول هللا صلى هللا عليه وسلم فيسألني سبب تخلفي عنه،‏ فماذا


أقول له؟ أأكْذ به متعلالً‏ بما ليس من الحقيقة بمكان؟ وهل يليق بمن بايع رسول هللا أنيكذب؟ حاشا وكال،‏ بمَ‏ أخرج من س ‏َخطه غداً؟ وأستعين على ذلك بكل ذي رأي .. وأنّىللباطل أن يكون ردءاً؟ إنه سرعان ما يزول حين يسطع ضياء الحقِّ‏ ، ويضمحل حينيبزغ فجر الصدق،‏ أنا لست خائفا من رسول هللا صلى هللا عليه وسلم فهو رحيم ودود،‏يقبل العذر ولو كان صاحبه كاذباً،‏ لكنني أخاف أن ال يرى في كعباً‏ الذي كان يعرفه،‏فأسقط في ميزانه،‏ وقد خاب وخسر من زلّت مكانته عند الصادق األمين..‏ فلما قيل:‏ إنرسول هللا صلى هللا عليه وسلم أظلَّ‏ قادماً‏ زاح عني الباطل حتى عرفت أني لم أنجُ‏ منهبشيء أبداً،‏ فعزمت على الصدق معه،‏ وإذا كان الكذب ينجي أحياناً‏ فالصدق أنجى.. يا ربّ،‏ هب لي لسان الصدق،‏ ورضِّ‏ عني نبيك وحبيبك..‏––وأصبح رسول هللا صلى هللا عليه وسلم قادماً،‏ وكان إذا قدم بدأ بالمسجد،‏ فركع فيهركعتين سنة المجيء من السفر،‏ ثم جلس للناس،‏ فلما فعل ذلك جاءه المخلَّفون يعتذرونإليه ويحلفون كعادتهم كاذبين،‏ ليرضى عنهم رسول هللا صلى هللا عليه وسلم،‏ وكانوابضعة وثمانين رجالً،‏ فقبل منهم عالنيتهم واستغفر لهم،‏ ووكل سرائرهم إلى هللا تعالى،‏فليس من عمل الداعية أن يبحث وينّقب عما في نفوس الناس .. وجئت أمشي إليه صلىهللا عليه وسلم وقلبي يخفق ونَفَسي يتردد..‏ كيف يفعل حين تقع عيناه عليَّ..‏ ال بد أنآتيه،‏ إنه قَدَري وأحْ‏ ب ب به من قَدَرٍ‏ سام عليَّ‏ سامق صلى هللا عليه وسلم،‏ فلما سلمتعليه،‏ تبسَّم تبسم المغضب،‏ تبُّسم الذي يعرف معادن الرجال،‏ فيسألهم ليحفظم لهم ماءوجوههم،‏ ثم قال:‏ تعال..‏ بأبي أنت وأمي يا رسول هللا،‏ هكذا كنت أٌقول في نفسي..‏ فقاللي:‏ ‏))ما خلّفك؟ ألم تكن قد ابتعت ظهرك واشتريت راحلتك؟((‏قلت خافضاً‏ رأسي غاضاً‏ بصري متجهاً‏ إليه بكلّي:‏ يا رسول هللا؛ إني وهللا لو جلستعند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أنّي سأخرج من سخطه بعذر،‏ وسيرضى عني،‏ لقدوهبني هللا لسانا فصيحاً‏ وبديهة حاضرة وجدالً‏ صائباً،‏ ولكني وهللا،‏ لقد علمت لئنحدثتك اليوم حديثَ‏ كذ ‏ٍب ترضى به عنّي ليوشكن هللا يسخطك علي،‏ وإن حدثتك حديثصدق يجعلك تغضب عليَّ‏ فيه إني ألرجو حسن العاقبة بتوبة هللا تعالى عليَّ‏ إذ كنتصادقاً‏ .. ولن أقول سوى الصدق يا رسول هللا،‏ وهللا ما كان لي من عذر،‏ وهللا ما كنتقطُّ‏ أقوى،‏ وال أيسر منّي حين تخلفت عَنك.‏7–إن اإلنسان العادي ليعرف من محدثه نبرة الصدق،‏ وتهويم الكذب،‏ فكيف برسول هللاصلى هللا وعليه وسلم الذي بلغ العال بكماله،‏ وكرمت جميع خصاله .. لقد قال صلى هللاعليه وسلم:‏ ‏))أ ‏ّما هذا فقد صدق،‏ فقم حتى يقضي هللا فيك((‏ وقمتُ،‏ وسار رجال من


––بني سلمة قومي فاتّبعوني،‏ فقالوا لي:‏ وهللا ما علمناك أذنبت ذنباً‏ قبل هذا،‏ لقد عجَ‏ زْ‏ تأن تعتذر إلى رسول هللا صلى هللا عليه وسلم بما اعتذر إليه المخلفون،‏ فقد كان كافيكذنبَكَ‏ استغفارُ‏ رسول هللا صلى هللا عليه وسلم لك،..‏ إنهم لم يريدوني أن أكذب..‏ إنماأرادوا أن أختصر الطريق إلى السالمة كما فعل اآلخرون حين أبدوا األعذار،‏ فقبلهارسول هللا صلى هللا عليه وسلم ورأوا أني حملت نفسي ما ال لزوم له،‏ فألحوا عل ‏ّييؤنبونني على ذلك،‏ ويكثرونه،‏ حتى أردت أن أرجع إلى رسول هللا صلى هللا عليهوسلم،‏ فأكذّب نفسي وأدعي ما ادعاه المتخلفون اآلخرون.‏لكن هللا ثبتني إذ قلت لهم:‏ هل قال غيري مثل ما قلتُ،‏ فأجابهم رسول هللا بما أجابني؟قالوا:‏ نعم،‏ رجالن،‏ قاال مثل ما قلت،‏ وقيل لهما مثل ما قيل لك،‏ قلت:‏ من هما؟ قالوا:‏مُرارة بن الربيع العَمْريُّ،‏ وهالل بن أمية الواقفيُّ..‏ قلت:‏ إنَّ‏ لي بهما أسوة حسنة،‏ فهمارجالن صالحان قد شهدا بدراً،‏ ولن أكون إال ثالثهما..‏ ومضيت حين ذكروهما لي.‏إن الذهب يشتد لمعانه حين تلمسه النار فتُذهبُ‏ عنه خبثه ويزداد تألقاً‏ وحسناً‏ وهكذا كنّاأيها الثالثة فقد نهى رسول هللا صلى هللا عليه وسلمأن يكلمنا أحد،‏ فاجتَنبَنا الناس،‏وتغيّروا لنا،‏ كأنهم ال يعرفوننا،‏ حتى تنكّر ‏ْت لي في نفسي األرض،‏ فما هي باألرضالتي أعرف،‏ فلبثنا على ذلك خمسين ليلةً،‏ فأما صاحباي فاستكانا،‏ وقعدا في بيتيهمايبكيان،‏ ويصليان،‏ ويستغفران،‏ ويسأالن هللا التوبة،‏ وانقطعا عن الناس إذ كانا عجوزينهدّتهما المقاطعة،‏ وأما أنا فكنت أشبَّ‏ القوم،‏ وأجلدَهم،‏ فكنت أخرج فأشهد الصالة معالمسلمين وأطوف في األسواق،‏ وال يكلمني أحد إن المجتمع المسلم المتماسك يلتزمبأوامر القيادة وتعليماتها،‏ وال يدع للمخطئ مجاالً‏ ينفذ منه،‏ كي ال يتمادى في خطئهوآتي رسول هللا صلى هللا عليه وسلم،‏ فأسلم عليه،‏ وهو في مجلسه بعد الصالة،‏ فأقولفي نفسي:‏ هل حرّك شفتيه برد السالم أم ال؟ ثم أصلي قريبا منه،‏ وأسارقه النظر،‏ فإذاأقبلت علي صالتي نظر إليّ،‏ وإذا التف ‏ُّت نحوه أعرض عنّي.‏––فالقائد قدوة،‏ يلتزم بما يصدره من أوامر،‏ فيكون لها من قوّ‏ ة األداء وحسن االلتزام عندالعامة األثر اإليجابي الطيب..‏ وأنا أعلم أن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ما نهى عنكالمنا إال ليقضي هللا تعالى فينا..‏ فيارب هيئ لنا من أمرنا رشداً..‏حتى إذا طال ذلك عليَّ‏ من جفوة المسلمين فاض ما في النفس من حزن وكرب،‏وانطلقت إلى ابن عمي أبي قتادة وهو من أحب الناس إليّ‏ فعلوت سور بستانه،‏ وسلمتعليه،‏ فوهللا ما ردَّ‏ السالمَ،‏ فقلت له:‏ يا أبا قتادة أنشُدُك باهلل!‏ هل تعلمني أحبُّ‏ هللا8


ورسوله صلى هللا عليه وسلم؟ فسكت .. وكيف يجيب،‏ وقد امتنع عن ردّ‏ السالم آنفاً‏التزاماً‏ بأوامر رسول هللا وإيمانا به؟..‏ فعدتُ‏ فنشادته،‏ فسكت .. فعدت فناشدته،‏ فلمارأى ما بي من الحزن واأللم نظر إليَّ‏ مشفقاً‏ فقال:‏ هللا ورسوله أعلم .. ففاضت عيناي،‏وتوليت حتى تسوَّ‏ رت الجدار،‏ فبينا أنا أمشي في أسواق المدينة إذا نبطيُّ‏ ‏)فالح(‏ مننبط أهل الشام ممن قدم بالطعام يبيعه بالمدينة يقول:‏ من يدلُّ‏ على كعب بن مالك؟ فطفقالناس يشيرون إليَّ،‏ حتى جاءني فدفع إليَّ‏ كتاباً‏ من ملك غسان،‏ وكنت كاتباً،‏ فقرأتفإذا فيه:‏ أما بعدُ،‏ فإنّه قد بلغنا أن صاحبك قد جفاك،‏ ولم يجعلك هللا بدار هوانٍ‏ والمضْيَعَةٍ،‏ فالحق بنا نواس ك.‏ال إله إال هللا وحده ال شريك له،‏ آمنت باهلل رباً‏ وباإلسالم ديناً‏ وبمحمد نبياً.‏إنها الفتنة تُطلُّ‏ عليَّ‏ من أوسع أبوابها تدعوني إلى الكفر بعد اإليمان،‏ وإلى الردّة بعدالثبات،‏ إنني يا هذا لست في دار هوان وال ذلّة،‏ إنني في دار الهداية والرشاد،‏ في كنفخير العباد،‏ لئن جافاني لقد أخطأت،‏ وما هي بجفوةٍ‏ إن هي إال عقوبة أستحقها،‏يطهرني هللا بها ويمحو ذنبي،‏ إنَّ‏ هذا لمن البالء،‏ فتيممت بها التنّور فأحرقتها..‏ لنأضعف عن احتمال ما كتبه هللا عليَّ،‏ وألصبرن حتى يكتب هللا لي خير الدنيا واآلخرة،‏حتى إذا مضت أربعون يوماً‏ من الخمسين،‏ وأبطأ الوحي إذا رسولٌ‏ من رسول هللاصلى هللا عليه وسلم يأتيني فقال:‏ إن رسول هللا يأمرك أن تعتزل امرأتك،‏ فقلت:‏ أطلِّقهاأم ماذا أفعل؟ قال:‏ ال بل اعتزلها فال تقربنَّها..‏ فقلت:‏ أمر رسول هللا صلى هللا عليهوسلم نافذ..‏ سمعاً‏ وطاعة وإيمانا واحتساباً،‏ وأرسل إلي صاحبيَّ‏ بمثل ذلك،‏ فقلتالمرأتي:‏ الحقي بأهلك فكوني عندهم حتى يقضي هللا هذا األمر.‏فجاءت امرأة هالل بن أمية،‏ رسول هللا صلى هللا عليه وسلم،‏ فقالت:‏ يا رسول هللا،‏ إنهالل بن أمية شيخ ضائع ليس له خادم،‏ فهل تكره أن أخدمه؟ قال:‏ ‏))ال،‏ ولكن اليقربنّك((.‏ قالت:‏ إنه وهللا ما به من حركة إلى شيء،‏ ووهللا ما زال يبكي ‏ُمذ كان منأمره ما كان إلى يومه هذا.‏ فقال لي بعض أهلي:‏ لو استأذنت رسول هللا صلى هللا عليهوسلم في امرأتك،‏ فقد أذن المرأة هالل بن أمية أن تخدمه؟ فقلت:‏ ال أستأذنه فيها وأنارجل شاب فلبثت بذلك عشر ليالٍ‏ فكمل لنا خمسون ليلةً‏ من حين نُه ‏َي عن كالمنا.‏9–––اللهم مالك السماوات واألرض اجعل لنا فرجاً‏ وهيّئْ‏ لنا من أمرنا رشداً.‏ثم صليت صالة الفجر صباح خمسين ليلة على ظهر بيت من بيوتنا،‏ فبينا أنا جالسعلى الحال التي ذكر هللا منا قد ضاقت عليَّ‏ نفسي،‏ وضاقت عليَّ‏ األرض بما رحبت


10–سمعت صوت صارخ صعد على جبل سلْعٍ‏ يقول بأعلى صوته:‏ يا كع ‏ُب بن مالكأبشر .. لم أتمالك نفسي إذا سمعتُ‏ البشرى فخررت ساجداً‏ هلل أبكي وأحمده،‏ أبكيوأستغفره،‏ أبكي وأشكره،‏ وعرفت أنه قد جاء الفرج من هللا تعالى،‏ فآذن رسول هللاصلى هللا عليه وسلم الناس بتوبة هللا عزّ‏ وجلّ‏ علينا حين صلى الفجر،‏ فذهب الناسيبشروننا..‏ أرأيت يا كعب عاقبة الصبر؟ إنها التوبة من هللا تعالى،‏ ينتظرها رسول هللالك ولصاحبيك،‏ وينتظرها الناس لك ولصاحبيك،‏ إنهم يحبونكم.‏ أيها الثالثة،‏ هكذاالمجتمع المسلم المتماسك،‏ يلتزم أمر هللا تعالى فيمتنع عن كالمكم،‏ ال عن هج ‏ٍر وق لى،‏إنما عن امتثال وطاعة،‏ وقلوب الجميع ترجو لكم التوبة والمغفرة..‏ ها قد جاءت،‏فسمعتَ‏ صوت أحد إخوانك يبشرك،‏ ولمّا يصل إليك..‏ انطلق جمع من المصلينيبشرون مُرارة بن الربيع وهالل بن أمية بما أنعم هللا عليهما من التوبة،‏ وامتطى أحدهمفرسه مسرعاً‏ إليك،‏ وسعى رجل من عشيرتك إليك مبتهجاً،‏ فصعد الجبل فكان صوتهأسرع من فرس ذاك،‏ وفي كلٍّ‏ فضلٌ‏ وخيرٌ،‏ ولم تتمالك نفسك أن نزعت ثوبك لصاحبالصوت،‏ بل أعطيته ثوبك الثاني ولم تكن تملك غيرهما يومئذ،‏ واستعرت ثوبينغيرهما وانطلقت إلى حَ‏ بِّ‏ القلوب،‏ وضياء األفئدة،‏ وصاحب الرسالة العظمى،‏ انطلقتإلى رسول هللا صلى هللا عليه وسلم والناس يتلقونك فوجا فوجاً‏ يهنئونك بالتوبة،‏ويقولون لك:‏ ليهنك توبة هللا عليك،‏ حتى وصلت إلى المسجد ودخلته إلى رسول هللا،‏العزيز عليه ما أعنتك،‏ الحريص عليك،‏ الرحيم بك وبالمؤمنين،‏ فإذا هو يبرق وجههمن السرور فيقول لك:‏ ‏))أبشر بخير يوم عليك مذ ولدتك أمُّك((،‏ أهناك أجمل من هذهالبشرى؟ أهناك أعظم من هذه البشرى؟ ال ورب الكعبة.‏ فلم تتمالك نفسك أن قلت:‏ أمنعندك يا رسول هللا أم من عند هللا؟ قال:‏ ‏))ال بل من عند هللا عز وجل((،‏ وكان رسولهللا صلى هللا عليه وسلم إذا سُرَّ‏ استنار وجهه حتى كأن وجهه قطعة قمر..‏ صلى هللاعليه وحشرنا في زمرته وسقانا من حوضه وجعلنا إلى الجنة في ركابه.‏قال كعب:‏ فلما جلست بين يديه قلت:‏ يا رسول هللا،‏ إن من توبتي أن أنخلع من ماليصدقة إلى هللا وإلى رسوله،‏ فقال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم:‏ ‏))أمسك عليك بعضمالك فهو خير لك((،‏ وكأنه أحس أني في غمرة الفرح والسعادة قد أتخلى عما قد أضنُّ‏به إذا سكن فرحي وعادت إليَّ‏ نفسي.‏ فأمرني باالحتفاظ ببعض مالي،‏ فقلت:‏ إني أمسكنصيبي الذي وهبتنيه في فتح خيبر،‏ وقلت:‏ يا رسول هللا إن هللا تعالى إنما أنجانيبالصدق،‏ وإن من توبتي أن ال أحدِّث إال صدقاً‏ ما بقيت،‏ فوهللا ما علمت أحداً‏ منالمسلمين أنعم هللا عليه في صدق الحديث منذ ذكرتُ‏ ذلك لرسول اله صلى هللا عليهوسلم أحسن مما أنعم هللا تعالى به عليَّ،‏ وهللا ما تعمَّدتُ‏ كذبة منذ قلتُ‏ ذلك لرسول هللا


َصلى هللا عليه وسلم إلى يومي هذا،‏ وإني ألرجو أن يحفظني هللا تعالى فيما بقي منه،‏لقد أنزل هللا تعالى فينا معشر الثالثة قوله:‏ لَقَدْ‏ تَابَ‏ هللاَّ‏ ُ عَلَى النَّب يِّ‏ وَ‏ الْمُهَاج ر ينَ‏وَ‏ األْ‏ ‏َنْصَار الَّذ ينَ‏ اتَّبَعُوهُ‏ ف ي سَاعَة الْعُسْرَة حتى بلغ إ نَّهُ‏ ب ه مْ‏ رَءُوفٌ‏ رَح يمٌ‏ )111(وَ‏ عَلَى الثَّالَ‏ ثَة الَّذ ينَ‏ خُلِّفُوا حَتَّى إ ذَا ضَاقَتْ‏ عَلَيْه مُ‏ األْ‏ ‏َرْ‏ ضُ‏ ب مَا رَحُبَتْ‏ وَ‏ ضَاقَتْ‏ عَلَيْه مْ‏أَنْفُسُهُمْ‏ وَ‏ ظَنُّوا أَنْ‏ الَ‏ مَلْجَ‏ أَ‏ م نَ‏ هللاَّ‏ إ الَّ‏ إ لَيْه ثُمَّ‏ تَابَ‏ عَلَيْه مْ‏ ل يَتُوبُوا حتى بلغ اتَّقُوا هللاَّ‏وَ‏ كُونُوا مَعَ‏ الصَّاد ق ينَ‏ ‏]سورة التوبة[.‏قال كعب:‏ وهللا ما أنعم هللا عليَّ‏ من نعمة قط بعد إذ هداني لإلسالم أعظم في نفسي منصدقي رسول هللا صلى هللا عليه وسلم،‏ أن ال أكون كذبته،‏ فأهلك كما هلك الذين كذبوا،‏إنّ‏ هللا تعالى قال للذين كذبوا حين أَنْزَ‏ ل الوحي شرَّ‏ ما قال ألحد،‏ فقال هللا تعالى:‏سَيَحْ‏ ل فُونَ‏ ب اهللَّ‏ لَكُمْ‏ إ ذَا انْقَلَبْتُمْ‏ إ لَيْه مْ‏ ل تُعْر ضُوا عَنْهُمْ‏ فَأَعْر ضُوا عَنْهُمْ‏ إ نَّهُمْ‏ ر جْ‏ سٌ‏ وَ‏ مَأْوَ‏ اهُ‏ ‏ْمجَهَنَّمُ‏ جَزَاءً‏ ب مَا كَانُوا يَكْس بُونَ‏ )55( يَحْ‏ ل فُونَ‏ لَكُمْ‏ ل تَرْ‏ ضَوْ‏ ا عَنْهُمْ‏ فَإ نْ‏ تَرْ‏ ضَوْ‏ ا عَنْهُمْ‏ فَإ نَّ‏َ الَ‏ يَرْ‏ ضَى عَن الْقَوْ‏ م الْفَاس ق ينَ‏ (هللاَّ‏)56قال كعب:‏ كنا خلّفنا أيها الثالثة عن أمر أولئك الذين قبل منهم رسول هللا صلى هللا عليهوسلم حين حلفوا له،‏ فبايعهم واستغفر لهم،‏ وأرجأ رسول هللا صلى هللا عليه وسلم أمرناحتى قضى هللا تعالى فيه بذلك،‏ قال هللا تعالى:‏ وَ‏ عَلَى الثَّالَ‏ ثَة الَّذ ينَ‏ خُلِّفُوا وليس الذيذكر مما خُلِّفنا تخلّفَنا عن الغزو،‏ وإنما هو تخليفه إيانا،‏ وإرجاؤه أمرنا عمن حلف له،‏واعتذر إليه،‏ فقبل منه.‏من رياض الصالحين:‏ باب التوبةرواه الشيخان11


أم سُلَيْمٍ‏ رضي هللا عنهاأنس بن مالك رضي هللا عنه كان في العاشرة من عمره حين جاءت به أم ‏))أم سُليمٍ((‏إلى رسول هللا صلى هللا عليه وسلم تقول:‏ يا رسول هللا!‏ هذا أنس يَخْ‏ دُمُك،‏ فبقي رضيهللا عنه في خدمة الرسول الكريم حتى التحق بالرفيق األعلى.‏ وكان زواج أمه من أبيطلحة من أكثر الزيجات بركة،‏ فحين مات زوجها مالك على غير ملة اإلسالم،‏ وهجرالمدينة حين قدم إليها رسول هللا صلى هللا عليه وسلم،‏ فلقي حتفه في بالد الشاممتنصّراً.‏ جاءها أبو طلحة وكان على الجاهلية،‏ فخطبها،‏ فاشترطت عليه أن يكونإسالمه مهراً‏ لها ففعل وحَسُن إسالمه وصار من كرام أصحاب رسول هللا صلى هللاعليه وسلم.‏يقول أنس رضي هللا عنه:‏ مات ابنٌ‏ ألبي طلحة من أم سليم وكان أبو طلحة غائباً‏فقالت ألهلها:‏ إن جاء أبو طلحة فال تحدّثوه بابنه حتى أكون أنا أحدثه،‏ فلما جاء سألها:‏كيف ولدك يا أم سليم وكان مريضاً،‏ قالت:‏ سكن وهلل الحمد،‏ فظنَ‏ أن الحمى بارحتهوأن صحته تحسّ‏ ‏ًنت فحمد هللا على ذلك،‏ وطابت نفسه .. فجاءته بما غسل به أطرافهوبدَّل ثيابه وارتاح قليالً،‏ فقدَّمت له عَشاء تناوله راغباً‏ وشكر هللا على نعمائه .. ثمحسَّنت نفسها وتزينت ليرغب فيها.‏ وتجمّلت كأفضل ما تتجمل المرأة لزوجها.‏ فوقعبها،‏ فلما أن رأته قد شبع،‏ وأصاب منها،‏ قالت له:‏ يا أبا طلحة،‏ أرأيتَ‏ لو أن قوماً‏أعاروا غيرهم شيئاً‏ يخصُّهم،‏ فمكث عند هؤالء مدّة،‏ ثم طلبه أصحابه،‏ ألهم أن يمنعوهمإياه؟ قال:‏ ال،‏ قالت:‏ فاطلب ثواب مصيبتك في ابنك من هللا تعالى،‏ فقد استردّه .. فظهرالغضب على وجه أبي طلحة ثم قال:‏ كيف فعلت هذا كلّه؟ لم تفصحي عن موت ابني،‏إنما موّ‏ هت فلم أفهم،‏ ثم جئتني بطعام فأكلته مطمئناً،‏ ثم تزينت لي،‏ فوقعتُ‏ عليك،‏ فلماصرت جنباً‏ أخبرتني بموت ابني؟ حسبي هللا ونعم الوكيل،‏ وهللا ألشكوّ‏ نك إلى رسولهللا صلى هللا عليه وسلم.‏––فانطلق حتى أتى رسول هللا صلى هللا عليه وسلم،‏ فأخبره بما كان،‏ فهوَّ‏ ن رسول هللاعلى أبي طلحة ما فعال،‏ ودعا لهما قائالً:‏ ‏))بارَ‏ ‏َك هللا لكما في ليلتكما((.‏ودعاء رسول هللا صلى هللا عليه وسلم موصول بعرش الرحمن ال يخطئه،‏ فحملت أمسليم من ليلتها،‏ وعاد أبو طلحة إلى بيته وزوجته راضياً‏ برضا رسول هللا صلى هللاعليه وسلم،‏ سعيداً‏ بدعائه،‏ يرجو البركة واليُمن،‏ فتلقّته زوجته أحسن لقاء،‏ وعاد األنسيرفرف على بيتها والسعادة تمأل أركانه.‏12


–وكان رسول هللا صلى هللا عليه وسلم في سفر،‏ والمسلمون ومنهم أبو طلحة وأم سليممعه،‏ فوصل المدينة ليالً،‏ فلم يدخلها،‏ لماذا؟ إن سيد البشر خيرُ‏ الناس لطفاً‏ وذوقاً،‏ فهويقيم خارج المدينة حتى يبزغ الفجر،‏ فيصلي،‏ ويذكر هللا ثم يدخله نهاراً،‏ فهو عليهالصالة والسالم يعلم أن الليل ستار كل العيوب،‏ يهدأ الناس فيه،‏ فإن امتألت الطرقاتبالعائدين ضجّ‏ المكان بالحركة واللغط،‏ وهذا يفزع النائمين،‏ ويخيف اآلمنين،‏ فقديظنون العدوّ‏ دهمهم على حين غرّة،‏ فيهبون مذعورين،‏ كما أن النساء يعزفن عنالزينة حين يكون أزواجهنّ‏ على سفر،‏ وال يرغبن أن يفجؤوهن على غير ما يرغبن أنيَرَوهن عليه،‏ ومن عادة رسول هللا صلى هللا عليه وسلم حين يصل المدينة أن يكونمستعداً‏ لصالة ركعتي سنة العودة من السفر،‏ وأن يلقى أصحابه فيسلم عليهم،‏ ويستطلعأخبار المسلمين،‏ وهذا ال يكون إال نهاراً‏ .. إنها رحمة الرسول الكريم بالمسلمين،‏وحكمته الرائعة تتجلّى في التصرفات المناسبة لكل موقف،‏ وتشريعٌ‏ عظيم ينبغيللمسلمين أن يتأسوا به إن أرادوا النجاح والفالح في الدنيا واآلخرة.‏حين أذن بالل لصالة الفجر قام رسول هللا صلى هللا عليه وسلم للصالة وقام معهالمسلمون،‏ فلما أدّوا المكتوبة،‏ وتجهزوا لدخول المدينة المنورة،‏ جاء أمَّ‏ سليم المخا ‏ُضفبقي أبو طلحة معها على مضض منه إذ لم يكن أوالدها أو بعض أهلها معهايخدمها،‏ وانطلق رسول هللا صلى هللا عليه وسلم وصحبه إلى المسجد،‏ فحزن أبو طلحةأنه ال يدخل مع رسول هللا صلى هللا عليه وسلم فرفع يديه إلى السماء .. يا رب إنكلتعلم أنّه ليعجبني أن أخرج مع رسول هللا صلى هللا عليه وسلم إذا خرج،‏ وأدخل معهإذا دخل،‏ وقد حبسني كما ترى مخا ‏ُض زوجتي.‏–––فما أنهى دعاؤه حتى قالت زوجته أم سليم:‏ يا أبا طلحة سكن ما أجده،‏ فما عدت أشعربألم الوالدة،‏ فانطلق بنا مع رسول هللا صلى هللا عليه وسلم،‏ فانطلقا حتى وصلت دارهاضربها المخاض،‏ فولدت غالماً،‏ فنادت أنساً،‏ فقالت له:‏ يا أنس،‏ ال يرضعه أحد حتىتغدوَ‏ به على رسول هللا صلى هللا عليه وسلم،‏ فلما أصبح احتملتُه فانطلقتُ‏ به إلىرسول هللا صلى هللا عليه وسلم،‏ فأخذه بيديه الشريفتين ثم تناول تمرة فمضغها عليهالصالة والسالم،‏ ثم حنّكه،‏ فتلمظ الوليد،‏ فقال عليه الصالة والسالم:‏ ‏))انظروا حبّ‏األنصار التمر((‏ رضي هللا عنك أم سُليم.‏يروي أصحاب الحديث أنه ولد لهذا الغالم تسعة أبناء حفظ جميعهم القرآن الكريم.‏رياض الصالحين:‏ باب الصبر،‏ رواه مسلم13


الحديث/‏‎32‎‏/‏توكل على هللايروي جابر بن عبد هللا عاقبة حسن التوكل على هللا فيقول:‏عاد رسول هللا صلى هللا عليه وسلم من إحدى غزواته في نجد،‏ وأصحابه معه،‏يسبحون هللا ويهللون ويكبرون عند كل مرتفع من األرض أو سهل،‏ يحدثهم حديثالمؤمنين األوائل،‏ ويحضهم على الجهاد،‏ وربما تصمت ألسنتهم وتلهج قلوبهم بذكر هللاتعالى،‏ إلى أن اشتد الحرُّ‏ وارتفعت الشمس في كبد السماء،‏ وخفَّت سرعة الركب،‏ وبدأالعرق يسبح في أجسادهم،‏ فأمرهم الرسول صلى هللا عليه وسلم أن ‏َيقيلوا:‏ فقال:‏‏))قيلوا،‏ فإن الشياطين ال تقيل((..‏أدركتهم القالة في وادٍ‏ أشجاره الشوكية كبيرة،‏ فنزل رسول هللا صلى هللا عليه وسلموتفرَّق الناس يستظلون بالشجر ويجهزون أماكن يستريحون فيها من هذا الهجير.‏ نزلرسول هللا صلى هللا عليه وسلم تحت شجرة عظيمة من هذه األشجار الشوكية تسمى‏))السَّمُرَة((‏ فعلق بها سيفه،‏ وتخفف من بعض ثيابه،‏ ودعا ثالث مرات بصوتمسموع:‏ ‏))أعوذ بكلمات هللا التامات من شر ما خلق((.‏وما إن وضع الناس أجسادهم على األرض حتى راحوا في سبات عميق،‏ فقد كانالطريق شاقاً،‏ والمسافة طويلة،‏ والعي ‏ُر قليالً‏ يتعاور كل اثنين أو ثالثة نفر جمالً‏ أوحصاناً،‏ حتى أخذ التعب منهم كلَّ‏ مأخذ،‏ وفجأة سمع الجميع صوت رسول هللا صلى هللاعليه وسلم يدعونا فابتدرناه مسرعين متأهبين،‏ أيدينا على سيوفنا،‏ نستطلع الخبر لميتخلف أحد منا فليس من عادته صلى هللا عليه وسلم أن يدعونا هكذا،‏ في مثل هذاالوقت،‏ ولم يكن ليدعونا وهو الذي أمرنا بالقيلولة لوال أنا هناك ما يستوجب الحضور..‏سمعاً‏ وطاعة يا رسول هللا .. لبيك يا سيدي وسعديك.‏–14–فلما وصلنا،‏ وجدنا عنده أعرابياً‏ قد اعتمد على ركبتيه،‏ ينظر إلى األرض منكسراً،‏ فلمااكتمل عقدنا قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم:‏ ‏))إن هذا اغتنم فرصة ابتعادكم عني،‏وخلوّ‏ ي إلى نفسي،‏ فانسلَّ‏ من بينكم،‏ ال يشعر به أحد،‏ حتى وقف على رأسي وأنا نائم،‏واستلّ‏ سيفه وهو يقول:‏ من يمنعك مني؟ من يحميك من سطوتي؟ نظرت إليه فرأيتعينيه عيني شيطان تتقدا جمراً،‏ يريد أن يهوي بسيفه على عاتقي،‏ فقلت له ثالثاً:‏ هللا،‏


هللا،‏ هللا،‏ ومن كان مع هللا كان هللا معه،‏ ومن اعتمد عليه سبحانه،‏ كان عماده،‏ ومناحتمى بقوة هللا،‏ حفظه ووقاه،‏ أتدرون ما حل به؟اختلج جسمه واصطكت ركبتاه،‏ وسقط السيف من يده ثم هوى إلى األرض .. حملتالسيف وهو متهالك أمامي،‏ وقلت له:‏ أرأيت كيف حماني هللا منك،‏ ونصرني عليك،‏ كنمع هللا ترى هللا معك((‏ ثم قال له : أإذا عفوت عنك تُسلم؟ قال:‏ ال ولكنْ‏ ال أعين عليكأحداً‏ ، فأطلقه.‏رياض الصالحين:‏ باب اليقين والتوكلالحديث /53/15


روى عبد هللا بن عباس رضي هللا عنه قال:‏–كن نبيهاً‏ ذكياً‏كان النبي صلى هللا عليه وسلم يشحذ هممنا كما يشحذ المسَنُّ‏ السكين،‏ ويرفع من معنوياتناويشجعنا على التفكير واغتنام الفرص.‏فبينا نحن جلوس عنده وهو عليه الصالة والسالم يربينا ويأخذ بأيدينا إلى الطريق القويم قال:‏عُرضت عليَّ‏ األمم من لدن آدم عليه السالم إلى يوم القيامة وكأنها تمشي أمام منصةسيد األنبياء ذي القدر العلي،‏ والعزم الجليّ‏ .. كل نبي يمشي،‏ ووراءه من اتبعه،‏ فقد تجد نبياً‏يمشي وحده،‏ إذ جحده قومه،‏ وكذّبوه،‏ فلم يؤمن به أحد،‏ فأخرجوه من بينهم،‏ وقد يقتلونه،‏ويظنّون أنهم تخلصوا منه،‏ فتحل عليهم نقمة هللا وعذابه فيُستأصلون،‏ أو ‏ُير ‏َمون بداهية تجعلحياتهم جحيماً،‏ فمنهم من أرسل عليه حاصبٌ،‏ ومنهم من أغرق،‏ ومنهم من أرسلت عليهمريحٌ‏ صرصرٌ‏ عاتية جعلتهم كجذوع النخل المبتورة..‏ جزاء على كفرهم وقتلهم أنبياءهمالكرام.‏–وقد تجد نبياً‏ لم يؤمن معه سوى الرجلأو الرجلين.‏ورسول هللا صلى هللا عليه وسلم يعلم أن أمته كثيرة،‏ فحين مرّت أمّةٌ‏ كثيرة العدد مألت مكانالعرض واتسع محيطها ظنَّ‏ رسول هللا صلى هللا عليه وسلم أنها أمة المسلمين،‏ فشعربالسعادة،‏ فقيل له:‏ هذا موسى وقومه،‏ فظنَّ‏ رسول هللا صلى هللا عليه وسلم أن اليهود أكثر منالمسلمين..‏ وتأثَّر،‏ ولم يطل تأثره عليه الصالة والسالم بذلك،‏ فقد قال له الملك:‏ انظر إلىاألفق،‏ فينظر عليه الصالة والسالم،‏ فإذا سواد عظيم مأل الخافقين،‏ جموع المسلمين الممتدةأمام منصة سيد األنبياء تتوارد،‏ وأمامها رجال كالشموس تأللؤاً..‏ مَنْ‏ هؤالء الوضيئون؟!‏ قالله مرافقه:‏ هؤالء سبعون ألفاً‏ من أمتك يدخلون الجنة بغير حساب وال عذاب..‏ هللا...‏ هللاَ،‏ ماأعظم أن يكون الرجل من بين هؤالء الرجال العظام.‏ونهض رسول هللا صلى هللا عليه وسلم،‏ فدخل منزله..‏ فخاض الناس في صفات هؤالء النفرالذين يتجاوز هللا عنهم ويكتبهم في عليين،‏ ال يحاسبون..‏قال بعضهم:‏ فلعلهم الذين صحبوا رسول هللا صلى هللا عليه وسلم،‏ فكانوا أوّ‏ ل مَنْ‏ أسلم،‏شاركوه السرّاء والضرّاء،‏ وعلى أكتافهم قامت دولة اإلسالم؟وقال بعضهم:‏ فلعلّهم الذين ولدوا في اإلسالم،‏ فلم يشركوا باهلل شيئاً،‏ ورضعوا لبان التوحيد،‏وشربوا اإليمان وكانوا جنود الرحمن؟وكثر الحديث في هؤالء وتعدد التعليل وذهبت الظنون فيهم كلَّ‏ مذهب.‏16


وخرج عليهم رسول هللا صلى هللا عليه وسلم فرآهم على حالهم التي تركهم عليها،‏ وسمعهميتداولون الحديث،‏ ويتعاورون التحليل،‏ ويقلبون األمور،‏ فسألهم قائالً:‏‏))ما الذي تخوضون فيه؟((‏ فأخبروه،‏ فوضح لهم حينئذ صفاتهم‏،فهم:‏أوالً:‏ ال يطلبون الرُّقية،‏ وال يرقون أحدا ‏)والرقية:‏ تعويذة تكتب فيلبسها من يطلبها،‏ ليست مناإلسالم في شيء إال أن تكون مما علمنا رسول هللا صلى هللا عليه وسلم،‏ كأن يقول:‏ باسم هللاأرقيك،‏ وهللا يشفيك(.‏ثانيا:‏ ال يتطيرون،‏ وال يتشاءمون،‏ فالتشاؤم ليس من اإلسالم،‏ ألن المسلم حين يكون إيمانهقويا،‏ يعلم أنَّ‏ ما أصابه لم يكن ليخطئه،‏ ويعتقد أن هللا ال يصيبه إال بما كتبه له،‏ والمتشائممتردد،‏ خوَّ‏ اف،‏ يضيّع الفرص،‏ ويكون أثره في مجتمعه سلبياً.‏––ثالثاً:‏ إيمانه القوي باهلل،‏ وصلته المتينة به سبحانه تجعله يُسل مُ‏ األمور إليه،‏ ويتوكلعليه،‏ فال يخشى في هللا أحداً،‏ ومن كانت هذه صفاته أفاد أمته وأرضى ربّه،‏ وكان على نورمنه جلّ‏ شأنه.‏يا هللا!‏ ما أروع أن يكون أحدنا من هؤالء،‏ وكان عكّاشة بن مح ‏َصن بين الحاضرين،‏ فلمعتفي ذهنه أن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم يحب النابهين ذوي البديهة السريعة الذينيغتنمون الفرص ويقتنصونها،‏ ولعله يفوز بدعاء منه صلى هللا عليه وسلم فقال:‏ يارسول هللا:‏ ادع هللا أن يجعلني منهم؟ قال عليه الصالة والسالم:‏ ‏))أنت منهم((،‏ كافأه علىنباهته وسرعة بديهته.‏––ويسأله آخر أن يكون منهم،‏ فماذا كان جواب المعلم األول؟!!‏ نبهه الرسول المعلم أنه ضيّععلى نفسه المبادرة حين تأخّر عن عكاشة،‏ وكان عليه أن يسبقه،‏ فالنجاح حليف المتنبهيناليقظين،‏ الذين ال يفوّ‏ تون الفرص..‏. 1وهكذا نجح رسول هللا صلى هللا عليه وسلمفي إثارة الحوافز،‏ والدفع إلى التنافسرياض الصالحين:‏ باب اليقين والتوكلالحديث /45/1التربية النبوية ص‎46‎‏،‏ للمؤلف.‏17


الجندية روعةماذا يعني قولنا:‏–إن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم غزا قرابة تسع وعشرين غزوة؟وإنه كان يفجأ أعداءه في عقر دارهم؟وإنه صلى هللا عليه وسلم كان في مقدمة الجيش دائماً،‏ فقد كان علي بن أبي طالبوهو البطل الشجاع الذي تهاب لقاءه األقران يقول:‏ كنا إذا حمي الوطيس،‏واحمرت الحدَقُ‏ ، نتقّي برسول هللا صلى هللا عليه وسلم،‏ فما يكون أحد أقرب إلىالعدو منه؟وإنه كان يرسل السرية إثر السرية،‏ والكتيبة وراء الكتيبة فال يقرّ‏ للعدو قرار؟وإنه كان يعاور أصحابه القيادة فيتدربون عملياً‏ على القيادة والجندية واالستمراريةفي الجاهزية القتالية؟وإنه قال:‏ ‏))نصرت بالرعب مسيرة شهر((؟–إن سكت األعداء والسائرون في فلكهم عن اإلجابة قلنا:‏ نحن أتباعه عليه الصالةوالسالم،‏ وال يصل التابع إلى ما وصل عليه المتبوع إال إذا سلك دربه واقتدى به.‏وإن قالوا:‏ هذا هو اإلرهاب بعينه قلنا:‏ صلى هللا على رسول الجهاد،‏ صالة تليق بسيّدالمجاهدين،‏ وبارك عليه،‏ فهو أسوتنا وقدوتنا،‏ وال يضيرنا نعيق ناعق،‏ وال نهيق ناهقوقد أثبت التاريخ أن األمة المجاهدة تصل إلى هدفها وترقى سنام المجد،‏ وتسمو إلىذروته،‏ وأن األمة الذليلة تُداس باألقدام،‏ وتتداعى عليها األمم كما تداعى األكلةُ‏ إلىقصعتها.‏–فماذا نختار –معشر المسلمينألنفسنا؟ الذل والصغار أم العز والفخار؟–وحيكون يكون أعداء األمس هم أعداء الحاضرسيرة آبائنا وأجدادنا؟ فنكون على خطاهم،‏ فنسعد؟اليهود والنصارىأفال نسير فيهم–ففي غزوة خيبر حين هاجم رسول هللا صلى هللا عليه وسلم حصون اليهود،‏ وافتتحهاواحداً‏ وراء اآلخر،‏ كان يُزكي روح القتال والجندية في أرواح أصحابه،‏ فقد قال إذذاك:‏ ‏))ألعطين هذه الراية رجالً‏ يحب هللا ورسوله،‏ ويفتح هللا على يديه((،‏ فالصفةالرائعة التي أطلقها رسول هللا صلى هللا عليه وسلم على القائد المرتقب في الغد،‏ رج ‏ٌلوالرجال ذوو العزمات مفاتيح المغاليق يحب هللا ورسوله،‏ فاهلل سبحانه ورسوله–18–


––صلى هللا عليه وسلم يحبانه إذاً‏ فالحب متبادل،‏ والحبل موصول بواهب النصر،‏فال بد أن يفتح هللا عليه،‏ ويمدّه بتأييده..‏قال عمر رضي هللا عنه:‏ ما أحببت اإلمارة إال يومئذ،‏ وحق له أن يتطلع إلى اإلمارة،‏فإنها وسام يعلق على صدر القائد،‏ ال يزال على صدره،‏ آيةً‏ على حب هللا ورسوله إلىأن يلقى هللا.‏وفي الصباح،‏ وبعد صالة الفجر،‏ نظر الرسول الكريم إلى جيشه،‏ والجميع تضطربقلوبهم،‏ رغبة أن يكون كل واحد منهم ذلك القائد.‏ويبحث رسول هللا صلى هللا عليه وسلم عن رجل منهم فال يراه .. ‏))أين علي بن أبيطالب((؟ قالوا:‏ يا رسول هللا،‏ إنه في خيمته أرمد ال يكاد يبصر،‏ قال:‏ ‏))ائتوني به((،‏فجاءوا به،‏ فبصق على عينيه،‏ ثم مسحهما بيده الشريفة،‏ فبرئتا في اللحظة والتو،‏ وزالعنهما الرمد وعادتا سليمتين،‏ أقوى ما تكونان.‏وعرف الناس مقام علي رضي هللا عنه،‏ فهو ابن عم النبي الكريم،‏ وصهره علىبناته فاطمة الذي رباه في بيته،‏ وخلقّه بأخالقه،‏ وأخوه في هجرته.‏أع ‏ِّز––أعطاه الراية وقال له:‏‏))امش.‏وال تلتفت حتى يفتح هللا عليك((.‏-1-2فاالنطالق نحو العدو،‏ بثقة وثبات،‏ دون تلكؤ،‏ وال تردد،‏ واإلصرار على استمرارالقتال،‏ واالعتماد على هللا سبحانه وتعالى بعد الجاهزية القتالية سبيل النصر،‏ وعدةالفوز.‏يا لروعة الجندية،‏ .. لقد سار علي امتثاالً‏ ألمر قائده بضع خطوات،‏ ثم وقف..‏ ولميلتفت!‏ ألم يأمره رسول هللا صلى هللا عليه وسلم أن ال يلتفت؟!‏ هذه أول عالئم الجنديةالواعية،‏ فصرخ كي يسمعه رسول هللا صلى هللا عليه وسلم أمام هذا الحشد المندهشمن الصحابة الكرام..‏ إن من األدب أن ال يرفع أحد صوته أمام النبي الكريم،‏ بل عليهمأن يغضوا من أصواتهم،‏ ومن األدب أن ال يكلم أحدنا اآلخر إال وجهاً‏ لوجه،‏ لكن مناألدب أن يكون الجندي مطيعاً‏ ملتزماً‏ األوامر،‏ واعياً‏ لما يطلب إليه..‏ وهكذا كان علي19


رضي هللا عنه..‏ صرخ مستفسرا ً عن األمر المناط به:‏ يا رسول هللا؛ على ماذا أقاتلالناس؟قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم:‏ ‏))قاتلهم .. حتى:‏يشهدوا أ،‏ ال إله إال هللا.‏وأن محمداً‏ رسول هللا((.‏-1-2هذا هو الدين الحق،‏ إن الدين عند هللا اإلسالم،‏ وهذا ال يكون إال باقتران اسم محمدصلى هللا عليه وسلم باسم هللا سبحانه وتعالى اقتران نبوّ‏ ةٍ‏ ورسالةٍ‏ برب خالق عظيم.‏‏))فإن فعلوا ذلك فقد منعوا:‏دماءهم.‏وأموالهم إال بحقها((.‏-1-2وما حقها؟ إنه التزام باألركان الخمسة،‏ فال إسالم إالّ‏الزكاة،‏ وصوم رمضان،‏ وحج البيت للمستطيع.‏بالشهادتين وإقام الصالة،‏ وإيتاءومن الناس الظاهر،‏ وهللا يتولى السرائر.‏ولم تكُن سوى جولة أو جولتين..‏ وكان النصر حليف المسلمين.‏رياض الصالحين:‏ باب المبادرة إلى الخيراتالحديث /65/باب الداللة على الخير:‏ الحديث /115/20


ال تغرنك المظاهرجلس المعلم العظيم صلى هللا عليه وسلم مع بعض أصحابه أمام مسجده صلى هللا عليهوسلم،‏ فم ‏َّر رجل من أشراف الناس،‏ فسلم،‏ فرد الرسول الكريم السالم بأحسن منه،‏ كانالرجل يلبس غاللة رقيقة جديدة تشف عما تحتها من ثوب جميل،‏ كان يمأل العين وينبئعن نعمة يتقلب فيها،‏ فنظر إليه رجل من المسلمين نظرة تن ‏ُّم عن إعجاب ورغبة في أنيكون مثله غنياً،‏ موسراً،‏ وأن يكون في مثل مكانته شرفاً‏ وسؤدداً..‏كان رسول هللا صلى هللا عليه وسلم يتابع نظرات هذا الرجل ومتابعته للما ‏ِّرجاوزهم،‏ وغاب عن أنظارهم،‏ فالتفت إلى الرجل فقال له:‏ ‏))ما رأيك في هذا؟((.‏حتىلقد تبعت نظراتُ‏ الرجل ونفسهُ‏ ذاك الذي مرَّ،‏ وتمنى أن يكون مثله جاهاً‏ وثراء،‏ فرأيهإذاً‏ معروف،‏ وإجابته لن تكون سوى اإلطراء والمديح..‏ وهكذا كان فقد قال المسؤولللنبي الكريم ما يحس به ويعتقده:‏ هذا وهللا لجدير أن يجاب طلبه في كل مايريد،‏ فإنخطب إلى قوم كان لهم الشرف أن يزوجوه،‏ وهل يجدون خيراً‏ منه محتداً،‏ وأكثرأمواالً‏ وأشرف مكانة؟!!‏ إنهم يرتفعون مكانة إن أصهر إليهم،‏ فقربهم إليه.‏وهو جدير أيضاً‏ إن سار في حاجة أن تُقضى،‏ فإن منزلته كبيرة وجاهه عظيم،‏ والينبغي أن يرد،‏ وهل يرد أمثاله عن الشفاعة؟لم يح ‏ْر رسول هللا صلى هللا عليه وسلم جواباً،‏ ولم يعلق على رأي المسؤول،‏ فهو صلىهللا عليه وسلم ال يحب الجدال والمراء،‏ فاهلل تعالى كفل للمبتعدين عن الجدال ولوكانوا أصحاب حق قصراً‏ رائعاً‏ في منتصف الجنة وأعالها مكاناً،‏ والجدال يورثفي النفس األلم،‏ وفي القلب الكمد،‏ ويتعب صاحبه دون طائل..‏––––ومر رجل آخر مشيته على األرض خفيفة،‏ ليس فيها تصنع وال خيالء،‏ ثيابه بسيطةلكنها نظيفة فالمسلم نظيف هيئته تدل على فقر مستور ينأى بصاحبه أن يمد يدهللناس،‏ يتخذ من العفاف سمتاً،‏ يحسبه الناس غنياً‏ من التعفف..‏فالتفت رسول هللا صلى هللا عليه وسلم إلى من سأله آنفاً،‏ فقال:‏ ‏))ما رأيك في هذا؟((،‏لم يمأل عينه كما فعل الرجل السابق،‏ فكانت نظراته إليه تختلف عن اآلخر،‏ بل إنهاكانت عن النقيض منها!‏ فقال:‏ هذا رجل من فقراء المسلمين!!‏ مغمور ال يهتم به أحد،‏وال يلقى إليه باالً،‏ وأي فائدة يجنيها المرء إن صاحبه،‏ وخالطه؟21


هذا جدير إن خطب أن يرد،‏ فال يُز ‏ّوج،‏ فزوجته ستعيش معه في حال سيئة،‏ وضنكواضح،‏ ال جاه له يحتمي به اآلخرون،‏ وال مكانة تشفع له عندهم،‏ ولن يسمع أحد قولهأو ينصت إليه..‏حكم على الرجلين أحكاماً‏ تتسم بالسطحية،‏ والنظرة المادية،‏ أخذ بظاهر األول وعافحالَ‏ الثاني،‏ ونسي أن هللا ال ينظر إلى صور الناس وأجسادهم،‏ بل إلى قلوبهموأعمالهم،‏ ونسي أيضاً‏ أن الفخر والخيالء صفة المتكبرين الفارغين،‏ الذين يرونألنفسهم ما ال يرونه لآلخرين،‏ ونسي كذلك أنه كم من أشعث أغبر لو أقسم على هللاألبرَّه،‏ قوام،‏ صوام .. يرى الدنيا فانية،‏ والحياة إلى زوال.‏وكثير من الناس تغرهم البهارج،‏ وتسحرهم األعراض،‏ فيغفلون عن الجوهر،‏وينساقون وراء كل ما يلمع،‏ ويبرق،‏ يشدهم سرابها،‏ ويستهويهم خُلّبُها..‏وهنا يعيد الرسول الكريم األمور إلى نصابها،‏ ويقوِّ‏ م األحكام الخاطئة،‏ وينبه الضائعينعن النهج السليم،‏ ويهديهم إلى الصراط المستقيم،‏ فيقول:‏‏))إن هذا الفقير الذي أنفت أن تكون مثله في تواضعه وتقواه وصفاته الحميدة التي لمتتبدّ‏ لك لقصر نظرتك خير من ملء األرض مثل ذلك الرجل الذي أخذ عليك لبّكفأعماك عن الحقيقة((.‏فاإلنسان يحكم بعين بصيرته على األمور ال بعين بصره.‏رياض الصالحين:‏ باب فضل ضعفة المسلمينالحديث/‏‎181‎‏/‏ رواه البخاري22


أنت أخي في هللاكانت المعركة بين المسلمين والكافرين ال تهدأ،‏ فهؤالء يدعون إلى هللا سبحانه وتعالى،‏وأولئك يرفضون هذه الدعوة الكريمة،‏ ألنها تمس مصالحهم،‏ وتعيد ما اغتصبوه إلىأهل الحق.‏ففي مكة،‏ قبل الهجرة كانت كل قبيلة تعذب من آمن من أبنائها ومواليها،‏ وتنكل بهموتحرض القبائل األخرى على إيذاء المسلمين من أبنائها،‏ أما رؤوس الشرك فقد كانواشياطين اإلنس،‏ تؤزهم على المسلمين أزاً،‏ .. أمثال ذلك:‏ أبو جهل،‏ وشيبة وعتبة ابناربيعة،‏ وعقبة بن أبي معيط،‏ واألخنس بن شريق .. فقُتل من هؤالء من قتل في بدرومات من مات بغيظهم،‏ لم ينالوا خيراً،‏ وكانت النار مأواهم.‏وحين هاجر رسول هللا صلى هللا عليه وسلم إلى المدينة ومعه المسلمون بدأ الصدامالمسلح بين الفريقين،‏ المسلمين وأعداء هللا،‏ ولما كان النصر في كفة المسلمين وضعفتتجارة المشركين،‏ لم يجدوا بداً‏ من مهادنة المسلمين والصلح معهم،‏ وهذا ما كان فيصلح الحديبية.‏فقد صارت رئاسة قريش إلى أبي سفيان بن حرب الذي أسلم بعد فتح مكة،‏ وكان تاجراً‏مرموقاً‏ يحمل أموال قريش في قوافل تجارية إلى بالد الشام،‏ وقد يمر وهو ذاهب إليهاأو عائد منها على مدينة الرسول الكريم صلى هللا عليه وسلم.‏رآه مرة في المدينة سلمان الفارسي،‏ وصهيب الرومي،‏ وبالل الحبشي في نفر.‏وما أدراك ما سلمان؟ إنه الرجل الذي كان يعيش في ترف وأبهة ورغد،‏ وأبوه صاحبنار المجوس،‏ تجبى إليه األموال ويغدق الملوك عليه الهبات والعطايا،‏ ولو كان سلمانمن أهل الدنيا لنال منها أكثر ما ينال فتى من عز وسؤدد!!‏ ولكه عاف الدنيا ومفاتنها،‏وساح في بالد هللا يبحث عن الحقيقة،‏ وعن الدين القويم،‏ فتنقل في الشام ثم الحجاز حتىوصل إلى يثرب قبل هجرة المصطفى صلى هللا عليه وسلم إليها،‏ خرج من بالده‏)فارس(‏ سيداً،‏ ووصل إلى الحجاز عبداً‏ مملوكاً،‏ فقد غشه من حمله إليها وأسرَ‏ ه وباعهكما يباع العبيد،‏ ولكنه رضي بذلك ألنه علم أنه وصل إلى منبع النور،‏ وكهف الهداية،‏ولقي فيها رسول هللا صلى هللا عليه وسلم،‏ ورفع هللا سلمان باإلسالم حتى قال عنهرسول هللا صلى هللا عليه وسلم:‏ ‏))سلمان منا آل البيت((.‏23


وصهيب!‏ وما أدراك ما صهيب؟ كان أحد الموالي في مكة يصنع الرماح والسهام،‏حداداً‏ ماهراً،‏ ونباالً‏ دقيق الرمي..‏ جمع من مهنته هذه ماالً‏ وفيراً..‏ آمن بالدعوة فيبدايتها،‏ وحين أذن هللا عزّ‏ وجل لرسوله صلى هللا عليه وسلم وللمسلمين بالهجرة أخبأماله في مكان بعيد عن العيون،‏ وترك داره وهو يعلم أن المشركين سيغتصبونها،‏ تركهاوانطلق نحو المدينة .. وحين علم به المشركون تبعوه،‏ فلما أحس بهم ارتفع على نشزمن األرض وسدد إليهم سهمه قائالً:‏ تعلمون يا معشر قريش دقة تصويبي،‏ فال أخطئأحدأً،‏ ولن تصلوا إليّ‏ حتى تنفدَ‏ سهامي وأقتل منكم بعددها..‏ كانوا يعلمون ذلك،‏ فقالوا:‏ما لنا في نفسك من أرب،‏ لكن جئتنا فقيرا معدوماً‏ فاغتنيت،‏ فأعطنا ما اكتسبته مناندعك..‏ وهذا ليس من حقهم،‏ وإنهم عادون ظالمون،‏ لقد نال هذا المال بكد يمينه،‏وعرق جبينه،‏ فعالم يتقوَّ‏ لون؟ وبم يحتجون؟ لكن الظلم ظلمات يوم القيامة .. فليأخذواالمال ما دام صاحبه ينجو منهم .. دلهم على مخبئه،‏ فتركوه..‏ وانطلقوا إلى المال..‏ قالأحدهم:‏ أصدقتموه؟!‏ فقال ثا ‏ٍن:‏ نصدّقُه،‏ إن أصحاب محمد ال يكذبون.‏ووصل صهيب إلى المدينة،‏ فاستقبله رسول هللا‏))ربح البيع أبا يحيى،‏ ربح البيع((.‏صلى هللا عليه وسلممبتسماً‏ يقول:‏وبالل!!‏ ما أدراك ما بالل؟ كان عبداً‏ ألمية بن خلف مقرباً‏ منه،‏ يعتمد عليه في تجارته،‏فبالل ذكي ألمعي،‏ حين حوى قلبه نور اإليمان،‏ وص ‏ّدق الرسول الكريم غضب منهمواله،‏ وأمره بالعودة إلى عبادة الحجر الذي ال يضر وال ينفع،‏ وأنى لمن تنَش ق عبيراإليمان أن يعود إلى عفن الضالل،‏ وكريهة الكفر؟!‏ أبى،‏ فنكل به على الرمضاء،‏وأذاقه مُ‏ ‏َّر العذاب،‏ وبالل ثابت صامد،‏ يقول:‏ ال إله إال هللا محمد رسول هللا،‏ أحد أحد،‏فرد صمد،‏ فلما مرَّ‏ به الصديق رضي هللا عنه اشتراه بماله وأعتقه،‏ فكان الفاروق عمريقول إذا رأى بالالً:‏ سيدنا أعتق سيدنا،‏ وصار مؤذنا لرسول هللا صلى هللا عليه وسلميصدق بالحق ويعلن التوحيد.‏رأى هؤالء المؤمنون أبا سفيان في المدينة فقالوا:‏ ما أخذتْ‏ سيو ‏ُف هللا من عدو هللامأخذها،‏ كانوا يودون في المعارك السابقة أن يكونوا قد قتلوه،‏ وتخلصوا من عقبة كأداءفي طريق المسلمين.‏–-سمعهم الصدِّيق رضي هللا عنه يقولون ذلك،‏ فقال لهم وهو المرهف،‏ ذو الشعورالسامي والذوق الرفيع : أتقولون هذا لشيخ قريش وسيدهم؟!‏ ولعل الصدِّيق أحس أن24


––أبا سفيان سمع مقالتهم تلك،‏ وهو في مدينتهم،‏ وفي صلحهم،‏ ورأى أن مثل هذا الكالم اليقال إال في ساحة الحرب،‏ أما في السالم فال ..وأتى الصدِّيق رسول هللا صلى هللا عليه وسلم فأخبره بما كان،‏ وقال له:‏ يا رسول هللالعلهم إذا سمعوا مني ما قلته في حق أبي سفيان من لوم وعتاب قد أغضبهم،‏ وأساءإليهم،‏ فما كان من المعلم العظيم إال أن نبه الصدِّيق على جالل قدره ومكانته عندرسول هللا صلى هللا عليه وسلم فقال:‏ ‏))يا أبا بكر،‏ لئن كنت قد أغضبتهم لقد أغضبتربك..‏ فما ينبغي أن يوبخ المسلم أخاه انتصاراً‏ للمشركين .. وهؤالء النفر عباد هللاوخالصة المؤمنين وأول من نصر الدعوة وجاهد في سبيلها((.‏فانطلق الصديق إليهم مسرعاً‏ وهم ما يزالون في مكانهم الذي تركهم فيه فقال:‏ يا إخوتاهوالمسلم أخو المسلم أغضبتكم؟ قالوا له بلسان المحب:‏ ال!‏ أيها الصديق،‏ ماأغضبتنا،‏ يغفر هللا لك!!‏لقد رباهم اإلسالم على الصفح والمغفرة والحب في هللا،‏ ورباهم على األخوة في هللا،‏نسأل هللا أن يحشرنا معهم في زمرة عباده الصالحين.‏رياض الصالحين:‏ باب مالحظة اليتيمالحديث /188/25


الصاحب الناصحقال سلمان الفارسي رضي هللا عنه:‏ ألزورَ‏ ‏َّن أخي وصاحبي أبا الدرداء ‏))عويمراً‏األنصاري((،‏ فلقد تأخرت عنه أياماً‏ وأسابيع،‏ ال أدري ما يفعل اآلن،‏ وقد آخى النبيصلى هللا عليه وسلم بيني وبينه،‏ فما ينبغي لي أن أقطع أخي أو أغيب عنه كثيراً‏ ..ثم قال:‏ ما أجمل األخوَّ‏ ة في هللا وأطي ‏َب اللقاء في حبه،‏ إنها المحبة التي ال شبهة فيها والمراء،‏ حب ال تشوبه شائبة وال يعكر صفوه مصالح الدنيا ومراميها الدنيئة.‏أنا ذاهب إليه أرجو رضا هللا وبره..‏ ألم يذهب رجل إلى قرية فيها أخ له يزوره فيها،‏فأرسل هللا تعالى على مدرجه ملكاً‏ يسأله سبب سيره إليها:‏ ‏))هل لك عليه من نعمةتربها؟((‏ فقال للملك:‏ إنما أزوره حباً‏ في هللا،‏ فقال له الملك داعياً:‏ ‏))أحبك هللا الذيأحببته ألجله((.‏اللهم إن المسلمين جميعاً‏ إخوتي وأحبتي،‏ دربهم دربي،‏ وطريقهم طريقي،‏ فاكتب لناالسعادة جميعاً‏ واكألنا بعين رعايتك الحانية يا رب العالمين.‏واستأذن للدخول إلى الدار فأجابته أم الدرداء:‏ حللت أهالً‏ ونزلت سهالً،‏ إن أخاك أباالدرداء في حاجة له وسيعود سريعاً،‏ البيت بيتك يا سلمان،‏ وقدّمت بين يديه الماء الباردوقليالً‏ من التمر..‏ ورحبت به أيما ترحيب..‏ قال لها وقد نظر إليها فرآها متبذلة،‏ قدتركت ثياب الزينة،‏ وعهده بالنساء يتجملن ألزواجهن ويتزيّن راغبات في أن تقع عيونبعولتهن على كل جميل فيهن.‏ولعلك أيها األخ القارئ تتعجب إذا نظرتُ‏ إليها وأنت تعلم أن من التقوى غض البصروعدم النظر إلى النساء؟!‏ هذا صحيح،‏ فأنت تعلم أنني كنت من هؤالء،‏ أهل العفةوالشرف،‏ وسيزول عجبك حين تعلم أن الحجاب لم يكن قد فرض على نساء المسلمينإذ ذاك،‏ وأن اآلية الكريمة في سورة النور:‏ قُلْ‏ ل لْمُؤْ‏ م ن ينَ‏ يَغُضُّوا م نْ‏ أَبْصَار ه مْ‏ لمتكن نزلت بعد،‏ وأنني وزوجَ‏ ها متآخيان،‏ ثم إن اإلسالم هذَّب نفوسنا وصقل أرواحنا فلمنعد نهتم إال بكل طهر وفضيلة،‏ وعفة ومروءة،‏ على هذا أنشأنا اإلسالم وعليه ربانا.‏––قلت لها:‏ لم يا أخية أراك معرضة عما تحبه النساء من زينة وتجمل واعتناءبالمظهر؟ ردت بحياء وخفر:‏ أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا.‏26


وكان جوابها القصير الحي ‏ُّي أبلغ من مقالة مدبجة وقصيدة مطولة،‏ فأبو الدرداء إذاً‏راغب عن الدنيا وملذاتها،‏ منصرف إلى عبادة هللا،‏ يصوم النهار ويقوم الليل..‏ هذا منحقه،‏ ولكن ال ينبغي له أن يظلم زوجته فيغمطها حقها ويحجب عنها حظها من حياتها..‏وجاء أبو الدرداء،‏ فاعتنق صاحبه سلمان وسلم عليه مرحباً‏ به منبسطة أساريره سعيداً‏بلقائه،‏ وسأله عن أحواله وطول غيابه،‏ فلما اطمأن بهما المقام كانت أم الدرداء قدصنعت لهما الطعام،‏ فقدمه زوجها لسلمان قائالً:‏ كل،‏ فإني صائم..‏قال ذلك معتقداً‏ أن األخوة تسمح أن ال يؤاكل ضيفه،‏ وأن بإمكانه أن يظل صائما،‏وعرف سلمان رغبة أخيه في الصوم،‏ لكنه كان قد أضمر أن ‏ُيع ‏ِّرفه حقوق زوجتهعليه،‏ وحقوق ضيفه عليه فقال:‏ إذا نزل الصائم على أخيه فقدم له الطعام وجب عليه أنيفطر إكراماً‏ لضائفه،‏ فما تقول في مُضيف يمتنع عن طعام قدمه لضيفه؟ .. ما أنا بآكلحتى تأكل..‏ فأكل أبو الدرداء محتسباً‏ ثوابه عند هللا تعالى،‏ فلما أديا مع المسلمين صالةالعشاء اآلخرة وأويا إلى البيت،‏ أوى سلمان إلى فراشه،‏ وقام أبو الدرداء إلى قيامه.‏فأمره سلمان أن ينام،‏ وعزم عليه أن يأوي إلى أهله،‏ ففعل أبو الدرداء ذلك ناوياً‏ أنيشكوه إلى رسول هللا صلى هللا عليه وسلم،‏ أيحق لسلمان بما له من حق األخوة والقرىأن يمنعه العبادة والصيام والقيام،‏ فلما كان من آخر الليل أيقظ سلمان أخاه أبا الدرداء،‏فصليا جميعاً‏ فلما أذن الفجر بانبال ‏ٍج وانطلقا إلى مسجد رسول هللا صلى هللا عليه وسلمقال سلمان له ناصحاً‏ ومذكراً:‏‏))إن لربك عليك حقاً((:‏ ومن حقه أن تعبده،‏ فتصوم وتقوم.‏‏))وإن لنفسك عليك حقاً((:‏ ومن حقها أن تأكل،‏ وتنام،‏ وتستريح.‏‏))وألهلك عليك حقاً((:‏ ومن حقها أن تهتم بها فتالعبها،‏ وتداعبها.‏‏))فأعط كل ذي حق حقه((:‏ وهكذا اإلسالم دين الحق والصدق والعدل.‏فلما انتهت الصالة عرض أبو الدرداء ما فعله سلمان معه وما قاله،‏ والرسول صلى هللاعليه وسلم يصغي إليه ويتابع حديثه،‏ ووجهه الوضاء يلمع،‏ وفهمه الشريف يف ‏َت ‏ُّربابتسامة تُنمي عن إعجابه بفقه سلمان،‏ ومعرفته دينه،‏ فهذه سنة المصطفى عليه الصالةوالسالم،‏ فهو يفطر ويصوم،‏ وينام ويقوم،‏ ويتزوج النساء،‏ فمن رغب عن سنته فليسمنه.‏27


إن اإلسالم دين الواقعية،‏ ودين الحياة الطبيعية،‏ وإن المنبتّ‏ ال أرضاً‏ قطع وال ظهراً‏أبقى..‏وينظر أبو الدرداء إلى رسول هللا صلى هللا عليه وسلمأفقه منك،‏ لقد أوتي سلمان علماً((.‏فيسمع منه:‏ ‏))عويمر:‏ سلمانرياض الصالحين:‏ باب االقتصاد في الطاعةالحديث /55/28


أويس القرنييا أمير المؤمنين،‏ هذا مدد من المسلمين قادم إلى المدينة من اليمن يريدون القتال فيسبيل هللا،‏ وقد جهَّزوا أنفسهم للسفر إلى العراق،‏ ليكونوا في الجند الذين استعدوا لفتحإيران وما وراء النهرين،‏ وهم ينتظرون اإلذن منك للسفر.‏قال الفاروق عمر:‏ دعهم ينتظرون قليالً‏ كي أودعهم،‏ ثم إني أريد أن أسألهم عنبن عامر.‏أويسيا أمير المؤمنين،‏ إنني لفي عجب مما تصنع،‏أويس بن عامر هذا!‏ فما شأنه يرحمك هللا.‏أفكلما جاء مدد من اليمن سألتهم عن–سترى ذلك –إن شاء هللاحين أراه وأكلمه وأعرف خبره.‏قال عبد هللا بن عمر لصاحب أبيه:‏ تلَبَّث يسيراً‏ حتى ينقضي عجبك،‏ فأميريفعل أمراً‏ إال إذا كان مهماً،‏ أو له فيه الخير والبركة.‏المؤمنين القال الرجل لعبد هللا:‏ أوتعرف أنت يا عبد هللا،‏ لمَ‏ يسأل أمير المؤمنين عن هذا الرجلكلما جاء مدد من اليمن.‏قال عبد هللا:‏ ال،‏ ولم أسأل والدي عن األمر،‏ فهو إن أراد أن يذكره لي ذكره دون أنأسأله إياه،‏ ولعلنا ندرك السبب إن رأى بغيَته وحدَّثه..‏وانطلق الثالثة إلى معسكر المسلمين من أهل اليمن خارج المدينة،‏ وسلَّم أمير المؤمنينعلى جمع المجاهدين،‏ وذكّرهم بالجهاد،‏ وحضّهم عليه وبيّنَ‏ أنه ذروة سنام اإلسالم،‏وبه يعلو شأنه،‏ ثم نادى:‏ أفيكم أويس بن عامر؟أحدهم:‏ قال -وكان شاباً‏ –لبيك يا أمير المؤمنين.‏قال عمر:‏ أأنت هو؟قال:‏ نعم يا أمير المؤمنين،‏ أنا من هتفت باسمه.‏قال عمر:‏ أانت من قبيلة مراد؟قال:‏ أجل،‏ من قبيلة مراد.‏قال عمر:‏ أمن بطن قَرَ‏ ن؟29


قال:‏ من بطن قَرَن يا أمير المؤمنين.‏قال عمر:‏ أكان بك بَرَ‏ صٌ‏ فبرأتَ‏منه إال موضع درهم؟قال:‏ قد كان بي برص فشفاني هللا منه إال موضع درهم لم يزل في جسمي يذكّرنيبفضل هللا عليّ‏ ومنّته،‏ إذ أذهب عني األذى وعافاني وجمَّلني في أعين الناس ‏،فلهالحمد والشكر على نعمائه يا أمير المؤمنين.‏قال عمر:‏ ألك والدة ال تزال حيّة ترزق وأنت بها بار ؟قال:‏ نعم،‏ أسأل هللا أن يطيل عمرها ويحسِّن عملها،‏ ويكتب لي ثواب البر بها،‏ فتحتقدميها جنتي.‏قال عمر:‏ أنت يا أويس على خير عميم وفضل عظيم.‏–قال:‏ بشَّرك هللا بالخير –واجتهدتَ‏ أن تراني؟يا أمير المؤمنينفمن دلّك عليَّ‏ وعرَّفك بي فسألتَ‏ عني،‏قال عمر:‏ سمعت رسول هللا صلى هللا عليه وسلميقول:‏‏))يأتي عليكم أويس بن عامر،‏ مع أمداد أهل اليمن،‏ من مرادٍ،‏ ثم من قَرَن،‏ كان بهبرص،‏ فبرأ منه إال موضع درهم،‏ له والدة،‏ هو بها برُّ،‏ لو أقسم على هللا ألبرَّه،‏ فإناستطعت أن يغفر لك فافعل((.‏سمع الجمع هذا الحديث،‏ فضج المكان بالتهليل والتكبير،‏ والصالة على سيدهم وحبيبهممحمد عليه الصالة والسالم.‏يا هللا،‏ ما أروع حبَّ‏ النبي الكريم أمّتَه!‏ وما أسعدهم بانتمائهم إليه!‏ إنهم يشعرونبوجوده،‏ وهو في جوار ربه،‏ ويعيشون معه بأرواحهم وقلوبهم،‏ ويرون في كل آنٍ‏ولحظةٍ‏ عظيم فضله،‏ وجالل قربه.‏قال أويس:‏ وهللا إني ألحب هللا ورسوله،‏ وأتمنى لقا ‏َءهما.‏قال عمر:‏ صدقتَ‏ يا أويس،‏ وما حدَّثنا رسول هللا صلى هللا عليه وسلم بهذا إال لعلمهبذاك وأنك من أهل هللا وخاصته،‏ وقد مدحك رسول هللا صلى هللا عليه وسلم فقال:‏ ‏))إنخير التابعين رجلٌ‏ يقال له:‏ أويس،‏ وله والدة،‏ وكان به بياض،‏ فمُروه فليستغفر لكم((.‏30


–قال أويس:‏ وكيف أستغفر لك يا أمير المؤمنين،‏ وأنت أفضل مني،‏ وصاحب رسول هللاصلى هللا عليه وسلم،‏ ومن أوائل العشرة المبشرين بالجنة.‏ أنت الصاحب،‏ وأنا التابع،‏فما استغفاري لك يرحمك هللا؟!‏قال عمر:‏ رحمك هللا يا أويس،‏ فمن يدّعي أنه خير من إخوانه؟!‏ ومن يزعم أنالمستغفر،‏ أو الداعي،‏ أفضل من المستغفَر له أو المدعوِّ‏ له؟إنني استأذنت رسول هللا في العمرة،‏ فأذن لي وقال:‏ ‏))ال تنسنا يا أخيَّ‏ من دعائك((‏فقال كلمة ما يسرُّني أن لي بها الدنيا.‏قال أويس وقد اغرورقت عيناه بالدموع لهذا الفضل العظيم الذي حباه إياه الرسولالكريم صلى هللا عليه وسلم الذي ال ينطق عن الهوى،‏ إن هو إال وحيٌ‏ يوحىفائدة دعائي يا أمير المؤمنين؟!‏-: وما––قال عمر:‏ هذا إرشاد لنا يا أويس إلى االزدياد من الخير واغتنام دعاء مَنْ‏ تُرجىإجابته،‏ وأنت مستجاب الدعوة،‏ فال تحرمنا دعاءك يا أخي.‏رفع أويس يديه إلى السماء،‏ وتوجّه بوجهه وقلبه إلى مالك الملك وملك الملوك،‏ وسكبالعبرات أمامه وتذلل أمام عتباته،‏ ونادى بلسان الحال والمقام ربّه،‏ واستغفر لعمروللمسلمين..‏يا رب،‏ يا عظيماً‏ بنفسه،‏ يا كريماً‏ بعطائه،‏ يا رحيماً‏ بخلقه،‏ إليك نشكو ضعفنا،‏ وقلّةحيلتنا،‏ وهواننا على الناس،‏ أنت رب المستضعفين،‏ وأنت ربنا لذنا بجنابك،‏ ولجأنا إلىرحابك،‏ فال ترّدنا خائبين،‏ يا رب العالمين..‏إذا كان أمير المؤمنين عمر الفاروق خليفة المسلمين الذي أذلّ‏ الروم،‏ ومرّغ رؤوسالفرس،‏ ونشر اإلسالم شرقا وغربا يحتاج إلى االستغفار ويسأل الصالحين أن يستغفرواله!،‏ فماذا يقول معشر الغثاء الذين هانوا وذلوا أمام أعدائهم،‏ وأضاعوا كرامتهم وقبلواالدنيَّة في حياتهم؟ رحماك يارب،‏ هيِّء لنا من أمرنا رشدا ..قال له عمر:‏ أين تريد؟قال أويس:‏ أريد الكوفةقال عمر:‏ أال أكتب لك إلى عاملها فيكرم وفادتك،‏ ويكفيك مؤونتك؟31


–قال أويس:‏ ألن أكون في عامة الناس أحبُّ‏ إلي من أن أكون سريَّاً‏ يشار إليه بالبنان.‏وانطلق أويس مع اليمانيين إلى الكوفة حامياً‏ للثغور،‏ مجاهداً‏ في سبيل هللا،‏ يحيا حياةالمساكين ويرضى من الدنيا لفانية بما يسُدُّ‏ الرمق،‏ فهو يريد أن يخرج منها خفيفاً،‏ ال لهوال عليه.‏ومرت سنوات على هذا اللقاء،‏ وجاء موسم الحج،‏ فوفد أهل الكوفة على عمر رضيهللا عنه،‏ وفيه رجل كان غنياً‏ موسراً،‏ يرى من أويس عزلة عن الناس،‏ ورضىً‏فكان هذا الرجل يسخر منينشغل بنفسه عن تفاهات الحياة بالكفاف من الحياة أويس ويبخسه حقّه.‏فقال عمر:‏ هل هنا أحد من القرنيين؟–قال الرجل:‏ أجل ياأمير المؤمنين،‏ أنا منهم.‏فسأل عمر عن أويس،‏ فكان ردُّ‏ الرجل ردَّ‏ مَنْ‏ يجهل مكانة الصالحين وال يأبه إالللوجهاء من الناس أصحاب المال الوافر،‏ والغنى الظاهر،‏ فأعاده عمر إلى صوابهوردَّدَ‏ على مسامعه وصفَ‏ الرسول الكريم صلوات هللا عليه ألويس،‏ وأمره إن عاد إلىالكوفة أن يلتمس استغفار أويس له..‏وعاد الرجل إلى الكوفة والتمس أويساً‏ فلقيه،‏ واعتذر إليه عما بدر منه وقال له:‏ استغفرلي يا أخي.‏قال أويس:‏ أنت أحدث عهداً‏ بسفر صالحٍ،‏ فقد رجعت من الحج وعُدتَ‏ مغفورا لك دونذنوب كيوم ولدتك أمك،‏ فأنت أحق أن تستغفر لي.‏فأبى الرجلأن يفارق أويساً‏ إال أن يستغفر له.‏قال أويس حين رأى تحوّ‏ ال في نظرة الرجل إليه:‏ ألقيت عمر أمير المؤمنين فأخبرك بماقاله النبي صلى هللا عليه وسلم؟قال الرجل:‏ نعم..‏فاستغفر أويس له،‏ ودعا له خيراً.‏وفطن الناس إلى مكانة أويس،‏ وقد جهد أن ال يفطَنوا إلى ذلك،‏ فخرج عنهم كي الينشغل بهم عن خالقه سبحانه.‏32


روى عبد هللا بن مسلم قال:‏غزونا أذربيجان زمن عمر بن الخطاب،‏ ومعنا أويس القرني،‏ فلما رجعنا مرض علينا،‏فحملناه،‏ فلم يستمسك،‏ فمات،‏ فنزلنا،‏ فإذا قبر محفور،‏ وماء مسكوب،‏ وكفنٌ‏ وحنوط،‏فغسلناه،‏ وكفنّاه وصلينا عليه،‏ ودفناه،‏ فقال بعضنا لبعض:‏ لو رجعنا،‏ فعلَّمنا قبره،‏ فإذاال قبر وال أثر.‏رياض الصالحين:‏ باب زيارة أهل الخير ومجالستهم وصحبتهم ومحبتهموطلب زيارتهم،‏ والدعاء منهم،‏ وزيارة المواضع الفاضلة33


رأس المنافقين ابن سلولبسم هللا الرحمن الرحيمهُمُ‏ الَّذ ينَ‏ يَقُولُونَ‏ الَ‏ تُنْف قُوا عَلَى مَنْ‏ ع نْدَ‏ رَ‏ سُول هللاَّ‏ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَ‏ ‏َّهلل خَ‏ زَ‏ ائ نُ‏ السَّمَاوَ‏ اتوَ‏ األْ‏ ‏َرْ‏ ض وَ‏ لَك نَّ‏ الْمُنَاف ق ينَ‏ الَ‏ يَفْقَهُونَ‏ )1( يَقُولُونَ‏ لَئ نْ‏ رَجَعْنَا إ لَى الْمَد ينَة لَيُخْ‏ ر جَ‏ نَّ‏ األْ‏ ‏َعَزُّ‏م نْهَا األْ‏ ‏َذَلَّ‏ وَ‏ ‏َّهلل الْع زَّةُ‏ وَ‏ لرَسُول ه وَ‏ ل لْمُؤْ‏ م ن ينَ‏ وَ‏ لَك نَّ‏ الْمُنَاف ق ينَ‏ الَ‏ يَعْلَمُونَ‏ )8( ‏]المنافقون]8 ،1ذكر المفسرون أنّ‏ هاتين اآليتين وما سبقهما،‏ وما تالهما،‏ نزلت في كبير المنافقين عبدهللا بن أُبي بن سلول.‏قال ابن إسحاق في حديثه عن غزوة بني المصطلق سنة ست:‏––––فبينا رسول هللا صلى هللا عليه وسلم على ماء المريسيع وردت واردة الناس ‏)سقاةالناس الذين يمألون الماء لهم(‏ ومع عمر بن الخطاب أجير له من بني غفار،‏ يقال له:‏جهجاه بن مسعود،‏ فازدحم جهجاه وسنان بن وبر الجهني حليف بني عون بن الخزرجعلى الماء فاقتتال فصرخ الجهني:‏ يا معشر األنصار،‏ وصرخ جهجاه:‏ يا معشرالمهاجرين فغضب عبد هللا بن أبي بن سلول،‏ وعنده رهط من قومه،‏ فيهم زيد بن أرقم،‏غالم حدث ‏)صغير(‏ فقال:‏ أوَ‏ قدْ‏ فعلوها؟!‏ ‏)يوغر صدور األنصار على المهاجرين(‏ قدنافرونا وكاثرونا في بالدنا.‏ وهللا ما أعدُّنا ‏)ما أحسبنا(‏ وجالبيبَ‏ قريش ‏)وهو اسم كانالمنافقون يطلقونه على أصحاب رسول هللا صلى هللا عليه وسلم من المهاجرين(‏ إال كماقال األولون:‏ سمن كلبك يأكلك!!‏ أما وهللا لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن األعز منهااألذل ‏)يقصد نفسه األعز،‏ والمسلمين من المهاجرين األذل(،‏ ‏)وهذه مقالة المنافق الذيلم يخالط اإليمان قلبه،‏ ولم تعرف األخوةُ‏ اإلسالمية طريقها إلى نفسه(،‏ ثم أقبل علىقومه فقال لهم:‏ ‏)محرضاً‏ على المسلمين(‏ هذا ما فعلتم بأنفسكم،‏ أحللتموهم بالدكم،‏وقاسمتموهم أموالكم،‏ أما وهللا لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم،‏ لتحولوا إلى غير داركم‏)وهذا ما يقوله الكافر والمنافق في حق المسلمين،‏ فقلبه مليء بالحقد عليهم،‏ وكرهمقامهم معه(.‏فسمع زيد بن أرقم،‏ فمشى به إلى رسول هللا صلى هللا عليه وسلم وذلك عند فراغرسول هللا من عدوه فأخبره الخبر ‏)وهذا ما يجب أن يفعله كل مسلم إن رأى ما يسيءإلى دينه وقيادته،‏ فكل مسلم لبنة في بناء هذا المجتمع،‏ وعين تسهر على مصلحة34


المسلمين،‏ وال يتكتّم على المغرضين ولو كانوا ذوي قربى،‏ فالمؤمنون أقوى وشيجةوأقرب صلة بعضهم ببعض من المنافقين،‏ ولو كانوا من أهلهم،‏ ولنا في إبراهيم عليهالسالم أسوة حسنة حين تبرأ من والده الكافر،‏ وأسوةٌ‏ حسنة في نوح عليه السالم حينتبرأ من ابنه الكافر،‏ فالعالقة بين المسلمين تقوم على العقيدة والدين ال على الح ‏َسبوالطين(.‏وسمع ابن الخطاب ما قاله زيد بن أرقم وكان عند رسول هللا صلى هللا عليه وسلم،‏ فقالعمر رضي هللا عنه:‏ مر به عباد بن بشر فليقتله،‏ فقال الرسول صلى هللا عليه وسلم:‏‏))فكيف يا عمر إذا تحدث الناس أن محمداً‏ يقتل أصحابه؟((‏ وهذه نظرة سديدة منرسول هللا صلى هللا عليه وسلم،‏ فهو يتحدث بنور النبوة،‏ وك ‏ُّل أعماله سديدة،‏ فهوالمعصوم عن الخطأ برعاية من ربه سبحانه،‏ وال بد أن يتكشف لبني قومه ‏)األنصار(‏نفاقه..‏ وإذ ذاك يسقط فال يدفع عنه أحد،‏ ويهوي فال يرثي له أحد..‏وأمر رسول هللا صلى هللا عليه وسلم عمر فأذن بالرحيل،‏ وذلك في ساعة لم يكنرسول هللا صلى هللا عليه وسلم يرتحل فيها،‏ وقد مشى عبد هللا بن أبي بن سلول إلىرسول هللا صلى هللا عليه وسلم حين بلغه أن زيد بن أرقم قد بلّغه ما سمعه منه،‏ فحلفباهلل ما قلتُ‏ ما قا ‏َل وال تكلمت به،‏ وكان ابن أبيّ‏ في قومه شريفاً‏ عظيماً،‏ فقال منحضر رسول هللا صلى هللا عليه وسلم من األنصار من أصحابه:‏ يا رسول هللا عسى أنيكون الغالم قد أوهم في حديثه،‏ ولم يحفظ ما قال الرجل:‏ ‏)حدباً‏ منهم على ابن سلولودفعاً‏ عنه(.‏––‏)والمنافقون هكذا دبأهم كذابون يغترون باهلل عزّ‏ وجلّ،‏ فيحلفون باهلل والعياذ باهلل منحلفان الكذب أنهم صادقون والمعروف أنهم يَحْ‏ ل فُونَ‏ ب اهللَّ‏ مَا قَالُوا وَ‏ لَقَدْ‏ قَالُوا كَل مَةَ‏الْكُفْر وَ‏ كَفَرُوا بَعْدَ‏ إ سْالَ‏ م ه مْ‎ ‏]التوبة:‏ 14[، فقد اعتادوا على المخالفة ثم الحلف،‏ وعلىالكذب ثم الحلف!!‏ يظنون أنهم بذلك ينجون!!‏ وهللا تعالى ع ‏ّراهم وفضحهم،‏ ثم انظرمعي إلى قوم ال يحترمون أنفسهم،‏ فالرجل الكريم يحرص على عدم الوقوع في الخطأ،‏وإذا أخطأ لم ينكر خطأه..‏ بل اعترف به واعتذر عنه وأصلحه،‏ والرجل الكريم الشجاعإذا رأى أمراً‏ أو قال كالماً‏ ثبت عنده إلى أن يظهر خالفه،‏ أما أن يسرع فور انكشافهيحلف كذباً‏ ليداري عن نفسه فهو جبان ال يستحق التقدير واالحترام .. والقوم قومهينظرون إليه إلى ابن سلول نظر العطف والحدب ال يريدونه صغيراً‏ في أعينالناس وال في أعينهم،‏ ولكن ما يفعلون إن كان المنافق صغيراً‏ في نفسه؟!!(.‏––––35


قال ابن إسحاق:‏ فلما استقل رسول هللا صلى هللا عليه وسلم وسار،‏ لقيه أُسيدُ‏ بن حضير‏)من سادة األوس(‏ فحياه بتحية النبوة،‏ وسلم عليه،‏ ثم قال:‏ يا نبي هللا،‏ وهللا لقد رحتَ‏ فيساعة منكرة،‏ ما كنت تروح في مثلها ‏)والرواح المسير قبل المساء(‏ فقال له رسول هللاصلى هللا عليه وسلم:‏ ‏))أو ما بلغك ما قال صاحبكم؟((‏ قال:‏ وأي صاحب يا رسول هللا؟قال:‏ ‏))عبد هللا بن أبي((‏ قال:‏ وما قال؟ قال:‏ ‏))زعم أنه إن رجع إلى المدينة أخرجاألعز منها األذل((!!‏ قال أسيد:‏ فأنت يا رسول هللا وهللا لتخرجنه منها إن شئت،‏هو وهللا الذليل وأنت العزيز،‏ ثم قال:‏ يا رسول هللا،‏ ارفق به،‏ فوهللا لقد جاءنا هللابك،‏ وإن قومه لينظمون له الخرز ليتوجوه،‏ فإنه يراك استلبت ملكه!.‏––––‏)ولئن كان ما قاله أسيد عن فعلة ابن سلول مع من استلبه ملكه غير رسول هللا صلى هللاعليه وسلم،‏ لقلنا رجل أخذ مكان رجل فهو ينفس عليه ويراه مستلباً‏ملكه،‏ ولكنه رسولهللا صلى هللا عليه وسلم،‏ ال يروم ملكاً‏ وال سيادة،‏ إنما هللا س ‏َّوده وجعله نبيا ليبلغ رسالتهإلى الناس،‏ فهو عليه الصالة والسالم ال ينفَس على أحد،‏ وال يستلب أحداً‏ ملكه.‏ إنهرسول هللا صلى هللا عليه وسلم،‏ وهل يرى المؤمن في رسول هللا شيئاً‏ إال أن يعظمهويبجله..‏ فال مجال ألن يراه ابن أُبيِّ‏ مغتصباً‏ مكانته..‏ ولكنه النفاق وسواد القلب يمنعصاحبه من التصرف السديد(.‏ثم مشى رسول هللا صلى هللا عليه وسلم بالناس يومهم ذاك حتى أمسى،‏ وليلتهم حتىأصبح،‏ وصدْ‏ ‏َر يومهم ذلك حتى آذتهم الشمس،‏ ثم نزل بالناس،‏ فلم يلبثوا أن وجدوا م ‏ّساألرض فوقعوا نياماً،‏ وإنما فعل ذلك رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ليشغل الناس عنالحديث الذي كان باألمس من حديث عبد هللا بن أبيّ.‏وهذا تصرف عظيم من قائد ملهم،‏ فالناس يكثر فيهم القيل والقال حين يتجالسونويرتاحون،‏ وقد يفلت األمر من رسول هللا صلى هللا عليه وسلم إن تنابز الناس وحملواالسالح بعضُهم في وجوه بعض،‏ فشغلهم رسول هللا صلى هللا عليه وسلم بتعب المسيروسهر الليل،‏ ومتابعة الركب،‏ شغلهم بحمل المتاع،‏ وقيادة الركوب والج ‏ِّد في ال ‏َّسرى،‏فلما تعبوا وشغلوا بأنفسهم عن إثارة المشاكل ثم المسوا األرض ناموا عميقاً‏ طويالً..‏فإذا مرت فترة طويلة عن ذاك الحديث الذي أثار حفيظة الناس وعاد الناس يفكرونبعقولهم ال بعواطفهم انطفأ الغضب وضاعت فرصة الشيطان في اإليقاع بين المسلمين،‏مهاجرهم وأنصاريّهم،‏ وتناسى الناس ما كان.‏36


قال ابن إسحاق:‏ ونزلت السورة التي ذكر هللا فيها المنافقين،‏ في ابن أبي،‏ ومن كانعلى مثل أمره،‏ أخذ رسول هللا صلى هللا عليه وسلم إذن زيد بن أرقم،‏ ثم قال:‏ ‏))هذاالذي أوفى هللا بأذنه((‏ وفي رواية:‏ إذ أتى رسول هللا صلى هللا عليه وسلم فعرك أذنيوضحك في وجهي فما كان يسرني أن لي بها الخلد في الدنيا.‏‏)مكافأة أهداها النبي صلى هللا عليه وسلم زيداً..‏ أمسكت يده الشريفة بأذن زيد رضيهللا عنه،‏ وعركها تحبباً،‏ فكانت برداً‏ وسالماً‏ على زيد إلى أن لقي ربه،‏ يفخر أن رسولهللا صلى هللا عليه وسلم داعبه،‏ وضاحكه وأثبت صدقه .. اللهم اجعلنا من الصادقينوثبت إيماننا .. اللهم اجعلنا من المؤمنين ..سئل حذيفة بن اليمان صاحب سر رسول هللا صلى هللا عليه وسلم عن المنافق فقال:‏‏))الذي يصف اإلسالم وال يعمل به،‏ وهم اليوم يظهرونه((‏ ..!! هذا ما قاله صاحبرسول هللا صلى هللا عليه وسلم عن منافقي زمانه،‏ فماذا نقول اآلن،‏ ونحن في القرنالخامس عشر الهجري؟!!‏ اللهم إليك نشكو ضعفنا وهواننا على الناس.‏ أنت ربالمستضعفين أنت ربنا .. إلى من تكلنا؟ إن لم يكن بك علينا غضب فال نبالي .. وإنناعلى خطا رسول هللا وصحابته الكرام سائرون على رغم من نافق وآذى المسلمين..(‏1قال ابن أسحاق:‏ وبلغ عبدَ‏ هللا بن عبد هللا بن أبي الذي كان من أمر أبيه ما كان،‏ فأتىالنبي صلى هللا عليه وسلم فقال:‏ يا رسول هللا،‏ إنه أبلغني أنك تريد قتل عبد هللا بن أب ‏ّي‏)يعني أباه(‏ فيما بلغك عنه،‏ فإن كنت ال بد فاعالً‏ فمرني به فأنا أحمل إليك رأسه،‏ فوهللالقد علمت الخزرج،‏ ما كان لها من رجل أبرّ‏ بوالد مني،‏ وإني أخشى أن تأمر غيريفيقتله،‏ فال تدعني نفسي أنظر إلى قاتل عبد هللا بن أبيّ‏ يمشي بين الناس،‏ فأقتلُه،‏ فأقت ‏ُلمؤمناً‏ بكافر،‏ فأدخل النار،‏ فقال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم:‏ ‏))بل نترفق به ونحسنصحبته ما بقي معنا((.‏وهذا تصرف من عبد هللا االبن يلقي ضوءاً‏ على نفسيته اإليمانية العميقة،‏ فهو يعرفأن أباه منافق كافر .. وهذا يؤلمه ويؤذيه،‏ ولكنْ‏ ال حيلة له فيه،‏ فقد نصح أباه كثيراً،‏ولكن األب ركب رأسه وأصر على كفره ونفاقه..‏ ومهما يكن فهو أبوه ال يتنصل منبنوته،‏ فاإلسالم أمر المسلم أن يحسن إلى والديه الكافرين..‏ ولكن هذا األب يؤذي أحبالناس إلى قلبه،‏ وقلب كل مؤمن .. إنه يؤذي رسول هللا صلى هللا عليه وسلم،‏ فلئن أمررسول هللا صلى هللا عليه وسلم بقتله،‏ لعبد هللا أحق بقتل أبيه!!‏ لماذا؟!!‏ وهل يرضى ابن371شرُّ‏ منهم على عهد رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ألنهم كانوا يكتمون نفاقهم وهم اليوم يظهرونه.‏


بارّ‏ بوالده أن تمس أباه شوكة؟!!‏ أفيقتله بيده؟!!‏ ولكن االبن العاقل خشي إن أمر رسولهللا صلى هللا عليه وسلم بقتله،‏ فقتله مسلم من إخوانه المسلمين،‏ ثم لعب الشيطان فيحالة ضعف في قلب عبد هللا وعقله فثأر ألبيه .. خشي أن يقتل أخاه المسلم بأبيهالكافر فيخسرَ‏ الدنيا واآلخرة .. وهو الحريص على آخرته.‏––وعلم ذو القلب الرحيم صلى هللا عليه وسلم ما يعتمل في قلب عبد هللا المسلم منعواطف متضاربة،‏ فهدّأ من روعه وقال:‏ ‏))بل نترفق به ونحسن إليه ما بقي معنا((.‏وحين يشعر االبن أن أباه غير مقتول،‏ وأن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم رأف بهرجع إلى ما قاله الرسول صلى هللا عليه وسلم:‏ ‏))ما بقي معنا((‏ فليت أباه إذن ال يعودإلى المدينة،‏ فليس للمنافق مكان بين المؤمنين..‏ والمدينة مأوى اإليمان والدين،‏ مأوىرسول هللا وصحبه ومهب ‏ُط الوحي..‏ ال مكان لألب المنافق في هذا المكان الطاهر..‏وأسرَّ‏ في نفسه أمراً‏ .. لن يبوح به،‏ وسيكون مفاجأة لوالده أوالً،‏ وللمسلمين ثانياً..‏قال ابن إسحاق:‏ لما قفل الناس راجعين إلى المدينة،‏ وقف عبد هللا بن أبي بن سلولاالبن على باب المدينة،‏ واستلَّ‏ سيفه،‏ فجعل الناس يمرون عليه،‏ فلما جاء أبوه عبد هللابن سلول قال له ابنه:‏ وراءك!‏ فقال:‏ ما لك؟ ويلك!‏ فقال:‏ وهللا ال تجوز من هاهنا حتىيأذن لك رسول هللا صلى هللا عليه وسلم،‏ فإنه العزيز وأنت الذليل،‏ فلما جاء رسول هللاصلى هللا عليه وسلم وكان يسير في مؤخرة الجيش ينظر المتخلف،‏ والضال،‏ والمحتاجإلى معونة،‏ شكا األب إليه ابنه،‏ فقال االبن،‏ وهللا يا رسول هللا ال يدخلها حتى تأذن له.‏فأذن له رسول هللا صلى هللا عليه وسلم،‏ فقال االبن:‏ أما إذ أذن لك رسول هللا صلى هللاعليه وسلم ف ‏ُجز اآلن..‏عبد هللا االبن المسلم البار يرى أن اإلسالم أولى أن يبر به المسلم،‏ فال حرمة لكافرمنافق يؤذي رسول هللا صلى هللا عليه وسلم.‏ أما ما يقول المتنطعون من أن اإلسالمقطع حبال الرحم،‏ فجرأ االبن على أبيه،‏ فهؤالء دجالون ال يعرفون من اإلسالم شيئاً..‏إن هللا أمر المسلمين بالبر بآبائهم واإلحسان إليهم ولو كانوا كافرين،‏ شرط أن ال يكونهؤالء اآلباء معاول تهدم حصون الدين والعقيدة..‏ أما وهم كذلك فال حرمة لهم،‏ فاهللأولى أن نبرّه،‏ واإلسالم أولى أن نلتزمه..‏ وأثب ‏َت عب ‏ُد هللا المسلم أنه اب ‏ٌن با ‏ٌر لإلسالموهل أعظم من أبوة اإلسالم.‏أبي اإلسالم ال أب لي سواهإذا انتسبوا لقيس أو تميم38


ولن يعود ابن أبيٍّ‏ أبداً‏ إلى مثل هذه المقولة،‏ فاألرض هلل يورثها عباده الصالحين،‏ ولمتكن يوماً‏ من األيام ملكاً‏ لبشر،‏ والعزيز فيها من يعز دين هللا،‏ والذليل فيها من يكفرباهلل،‏ ويمكر بعباد هللا.‏قال ابن إسحاق:‏ وجعل بعد ذلك إذا أحدث أبيّ‏ حدثاً‏ كان قومه هم الذين يعاتبونه،‏ويأخذونه،‏ ويعنفونه.‏ فقال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم لعمر بن الخطاب حين بلغهذلك من شأنهم:‏ ‏))كيف ترى يا عمر؟ أما وهللا لو قتلته يوم قلت لي:‏ اقتله،‏ ألرعدت‏)أغضبت(‏ له آنُفٌ‏ ‏)أشخاص(‏ لو أمرتها اليوم تقتله لقتلته((‏ قال عمر:‏ قد وهللا علمتألمرُ‏ رسول هللا صلى هللا عليه وسلم أعظم بركة من أمري.‏‏)ألم أقل إنه رسول هللا ولن يضيعه؟!‏ هذا ما قاله الصدّيق لعمر يوم الحديبية حين ظنابن الخطاب رضي هللا عنهما أن المشركين نالوا فوق ما يستحقون،‏ وأن رسول هللاصلى هللا عليه وسلم الن لهم وهم ال يستحقون ذلك..‏ فأثبتت األيام فراسة الصدّيق،‏ وأنالرسول المؤيدَ‏ يرسم هللا خطواته فال يحيد عنها وال يتعداها فيوصله إلى بر األمان وإلىواحة السعادة والهناء(.‏لكن المنافق ذا القلب األسود والنفس الخبيثة والمكر السيء عبد هللا بن أبي بن سلول لميلبث أن أطلق سهماً‏ قاتالً،‏ كاد أن يصيب من الدعوة مقتالً،‏ وم ‏ْن صاحبها مقتالً‏ ومنزوجته الحبيبة مقتالً،‏ ومن أحد أشراف أصحابه مقتالً.‏إنه حادثة اإلفك التي عاش فيها المسلمون شهراً‏ عصيباً،‏ كان درساً‏ كبيرا لهم ..والدعوة كلها دروس وعظة وعبر.‏حادثة اإلفك التي نفاها القرآن الكريم وأثبت طهر بيت النبوة في سورة النور،‏ وسوفتمر معنا تحت عنوان ‏))حديث اإلفك((.‏39


حديث اإلفكإن من شناعة الجرم وبشاعته أن يتناول المنافقون بيت النبي الكريم وعرضه الطاهرالشريف باإلفك،‏ وهو عليه الصالة والسالم أكرم إنسان على هللا،‏ وعرضَ‏ صاحبهالصدِّيق رضي هللا عنه أكرم إنسان على رسول هللا صلى هللا عليه وسلم.وعرض رجلمن الصحابة هو صفوان بن المعطل،‏ يشهد رسول هللا صلى هللا عليه وسلم أنه لميعرف عليه إال خيراً.‏هذا اإلفك الذي شغل المسلمين في المدينة شهراً‏ كامالً..‏ كان هذا ثقيالً‏ جداً‏ على رسولهللا صلى هللا عليه وسلم وعلى المسلمين..‏ هذا اإلفك الذي كاد يعصف بالمجتمع المسلم،‏لوال فضل هللا تعالى الذي أعاد إلى قلب رسول هللا صلى هللا عليه وسلم الطمأنينةوالسكينة ولجَ‏ م أفواه المنافقين ومن انجرف معهم من المسلمين الذين تابوا بعد ذلك إلىرشدهم،‏ وعرفوا عظم ما ج ‏َنوه،‏ في حق رسول هللا صلى هللا عليه وسلم وحق أهل بيتهالطاهرات..‏هذا الحادث ‏ُة..‏ حادث ‏ُة اإلفك،‏ قد كلّف ‏ْت أطهر النفوس في تاريخ البشرية كلها آالماً‏ التطاق،‏ وكلّفت األمة المسلمة كلها تجربة من أشق التجارب في تاريخها الطويل،‏ وعلَّققلب رسول هللا صلى هللا عليه وسلم،‏ وقلب زوجته التي يحبها،‏ وقلب أبي بكر الصدَّيقوزوجته،‏ وقلب صفوان بن المعطل،‏ شهراً‏ كامالً،‏ علقها بحبال الشك والقلق واأللم الذيال يطاق.‏فلندعْ‏عائشة رضي هللا عنها تروي قصة هذا األلم،‏ وتكشف عن سر هذه اآليات.‏–عن الزهري عن عروة وغيره عن عائشة –رضي هللا عنهاقالت:‏كان رسول هللا صلى هللا عليه وسلم إذا أراد سفراً‏ أقرع بين نسائه،‏ فأيتهنَّ‏ خرج سهمهاخرج بها معه؛ وإنه أقرع بيننا في غزاة فخرج سهمي،‏ فخرجت معه بعد ما أنزلالحجاب،‏ وأنا أُحمل في هودج،‏ وأنزل فيه.‏ فس رنا حتى إذا فرغ رسول هللا صلى هللاعليه وسلم من غزوته تلك،‏ وقفل راجعاً،‏ ودنونا من المدينة آذن ليلةً‏ بالرحيل،‏ فقمتحين آذنوا بالرحيل،‏ حتى جاوزت الجيش.‏ فلما قضيت من شأني أقبلت إلى الرحل،‏فلمست صدري،‏ فإذا عقد لي من جزع أظفار قد انقطع،‏ فرجعت فالتمسته،فحبسنيابتغاؤه؛ وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلونني،‏ فاحتملوا هودجي،‏ فرحلوه على بعيري،‏1401غزوة بني المصطلق في السنة الخامسة الهجرية على األرجح


وهم يحسبون أني فيه؛ وكان النساء إذ ذاك خفافاً‏ لم يثقلهن اللحم؛ وإنا نأكل العلقة منالطعام؛ فلم يستنكر القوم حين رفعوه خفة الهودج،‏ فحملوه؛ وكنتُ‏جارية حديثة السن؛فبعثوا الجمل وساروا،‏ فوجدت عقدي،‏ بعدما استمر الجيش،‏ فجئت منزلهم،‏ وليس أحدمنهم،‏ فتيممت منزلي،‏ الذي كنت فيه.‏ وظننت أنهم سيفقدونني فيرجعون إلي؛ فبينما أناجالسة غلبتني عيناي فنمت.‏وكان صفوان بن المعطل السلمي،‏ ثم الذكواني،‏ قد عرس وراء الجيش،‏ فأدلج،‏ فأصبحعند منزلي،‏ فرأى سواد إنسان نائم فأتاني فعرفني حين رآني،‏ وكان يراني قبلالحجاب،‏ فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني،‏ فخمرتُ‏ وجهي بجلبابي؛ وهللا ما يكلمنيبكلمة،‏ وال سمعت منه كلمة غير استرجاعه؛ وهوى حتى أناخ راحلته،‏ فوطئ علىيديها،‏ فركبتُها،‏ فانطلق يقود بي الراحلة،‏ حتى أتينا الجيش،‏ بعدما نزلوا معرسين.‏قالت:‏ فهلك في شأني مَن هلك.‏ وكان الذي تولى كبر اإلثم عبدَ‏ هللا بن أبي بن سلول؛فقدمنا المدينة؛ فاشتكيت بها شهراً؛ والناس يُفيضون في قول أصحاب اإلفك وال أشعر.‏وهو يَريبني في وجعي أني ال أرى من النبي صلى هللا عليه وسلم اللطف الذي كنتأرى منه حين أشتكي،‏ إنما يدخل فيسلم ثم يقول:‏ ‏))كيف تيكم؟((‏ ثم ينصرف.‏ فذلكالذي يريبني منه،‏ وال أشعر بالشر حتى نقهت،‏ فخرجت أنا وأم مسطح ق ‏َبل المناصعوهو متبرزنا-‏ وكنا ال نخرج إال ليال إلى ليل،‏ وذلك قبل أن نتخذ الكُنف،‏ وأم ‏ُرنا أم ‏ُرالعرب األول في التبرز قبَل الغائط.‏ فأقبلت أنا وأم مسطح وهي ابنة أبي رهم بنالمطلب بن عبد مناف،‏ وأمها بنت صخر بن عامر خالة أبي بكر الصديق رضي الهعنه،‏ وابنها مسطح بن أثاثة بن عبّاد بن المطلب حين فرغنا من شأننا نمشي،‏ فعثرتأم مسطح في مرطها فقالت:‏ تعس مسطح،‏ فقلت لها:‏ بئسما قلت،‏ أتسبين رجالً‏ شهدبدراً؟ فقالت:‏ يا هنتاه ألم تسمعي ما قال؟ فقلت:‏ وما قال؟ فأخبرتني بقول أهل اإلفك،‏فازددت مرضاً‏ إلى مرضي.‏ فلما رجعت إلى بيتي دخل رسول هللا صلى هللا عليه وسلمفقال:‏ ‏))كيف تيكم؟((‏ فقلت:‏ ائذن لي أن آتي أبو ‏َّي.‏ وأنا حينئذٍ‏ أريد أن أستيقن الخبَر منقبلهما.‏ فأذن لي،‏ فأتيت أبويَّ‏ ، فقلت ألمي:‏ يا أمتاه ماذا يتحدث الناس به؟ فقالت:‏ يا بنيةهوني علي نفسك الشأن،‏ فوهللا لقلما كانت امرأة قط وضيئة عند رجل يحبها ولهاضرائر إال أكثرن عليها.‏ فقلت:‏ سبحان هللا!‏ ولقد تحدث الناس بهذا؟ ثم أصبحت أبكي.‏فدعا رسول هللا صلى هللا عليه وسلم عل ‏َّي بن أبي طالب وأسامة بن زيد رضي هللاعنهما حين استلبث الوحي يستشيرهما في فراق أهله.‏ قالت:‏ فأما أسامة فأشار عليه بمايعلم من براءة أهله،‏ وبالذي يعلم في نفسه من الود لهم،‏ فقال أسامة:‏ هم أهلك يا رسولهللا،‏ وال نعلم وهللا إال خيراً،‏ وأما علي بن أبي طالب فقال:‏ يا رسول هللا لَ‏ ‏ْم يض ‏ِّيق هللا-––41


1عليك،‏ والنساء سواها كثير،‏ وسل الجارية تخبرْ‏ ك.‏ قالت:‏ فدعا رسول هللا صلى هللاعليه وسلم بريرة فقال لها:‏ أي بريرة،‏ هل رأيت فيها شيئا يريبك؟ فقالت:‏ ال والذيبعثك بالحق نبيا.‏ إ ‏ْن رأيت منها أمرا أغمصه عليها أكثر من أنها جارية حديثة السنتنام عن عجين أهلها،‏ فتأتي الداجن فتأكله.‏ قالت:‏ فقام رسول هللا صلى هللا عليه وسلممن يومه،‏ واستعذر من عبد هللا بن أبي بن سلول،‏ فقال وهو على المنبر:‏ ‏))من يعذرنيمن رجل بلغني أذاه في أهلي؟ فوهللا ما علمت على أهلي إال خيرا،‏ ولقد ذكروا رجال ماعلمت عليه إال خيرا،‏ وما كان يدخل على أهلي إالّ‏ معي((.‏ قالت:‏ فقام سعد بن معاذرضي هللا عنه فقال:‏ يا رسول هللا أنا وهللا أعذرك منه،‏ إن كان من األوس ضربناعنقه،‏ وإن كان من الخزرج أمرتنا ففع ‏ْلنا فيه أمرك،‏ فقام سعد بن عبادة رضي هللا عنه،‏وهو سيد الخزرج،‏ وكان رجالً‏ صالحاً‏ ولكن أخذته الحمية،‏ فقال لسعد بن معاذ:‏ كذبتلعمر هللا،‏ ال تقتله وال تقدر على ذلك.‏ فقام أسيد بن حضير رضي هللا عنه،‏ وهو ابن عمسعد بن معاذ،‏ فقال لسعد بن عبادة:‏ كذبت لعمر هللا لنقتلّنه،‏ فإنك منافق تجادل عنالمنافقين.‏ فثار الحيّان األوس والخزرج حتى هموا أن يقتتلوا،‏ ورسول هللا صلى هللاعليه وسلم على المنبر،‏ فلم يزل يخفضهم حتى سكتوا ونزل.‏ وبكيت يومي ذلك ال يرقألي دمع،‏ وال أكتحل بنوم،‏ ثم بكيت ليلتي المقبلة ال يرقأ لي دمع وال أكتحل بنوم،‏فأصبح أبواي عندي،‏ وقد بكيت ليلتين ويوماً،‏ أظن أن البكاء فال ‏ٌق كبدي.‏ فبينما هماجالسان عندي وأنا أبكي إذ استأذنت امرأة من األنصار،‏ فاذنتُ‏ لها،‏ فجلست تبكي معي.‏فبينما نحن كذلك إذ دخل علينا رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ثم جلس،‏ ولم يجلسعندي من يوم قيل فيّ‏ ما قيل قبلها،‏ وقد مكث شهرا ال يوحى إليه في شأني بشيء،‏فتشهد حين جلس،‏ ثم قال:‏ ‏))أما بعد فقد بلغني عنك كذا وكذا،‏ فإن كنت بريئة فسيبرئكهللا تعالى،‏ وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري هللا وتوبي إليه،‏ فإن العبد إذا اعترف بذنبهثم تاب،‏ تاب هللا تعالى عليه((.‏ فلما قضى رسول هللا صلى هللا عليه وسلم مقالته قلصدمعي حتى ما أحس منه بقطرة،‏ فقلت ألبي:‏ أجب عني رسول هللا صلى هللا عليه وسلمفيما قال،‏ قال:‏ وهللا ما أدري ما أقول لرسول هللا صلى هللا عليه وسلم،‏ فقلت ألمي:‏أجيبي عني رسول هللا صلى هللا عليه وسلم فيما قال،‏ قالت:‏ وهللا ما أدري ما أقوللرسول هللا صلى هللا عليه وسلم،‏ قالت:‏ وأنا جارية حديثة السن ال أقرأ كثيراً‏ من423421234حقق اإلمام شمس الدين أبو عبد هللا بن قيم الجوزية أن الجارية التي سئلت لم تكن هي بريرة،‏ ألن بريرة إنما كاتبت وأُعتقت قبل هذا بمدةطويلة،‏ إنما قال اإلمام علي كرَّم هللا وجهه:‏ فسل الجارية تخبرك،‏ فظن بعض الرواة أنها بريرة فسماها.‏أغمصه:‏ أعيبهالشاة في البيتفي رواية ابن إسحاق أن الذي قال هذا وذلك هو أسيد بن حضير.‏ وحقق اإلمام ابن قيم الجوزية في زاد المعاد أن سعد بن معاذ كان قدتوفي بعد غزوة بني قريظة قبل حديث اإلفك،‏ وأن الذي قال ما قيل هو أسيد بن حضير،‏ وكذلك قال اإلمام ابن حزم مستشهدا برواية عنعبيد هللا بن عبد هللا بن عتبة عن عائشة،‏ وليس فيها ذكر سعد بن معاذ.‏


القرآن،‏ فقلت:‏ إني وهللا أعلم أنكم سمعتم حديثاً‏ تحدث الناسُ‏وصدقتم به.‏به،‏ واستقر في نفوسكم،‏فلئن قلت لكم إني بريئة ال تصدقوني بذلك،‏ ولئن اعترفت لكم بأمر،‏ وهللا يعلم أني منهبريئة لتصدقُ‏ ‏َّنني،‏ فوهللا ما أجد لي ولكم مثالً‏ إال أبا يوسف إذ قال:‏ فَصَبْرٌ‏ جَم يلٌ‏ وَ‏ هللاَّ‏ ُالْمُسْتَعَانُ‏ عَلَى مَا تَص فُونَ‏ ‏]يوسف:‏ 18[ ثم تحولت فاضطجعت على فراشي،‏ وأناوهللا حينئذ أعلم أني بريئة،‏ وأن هللا تعالى مبرِّئي ببراءتي،‏ ولكن وهللا ما كنت أظن أنينزل هللا تعالى في شأني وحْ‏ ياً‏ يتلى؛ ولشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم هللا تعالىفيَّ‏ بأمر يُتلى،‏ ولكن كنت أرجو أن يرى رسول هللا صلى هللا عليه وسلم في النوم رؤيايبرئني هللا تعالى بها.‏ فوهللا ما رام مجلسه،‏ وال خرج أحد من أهل البيت،‏ حتى أنزل هللاتعالى على نبيه صلى هللا عليه وسلم،‏ فأخذه ما كان يأخذه من ال ‏ُب ‏َرحاء،‏ ف ‏ُس ‏ِّر ‏َي عنه،‏وهو يضحك،‏ فكان أول كلمة تكلم بها أن قال لي:‏ ‏))يا عائشة احمدي هللا تعالى فإنه قدبرأك((.‏ فقالت لي أمي:‏ قومي إلى رسول هللا صلى هللا عليه وسلم،‏ فقلت:‏ وهللا ال أقومإليه،‏ وال أحمد إال هللا تعالى،‏ هو الذي أنزل براءتي،‏ فأنزل هللا تعالى:‏ إ نَّ‏ الَّذ ينَ‏ جَاءُواب اإلْ‏ فْك عُصْبَةٌ‏ م نْكُمْ‏ ‏]النور:‏ 11[ ‏))العشر اآليات((.‏ فلما أنزل هللا تعالى هذا فيبراءتي،‏ قال أبو بكر الصديق رضي هللا عنه وكان ينفق على مسطح بن أثاثة لقرابتهمنه وفقره وهللا ال أنفق على مسطح شيئاً‏ أبداً‏ بعد ما قال لعائشة رضي هللا عنها.‏فأنزل هللا تعالى:‏ الزَّان يَةُ‏ وَ‏ الزَّان ي فَاجْ‏ ل دُوا كُلَّ‏ وَ‏ اح دٍ‏ م نْهُمَا م ئَ‏ ‏َة إلى قوله وَ‏ هللاَّ‏ ُغَفُورٌ‏ رَح يمٌ‎ ‏]النور 22[، فقال أبو بكر رضي هللا عنه:‏ بلى وهللا ألحب أن يغفر هللالي،‏ فرجَ‏ ‏َع إلى مسطح النفقة التي كان ‏ُيجري عليه،‏ وقال:‏ وهللا ال أنزعها منه أبداً.‏ قالتعائشة رضي هللا عنها:‏ وكان رسول هللا صلى هللا عليه وسلم سأل زينب بنت جحشعن أمري،‏ فقال:‏ ‏))يا زينب!‏ ما علمت وما رأيت؟((‏ فقالت:‏ يا رسول هللا أحمي سمعيوبصري،‏ وهللا ما علمت عليها إال خيراً،‏ وهي التي كانت تساميني من أزواج النبيصلى هللا عليه وسلم،‏ فعصمها هللا تعالى بالورع،‏ قالت:‏ فطفقت أختها حمنة تحارب لها،‏فهلكت فيمن هلك من أصحاب اإلفك . 1..–..–وتعال نَعش أخي الحبيب في ظالل هذه القصة بقلم الشهيد األستاذ سيد قطب إذ يقولفي تفسير آياتها في سورة النور ما يلي:‏431قال ابن شهاب:‏ فهذا ما انتهى إلينا من أمر هؤالء الرهط،‏ أخرجه البخاري ومسلم في صحيحهما من حديث الزهري،‏ وهكذا رواه ابنإسحاق عن الزهري كذلك باختالف يسير.‏


وهكذا عاش رسول هللا صلى هللا عليه وسلم وأهل بيته،‏ وعاش أبو بكر رضي هللا عنهوأهل بيته،‏ وعاش صفوان بن المعطل،‏ وعاش المسلمون جميعاً‏ هذا الشهر كله في مثلهذا الجو الخانق،‏ وفي ظل تلك اآلالم الهائلة،‏ بسبب حديث اإلفك الذي نزلت فيه هذهاآليات.‏وإن اإلنسان ليقف متملمالً‏ أمام هذه الصورة الفظيعة لتلك اآلالم العميقة الالذعة لشأنزوجه المقربة،‏ وهي فتاة صغيرة في نحو السادسة عشرة،‏ تلك السن المليئة بالحساسيةالمرهفة،‏ والرفرفة الشفيفة.‏فها هي ذي عائشة الطيبة الطاهرة،‏ ها هي ذي في براءتها ووضاءة ضميرها،‏ ونظافةتصوراتها،‏ ها هي ذي تُرمى في أعز ما تعتز به،‏ ترمى في شرفها،‏ وهي ابنةالصدّيق،‏ الناشئة في العش الطاهر الرفيع،‏ وتُرمى في أمانتها،‏ وهي زوج محمد بن عبدهللا من ذروة بني هاشم.‏ وترمى في وفائها،‏ وهي الحبيبة المدللة القريبة من ذلك القلبالكبير .. ثم ترمى في إيمانها،‏ وهي المسلمة الناشئة في حجر اإلسالم،‏ من أول يومتفتحت عيناها فيه على الحياة،‏ وهي زوج رسول هللا صلى هللا عليه وسلم.‏ها هي ذي تُرمى،‏ وهي بريئة غارة غافلة،‏ ال تحتاط لشيء،‏ وال تتوقع شيئاً؛ فال تجد مايبرئها إال أن ترجو في جناب هللا،‏ وتترقب أن يرى رسول هللا رؤيا،‏ تبرئها مما رميتبه.‏ ولكن الوحي يتلبَّ‏ ‏ُث لحكمة يريدها هللا،‏ شهراً‏ كامالً،‏ وهي في مثل هذا العذاب.‏ويا هلل لها!!‏ وهي تفاجأ بالنبأ من أم مسطح،‏ وهي مهدودة من المرض،‏ فتعاودهاالحمى،‏ وهي تقول ألمها في أسى:‏ سبحان هللا!‏ وقد تحدث الناس بهذا؟ وفي روايةأخرى تسأل:‏ وقد علم به أبي؟ فتجيب أمها:‏ نعم!‏ فتقول:‏ ورسول هللا صلى هللا عليهوسلم؟ فتجيبها أمها كذلك:‏ نعم!‏ويا هللا!!‏ ورسول هللا صلى هللا عليه وسلم نب ‏ُّيها الذي تؤمن به،‏ ور ‏ُجلُها الذي تحبه،‏يقول لها:‏ ‏))أما بعد،‏ فإنه بلغني عنك كذا وكذا،‏ فإن كنت بريئة فسيبرئك هللا تعالى،‏ وإنكنت ألمَ‏ ‏ْمت بذنب فاستغفري هللا تعالى وتوبي إليه،‏ فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تابتاب هللا عليه((..‏ فتعلم أنه شاك فيها،‏ ال يستيقن من طهارتها،‏ وال يقضي في تهمتها.‏وربه لم يخبره بعد،‏ ولم يكشف له عن براءتها التي تعل ‏ُمها ولكن ال تملك إثباتها؛ فتمسيوتصبح وهي تهمة في ذلك القلب الكبير الذي أحبها،‏ وأحلّها في سويدائه!‏44


وها هو ذا أبو بكر الصديق في وقاره وحساسيته وطيب نفسه يلذعه األلم،‏ وهو يُرمىفي عرضه،‏ في ابنته زوج محمد صاحبه الذي يحبه ويطمئن إليه،‏ ونبيه الذي يؤمن بهويصدقه تصديق القلب المتصل،‏ ال يطلب دليالً‏ من خارجه..‏ وإذا األلم يفيض علىلسانه،‏ وهو الصابر المحتسب القويُّ‏ على األلم،‏ فيقول:‏ وهللا ما ‏ُرمينا بهذا في جاهلية،‏أفنرضى به في اإلسالم؟ وهي كلمة تحمل من المرارة ما تحمل،‏ حتى إذا قالت له ابنتهالمريضة المعذبة:‏ أجب عني رسول هللا صلى هللا عليه وسلم،‏ قال في مرارة هامدة:‏وهللا ما أدري ماذا أقول لرسول هللا صلى هللا عليه وسلم.‏وأم رومان زوج الصديق رضي هللا عنهما،‏ وهي تتماسك أمام ابنتها المفجوعة في كلشيء،‏ المريضة التي تبكي حتى تظن أن البكاء فالق كبدها:‏ يا بنية هوِّ‏ ني على نفسكالشأن،‏ فوهللا لقلما كانت امرأة قط وضيئة عند رجل يحبها ولها ضرائر إالّ‏ أكثرن عليها.. ولكن هذا التماسك يتزايل وعائشة تقول لها:‏ أجيبي رسول هللا صلى هللا عليه وسلم،‏فتقول كما قال زوجها من قبل:‏ وهللا ما أدري ما أقول لرسول هللا صلى هللا عليه وسلم!‏والرجل المسلم الطيب الطاهر المجاهد في سبيل هللا صفوان بن المعطل،‏ وهو ‏ُيرمىبخيانة نبيه في زوجه،‏ فيُرمى بذلك في إسالمه،‏ وفي أمانته،‏ وفي شرفه،‏ وفي حم ‏َّيته،‏وفي كل ما يعتز به صحابي،‏ وهو من ذلك كله بريء،‏ وهو يفاجأ باالتهام الظالم وقلبُهبريء من تصوره،‏ فيقول:‏ سبحان هللا!‏ وهللا ما كشفت كتف أنثى قط.‏ ويعلم أن حسانبن ثابت يروِّ‏ ج لهذا اإلفك عنه،‏ فال يملك نفسه أن يضربه بالسيف ضربة تكاد تودي به،‏ودافعه إلى رفع سيفه على امرئ مسلم،‏ وهو منهي عنه،‏ أن األلم قد تجاوز طاقته،‏ فلميملك زمام نفسه الجريح!.‏ثم ها هو ذا رسول هللا صلى هللا عليه وسلم وهو رسول هللا،‏ وهو في الذروة من بنيهاشم .. ها هو ذا يرمى في بيته،‏ وفي من؟ في عائشة التي حلت من قلبه في مكاناالبنة والزوج والحبيبة،‏ وها هو يُرمى في طهارة فراشه،‏ وهو الطاهر الذي تفيضمنه الطهارة،‏ وها هو ذا يُرمى في صيانة حرمته،‏ وهو القائم على الحرمات في أمته،‏وها هو ذا يرمى في حياطة ربه له،‏ وهو الرسول المعصوم من كل سوء.‏ها هو ذا صلى هللا عليه وسلم يرمى في كل شيء حين يرمى في عائشة رضي هللاعنها،‏ يرمى في كل ما يعتز به عربي،‏ وكلِّ‏ ما يعتز به نبي..‏ ها هو ذا يرمى في هذاكله؛ ويتحدث إلى الناس به في المدينة شهرا كامال،‏ فال يملك أن يضع لهذا كله حدا،‏وهللا يريد لحكمة يراها أن يدع هذا األمر شهراً‏ كامالً‏ ال يبين فيه بياناً.‏ ومحمد اإلنسان45


في هذا الموقف األليم،‏ يعاني من العار،‏ ويعاني فجيعة القلب؛ ويعاني فوق ذلك الوحشةالمؤرقة،‏ الوحشة من نور هللا الذي اعتاد أن ينير له الطريق..‏ والشكُّ‏ يعمل في قلبه معوجود القرائن،‏ والف ‏ْرية تفوح في المدينة،‏ وقلبه اإلنساني المحب لزوجه الصغيرة يتعذببالشك؛ فال يملك أن يطرد الشك،‏ ألنه في النهاية بشر،‏ ينفعل في هذا انفعاالت البشر،‏وزوج ال يطيق أن يُمس فراشه،‏ ورجل تض ‏ُخم بذرة الشك في قلبه متى استقر،‏ويصعب عليه اقتالعها دون دليل حاسم.‏وها هو ذا يثقل عليه العب ‏ُء وحده،‏ فيبعث إلى أسامة بن زيد،‏ ح ‏ِّبه القريب إلى قلبه ..ويبعث إلى علي بن أبي طالب،‏ ابن عمه وسنده،‏ يستشيرهما في خاصة أمره،‏ فأما عليفهو من عصب محمد،‏ وهو شديد الحساسية بالموقف لهذا السبب،‏ ثم هو شديدالحساسية باأللم والقلق اللذين يعتصران قلب محمد،‏ ابن عمه وكافله،‏ فهو يشير بأن هللالم يضيق عليه،‏ ويشير مع هذا بالتثبت من الجارية ليطمئن قلب رسول هللا صلى هللاعليه وسلم من الود ألهله،‏ والتعب لخاطر الفراق،‏ فيشير بما يعلمه من طهارة أمالمؤمنين،‏ وكذب المفترين االفاكين.‏ورسول هللا صلى هللا عليه وسلم في لهفة اإلنسان،‏ وفي قلق اإلنسان يستمد من حديثأسامة،‏ ومن شهادة الجارية مدداً‏ وقوة يواجه بهما القوم في المسجد،‏ فيستعذر ممن نالواعرضه،‏ ورمَوا أهله،‏ ورموا رجالً‏ من فضالء المسلمين ال يعلم أحد عليه من سوء.‏فيقع بين األوس والخزرج ما يقع من تناور،‏ وهم في مسجد رسول هللا صلى هللا عليهوسلم،‏ وفي حضرة رسول هللا صلى هللا عليه وسلم،‏ ويدل هذا على الجو الذي كانيظلل الجماعة المسلمة في هذه الفترة الغريبة،‏ وقد خُدشت قداسة القيادة،‏ ويحز هذا فينفس الرسول صلى هللا عليه وسلم،‏ والنور الذي اعتاد أن يسعفه ال ينير له الطريق!‏ فإذاهو يذهب إلى عائشة نفسها،‏ يصارحها بما يقول الناس؛ ويطلب منها هي البيان الشافيالمريح!‏وعندما تصل اآلالم إلى ذروتها على هذا النحو،‏ يتعطف عليه ربه،‏ فيتنزل القرآنُ‏ببراءة عائشة الصديقة الطاهرة؛ وبراءة بيت النبوة الطيب الرفيع؛ فيكشف المنافقينالذين حاكوا هذا اإلفك،‏ ويرسم الطريق المستقيم للجماعة المسلمة في مواجهة مثل هذاالشأن العظيم.‏ولقد قالت عائشة عن القرآن الذي تنزَّ‏ ل:‏ ‏))وأنا وهللا أعلم حينئذ أني بريئة،‏ وأن هللاتعالى مبرِّ‏ ئي ببراءتي،‏ ولكني وهللا ما كنت أظن أن ‏ُين ‏ِّزل هللا تعالى في شأني و ‏ْحياً‏46


–يتلى،‏ ولَشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم هللا فيّ‏ بأمر ‏ُيتلى،‏ ولكن كنت أرجو أنيرى رسول هللا صلى هللا عليه وسلم في النوم رؤيا يبرئني هللا تعالى بها((.‏–ولكن األمر كما يبدو من ذلك االستعراض لم يكن أمرَ‏ عائشة رضي هللا عنها،‏ والقاصراً‏ على شخصها،‏ فلقد تجاوزها إلى شخص الرسول صلى هللا عليه وسلم ووظيفتهفي الجماعة يومَها،‏ بل تجاوز إلى صلته بربه ورسالته كلها،‏ وما كان حدي ‏ُث اإلفكرمية لعائشة وحدها،‏ إنما كان رميا للعقيدة في شخص نبيها وبانيها..‏ من أجل ذلك أنزلهللا القرآن ليفصل في القضية المبتدعة،‏ ويردَّ‏ المكيدة المدبرة،‏ ويتولى المعركة الدائرةضد اإلسالم ورسول اإلسالم؛ عن الحكمة العليا وراء ذلك كله؛ وما يعلمها إال هللا:‏إ نَّ‏ الَّذ ينَ‏ جَاءُوا ب اإلْ‏م نْهُمْ‏ مَا اكْتَسَبَ‏ م نَ‏ اإلْ‏فْك عُصْبَةٌ‏ م نْكُمْ‏ الَ‏ تَحْ‏ سَبُوهُ‏ شَرّ‏ ‏ًا لَكُمْ‏ بَلْ‏ هُوَ‏ خَيْرٌ‏ لَكُمْ‏ ل كُلِّ‏ امْر ئٍ‏ثْم وَ‏ الَّذ ي تَوَ‏ لَّى ك بْرَهُ‏ م نْهُمْ‏ لَهُ‏ عَذَابٌ‏ عَظ يمٌ‏ ( ‏]النور:‏]11)11فهم ليسوا فرداً‏ وال أفراداً؛ إنما هم ‏"عصبة"‏ مجتمعة ذات هدف واحد،‏ ولم يكن عبد هللابن أبي بن سلول وحده هو الذي أطلق اإلفك،‏ إنما هو الذي تولى معظمه،‏ وهو يمثلعصبة اليهود أو المنافقين،‏ الذين عجَزوا عن حرب اإلسالم جهرة؛ فتوا ‏َروا وراء ستاراإلسالم ليكيدوا لإلسالم خفية،‏ وكان حدي ‏ُث اإلفك إحدى مكائدهم القاتلة.‏ ثم ‏ُخدع فيهاالمسلمون فخاض منهم من خاض في حديث اإلفك كحمنة بنت جحش؛ وحسان بنثابت؛ ومسطح بن أثاثة.‏ أما أصل التدبير فكان عند تلك العصبة،‏ وعلى رأسها ابنسلول،‏ الحذر الماكر،‏ الذي لم يظهر بشخصه في المعركة،‏ ولم يقل عالنية ما يؤخذ به،‏فيقاد إلى الحد،‏ إنما كان يهمس به بين مأله الذين يطمئن إليهم،‏ وال يشهدون عليه،‏وكان التدبير من المهارة والخبث بحيث أمكن أن ترجف به المدينة شهراً‏ كامالً،‏ وأنتتداوله األلسنة في أطهر بيئة وأتقاها!‏وقد بدأ السياق ببيان تلك الحقيقة ليكشف عن ضخامة الحادث،‏ وعمق جذوره،‏ وماوراءه من عصبة تكيد لإلسالم والمسلمين،‏ هذا الكيد الدقيق العظيم اللئيم.‏ثم سارع بتطمين المسلمين من عاقبة هذا الكيد:‏ ‏]النور:‏الَ‏ تَحْ‏ سَبُوهُ‏ شَرّ‏ ‏ًا لَكُمْ‏ بَلْ‏ هُوَ‏ خَيْرٌ‏ لَكُمْ‏]11خير .. فهو يكشف عن الكائدين لإلسالم في شخص رسول هللا صلى هللا عليه وسلموأهل بيته،‏ وهو يكشف للجماعة المسلمة عن ضرورة تحريم القذف،‏ وأخذ القاذفينبالحد الذي فرضه هللا؛ ويبيّن مدى األخطار التي تحيق بالجماعة لو أطلقت فيها األلسنة47


تقذف المحصنات الغافالت المؤمنات،‏ فهي عندئذ ال تقف عند حد،‏ إنما تمضي صعداً‏إلى أشرف المقامات،‏ وتتطاول إلى أعلى الهامات،‏ وتعدم الجماعة كل وقاية وكلتحرج وكل حياء.‏وهو خير أن يكشف هللا للجماعة المسلمة بهذه المناسبة عن المنهج القويم في مواجهةمثل هذا األمر العظيم.‏أما اآلالم التي عاناها رسول هللا صلى هللا عليه وسلم وأه ‏ُلكلها،‏ فهي ثمن تجربة،‏ وضريبة االبتالء،‏ الواجبة األداء!.‏بيته والجماعة المسلمةأما الذين خاضوا في اإلفك،‏ فلكل منهم بقدر نصيبه من تلك الخطيئة:‏ ل كُلِّ‏ امْر ئٍ‏ م نْهُمْ‏مَا اكْتَسَبَ‏ م نَ‏ اإلْ‏ ثْم ‏]النور :11[، ولكل منهم نصيبه من سوء العاقبة عند هللا.‏ مااكتسبوا،‏ فهو إثم يعاقبون عليه في حياتهم الدنيا وحياتهم األخرى:‏ وَ‏ الَّذ ي تَوَ‏ لَّى ك بْرَ‏ هُ‏م نْهُمْ‏ لَهُ‏ عَذَابٌ‏ عَظ يمٌ‏ ‏]النور:‏ 11[، يناسب نصيبه من ذلك الجرم العظيم.‏48والذي تولى كبره،‏ وقاد حملته،‏ واضطلع منه بالنصيب األوفى،‏ كان هو عبد هللا بن أبيبن سلول،‏ رأس النفاق،‏ وحامل لواء الكيد.‏ وقد عرف كيف يختار مقتالً،‏ لوال أن هللاكان من ورائه محيطاً،‏ وكان لدينه حافظاً،‏ ولرسوله عاصماً،‏ وللجماعة المسلمة راعياً..‏ولقد روي أنه لما مرَّ‏ صفوان بن المعطل بهودج أم المؤمنين وابن سلول في مأل منقومه قال:‏ مَن هذه؟ فقالوا:‏ عائشة رضي هللا عنها .. فقال:‏ وهللا ما نجت منه وال نجامنها،‏ وقال:‏ امرأة نبيكم باتت مع رجل حتى أصبحت،‏ ثم جاء يقودها!.‏وهي قولة خبيثة راح يذيعها عن طريق عصبة النفاق بوسائل ملتوية،‏ بلغ من خبثها أنتموج المدينة من الفرية التي ال تصدق،‏ والتي تكذبها القرائن كلها،‏ وأن تلوكها ألسنةالمسلمين غير متحرجين،‏ وأن تصبح موضوع أحاديثهم شهراً‏ كامالً،‏ وهي الفريةالجديرة بأن تنفى وتستبعد للوهلة األولى.‏وإن اإلنسان ليدهش حتى اليوم كيف أمكن أن تَروج فري ‏ٌة ساقطة كهذه في جو الجماعةالمسلمة حين ذاك،‏ وأن ‏ُتحدث هذه اآلثا ‏َر الخضمة في جسم الجماعة،‏ وتسبب هذه اآلالمالقاسية ألطهر النفوس وأكبرها على اإلطالق.‏لقد كانت معركة خاضها رسول هللا صلى هللا عليه وسلم وخاضتها الجماعة المسلمةيومذاك،‏ وخاضها اإلسالم،‏ معركة ضخمة لعلها أضخم المعارك التي خاضها رسولهللا صلى هللا عليه وسلم وخرج منها منتصراً‏ كاظماً‏ آلالمه الكبار،‏ محتفظاً‏ بوقار نفسه


وعظمة قلبه وجميل صبره،‏ فلم تؤثَ‏ ‏ْر عنه كلمة واحدة تدل على نفاد صبره وضعفاحتماله،‏ واآلالم التي مرت به في حياته،‏ والخطر على اإلسالم من تلك الفرية من أشداألخطار التي تعرض لها تاريخه.‏ولو استشار ك ‏ُّل مسلم قل ‏َبه يومه ألفتاه؛ ولو عاد إلى منطق الفطرة لهداه،‏ والقرآن الكريميوجه المسلمين إلى هذا النهج في مواجهة األمور،‏ بوصفه أول خطوة في الحكم عليها:‏لَوْ‏ الَ‏ إ ذْ‏ سَم عْتُمُوهُ‏ ظَنَّ‏ الْمُؤْ‏ م نُونَ‏ وَ‏ الْمُؤْ‏ م نَاتُ‏ ب أَنْفُس ه مْ‏ خَيْرًا وَ‏ قَالُوا هَذَا إ فْكٌ‏ مُب ينٌ‏ )12(‏]النور:‏]12نعم،‏ كان هذا هو األولى..‏ أن يظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا،‏ وأن يستبعدواسقوط أنفسهم في ظل هذه الحمأة..‏ وامرأة نبيهم الطاهرة وأخوهم الصحابي المجاهدهما من أنفسهم،‏ فظنُّ‏ الخير بهما أولى،‏ لكن ما ال يليق بهم،‏ ال يليق بزوج رسول هللاصلى هللا عليه وسلم،‏ وال يليق بصاحبه الذي لم يعلم عنه إال خيرا .. كذلك فعل أبوأيوب خالد بن زيد األنصاري وامرأته رضي هللا عنهما،‏ كما روى اإلمام محمد بنإسحاق:‏ أن أبا أيوب قالت له امرأته أم أيوب:‏ يا أبا أيوب أتسمع ما يقول الناس فيعائشة رضي هللا عنها؟ قال:‏ نعم،‏ وذلك الكذب،‏ أكنت فاعلة ذلك يا أم أيوب؟ قالت:‏ الوهللا ما كنت ألفعله.‏ قال:‏ فعائشة وهللا خير منك ..ونقل اإلمام محمود بن عمر الزمخشري في تفسيره:‏ ‏"الكشاف"‏ أن أبا أيوب األنصاريقال ألم أيوب:‏ أال ترين ما يقال؟ فقالت:‏ لو كنت بدل صفوان أكنت تظن بحرمة رسولهللا صلى هللا عليه وسلم سوءاً؟ قال:‏ ال،‏ قالت:‏ ولو كنت أنا بدل عائشة رضي هللا عنهاما خنت رسول هللا صلى هللا عليه وسلم،‏ فعائشة خير مني،‏ وصفوا ‏ٌن خير منك..‏وكلتا الروايتين تدالن على أن بعض المسلمين رجع إلى نفسه واستفتى قلبه،‏ فاستبعد أنيقع ما نسب إلى عائشة،‏ وما نسب إلى رجل من المسلمين:‏ من معصية هلل وخيانةلرسوله صلى هللا عليه وسلم،‏ وارتكاس في حمأة الفاحشة،‏ لمجرد شبهة ال تقفللمناقشة!‏هذه هي الخطوة األولى في المنهج الذي يفرضه القرآن لمواجهة األمور،‏ خطوة الدليلالباطني الوجداني.‏لَوْ‏ الَ‏ جَاءُوا عَلَيْهفأما الخطوة الثانية فهي طلب الدليل الخارجي والبرهان الواقعي:‏ ‏]النور:‏ب أَرْ‏ بَعَة شُهَدَاءَ‏ فَإ ذْ‏ لَمْ‏ يَأْتُوا ب الشُّهَدَاء فَأُولَئ كَ‏ ع نْدَ‏ هللاَّ‏ هُمُ‏ الْكَاذ بُونَ‏ )13( ،]1349


وهذه الفرية الضخمة التي تتناول أعلى المقامات،‏ وأطهرَ‏ األعراض،‏ ما كان ينبغي أنتمر هكذا سهلة هينة،‏ وأن تشيع هكذا دون تثبت وال ب ‏ِّينة؛ وأن تتقاذفها األلسنة وتلو ‏َكهااألفواه دون شاهد وال دليل:‏ لَوْ‏ الَ‏ جَاءُوا عَلَيْه ب أَرْ‏ بَعَة شُهَدَاءَ‏ ! وهم لم يفعلوا،‏ فهمكاذبون إذن،‏ كاذبون عند هللا الذي ال يبدَّل القو ‏ُل لديه،‏ والذي ال يتغير حكمه،‏ وال يتبدلقراره،‏ فهي الوصمة الثابتة الصادقة الدائمة التي ال براءة لهم منها،‏ وال نجاة لهم منعقابها.‏هاتان الخطوتان:‏ خطوة عرض األمر على القلب واستفتاء الضمير،‏ وخطوة التثبتبالبينة والدليل..‏ غفَل عنهما المؤمنون في حادث اإلفك،‏ وتركوا الخائضين يخوضونفي عرض رسول اله صلى هللا عليه وسلم وهو أمر عظيم،‏ لوال لطف هللا لَ‏ ‏َم ‏َّسالجماعة كلها البالءُ‏ العظيم،‏ فاهلل يحذرهم أن يعودوا لمثله أبدا بعد هذا الدرس األليم:‏لَوْ‏ الَ‏ جَاءُوا عَلَيْه ب أَرْ‏ بَعَة شُهَدَاءَ‏ فَإ ذْ‏ لَمْ‏ يَأْتُوا ب الشُّهَدَاء فَأُولَئ كَ‏ ع نْدَ‏ هللاَّ‏ هُمُ‏ الْكَاذ بُونَ‏ )13(‏]النور:‏.]13لقد احتسبها هللا للجماعة المسلمة الناشئة درساً‏ قاسياً،‏ فأدركهم بفضله ورحمته ولميمسهم بعقابه وعذابه،‏ فهي فعلة تستحق العذاب العظيم،‏ الذي يتناسب مع العذاب الذيسبَّبوه للرسول صلى هللا عليه وسلم وزوجه وصديقه وصاحبه الذي ال يعلم عنه إالخيراً،‏ والعذاب الذي يتناسب مع الشر الذي ذاع في الجماعة المسلمة وشاع،‏ ومس كلالمقدسات التي تقوم عليها حياة الجامعة،‏ والعذاب الذي يناسب خبث الكيد الذي كادتهعصبة المنافقين للعقيدة لتقتلعها من جذورها حين تُزلزل ثقة المؤمنين بربهم ونبيهموأنفسهم طوال شهر كامل،‏ حافلٍ‏ بالقلق والقلقلة وال ‏َحيرة بال يقين!‏ ولك ‏َّن فضل هللاتدارك الجماعة الناشئة،‏ ورحمتَه شملت المخطئين،‏ بعد الدرس األليم.‏والقرآن يرسم صورة لتلك الفترة التي أفلت فيها الزمام؛ واختلت فيها المقايسس،‏واضطربت فيه القيم،‏ وضاعت فيها األصول:‏ إ ذْ‏ تَلَقَّوْ‏ نَهُ‏ ب أَلْس نَت كُمْ‏ وَ‏ تَقُولُونَ‏ ب أَفْوَ‏ اه كُمْ‏ مَالَيْسَ‏ لَكُمْ‏ ب ه ع لْمٌ‏ وَ‏ تَحْ‏ سَبُونَهُ‏ هَيِّنًا وَ‏ هُوَ‏ ع نْدَ‏ هللاَّ‏ عَظ يمٌ‏ )15( ‏]النور:‏ 15[، وهي صورةفيها الخفة واالستهتار وقلة التحرج،‏ وتتناول أعظم األمور وأخطرها بال مباالة والاهتمام:‏ إ ذْ‏ تَلَقَّوْ‏ نَهُ‏ ب أَلْس نَت كُمْ‏ لسان يتلقى عن لسان،‏ بال تدبر وال فحص وال إمعاننظر،‏ حتى لكأن القول ال يمر على اآلذان،‏ وال تتمأله الرؤوس،‏ وال تتدبره القلوب!‏وَ‏ تَقُولُونَ‏ ب أَفْوَ‏ اه كُمْ‏ مَا لَيْسَ‏ لَكُمْ‏ ب ه ع لْمٌ‏ .. بأفواهكم ال بوَ‏ عيكم وال بقلبكم،‏ إنما هيكلمات تقذف بها أفواه،‏ قبل أن تستقر في المدارك،‏ وقبل أن تتلقاه العقول..‏ وَ‏ تَحْ‏ سَبُونَهُ‏50


‏ُلهَيِّنًا أن تقذفوا عرض رسول هللا صلى هللا عليه وسلم،‏ وت ‏َدعوا األلم يعتصر قلبهوقلب زوجه وأهله؛ وأن تلوِّ‏ ثوا بيت الصديق الذي لم ‏ُي ‏ْر ‏َم في الجاهلية،‏ وأن تتهمواصحابيا مجاهدا في سبيل هللا،‏ وأن تمسوا عصمة رسول هللا صلى هللا عليه وسلموصلته بربه،‏ ورعاية هللا له .. وَ‏ تَحْ‏ سَبُونَهُ‏ هَيِّنًا وَ‏ هُوَ‏ ع نْدَ‏ هللاَّ‏ عَظ يمٌ‏يعظم عند هللا إال الجليلُ‏ الضخم الذي ‏َتزل ‏َز له الرواسي،‏ وتضج منه األرض والسماء.‏.. وما..ولقد كان ينبغي أن تجفل القلوب من مجرد سماعه،‏ من مجرد النطق به،‏ وأن تنكر أنيكون هذا موضعاً‏ للحديث؛ وأن تتوجه إلى هللا تنزهه عن أن يدع نبيه لمثل هذا،‏ وأنتقذف بهذا اإلفك بعيداً‏ عن ذلك الجو الطاهر الكريم:‏ وَ‏ لَوْ‏ الَ‏ إ ذْ‏ سَم عْتُمُوهُ‏ قُلْتُمْ‏ مَا يَكُونُ‏لَنَا أَنْ‏ نَتَكَلَّمَ‏ ب هَذَا سُبْحَانَكَ‏ هَذَا بُهْتَانٌ‏ عَظ يمٌ‏ ‏]النور:‏.]16ُُُُوعندما تصل هذه اللمسة إلى أعماق القلوب فتهزُّها هزاً؛ وهي تطلعها على ضخامة ماجنت وبشاعة ما عملت .. عندئذٍ‏ يجيء التحذير من العودة إلى مثل هذا األمر العظيم:‏ فييَع ظُكُمَ‏ ‏]النور:‏ يَع ظُكُمَ‏ هللاَّ‏ أَنْ‏ تَعُودُوا ل م ثْل ه أَبَدًا إ نْ‏ كُنْتُمْ‏ مُؤْ‏ م ن ينَ‏ )11( أسلوب التربية المؤثر،‏ في أنسب الظروف للسمع والطاعة واالعتبار،‏ مع تضمين اللفظيَع ظُكُمَ‏ هللاَّ‏ أَنْ‏ تَعُودُوا ل م ثْل ه أَبَدًامعنى التحذير من العودة إلى مثل ما كان،‏ إ نْ‏ كُنْتُمْ‏ مُؤْ‏ م ن ي ‏َن ، فالمؤمنون ال يمكن أنتعليق إيمانهم على االنتفاع بتلك العظة:‏ يكشف لهم عن بشاعة عمل كهذا الكشف،‏ وأن يحذروا منه مثل هذا التحذير،‏ ثم يعودواعلى مثال ما بين في حديث اإلفك،‏ وكشفوَ‏ يُبَيِّنُ‏ هللاَّ‏ لَكُمُ‏ اآلْ‏ ‏َيَات إليه وهم مؤمنون،‏ يعلم البواعثوَ‏ هللاَّ‏ عَل يمٌ‏ حَك يمٌ‏ عما وراءه من كيد؛ وما وقع فيه من خطايا وأخطاء،‏ والنوايا والغايات واألهداف،‏ ويعلم مداخل القلوب،‏ ومسارب النفوس،‏ وهو حكيم فيعالجها،‏ وتدبير أمرها،‏ ووضْع ال ‏ُّن ‏ُظم والحدود التي تصلح بها.‏، ومع،]11ثم يمضي في التعقيب على حديث اإلفك؛ وما تخلَّ‏ ‏َف عنه من آثار؛ مكرراً‏ التحذير منمثله،‏ مذكراً‏ بفضل هللا ورحمته،‏ متوعداً‏ من يرمون المحصنات الغافالت المؤمناتبعذاب هللا في اآلخرة.‏ ذلك مع تنقية النفوس من آثار المعركة؛ وإطالقها من مالبساتاألرض،‏ وإعادة الصفاء إليها واإلشراق،‏ كما تتمثل في موقف أبي بكر رضي هللا عنهمن قريبه مسطح بن أثاثة الذي خاض في حديث اإلفك مع من خاض:‏ إ نَّ‏ الَّذ ينَ‏يُح بُّونَ‏ أَنْ‏ تَش يعَ‏ الْفَاح شَةُ‏ ف ي الَّذ ينَ‏ آَمَنُوا لَهُمْ‏ عَذَابٌ‏ أَل يمٌ‏ ف ي الدُّنْيَا وَ‏ اآلْ‏ ‏َخ رَة وَ‏ هللاَّ‏ ُ يَعْلَمُ‏ وَ‏ أَنْتُ‏ ‏ْمالَ‏ تَعْلَمُونَ‏ )15( ‏]النور:‏.]1551


َ––والذين يرمون المحصنات وبخاصة أولئك الذين تجرأوا على رمي بيت النبوة الكريمإنما يعملون على زعزعة ثقة الجماعة المؤمنة بالخير والعفة والنظافة؛ وعلى إزالةالتحرج من ارتكاب الفاحشة،‏ وذلك عن طريق اإليحاء بأن الفاحشة شائعة فيها،‏ بذلكتشيع الفاحشة في النفوس،‏ لتشيع بعد ذلك في الواقع.‏من أجل هذا وصف الذين يرمون المحصنات بأنهم يحبون أن تشيع الفاحشة في الذينآمنوا،‏ وتوعدهم بالعذاب األليم في الدنيا واآلخرة.‏وذلك جانبٌ‏ من منهج التربية،‏ وإجرا ‏ٌء من إجراءات الوقاية،‏ يقوم على خبر ‏ٍة بالنفسالبشرية،‏ ومعرفة بطريقة تُك ‏ِّي ‏ُف مشاعرها واتجاهاتها،‏ ومن ثم يعقب بقوله:‏ وَ‏ هللاَّ‏ ُ يَعْلَمُ‏وَ‏ أَنْتُمْ‏ الَ‏ تَعْلَمُونَ‏ ، ومن ذا الذي يعلم أمر هذه النفس إال الذي خلقها؟ ومن ذا الذي يدبرأمر هذه اإلنسانية إال الذي برأها؟ ومن ذا الذي يرى الظاهر والباطن،‏ وال يخفى علىعلمه شيء إال العليم الخبير؟ومرة أخرى يذكر المؤمنين بفضل هللا عليه ورحمته:‏ َ رَ‏ ءُوفٌ‏ رَ‏ ح يمٌ‏ ( ‏]النور:‏وَ‏ أَنَّ‏ هللاَّ‏وَ‏ لَوْ‏ الَ‏ فَضْ‏ لُ‏ هللاَّ‏ عَلَيْكُمْ‏ وَ‏ رَحْ‏ مَتُهُ‏.]22)22إن الحدث لعظيم،‏ وإن الخطأ لجسيم،‏ وإن الشر الكامن فيه لخليق أن يصيب الجماعةالمسلمة كلها بالسوء.‏ ولكن فضل هللا ورحمته،‏ ورأفته ورعايته،‏ ذلك ما وقاهم السوء،‏ومن ثَ‏ ‏َّم يذكرها به المرة بعد المرة؛ وهو يربيهم بهذه التجربة الضخمة التي شملت حياةالمسلمين.‏فإذا تمثلوا أن ذلك الشر العظيم كان وشيكاً‏ أن يصيبهم جميعاً،‏ لوال فضل هللا ورحمته،‏صور لهم عملهم بأنه اتباع لخطوات الشيطان،‏ وما كان لهم أن يتبعوا خطوات عدوهموعدو أبيهم من قديم،‏ وحذرهم ما يقودهم الشيطان إليه من مثل هذا الشر المستطير:‏يَا أَيُّهَا الَّذ ينَ‏ آَمَنُوا الَ‏ تَتَّب عُوا خُطُوَ‏ ات الشَّيْطَان وَ‏ مَنْ‏ يَتَّب عْ‏ خُطُوَ‏ ات الشَّيْطَان فَإ نَّهُ‏ يَأْمُ‏ ‏ُرب الْفَ‏ حْ‏ شَاء وَ‏ الْمُنْكَر وَ‏ لَوْ‏ الَ‏ فَضْلُ‏ هللاَّ‏ عَلَيْكُمْ‏ وَ‏ رَحْ‏ مَتُهُ‏ مَا زَكَا م نْكُمْ‏ م نْ‏ أَحَ‏ دٍ‏ أَبَدًا وَ‏ لَك نَّ‏ هللاَّ‏يُزَكِّي مَنْ‏ يَشَاءُ‏ وَ‏ هللاَّ‏ ُ سَم يعٌ‏ عَل يمٌ‏ )21( ‏]النور:‏.]21وإنها لصورة مستنكرة أن يخطو الشيطان فيتبعَ‏ المؤمنون ‏ُخطاه،‏ وهم أجدر الناس أنينفروا من الشيطان وأن يسلكوا طريقاً‏ غير طريقه المشؤوم!‏ صورة مستنكرة ينفر منهاطبع المؤمن،‏ ويرتجف لها وجدانه،‏ ويقشعر لها خياله!‏ ورسم هذه الصورة ومواجهةالمؤمنين بها يثير في أنفسهم اليقظة والحذر والحساسية:‏ وَ‏ مَنْ‏ يَتَّب عْ‏ خُطُوَ‏ ات الشَّيْطَان52


فَإ نَّهُ‏ يَأْمُرُ‏ ب الْفَحْ‏ شَاء وَ‏ الْمُنْكَر ، وحديث اإلفك نموذج منالمؤمنين الذين خاضوا فيه،‏ وهو نموذج منفر شنيع.‏هذا المنكر الذي قاد إليهوإن اإلنسان لضعيف،‏ مُع ‏َّرض للنزعات،‏ عرضة للتلوث،‏ إال أن يدركه فض ‏ُل هللاورحمته،‏ حين يتجه إلى هللا،‏ ويسير على نهجه:‏ يَا أَيُّهَا الَّذ ينَ‏ آَمَنُوا الَ‏ تَتَّب عُوا خُطُوَ‏ اتالشَّيْطَان وَ‏ مَنْ‏ يَتَّب عْ‏ خُطُوَ‏ ات الشَّيْطَان فَإ نَّهُ‏ يَأْمُرُ‏ ب الْفَحْ‏ شَاء وَ‏ الْمُنْكَر وَ‏ لَوْ‏ الَ‏ فَضْلُ‏ هللاَّ‏ عَلَيْكُ‏ ‏ْمَ يُزَكِّي مَنْ‏ يَشَاءُ‏ وَ‏ هللاَّ‏ ُ سَم يعٌ‏ عَل يمٌ‏ (وَ‏ رَحْ‏ مَتُهُ‏ مَا زَكَا م نْكُمْ‏ م نْ‏ أَحَدٍ‏ أَبَ‏ دًا وَ‏ لَك نَّ‏ هللاَّ‏‏]النور:‏)21. .]21–فنور هللا الذي يشرق في القلب يُط ‏ِّهره ويزكيه،‏ ولوال فضل هللا ورحمته لم يز ‏ُك من أحدولم يتطهر،‏ وهللا يسمع ويعلم،‏ فيزكي من يستحق التزكية،‏ ويطهر من يعلم فيه الخيرواالستعداد وَ‏ هللاَّ‏ ُ سَم يعٌ‏ عَل يمٌ‏وعلى ذكر الدعوة والطهارة تجيء الدعوة إلى الصفح والمغفرة بين بعض المؤمنينوبعض كما يرجون غفرانَ‏ هللا لما يرتكبونه من أخطا ‏ٍء وذنوب وَ‏ الَ‏ يَأْتَل أُولُوالْفَضْل م نْكُمْ‏ وَ‏ السَّعَة أَنْ‏ يُؤْ‏ تُوا أُول ي الْقُرْ‏ بَى وَ‏ الْمَسَاك ينَ‏ وَ‏ الْمُهَاج ر ينَ‏ ف ي سَب يل هللاَّ‏ وَ‏ لْيَعْ‏ فُواوَ‏ لْيَصْفَحُوا أَالَ‏ تُح بُّونَ‏ أَنْ‏ يَغْف رَ‏ هللاَّ‏ ُ لَكُمْ‏ وَ‏ هللاَّ‏ ُ غَفُورٌ‏ رَح يمٌ‏ )22( ‏]النور:‏.]22:-نزلت في أبي بكر رضي هللا عنه بعد نزول القرآن ببراءة الصديقة،‏ وقد عرف أنمسطح بن أثاثة كان ممن خاضوا فيه؛ قريبَه،‏ وهو من فقراء المهاجرين،‏ وكان أبو بكرينفق عليه،‏ فآلى على نفسه ال ينفع مسطحاً‏ بنافعة أبداً.‏نزلت هذه اآلية تذكِّر أبا بكر،‏ وتذكر المؤمنين،‏ بأنهم ‏ُيخطؤون ثم يحبون من هللا أنيغفر لهم،‏ فليأخذوا أنفسهم بعضَهم مع بعض بهذا الذي يحبونه،‏ وال يحلفوا أن يمنعواالبِّ‏ ‏َّرعن مستحقيه،‏ إن كانوا قد أخطأوا وأساءوا.‏وهنا نطَّلعُ‏ على أفق عال من آفاق النفوس الزكية،‏ التي تطهرت بنور هللا،‏ أف ‏ٍق يشرقفي نفس أبي بكر الصديق رضي هللا عنه،‏ أبي بكر الذي مسّه حديث اإلفك في أعماققلبه،‏ والذي احتمل مرارة االتهام لبيته وعرضه،‏ فما كاد يسمع دعوة ربه إلى العفو؛وما يكاد يلمس وجدانه ذلك السؤال الموحي:‏ أَالَ‏ تُح بُّونَ‏ أَنْ‏ يَغْف رَ‏ هللاَّ‏ ُ لَكُمْ‏ حتى يرتفععلى اآلالم،‏ ويرتفع على مشاعر اإلنسان،‏ ويرتفع على مناطق البيئة،‏ وحتى تش ‏َّفروحه وترف وتشرق بنور هللا،‏ في طمأنينة وصدق يقول:‏ بلى وهللا إني أحب أن يغفر53


هللا لي.‏ ويعيد إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه،‏ ويحلف:‏ وهللا ال أنزعها منه أبدا،‏ذلك في مقابل ما حلف:‏ وهللا ال أنفعه بنافعة أبداً.‏بذلك يمسح هللا على آالم ذلك القلب الكبير،‏ ويغسله من أوضار المعركة،‏ ليبقى أبداً‏نظيفاً‏ طاهراً‏ زكياً‏ مشرقاً‏ بالنور.‏ذلك الغفران الذي يُذكر هللا المؤمنين به،‏ إنما هو ل ‏َمن تاب عن خطيئة ر ‏ْمي المحصناتوإشاعة الفاحشة في الذين آمنوا،‏ فأما الذين يرمون المحصنات عن خبث وعن إصرار،‏كأمثال ابن أبيّ‏ فال سماحة وال عفو،‏ ولو أفلتوا من الحد في الدنيا،‏ ألن الشهود لميشهدوا،‏ فإن عذاب هللا ينتظرهم في اآلخرة،‏ ويومذاك لن يحتاج األمر إلى شهود:‏ إ نَّ‏الَّذ ينَ‏ يَرْ‏ مُونَ‏ الْمُحْ‏ صَنَات الْغَاف الَ‏ ت الْمُؤْ‏ م نَات لُع نُوا ف ي الدُّنْيَا وَ‏ اآلْ‏ ‏َخ رَة وَ‏ لَهُمْ‏ عَذَابٌ‏ عَظ ي ‏ٌم)23( يَوْ‏ مَ‏ تَشْهَدُ‏ عَلَيْه مْ‏ أَلْس نَتُهُمْ‏ وَ‏ أَيْد يه مْ‏ وَ‏ أَرْ‏ جُلُهُمْ‏ ب مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ‏ )24( يَوْ‏ مَئ ذٍ‏ يُوَ‏ فِّيه مُ‏َ هُوَ‏ الْحَقُّ‏ الْمُب ينُ‏ ( ‏]النور:‏د ينَهُمُ‏ الْحَقَّ‏ وَ‏ يَعْلَمُونَ‏ أَنَّ‏ هللاَّ‏]25 –23)25هللاَّ‏ ُويجسِّم التعبي ‏ُر جريمة هؤالء ويب ‏ِّش ‏ُعها؛ وهو يصورها رمياً‏ للمحصنات المؤمنات،‏ وهنغافالت غارّات،‏ غير آخذات حذرهن من الرمْية،‏ وهن بريئات الطوايا مطمئنات اليحذرن شيئاً،‏ ألنهم لم يأتين شيئاً‏ يحذرنه!‏ فهي جريمة تتمثل فيها البشاعة كما تتمثلفيها الخسة،‏ ومن ثم يعاجل مقترفيها باللعنة.‏ لعنة هللا عليهم،‏ وطردهم من رحمته فيالدنيا واآلخرة،‏ ثم يرسم ذلك المشهد األخاذ:‏ يَوْ‏ مَ‏ تَشْهَدُ‏ عَلَيْه مْ‏ أَلْس نَتُهُمْ‏ وَ‏ أَيْد يه مْ‏ وَ‏ أَرْ‏ جُلُهُ‏ ‏ْم، فإذا بعضهم يتهم بعضاً‏ بالحق،‏ إذ كانوا يتهمون المحصنات الغافالت المؤمناتباإلفك!‏ وهي مقابلة في المشهد مؤثرة،‏ على طريقة التناسق الفني في التصوير القرآني.‏يَوْ‏ مَئ ذٍ‏ يُوَ‏ فِّيه مُ‏ هللاَّ‏ ُ د ينَهُمُ‏ الْحَقَّ‏يستيقنون مما كانوا يستريبون، ويجزيهم العدل،‏ ويؤدي لهم حسابهمَ هُوَ‏ الْحَقُّ‏ الْمُب ينُ‏وَ‏ يَعْلَمُونَ‏ أَنَّ‏ هللاَّ‏الدقيق،‏ ويومئذ.ويختم الحديث عن حادثة اإلفك ببيان عدل هللا في اختياره الذي ركَّبه في الفطرة،‏ وحققهفي واقع الناس،‏ وهو أن تلتئم النفس الخبيثة بالنفس الخبيثة،‏ وأن تمتزج النفس الطيبةبالنفس الطيبة،‏ وعلى هذا تقوم العالقات بين األزواج،‏ وما كان يمكن أن تكون عائشةرضي هللا عنها كما رموها،‏ وهي مقسومة ألطيب نفس على ظهر هذه األرض:‏الْخَب يثَاتُ‏ ل لْخَب يث ينَ‏ وَ‏ الْخَب يثُونَ‏ ل لْخَب يثَات وَ‏ الطَّيِّبَاتُ‏ ل لطَّيِّب ينَ‏ وَ‏ الطَّيِّبُونَ‏ ل لطَّيِّبَات أُولَئ ‏َكمُبَرَّءُونَ‏ م مَّا يَقُولُونَ‏ لَهُمْ‏ مَغْف رَةٌ‏ وَ‏ ر زْ‏ قٌ‏ كَر يمٌ‏ )26( ‏]النور:‏.]2654


ولقد أحبت نفس رسول هللا صلى هللا عليه وسلم عائشة حبا عظيما،‏ فما كان يمكن أنيحببها هللا لنبيه المعصوم،‏ إن لم تكن طاهرة،‏ هذا الحب العظيم.‏أولئك الطيبون والطيبات مُبَرَّءُونَ‏ م مَّا يَقُولُونَ‏ بفطرتهم وطبيعتهم،‏ ال يلتبس بهمشيء مما قيل:‏ لَهُمْ‏ مَغْف رَةٌ‏ وَ‏ ر زْ‏ قٌ‏ كَر يمٌ‏ ، مغفرة عما يقع مهم من أخطاء،‏ ورزقكريم،‏ داللة على كرامتهم عن ربهم الكريم.‏بذلك ينتهي حديث اإلفك:‏ ذلك الحادث الذي تعرضت فيه الجماعة المسلمة ألكبر محنة:‏إذ كانت محنةَ‏ الثقة في طهارة بيت الرسول،‏ وفي عصمة هللا لنبيه أن ال يجعل في بيتهإال العنصر الطاهر الكريم،‏ وقد جعلها هللا مَعرضا لتربية الجماعة المسلمة،‏ تش ‏ُّفوترف؛ وترتفع إلى آفاق النور في سورة النور.‏55


كيف تصنع ب"ال إله إال هللا"‏ يومالقيامة؟قال المقداد بن األسود رضي هللا عنه للرسول صلى هللا عليه وسلم:‏يا رسول هللا أرأيت إن لقيت رجالً‏ من الكفار،‏ فاقتتلنا،‏ فضرب إحدى يدي بالسيف،‏ فقطعها،‏ ثم الذمني بشجرة،‏ فقال:‏ أسلمت هلل،‏ أأقتله يا رسول هللا بعد أن قالها؟قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم:‏ ‏))ال تقتله((.‏فتعجب المقداد فهماً‏ ال استنكاراً،‏ إذ لم يَعِ‏ ماهية قتال المسلمين الكفار،‏ وأن القتال لرفع رايةاإلسالم خفّاقةً‏ عالية،‏ تحكم الدنيا فتقيمُ‏ العدل وتنصف الناس وتهديهم إلى صراط مستقيم،‏ فليسالقتال لألخذ بالثأر وال لتقديم قوم على قوم بحدّ‏ السيف،‏ وقوة الساعد.‏فقال للنبي صلى هللا عليه وسلم:‏ يارسول هللا،‏ قطع إِحدى يديّ‏ ثم نطق بالشهادة بعدما قطعها؟!‏قال النبي صلى هللا عليه وسلم:‏ ‏))ال تقتله،‏ فإن قتل ‏َته فإنه بمنزلتك قبل أن تقتله،‏ وإنك بمنزلته قبلأن يقول كلمته التي قال((.‏وجلس المقداد ساكناً‏ ال ينبِس ببنت شفة،‏ وكان عقله يضرب أخماساً‏ بأسداس،‏ يقلب الفكرة علىوجوهها،‏ فإن الرجل حين ينطق بشهادة اإلسالم،‏ صار معصوم الدم،‏ ال يجوز إهداره،‏ مسلماً‏ يحرمقتله،‏ وجاز لورثته أن يقاضوه فيطالبوا بدمه،‏ بل إن المقداد يأثم إذا قتله بعد إسالمه،‏ ولكنه قدينطق بالشهادة خوفاً‏ على نفسه فهو مؤمن ظاهراً،‏ كافر باطناً،‏ لكن اإلسالم يأمرنا أن نأخذبالظاهر،‏ وهللا يتولى السرائر،‏ ولعلك حين تكون بيد واحدة يسهل عليه قتلك،‏ فهو أقدر عليك بيدواحدة منك بيدين،‏ ومع ذلك أعلن إسالمه،‏ فوجب عليك الكفّ‏ عنه،يا سبحان هللا،‏ اللهم اجعلجهادي في سبيلك وحدك،‏ وأبعد حظوظ النفس عن النوايا الخالصة،‏ يارب ..وحدث ما لم يكن في الحسبان،‏ فقد كان أسامة بن زيد في سرية أرسلها الرسول الكريم إلى مكانيدعى ‏"الحُرْ‏ قةَ"‏ لقبيلة جهينة التي أعلنت عداوتها لإلسالم ونبيه وجنده،‏ فصبّح المسلمون القوم،‏وجرى قتال تشيب لهوله الولدان،‏ كان أحد المشركين إذا قصد مسلماً‏ قتله،‏ وانطلق إلى مسلم آخرحتى أوجع في المسلمين،‏ فتصدى له أسامة ورجل من األنصار،‏ فلما رأى أنه مقتول ال محالةشهد بكلمة التوحيد،‏ فكفّ‏ عنه األنصاري،‏ وطعنه أسامة بسيفه حتى قضى عليه.‏وجاء البشير إلى رسول هللا صلى هللا عليه وسلم بنصر المسلمين وخذالن الكافرين،‏ وحدثه عنسير المعركة وقتلى المسلمين وبالء المجاهدين،‏ وذكر له قصة مقتل الرجل بيد أسامة بعد نطقهبالشهادة،‏ فلما أقبلت السرية دعا رسول هللا صلى هللا عليه وسلم وكان ابن ستة عشر ربيعاً،‏ فقالله النبي صلى هللا عليه وسلم مؤنباً:‏‏))أقال ال إله إال هللا وقتلته؟((‏56


ُقال أسامة:‏ يا رسول هللا إنما قالها خوفاً‏ من السالح.‏قال الرسول الكريم صلى هللا عليه وسلم:‏ ‏))أفال شققت على قلبه حتى تعلم أقالها أم ال؟!((.‏قال أسامة:‏ يا رسول هللا أوجع في المسلمين وقتل فالناً‏ وفالناً،‏ وسمى له نفراً‏ وإني حملت عليه،‏فلما رأى السيف قال:‏ ال إله إال هللا.‏قال الرسول الكريم صلى هللا عليه وسلم:‏ ‏))فكيف تصنع ب"ال إله إال اله"‏ يوم القيامة؟ كيفتصنع ب"ال إله إال هللا"‏ إذا جاءت يوم القيامة؟!((.‏قال أسامة:‏ يا رسول هللا!‏ استغفر لي.‏قال الرسول الكريمالقيامة؟!((.‏صلى هللا عليه وسلم:‏ ‏))وكيف تصنع ب"ال إله إال هللا"‏ إذا جاءت يوموجعل رسول هللاأسامة.‏صلى هللا عليه وسلميكرر هذه الجملة،‏ وال يزيد عليها،‏ استعظاماً‏ لما فعلهقال أسامة والموقف أمامه جليل،‏ والخطأ الذي ارتكبه جسيم:‏ تمنيت وهللا أني لم أكن أسلمت قبلذلك اليوم،‏ وخفت أن يكون قد حبط عملي.‏ال إله إال هللا:‏ ما وزنت بشيء إال رجَ‏‏َحته.‏ال إله إال هللا:‏ نور السماوات واألرض.‏ال إله إال هللا:‏ توحيد الذي فطر الكون وبرأه.‏فويل للذين يحاربون ‏"ال إله إال هللا،‏ محمد رسول هللا".‏وويل للذين يقتلون رجال أن يقول:‏ ربي هللا.‏)8(وَ‏ مَا نَقَمُوا مِنْهُ‏ ‏ْم إِ‏ ‏َال أَ‏ ‏ْن يُؤْ‏ مِنُواعَلَى كُل شَيْ‏ ‏ٍء شَهِيدالْحَمِي ‏ِد الْعَزِ‏ ي ‏ِز بِاهللَ‏ ِالسَمَاوَ‏ ا ‏ِت مُلْ‏ ‏ُك لَ‏ ‏ُه الَذِيوَ‏ هللاَ‏ وَ‏ األْ‏ ‏َرْ‏ ‏ِض )9(‏]سورة البروج[‏رياض الصالحينباب التحذير من إيذاء الصالحين والضعفة والمساكين57


بركة النبي صلى هللا عليه وسلم–انطلق جيش المسلمين بقيادة النبي صلى هللا عليه وسلم إلى تبوك وهي بلدة صغيرة تقع فيبالد الشام شمالي المدينة المنورة بسبعمائة كيلو متر للقاء جيش الروم الذي هدد باجتياحمدينة الرسول الكريم صلى هللا عليه وسلم،‏ فزرع هللا تعالى الرعب في قلوبهم لما سمعوابقدوم رسول هللا صلى هللا عليه وسلم إليها،‏ فانسحب جيشهم إلى داخل األردن خوفاً‏ من لقاءالمسلمين،‏ على الرغم من أن جيش رسول هللا صلى هللا عليه وسلم لم يتعد الثالثين ألفمجاهد،‏ وجيش الروم يشارف على مئتي ألف مقاتل،‏ وال غروَ‏ فالرسول صلى هللا عليه وسلم،‏بطل األبطال يقول:‏ ‏))ونُصرت بالرعب مسيرة شهر((.‏–كان هذا في السنة التاسعة للهجرة،‏ وزادُ‏ المسلمين قليل،‏ والطريق طويل لكن اإلسالم يجبأن ينتصر،‏ والدي ‏َن ينبغي أن تعلو شمسه،‏ ويمت ‏َّد ضياؤه،‏ ويني ‏َر ‏َجنبات األرض،‏ مشار ‏َقهاومغاربَها،‏ فاستنفر هللا تعالى المسلمين للقتال فقال:‏ انْف رُوا خ فَافًا وَ‏ ث قَا ‏ًال وَ‏ جَ‏ اه دُوا ب أَمْوَ‏ ال كُ‏ ‏ْموَ‏ أَنْفُس كُمْ‏ ف ي سَب يل ‏َّهللا ذَل كُ‏ ‏ْم خَ‏ يْ‏ ‏ٌر لَكُ‏ ‏ْم إ ‏ْن كُنْتُ‏ ‏ْم تَعْلَمُو ‏َن. )41(وأصاب الناس مجاعةٌ،‏ فقالوا:‏ يا رسول اله،‏ قلّ‏ الزاد،‏ ونحلت أجسادنا ووهنت قوانا،‏ وهذهإبلنا ما عدنا نحتاج إليها،‏ فال ميرة نرفعها عليها،‏ وال أحمال نشدها إليها،‏ فلو أذنت لنافنحرناها،‏ فأكلنا وادَّهنّا.‏كان أدباً‏ منهم أن يستأذنوا القائد في االستغناء عن خدمة الدواب التي يستعينون بها في القتال،‏فلربما رأى مصلحة في االحتفاظ بها فمنعهم ذلك،‏ لكن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم سمحلهم قائالً:‏ ‏))افعلوا((.‏سمع الفاروق عمر بن الخطاب باستئذانهم وموافقة رسول هللا صلى هللا عليه وسلم إياهم،‏فجاء إلى رسول هللا صلى هللا عليه وسلم يشتد فلما لقيه قال:‏ يا رسول هللا إن ذبحوا إبلهم لميبق لهم ما يركبونه،‏ ويحملون عليه متاعهم،‏ فتباطأت حركاتهم وأصابهم جهد ومشقة فيسيرهم.‏ولكني يا رسول هللا أرى أن تأمرهم بإحضار ما تبقى من أزوادهم فإذا جمعوها دعوت هللالهم عليها بالبركة،‏ وأنت يا رسول هللا مبارك قريب إلى هللا حبي ‏ٌب إليه،‏ ولعل هللا يجعل فيذلك البركة،‏ قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم:‏ ‏))ن ‏ْعم ما أشرت به يا عمر((.‏أمر رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ببساط من جلد متسع،‏ فمُدَّ‏ على األرض وأمر المسلمينأن يأتوا بفضل أزوادهم،‏ فجعل الرجل يأتي بكف ذرة،‏ ويجيء اآلخر بكف تمر،‏ ويجيءاآلخر بكسرة خبز،‏ حتى اجتمع على البساط من ذلك شيء يسير،‏ ثم رفع يديه الشريفتين إلى58


رافع السماوات بغير عمد وباسط األرض على ماء جمد،‏ يسأله البركة والفضل العميم،‏وارتفعت معه أكف المسلمين مؤمنة راجية.‏وكان العجب العجاب أن النبي صلى هللا عليه وسلم:‏ أمرهم أن يملؤوا أويتهم مما على هذااألديم ‏)البساط(‏ فما تركوا في المعسكر وعاء إال ملؤوه وأكلوا حتى شبعوا،‏ وفضل فضلة.‏فقال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم:‏ ‏))أشهد أن ال إله إال هللا وأني رسول هللا((‏ ورددالمسلمون وراءه:‏ نشهد أن ال إله إال اله وأنك رسول هللا،‏ ثم قال عليه الصالة والسالم:‏ ‏))اليلقى هللاَ‏ عب ‏ٌد موقن بما شهد،‏ مطمئن بما قال،‏ إال وجبت له الجنة((.‏فارتج المعسكر بالنغم األبدي السرمدي:‏ ال إله إال هللا محمد رسول هللا.‏رياض الصالحين:‏ باب الرجاء59


ثم لتسألن يومئذ عن النعيمقال عبد هللا بن الزبير لخالته أم المؤمنين عائشة رضي هللا عنهما:‏ يا خالة هل كانت بيوتكمفي أول حياتكم في المدينة المنورة عامرة بما لذَّ‏ وطاب.‏قالت:‏ ال وهللا يا بني،‏ إن كنا لننتظر إلى الهالل،‏ ثم الهالل،‏ ثم الهالل،‏ ثالثة أهلة في شهرين،‏وما أوقد في أبيات رسول هللا صلى هللا عليه وسلم نا ‏ٌر قط.‏قال:‏ يا خالة إذالم تكونوا تطبخون فما كان طعامُكم؟قالت:‏ األسودان،‏التمر والماء.‏قال:‏ والخبز وما يطبخ من القمح؟قالت:‏ يا ابن أختي ما شبع آ ‏ُل محمد صلى هللا عليه وسلملحق بالرفيق األعلى،‏ فما نقول في خبز القمح؟من خبز شعير يومين متتاليين حتىقال:‏ سبحان هللا إن كانت حياتكم حياة شظف وجهد.‏–قالت:‏ ولقد كان لنا جيران من األنصار –هللا عليه وسلم ألبان اإلبل فيسقينا.‏أكرمهم هللا وأثابهميرسلون إلى رسول هللا صلىوانطلق عبد هللا متأثراً‏ مما عرف عن حياة بيوت النبي صلى هللا عليه وسلم،‏ فرآه أن ‏ٌس رضيهللا عنه فسأل عما به،‏ فقص عليه عبد هللا ما جرى من حوار بينه وبين خالته أم المؤمنين.‏فقال:‏ صدقت الصدِّيقة بنت الصدِّيق،‏ وقد كنت خادمه صلى هللا عليه وسلمخبزاً‏ مرققاً‏ حتى مات.‏فما رأيته أكلقال عبد هللا:‏ إذنْ‏كان طعام آل محمد قوتاً‏ ‏)بما يقيم أوده ويسدُّ‏ رمقه(.‏قال أنس:‏ صدقت يا عبد هللا،‏ وال رأى رسول هللا صلى هللا عليه وسلم شاة صغيرة يسمطشعرها وتشوى،‏ فهذا يفعله المرفهون األغنياء،‏ وهنا دخل النعمان بن بشير رضي هللا عنهماوسمع الحديث فأدلى بدلوه قائالً:‏لقد رأيت نبيكم صلى هللا عليه وسلموما يجد من التمر الرديء ما يمأل به بطنه.‏قال أبو هريرة رضي هللا عنه،‏ وقد سمع ما قاله النعمان فانضم إليهم،‏ خرج رسول هللا صلىهللا عليه وسلم ذات يوم قائظ على غير عادته بعد صالة الظهر فرأى أبا بكر رضي هللا عنه60


خارجاً‏ من بيته،‏ فسأله رسول هللا صلى هللا عليه وسلم:‏ ‏))ما الذي أخرجك من بيتك في هذهالساعة يا أبا بكر((.‏قال الصدّيق:‏ خرجت للقاء رسول هللا صلى هللا عليه وسلم والنظر في وجهه،‏ والسالم عليهوال أكتمك يا رسول هللا أن الجوع منعني من النوم فخرجت على وجهي،‏ فتبسم رسول هللاصلى هللا عليه وسلم ولم يزد.‏ثم جاء عمر رضي هللا عنه،‏ فتبسم رسول هللا صلى هللا عليه وسلممن بيتك في هذه الساعة يا عمر؟((.‏وسأله:‏ ‏))ما الذي أخرجكقال عمر وقد نظر إليهما:‏ الجوع أخرجني يا رسول هللا ومنع عينيَّ‏ الرقاد،‏ فقلت:‏ أسلي نفسيبالمسير والسالم على المسلمين،‏ فحظيت بك يا رسول هللا وبصاحبك الصدِّيق،‏ فتبسم رسولهللا صلى هللا عليه وسلم ثم قال:‏ ‏))أتدرون ما الذي أخرجني؟((.‏قاال:‏ هللا ورسوله أعلم.‏قال:‏ ‏))والذي نفسي بيده ألخرجني الذي أخرجكما((.‏ثم قال:‏ ‏))قوما((‏ فقاما معه فانطلق بهما إلى بيت رجل من األنصار،‏ فسلموا عليه،‏ فلم يجب،‏فخرجت امرأته فلما رأت رسول هللا صلى هللا عليه وسلم وصاحبيه قالت:‏ أهالً‏ وسهالً‏ومرحباً‏ برسول هللا صلى اله عليه وسلم وصاحبيه الكريمين.‏قال الرسول الكريم صلى هللا عليه وسلم:‏ ‏))فأين زوجك؟((.‏قالت:‏ ذهب يستعذب لنا الماء،‏ وقد حان مجيئه،‏ فهلم يا رسول هللا فادخلوا،‏ فما أسعدنا اليومبزيارتكم.‏وما إن أخذ رسول هللا صلى هللا عليه وسلم وصاحباه مكانهم حتى دخل األنصاري فسلم عليهم،‏ورحب بهم وقال:‏ الحمد هلل ما أحد اليوم أكرم أضيافاً‏ مني،‏ وانطلق فجاءهم ‏"بعذقٍ"‏ غصن نخيل فيه‏"بُسْرٌ"‏ و"رُطَبٌ"‏ و"تَمْرٌ"،‏ فاألول حلوه قليل،‏ والثاني حلوٌ‏ وهو جديد،‏ والثالث حلو وهو يابس،‏وقال:‏ اختاروا يا أكرم ضيفان أ ‏َتوني أي نوع من التمر،‏ وكلوه هنيئاً‏ مريئاً.‏ثم أخذ مُديته ‏)سكينه(‏ يريد ذبح شاةٍ‏ يَقري بها أضيافه،‏ فقال له رسول هللا صلى هللا عليه وسلمناصحاً:‏ ‏))اختر شاة ال لبن لها واذبحها،‏ وإياك والحلوب فال تقربنَّها((.‏فلما أكلوا من الشاة ومن ذلك العذق وشبعوا وشربوا من الماء وارتَ‏ ‏َووا،‏ قال رسول هللا صلى هللاعليه وسلم لمضيفه أبي التيهان األنصاري:‏ ‏))بارك هللا لك في مالك،‏ وزاد في رزقك ووهبك61


الجنة((،‏ ثم التفت إلى أبي بكر وعمر فقال:‏ ‏))والذي نفسي بيده لتُسألن عن هذا النعيم يوم القيامة،‏أخرجكم من بيوتكم الجوعُ،‏ ثم لم ترجعوا حتى أصابكم هذا النعيم((.‏رياض الصالحين:‏ باب الجوع وخشونة العيش62


بالمؤمنين رؤوف رحيمقال الولد ألبيه:‏ مَن أهل الصفّة يا أبت؟ إنني أقرأ عنهم كلمات ال توضح صفاتهم.‏قال األب:‏ هم المسلمون الذين ال يأوون على مال وال أهل،‏ وال يملكون من حطام الدنياشيئاً،‏ ويقبلون على اآلخرة.‏قال الولد:‏ ولم دُعوا أهل الصفّة يا والدي؟قال األب:‏ ألنهم كانوا يأوون إلى بناء في مؤخر المسجد النبوي يرتفع عن األرضقليالً.‏قال الولد:‏ كم عددهم يا والدي؟قال األب:‏ يذكر بعض المؤرخين أنهم في حدود أربع المئة،‏ وقد استشهد منهم فيموقعة بئر معونة سبعون رجالً،‏ رضي هللا عنهم وأرضاهم.‏قال الولد:‏ فكيفيعيشون وماذا يلبسون؟قال األب:‏ أما لباسهم فلم يكن أحد يلبس رداءً‏ مخيطاً‏ يستر بدنه كله لفقره الشديد،‏ ولكنترى على أحدهم إزاراً‏ يحوط جسمه أو كساءً‏ ربطه بعنقه،‏ ل ‏ّما يبلغ نصف الساقين أوالكعبين،‏ ولعل أحدهم إذا ركع جمع كساءه أو إزاره بيده كراهية أن تبدو عورته.‏أما طعامهم فمما يجود به المسلمون من زكاة وصدقة أو هدية،‏ والظاهر من أحوالهمغلبة الفقر عليهم،‏ وإيثار القلة،‏ واختيارهم لها،‏ فلم يجتمع ألحدهم ثوبان،‏ وال حضرهممن الطعام لونان.‏قال الولد:‏ فلم اختاروا هذه الحياة الغليظة ليس فيها من متاع الحياة الدنيا ما يسرّ؟قال األب:‏ إن أحدهم قال للنبي صلى هللا عليه وسلمثالث مرات:‏ وهللا إني أحبك.‏فقال:‏ ‏))إن كنت تحبني فأعدّ‏ للفقر قبوالً‏ في نفسك،‏ فإن الفقر أسرع إلى من يحبني منالسيل يتدفق من الجبل مسرعاً‏ نحو الوادي،‏ وألن الفقراء يدخلون الجنة قبل األغنياءبخمس مئة عام،‏ ولقد قمت على باب الجنة،‏ فكان عامّة من دخلها من المساكين،‏واألغنياء ينتظرون اإلذن لهم بدخول الجنة((.‏قال الولد:‏ من أشهر أهل الصفة يا والدي؟63


––قال األب:‏ من أكثرهم شهرة،‏ أبو هريرة عبد الرحمن بن صخر الدوسيهللا عنه أكثرُ‏ أصحاب الحديث رواية،‏ وأدقهم حفظاً.‏رضيقال االبن:‏ أفال تحدثنييا والدي عن بعض معاناته حين كان بين أهل الصفّة؟قال األب:‏ حبّاً‏ وكرامةَ‏ يا ولدي ويا فلذة كبدي،‏ عسى هللا أن يجعلك من عباده الصالحينوحملة دينه الصادقين.‏فقد أقسم أبو هريرة رضي هللا عنه أنه كان يعيش اليوم أو اليومين أو أكثر من ذلك اليذوق طعاماً،‏ وكثيراً‏ ما سقط بين منبر رسول هللا صلى هللا عليه وسلم وحجرة عائشةرضي هللا عنها مغشياً‏ عليه،‏ يهذي من الجوع والناس يحسبون هذيانه نوعاً‏ من الجنون،‏فقد كان يلصق بطنه باألرض أو يشد الحجر على بطنه ليُسكن أل ‏َم الجوع،‏ و ‏ُيخم ‏َد نا ‏َره.‏ولقد جلس يوماً‏ حين اشتد به الجوع في طريق الصحابة يسألهم اآلية،‏ وهو يعرفهاويعرف معناها لعلهم يدعونه إلى بيوتهم فينالَ‏ شيئاً‏ من طعامهم،‏ فمر به النبي صلى هللاعليه وسلم ونظر إليه،‏ وعرف ما في وجهه وما في نفسه فكفاه مؤونة السؤال حين قال:‏يا أبا هرّ،‏ فأجابه:‏ لبيك يا رسول هللا.‏قال له:‏ الحق بي،‏ فتبعه أبو هريرة إلى أحد أبياته،‏ فدخل النبي صلى هللا عليه وسلمبيته،‏ ثم أذن ألبي هريرة فدخل وجلس،‏ ورأى النبي صلى هللا عليه وسلم لبناً‏ في قدحفقال:‏ ‏))من أين هذا اللبن؟((.‏قالوا:‏ أهداه لك فالن.‏قال:‏ ‏))إن كان هدية فقد جاز لي أن أشرب منه((،‏ ثم أردف قائال:‏ ‏))يا أبا هر((.‏قلت:‏ لبيك يا رسول هللا.‏قال:‏ ‏))اذهب إلى أهل الصفّة فادعهم لي((.‏قال أبو هريرة في نفسه:‏ وماذا يكفي هذا القدحُ‏ أه ‏َل الصفّة،‏ وأنا أولى أن أصيب منهشَربةً‏ أتقوى بها،‏ إنه ال يكفي سوى اثنين،‏ رسول هللا وأنا،‏ ولكن ال بد من طاعة رسولهللا صلى هللا عليه وسلم،‏ فطاعته من طاعة هللا،‏ فأسرع إليهم،‏ فدعاهم إلى بيت رسولهللا صلى هللا عليه وسلم،‏ فأقبلوا واستأذنوا فأذن لهم،‏ وأخذوا مجالسهم من البيت.‏قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم:‏ ‏))يا أبا هرٍ‏ ((.64


قلت:‏ لبيك يا رسول هللا.‏قال:‏ ‏))خذ هذا القدح فأعطهم يشربون((.‏فجعل أبو هريرة يعطيه الرجل فيشرب حتى يرتوي ثم يعيده إلى أبي هريرة،‏ فيدفعهإلى رجل آخر فيشرب حتى يروى ثم يعيده إلى أبي هريرة .. وهكذا حتى انتهى إلىرسول هللا صلى هللا عليه وسلم،‏ النبي العظيم،‏ الرحيم بأمته الرؤوف بها،‏ لم يتصدرللشرب أوالً،‏ إنما اطمأن إلى أن أصحابه شربوا جميعاً‏ وارتووا،‏ فأراد أن يداعب أباهريرة،‏ فأمسك بالقدح كأنه يريد الشرب،‏ وأبو هريرة ينظر إليه عطشان جائعاً‏ فنظرالنبي صلى هللا عليه وسلم إلى أبي هريرة مبتسماً‏ ثم قال:‏ ‏))يا أبا هرّ((.‏قلت:‏ لبيك يا رسول هللا.‏قال:‏ ‏))بقيت أنا وأنت((.‏قلت:‏ صدقت يا رسول هللا.‏قال:‏ ‏))اقعد فاشرب((.‏قال أبو هريرة في نفسه:‏ ألشربن فما عدت أملك نفسي،‏ وشرب أبو هريرة حتى رويوأعاد القدح لرسول هللا صلى هللا عليه وسلم.‏فقال له الرسول:‏ ‏))اشرب((،‏ فعاد يشرب،‏ وما زال يأمره بالشرب حتى قال له:‏ الوالذي بعثك بالحق ال أجد مسلكاً،‏ لقد امتألتُ‏ وفاضت نفسي وتضلَّعت حتى كدت أنفجرشبعاً‏ ورياً.‏قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم:‏ ‏))فأرني القدح((،‏ وأعطيته إياه فحمد هللا تعالىعلى نعمائه وسمى،‏ وشرب الفضلة.‏ما أرحم رسول هللا صلى هللا عليه وسلمالعشرات بين يديه الشريفتين.‏بأمته وما أكثر برك ‏َته!‏ إن قدحاً‏ واحداً‏ يرويقال أبو هريرة:‏ لقد جرت معي قصة أخرى في تكثير الطعام مع أهل صفّة،‏ فقد أتتعليّ‏ ثالثة أيام لم أطعَم فيها،‏ فجئت أريد الصفّة،‏ فجعلت أسقط،‏ فكان الصبيان يقولون:‏جن أبو هريرة،‏ حتى انتهيت إلى الصفّة فإذا بقصعة من ثريد بين يدي رسول هللا صلىهللا عليه وسلم يأكل منها أهل الصفّة،‏ فجعلت أتطاول كي يراني رسول هللا فيدعوني،‏65


حتى قاموا وليس في القصعة إال شيء في نواحيها،‏ فجمعه رسول هللا صلى هللا عليهوسلم،‏ فصار لقمة،‏ فوضعها على أصابعه الشريفة،‏ فقال لي:‏ ‏))كل باسم هللا((.‏قال أبو هريرة:‏فوالذي نفسي بيده ما زلت آكل منها حتى شبعت.‏رياض الصالحين:‏ باب فضل الزهد في الدنياباب فضل الجوع وخشونة العيش66


َسمك العنبرفي السنة الثامنة للهجرة كان المسملون والمشركون في هدنة صلح الحديبية ال يتعرضفريق لفريق،‏ بل اتفقوا على حفظ األمن،‏ كل في سلطانه.‏ وفي شهر رجب من تلكالسنة بعث رسول هللا صلى هللا عليه وسلم سرية إلى أرض جهينة يتلقوا عيراً‏ لقريشيحفظونها من اعتداء قد تقوم بها جهينة على القافلة،‏ وأ ‏َّمر عليها أبا عبيدة بن الجراح،‏وكان مع كل منهم زادُه الخاص،‏ وزوّ‏ دهم رسول هللا صلى هللا عليه وسلم جراباً‏ ‏)وعا ‏ًءمن جلد(‏ كبيراً‏ من تمر لم يجد غيره إذ ذاك،‏ فكنا نأكل من أزوادنا حتى فنيت،‏ وكناثالث مئة رجل.‏––ثم أخذ أبو عبيدة يعطينا من الجراب بضع تمرات أول األمر فلما خشي سرعةفنائه،‏ بدأ يعطينا كل يوم تمرة واحدة كنا نمصّها كما يمصّ‏ الصبيّ،‏ ثم نشرب عليهاالماء فتكفينا إلى الليل.‏فلما طال علينا هذا،‏ ضربنا بعصيِّنا الخب ‏َط ‏)ورق شجر معروف تأكله اإلبل(‏ فيتناثرالورق،‏ فنبله بالماء ليخضر وتذهب خشونته فنستيسغه فنمضغه،‏ وكان هذا طعامنا،‏ والبد من الصبر وجهاد النفس فهما عدة النصر.‏ثم انطلقنا إلى ساحل البحر األحمر فرأينا على الماء كثيباً‏ من الرمل ضخماً‏ فأتيناه فإذاهو سمكة ضخمة جداً‏ طولها خمسون ذراعاً،‏ قذفها البحر فماتت،‏ وتدعى حوت العنبر.‏فلما دنونا منها وقد أخذ الجوع منا كل مأخذ منعنا عنها أميرنا ألنها ميتة،‏ فأرشده هللاتعالى للصواب فقال:‏ ال تحرم الميتة للضرورة،‏ ثم أردف قائالً:‏ إن رسول هللا صلى هللاعليه وسلم قال عن البحر حين سئل:‏ ‏))هو الطهور ماؤه،‏ الحل ميتته((،‏ ونحن هنا فيطاعة هللا وفي جهاد أعدائه وأعداء نبيّه،‏ وهذا رزق ساقه هللا إلينا،‏ وَ‏ مَنْ‏ يَتَّق هللاَّ‏يَجْ‏ عَلْ‏ لَ‏ ‏ُه مَخْ‏ رَجًا وَ‏ يَرْ‏ زُقْهُ‏ م ‏ْن حَيْ‏ ‏ُث ‏َال يَحْ‏ تَس ‏ُب)2(اتق هللا سائر األزمانال تخف من طوارق الح ‏َدثانيرزق هللا متّقيهويكفيهفهذا قد جاء في القرآنفأقمنا نأكل منه شهراً‏ حتى سمنّا،‏ وظهرت النضارة في وجوهنا،‏ وبدت القوة فيأجسادنا.‏67


وكنا لضخامته نغرف من عينه الدهن بالجرار،‏ ونقطع قطعة اللحم الضخمة في حجمالثور،‏ فنشويها،‏ فتكون لذيذة الطعم،‏ سهلة الهضم،‏ طيبة المذاق.‏––وقد جلس ثالثة عشر رجالً‏ في نقرة عينه فوسعتهم،‏ ورفعناً‏ عظماً‏ من عظامهوالعظم محدودب فمرّ‏ من تحته أعظم بعير كان معنا عليه رحلُه،‏ وتزودنا من لحمهالقديد وانطلقنا بعد ذلك إلى المدينة فأتينا رسول هللا صلى هللا عليه وسلم فحدثناه بمارأينا،‏ وما أكلنا منه،‏ فكفانا فقال:‏ ‏))هو رزق أخرجه هللا لكم،‏ فهل معكم من لحمه شيءفتطعمونا؟((.‏فأرسلنا إلى رسول هللا صلى هللا عليه وسلممنه،‏ فأكله.‏رياض الصالحين:‏ باب فضل الجوع وخشونة العيش68


وليمة جابر بن عبد هللالما أراد المشركون من قريش وأحزابهم حرب المسلمين واستئصالهم من الجزيرةالعربية جمعوا عشرة آالف مقاتل في السنة الخامسة للهجرة،‏ وقصدوا المدينة ال ينثنونعنها،‏ وسمع المسلمون بمجيئهم فقاموا يستعدون لقتالهم،‏ وكانت جهة المدينة الغربيةدون سور يحميها،‏ والوقت ال يتسع لبنائه،‏ فأشار سلمان الفارسي رضي هللا عنه بحفرخندق حول المدينة من هذه الجهة،‏ فأمر به رسول هللا صلى هللا عليه وسلم فبدأالمسلمون وهم ألف بحفره،‏ وجعلوه بعرض خمسة أمتار وعمق أربعة.‏وبدأ العمل المرهق يصل الليل بالنهار،‏ والمسلمون ال يبرحون المكان،‏ طعامهم يصلإليهم من بيوتهم وما أقله لكنّ‏ شعلة اإليمان واإلصرار على الجهاد كفيالن بشحذالهمة وانتشال النصر،‏ وكان سيدهم وقائدهم يحفر معهم،‏ لم يم ‏ّيز نفسه عنهم،‏ ولم يسعإلى الراحة دونهم،‏ فهو قدوتهم ومثالهم األعلى،‏ له ما لهم،‏ وعليه ما عليهم.‏ والنفساإلنسانية ترتاح في خضم اإلرهاق والتعب حين تجد القائد في المقدمة،‏ فتبذل الجهدالعظيم دون أن تشعر بالكلل أو الملل أو تحس بالظلم،‏ فالجميع على قدم وساق،‏ كبيرهموصغيرهم،‏ غنيهم وفقيرهم،‏ وجيهُهم وساقتهم،‏ متساوون،‏ يعملون ويرجون من هللاالسداد والتأييد والعون والنصر.‏69––وكلما حزبهم نشز من األرض قاسٍ‏ استعانوا ببطل األبطال وسيد المجاهدين فيأتيهميهدهدها،‏ ويحيلها حصى،‏ ويستمرون في حفرهم ويشتدون في نشاطهم.‏عرضت لهم قطعة صخرية أبت أن تستجيب لمعاولهم أو أن تهون لضرباتهم فجاؤواإلى النبي صلى هللا عليه وسلم يستعينون به عليها،‏ فقال:‏ ‏))أنا لها((،‏ وقام إليها فضربهاالضربة األولى فلمعت،‏ فقال:‏ ‏))هللا أكبر،‏ فُتحت خيبر((،‏ وخيبر هذه على بعد مئة ميلشمال المدينة،‏ يتحصن بها اليهود في قالعهم الضخمة،‏ ويهددون المدينة والمسلمينمنها،‏ فصاح المسلمون:‏ هللا أكبر،‏ وضربها الضربة الثانية فلمعت،‏ فقال:‏ ‏))هللا أكبر،‏فتحت فارس((،‏ تلك البالد المجوسية التي يعبد أهلها النار،‏ فهتف المسلمون:‏ هللا أكبر،‏وضربها الضربة الثالثة فلمعت الصخرة تحت معوله،‏ وتفتت،‏ فنادى:‏ ‏))هللا أكبر،‏ فتحتالروم((،‏ بالد الشام التي يحكمها النصارى الضالون الذين اتخذوا من نبي هللا عيسىعليه السالم إلهاً‏ حاشاه أن يدّعي هذا،‏ فهتف المسلمون:‏ هللا أكبر.‏وسرت في المسلمين روح النصر وقوة اإلرادة فقويت عزيمتهم،‏ ونسُوا تعبهم فراحواينشدون:‏


لئنقعدنا والنبي يعمللذاك منا العمل المضلّلوارتفع صوت النبي صلى هللا عليه وسلميقول:‏‏))اللهم ال عيش إال عيش اآلخرةفاغفر لألنصار والمهاجرة((‏––فردد المسلمون وراءه هذا الدعاء العظيم ورددته المالئكة معهم،‏ ورددته جنباتالمدينة،‏ سهولُها ووديانها وجبالها وآكا ‏ُمها.‏كان قد مضى من الوقت إذ ذاك ثالثة أيام بلياليها وبطنُ‏ النبي صلى هللا عليه وسلممعصوب بحجر يخفف لهيب الجوع،‏ والمسلمون مثله،‏ لم يذوقوا ما يسد رمقهم.‏ فقامجابر بن عبد هللا يستأذن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم في الذهاب إلى بيته،‏ ألمرٍ‏ بداله،‏ فأذن له،‏ فأتى امرأته فقال لها:‏ رأيت النبي صلى هللا عليه وسلم عصب بطنه بحجرمن الجوع فهل عندك ما نقدمه له؟ فوهللا ما إن رأيته خُمصان حتى ضاق صدري ونفدصبري.‏فقالت:‏ عندي قليل من الشعير،‏ وسخلة،‏ فأنا أعجن الشعير،‏ وأنت تذبح السخلة.‏قلت:‏ فهيّا بارك هللا فيك من امرأة صالحة ملبية،‏ وهكذا تكون نساء المسلمين،‏ وطحنتالمرأة الشعير وعجنته،‏ فاختمر.‏وذبح جابر السخلة وقطعها،‏ ووضعها في القدر وأشعل النار تحتها ثم انطلق إلى رسولهللا صلى هللا عليه وسلم يدعوه إلى طعامه،‏ فقالت له زوجته:‏ ال تفضحنا يا جابر،‏ سار ‏ْررسول هللا صلى هللا عليه وسلم وادع معه رجلين أو ثالثة.‏قلت:‏ نعم..‏ وانطلقت إلى رسول هللا صلى هللا عليه وسلم،‏ فلما دنوت منه همست فيأذنه:‏ يا رسول هللا؛ ذبحنا بهيمة لنا،‏ وطحنت صاعاً‏ من شعير،‏ فتعال أنت ونفر معك.‏فتبسم رسول هللا صلى هللا عليه وسلمالمسلمين فنادى:‏ ‏))يا معشر المسلمين((.‏ونظر إليّ‏ بعين المحبة والودّ،‏ ثم التفت إلىقالوا:‏ لبيك وسعديك يا رسول هللا.‏قال:‏ ‏))فإن جابراً‏ قد صنع طعاماً،‏ فقوموا إلى بيته((،‏ ثم التفت إليّ‏ فقال:‏ ‏))مُر امرأتكأن تغطي العجين فال تخبزْ‏ وأن تغطي القدر،‏ فال تغر ‏ْف منها،‏ حتى آتيكم((.‏70


قلت:‏ فانطلقت مهموماً،‏ ال ألوي على شيء،‏ فكيف لي بإطعام هؤالء،‏ والخبزُ‏ واللحم اليكفيان عدد أصابع اليد الواحدة.‏فلما وصلت إلى البيت وأخبرت زوجتي أسمعتني قارص الكالم،‏ ظناً‏ منها أنني دعوتالناس جميعهم،‏ فلما أخبرتها حقيقة األمر،‏ قالت:‏ إذاً‏ رسول هللا صلى هللا عليه وسلميتكفل بهم.‏ وغطت العجين واللحم،‏ فلما حضر رسول هللا صلى هللا عليه وسلم رفعالغطاء عن العجين وقرأ عليه،‏ ثم نفخ فيه وقال المرأتي:‏ ‏))استعيني بأخرىواخبزي((،‏ ورفع الغطاء عن اللحم وقرأ عليه ونفخ فيه وغطاه،‏ وقال للمسلمين:‏‏))ادخلوا جماعات جماعاتٍ‏ وال تتزاحموا((.‏وبدأ رسول هللا صلى هللا عليه وسلم يمدّ‏ يده إلى التنور فيأخذ الخبز ويغطي التنور،‏ ثميرفع غطاء القدر ويأخذ اللحم فيضعه في الخبز ويعيد غطاء القدر فوقه،‏ ويوزع علىالمسلمين.‏وظل يفعل هذا حتى استوفى الناس جميعاً،‏ فعادوا إلى مكانهم في الخندق ثم أكل عليهالصالة والسالم،‏ أكل بعدما أكل المسلمون كلهم،‏ واطمأن إلى أنهم شبعوا!‏ لم يبدأ بنفسه،‏فسيُّ‏ ‏ُد القوم يتابعهم،‏ ويرعى أمورهم ثم يلتفت إلى نفسه .. هكذا رسول هللا صلى هللاعليه وسلم،‏ وهكذا يفعل القائد الرحيم.‏ثم قال لزوجتي:‏ كلي وأهدي الناس فقد أصابهم مجاعةٌ‏ فَفَعل ‏ْت،‏ ورفعت الغطاء عنالخبز وعن القدر،‏ فكأنهما هما لم ينقصا .. صلى هللا على رسوله العظيم،‏ البرّ،‏ الرحيم،‏وجزاه عن أمته خير الجزاء.‏رياض الصالحين:‏ باب فضل الجوع وخشونة العيش71


أَقِطُ‏ أم سُلَيْمأنس بن مالك كان فتىً‏ أنصارياً،‏ لم يبلغ العاشرة من عمره حين قدم رسول هللا صلىهللا عليه وسلم المدينة،‏ فأخذت أمه ‏"أم سليم"‏ بيده وذهبت به إلى رسول هللا صلى هللاعليه وسلم فقالت:‏ يا رسول هللا هذا أن ‏ٌس يخدمك.‏فالزم رسولَ‏ هللا صلى هللا عليه وسلم إلى أن لحق بالرفيق األعلى ودعا له رسول هللاصلى هللا عليه وسلم بثالث دعوات:‏ ‏))اللهم بارك له في عمره وبارك له في رزقه،‏وبارك له في ذريته((.‏ فعاش قرابة المئة عام،‏ وكان له حائط نخيل يثمر في السنةمرتين،‏ ورأى ثمانين من ذريته.‏وقال أنس:‏ خدمت رسول هللا عشر سنين فما رأيته قال لشيء فعلته:‏ لم فعلته،‏ وال لشيءتركته،‏ لم تركته.‏أخالق نبوية عالية،‏ ربّاه ربه فأحسن تربيته وجعله قدوة للبشرية ومعلماً‏ لها،‏ فال غروأن يكون هذا المعلم كامالً‏ في صفاته،‏ عظيماً‏ في معاملته صلى هللا عليه وسلم وبارك،‏اللهم اجعلنا تحت لوائه وارزقنا شفاعته واجعلنا من أهل خاصته.‏قال أنس:‏ جئت رسول هللا صلى هللا عليه وسلم يوماً،‏ فوجدته جالساً‏ مع أصحابه،‏ وقدعصب بطنه بعصابة،‏ فقلت لبعض أصحابه،‏ لم عصب رسول هللا صلى هللا عليه وسلمبطنه؟فقالوا:‏ ما يفعل ذلك إال من الجوع،‏ وانظر إلى أصحابه ترَ‏ الجميع في فاقة وعوز،‏واأليام دول،‏ يوم لك ويوم عليك،‏ فمن شبع شكر هللا،‏ ومن جاع حمد هللا،‏ فهو فياتصال دائم مع ربه.‏–قال أنس:‏ فذهبت إلى زوج أمي ‏))أبي طلحة((‏ فقلت له:‏ يا أبتاه ومن رعى ربيبهفأكرمه واعتنى به فهو خير من أبيه حين يتركه قد رأيت رسول هللا صلى هللا عليهوسلم قد عصب بطنه بعصابة،‏ فسألت بعض أصحابه فقالوا:‏ من الجوع،‏ وإني ألتألمحين أراه هكذا،‏ فماذا نفعل يا أبت ؟ فذهب أبو طلحة إلى مجلس الرسول الكريم صلىهللا عليه وسلم،‏ ثم عادَ‏ فدخل على أمّي مسرعاً،‏ وهو يحمل مثل همّي فنادها:‏ يا أ ‏ُّمسُلَيم؟!‏قالت:‏ نعم يا أبا طلحة،‏ هل تريد شيئاً؟–72


قال:‏ قد سمعت رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ضعيفاً،‏ أعرف فيه الجوع وهذا ابنكأنس نبهني إلى ذلك.‏قالت:‏ نعم،‏ عندي ك سَرٌ‏ من خبز،‏ وتمرات،‏ فإن جاءنا رسول هللا صلى هللا عليه وسلموحده أشبعناه،‏ وإن جاء آخر معهما قلَّ‏ عنهما.‏قال:‏ فماذا نفعل يا أبا سُليم؟–قالت وقد التفتت إليَّ‏ -: قم يا أنس إلى رسول هللا صلى هللا عليه وسلم فاد ‏ُعه واليشعرَ‏ نَّ‏ بك أحد،‏ يا بني فإن عرف أحدهم ما أنت قائله لرسول هللا صلى هللا عليه وسلمأوقعتنا في حرج...‏قال أنس:‏ فذهبت إلى رسول هللا صلى هللا عليه وسلم فوجدته ما يزال جالساً‏ في المسجدبين أصحابه،‏ فبدأت أتخطاهم ألصل إليه،‏ فرآني رسول هللا صلى هللا عليه وسلم،‏فعرف أنني أحمل إليه كالماً.‏فقال:‏ ‏))يا أنس،‏ لعلَّ‏ أبا طلحة أرسلك إليَّ((.‏قلت:‏ نعم يا رسول هللا.‏قال:‏ ‏))ألطعامٍ‏ يدعوننا؟((.‏قلت:‏ نعم يا رسول هللا .. وقلت في نفسي:‏ ال أكذب على رسول هللا،‏ كما أن المسلم اليكذب.‏وسمع القوم ما قاله لي رسول هللا صلى هللا عليه وسلموإجابتي.‏قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم:‏ ‏))قوموا معي يا معشر المسلمين إلى دار أبيطلحة((‏ فقاموا يتقدمهم الرسول الكريم صلى هللا عليه وسلم،‏ وانطلقت مسرعاً‏ بينأيديهم حتى جئت أبا طلحة فأخبرته بما كان وأن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ال يلبثأن يصل إلينا،‏ فدهش،‏ وعنّفني أول األمر،‏ فلما استجاله قال مستنجداً‏ بوالدتي:‏ يا أمسُليم،‏ هذا رسول هللا صلى هللا عليه وسلم قد جاء بالناس،‏ وليس لدينا ما يطعمهم.‏قالت مستسلمة:‏ هللا ورسوله أعلم،‏ وما دام رسول هللا صلى هللا عليه وسلميتكفّل بهم.‏دعاهم،‏ فهو73


فانطلق أبو طلحة يتلقى رسول هللا صلى هللا عليه وسلم،‏ فلما لقيه أظهر السروروالترحيب،‏ وعاد به وبأصحابه إلى البيت حتى وصلوا،‏ فدخل رسول هللا صلى هللا عليهوسلم وأبو طلحة إلى الدار،‏ والناس خارجها.‏فقال رسول هللا صلى هللا عليه سلم:‏ ‏))أحضري ما عندك يا أمسليم((.‏قالت:‏ سمعاً‏ وطاعةَ‏ يا رسول هللا.‏فجاءت بالخبز ففتَّته وبالتمر ففلقته،‏ وأخرجت النوى ثم عصرت عليه عكّة السمن فكانإداماً‏ طيباً،‏ ومزجت الخبز والتمر والسمن جميعاً،‏ فلما انتهت تقدّم رسول هللا صلى هللاعليه وسلم فقرأ عليه ما شاء هللا أن يقرأ ودعا بالبركة،‏ وسأل هللا من فضله وخيره.‏ثم قال ألبي طلحة:‏ ‏))ائذن لعشرة منهم بالدخول((،‏ فأذن لهم،‏ فاستداروا حول القصعةوقالوا:‏ بسم هللا الرحمن الرحيم،‏ وأكلوا حتى شبعوا،‏ وخرجوا.‏ثم قال:‏ ‏))ائذن لعشرة آخرين((،‏ فدخل هؤالء،‏ حتى دخل القوم كلهم جميعاً‏ وأكلواوشبعوا وحمدوا هللا تعالى،‏ ثم انصرفوا والقوم سبعون رجالً‏ أو يزيدون،‏ وكان رسولهللا صلى هللا عليه وسلم ينظر إليهم ويباسطهم ويدعو لهم بالخير واليمن وطيب المأكل.‏قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم:‏ ‏))اآلن يا آل أبي طلحة،‏ هلموا إلى طعامكميرحمكم هللا((،‏ ومد يده الشريفة فأكل وأكلنا معه حتى شبعنا،‏ ثم جمع ما بقي فيالصحفة ‏)القصعة(‏ ودعا بالبركة،‏ فإذا بها تعود ممتلئة كما كانت قبل أن تمتد إليها يدأحد.‏وأمر رسول هللا صلى هللا عليه وسلمحولنا من هذه الصحفة.‏أن توزع أم سليم على جيرانها،‏ ففعلت،‏ ونال مَ‏ ‏ْنقلت ألبي طلحة:‏ فلماذا دعا رسول هللا صلى هللا عليه وسلميدعهم جميعاً،‏ والبيت يتسع لهم.‏المسلمين عشرة عشرة ولمقال:‏ هللا ورسوله أعلم،‏ ولعله فعل ذلك:‏-1-2ألنها كانت قصعة واحدة ال قصعتين،‏ فال يتصور تحلق ذلك العدد الكبير.‏ولعل الحكمة في ذلك العدد أن ال يقع نظر الكل على الصحفة بطعامها القليل فيزدادحرصهم،‏ ويظنون أنه ال يشبعهم فتذهب بركته.‏74


-3ولعلهم إن كانوا كثيرين اكتفوا بسد الرمق،‏ والرسول الكريم صلى هللا عليه وسلميريد أن يأكلوا فيشبعوا.‏والذي أريده يا بني أن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم رجل مبارك،‏ أرسله هللا لهدايتناإلى الطريق المستقيم،‏ وأجرى على يديه آيات عظاماً،‏ فكن دائماً‏ على قدميه تنل الخيرالعميم والفضل المقيم،‏ قلت من قلبي:‏ ال إله إال هللا محمد رسول هللا.‏يا رب أرسلت النبي محمداً‏بالدين والشرع القويم مؤ ‏َّيدا1فله من األعماق حب خالصينمو ويربو صافياً‏ متجددارياض الصالحين:‏ باب فضل الجوع وخشونة العيش1البيتان للمؤلف.‏75


–ويؤثرون على أنفسهم...‏–قال التلميذ لشيخه:‏ ذكرت لنا يا أستاذنا الجليل أن رسول هللا صلى هللا عليه وسلمتمرّ‏ عليه األيام الكثيرة ال يوقد في بيته نار يطبخ فيها طعامه،‏ وأنه كثيراً‏ ما كانيعصب بطنه بحجر كي يسكن جوعه،‏ أفهذه عن قلة المال؟ أم عن اهتمامات أوليةيصرف إليها المال قبل توجيهه ق ‏َبل الطعام؟قال الشيخ:‏ بارك اله فيك،‏ إن سؤالك ينم عن ذكاء وبصيرة،‏ فقد خرج رسول هللا صلىهللا عليه وسلم إلى المدينة مهاجراً‏ وصحابته الكرام،‏ وتركوا أموالهم ودورهم في مكةفراراً‏ بدينهم،‏ وحين قدموا المدينة آخى رسول هللا صلى هللا عليه وسلم بينهم وبيناألنصار،‏ فقسم هؤالء بينهم أموالهم،‏ ولم يكن األنصار أغنياء،‏ وكان جلُّ‏ اهتمامالمجتمع المسلم بناءَ‏ المجتمع اإلسالمي في المدينة،‏ وحماي ‏َته من بحر الكفر الذي يحيطبهم،‏ ويتربص بهم الدوائر،‏ فانطلقت منها السرايا والغزوات لتحقيق ذلك،‏ وهذا كلفهموقتهم،‏ وأموالهم،‏ فعاشوا سنوات طويلة في عسر وفقر.‏قال التلميذ:‏ صدقت يا أستاذي،‏ فقد مات النبي صلى هللا عليه وسلميهوديّ‏ودرعه مرهونةعندقال الشيخ:‏ وكان المسلمون إذ ذاك يرون ضمن توجيهات قائدهم ومربيهم،‏ أن علىالمسلم التخفيف من الطعام ليبقى الجسم خفيف الحركة،‏ فقال صلى هللا عليه وسلم:‏‏))بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه((،‏ وأكد على هذا حين قال:‏ ‏))طعام الواحد يكفياالثنين،‏ وطعام االثنين يكفي األربعة،‏ وطعام األربعة يكفي الثمانية((،‏ أما اإلكثار منالطعام وتعدد األصناف فيدل على الركون إلى الدنيا واالنغماس في ملذاتها..‏ والبعد عنالجهاد واإلعداد له.‏قال التلميذ:‏ نعم،‏ ال يجتمع في قلب رجل حب الدنيا وحب اآلخرة.‏ والجهادُ‏عنها راغب الدنيا المتثاقل إليها.‏مشقة ينأىوتابع الشيخ:‏ وعلى الرغم من قلة الزاد في أبيات رسول هللا صلى هللا عليه وسلم،‏ فقدكان يملك الكثير من السالح الذي يرهب عدو هللا وعدونا،‏ فقد توفي رسول هللا صلىهللا عليه وسلم وعنده تسعة أسياف،‏ وسبعة أرماح،‏ وثالث دروع وخوذتان ومغفران‏)والمغفر غطاء الوجه(‏ وقوسان ونبّالة،‏ وهكذا يكون المسلم الذي يريد أن ينشر اإلسالمفي بقاع الدنيا،‏ ويحافظ على مكانة أمته تحت الشمس،‏ وفي مقدمة الركب،‏ دون أن76


يُكره الناس على اإلسالم،‏ إنما ليمنع األعداء أن يستخفوا بنا،‏ لقد تركنا الجهاد فتداعتعلينا األمم كما تداعى األكلة إلى قصعتها،‏ وهانت علينا أنفسنا فهُنَّا على اآلخرين.‏قال التلميذ:‏ لعلك يابعضاً؟سيدي تريد أن تصور لي بعد هذه اإلضاءة حب المسلمين بعضهمقال الشيخ:‏ أجل يا بني،‏ إن األشعريين وهم قبيلة من اليمن أفرادها متحابون متكاتفونإذا خرجوا للغزو ففني زادهم أو قلَّ‏ طعام عيالهم بالمدينة تنادوا،‏ فجمعوا ما كان عندهممن طعام في ثوب واحدٍ،‏ ثم اقتسموه بينهم بالسوية،‏ أفرأيت إيثاراً‏ كهذا اإليثار؟قال التلميذ:‏ ال وهللا،‏ فهذه قمة التوادِّ‏والتراحم والتكافل.‏قال الشيخ:‏ ولهذا أحبهم النبيمنهم((.‏صلى هللا عليه وسلمومدحهم فقال:‏ ‏))فهم مني وأناقال التلميذ:‏ يا سبحان هللا ما أعظم هؤالء وأكرمهم،‏ إن مجتمعهم لفاضلٌ،‏ وإن حياتهملسعيدة،‏ أهناك صورة أخرى لإليثار يا شيخي الجليل؟قال الشيخ:‏ أع رني سمعك وقلبك وأقبل علي بكليّتك.‏قال التلميذ:‏ سمعاً‏ وطاعة ها أنا بين يديك،‏ مقبل عليك.‏قال الشيخ:‏ هذا رسول هللا صلى هللا عليه وسلم في مسجده بين أصحابه يفقههم في الدينويبث فيهم اإليثار وبناء المجتمع الفاضل فيقول:‏ ‏))من كان معه فضل ظهر فليعد بهعلى من ال ظهر له،‏ ومن كان معه فضل زاد فليعد به على من ال زاد له((‏ ويوضحاآلثار اإليجابية لهذا الخلق الفاضل،‏ ويدخل رجل،‏ فيدنو منه صلى هللا عليه وسلمويخاطبه في خجل تلمحه من نبرته فيقول:‏ يا رسول هللا إني مجهود أصابتني فاقةولزمني الفقر وسوء العيش.‏فينظر إليه الكريم الرحيم ويبتسم ويقول له بلسان الحال ال المقال:‏ أبشر فتسجد الطعاموالمأوى إن شاء هللا،‏ ثم يلتفت إلى انس قائالً:‏ ‏))يا أنس؛ قم إلى بيت أم المؤمنينعائشة،‏ فالتمس لهذا الرجل طعاماً‏ أو تمراً((‏ فيقوم أنس مسرعاً‏ إلى بيتها ويسألها ماعندها فتقول:‏ ال والذي بعث محمداً‏ صلى هللا عليه وسلم بالحق ما عندي إال الماء.‏فيعود أنس إلى النبي صلى هللا عليه وسلم فيقول:‏ يا رسول هللا ما وجدت عندها إالالماء،‏ فهي إذاً‏ بحاجة إلى الذي يحتاجه هذا الرجل!!‏ زوجة رسول هللا صلى هللا عليه77


–وسلم،‏ وأحب نسائه إليه،‏ وابنة صاحبه وحبيبه الصدَّيق،‏ ال تجد في بيتها إال الماء؟!‏ ياويح المسلمين اآلن!‏ إن بيوتهم مليئة بأطايب الطعام،‏ ولذائذ الشراب وأصنافالمأكوالت،‏ لكن قلوبهم سوداء خالية من اإليمان،‏ وعقولهم ال تعرف التفكير إال فيتوافه األمور،‏ يسهرون فيما يغضب المولى وينامون على اللهو،‏ ويَغطون فيمستنقعات الغفلة،‏ وينحدرون في متاهات الضالل.‏ويرسل النبي الكريم إلى أزواجه كلهن على التتابع يسألهن قرى هذا الضيف الجائعالتعب،‏ فيجبنه بما أجابته األولى:‏ ال والذي بعثك بالحق ما عندنا إال الماء!‏ إال الماء!‏وليس يجد بداً‏ من االستعانة بأصحابه هؤالء الذين خلفوا الجاهلية وراء ظهورهم،‏والزموه ليرتفع بهم إلى سماء الخير والبر،‏ فيقول:‏ ‏))من ‏َيضيف الرجل هذه الليلة؟((‏فيقوم رجل من األنصار رضي هللا عن األنصار،‏ فقد كانوا قادة اإلسالم وحماتهفيقول:‏ أنا يا رسول هللا،‏ إنه ضيفي،‏ وسترى ما ‏َتق ‏ُّر به عي ‏ُنك،‏ ويستأذن هذا الصحابيالجليل رسول هللا،‏ فيأذن له،‏ وينطلق بضيفه إلى بيته،‏ حتى إذا وصل قال لزوجته:‏أكرمي ضيف رسول هللا صلى هللا عليه وسلم،‏ فإكرامه من إكرامه،‏ وضيف العزيزعزيز.‏قالت المرأة:‏ أهالً‏ وسهالً‏ ومرحباً..‏قال الرجل هامساً:‏ هل عندك شيء نقدّمه له؟قالت المرأة:‏ ال إالّ‏ قوت صبياني.‏قال:‏ أو لم يتعشوا الليلة؟–قالت:‏ بلى ولكنهماعتادوا أن ينالوا شيئاً‏ قبل النوم.‏قال:‏ فعلليهم هذه الليلة بشيء،‏ وإذا أرادوا شيئاً‏ فنوميهم،‏ ال يضيّقوا على الضيف.‏قالت:‏ أفعل إن شاء هللا تعالى.‏وشاغل األنصاري ضيفه بأنواع الحديث حتى نام األوالد فقامت المرأة إلى الطعاموكان قليالً‏ ال يكفي سوى الرجل؛ ولكن كيف له أن يستسيغ الطعام على جوعهوهو قليل؟!،‏ وأنّى له أن يقبل عليه وصاحب الدار ال يمد إليه يده؟!‏––78


وتفتقت لألنصاري فكرة رائعة إذا نفذها زال الحرج،‏ وأكل الضيف وشبع..‏ ما الذيفكر فيه يا ترى؟!‏لقد قال لزوجته:‏ إذا وضعت الطعام ودخل الضيف فأطفئي السراج،‏ وكأن زيته قد نفدونمد في الظالم أيدينا إلى الطعام نوهمه أننا نأكل،‏ فيقبل عليه.‏وهكذا فعلت،‏ وجلس الضيف،‏ وتصنَّع الرجل وزوجته صنيع اآلكلين،‏ م ‏ْن مدِّ‏ ي ‏ٍدوتحريك فم ومضغٍ،‏ فأكل الرجل حتى شبع،‏ وبات الزوجان خاويين جائعين لم يأكال.‏فلما أصبح الصباح غدا األنصاري بضيفه على رسول هللا صلى هللا عليه وسلم،‏ فلمارآهما تبسم صلى هللا عليه وسلم وقال له:‏ ‏))لقد علم هللا وهو العليم الخبير ماصنعتما بضيفكما الليلة،‏ ورضي بما فعلتما وأثابكما عليه الثواب الجزيل((.‏––قال التلميذ لشيخه:‏ ما أعظم هؤالء الرجال وما أعظم نفوسهم وما أشد كرمهم.‏قال الشيخ:‏ إنهم تعلموا ذلك من سيدهم وقائدهم رسول هللا صلى هللا عليه وسلم،‏ فقدضرب لهم في اإليثار والكرم أروع األمثلة فتشربوها وعملوا بها.‏قال التلميذ:‏ أفال قصصت عليّ‏ واحدة يا سيدي؟قال الشيخ:‏ حبّا وكرامةً‏ يا بني..‏فقد جاءت امرأة إلى النبي صلى هللا عليه وسلم بثوب جميل مخطط نسجته بإتقان،‏وخاطته ببراعة،‏ فقالت:‏ يا رسول هللا،‏ هذا الثوب هديتي إليك،‏ فقد وهللا سهرت اللياليوأمضيت األيام في صنعه ليكون هدية تليق بك يا رسول هللا.‏فقال:‏ ‏))جزاك هللا عن نبيه خيراً،‏ إنه وايم هللا ثوب جميل،‏ وهدية غالية أحتاجها((،‏ودخل إلى بيته فلبس هذا الثوب وخرج به على أصحابه،‏ فنال استحسانهم،‏ وقال أحدهم:‏ما أحسن هذا الثوب يا رسول هللا اكسُنيه.‏فجلس النبي صلى هللا عليه وسلمأرسل به إلى الذي طلبه.‏بينهم قليالً‏ ثم عاد إلى بيته فخلع الثوب وطواه،‏ ثمفقال له القوم مؤنبين:‏ كيف تطلب ثوباً‏ لرسول هللا صلى هللا عليه وسلم لبسه محتاجاً‏إليه؟ وكيف تطيب نفسك به فتأخذه وأنت تعلم أنه صلى هللا عليه وسلم ال يرد سائالً؟79


شعر الرجل بأنه أخطأ حين سارع إلى استهداء الثوب،‏ ولكنه اعتذر قائالً:‏ وهللا لم أطلبهأللبسه ولكنه حين المس جسم رسول هللا صلى هللا عليه وسلم وعرفت أنه ثوب مباركرجوت أن يكون لي كفناً..‏ ‏...ومات الرجل وكفنوه به.‏...................–رياض الصالحين:‏ باب اإليثار والمساواةالتواضع يرفع صاحبه–مرَّ‏ أنس بن مالك رضي هللا عنه على صبيان يلعبون في أحد أزقة المدينة المنورة فقاللهم وهو الرجل الكبير –: السالم عليكم ورحمة هللا وبركاته،‏ فقال له أحد مرافقيه:‏كيف تسلم عليهم وأنت الصحابي المعتبر وهم صغار ال يراعون ذلك؟فقال له:‏ كيف ال أفعل شيئاً‏ كان رسول هللا صلى هللا عليه وسلم يفعله،‏ وأنا أرجو أنأكون رفيقه في الجنة،‏ ومن تشبّه بقوم وسار على نهجهم كان منهم؟!‏وقد كان رسول هللا صلى هللا عليه وسلم يتواضع لهم ويعاملهم برأفة ورحمة ويلين لهمويبتسم بوجوههم وهو الذي كان يقول:‏ ‏))إن هللا أوحى إليّ‏ أن تواضعوا حتى ال يفخرأحد على أحد،‏ وال يبغي أحد على أحد((.‏–لقد كانت الفتاة الصغيرة تستوقفه عليه الصالة والسالم وتكلمه،‏ فيجيبها،‏ وتأخذبيده فينقاد لها،‏ وتذهب به لحاجتها أي مكان كان قريباً‏ أو بعيداً.‏قال أبو هريرة رضي هللا عنه:‏ صدقتَ‏ يا أنس،‏ فقد حدثنا الرسول صلى هللا عليه وسلم:‏‏))ما من نبي بعثه هللا إال رعى الغنم((.‏قال أصحابه:‏ وأنت يا رسول هللا،‏ هل رعيت الغنم مثلهم؟قال دون حرج:‏ ‏))نعم أرعاها بأجر زهيد ألهل مكة((.‏قال أنس:‏ ليس من المعيب أن يعمل اإلنسان بأجر زهيد ومهنة بسيطة،‏ إنما العار أنيمد يده يتكفف الناس وهو قادر على العمل.‏قال أبو هريرة:‏ وكان رسول هللا صلى هللا عليه وسلم يقبل الهدية خطي ‏َرها وحقي ‏َرها فقدقال:‏ ‏))لو أهدي إلي ذراع أو كُراع لقبلت((،‏ والكراع ساق البقر أو الغنم ال لحم فيها.‏80


–قال أنس:‏ ولقد كان لرسول هللا صلى هللا عليه وسلم ناقة تدعى ‏"العضباء"‏ كانت التُسبق أو ال تكاد تُسبق،‏ فجاء أعرابي بقعو ‏ٍد ‏"جمل"‏ فسبقها فشق على المسلمين أن يسبقجملُ‏ األعرابي ناقة رسول هللا صلى هللا عليه وسلم،‏ وظهر الغضب على وجوههم،‏ فماكان منه عليه الصالة والسالم لحسن خلقه وشدة تواضعه وليذهب غضبهم إالأن قال:‏ ‏))حق على هللا أن ال يرتفع شيء من الدنيا إالّ‏ وضعه((.‏ وهذه سنة هللا فيخلقه.‏–-قال أبو هريرة:‏ وفي قوله هذا صلى هللا عليه وسلم تنبيه إلى عدم المباهاة وتركالمفاخرة وإلى هوان الدنيا على هللا،‏ وأنها ناقصة ال ينبغي االهتمام بها والركون إليها.‏قال األسود بن يزيد:‏ ومن تواضعه عليه الصالة والسالم ما قالته أم المؤمنين عائشةرضي هللا عنها حين سألها أحدهم:‏ ما كان يفعل رسول هللا صلى هللا عليه وسلم فيبيته؟ قالت:‏ كان في خدمة أهله يُ‏ ‏َفلّي ثوبه،‏ ويحلب شاته،‏ ويرقع ثوبه،‏ ويخصف نعله،‏ويخدم نفسه،‏ ويعلف ناقته،‏ وينظف البيت،‏ ويأكل مع الخادم ال يتكبر عليها،‏ ويعجنمعها،‏ ويحمل بضاعته من السوق .. وإذا أراد أحدهم أن يحمل عنه قال:‏ ‏))صاحبالحاجة أحق بحملها((،‏ وهو رسول هللا صلى هللا عليه وسلم وخير خلقه،‏ أفال نتخذهأسوة وقدوة فنفعل ما يفعل؟وهنا قال رفاعة ب ‏ُن تميم بن أسيد:‏ تعلمون أنني رجل من األعراب الذين إذا رأوا رأياً،‏أو بدا لهم بداء قالوه دون أن يستأذنوا،‏ ولو كان الموقف غير مناسب يتطلب األناةواالنتظار،‏ فقد وصلت المدينة المنورة يوم الجمعة ظهراً،‏ ودخلت مسجد رسول هللاصلى هللا عليه وسلم وهو يخطب،‏ ولم أكن أعرف خطأ الحديث واإلمام يخطب،‏ لقدكان المسلمون جميعاً‏ سكوتاً‏ كأن على رؤوسهم الطير ينصتون إلى رسول هللا صلى هللاعليه وسلم،‏ فناديت من وراء:‏ يا رسول هللا،‏ أنا رجل غريب جاء إليك يعلن إيمانه بهذاالدين الجديد،‏ ال يعرف كيف يدخل اإلسالم،‏ وال أركان اإليمان،‏ وال يدري شيئاً‏ منأصول هذا الدين سوى أنه كره الكفر ورغب في ملّة التوحيد والدين الحنيف.‏ قلت هذابصوت عال بملء فمي،‏ فالتفت الناس إليّ‏ وتعجبوا مما فعلت وظهر على أغلبهمالضيق والتأفف..‏أتدرون ما فعل رسول هللا صلى هللا عليه وسلم؟ بأبي وأمي يا رسول هللا ما أحلمك وماأعظمك،‏ لقد ترك خطبته،‏ وأقبل إليّ،‏ فلما أصبح أمامي توقف وأشار إلى بعضهم فجاءبكرسي فقعد عليه،‏ وجعل يعلمني مما علمه هللا،‏ فكان كالمه ح كماً،‏ ونطقه عظاتٍ،‏81


ونظرته بلسماً‏ لنفسي وروحي،‏ ثم عطف إلى منبره صلى هللا عليه وسلموكأن شيئاً‏ لم يكن.‏فأتم خطبته،‏اللهم إني أشهدك وأشهد حملة عرشك،‏ ومالئكتك والناس جميعاً‏ أنني أحبه وأرجوشفاعته يوم ألقاك،‏ فاكتبني من عبادك الصالحين المحبين..‏ اللهم آمين.‏رياض الصالحين:‏ باب التواضع82


الحلم وسعة الصدرروى أبو هريرة رضي هللا عنهقال:‏بال أعرابي في المسجد،‏ فقام الناس إليه ليقعوا فيه،‏ سباً‏ وشتماً،‏ ولعل بعضهم مالليضربه،‏ فمنعهم النبي صلى هللا عليه وسلم قائالً:‏ ‏))دعوه فقد بال وانتهى،‏ ولئنعاقبتموه لن يطهر المكان وأريقوا على بوله سَجالً‏ من ماء أو ذنوبا من ماء الدلوالكبير المملوء ماء فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معَ‏ ‏ِّسرين((.‏––––––فاألعرابي اعتاد أن يبول في أي مكان يصادفه،‏ يشعر بالحاجة إلى ذلك ودون قصد،‏فهو ‏)األعرابي(‏ في رأيه لم يفعل ما يالم عليه،‏ والمسجد رمل كما الصحراء،‏ فأيخطأ ارتكبه،‏ ولماذا يثور المصلون عليه؟!!‏ والحقيقة أن المرء ال يالم على مُجانبة ماتعلمه.‏لكن الناس قاموا إليه:‏ هذا يوبخه،‏ وذاك ينهره،‏ والثالث يصرخ فيه واآلخر يكاديضربه،‏ وهو ال يدري سبباً‏ لذلك،‏ وإن درى فهو يعجب لتصرفاتهم لم يزعجونه؟!‏وعالم يوبخونه؟!!‏–وال يلبث رسول هللا صلى هللا عليه وسلم –وهو يرى ذلكأن يأمرهم بما يلي:‏الكف عنه،‏ ألن الزجر والسب وغيرهما ال تصلح األخطاء،‏ وهنا يأتي دور الحلمواألناة والتصرف بالحكمة.‏تطهير المكان،‏ وذلك بأن يريقوا عليه دلواً‏ كبيرة مملوءة ماءً،‏ فالعمل الجيد الحسنيزيل األوضار وينظف المسجد مما ضره ونجسه.‏التزام الهدوء واللطف،‏ فالمسلمون بعثوا ميسرين،‏ ال معسرين ودعاة إلى الدين المنفرين منه.‏-1-2-3––فما كان من البدوي بأفقه الضيق حين رأى ما فعلوه به،‏ وما أمرهم النبي صلى هللاعليه وسلم إال أن دعا هللا عز وجل معلناً‏ عن ضيقه منهم وإكباره النبيَّ‏ صلى هللاعليه وسلم:‏ اللهم ارحمني ومحمداً‏ وال ترحم معنا أحداً.‏ إذ كيف يدعو للباقين،‏ وقدأحرجوه؟!‏ أمّا رسول هللا صلى هللا عليه وسلم فقد كف أذاهم عنه،‏ وأنقذه منهم،‏ ف ‏َحق أنيدعو له.‏83


ودعاء البدوي بالخير للنبي صلى هللا عليه وسلممنه ما يدعوه إلى اعتناق الدين الجديد.‏يدل على أن نفسه ارتاحت إليه وسيقبلوهنا اغتنم النبي صلى هللا عليه وسلم هذا االنفتاح النفسي عنده،‏ وبيّن له أن المسجدمكان طاهر،‏ ال ينبغي له إال الطهارة..‏ وطلب إليه أن يدعو للناس جميعاً‏ ألن رحمة هللاأوسع.‏ثم التفت إلى أصحابه يعلمهم كيف يكونون دعاة،‏ فأمرهم بالرفق قائالً:‏ ‏))إن هللا رفيقيحب الرفق،‏ ويعطي على الرفق ما ال يعطي على العنف،‏ وما ال يعطي على سواه((.‏وروى ابن عباس رضي هللا عنهما أن وفد عبد القيس جاءوا إلى المدينة المنورة لزيارةالنبي صلى هللا عليه وسلم وإعالن إسالمهم،‏ فلما وصلوا المدينة أسرعوا إلى النبيصلى هللا عليه وسلم شوقاً‏ إلى لقائه،‏ أما األشج وهو من وجهائهم فقد أقام عند رحالهم،‏فجَمعَ‏ من بقي منهم،‏ وعقل ناقته،‏ ولبس أحسن ثيابه،‏ فهو لن يقابل إنساناً‏ مغموراً،‏ إنمايالقي سيد ولد آدم محمداً‏ صلى هللا عليه وسلم،‏ فليلقه نظيفاً‏ جميل الهيئة والمنظر،‏وهكذا انطلق إلى المسجد فسلم،‏ فقرّبه النبي صلى هللا عليه وسلم،‏ فأجلسه إلى جانبه ثمحين انعقد مجلسه صلى هللا عليه وسلم بعبد القيس جميعاً،‏ قال:‏ ‏))تبايعوني على أنفسكموقومكم؟((.‏قال القوم:‏ نعم يا رسول هللا،‏ نبايعك على أنفسنا وقومنا.‏قال األشج:‏ يا رسول هللا،‏ إنك تطلب منا أن نتخلى عن دين أقمنا عليه أعمارنا وليسأصعب على اإلنسان أن يترك دينه بسهولة،‏ فنحن نبايعك على أنفسنا فقد جئناك طوعاً‏يدعونهم إلىمعنا ورغبة،‏ أما بقية آل عبد قيس،‏ فأرسل إليهم بعض أصحابك اإلسالم ويرغبونهم فيه،‏ فمن اتبعنا كان منا،‏ ومن أبى قاتلناه.‏––قال الرسول الكريمورسوله((:‏صلى هللا عليه وسلم:‏ ‏))صدقت .. إن فيك خصلتين يحبهما هللا‏))الح لم((:‏ وهو العقل المفكر والصدر الواسع وجودة النظر للعواقب.‏‏))واألناة((:‏ وهي التثبت من األمر،‏ وترك العجلة،‏ والتربص في األمر.‏-1-2قال األشج:‏ يا رسول هللا،‏خلقني؟أهاتان الصفتان جديدتان فيّ‏ أم قديمتان،‏ جبلني هللا عليهما مذ84


قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم:‏ ‏))بل خصلتان قديمتان((.‏قال األشج:‏ فالحمد هلل الذي جبلني على خلقين يحبهما هللا تعالى.‏رياض الصالحين:‏ باب الحلم واألناة85


–االنتقام للنفس منقصة،‏ وهلل كمال وإيمانهذا رسول هللا صلى هللا عليه وسلم في أسواق المدينة وأزقتها،‏ يراقب المسلمين فيحياتهم اليومية من بيع وشراء ومعامالت،‏ ويتابع ما يفعلونه،‏ فيقرُّ‏ هذا على ما يفعل،‏وينهى ذاك عن خطأ وقع فيه،‏ وينبه اآلخر ليمين بدر منه،‏ فال حاجة للقسم،‏ فكثيرالحلف كذاب،‏ ويمدّ‏ أصبعه في سلة تمْ‏ ‏ٍر فيراها مبتلّة من أسفل فيقول لصاحبها:‏ ‏))منغشنا فليس منا((.‏ إنه معلم،‏ وقائد..‏ يصنع مجتمعاً‏ صالحاً،‏ ويبني دولة قوامها العدلواإلنصاف،‏ لم يكن معه كعادة الحكام جند وحرس يحمونه،‏ فحب الناس سياج،‏والسعي في خدمتهم وإسعادهم أفضل طريق لألمن واألمان،‏ ولكن ال بد من ‏َهنة من هذاأو ذاك،‏ يتالفاها بالحكمة واللطف.‏––قال أنس:‏ كنت أمشي مع رسول هللا صلى هللا عليه وسلم في تفقده أمور المسلمينكعادته،‏ وعليه برد غليظ الحاشية من نسج نجران من اليمن،‏ فتقدم منه أعرابي مسرعاً‏واألعراب جفاة فيهم رعونة وإن لم يقصدوها فشدّ‏ بردة النبي صلى هللا عليه وسلمشداً‏ عنيفاً‏ حتى رأيت طرفها العلوي يضغط بحدّه الغليظ على عنق الرسول الكريمصلى هللا عليه وسلم ضغطاً‏ أثّر فيه،‏ فهممت بدفع هذا األعرابي السيء األدب،‏ فمنعنيرسول هللا صلى هللا عليه وسلم،‏ ونظر لألعرابي فسمعه يقول له:‏ يا محمد دون أن يلقبهب:‏ يا رسول هللا،‏ فهممت بضربه لوال أن الرسول صلى هللا عليه وسلم كان قد منعني،‏وأردف األعرابي وهو ما يزال يجذب النبي صلى هللا عليه وسلم من بردته:‏ ‏ُم ‏ْر لي منمال هللا الذي عندك،‏ فإنك ال تحمل من مالك وال مال أبيك.‏:-––––فسكت النبي صلى هللا عليه وسلم ثم قال بأبي هو وأمي ما أحلمه وما أعظمه‏))المال مال هللا،‏ وأنا عبده((،‏ ثم ضحك في وجهه وقال:‏ أرسلني يا أعرابي،‏ وأمر لهببعيرين،‏ يحمل األول شعيراً،‏ والثاني تمراً‏ وقال لألعرابي:‏ ‏))أيكفيك ما أعطيتك منمال هللا الذي عندي؟((،‏ قال األعرابي:‏ نعم،‏ ولم يزد لجفائه على هذه الكلمة.‏ قلت:‏يا رسول هللا،‏ رجل قليل األدب،‏ يخاطبك بجفوة،‏ ويشدُّ‏ بردتك فيؤثر في عنقكويخاطبك برعونة فتأمر له بصلة؟!‏ قال الرسول الكريم البرُّ‏ الرحيم:‏ ‏))يا أنس،‏أمرت أن أخاطب الناس على قدر عقولهم((.‏–––––‏))يا أنس،‏ يقول هللا تعالى:"‏وَ‏ الْكَاظ م ينَ‏الْمُحْ‏ س ن ي ‏َن يُح ‏ُّب وَ‏ هللاَّ‏ ُ النَّاس عَن وَ‏ الْعَاف ي ‏َن الْغَيْ‏ ‏َظ.)) "86


‏))يا أنس:‏ المسلم الذي يخالطيصبر على أذاهم((.‏الناس ويصبر على أذاهم خير من الذي ال يخالطهم والقال أنس:‏ صدق رسول هللا صلى هللا عليه وسلم،‏ فقد اشترى من يهودي سلعة على أنينقده ثمنها وقت الحصاد .. هكذا كان االتفاق.‏لكن اليهودي جاءه قبل الميعاد،‏ وأمسك ببردة النبي صلى هللا عليه وسلم من ناحية عنقهوجذبها جذبة شديدة حتى تغيّر وجه رسول هللا صلى هللا عليه وسلم من شدتها،‏ وقال:‏ يامحمد أعطني حقي،‏ فوهللا إنكم يا آل عبد المطلب لقوم مطل ‏)تسوفون في دفع الحقوقوتماطلون(.‏رأى عمر رضي هللا عنه ما فعل اليهودي فغضب ورفع السيف في وجهه،‏ واستأذنرسول هللا صلى هللا عليه وسلم أن يضرب عنقه لسوء أدبه وتصرفه،‏ وخاف اليهوديفترك رسول هللا صلى هللا عليه وسلم وظهر الهلع على وجهه،‏ فما كان من النبي صلىهللا عليه وسلم الحليم ذي الخلق العظيم إال أن التفت إلى عمر قائالً:‏ ‏))كان أولى بك ياعمر أن تأمرني بحسن القضاء،‏ وأن تأمره بحسن االقتضاء((.‏‏))يا عمر،‏ ليس الشديد بالصُّرَعة،‏ إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب((.‏‏))يا عمر،‏ أعطه حقه وزد له((.‏قال عمر:‏ أعطيه حقّه يا رسول هللا،‏ فما بال الزيادة؟قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم:‏ ‏))الزياة يا عمر إلخافتك إياه((.‏قال عمر:‏ إننا ال نغضب ألنفسنا إال أن تنتهك محارم هللا.‏يا عمر:‏ إن موسى أخذ برأس أخيه يجرّه إليه حين صنع السامري عجالً‏ جسداً‏ لهخوار،‏ فلم يفعل هارون شيئاً،‏ وكان عليه أن يبطش بهذا السامري الذي افترى على هللا،‏واتخذ له ولضعفاء اليهود إلهاً‏ غير هللا.‏يا عمر:‏ الحلم والصبر واللين في مواقعهما أشد نفعاً..‏ والصالبة،‏ والغضب والقيامبالحق في مواقعها أجدى وأنفع وهذا حسن الخلق يا عمر.‏قالت عائشة رضي هللا عنها:‏ إن امرأة من بني مخزوم من قريش سرقت يوم فتحالمسلمون بقيادة نبيهم الكريم مكة المكرمة،‏ ووصل خبر السرقة إلى النبي صلى هللا87


عليه وسلم،‏ فأ ‏َمر بقطع يدها،‏ فعزّ‏ على بني مخزوم،‏ وهم سادة قريش،‏ أن تقطع يدمنهم،‏ إنها لفضيحة الدهر وخزي الزمان،‏ لو أن امرأة من عامة الناس سرقت لهاناألمر!!‏ ولكن امرأة من مخزوم وهم سدّة قريش عدداً‏ وماالً،‏ يا للعار،‏ ويا للشنار..‏ إنهذا ال يكون،‏ ال يكون أبداً،‏ وبدأوا يقلبون األمور،‏ ويبحثون عمن يجرؤ على حديثرسول هللا صلى هللا عليه وسلم والشفاعة لها،‏ فما وجدوا إال الفتى اب ‏َن السادسة عشرةأسامة بن زيد ‏)الح بَّ‏ بن الح بّ‏ (.––––والعجيب أنهم ما كانوا يلقون إلى هذا باالً،‏ وال يهتمون به.‏ أتدرون لماذا؟ ألن أباهوإن كان يوماً‏ ربيب النبي صلى هللا عليه وسلم،‏ ويطلق عليه زيد بن محمد قبل تحريمالتبني كان عبداً‏ للسيدة خديجة رضي هللا عنها،‏ اشترته بحرّ‏ مالها،‏ وأهدته رسول هللاصلى هللا عليه وسلم عندما تزوجها،‏ فأعتقه الرسول الكريم صلى هللا عليه وسلم وتبناه،‏وزوجّه من أم أيمن بركة الحبشية حاضنته رضي هللا عنهما،‏ فولدت له أسامة،‏ وورثأسامة عنها لونها األسود.‏ما كان الناس يرضون زيداً‏ قائداً‏ لهم،‏ فتأففوا حين جعله النبي الكريم أول قادة جيشالمسلمين في مؤتة،‏ فاستشهد رضي هللا عنه،‏ وجعل الرسول الكريم ابنه أسامة قبللحوقه صلى هللا عليه وسلم بالرفيق األعلى قائد جيش المسلمين إلى بالد الشام.‏ فتأففالناس لذلك وتشفعوا بالصحابة الكرام أن يعزله الرسول الكريم عن قيادة الجيشفغضب،‏ وأبى ذلك وقال:‏ ‏))إنكم أبيتم أباه وإنه لجدير بالقيادة،‏ وأبيتموه،‏ وإنه لحقيقبها((...‏ وعلى الرغم من ذلك ولمكانته عند رسول هللا صلى هللا عليه وسلم،‏قصدوه ليشفع في هذه السارقة المخزومية.‏لم يكن األمر يسيراً،‏ فالحدّ‏ حين يرفع إلى الحاكم ويصل إليه،‏ ال تجوز فيه الشفاعة،‏ولكنْ‏ ما على أسامة إن كلم النبي صلى هللا عليه وسلم في أمرها؟!..‏ استجمع قوته وجاءإلى الرسول الكريم فكلمه على استحياء في العفو عنها.‏ ورسول هللا صلى هللا عليهوسلم ينصت إليه حتى فرغ من حديثه،‏ قال:‏ ‏))أتشفع في حد من حدود هللا تعالى؟((‏وهل يجوز تعطيل الحدود؟!‏ إذاً‏ ال تستقيم األمور،‏ وال يحيا المجتمع الحياة الطبيعيةاآلمنة،‏ ويعتاد الناس الخطأ،‏ والشفاعة فيه،‏ فتختل الموازين وتضطرب المعايير ..ينبغي على المسلم أن يقف عند حدود هللا،‏ ويلتزم بها فالقوي والضعيف،‏ والغنيوالفقير،‏ والكبير والصغير .. متساوون في ميزان هللا وشرعه القويم.‏وقام رسول هللا صلى هللا عليه وسلم خطيباً‏ في الناس يقول لهم:‏88


–‏))إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه لشرفه ووجاهته-، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد لخموله بينهم وضعف مكانته.)) -–إن مجتمعاً‏ تسود فيه هذه القيم المنحرفة لجدير أن يزول ويمحى،‏ وأن يتالشى ويندثر،‏ثم أطلق الحاكم العادل تلك الصيحة المدوية التي مألت الدنيا حقاً‏ وعدالً،‏ وتصميماً‏ علىإقامة حدود هللا:‏ ‏))وايم هللا،‏ لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها((.‏رياض الصالحين:‏ باب الغضب إذا انتهكت حرمات المسلمين89


-1أخالق عاليةتوفي خنيس بن حذافة السهمي في المدينة المنورة،‏ من جراحة أصابته في غزوةأحد،‏ فترك وراءه زوجته الشابة حفصة بنت عمر بن الخطاب رضي هللا عنه،‏ فلميشأ الفاروق أن تبقى ابنته دون رجل يبني بها،‏ وكان عثمان بن عفان رضي هللاعنه قد ماتت زوجته رقية بنت رسول هللا صلى هللا عليه وسلم،‏ وعثمان،‏ وما أدراكما عثمان الرجل العفّ‏ المؤمن،‏ من السابقين إلى اإلسالم.‏وهل يرى عمر خيراً‏ منه حرزاً‏ حصيناً‏ لحفصة؟..‏ هذا ما دار بخلد عمر الفاروق،‏ولكن كيف يعرض الرجل ابنته على الناس؟ إن من العادة أن يخطب الرجالالنساء،‏ ال أن يخطب الرجل البنته رجالً!!‏ ولكن أليست الفتاة فلذة الكبد كما الفتىسواء بسواء،‏ فلماذا يخطب البنه وال يخطب البنته؟ من السهل أن يتزوج الرجلالمرأة فيكره منها أموراً‏ فيطلقها ليتزوج غيرها،‏ ومن الصعب أن تتزوج المرأةالرجل فترى فيه ما يرغبها عنه فتستطيع منه فكاكاً،‏ فال عيب إذاً‏ أن يختار الرجلالبنته الزوج الكفء الصالح،‏ بل عليه أن يسعى إلى ذلك قبل أن يبحث عن زوج ‏ٍةلولده.‏وهكذا فعل عمر رضي هللا عنه،‏ فلقي عثمان،‏ فعرض عليه ابنته حفصة قائالً:‏ إنشئت أنكحتك حفصة بنت عمر،‏ وأنت تعرفها وتعرف أباها.‏قال عثمان:‏ بارك هللا فيك يا أبا عبد هللا،‏ سأفكر فيما عرضت عليّ،‏ فنعم الرجلأنت،‏ ونعم من هو بعض منك يا أخي.‏قال عمر:‏ فلبث عثمان ليالي ثم لقيني فقال:‏ أنا شاكرٌ‏ لك ثقتك فيّ،‏ لكنني ال أرغبهذه األيام في الزواج.‏قال عمر:‏ فلقيت أبا بكر الصدِّيق رضي هللا عنه فقلت له مثل ما قلت لعثمان:‏ إنشئت أنكحتك حفصة بنت عمر يا أبا بكر،‏ فصمت أبو بكر الصدِّيق رضي هللا عنه،‏ولم يجبه بشيء من قبول أو إعراض،‏ تصريحاً‏ وال تعريضاً،‏ فغضبت منه أكثر منغضبي من عثمان،‏ ألن الثاني أجابني مبدياً‏ عما في نفسه،‏ أما الصدِّيق فأعرضعن إجابتي وكأنه لم يسمع قالتي.‏فلبثت ليالي،‏ فلقيني الرسول صلى هللا عليه وسلم فقال:‏ ‏))يا عمر((.‏قلت:‏ لبيك يا رسول هللا وسعديك.‏قال:‏ ‏))أخطب إليك ابنتك حفصة أفتزوجنيها؟((.‏90


-2قلت:‏ يا رسول هللا هذا فضل منك ومنّةٌ،‏ وما أسعدني وأسعدها بك،‏ وصلتني باهللتعالى وجعلتني لك صاحباً،‏ وأكرمتني إذ طلبت حفصة زوجة لك،‏ جزاك هللا عنيكل خير يا رسول هللا.‏وتزوج النبي صلى هللا عليه وسلم ابنة الفاروق،‏ وانضمت إلى عقد أمهاتالمؤمنين.‏قال الصدِّيق لعمر:‏ يا أخي لعلك غضبت مني حين عرضت عليَّ‏ ابنتك فلم أعطكجواباً؟قال عمر:‏ لعمري إن ما قلته صحيح يا أبا بكر.‏قال الصدِّيق:‏ إنّي لم يمنعني أن أرجع إليك فيما عرضت عليّ‏ إال أنني كنت أعلم أنالنبي صلى هللا عليه وسلم ذكر لي أنه يرغب في الزواج منها ولم يكن معنا أحد،‏فقلت:‏ هذا سرّ‏ ال ينبغي لي أن أفشيه،‏ فلزمت الصمت إلى أن طلبها إليك بنفسهصلى هللا عليه وسلم،‏ ولو تركها النبي صلى هللا عليه وسلم لقبلتها يا عمر.‏قال عمر:‏ اآلن ارتاحت نفسي،‏ حفظك هللا يا صدّيق ورضي عنك.‏ وتزوج عثمانرضي هللا عنه أم كلثوم بنت النبي صلى هللا عليه وسلم فلقِّب ذا النورين.‏وقال النبي صلى هللا عليه وسلم:‏ ‏))لقد تزوج عثمان خيراً‏ من حفصة،‏ وتزوجتحفصة خيراً‏ من عثمان((.‏قالت عائشة رضي هللا عنها:‏ كنّ‏ أزواج النبي صلى هللا عليه وسلم عنده،‏ فأقبلتفاطمة رضي هللا عنها تمشي،‏ ما تخطئ مشيتها من مشية الرسول صلى هللا عليهوسلم،‏ ‏)فهي تشبهه حتى في مشيته(‏ فلما رآها رحبّ‏ بها وقال:‏ ‏))مرحباً‏ يا ابنتي((‏ثم أجلسها عن يمينه،‏ فحدّثها وبشّ‏ لها،‏ ثم مال إليها،‏ فأسر لها حديثاً،‏ فبكت بكاءشديداً،‏ فلما رأى جزعها أسرّ‏ لها حديثاً‏ آخر فضحكت،‏ فتعجبتُ‏ لبكائها وضحكها((،‏فقلت لها:‏ خصّك رسول هللا صلى هللا عليه وسلم من بين نسائه بالسرار ثم أنتتبكين!‏فلما قام رسول هللا صلى هللا عليه وسلم سألتها:‏ ما قال لك رسول هللا صلى هللا عليهوسلم؟قالت:‏ ما كنت ألفشي على رسول هللا صلى هللا عليه وسلم سرّه.‏فلما توفي رسول هللا صلى هللا عليه وسلم قلت لها:‏ أقسمت عليك بالحب بينناوالمودة الصادقة التي تجمعنا أن تحدثيني بما قال لك رسول هللا صلى هللا عليهوسلم،‏ فقالت:‏ أما اآلن فنعم،‏ سوف أحدثك.‏91


أما في المرة األولى فأخبرني:‏ أن جبريل عليه السالم كان يعرض عليه القرآن كلسنة مرة،‏ يقرأ النبي صلى هللا عليه وسلم ويعيده جبريل ليثبت في قلب المصطفىعليه الصالة والسالم.‏أما في هذه السنة فقد قرأه الرسول الكريم صلى هللا عليه وسلم مرتين وكرره عليهجبريل مرتين،‏ فأحسَّ‏ الرسول الكريم صلى هللا عليه وسلم أن هذه داللة على دنواألجل،‏ وأمرني بالتقوى والصبر على الفراق،‏ فإن شرف السلف يعدل ما قد يبدومن ألم الفراق،‏ وأنا نعم السلفُ‏ لك،‏ فبكيت بكائي الذي رأيته وسمعته.‏وأما في المرة الثانية فإنه عليه الصالة والسالم قال:‏ ‏))يا فاطمة أما ترضين أنتكوني سيدة نساء المؤمنين وأفضلهن في الجنة((،‏ فأحسست بفضل هللا الكبير عل ‏ّيومكانتي في عليين فضحكت ضحكي الذي رأيته وسمعته.‏رياض الصالحين:‏ باب حفظ السر92


أعرابي في صالةروى معاوية بن الحكم السلم ‏ُّي قال:‏ كنت قريب عهد باإلسالم أعرف أركانه،‏ ولكننيأجهل كيف أؤدي الصالة والزكاة،‏ وما إلى ذلك،‏ صلينا مرة وأمّنا رسول هللا صلى هللاعليه وسلم فقرأ الفاتحة وسورة ثم ركع وسجد،‏ ونحن نتابعه في صالته،‏ فنفعل ما يفعل،‏فعطس رجل إلى جانبي،‏ ولكنه لم يحمد هللا،‏ فقلت في نفسي:‏ عجباً‏ لهذا الرجل أما علمأن عليه أن يحمد هللا بصوت مسموع كي نشمِّته؟!‏ هكذا أمرنا رسولنا الكريم صلى هللاعليه وسلم،‏ ولعله يجهل هذه السنة فألبادر بتشميته فأنال ثواب هللا تعالى،‏ فبادرته قائالً:‏يرحمك هللا،‏ فكأن القوم رموني بأبصارهم شزراً‏ وإنكاراً‏ لما فعلت،‏ وأحسست أن كلواحد منهم يؤنبني وكأنني أتيت كبيرة،‏ ففاض ما في نفسي وصحت:‏ واثكل أمياه،‏ هلكتإذاً‏ وهللا،‏ لماذا تنظرون إليَّ‏ هكذا؟ فأخذ المصلون يضربون على أفخاذهم ضربة أوضربتين وكأنهم بهذا يريدونني أن أصمت،‏ وغضبت لما يفعلون لجهلي بأن هذا يبطلالصالة،‏ فامتثلت ألمرهم وسكتُّ‏ إلى أن انتهت الصالة،‏ وأنا أفكر ه ‏ّياباً‏ مما قد يفعلرسول هللا صلى هللا عليه وسلم بي.‏بأبي أنت وأمي يا رسول هللا،‏ لم تنظر إليّ‏ مؤنباً‏ ولم تعبس بوجهي وال أسمعتني ماأكره،‏ لقد كنت معلماً‏ غاية في اللطف والحكمة.‏ قلت مخاطباً‏ الجميع دون أن تخصنيبالنصح فأخجل من نفسي:‏ ‏))إن هذه الصالة ال يصلح فيها شيء من كالم الناس،‏ إنماهي التسبيح،‏ والتكبير،‏ وقراءة القرآن((،‏ ولم تأمرني أن أعيد الصالة لقلة كالمي فيهاوألنني أجهل ما يُبطلها.‏وهنا تجرأت وسألت النبي صلى هللا عليه وسلم فقلت:‏ يا رسول هللا إني حديث عهدبجاهلية،‏ وقد جاء هللا تعالى باإلسالم فال تغضب مني إن سألتك أموراً‏ أجهل حكمها،‏قال الرسول الكريم:‏ ‏))ال تثريب عليك،‏ سل يا معاوية أجبك((،‏ قلت:‏ يا رسول هللا إنمنا رجاالً‏ يقصدون الكهان ممن يدعون معرفة الضمائر وما تخفى النفوس ويخبرونعن المستقبل وما غمض من الماضي.‏قال:‏ ‏))هم كذابون يستعينون بالجن ويتقوّ‏ لون فال تأتهم،‏ فالغيب يعلمه هللا سبحانهوحده((.‏قلت:‏ وهناك رجال يؤمنون بالطيرة،‏ فإذا أرادوا فعل شيء رمَوامضوا في أمرهم،‏ وإن ذهب شماالً‏ امتنعوا عن هذا األمر.‏طيراً،‏ فإن ذهب يميناً‏93


قال صلى هللا عليه وسلم:‏ ‏))إن الطيرة وهمٌ‏ في النفوس ال مبرر له،‏ فال تأبه له يامعاوية،‏ وامض فيما عزمت عليه،‏ فالخير كله عاجله وآجله من هللا تعالى،‏ واستخر هللاوتوكل عليه،‏ وعلى هللا فليتوكل المؤمنون((.‏رياض الصالحين:‏ باب الوعظ94


السابقون السابقونوهللا ألتوضَّأنّ‏ وضوءا كما أمر رسول هللا صلى هللا عليه وسلم،‏ وألصليَّن ركعتينأدعو هللا إثرهما أن يجعلني من أهل الفردوس األعلى مع النبي صلى هللا عليه وسلم،‏ ثمأذهب إلى مسجد رسول هللا صلى هللا عليه وسلم فألزمه يومي هذا فإني أحسُّ‏ أن الدنياوالعمل لها يكاد يجذبني إليها،‏ هكذا حدَّث أبو موسى األشعري رضي هللا عنهنفسه،‏ فقام فتوضأ،‏ ثم صلى،‏ ثم انطلق إلى المسجد النبوي يحث الخُطا إليه،‏ ورأى فيطريقه بعض أصحابه فسلّم عليهم،‏ فدعَوه إلى الجلوس بينهم،‏ فلم يكترث،‏ إنما جدَّ‏ السيرإلى غايته،‏ فلما وصل رأى بعض أهل الصفّة فسألهم عن رسول هللا صلى هللا عليهوسلم،‏ فقالوا:‏ انطل ‏َق الساعة في اتجاه الغرب،‏ بقضي حاجته في غائط بئر اريس.‏––انطلق أبو موسى إلى ذلك المكان،‏ فرأى عن بعدٍ‏ طيف رسول هللا صلى هللا عليه وسلم،‏فجلس عند الباب ينتظر رسول هللا،‏ فلما انتهى صلى هللا عليه وسلم،‏ وتوضأ من البئرجلس على حافته ومدّ‏ رجليه إلى الماء يبترد،‏ فدخل عليه أبو موسى وسلّم عليه بتحيةاإلسالم قائالً:‏ السالم عليك يا رسول هللا ورحمة منك وبركاته،‏ صلى عليك وعلى آلكوأصحابه الطيبين الطاهرين،‏ فردَّ‏ عليه النبي صلى هللا عليه وسلم التحية بأحسن منهاوسأله عن حاله ودعا له،‏ فَ‏ ‏ُسرَّ‏ أبو موسى لهذا الدعاء الطيّب من فم طاهر طيّب،‏وأحسَّ‏ أنه نال اليوم خيراً‏ كثيراً،‏ فانصرف إلى باب الحائط وقال:‏ ألكوننَّ‏ بوّ‏ ابَ‏ رسولهللا اليوم،‏ أمنع مَن يقطع خلوته إال بإذنه،‏ فناداه رسول هللا صلى هللا عليه وسلم:‏‏))يا أبا موسى امل ك عليّ‏ الباب،‏ فال يدخلَّن عليّ‏ أحد إال إذا أذن ‏ُتله((.‏قال أبو موسى:‏ سمعاً‏ وطاعةً‏ يا رسول هللا.‏فلزمَ‏ البابَ‏ ينظر منه إلى رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ويمأل عينيه من طلعته البهية،‏فجاء أبو بكر رضي هللا عنه فدفع الباب،‏ فقال أبو موسى مستفسراً:‏ من أنت؟قال الصدِّيق:‏ أنا أبو بكر،‏ ‏)ولعله سأل عن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم كما سأل أبوموسى فتبعه كما تبعه هذا؟ أو اتفق مع رسول هللا صلى هللا عليه وسلم أن يلتقيه في ذلكالمكان بعد صالة العصر فجاء على ميعاد(.‏قال أبو موسى:‏ تمهل أيها الصدِّيق حتى أستأذن لك على رسول هللاوسلم.‏صلى هللا عليه95


قال الصدّيق:‏ نعم يا أبا موسى فاستأذن لي عليه.‏قال أبو موسى:‏ فذهبت إلى رسول هللا صلى هللا عليه وسلمأبو بكر جاء يستأذن أن تسمح له بالدخول عليك.‏فقلت له:‏ يا رسول هللا،‏ هذاقال النبي صلى هللا عليه وسلم:‏ ‏))ائذن له بالدخول،‏ وبشره بالجنّة((،..‏ يا هللا،‏ مقامالصدّيق رضي هللا عنه عظيم،‏ يبشّره الرسول الكريم بالجنّة،‏ ذلك المكان الذي يسعىإليه المسلمون يرجون رضاء هللا تعالى وفضله!‏ .. ومن أولى بالجنّة ممن شاركالرسول الكريم،‏ ودفع عنه أذى المشركين وبذل له ماله وحياته،‏ وقدّمه على نفسه وآله،‏صدّقه حين كذّبه الناس،‏ وأجابه إلى اإلسالم مسرعأً‏ دون تلكؤ وانتظار،‏ فهنيئاً‏ لك يا أبابكر أيها الصديق هذه البشرى العظيمة.‏قال أبو موسى:‏ فعدت إلى الباب فقلت للصدِّيق ادخل،‏ ورسول هللا صلى هللا عليه وسلميبشرك بالجنّة،‏ فن عمَتْ‏ هذه البشرى ولنعم دار المتقين.‏قال الصدّيق:‏ الحمد هلل رب العالمين،‏ وله المنّة والنعماء ال نحصي ثناءً‏ عليه،‏ اللهم لكالشكر،‏ يا واهب الخير،‏ يا ذا الفضل الكريم.‏السالم عليك يا رسول هللا ورحمته وبركاته.‏قال النبي صلى هللا عليه وسلم:‏ ‏))وعليك السالم يا أبا بكر ورحمة هللا ومغفرتهورضوانه((.‏وجلس الصدّيق عن يمين النبي صلى هللا عليه وسلم ومدّ‏ رجليه إلى الماء يفعل ما يفعلهالرسول صلى هللا عليه وسلم،‏ وابتسم كلّ‏ إلى صاحبه،‏ يتجاذبان أطراف الحديث،‏والرَّوح والريحان يعبق المكان،‏ والمَلَك تملؤه أنساً‏ ونشو ‏ًة بسيّد الرسل الكرام وصاحبهالصدّيق رضوان هللا عليه.‏قال أبو موسى في نفسه:‏ ليهنك أيها الصديق مقامك من النبي الكريم،‏ ورجع إلى البابيحرس المكان،‏ فتذكرَّ‏ أخاه عامراً‏ وتمنّى لو جاء إلى البئر يستأذن على رسول هللا فيأذنله ويبشره بالجنّة كما بشّر الصدّيق،‏ ويغنم الخلوَ‏ ةَ‏ بين يدي رسول هللا صلى هللا عليهوسلم،‏ لقد تأخر عن المجيء فلقد تركته يتوضأ،‏ وقال:‏ إنه سيلحقني فما الذي به؟!‏ إنيرد هللا به خيراً‏ يأت به .. هذا البابُ‏ يتحرك،‏ فلعله أخي عامرٌ‏ قد وصَل،‏ فناديت منأنت.‏96


قال عمر من وراء الباب:‏ أنا عمر بن الخطاب.‏قال أبو موسى:‏ فالزم مكانك ريثما أستأذن النبي صلى هللا عليه وسلم.‏قال عمر:‏ فافعل ما بدا لك،‏ أنا واقف هنا.‏فجاء أبو موسى إلى النبي صلى هللا عليه وسلمعمر بالباب واقفاً‏ يستأذن في الدخول إليك.‏فقال:‏ السالم عليك يا رسول هللا،‏ هذاقال النبي صلى هللا عليه وسلم:‏ ‏))ائذن له وبشِّره بالجنة((،‏ يارب،‏ ما أعظم حظالسابقين؟!‏ لهم الجنّةُ،‏ الفردوس األعلى،‏ وهذا الفاروق أوّ‏ ل من يأخذ كتابه بيمينه يومالقيامة،‏ فطوبى له هذا المقام العالي والمكانة الرفيعة،‏ ألم يكن أوّ‏ ل من جهر باإلسالموتحدى المشركين ونادى بكلمة التوحيد حين آمن بها وصدّق،‏ فأعز هللا به اإلسالم؟طوبى له،‏ ولنعم دار المتقين.‏قال أبو موسى:‏ فعدت إلى الباب،‏ فقلت له:‏ ادخل يا أبا حفص،‏ لقد أذن لك رسول هللاصلى هللا عليه وسلم بالدخول،‏ وأمرني أن أبشّرك بالجنة،‏ فهنيئاً‏ لك هذه البشرى وهنيئاً‏لك الفردوس األعلى.‏قال عمر:‏ الحمد هلل،‏ فهو وليُّ‏ الحمد،‏ وله المنّة والفضل،‏ ال أحصي ثناء عليه،‏ هو كماأثنى على نفسه،‏ وجزى هللا نبيه خيراً،‏ فهو سبب كلّ‏ هذه النعماء،‏ صلى هللا عليه وعلىآله وسلم .. السالم عليك يا رسول هللا ورحمة منه وبركات،‏ السالم عليك أيها الصدّيققال النبي صلى هللا عليه وسلم:‏ ‏))وعليك السالم يا عمر ورحمة هللا وبركاته ومغفرتهورضوانه((.ورد الصدّيق بمثلها أو خيرٍ‏ منها.‏فجلس الفاروق إلى يسار المصطفى عليه الصالةُ‏ والسالمُ‏ ودلّى ساقيه في الماء يفعلكما يفعل صاحباه،‏ وابتسم إلى النبي صلى هللا عليه وسلم وإلى صاحبه الصدِّيق فابتسماله،‏ وحفتهم المالئكة طيبين ترفرف أجنحتها رضى بهم،‏ فهم نبيّ‏ كريم ووزيراهالكريمان.‏قال أبو موسى متلّهفاً:‏ أين أنت يا عامر لترى الخير العميم،‏ ولتحظى بما حظي بهالعمَران من مقام عالٍ‏ ودعوة مستجابة،‏ إن يُرد هللا بك خيراً‏ يأت بك،‏ فتحرك الباب،‏فقلت في نفسي كن عامراً،‏ ثم ناديت من بالباب؟قال عثمان من ورائه:‏ أنا عثمان بن عفان،‏ أرسول هللا صلى هللا عليه وسلم هنا؟97


قال أبو موسى:‏ نعمإنه هنا وصاحباه الصديق وعمر،‏ فانتظر قليالً‏ كي أستأذن لك عليه.‏فذهب أبو موسى إلى النبي صلى هللا عليه وسلميستأذن لعثمان بالدخول إليه.‏قال النبي صلى هللا عليه وسلم:‏ ‏))ائذن له،‏ وبشره بالجنّة((،‏ وسكت هنيهة،‏ ثم قال:‏‏))على بلوى تصيبه((.‏قلت في نفسي بشرى بالجنة،‏ وبلوى تصيبه،‏ يرفع هللا بها مقامهفيصبر،‏ إن هللا مع الصابرين.‏ويمتحنه في صبره،‏قال أبو موسى:‏ فعدت إليه فقلت له:‏ يقول لك الرسولويبشّرك بالجنة على بلوى تصيبك.‏صلى هللا عليه وسلمادخل،‏قال عثمان:‏ الحمد هلل،‏ هو الذي يقدّر األمور،‏ وهو الذي يعيننا على بلوانا،‏ اللهم ألهمنيالصبر واكتب ل ‏ّي الخيرَ‏ حيث كان،‏ أنت وليي في الدنيا واآلخرة.‏السالم عليك يا رسول هللا ورحمته وبركاته،‏ السالم عليكما أيها الصدّيقان.‏قال النبي صلى هللا عليه وسلم:‏ ‏))وعليك السالم يا عثمان ورحمته وبركاته ومغفرتهورضوانه((.وردّ‏ الصدّيق والفاروق السالم بمثله أو بخير منه.‏كان المكان حول البئر ال يتسع ألكثر من ثالثة،‏ رسول هللا وأبو بكر،‏ وعمر،‏ فجلسعثمان قبالتهم،‏ وابتسم لهم،‏ وابتسموا له،‏ كانت األنسام تداعب المكان،‏ واألنس حولهمينشر المحبة والوئام،‏ وكانت جلسة كريمة تجمع نبياً‏ كريماً،‏ وصديقاً‏ رفيقاً،‏ وشهيدينعظيمين.‏رياض الصالحين:‏ باب استحباب التبشير والتهنئة بالخير98


ليس للشيطان في بيتنا نصيبقال عثمان:‏ يا أبت إنّ‏ ذكر هللا في كلِّ‏ األمور أمر رائع،‏ وسمةٌ‏ من سمات المسلمينيجب أن تالزمهم،‏ ولكنني أراك تحرص على ذكر اسم هللا تعالى في أمرين اثنين أكثرمن غيرهما.‏قال األب:‏ ذكر هللا يا بني تجعلك في ذمته ورعايته،‏ وهذا دأب المسلمين،‏ وعنوانالمؤمنين،‏ ولكن ما األمران اللذان تقصدهما يا عثمان؟قال عثمان:‏ أقصد ذكر هللا تعالى حين تدخل وحين تتناول الطعام.‏قال األب:‏ أحسنت يا ولدي في مالحظتك هذه،‏ فالرسول الكريم عليه الصالة والسالميحضّنا على ذلك،‏ فقد روى جابر بن عبد هللا عن النبي صلى هللا عليه وسلم قوله:‏‏))إذا دخل الرجل بيته،‏ فذكر هللا تعالى عند دخوله،‏ وعند طعامه،‏ قال الشيطانألصحابه ال مبيت لكم وال عشاء،‏ وإذا دخل،‏ فلم يذكر هللا تعالى عند دخوله قالالشيطان:‏ أدركتم المبيت،‏ وإذا لم يذكر هللا تعالى عند طعامه قال:‏ أدركتم المبيتوالعشاء((‏ فهل عرفت يا عثمان لماذا أذكر اسم هللا في الدخول إلى البيت وتناولالطعام؟قال عثمان:‏ نعم يا والدي،‏ حفظك هللا مربياً‏ ومرشداً.‏قال األب:‏ سأقص عليك يا ولدي موقفين اثنين للنبي صلى هللا عليه وسلميجب أن تفعله إذا أكلت.‏يوضحان ماقال عثمان:‏ أشكرك على ذلك يا أبت سلفاً‏ فما هما؟قال األب:‏ روى حذيفة بن اليمان صاحب سر رسول هللا صلى هللا عليه وسلم أنه كانقد حضر مع رسول هللا صلى هللا عليه وسلم طعاماً،‏ وال يجوز كما تعلم أن يبدأأحد الطعام إال إذا بدأه الكبير فيهم،‏ والوجيه بينهم،‏ وهذا نوع من أنواع األدب،‏ فلم يمدَّ‏أحدٌ‏ يده،‏ فهم ينتظرون الرسول الكريم صلى هللا عليه وسلم أن يضع يده،‏ فيفعلوا ذلكبعده،‏ وقبل أن يمد الرسول صلى هللا عليه وسلم يده امتدت إلى الطعام يد فتاة صغيرةفلم تذكر اسم هللا،‏ فأخذ رسول هللا صلى هللا عليه وسلم يدها فأبعدها عنه.‏––99


ودفع أعرابي يده إلى الطعام مسرعاً‏ دون أن يسمّي هللا،‏ فلتقّفها الرسول الكريم مانعاً‏يده أن تصل إليه،‏ فلما نظرا إليه مستنكرين ما فعله!!‏ قال النبي صلى هللا عليه وسلم إذذاك:‏ ‏))إن الشيطان يستحل الطعام أنْ‏ ال يذك ‏َر اسم هللا تعالى عليه،‏ وإن هذه الجاريةحين مدَّت يدها مدَّ‏ يده معها،‏ وإن هذا األعرابي حين مدَّ‏ يده مدّ‏ الشيطان يده مع يده،‏وقد منعت شيطانيهما أن يأكال حين رددت يديهما،‏ فاآلن اذكروا اسم هللا تعالى وكلوا((.‏ففعلنا.‏قال عثمان:‏ أال يكفي أن يسمي واحد ممن يجلسون إلى الطعام،‏ فتهرب الشياطين؟قال األب:‏ ينبغي أن يسمّي كل واحدٍ،‏ فإن لكلٍّ‏ شيطاناً.‏أما الموقف الثاني يا ولدي فإذا نسيت أن تذكر هللا تعالى أوّ‏ ل الطعام،‏ فاذكره متىتذكرته،‏ فقد روى أمية بن مخشي أن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ضحك ذات مرة،‏فقال له أصحابه:‏ ما الذي أضحكك يا رسول هللا؟ قال:‏‏))أال ترون إلى هذا الرجل الذي يأكل اآلن؟ لم يذكر اسم هللا تعالى فشاركه الشيطانطعامه،‏ حتى لم يبق من طعامه إال لقمة،‏ فتذكر فقال:‏ بسم هللا أوله وآخره ورفع اللقمةإلى فمه،‏ فلما سمع الشيطان ذكر هللا استقاء ما في بطنه((.‏يا بُن ‏َّي ؛احمد هللا على رزقه وفضله تكن على خطى رسولنا الكريم صلى هللا عليهوسلم،‏ فقد كان يقول حين ترفع إليه مائدته:‏ ‏))الحمد هلل حمداً‏ كثيراً‏ طيباً‏ مباركاً‏ فيه((،‏وكان يقول:‏ ‏))من أكل طعاماً‏ فقال:‏ الحمد هلل الذي أطعمني هذا ورزقنيه من غير حو ‏ٍلمني وال قوةٍ‏ غفر له ما تقدم من ذنبه((.‏رياض الصالحينكتاب آداب الطام:‏ باب التسمية في أوله والحمد في آخره100


ابن الحنظليةمجالس الصالحين رياض مليئة باألخالق،‏ ذات األنسام العطرة،‏ تفوح على قاصدهابخير الدنيا واآلخرة،‏ يؤمها الناس،‏ يغترفون من نميرها عذب األخبار،‏ وطيّب األفكار،‏وأرواح الحب وعبق اإليمان.‏وأجمل المجالس وأنفعها بيوت الرحمن،‏ يتحلّق فيها المسلمون حول عالم فقيه،‏ أومحدث صدوق،‏ يمألون قلوبهم بحب هللا وابتغاء مرضاته،‏ وعقولَهم بالشرع الحنيف،‏يمحصونه تعلّماً‏ وتعليماً‏ وفهماً‏ وتطبيقاً،‏ فهُم في رَوح وريحان،‏ وضياء وأنوار تحفّهمالمالئكة بأجنحتها،‏ وتدعو لهم،‏ وتشهد لهم عند هللا بما يرفع مقامهم،‏ ويا حبذا من شهادةيرفعها األطهار إلى المليك الغفار،‏ فيزيدهم من فضله،‏ ويغدق عليهم من عطائه العميموكرمه الدائم الفياض.‏هذا الصحابي الجليل أبو الدرداء في مجلسه بين المسلمين يعلمهم،‏ ويرشدهم،‏ ويمرعليهم في مسجد بدمشق الشام صحابيٍّ‏ آخر مثله،‏ نجماً‏ ساطعاً‏ وقمرا منيراً‏ قلما يجالسالناس،‏ فهو بعيدٌ‏ عنهم،‏ ولك ‏ٍّل طريقه في حياته،‏ يكثر من الصالة والتسبيح.‏ حياته بينعبادة وذكر وقراءة ودعاء،‏ فإذا انطلق إلى بيته كان لسانه الهجاً‏ بتوحيد هللا واستغفارهحتى يأتي أهله فيشغله ما يحتاج إليه من أمرهم عن ذلك..‏ ورآه أبو الدرداء فناداه:‏ يابشرُ‏ ؛ اقبل ‏،رحمك هللا ورعاك،‏ وأسمعنا كلمة سمعتها من رسول هللا صلى هللا عليهوسلم تنفعنها بها،‏ وال تكتم العلم هدانا هللا وإياك.‏أرأيتم كيف يسأل العال م أخاه العال مَ‏ أن ينفعه بكلمة؟!‏ فمهما كان ذا علم فهو يحتاج إلىالمزيد،‏ وال يعتبر نفسه إال في أول طريق العلم،‏ وال يتكبر عنه وإال عدَّ‏ جاهالً،‏ إنهيضع نصب عينيه:‏ ‏))كن عالماً‏ أو متعلماً،‏ وال تكن الثالثة فتهلك((‏ ويطلب العلم منالمهد إلى اللحد.‏ إنه يريد أن ينتفع المسلمون بعلمه وعلم غيره،‏ فرضي هللا عنالصحابي الجليل أبي الدرداء ورفع مقامه في عليين.‏أما بشر التغلبي فسرعان ما بذل علمه ألنه رضي هللا عنه يعلم أنه من كتم علماً‏لجمه هللا بلجام من نار،‏ وأن العالم يستغفر له من في السماوات واألرض.‏––فقال:‏ بعث رسول هللا صلى هللا عليه وسلم بسرية إلى األعداء فقامت بواجبها وحاربتالعدوّ‏ فنكلت برجاله،‏ ثم قفلت راجعة،‏ وجاء أحد رجالها وهو من غفار،‏ قبيلة الصحابيالجليل أبي ذرٍّ،‏ فجلس مكان النبي صلى هللا عليه وسلم إذْ‏ كان عليه الصالة والسالم101


غائباً،‏ وحدَّث من كان في المسجد من المسلمين عن القتل والقتال،‏ فاستنكر أحدالجالسين ذلك الفخر وقال:‏ بطل عمله إذاً،‏ فالفخر رياء،‏ والرياء مذموم ‏ُيحبط األجر،‏فردّ‏ أحدهم:‏ ال لم يبطل عمله،‏ فالفخر في المعركة غيره في السلم،‏ وهو يخيف األعداء،‏ويلقي في قلوبهم الرعب،‏ بل يؤجر الغفاري ويحمَدُ،‏ وتنازعنا،‏ فخرج رسول هللا صلىهللا عليه وسلم،‏ ليقول:‏ ‏))سبحان هللا،‏ ال بأس أن يؤجر ويحمد((.‏فسرَّ‏ أبو الدرداء بذلك،‏ وجعل يرفع رأسه ويقول لبشر:‏ أنت سمعت ذلك من رسول هللاصلى هللا عليه وسلم؟ فيقول بشر:‏ نعم سمعته منه صلى هللا عليه وسلم،‏ فيتواضع أبوالدرداء رضي هللا عنه لبشر اعترافاً‏ بعلمه وفضله.‏فما أعظم أن يكون علماؤنا هكذا يقدرون العلم وأهله ويتواضعون لهم.‏ويمر بشرٌ‏ على هذا المجلس يوماً‏ آخر فيستهديه أبو الدرداء عظة أخرى قائال له:‏ هاتيا بشرُ‏ كلمة تنفعنا وال تضرنا رحمك هللا.‏فيقول بشر:‏ قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم:‏ ‏))المنفق على الخيل كالباسط يدهبالصدقة،‏ ال يقبضها،‏ وأرواثها ألهلها يوم القيامة من مسك الجنة((.‏فيسألونه:‏ ولم هذا االهتمام كله بالخيل؟ ولماذا يعتبر اإلنفاق عليها صدقةً‏ دائمةً؟)2(فيقول ألم تسمعوا قَسَم هللا بها:‏ وَ‏ الْعَاد يَات ضَبْحًاصُبْحًا فَأَثَرْ‏ نَ‏ ب ه نَقْعًا فَوَ‏ سَطْنَ‏ ب ه جَمْعًا)1( )5(فَالْمُور يَات؟قَدْحًافَالْمُغ يرَات)4()3(قالوا:‏ بلى يا صاحب رسول هللا،‏ إن هللا تعالى يقسم بها لفائدتها في الجهاد وأثرهاالواضح في مقارعة األعداء.‏فيقول:‏ فاالعتناء بها واجب والحفاظ عليها مندوب،‏ وكلُّ‏ من يُع دّ‏ للعدو عدّته ويبذلجُهده للظهور عليه،‏ وتحقيق االنتصار،‏ له الثواب العظيم واألجر الكبير.‏ويمر بشر على مجلسهم يوماً‏ ثالثاً‏ يسلّم عليهم،‏ فيستوقفونه،‏ يسألونه كلمةً‏ واحدة،‏ واحدةفقط،‏ لكنها وافرة المعنى،‏ عظيمة الميزان.‏فيقول:‏ قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم:‏ ‏))نعم الرجل خُرَيمٌ‏ األُسَيدي،‏ لوال طو ‏ُلجَ‏ ‏َّمته،‏ وإسبا ‏ُل إزاره((،‏ وخريم هذا صحابي شهد بدراً،‏ ذو أخالق عالية وح ‏ٍّب لدينه102


شديد،‏ إال أن فيه عيباً‏ ليس بالسهل،‏ إنه يطيل شعره فيصل إلى ما تحت أذنيه،‏ ويطيلإزاره،‏ فيصل إلى األرض،‏ وهذا من الكبرياء،‏ والكبرياء مذموم.‏فيسمع خُريم هذا الحديث فيسرع إلى قص شعره ويرفع إزاره إلى نصف ساقيه،‏ ابتعاداً‏عن هذه الشبهة،‏ وطاعة هلل ولرسوله.‏إن مجتمعاً‏ يسرع أفراده إلى امتثال أوامر هللا ورسوله،‏ ويسعى إلى رضاهما لجدير أنيسود العالم أجمع ويكون قدوةً‏ للعالمين،‏ أما المجتمع الفاسدُ‏ المتفلِّت التابع لشهوته لقمينٌ‏أن يكون في ذيل األمم وآخر القافلة،‏ وهذا واقعنا وال حول وال قوة إال باهلل.‏ويمر على مجلسهم مرة رابعة،‏ فيستوقفه أبو الدرداء يستعطيه دفقة إيمانية،‏ وعلماً‏ نافعاً‏ونبضة حيةً‏ تدفعهم إلى آفاق إنسانية خالّ‏ قة فيقول:‏ سمعت رسول هللا صلى هللا عليهوسلم يقول:‏ ‏))إنكم قادمون على إخوانكم في بيوتهم أو مضاربهم فاعتنوا بأمرين اثنين:‏األول:‏ إصالح أدوات الرحلة كي تصل بكم إلى غايتكم بسهولة ويسر.‏والثاني:‏ االعتناء بهيئتكم ومظهركم ولباسكم لتكونوا في حالة تسرّهم وترفعكم فيأعينهم وتستجلب قلوبهم((،‏ وليس هذا من باب الكبر،‏ بل إلظهار نعمة هللا سبحانهوالتحدث بفضله.‏أما التكلف بالمظهر فهو الذي يأباه هللا تعالى ويحذِّر منه رسوله الكريم صلى هللا عليهوسلم.‏رياض الصالحين:‏ باب استحباب القميص103


ثمر يانع ودعوة مستجابةروى أنس رضي هللا عنه أن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم غاب عنه فتى من اليهودكان يخدمه،‏ فسأل عنه النبي صلى هللا عليه وسلم،‏ فأخبروه أنه مريض،‏ فما كان منالبرِّ‏ الرحيم صلى هللا عليه وسلم إال أن ذهب إلى بيت الفتى يعوده،‏ ويدعو له بالشفاء،‏فلما وصل إلى بيته ورآه يحتضر قعد عند رأسه،‏ وقال:‏ ‏))يا غالم،‏ أنت ذاهب إلى دارأخرى،‏ ومنزل يختلف عن منزلك هذا،‏ وأنا أرجو لك الخير،‏ فال تقابل هللا إال وأنتمسلم((.‏كان الفتى محباً‏ للنبي صلى هللا عليه وسلم،‏ عارفاً‏ صدقه،‏ينطق بالشهادة دون استئذان من أبيه؟موقناً‏ بنبوّ‏ ته،‏ ولكنْ‏كيفصحيح أن برّ‏ األبناء آباءهم فرض فرضه هللا تعالى علينا،‏ لكن الحقَّ‏ أحقُّ‏ أن يتبع،‏والتزام الدين الصحيح أولى من البقاء على الكفر،‏ ولعله كان يريد اإلسالم في هذهاللحظة لكنه وجل أن يراه أبوه يسلم دون إذنه،‏ خواطر مرّت في ذهنه فما استطاع أنيحزم أمره،‏ وهو على حافة قبره،‏ فنظر إلى أبيه كأنّه يستشيره أو يرجوه أن يسمح لهبالدخول في هذا الدين الجديد.‏ورأى األب في وجه ابنه عالمة الرغبة في ذلك،‏ ورأى فيه االستعطاف في أن يوافقالنبيَّ‏ صلى هللا عليه وسلم،‏ ولعلّه أيضاً‏ لم يشأ أن يخالف النبي صلى هللا عليه وسلموهو في بيته يعود ابنه،‏ ولعله أيضاً‏ كان يعرف في قرارة نفسه أن الكبر سيضرُّ‏ ابنهإلى أبد اآلبدين،‏ فليسمح له باعتناق هذا الدين الجديد،‏ وليكن ما يكون.‏قد يكون هذا مادار بخلَد اليهودي األب فقال البنه:‏ أطع أبا القاسم.‏وكانت النجاة من النار من نصيب الفتى،‏ وأدركته رحمة هللا سبحانه وتعالى قبل أنيلفظ أنفاسه،‏ ونطق كلمةَ‏ الفوز قبل أن يسلم الروح،‏ وما أعظمه من فوز،‏ وكلم ‏َةالصدق،‏ وأعظم بها من كلمة صادقة أنقذته من الجحيم وحملته إلى ربض الجنة،‏ شهدأن ال إله إال هللا،‏ محمد رسول هللا،‏ وأسلم النفس إلى بارئها،‏ وخرج النبي صلى هللا عليهوسلم مرتاحاً‏ إلسالم الفتى،‏ منبسط األسارير لخاتمة حياته،‏ ما أسعد رسول هللا صلىهللا عليه وسلم،‏ فقد أنقذ به هللا تعالى هذا الفتى من النار،‏ فله الحمد وله الشكر.‏لَقَدْ‏رَح يمٌ‏جَاءَكُ‏ ‏ْم رَ‏ سُو ‏ٌلعَلَيْكُ‏ ‏ْم ‏ٌص حَ‏ ر ي عَن تُّ‏ ‏ْم مَا عَلَيْه عَز ي ‏ٌز أَنْفُس كُ‏ ‏ْم م ‏ْنب الْمُؤْ‏ م ن ي ‏َنرَ‏ ءُو ‏ٌف )128(104


رياض الصالحين:‏ كتاب عيادة المريض وتشييع الميت–وروت أم سلمة زوج النبي صلى هللا عليه وسلم،‏ قالت:‏–شهد أبو سلمة زوجها معركة أحد في شوال من السنة الثالثة للهجرة،‏ فجرح فيهاجرحاً،‏ فاندمل دون أن يبرأ،‏ ثم انتقض هذا الجرح بعد مدّة يسيرة،‏ وبدأ األلم يزداد حتىقضى عليه بعد ستة أشهر في جمادى من السنة الرابعة،‏ فأتيتُ‏ النبي صلى هللا عليهوسلم فقلت:‏ يا رسول هللا،‏ إن أبا سلمة قد مات.‏فانطلق رسول هللا صلى هللا عليه وسلم إلى بيت أبي سلمة فرآه شاخص البصر فأغمضعينيه وقال:‏ ‏))إن الروح إذا قبضَ‏ تبعه البصر((،‏ فلما تأكد أهلُ‏ أبي سلمة من موتهعلت أصواتهم بالبكاء وضجوا بالعويل،‏ وبدأ بعضهم يدعو على نفسه ويرجو أن يلحقهأو يكون مكانه.‏فقال النبي صلى هللا عليه وسلم:‏ ‏))ال تدعوا على أنفسكم إال بخير،‏ فالمالئكة موجودةتسمع دعاءكم،‏ وهي مجابة الدعوة،‏ وتؤمن على ما تقولون((.‏فلما هدأت نفوسهم قال النبي صلى هللا عليه وسلم:‏ ‏))اللهم اغفر ألبي سلمة،‏ وارفعدرجته في المهديين،‏ واخلفه في عقبه في الغابرين،‏ واغفر لنا وله يا ربّ‏ العالمين،‏وأفسح له في قبره،‏ ونوّ‏ ر له فيه((.‏قالت أم سلمة:‏ فلما رآني رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ورأى االنكسار في وجهي،‏قال لي:‏ )) قولي:‏ اللهم اغفر لي وله،‏ وأعقبني منه عقبى حسنة،‏ اللهم اؤجرني فيمصيبتي واخلف لي خيراً‏ منها((.‏فقلت في نفسي:‏ أيُّ‏ المسلمين خيرٌ‏ من أبي سلمة؟ أوّ‏ ل بيت هاجر إلى رسول هللا صلىهللا عليه وسلم؟!‏ ثم إني قلتُ‏ مؤمنة بمقال النبي صلى هللا عليه وسلم،‏ فجاءني رسول هللاصلى هللا عليه وسلم بعد انقضاء عدّتي يطلبني لنفسه،‏ فقلت له:‏ يا رسول هللا إنني امرأةقد أسنّت ولي عيال كثيرون،‏ وأخاف أن ال أكون حسنة التبعُّل.‏قال النبي صلى هللا عليه وسلم:‏ ‏))إن رسول هللا أسنُّ‏ منك ، أما عيالك فأنا ولي أمرهم،‏ويعينك هللا على حسن التبعُّل((.‏105


فتزوجها رضي هللا عنها وكانت ذا رأي سديد،‏ وفكر صائب،‏ وكان أوالدها في رعايةخير األنام،‏ محمد عليه الصالة والسالم،‏ وقد روت كثيراً‏ من أحاديث رسول هللا صلىهللا عليه وسلم،‏ وكان ابنها سلمة أحد رواة الحديث،‏ وكان من أشهر ما رواه عن النبيصلى هللا عليه وسلم:‏ ‏))يا غالم سمِّ‏ هللا وكل بيمينك،‏ وكل مما يليك((.‏رياض الصالحين:‏ باب ما يقال عند الميت106


شكوى الجملدخل رسول هللا صلى هللا عليه وسلم بستاناً‏ ألحد األنصار،‏ وكان هذا البستان واسعاً‏مسوراً‏ يكثر فيه النخيل،‏ وكانت الظالل الوارفة تطرد الحرَّ‏ وتهيء لمن جلس فيهاأنساماً‏ باردة تداعبه وتغريه بالبقاء فترة من الزمن يتمنّى كل لحظة أن تطول،‏ وكانخرير الجداول المنبثة بين األشجار عزفاً‏ لطيفاً‏ يمأل المكان أنساً‏ ولطافة يغريانبالصمت،‏ ويشدان اآلذان إلى التحليق في أجواء موسيقى طبيعية حلوة.‏وإلى جانب السور جمل بدا كله ملتصقاً‏ باألرض،‏ ساكناً،‏ يحرك عنقه بين الفينةواألخرى،‏ يمضغ بعض األشواك،‏ ويرسل رغاءً‏ خفيفاً‏ بين الحين واآلخر،‏ فلما رأىالجمل رسول هللا صلى هللا عليه وسلم نظر إليه بعينين سالت مدامُعها وبدأ صوتهيتوالى،‏ ومد رأسه إلى رسول هللا صلى هللا عليه وسلم.‏لقد عرف فيه إنساناً‏ رؤوفاً‏ رحيماً،‏ ونبياً‏ عطوفاً‏ كريماً،‏ ال تعجب!‏ فالحيوانات كلهاكانت من جند سليمان عليه السالمُ‏ تعرف مقداره ومكانته وتقرُّ‏ له بالنبوة والطاعة،‏ورسول هللا صلى هللا عليه وسلم ذو المكانة األرفع والمقدار األسمى له من اآليات الدالةعلى محادثته الحيوان القصصُ‏ الكثيرة،‏ بل إن الجذع حنَّ‏ إليه،‏ ومال نحوه،‏ وأصدرأنيناً‏ حزيناً‏ حين فارقه الرسول صلى هللا عليه وسلم على منبره،‏ فترك رسول هللا صلىهللا عليه وسلم المنبر،‏ وخطا إليه يمسح عليه ليسكت،‏ ويعدُه أن يكون من شجر المدينةإن صبر.‏جاء النبي صلى هللا عليه وسلم إلى الجمل فمسح سنامه ورأسه وأذنيه بيده الرحيمة،‏وربتّ‏ على رقبته،‏ فسكن الجمل واستكان إليه،‏ هذا الحيوان األعجم هدأ حين وضعالرسول العظيم يده الحانية عليه وشعر باألمان واالطمنان،‏ وعلم أنه بين يدي أكرمالخلق على هللا سبحانه،‏ وعلم أنه وصل إلى من ينصفه،‏ ويدفع عنه الظلم،‏ فأسلم قيادهإليه،‏ واعتمد في رفع ظُالمته عليه،‏ لقد آوى إلى ركن ركين،‏ ومالذٍ‏ أمين.‏فقال النبي صلى هللا عليه وسلم:‏ ‏))من صاحب هذا الجمل؟ لمن هذا الجمل؟((‏فانطلق أحد أصحاب رسول هللا صلى هللا عليه وسلم يلتمس صاحبه ويبحث عنه،‏ فلماعرفه،‏ دعاه إلى النبي صلى هللا عليه وسلم فلما جاء مسرعاً‏ قال له النبي صلى هللا عليهوسلم:‏ ‏))ما شأن جملك هذا؟ وماذا كلّفتَه؟((.‏107


قال األنصاري صاحب الجمل:‏ ال أدري ما شأنه يا رسول هللا،‏ ولكنْ‏ حملنا عليه أثقاالً‏كثيرة،‏ ثم ربطناه إلى الساقية يدور حولها ليرتفع الماء فنسقي النخيل واألشجار،‏ فبذلجهده،‏ ثم توقف وقد ظهر العجز عليه،‏ وهذا أمرٌ‏ لم نكن نعهده فيه،‏ فاتفقنا على نحره،‏وأكل لحمه،‏ فقد أسنّ‏ ولم يعد للعمل صالحاً.‏فقال له النبي صلى هللا عليه وسلم:‏ ‏))ال تفعل ذلك،‏ وأر حه،‏ وأكثر عَلَفه،‏ وال تكلفه إالما يُطيق،‏ واتق هللا فيما ملّكك من البهائم،‏ ليبقى عليك فضله،‏ ويزيدك من رزقه.‏ فإنهذا الجمل شكا إليَّ‏ أنك تجيعه،‏ وتتعبه في العمل فال تقابل نعمة هللا بمعصيته،‏ بلبالشكر واإلحسان ليدوم لك االمتنان((.‏رياض الصالحينباب آداب السير،‏ وأمر من قصّر في حق الدابة بالقيام بحقّها108


فضل المسير إلى المسجدحفظك هللا أبا أيمن،‏ وبارك فيك،‏ وجعلك من خاصته،‏ وأهل طاعته.‏هكذا استقبل أبو حسان أخاه أبا أيمن حين رآه قادماً‏ من المسجد في حرِّ‏ الرمضاء وقدأدى صالة الظهر في المسجد جماعة،‏ ال يثنيه عن ذلك بعد المسجد،‏ وال ظلمة الليل،‏وال هجير الظهر،‏ وشدة الرطوبة التي يلفح حرُّها وجهه المشرق باإليمان،‏ ثم قال له:‏ما الذي يشدك إلى الجامع على الرغم من هذا الطقس الذي يُحيل حرُّه الجسم عرقاً،‏ولهيبه الرمل جمراً؟قال أبو أيمن:‏ قول رسول هللا صلى هللا عليه وسلم:‏ ‏))من غدا إلى المسجد أو راح أع ‏َّدهللا له في الجنة نُزُالً‏ كلما غدا أو راح((،‏ وسكت قليالً‏ يمسح العرق عن جبينه ثم قال:‏وقول رسول هللا صلى هللا عليه وسلم:‏ ‏))من تطهَّر،‏ ثم مضى إلى بيت من بيوت هللاليقضي فريضة من فرائض هللا كانت خطواته إحداهما تحطُّ‏ خطيئة،‏ واألخرى ترفعدرجة((.‏أال ترى يا أخي أننا كثيرو الذنوب واآلثام؟ وليس لنا من العمل الصالح إال القليل؟وكثرة خطانا إلى المساجد،‏ ومنها،‏ تمحوها وتكسبنا الحسنات دون عناءٍ‏ يذكر.‏قال أبو حسان:‏ كتب هللا لك العافية وجمّلَكَ‏ بالصبر،‏ أفال استأجرت سيارة إلى المسجد،‏أو انتظرتني آلخذك في طريقي إليه؟قال أبو أيمن:‏ إذاً‏ فاستمع إلى هذه القصِّة لتدرك زهدي فيما رَمَيت إليه.‏كان رجل من األنصار،‏ ال أحد أبعد من المسجد منه،‏ وكانت ال تخطئه صالة،‏ فقيل له:‏لو اشتريت حماراً‏ تركبه في الظلماء،‏ وفي الرمضاء إلى المسجد؟قال:‏ ما يسرُّني أنّ‏ منزلي إلى جنب المسجد؛ إني أريد أن يُكتب لي ممشاي إلى المسجدورجوعي إذا رجعتُ‏ إلى أهلي.‏وكان رسول هللا صلى هللا عليه وسلمذلك كله((.‏جالساً‏ يسمع إلى حديثه فقال له:‏ ‏))قد جمع هللا لكوأنا مثله أرجو هذا الثواب يا أخي.‏109


قال أبو حسان:‏ صدقت يا أخي،‏ متعك هللا بالصحة،‏ وكتب لنا ولك األجر العميم،‏ فقدروى جابر رضي هللا عنه فقال:‏خلت البقاع حول المسجد،‏ فأراد بنو سلمة أن ينتقلوا قرب المسجد،‏ فبلغ ذلك النبيَّ‏صلى هللا عليه وسلم،‏ فقال لهم:‏ ‏))بلغني أنكم تريدون أن تنقلوا قرب المسجد؟((‏ قالوا:‏نعم يا رسول هللا،‏ قد أردنا ذلك.‏فقال:‏ ‏))بني سلمة!!‏ ديارَكم تُكتبْ‏ آثارُكُم،‏ ديارَكم تُكْتب آثارُكم((.‏فقالوا:‏ ما يسرُّنا أنّا كنّا تحوّ‏ لنا.‏قال أبو أيمن:‏ أما المسير في ظلمة الليل إلى العشاء،‏ وصالة الصبح فأجره عظيم جداً،‏نورٌ‏ في البصر والبصيرة،‏ وأمان على الصراط ويوم الحشر،‏ فقد قال النبي صلى هللاعليه وسلم:‏‏))بشّروا المشّائين في الظلم إلى المساجد بالنور التامِّ‏ يوم القيامة((.‏أفرأيت أحسنَ‏ من هذا يا أخي؟قال أبو حسان:‏ ال!‏ وهللا،‏ تبذل الجهد القصير في هذه الدنيا الفانية،‏ فتنال األجر الدائم،‏والثواب القائم في الدار الباقية.‏فهنيئاً‏ لك يا أخي الحبيب ممشاك إلى المسجد في األوقات كلها.‏وهنيئاً‏ لك صالة الجماعة ذات األجر المضاعف.‏وهنيئاً‏ لك رضا هللا سبحانه وبشرى نبيّه الكريم.‏رياض الصالحينباب فضل المشي إلى المساجد110


الجهاد طريق الجنةمرَّ‏ رجل من أصحاب رسول هللا صلى هللا عليه وسلم بشعب جبل ال يقصده أحد،‏ فرأىفيه عين ماء عذب،‏ فأعجبته،‏ فقال:‏ وددت لو اعتزلت الناس في هذا المكان المنقطعأعبد هللا تعالى،‏ فال تقع مني إساءة ألحد،‏ وال يسيء أحد إليَّ‏ فألقى ربي خفيفاً‏ نظيفاً‏ليس ألحد عليَّ‏ مظلمةٌ،‏ ولن أفعل ذلك حتى أستأذن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم.‏فلما جاءه وأخبره بالشعب وعُيَيْنة الماء ورغبته في اعتزال الناس هناك،‏ قال له رسولهللا صلى هللا عليه وسلم:‏ ‏))ال تفعل،‏ فإن مُقام أحدكم في سبيل هللا أفضل من صالته فيبيته سبعين عاماً،‏ أال تحبون أن يغفر هللا لكم،‏ ويدخلكم الجنة؟!((‏قال الحاضرون:‏ بلى،‏ قال رسول اله صلى هللا عليه وسلم:‏ ‏))اغزوا في سبيل هللا((،‏ ثمأردف عليه الصالة والسالم قائالً:‏ ‏))والذي نفس محمد بيده لوددت أن أغزو في سبيلهللا فأُقتل،‏ ثم أغزو فأُقتل،‏ ثم أغزوَ‏ فأُقتل((.‏صمت الناس،‏ وهم بين متعجب من فضل الجهاد ومفكِّ‏‏ٍرفي ما يعادله من الثواب.‏قال رجل:‏ يا رسول اله،‏ فما جزاء من قاتل في سبيل هللا؟قال صلى هللا عليه وسلم:‏ ‏))الجنّة،‏ من قاتل في سبيل هللا من رجل مسلم فُواقَ‏ ناقة –الفواق ما بين الحلبتين من الزمن وجبت له الجنّة،‏ ومن جرح جرحاً‏ في سبيل هللا أونُكبَ‏ نكبةً‏ فإنها تجيء يوم القيامة كأغزر ما كانت،‏ لونها الزعفران وريحها كالمسك((.‏111–قال رجل:‏ ما الذي يعدل الجهاد يا رسول هللا؟قال صلى هللا عليه وسلم:‏ ‏))ال تستطيعونه((،‏ فك ‏َّر ‏َر عليه السؤال،‏ ورسول هللا صلى هللاعليه وسلم يقول:‏ ‏))ال تستطيعونه((،‏ فلما تعجبوا قال عليه الصالة والسالم:‏‏))مثل المجاهد في سبيل هللا كمثل الصائم،‏ القائم،‏ القانت بآيات هللا،‏ ال يفتُر من صالةوال صيام حتى يرجع المجاهد في سبيل هللا((.‏قال الحاضرون:‏ مَنْ‏ يستطيع ذلك؟!‏ لن تجد إال المالئكة يستطيعون ذلك.‏ثم إن فتى جاء إلى رسول هللا صلى هللا عليه وسلم فقال:‏ يا رسول هللا،‏ إني أريد الغزو،‏وليس معي ما أتجهز به.‏ قال الرسول الكريم صلى هللا عليه وسلم:‏ ‏))ائت فالناً،‏ فإنهكان قد تجهّز للحرب،‏ فمرض،‏ فأقرئه السالم وخذ ما تجهّز به((.‏


فذهب الفتى إلى الرجل المريض،‏ فسلّم عليه،‏ ثم قال له:‏ رسول هللا صلى هللا عليه وسلميقرئك السالم ويقول:‏ أعطني الذي تجهّزت به.‏قال الرجل:‏ سمعاً‏ وطاعة لرسول هللا،‏ ثم التفت إلى امرأته فقال:‏ يا فالنة أعطيه الذيكنت تجهّزتُ‏ به،‏ وال تحبسي عنه شيئاً،‏ فوهللا ال تحبسين منه شيئاً‏ فيبار ‏َك هللا لك فيه،‏فأدّته إليه كامالً.‏وجاء رجل مدجج بالسالح إلى رسول هللاأتأمرني أن أسلم ثم أقاتل أم أقاتل ثم أسلم؟صلى هللا عليه وسلمفقال:‏ يا رسول هللاقال صلى هللا عليه وسلم:‏ ‏))ال يقبل هللا العمل إال بعد اإليمان،‏ فأسلم ثم قاتل((.‏فحين أسلم الرجل ثم قاتل،‏ ‏َقُت ل،‏ فقال رسول هللاوأُجر كثيراً((.‏قال رجل:‏ فما فضل الشهادة يا رسول هللا؟صلى هللا عليه وسلم:‏ ‏))عَم ‏َلقليالً‏قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم:‏ ‏))ما أحدٌ‏ يدخل الجنة يجب أن يرجع إلى الدنيا،‏وله ما على األرض من شيء إال الشهيد،‏ يتمنّى أن يرجع إلى الدنيا،‏ فيُقتل عشرَ‏مرات،‏ لما يرى من الكرامة((.‏والتقى المسلمون في غزوة بدر بالمشركين،‏ وصفّ‏ الرسول الكريم صلى هللا عليهوسلم المسلمين ثم قال:‏ ‏))ال يباش ‏ْر أحد منكم بالقتال إال إذا أذنت لكم((،‏ فقالوا:‏ سمعاً‏وطاعةً،‏ ثم إنّ‏ المشركين هاجموا المسلمين،‏ فلما وصلوا إلى مرمى سهامهم أمرهمالقائد الفذُّ‏ صلى هللا عليه وسلم فرشقوهم بالسهام،‏ فلما دنوا أمرهم أن يرموهم بالرماح،‏فلما تالحموا بدأ الطعن والضرب بالسيوف،‏ ونادى رسول هللا صلى هللا عليه وسلم:‏‏))قوموا إلى جنّة عرضها السماوات واألرض((،‏ فقال عمير بن الحمام األنصاري،‏رضي هللا عنه:‏ يا رسول هللا؛ جنّة عرضها السماوات واألرض؟ قال:‏ ‏))نعم((.‏ فقالعمير:‏ بخٍ‏ بخٍ‏ متعجباً،‏ مفخماً‏ ما سمعه،‏ فقال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم:‏ ‏))ما الذيدعاك إلى قول بخٍ‏ بخٍ؟((‏ قال عمير:‏ يا رسول هللا رجاء أن أكون من أهلها،‏ قالالرسول صلى هللا عليه وسلم:‏ ‏))فأنت من أهلها((.‏وأخرج عميرٌ‏ تمرات من جَعبته،‏ فجعل يأكل منهن ثم حنَّ‏ إلى القتال،‏ فقال:‏ لئن أناحييت حتى أكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة،‏ إنها لحياة طويلة،‏ ال أريدها،‏ فأنا أصبو112


إلى حياة دائمة تمنعني عنها هذه التمرات،‏ فرمى ما كان معه من تمرات،‏ ثم قاتلالمشركين،‏ يضرب هنا وهناك حتى قتل،‏ فدخل الجنّة فهو في حوصلة طير أخضريأكل من ثمار الجنّة،‏ ثم يأوي إلى عرش الرحمن آمناً‏ مطمئناً.‏رياض الصالحينكتاب الجهاد113


بئر معونةفي السنة الرابعة للهجرة قَد م أبو براء بن عازب بن مالك،‏ مالعبُ‏ األسنّة،‏ وهو سيّدقومه بني عامر بن صعصعة،‏ على رسول هللا صلى هللا عليه وسلم في مدينته الطيبة،‏وأهدى النبيَّ‏ صلى هللا عليه وسلم هديةً‏ لم يقبلها،‏ وقال:‏ ‏))يا براء،‏ ال أقبل هديةمشرك((،‏ ثم عرضَ‏ عليه اإلسالم،‏ وبما أن الزعماء يكبر عليهم أن تردَّ‏ هديتهم ألنهاعنوان سيادتهم،‏ فقد قال للنبي صلى هللا عليه وسلم:‏ إن أ ‏ْمرك هذا حس ‏ٌن ولم يسلمفلو بعثتَ‏ رجالً‏ من أصحابك إلى أهل نجد يدعوهم إلى دينك لرجوت أن يستجيبوا لك.‏قال النبي صلى هللا عليه وسلم:‏ ‏))أخشى عليهم أهل نجد ففيهم غدر((.‏قال أبو براء:‏ أنا جار لهم.‏––ماذا يفعل رجل واحد مع رجال قلوبهم قدَّت من صخر،‏ وسكن الشيطان في صدورهم،‏وفرَّخ فيها؟ ألبعثنَّ‏ لهم رجاالً‏ صدقوا هللا ما عاهدوه عليه،‏ حياتهم للقرآن،‏ يتدارسونهكل وقتهم،‏ ولْيكونوا من األنصار الذين آمنوا بي ونصروني،‏ وأعزَّ‏ هللا بهم وبمدينتهماإلسالم،‏ وهبوا حياتهم لموالهم،‏ وقرآنه محفوظ في عقولهم وأفئدتهم،‏ أسميتهم القرّاء،‏يتدارسونه في الليل،‏ ويخدمون إخوانهم في النار،‏ فيجيؤون بالماء إلى المسجد لينتفع بهالمحتاجون شرباً‏ ووضوءاً،‏ وينطلقون إلى أحراش المدينة،‏ فيحتطبون ويبيعونالحطب،‏ فيشترون ألهل الصفّة من الفقراء والمحتاجين طعاماً.‏وبعث رسول هللا صلى هللا عليه وسلم إلى نجد سبعين رجالً‏ من القرّاء،‏ فيهم حرام بنملحان،‏ خال أنس بن مالك،‏ وعامر بن فُهيرة،‏ وساروا حتى نزلوا بئر معونة،‏ منأرض بني عامر فلما نزلوها أرسلوا حرام بن ملحان بكتاب النبي صلى هللا عليه وسلمإلى شيخ قبائلهم عامر بن الطفيل،‏ فلما أتاه لم ينظر في كتاب رسول هللا صلى هللا عليهوسلم،‏ ولم يَرْ‏ عَ‏ حرمة رسوله،‏ فعدا عليه فطعنه وقتله،‏ فقال حرام وهو يلفظ أنفاسه:‏فزت وربِّ‏ الكعبة،‏ .. فاز بالجنّة،‏ عرضها السماوات واألرض،‏ وفاز برضوان هللاتعالى،‏ فحياتُه،‏ وعمله،‏ وأمله أن يصل إلى هذا،‏ ووصل ألنه كان صادقاً‏ يسعى بكل ماأوتي إلى لقاء هللا،‏ فلقيه،‏ فأحسن هللا وفادته.‏واستصرخ عامر بن الطفيل بني عامر لقتل القرّاء،‏ فقالوا:‏ لن نخفر أبا براء،‏ فقدأجارهم،‏ لكنهم تخاذلوا عن نصرة المسلمين القادمين إليهم ليعلّموهم ويفقهوهم،‏ حين114


استصرخ بقية القبائل من بني سليم وعصيّة،‏ ورعل،‏ وذكوان،‏ فأجابوه وخرجوا إلىالمسلمين وأحاطوا بهم حتى قتلوهم عن آخرهم.‏هكذا أعداء هللا،‏ ال يرعَون في مؤمن إالّ‏ ً وال ذمّة،‏ وال عهداً،‏ وال ميثاقاً،‏ فهم ال يريدونلراية اإلسالم أن تعلو خفاقةً،‏ وال لضياء الحقِّ‏ أن ينير الدنيا خيراً‏ وعدالً،‏ يقتلون الدعاةويكممون األفواه،‏ ويفترون عليهم أسوأ الصفات،‏ ويزعمونهم خارجين على األمة!!‏إرهابيين!!‏ متخلفين!!‏ وهم هكذا في كل زمان ومكان،‏ يريدون أن يطفئوا نور هللا،‏ ولكنهيهات هيهات،‏ فما للمخلوق ق بَلٌ‏ للخالق،‏ وال الضعيف بالقوي طاعة.‏قال القرّاء وهم يرون مصارعهم حين أحاط بهم األعداء،‏ فُزنا وربّ‏ الكعبة كما فازحرام بن ملحان،‏ وانتضوا سيوفهم وقارعوا عدوهم وجأروا إلى هللا بالدعا:‏ اللهم بلّغع ‏ّنا نبينا أنا قد لقيناك،‏ فرضينا بك ربّاً‏ وبشرعك ديناً،‏ وبنب ‏ّيك رسوالً،‏ وأنك رضيت عنافأدخلتنا الجنة وشملتنا برحمتك وغفرانك.‏وأمر هللا تعالى سفيره الكريم جبريل عليه السالم فأوصل ما قالوه إلى النبي صلى هللاعليه وسلم فقال للمسلمين:‏ ‏))إن إخوانكم قد قتلوا،‏ وإنهم قالوا:‏ اللهم بلّغ عنا نبيك أنا قدلقيناك فرضينا عنك ورضيت عنا .. (( وصلى رسول هللا والمسلمون معه على هؤالءالشهداء صالة الغائب،‏ وحزن عليهم،‏ وكيف ال يحزن المسلمُ‏ على إخوانه،‏ وهم قد بذلواأرواحهم وحياتهم هلل،‏ وقال صلى هللا عليه وسلم:‏ ‏))هذا من عمل أبي براء،‏ لم يدافععنهم((،‏ فبلغه ما قال النبي الكريم،‏ فحملته النخوة العربية والخوف من العار إلى أنطعن عامر بن الطفيل فخر عن فرسه،‏ ودميَ،‏ وعرف األخير أنه أساء لعمّه فقال:‏ إنم تُّ‏ فال تنالوه بسوء،‏ دمي حالل له،‏ لكنّه لم يمت.‏رحم هللا قتلى بئر معونة،‏ ورحم الدعاة في كل أرض وكلّ‏ زمن،‏ فإن إيذاءهم يترى،‏والتضييق عليهم يستمر،‏ ورغم كل هذا فهم على طريق الهدى سائرون.‏الْحَم يد الْعَز يز ب ا ‏َّهلل يُؤْ‏ م نُوا أَ‏ ‏ْن إ ‏َّال م نْهُ‏ ‏ْم نَقَمُوا وَ‏ مَارياض الصالحينباب الجهاد في سبيل هللا115


صدق هللا فصدقه هللالشدة ما تحسّر أنس بن النضر حين فاته مشاركة رسول هللا صلى هللا عليه وسلم،‏والمسلمين في معركة بدر الكبرى،‏ وفاته شرف االنتساب إليه،‏ لقد كان يظنُّ‏ أن األمرال يتعدى مصادرة عير قريش العائدة من الشام بتجارة رابحة،‏ فقد استلب كفار مكّة كلَّ‏أموال المسلمين المهاجرين إلى المدينة،‏ ودورهم،‏ ومنعوا من حاول الهجرة بأمواله إالأن يخرج دونها.‏وكثير من المسلمين ظنوا هذا،‏ ولو كان رسول هللا صلى هللا عليه وسلم يعلم أن هناكقتاالً‏ الستنفر المسلمين جميعاً،‏ ولكن شاء هللا تعالى أن تنجو القافلة وأن يهُ‏ ‏َّب المشركونفي قريش لنجدتها،‏ ويُعدوا العدة لقتال المسلمين وتأديبهم فالتقى الطرفان،‏ المشركونبقضِّهم وقضيضهم و ‏َعدِّهم و ‏ُع ‏َّدتهم،‏ وإصرارهم على سحق المسلمين وكسر شوكتهم،‏والمسلمون بعددهم القليل،‏ وأسلحتهم البسيطة،‏ وكان قتال،‏ وحربٌ‏ وسجالٌ،‏ وأعزّ‏ هللاالفئة القليلة ونَصَرها على الكثرة المتبطرة،‏ ونال المسلمون فخار الدهر،‏ وتاج الفوز.‏وجاء أنس إلى رسول هللا صلى هللا عليه وسلميقول:‏يا رسول هللا،‏ غبتُ‏ عن أوّ‏ ل قتالٍ‏ قاتلْتَ‏ المشركين،‏ وهللا لئن أشهدني قتالليَرَيَنَّ‏ هللا ما أصنعُ‏ بهم.‏المشركينقال هذا صادقاً‏ راغباً‏ في الجهاد في سبيل هللا،‏ عازماً‏ على نصرة دين هللا،‏ مصمماً‏ علىالدفاع عن كلمة الحق.‏ولما جاء يوم أحد سنة ثالث من الهجرة انتصر المسلمون أول األمر،‏ لكن الرماة الذينأمرهم رسول هللا صلى هللا عليه وسلم أن ال يغادروا جبل الرماة،‏ حسبوا المعركةانتهت وتركوا أماكنهم،‏ خالفوا األوامر دون أن ينتبهوا إلى خطئهم،‏ وعصوا أوامرالرسول القائد،‏ ولم يكونوا يريدون ذلك،‏ لكنّ‏ هذا الخطأ الجسيم قلب النصر إلى نكسة،‏ودارت على المسلمين الدوائر،‏ وانكشفوا وقتل منهم خلقٌ‏ كثير،‏ وأصاب معظ ‏َمهمالقروحُ.‏ورأى أنس بن النضر ما فعل المسلمون حين لجأوا إلى الجبل منهزمين،‏ فقال:‏ اللهم إنيأعتذر إليك مما صنع هؤالء،‏ وأشار إلى أصحابه،‏ ورأى المشركين يقاتلون اإلسالمونبيّه ويكفرون باهلل ورسوله،‏ ويفتكون بالمسلمين،‏ فقال:‏ اللهم إنّي أبرأ إليك مما صنع116


َهؤالء،‏ وأشار إلى الكفار،‏ ثم تقدمَّ‏ إلى المعركة يدفع المشركين،‏ ويحفز المسلمين إلىالجهاد.‏رآه سعد بن معاذ يلقي بنفسه على المشركين،‏ فقال له:‏ يا أنس إلى الجبل،‏ لذْ‏ بجمعالمسلمين،‏ وال تقاتل وحدك،‏ فقال أنس:‏ ال يا سعد فما أنا بالذي يولّي دُبُرَه يوم الزحف،‏قال له:‏ ليس هذا فراراً،‏ إنه ترتيبٌ‏ وتنظي ‏ٌم ليعيدوا الكرَّة على المشركين.‏قال أنس:‏ يا سعد؛ هذه الجنة أمامي،‏ أقسم باهلل أنني أشمُّ‏ رائحتها هنا،‏ إنها بيني وبينأحد،‏ يا سعد أقبل وجاهد فإن لم يكن النصر،‏ فالشهادةُ،‏ وهي أسمى ما يطلبه المسلمُ،‏وكرَّ‏ عليهم كما ينقض األسد الرئبال،‏ يضرب يمنةً‏ ويسرةً،‏ حتى تكاثروا عليه فكان منالشهداء األبرار.‏فلما انتهت المعركة،‏ وجمع المسلمون شهداءهم،‏ يبكون عليهم،‏ فقال لهم النبي صلى هللاعليه وسلم:‏ ‏))إن الشهداء أحياءٌ،‏ وليسوا أمواتاً،‏ ويستبشرون بنعمة من هللا وفضل((.‏وكان في جسم أنس بن النضر بضع وثمانون ضربة بسيف أو طعنة برمح،‏ أو رميةبسهم،‏ قد مثَّل المشركون به،‏ فما عرفه أحد إال أخته،‏ عرفته من أصابعه،‏ رضي هللاعن أنس بن النضر،‏ صدق هللا فصدقه،‏ رغب عن الدنيا فاختاره هللا إلى جنته.‏م نَ‏ يَنْتَظ رُ‏الْمُؤْ‏ م ن ي ‏َنوَ‏ مَا بَدَّلُوار جَ‏ ا ‏ٌل صَدَقُواتَبْد ي ‏ًالمَ‏ ‏ْن وَ‏ م نْهُ‏ ‏ْم نَحْ‏ بَ‏ ‏ُه قَضَى مَ‏ ‏ْن فَم نْهُ‏ ‏ْم عَلَيْه هللاَّ‏ عَاهَدُوا مَارياض الصالحينباب الجهاد في سبيل هللا117


المالئكة تحفهم118––––-1-2قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم يوماً‏ ألصحابه وهم في المسجد جلو ‏ٌس حوله،‏يرشفون من بيانه عذب الكلمات،‏ وأطيب العظات،‏ ال يرتوون إال إذا كانوا متحلقينحوله،‏ فإذا ابتعدوا لحاجة من حوائج الدنيا،‏ وغابوا ألمر ما عادوا ظامئين يستقونمن أحاديثه سلسبيالً،‏ ومن تعاليمه أنساماً،‏ كلهم آذان مستمعة..‏ قال:‏ ‏))ما اجتمع قومفي بيت من بيوت هللا،‏ يتلون كتاب هللا،‏ ويتدارسونه بينهم،‏ إال نزلت عليهم السكينة،‏وغشيتهم الرحمة،‏ وحفّتهم المالئكة،‏ وذكرهم هللا فيمن عنده((.‏اضطربت قلوبهم فرحاً،‏ واهتزت نفوسهم سعادة،‏ فهم في مسجد رسول هللا صلىهللا عليه وسلم،‏ ثاني الحرمين الشريفين،‏ يتدارسون كتاب هللا وأحاديث رسول هللامن فمه الشريف،‏ فاهلل إذاً‏ يباهي بهم المالئكة،‏ ويذ ‏ُكرهم بينهم،‏ وهذه رحمة هللا تحيطبهم،‏ وتغشاهم،‏ يا هللا .. يا هللا إنك تطلب منا القليل القليل ولست بحاجة إليه،‏ لتعطيناالكثير الكثير ونحن بحاجة إليه،‏ ما أرحمك،‏ سبحانك.‏وأقبل ثالثة نفر إلى المسجد فرأوا حلْقة الصحابة كبيرة،‏ والناس تشرئب أعناقهم إلىالرحمة المسداة،‏ والهبة المعطاة،‏ فرأى األوّ‏ ل فرجة بين الناس فخطا إليها دون أنيزعج اآلخرين،‏ ودنا من النبي صلى هللا عليه وسلم ليكون أقرب إليه وأحسن سمعاً‏لتعاليمه،‏ واستحيا الثاني أن يتجاوز المتحلقين،‏ فكما فعل صاحبه فنظر هنا وهناك،‏وبحث عن أقرب مكان إلى رسول هللا صلى هللا عليه وسلم خلف الناس فجلس فيهونظر إلى الرسول صلى هللا عليه وسلم،‏ وأرهف االثنان سمعهما إليه كما يفعلاآلخرون،‏ أما الثالث فلم يفعل ما فعله اآلخرون بل أدبر ذاهباً.‏فلما فرغ رسول هللا صلى هللا عليه وسلم وكان رأى ما فعل هؤالء الثالثة،‏ فأراد أنيثّمنَ‏ أفعالهم ليعتبر المسلمون ويتعظوا فقال:‏ ‏))أال أخبركم عن النفر الثالثة؟((‏قالوا:‏ بلى يا رسول هللا.‏قال:‏ ‏))أما األوّ‏ ل:‏ فإنه آوى إلى هللا فآواه،‏ لقد سدّ‏ فرجة وانضم إلى المسلمين فيمجلسهم فاستمكنت الحلقة وزال الفراغ فيها،‏ وأما الثاني:‏ فهو كاألوّ‏ ل رغبة في العلموحباً‏ له،‏ لكنّه استحيا أن يؤذي من سبقه فاستحيا هللا منه فأكرمه على تلطفه،‏ وهمامن المغفورين لهم إن شاء هللا وأما اآلخر فأعرض عن مجلس رسول هللاصلى هللا عليه وسلم مجلس العلم بغير عذر فتعرض لسخط هللا تعالى((،‏ ألميقل الرسول الكريم عن أصحاب العلم:‏ ‏))هم الجلساء ال يشقى بهم جليسهم((؟!.‏فإذا ما طارت أفكارنا في ذاكرة الزمن ثالثين سنة إلى اإلمام تجاه الشام،‏ رأينادمشق عاصمة الخالفة األموية،‏ تمتلئ بالمساجد،‏ ورأينا قرب دار معاوية أوّ‏ ل خليفة


أموي مسجداً‏ فيه حلقة علم،‏ وذكر،‏ وها هو الخليفة يدخل المسجد عليهم،‏ ليشجعهمعلى االستزادة من العلم وبذل الجهد له،‏ والتفرغ لتحصيله،‏ فيقول لهم:‏ ما أجلسكم؟ماذا تفعلون؟قالوا:‏ جلسنا نذكر هللا تعالى وندرس آيات الكتاب المبين وأحاديث الرسولالمصطفى.‏قال:‏ أتحلفون باهلل أنكم اجتمعتم في هذا المسجد للتالوة والمدارسة؟قالوا:‏ نحلف باهلل على ذلك،‏ وإال فما أجلسنا في بيت هللا،‏ وهو لهذا األمر فقط؟قال:‏ فاعلموا أني لم أستحلفكم تهمةً‏ لكم،‏ فأنتم صادقون إال أنني كنت قريباً‏ منرسول هللا صلى هللا عليه وسلم،‏ أرى ما يفعل وأسمع ما يقول،‏ وما أحدثكم إال بمارأيت وسمعت.‏قالوا:‏ فماذا رايت؟ وماذا سمعت؟قال:‏ إن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم خرج على أصحابه في حلقتهم كحلقتكم هذه،‏فقال:‏ ‏))ما أجلسكم؟((‏ قالوا مثل ما قلتم:‏ جلسنا نذكر هللا تعالى،‏ ونحمده على ماهدانا لإلسالم ومنَّ‏ به علينا،‏ فاستحلفهم على ذلك دون تهمة كما استحلفتكم،‏ ثم قاللهم:‏ ‏))أتاني جبريل عليه السالم،‏ فأخبرني أن هللا يباهي بكم المالئكة((.‏رياض الصالحينباب فضل حلق الذكر119


المجتمع المتكافلطعام االثنين يكفي أربعة،‏ وطعام األربعة يكفي ثمانية،‏ هكذا قال النبي صلى هللا عليهوسلم،‏ ويكفي اإلنسان بضع لقيمات ‏ُيقمن صلبه،‏ فلم يخلقنا هللا تعالى لألكل والشرب،‏وإنما جعلهما وسيلة لغاية سامية،‏ لحياة نكون فيها عباداً‏ هلل فننشئ مجتمعاً‏ متراحماً‏متكافالً.‏إن أصحاب الصفّة كما مرّ‏ معنا كانوا أناساً‏ فقراء،‏ وإن النبي صلى هللا عليه وسلم قالمرة:‏ ‏))من كان عنده طعام اثنين فليذهب لثالث ‏)يأكل معهما(،‏ ومن كان عنده طعامأربعة فليذهب بخامسٍ‏ ، بسادس((،‏ وهكذا،‏ فقام أبو بكر إلى ثالثة من أهل الصفّة،‏فدعاهم إلى بيته،‏ ثم إنّه قال البنه عبد الرحمن:‏ هؤالء أضيافك يا بني،‏ فإني منطلق إلىالنبي صلى هللا عليه وسلم،‏ فلي عنده ما يشغلني،‏ فأطعم أضيافك،‏ وأحس نْ‏ قراهم.‏وانطلق الصديق أبو بكر إلى دار النبي صلى هللا عليه وسلم فجلس عنده ما شاء هللا لهأن يجلس،‏ وتعشى عنده مع نفر من أصحابه،‏ ولبث هناك إلى ما بعد صالة العشاء.‏أما عبد الرحمن فقد جاء بطعام إلى أهل الصفّة الذين جاء بهم أبوه الصدّيق رضي هللاعنه فقال:‏ اطعَموا،‏ فقالوا:‏ أين ربّ‏ منزلنا؟ قال:‏ إنه ذهب لبعض شأنه،‏ وأمرني أنأضيفكم،‏ قالوا:‏ ما نحن بآكلين حتى يجيء والدك،‏ ولن نأكل إال بوجوده وأن ينال منالطعام معنا.‏قال عبد الرحمن:‏ أرجوكم أن تأكلوا،‏ فوهللا إنه إن جاء،‏ ولم تطعموا أللقينَّ‏ منه مايسوء،‏ فلم يقبلوا،‏ فعرفتُ‏أنه سيغضب مني،‏ واحترت في أمري،‏ فلما جاء بعد العشاءوجدهم جالسين لم يعودوا إلى منزلهم،‏ فعلم أنهم لن يأكلوا،‏ فسألهم عن إبائهم الطعامفقالوا:‏ أنت دعوتنا،‏ فلما ذهبت انتظرناك.‏وكنتُ‏ لما رأيته داخالً‏ اختبأت لئال أرى منه وأسمع ما ال يسرُّ،‏ فنادى:‏ أين أنت يا عبدالرحمن؟ كيف تترك أضيافك دون طعام؟ فلما لم أجبه،‏ وكان يعلم أني أسمعه،‏ قال:‏سألتك باهلل أن تجيبني إن كنت تسمعني،‏ فلم أر بدّاً‏ من إجابته،‏ فجئته على خوفواستحياء،‏ فأسمعني ما كنت أتوقعه،‏ فقلت له:‏ يا أبت وهللا لقد عزمت عليهم أنيطعموا،‏ واعتذرت لهم عن غيابك،‏ فأبوا وقالوا:‏ لسنا بآكلين إال إذا أكل الصديق،‏فالتفت إليهم قائالً:‏ أحقاً‏ ما يقوله هذا؟ قالوا:‏ صدق وهللا،‏ فكيف نأكل ولست معنا؟!‏فظهر الغضب على وجهه،‏ أما اآلن فليس مني،‏ ولكن منهم فقال مغضباً:‏ كلوا ال هنيئاً‏120


وال مريئاً،‏ فتقبّلوا هذا منه لمكانته عندهم،‏ وألنهم أغضبوه،‏ فكيف يُدْ‏ عون فال يأكلون؟وابنه بينهم،‏ وهو منشغل عنهم؟.‏لم تمتد أيديهم إلى الطعام،‏ فسألهم ما يمنعكم أن تأكلوا؟ قالوا:‏ أنت صاحب الطعاموصاحب البيت فابدأ أوالً،‏ قال:‏ انتظرتموني،‏ ثم فرضتم عليَّ‏ األكل،‏ وهللا ال ذقته أبداً‏هذه الليلة،‏ قالوا:‏ وهللا ال نطعمه حتى تطعمه.‏قال:‏ ويلكم!!‏ ما لكم ال تقبلون عنا قراكم،‏ هات طعامك يا عبد الرحمن،‏ فجاء به إليه،‏وهو شبعان،‏ قد أكل عند رسول هللا صلى هللا عليه وسلم،‏ فوضع يده فقال:‏ بسم هللا،‏ألحنثنّ‏ بقسمي هذا،‏ فهو من الغضب ومن الشيطان،‏ وأخذ األضياف الثالثة وعبدالرحمن وأم رومان زوجة الصديق يأكلون،‏ والصدِّيق ينظر إليهم ويبتسمُ،‏ ولكنّه التفتفجأة إلى زوجته فقال لها:‏ يا أم رومان ما الذي أراه،‏ فانتبهت وقالت:‏ سبحان هللا،‏ إنالطعام يكثر،‏ وال يقلُّ،‏ كلما أكل أحدهم لقمة رَبَت من أسفلها أكثر منها حتى عال الطعامفي القصعة،‏ وكاد يسقط منها،‏ فلما شبع القوم،‏ بعث الصدِّيق غالمه بها إلى النبي صلىهللا عليه وسلم وأخبره بخبرها،‏ فأكل النبي صلى هللا عليه وسلم منها،‏ وتركها عنده إلىالصباح.‏وجاء إلى النبي صلى هللا عليه وسلم اثنا عشر رجالً،‏ كانوا على موعد معه فخرج بهمإلى ظاهر المدينة،‏ حيث كان في انتظارهم عدد كبير من المسلمين،‏ وهناك قسّم الرسولصلى هللا عليه وسلم الناس إلى اثنتي عشرة مجموعة على رأس كلّ‏ واحدة منها رجلممَّن كانوا عنده في الصباح،‏ ثم قدَّم لهم النبي صلى هللا عليه وسلم هذه القصعة فأكلمنها الجميع وكفتهم،‏ فقد كانت مباركة،‏ ظهرت بركتها عند الصدِّيق رضي هللا عنه،‏وزادت بركةً‏ في بيت النبي صلى هللا عليه وسلم.‏رياض الصالحينباب كرامات األولياء ومجالسهم121


-1سعد وسعيدحين فتح المسلمون العراق بقيادة المثنى بن حارثة،‏ ثم أتمها خالد بن الوليد رضي هللا عنهجهز الفرس جيشاً‏ عرمرم بقيادة رستم،‏ وانطلقوا من فارس يريدون دحر المسلمينواسترجاع ما سُلب منهم.‏كان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب قد جهز جيشاً‏ قوياً‏ يحارب به هؤالء،‏ وحدثته نفسهأن يقوده بنفسه،‏ فمنعه أصحابه قائلين:‏ إن المسلمين بحاجة إليك،‏ وأصحابُك فيهم القادةالعظام،‏ المجرّبون في الحرب القادرون على إحراز النصر بإذن هللا،‏ نزل الفاروق علىرأيهم،‏ واستشارهم فيمن يوليّ،‏ فوقع االتفاق على أحد العشرة المبشرين بالجنة،‏ سعد بنأبي وقاص،‏ أول رام بسهم في اإلسالم،‏ والوحيد الذي فداه الرسول الكريم بأمه وأبيه حينقال له في غزوة أحد:‏ ‏))ارم يا سعد ارم،‏ فداك أبي وأمي((،‏ لم يتخلف عن غزواتالرسول الكريم صلى هللا عليه وسلم،‏ كان مستجاب الدعوة رضي هللا عنه.‏عيّنه الفاروق أميراً‏ على الجيوش اإلسالمية،‏ وكانت الرسل بينهما تتوالى يومياً،‏ وكانأمير المؤمنين،‏ يزوّ‏ د سعداً‏ بالمؤن والذخائر والجنود،‏ ويطلّع على مجريات المعركة،‏ويسدّدها،‏ وعنه تصدر التعليمات،‏ فكأنه القائد الفعلي للمعركة،‏ وانتصر المسلمون فيموقعة القادسية على الفرس نصراً‏ مؤزراً،‏ وصار سعدٌ‏ والي العراق،‏ ومقرّه الكوفة،‏يحكم بالعدل،‏ يواسي الفقير،‏ ويأخذ على أيدي الظالم،‏ ويقس مُ‏ بالسويّة،‏ ولكن أهل السوءفي موسم الحج شكَوه إلى أمير المؤمنين،‏ ووصفوه بغير ما هو أهل له،‏ فعزله،‏ ليستصديقاً‏ لهم،‏ إنما يريده مستشاراً‏ له،‏ واستعمل عليهم عمار بن ياسر رضي هللا عنه،‏ ثمإنهم حين رأوا عمر عزله اشتطوا فقالوا:‏ إنه ال يحسنُ‏ الصالة.‏أصاحبُ‏ رسول هللا صلى هللا عليه وسلم المبشر بالجنّة،‏ الذي استعمله رسول هللا صلىهللا عليه وسلم على غزوات ومدحه وفداه بأمه وأبيه ال يحسن الصالة؟!!‏ هذا افتراءوبهتان،‏ احتد سعدٌ‏ وقال:‏ أما أنا فوهللا كنت أصلي بهم صالة رسول هللا صلى هللا عليهوسلم،‏ ال أخرم عنها،‏ أقرأ في الركعتين األوليين من صالة العشاء فأطوّ‏ ل وأخفف فيالثالثة والرابعة كما يفعل رسول هللا صلى هللا عليه سلمقال عمر:‏ صدقت يا أبا إسحاق فوهللا ألنت الصادق وهم الكاذبون.‏ولكي يطيّبَ‏ الفاروق خاطر سعد أرسل معه وفداً‏ إلى الكوفة،‏ يمرون معه على مساجدها،‏ويسألون الناس عن سعدٍ‏ وسيرته فيهم حين كان أميراً،‏ فلم يدَعوا مسجداً‏ إال سألواالمصلين فيه عن سعدٍ‏ رضي هللا عنه،‏ والناس يذكرونه بالخير،‏ ويثنون عليه،‏ ويفيضونفي مدحه.‏حتى إذا وصل إلى مسجد لبني عبس ذكره الناس فيه كالعادة بالفضل وسموّ‏ األخالق،‏والعدل،‏ فقام رجل منهم ضاقت نفسه لمدحه وكان ممن فسَدوا عليه،‏ واغتابوه،‏ يقال له–. -––122


-2أسامة بن قتادة ويكنى أبا سعدة،‏ فقال:‏ إن كنتم تطلبون الصدق في سعد فإليكم حقيقةاألمر:‏فإنه كان يرسل الجيش للقتال وال يخرج معه.‏وإذا قسم بين الناس األموال كانت قسمته ضيزى،‏ ليس فيها مساواة.‏وإذا حكم بينهم لم يعدٍل،‏ إنما دأبه أن يميل إلى ذوي األموال واألهواء.‏وهنا تأثر سعدٌ‏ رضي هللا عنه،‏ وكان كما أسلفنا مستجاب الدعوة فقال:‏ أما وقد قلتَ‏ فإنيأدعو عليك دعوات ثالثاً.‏اللهم إن كان عبدك هذا كاذباً،‏ قام رياء وسمعة فأطل عمره،‏ وأطل فقره،‏ وعرّضه للفتن.‏فكان هذا الشيخ بعد ذلك إذا سئل ما شأنك؟ قال:‏ أصابتني دعوة سعدٍ،‏ فها أنا شيخ كبيرمفتون أعمى،‏ عندي عشر بنات ال أعرف كيف أصرف عليهن.‏وعاش الرجل إلى أن أدرك إحدى الفتن فغاص فيها.‏قال جابر بن سمرة:‏ لقد أبصرت هذا المفتون الكذاب قد سقط حاجباه على عينيه منالكبر،‏ وإنه ليتعرض إلى الفتيات في الطريق فيغمزهن ويمسك بأصابعهن يداعبهن كمايفعل السفيه،‏ فيهربن منه.‏أما سعيد بن زيد،‏ وهو كذلك أحد العشرة المبشرين بالجنة رضي هللا عنه،‏ فقد خاصمتهامرأة اسمها أروى بنت أوس إلى مروان بن الحكم،‏ وادّعت أنه أخذ شيئاً‏ من أرضها،‏فقال سعيد:‏ أنا آخذ من أرضها شيئاً‏ بعد الذي سمعت من رسول هللا؟!‏ قال مروان:‏ ماذاسمعت من رسول هللا صلى هللا عليه وسلم؟ قال:‏ سمعت رسول هللا صلى هللا عليه وسلميقول:‏ ‏))من أخذ شبراً‏ من األرض ظلماً،‏ طوّ‏ قه إلى سبعة أرضين((.‏ فقال مروان:‏ الأسألك بعد هذا بيّنة،‏ فأنت صاحب رسول هللا صلى هللا عليه وسلم،‏ شهد لك بالجنّة.‏ قالسعيد:‏ اللهم إن كانت كاذبة فأعمٍ‏ بصرها،‏ واقتلها في أرضها،‏ فما ماتت حتى ذهببصرها فكان الناس يرونها تلتمس الطريق تقول:‏ أصابتني دعوة سعيد..‏ وإنها مرّت علىبئر في الدار التي خاصمته فيها،‏ فوقعت فيها،‏ فكانت قبرها.‏رياض الصالحينباب كرامات األولياء123


ًغزوة الرجيعفي السنة الرابعة للهجرة،‏ وفي شهر صفر منها،‏ جاء رهط من قبيلتي عُضَل والقارة،‏أظهروا اإلسالم وأبطنوا الكفر،‏ يريدون أن يظفروا ببعض المسلمين أسارى ليبيعوهمإلى مشركي مكة فيقتلهم هؤالء بقتالهم في أحد فقال هؤالء الرهط للنبي صل هللا عليهوسلم:‏ يا رسول هللا إن فينا رغبة في اإلسالم،‏ فقد بدأت بيوتنا يفشو فيها هذا الدينالحديث،‏ وال نعرف شيئاً‏ عنه،‏ فابعث لنا نفراً‏ يفقهوننا في الدين،‏ ويقرئوننا القرآن.‏كانت هذه الكلمات منهم عرضاً‏ رائعاً،‏ حفز النبي صلى هللا عليه وسلم وهو سيّد –الدعاة على أن يرسل إليهم بعض الفقهاء الشباب،‏ يعلمونهم دينهم،‏ ويرشدونهم إلىسنّة نبيهم،‏ والشباب عدّة المستقبل وبُناته،‏ وعلى همتهم تقوم أركانه،‏ فاختار ستة وأمّرَ‏عليهم عاصم بن ثابت،‏ فانطلقوا معهم إلى نجد مكان إقامتهم.-–124–فلما كانوا بالهدأة وهي بلدة بأعلى مر الظهران،‏ ظهر الغدر في عيون أولئك الرهط،‏وقاموا يريدون أسرهم،‏ فلما علموا أنهم ال يقدرون عليهم استصرخوا عليهم حياً‏ منهذيل،‏ فبعثوا لهم مئة رجل،‏ فالتجأ المسلمون إلى جبل،‏ واعتصموا فيه،‏ فلما رأىالمشركون أن ال سبيل إلى هؤالء النفر الستة استنزلوهم وأعطوهم األمان،‏ وأقسموا أنال ينالونهم بسوء،‏ فقال عاصم:‏ وهللا ال أنزل على عهد كافر،‏ فالكافر ال أمان له والذمّة،‏ وصعّد نظره في السماء وقال:‏ اللهم بلّغ عنا نبيّك أنّا نموت على دينك وأنه أدىاألمانة وبلغ الرسالة ونصح األمة فعليه منك الصالةُ‏ والسالم،‏ وكان على رأيه اثنانآخران هما مرشد بن أبي مرشد،‏ وخالد بن البكير،‏ فقتل عاصم ومرشد وخالد.‏واستأسر بعد ذلك خبيب بن عدي،‏ وزيد بن الدث نَّة ورجل آخر هو عبد هللا بن طارق،‏فلما أسروهم،‏ أظهروا الغدر كعادتهم وربطوهم بالقسيّ،‏ فقالوا لهم:‏ أين العهد والذمّة،‏فقال المشركون:‏ ال عهد لكم وال ذمة،‏ وصدق هللا العظيم حين وصف المشركين قائالً:‏الَ‏ يَرْ‏ قُبُو ‏َن ف ي مُؤْ‏ م ‏ٍن إ الّ‏ وَ‏ ‏َال ذ مَّ‏ ‏ًة وَ‏ أُولَئ ‏َك هُ‏ ‏ُم الْمُعْتَدُو ‏َن وساقوهم إلى مكة،‏ أما عبدهللا بنُ‏ طارق فلم يرضَ‏ المسير،‏ وتمنّى لو قتل مع الشهداء الثالثة،‏ واستمكن فياألرض،‏ فدفعوه،‏ فلما يئسوا منه وضعوا السيف في صدره فلحقت روحه بإخوانهالثالثة إلى بارئها.‏وأراد هؤالء القتلة أن يحزّوا رأس عاصم ليبيعوه من سالفة بنت سعد،‏ وكانت نذرتأن تشرب الخمر في رأس عاصم ألنه قتل ابنيها في غزوة أحد،‏ فجاء النحل بأعدادهائلة يطن حوله،‏ فما استطاعوا الوصول إليه،‏ فقالوا:‏ دعوه إلى المساء فيذهب النحل،‏


فنأخذه،‏ فبعث هللا تعالى سبيالً‏ احتمله،‏ وكان عاصم عاهد هللا أن ال يمسّ‏ مشركاً،‏ واليمسّه مشرك،‏ فمنعه هللا في مماته كما منعه في حياته.‏وأما خبيب فقد اشتراه بنو الحارث بن نوفل،‏ وكان خبيب هو الذي قتل الحارث في‏"أحد"‏ فأخذوه ليقتلوه به،‏ فبينما خبيب عند بنات الحارث استعار من إحداهنّ‏ موسىيستحدُّ‏ بها،‏ فاقترب منه طفل صغير فجلس على فخذ خبيب،‏ والموسى في يده،‏ فصاحتالمرأة خوفاً‏ على صغيرها أن يقتله خبيب،‏ فقال لها:‏ أتخشين أن أقتله؟ إن الغدر ليسمن شيمة المسلمين وليس من شأنهم الغدر باآلخرين،‏ وأعاده إلى أمه،‏ فكانت هذه المرأةتقول:‏ ما رأيت أسيراً‏ أخيرَ‏ من خبيب،‏ لقد رأيته،‏ وما بمكة ثمرة،‏ وإن في يده لقطفاً‏ منعنب يأكله،‏ ما كان إال رزقاً‏ رزقه هللا خبيباً.‏فلما خرجوا من الحرم ليقتلوا خبيباً‏ قال:‏ ردّوني أصلي ركعتين،‏ فتركوه فصالهما،‏ فسنسنة حسنة لمن يقتل صبراً‏ أن يصلي ركعتين.‏ثم قال:‏ لوال أن تقولوا جزع لزدت،‏ وقال أبياتاً‏ منها:‏ولست أبالي حين أقتل مسلماً‏على أي جنب كان في هللا مصرعيوذلك في ذاتاإلله،‏ وإن يشأيبارك على أوصال شلوٍ‏ ممَزّعاللهمَّ‏ أحصهم عدداً،‏ واقتلهم بدداً،‏ثم صلبوه.‏يقول أبو سفيان بعد ما أسلم:‏ فوهللا لقد كنت وابني معاوية ممن حضرَ‏ مقتله،‏ فما سمعتبدعائه حتى انحنيت،‏ وأحنيت رأس ولدي خوفاً‏ أن يصيبنا دعاؤه.‏وأما زيد بن الدث نَّة فإنّ‏ صفوان بن أميّة بعث به مع غالمه نسطاس إلى التنعيم خارجمكة ليقتله بابنيه،‏ فقال نسطاس:‏ أنشدك هللا أتحب أنّ‏ محمداً‏ اآلن مكانك نضرب عنقهوأنّك في أهلك؟قال:‏ ما أحبُّ‏ أن محمداً‏ اآلن مكانه بين أصحابه تصيبه شوكة تؤذيه وأنا جالس فيأهلي.‏فقال أبو سفيان:‏ ما رأيت من الناس أحداً‏ يحبُّ‏ أحداً‏ كحبِّ‏ أصحاب محمدٍ‏ محمداً..‏ ثمقتله نسطاس.‏125


وهكذا انطوت صفحة من صفحات الغدر التي تتوالى على المسلمين في كل زمانومكان،‏ ال لذنب إال أنهم قالوا:‏ ربّنا هللا،‏ وال يزال ركبُ‏ اإليمان على الرغم من كيدالكائدين،‏ ومكر الماكرين،‏ يمشي معلناً‏ كلمة اإليمان:‏ ال إله إال هللا،‏ محمد رسول هللا،‏إلى أن يرث هللا األرض ومن عليها.‏البخاري ج‎5‎ ص‎41‎الكامل في التاريخ ج‎2‎ ص‎111‎126


أهل األنواركانت ليلة مظلمة من ليالي المدينة،‏ غابت عنها نجومها،‏ وغاب عنها قمرها،‏ لكنالصحابة األجالء كانوا يقبسون األنوار من قمر الهداية،‏ وكوكب العناية الربانية،‏ مَناصطفاه ربه فأعلى مقامه،‏ وجعله نوراً‏ يهدى به البشرية إلى يوم القيامة.‏سمعوا آيات هللا تتلى من فم مَن عليه نزل القرآن الكريم،‏ فمأل قلوبهم نوراً‏ وعيونهمضياءً،‏ وسمعوا كذلك من المصطفى دعاءه:‏ ‏))اللهم اجعل من أمامي نوراً،‏ ومن خلفينوراً،‏ وعن يميني نوراً،‏ وعن شمالي نوراً،‏ ومن فوقي نوراً،‏ ومن تحتي نوراً،‏ اللهماجعلني نوراً((،‏ أو كما قال عليه الصالة والسالم،‏ فلما أرادوا العودة إلى بيوتهم كانتاألنوار تحفهم من كل جانب،‏ وكأنهم في رابعة النهار.‏هذا أُسيد بن حضير وعبادة بن بشر رضي هللا عنهما يخرجان من حضرة النبي‏)الضياء(‏ عليه الصالة والسالم،‏ وأمامهما مثل المصباح ينير دربهما .. ما كانا يغنيَّان،‏وال يتمايالن تمايل السكارى..‏ ولم يكن حديثهما مما يندى له الجبين،‏ إنما كانا ملكينيمشيان على األرض،‏ ذكرُ‏ هللا في قلبيهما ولسانيهما،‏ يحمدانه على نعمة اإلسالم،‏ ونوراإليمان.‏كان هذا المصباح يشق طريقهما فترتاحُ‏يقرب إلى هللا تعالى.‏نفساهما إلى ما هما عليه من دين عظيم كريمفلما افترقا كلُّ‏ إلى أهله انقسم هذا النور نورين،‏ والمصباح مصباحين.‏أرأيت أخي الحبيب ما يفعل اإليمان واإلسالم في حياة أتباعه؟ جعلنا هللا من أهل األنوارفي الدنيا واآلخرة.‏رياض الصالحينباب كرامات األولياء127


واللعن إياكقال االبن ألبيه:‏ يا أبت قرأت أن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم أُتي برجل شربخمراً،‏ فقال:‏ ‏))اضربوه تعزيراً‏ له وردعاً((،‏ فقال أبو هريرة:‏ فمنا الضارب بيده،‏والضارب بنعله،‏ والضارب بثوبه،‏ فلما انصرف قال بعض القوم:‏ أخزاك هللا،‏ فقالرسول هللا صلى هللا عليه سلم:‏ ‏))ال تقولوا هذا،‏ ال تعينوا عليه الشيطان((‏ فلماذا أبىعليهم رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ذلك؟قال األب:‏ الدعاء بقولهم:‏ أخزاك هللا،‏ لعنة،‏ وال يُلعنُ‏ إال الظالمون،‏ لقوله تعالى:‏ لَعْنَةُ‏ ‏َّهللا عَلَى الظَّال م ي ‏َنأَالَ‏. قال االبن:‏ لقد ظلم نفسه بشرب الخمر يا والدي.‏قال األب:‏ يا بني إن الظالمين:‏ الذين يصدون عن سبيل هللا،‏ وهذا مسلم ارتكب خطافعزّره رسول هللا صلى هللا عليه وسلم.‏ وليس المؤمن بطعّان وال لعّان .. أليس كذلك يابني؟قال االبن:‏ بلى يا والدي.‏قال األب:‏ وقد حدثنا النبي صلى هللا عليه وسلم أن العبد إذا لعن شيئاً،‏ صعدت اللعنةإلى السماء فتغلق دونها األبواب،‏ ثم تنزل إلى األرض فتغلق دونها أبواب األرض،‏ ثمتمشي اللعنة يميناً‏ وشماالً‏ فإذا لم تجد طريقاً‏ إلى ملعون رجعتْ‏ إلى قائلها،‏ كما أن النبيصلى هللا عليه وسلم ينبهنا إلى أن اللعّانين ال يكونون شفعاء وال شهداء يوم القيامة.‏قال االبن:‏ أعوذ باهلل أن أكون لعّاناً.‏قال األب:‏ أما وقد كرهت أن تَلعنَ‏ فاسمع ما أمر به النبي صلى هللا عليه وسلمناقتها.‏مَن لعنتقال االبن:‏ شوقتني يا والدي ومعلمي إلى قصتها.‏قال األب:‏ بينما رسول هللا صلى هللا عليه وسلم في بعض أسفاره،‏ وامرأة من األنصارعلى ناقةٍ‏ عليها بعض متاع القوم،‏ إذ وصلوا إلى مكان ضيّق بين جبلين تزاحم فيهالركبُ،‏ فأرادت المرأة أن تسرع ناقتها،‏ فلم تستطع،‏ فضجرت منها فلعنتها،‏ فسمع النبي128


صلى هللا عليه وسلم مقالتها،‏ فقال:‏ ‏))خذوا ما على الناقة من متاع ودعوها فإنهاملعونة،‏ ال تصاحبنا ناقة معلونة((.‏وقال راوي الحديث –يا بني-: فكأني أرى الناقة تمشي في الناس ال يتعرض لها أحد.‏قالاالبن:‏ أفال تجوز اللعنة أبداً؟قال األب:‏ بلى،‏ ولكن في حدود الشرع،‏ فقد لعن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم:‏الواصلة والمستوصلة وآكل الربا والمصورين ومن لعن والديه،‏ ومن ذبح لغير هللا،‏ومن أحدث منكراً،‏ ومن آذى المسلمين.‏قال االبن:‏ فما الواصلة والمستوصلة؟قال األب:‏ التي تصلواصلة.‏شعرها بشعر غيرها تدعى مستوصلة،‏ ومَنْ‏ تقوم بهذا العمل فهيقال االبن:‏ أهناك من لُعنوا أيضاً؟قال األب:‏ نعم:‏ اليهود الذين اتخذوا مقابر أنبيائهم مساجد،‏ والمتشبهون من الرجالبالنساء،‏ والمتشبهات من النساء بالرجال.‏ورفع األب وفتاه أيديهما إلى السماء يسأالنالمسلمين.‏هللا الهداية،‏ والفقه في الدين لهما ولكلرياض الصالحينباب تحريم لعن إنسان بعينه أو دابته129


صور مردودةالصورة األولى:‏مرَّ‏ رسول هللا صلى هللا عليه وسلم في السوق يراقب البيع والشراء،‏ وتصرُّف الناسفي السوق،‏ يرشد هذا،‏ ويعلّم ذاك،‏ ويسلم على هذا،‏ ويصبغ المجتمع بصبغة اإلسالم،‏وتوقف عند رجل يبيع طعاماً،‏ فأدخل يده في اإلناء فأصابها البلل،‏ فقال له:‏ ‏))ما هذا ياصاحب الطعام؟ إنّه جافٌ‏ من فوقُ‏ مبلل من تحت((.‏قال الرجل معتذراً:‏ نزل المطر عليه يا رسول هللا فابتل.‏قال الرسول صلى هللا عليه وسلم:‏ ‏))أفال جَعلت ما ابتلَّ‏ فوق الطعام حتى يراه الناس؟!‏هذا غش ال يرضاه هللا عز وجلَّ‏ وال نرضاه يا صاحب الطعام:‏ من غشّنا فليس منّا((.‏الصورة الثانية:‏–كان أبو مسعود البدري يضرب أحد عبيده بالسوط لذنبٍ‏ أذنبه،‏ فسمع صوتاً‏ من خلفهيقول:‏ ‏))يا أبا مسعود((‏ لكنّه لغضبه الشديد من فتاه لم يسمع الكالم ولم يعرفالمنادي،‏ فلما اقترب الصوتُ‏ منه عرف فيه رسول هللا صلى هللا عليه وسلم،‏ فتوقفعن الضرب واحمرَّ‏ وجهه خجالً‏ أن يراه الرسول صلى هللا عليه وسلم وهو منفعليضرب عبده.‏–فقال له النبي صلى هللا عليه وسلم:‏ ‏))يا أبا مسعود،‏ إذا دعتك قدرتك على ظلم الناس،‏فتذكر قدرة هللا عليك،‏ يا أبا مسعود:‏ اعلم أن هللا أقدر عليك منك على هذا الغالم((.‏فقال أبو مسعود:‏ فسقط السوط من يدي هيبة،‏ ثم قلت:‏ ال أضرب مملوكاً‏ بعده أبداً‏ يارسول هللا.‏ثم التفت أبو مسعود إلى النبي صلى هللا عليه وسلمحر لوجه هللا.‏يسترضيه قائالً:‏ يا رسول هللا هوفقال له النبي صلى هللا عليه وسلم:‏ ‏))أما إنّه لو لم تفعل للفحتك النار يوم القيامة((‏‏))يا أبا مسعود:‏ من ضرب غالماً‏ له حدّاً‏ لم يأته،‏ أو لطمه فإن كفارته أن يعتقه((.‏130


قال أبو علي سويد بن مقرِّن رضي هللا عنه:‏ كنا سبعة إخوة من بن مقرِّن ما لنا إالخادمة واحدة،‏ لطمها أصغرنا فأمرنا الرسول الكريم أن نعتقها.‏الصورة الثالثة:‏مرَّ‏ عبد هللا بن عمر بن الخطاب رضي هللا عنهما بفتيان من قريش نصبوا طيراً‏ ‏)حيّاً(‏وهم يرمونه،‏ وقالوا لصاحب الطير:‏ كل سهم ال يصيب الطير فهو لك،‏ فرضي،‏ فهميصوبون سهامهم نحوه،‏ فلما رأوا عبد هللا بن عمر تفرَّقوا،‏ فقال بن عمر:‏ من فعل هذا؟لعَنَ‏ هللا منْ‏ فعل هذا،‏ إن رسول هللا صلى هللا عليه سلم لعن من اتخذ شيئاً‏ فيه روحهدفاً.‏الصورة الرابعة:‏كان هشام بن حكيم بن حزام رجالً‏ صلباً‏ في الحق،‏ ال يخشى في هللا لومة الئم،‏ عُرفعنه ذلك،‏ فكان الفاروق يسرُّ‏ لهذا،‏ ويقول إذا بلغه أن هشاماً‏ ينكر منكراً:‏ ما بقيت أناوهشام فال يكون هذا.‏رجل كهشام قليالً‏ ما نجده في هذا الزمن الذي فسد فيه كل شيء إال ما رحم هللا.‏مرَّ‏ هشام هذا بالشام على ناس من األنباطوالروم فاختلطت أنسابهم،‏ وفسدت ألسنتهميُصبُّ‏ على رؤوسهم الزيت فقال:‏ ما هذا؟قيل:‏ يعذّبون ألنهم لم يدفعوا خراج األرض.‏––وهم قوم من العرب دخلوا في العجمقد أقيموا في الشمس،‏ يلفحهم هجيرها،‏قال:‏ أشهد لسمعت رسول هللا صلى هللا عليه وسلمالناس في الدنيا بغير الحق((.‏يقول:‏ ‏))إن هللا يعذب الذين يعذّبونفدخل على األمير فحدَّثه بما حدَّث به النبي صلى هللا عليه وسلمسبيلهم.‏فأمر األمير بإخالءأما في هذا الزمان فصبُّ‏ الزيت في حر الشمس على الوجوه يعتبر من المزاح الخفيف،‏لقد اخترع أعداء هللا طرقاً‏ شيطانية فيها شتى األفانين في العذاب،‏ ال تخطر على بال،‏طرقاً‏ تدل على بهيمية مخترعيها ومستعمليها،‏ وتدلُّ‏ على أنهم ال يمتّون إلى اإلنسانيةبصلة،‏ حدّثنا عنهم رسول هللا صلى هللا عليه وسلم حين قال:‏ ‏))صنفان من أهل النار لم131


أرهما((،‏ وذكر القوم يضربون الناس بأذيال البقر وهي كناية عن التفنن في التعذيبوإيذاء الناس،‏ نعوذ باهلل من شرورهم.‏الصورة الخامسة:‏قال ابن مسعود:‏ كنا مع رسول هللا صلى هللا عليه وسلم في سفر،‏ فانطلق لحاجته،‏ فرأيناطائراً‏ معها فرخان،‏ فأخذنا فرخيها،‏ فجاءت الحمّرة ‏)الطائر(‏ فزعة تطير من فوقرؤوسنا،‏ وكأنها ترجونا أن نعيد إليها فرخيها،‏ ال يقرُّ‏ لها قرار،‏ فجاء النبي صلى هللاعليه وسلم،‏ فرآها تطير مضطربة،‏ فقال:‏ ‏))من فجع هذه بولدها؟ ردّوا ولدها إليها((.‏ورأى قرية نملٍ‏ قد حرَّقناها،‏ فقال:‏ ‏))من حرق هذه؟((.‏قلنا:‏ نحن فعلنا ذلك يا رسول هللا،‏ قال:‏ ‏))إنّه ال ينبغي أن يعذِّب بالنار إلى ربُّ‏ النار((.‏هذا هو اإلسالم رحيم بأتباعه رحيم بغيرهم،‏ ال يرضى أن يكون المسلمون ذوي قوبفظّة قاسية،‏ بل ذوي قلوب محبة رحيمة تحمل الودّ‏ والسالم إلى العالم قاطبة.‏وهذا هو النبي الرحيم الذي علّم اإلنسانية اللطف والتراحم،‏ فهل نقتدي به لنكون سادةالعالم مرة أخرى؟!‏رياض الصالحينباب النهي عن تعذيب العبد والدابة132


طاعون عمواسروى عبد هللا بن عباس رضي هللا عنهما أن عمر خرج إلى الشام عام ثمان عشرةللهجرة،‏ يريد االطالع على أحوال أهلها،‏ وعمل أمرائها،‏ حتى إذا كان بمنطقة تدعى‏"سرغا"‏ لقي أمراء األجناد،‏ وسرغٌ‏ هذه تقع قرب تبوك وعلى رأسهم أبو عبيدة بنالجراح،‏ فأخبروه أن الطاعون وقع في الشام وكثر الموت في أهلها،‏ وأنه قد مات ممندخلها من الجزيرة العربية فقط خمسة وعشرون ألفاً،‏ فنرى أن تعود فال تدخلها،‏ فقالعمر لعبد هللا بن عباس:‏ ادع لي المهاجرين األولين من صلوا إلى القبلتين أستشيرهم،‏فدعاهم وأخبرهم أن وباء الطاعون قد فشا في الشام أفيدخلها؟ فاختلفوا في آرائهم.‏–فقال بعضهم:‏ قد خرجت ألمر عزمت عليه،‏ وال نرى أن ترجع عنه.‏وقال بعضهم:‏ معك بقية الناس الكرام من أصحاب رسول هللا صلى هللا عليه وسلم،‏ والنرى أن تقدم بهم على هذا الوباء،‏ فتفنى ويفنون معك.‏قال:‏ قد سمعت مقالتكم ونصحكم،‏ وسنسمع رأي غيركم،‏ ونادى عبد هللا بن عباس فأمرهأن يدعوَ‏ من كان من األنصار فجاؤوه،‏ فاستشارهم في دخوله بالد الشام،‏ فسلكوا سبيلالمهاجرين،‏ واختلفوا في الرأي اختالفهم،‏ فأمرهم بالخروج من خيمته،‏ واستدعىالمهاجرين الذين أسلموا وهاجروا إلى المدينة قبل الفتح ممن كانوا معه فاستشارهم،‏فأشاروا عليه جميعاً‏ أن يعود إلى المدينة،‏ وأن ال يُقدمهم على هذا الوباء الذيسيحصدهم.‏قال:‏ هذا ما ارتاحت نفسي إليه وعزمت عليه،‏ ونادى مناديه في الناس:‏ إن أميرالمؤمنين عزم على العودة إلى المدينة فجهزوا أنفسكم،‏ اتخذ هذا القرار ألنه رأى أكثرالناس نصحوه بذلك.‏لم يكن هذا األمر ليعجب أمير الجند أبا عبيدة بن الجراح،‏ فقال معاتباً‏ خليفة المسلمين:‏أفراراً‏ من قدر هللا يا أمير المؤمنين؟!‏قال عمر رضي هللا عنه:‏ لو غيرك قالها يا أبا عبيدة!‏ فما ينبغي لي أن أخالف غالبيةالناس وآراءهم،‏ وكنت أود أن تكون منهم،‏ فهو الرأي األرجح والقرار األصوب،‏ نعمنفرّ‏ من قدر هللا إلى قدر هللا،‏ ووضح له األمر فضرب له مثالً‏ فقال:‏ أرأيت يا أبا عبيدةلو كان لك إبل فهبطت وادياً‏ له جانبان:‏ األول خصب المرعى كثيره،‏ والثاني ليس فيه133


––إال القليل من الكأل،‏ أليس إن رعت المرعى الخصيب رعته بقدر هللا،‏ وإن رعت المكانالجديب رعته بقدر هللا؟هكذا كان اجتهاد أمير المؤمنين،‏ وقد أيّده هللا سبحانه وتعالى بعبد الرحمن بن عوفرضي هللا عنه،‏ وقد كان متغيبا في بعض حاجته،‏ فلما علم ما كانوا فيه يخوضون،‏ قال:‏إن عندي من هذا علماً،‏ فقد سمعت رسول هللا صلى هللا عليه وسلم يقول:‏ ‏))إذا سمعتمبه أي بالطاعون بأرض فال تقدموا عليه،‏ وإذا وقع بأرض،‏ وأنتم بها فال تخرجوافراراً‏ منه((،‏ فحمد هللا تعالى عُمرُ‏ لما وفقه إليه وانصرف قافالً.‏رياض الصالحينباب كراهة الخروج من بلد وقع فيها بالء134


من عالئم الساعةيقول أبو هريرة رضي هللا عنه:‏ إن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم جلس يوماً‏ بينأصحابه،‏ يعلمهم ويربيهم،‏ ويهديهم إلى طريق الرشاد،‏ وقد يسأل أحدنا:‏ أهكذا كانتمجالس النبي الكريم صلى هللا عليه وسلم مع أصحابه؟فالجواب:‏ إن مهمة األنبياء األخذ بيد الناس إلى جادة الرشاد،‏ وسبل االستقامة،‏فمجالسهم مجالس علم،‏ وأدب،‏ وأخالق.‏ فيها ما يرضي هللا تعالى،‏ فيباهي بهم مالئكته.‏كان رسول هللا صلى هللا عليه وسلم يحدثهم هذه المرة عن عالئم الساعة فقال:‏ ‏))ال تقومالساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود،‏ حتى يختبئ اليهودي وراء الحجر والشجر،‏ فيقولالحجر والشجر:‏ يا مسلم؛ هذا يهودي خلفي،‏ تعال فاقتله،‏ إال الغرقد فإنه من شجراليهود((.‏قلت في نفسي:‏ يا سبحان هللا،‏ كل كالم سيدنا الرسول صلى هللا عليه وسلم صدقوعدل،‏ وليس لنا إال اإليمان به والتصديق به،‏ وال أقصد اإليمان والتصديق التقليديين،‏بل المبصرَ‏ ‏ْين،‏ المفكرَين.‏قال مجاهد:‏ كيف ذلك؟قلت:‏ تصوّ‏ ر أنك قبل سبعين سنة،‏ أو في بداية القرن العشرين تسمع هذا الحديث ثمتقول لنفسك:‏ أين اليهود؟ وكيف نقاتلهم؟ وأين هم حتى نقاتلهم؟ إنهم شذاذ آفاق،‏ وجبناء،‏ال يثبتون أمام أحد فكيف يكون لهم جيش يتحدون به المسلمين؟!!‏ثم تقرأ حديثاً‏ للرسول الكريم يوضح الصورة،‏ إذ يقول عليه الصالة والسالم:‏‏))تقاتلونهم أنتم شرقي النهر وهم غربيّه((.‏ والنهر نهر األردن هل يكونُ‏ وجودنا فيشرق األردن فقط؟ وتكون فلسطين كلها لليهود؟ إنها لمصيبة لجلل،‏ ما بعدها مصيبة.‏اللهم صدق رسولك الكريم،‏ فأغثنا يارب.‏–-1ونعود إلى السؤال نفسه الذي طرحته على نفسك فتقول وأنت في بداية القرنالعشرين -: هذه األردن وفلسطين تبع للدولة العثمانية،‏ واليهود سيملكون فلسطين،‏فهناك أسئلة كثيرة تستدعي اإلجابة،‏ منها:‏أهذا يعني أن شذاذ اآلفاق سيهاجرون إليها هجرات منظمة فيكونون األغلبية فيها؟135


-2-3-4أهذا يعني أن الدولة اإلسالمية ستنتحسر وتتقوقع أو تتالشى ليخلو لهؤالء األنجاسأن يدخلوا فلسطين بسهولة ويسر؟أيعني هذا أن المسلمين في فلسطين لن يجدوا عوناً‏ وال نصيراً،‏ فيذبحون ويطردونمن بالدهم ليتشتتوا في بالد هللا الواسعة؟إن اليهود معروفون بجبنهم ونذالتهم،‏ ولكنهم سيقدمون إلى فلسطين،‏ فهل هذا يعنيأنهم سيكونون في قابل األيام في مركز القوة والسيطرة على عقول الناس ومصادررزقهم،‏ فيسخّرون النصارى لفرض ما يريدون؟..‏ وتعود إلى القرآن الكريم لتقرأ:‏وَ‏ قَضَيْنَا إ لَى بَن ي إسْرائ ي ‏َل ف ي الْك تَاب لَتُفْس دُ‏ ‏َّن ف ي األْ‏ ‏َرْ‏ ض مَرَّتَيْن وَ‏ لَتَعْ‏ لُ‏ ‏َّن عُلُوّ‏ كَب يرًافهل هذا هو العلو الكبير؟أيعني هذا أن المنطقة ستخلو من حاكم مسلم غيور وجيش مسلم عقدي يقلم أظفاراليهود ومن واالهم،‏ أو يدحرهم،‏ أو يلقي بهم إلى حيث جاءوا؟ً ا )4(-5إن كثيراً‏ من األسئلة لتنصب عليك انصباباً،‏ تحاورك،‏ وتداورك،‏ وتبحث عن جواب،‏بل أجوبة مقنعة،‏ كل ذلك في إطار واحد ال تحيد عنه،‏ هو اإليمان بما يخبرنا به النبيالصادق الصدوق.‏وترى نفسك في منتصف القرن العشرين،‏ واليهود لهم دولة ناشئة،‏ تقوى ويصلبعودها،‏ والمسلمون شرّدوا من بالدهم فلسطين،‏ فهم يعيشون في الشتات،‏ والفقروالحاجة،‏ أما في نهاية هذا القرن فانظر إلى البالد العربية ضعيفة ممزقة،‏ مهيضةالجناح ليس لها من أمرها شيء يحكمها،‏ دمىً‏ صنعت على أيدي العدو،‏ ينفذون مايريده السيد اليهودي الذي يشمخ كلما رأى منهم ذالّ‏ ً، ويعربد كلما رأى فيهم خزياً‏وهواناً،‏ يأمر فيسارعون إلى تنفيذ أوامره،‏ ويصرخ فيرتعدون أمام جبروته،‏ يسعَونإلى مرضاته بكل سبيل،‏ فاقتصاد األمة هزيل متداع،‏ والحريات مخنوقة،‏ والرأيمحجور عليه،‏ والدعاة إلى هللا مضيَّق عليهم،‏ وكل ذلك يرضيه،‏ فيزدادون إيذا ‏ًءللحركات اإلسالمية،‏ فيرمونها باإلرهاب حيناً،‏ والتطرف حيناً‏ آخر،‏ ويطاردونهم،‏ فاليجد المسلم مكاناً‏ يؤويه.‏قال مجاهد:‏ فكيف تعود األمور إلى نصابها وينتصر المسلمون على اليهود؟قلت:‏ انتبه يا مجاهد لقد قلت في الجملة األخيرة:‏ وينتصر المسلمون على اليهود.‏قال:‏ ما الغرابة في ذلك؟ ألسنا مسلمين؟136


قلت:‏ بلى،‏ ولكننا مسلمون ال نفقه إسالمنا وال نعمل به.‏قال:‏ أفال نصلي؟ أفال نزكي؟ أال نحج؟ أال نصوم؟ أال نقول:‏ ال إله إال هللا محمد رسولهللا؟قلت:‏ نفعل كل هذا،‏ لكننا نكذب ونغش،‏ ونحكم بغير ما أنزل هللا،‏ ونتعامل بالربا،‏ووسائل إعالمنا تنشر السمَّ‏ في المجتمعات،‏ وتكرس الفساد وتَشْغل الناس عن االهتمامبدينهم وعقيدتهم،‏ فأين هؤالء المسلمون الذين ينتصرون على اليهود فيقاتلونهم عنعقيدة وإيمان؟قال:‏ صدقت وهللا،‏ ال نصر إال بالعودة إلى هللا تعالى.‏–قلت:‏ بل قل:‏ صدق رسول هللا صلى هللا عليه وسلم،‏ وما نراه اآلن بشائر النتصاراناعلى اليهود،‏ فقوتهم وصلت إلى مدى كبير،‏ إلى أعلى ما تكون،‏ وهذا إيذان باالنحدار،‏كما أن اإلسالم هذا المارد العمالق وهو فطرة هللا التي فطر الناس عليها يتحركليكون الهادي الحقيقي ألتباعه إلى درب العزة والكرامة،‏ وحين يقاتل المسلمون تحتراية دينهم،‏ ترى اليهودي يهرب ويتوارى فزعا خائفا وراء أي شيء يجده،‏ ولكن حينينصر هللا المسلمين،‏ يسخِّر لهم كل شيء؛ فينطق الحجر قائالً‏ بلغة عربية فصيحة:‏ يامسلم يا عبد هللا،‏ هذا يهودي ورائي،‏ فتعال واقتله وأرحني من رجسه ونَتَن ه،‏ وينطقالشجر بلغة عربية فصيحة:‏ يا مسلم يا عبد هللا،‏ هذا يهودي ورائي،‏ فتعال واقتلهوأرحني من خبثه،‏ واألرض كلها تستنجد من هذا المجرم القذر،‏ لقد عاث فيها فساداً‏وخَنى،‏ وال يطهِّرها إال المسلم الطاهر،‏ لك ‏َّن هناك شجراً‏ قصيراً‏ ذا أشواك يسمى شجرالغرقد،‏ إنه شجر يهودي بطبعه،‏ يالئم اليهودي،‏ يتستر عليه،‏ واليهود يعرفون ذلك،‏ فهميزرعونه في كل مكان،‏ ولكن الحذر ال ينجي من القدر،‏ والنهاية المحتومة قادمة،‏والنصر ألولياء هللا.‏––ومن عالئم الساعة أيضاً‏ ما ذكره النبي صلى هللا عليه وسلم من أن نهر الفرات هذاالبحر من الماء العذب الذي ينبع من تركيا فيمر في الشمال الشرقي من سوريا ليدخلالعراق ويمتزج مع أخيه دجلة فيؤلفان شط العرب،‏ ثم يصبان في الخليج،‏ يكاد ينحسرعن ذهب،‏ وقُلْ‏ عن جبل من ذهب،‏ فيسمع الناس به فيقصدونه من كل حدب وصوبليأخذوا هذا الذهب.‏137


ولكن ما سبب انحساره؟ لم يذكره رسول هللا صلى هللا عليه وسلم،‏ ولعل السدود التيأقامها األتراك حوله جعل ما يصل من مائه إلى سوريا قليالً،‏ ولعل مجرى مائه سيتغيرإلى مكان آخر فيظهر هذا الجبل الذهبي،‏ ولعله يغيض ماؤه فترة من الفترات ألمريريده هللا سبحانه وتعالى،‏ لكن العبرة من ذلك أن الناس حين يتسامعون بهذه الكنوزالذهبية التي يسيل لها اللعاب ينطلقون إليها،‏ كل واحد منهم يرجو أن تكون من نصيبه،‏فيلتقي هناك خلق كثير،‏ ويقتتل الناس على هذا الذهب،‏ وال ينجو من كل مئة رجل إالرجل واحد،‏ أما التسعة وتسعون فيُقتلون،‏ ولطمعهم يمنِّي كل واحد منهم نفسه أن يكونالناجي،‏ ويأمرنا النبي صلى هللا عليه وسلم إذا حدث هذا في زماننا أن نبتعد عنه،‏ونتحاشاه،‏ فلماذا؟––األمر بسيط ألرباب العقول،‏ فإن الطمع يزين ألصحابه أن يحوزوا على كل شيء دوناآلخرين،‏ فيستحلّوا لهذا كل حرام،‏ فتكون مقتلة عظيمة يشارك فيها القتيل والمقتول،‏فال يصل إلى هذا الذهب إنسان حتى يقتل عدداً‏ من الناس وفيهم المسلمون،‏ فهو إلىالنار،‏ وقد يُقتل أوّ‏ الً،‏ أو يعد أن يقتل عدداً‏ منهم فهو إلى النار أيضاً،‏ فإذا لم يتوجه إليهوامتثل النهي سلم،‏ وسلم منه غيره،‏ إنها لفتنة عظيمة ال ينجو منها إال التقي،‏ نسأل هللاالهداية.‏رياض الصالحينكتاب المنثورات والملح138


إليك يحن الجذع يا رسول هللاحين بُني مسجد رسول هللا صلى هللا عليه وسلم كان فيه جذع شجرة نخيل،‏ يقف إليهرسول هللا صلى هللا عليه وسلم فيمسكه وهو يخطب في المسلمين،‏ يمسكه بيده الشريفة،‏ويتكئ عليه،‏ كان هذا حتى جاءت السنة السابعة للهجرة،‏ فقال أصحابه يوماً:‏ نصنع لكيا رسول هللا منبراً‏ له ثالث درجات،‏ فترتفع عليه،‏ فنراك وترانا،‏ قال:‏ فاصنعوا ما بدالكم،‏ وهكذا فعلوا،‏ فلما جَهُزَ‏ المنبر،‏ وقام عليه رسول هللا صلى هللا عليه وسلم يخطب،‏سمع المسلمون صوتاً،‏ تلفتوا حولهم،‏ من هذا الذي يبكي؟ من يئن؟ من أين هذا الصوتالمتقطع،‏ تكاد نفس صاحبه تخرج من صدره؟ صمت الناس،‏ يبحثون عن مصدر هذاالصوت،‏ ويا للعجب إنه يصدر من جذع النخلة،‏ كان المسجد يغص بالمصلين،‏ فوصفكثير منهم هذا الصوت.‏قال أحدهم:‏ سمعنا للجذع صوتاً‏ كصوت الناقة التي انتهت في حملها إلى عشرة أشهر،‏فهي تصدر أنين الحمل أو الوضع.‏وقال الثاني:‏ اضطربت تلك السارية كحنين الناقة الخلوج التي انتزع ولدها.‏وقالالثالث:‏ حنت الخشبة حنين الوالد فارقه ولده.‏وقال الرابع:‏ خار ذلك الجذع كخوار الثور حتى انصدع وانشق.‏وقال الخامس:‏ صاحت صياح الصبي فارق أمّه.‏يا هللا،‏ خشبة تبكي على فراق رسول هللا صلى هللا عليه وسلمأحق أن يشتاقوا إليه صلى هللا عليه وسلم.‏وتحن إليه؟!‏ فالمسلمونكان الجذع في أقصى حاالت السعادة حين يلمسه الرسول صلى هللا عليه وسلم،‏ فيشعرباألمن،‏ واألمان،‏ ويسمع منه القرآن الكريم،‏ والذكر الحكيم،‏ أما اآلن فهو يشعر أنه فقدذلك،‏ فحق له أن يبكي.‏فماذا فعل النبي الرحيم،‏ ذو الخلق العظيم،‏ واألستاذ الذي علم البشرية،‏ كيف يتصرَّفون،‏وماذا يفعلون؟139


نزل النبي صلى هللا عليه وسلم وسار إلى جذع النخلة فضمَّه إليه يسكنه ويهدئه،‏ كماتفعل األم بوليدها،‏ فجعل الجذع يئن أنين الصبي بين يدي أمه والطفل في أحضانها،‏حتى هدأ وسكن.‏قال النبي صلى هللا عليه وسلم:‏ ‏))لو لم أحتضنه لحن إلى يوم القيامة((،‏ ثم قال الرسولالكريم صلى هللا عليه وسلم للجذع على مسمع من الناس:‏ ‏))اختر واحداً‏ من اثنين((.‏األول:‏ ‏))أن أغرسك في المكان الذي أنت فيه فتكون كما كنت نخلة مثمرة وارفةالظالل((.‏الثاني:‏ ‏))أن أغرسك في الجنة فتشرب من أنهارها فيحسن نبتك،‏ وتثمر،‏ فيأكل منكأولياء هللا تعالى((.‏فقال للنبي صلى هللا عليه وسلم:‏ أختار أن أغرس في الجنة يا رسول هللا فأمر به النبيصلى هللا عليه وسلم فدُف ن.‏رياضالصالحينباب المنثورات والملح140


زيارة ليليةروت أم المؤمنين صفيّة بنت حيي رضي هللا عنها قالت:‏كان رسول هللا صلى هللا عليه وسلم معتكفاً‏ في مسجده،‏ فجئته زائرة في الليل فمكثت عندهأكلمه،‏ ثم قمت ألعود إلى بيتي،‏ فلم يرضَ‏ رسول هللا صلى هللا عليه وسلم أن أعود وحدي فيالليل فقام يوصلني،‏ وهذا مما يجب أن يحرص عليه المسلم،‏ فظالم الليل يغري الفسقةوالمفسدين وأصحاب األهواء أن يرتكبوا المفاسد.‏فمرّ‏ رجالن من األنصار رضي هللا عنهما ولعلهما كانا أُسيدَ‏ بن حُضير،‏ وعبادَ‏ بن بشر،‏ فلمارأيا النبي صلى هللا عليه وسلم معي أسرعا في مشيهما فناداهما النبي صلى هللا عليه وسلمقائالً:‏ ‏))تمهال في المشي،‏ فليس هنا ما تكرهان،‏ أنا واقف مع أمكما صفية بنت حيي بنأخطب((.‏قاال:‏ يا رسول هللا،‏ سبحان هللا،‏ وهل يظن بك أحد إال خيراً؟ نعوذ باهلل أن نظن برسول هللاصلى هللا عليه وسلم سوءاً.‏قال:‏ ‏))بارك هللا فيكما،‏ وأراكما صالحين،‏ ولكن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم،‏ولعله يوسوس لكما فتهلكان في الدنيا واآلخرة((.‏قاال:‏ يا رسول هللا أنت عندنا أعظم من ذلك،‏ فدتك أرواحنا.‏–قال:‏ ‏))بادرت إلى إعالمكما على الرغم من صالحكما إن شاء هللا –معصومين،‏ وقد تتهمانني،‏ فتغدوان من الكافرين،‏ وأنا حريص عليكما((.‏قاال:‏ يا رسول هللا فماذا نفعل في مثل هذا األمر إن حدث مع غيرك؟ألنكما لستماقال:‏ ‏))تقوالن مثل ما قلت لكما،‏ فالبينة والوضوح في الحياة يقطع الشك،‏ ويخزي شيطانه،‏وينفي التهمة ويمنع التعرض لها((.‏قاال:‏ ن عْمَ‏ المعلم أنت يا رسول هللا صلى هللا عليك وسلَّم.‏قال:‏ ‏))وعلى كل عالم قدوة أن يزيل الشك من نفوس مريديه كي يبقى عظيماً‏ في نفوسهم،‏بعيداً‏ عن التهمة،‏ فإن فعل ذلك كان حريّاً‏ أن يقتدوا به ويتأسوا،‏ فينتفعوا به((.‏رياض الصالحينكتاب المنثورات والملح141


القائد البطللما فتح رسول هللا صلى هللا عليه وسلم مكة في الثامن من رمضان عام ثمان للهجرةسمعت هوازن بهذا الفتح العظيم،‏ فقال مالك بن عوف النصري لقبائلها:‏ هذا محمد فتحمكة،‏ وال يمنعه أحد من غزونا،‏ فلنغزُهُ‏ قبل أن يغزوَ‏ نا،‏ فأجابوه إلى ما يريد،‏ وانطلقوانحو مكة إال قبيلتي كعب وكالب.‏وكان الشاعر الفارس دريد بن الصمّة من قبيلة جشم،‏ وهو إذ ذاك شيخ كبير ال يمكنهالقتال،‏ لكنه خرج معهم لالستئناس برأيه،‏ والتَّيمن بمعرفته الحرب،‏ فلما وصلوا بجمعهمإلى أوطاس على ليلة من مكة قال دريد:‏ بأي أرض أنتم؟ قالوا:‏ بأوطاس،‏ قال:‏ ن عْ‏ مَ‏مجالُ‏ الخيل،‏ مكان واسع ممتد ليس فيه صخور تعيق الحركة،‏ وال أملس ناعماً‏ يزعجالخيل،‏ ولكنني أسمع رعاء البعير،‏ ونهاق الحمير،‏ ويعار الشاء،‏ وبكاء الصغير قالوا:‏ساق مالك مع الناس أبناءهم ونساءهم وأموالهم،‏ قال:‏ يا مالك ما الذي حَمَلَكَ‏ على هذا؟قال:‏ سقتهم مع الناس ليقاتل كل إنسان عن حريمه،‏ وماله.‏قال دريد متهكماً:‏ راعي ضأن وهللا ‏)أي ال يفهم إال في الرعي،‏ أما قيادة الجيش فليسمن أهلها(‏ هل يرد المنهزم شيء؟ إن المعركة إن كانت لك لم ينفعك فيها إال رجلبسيفه ورمحه،‏ وإن كانت عليك،‏ فرّ‏ المقاتلون وسبى محمد نساءك وأخذ أموالك،‏ فكانالعار مالزماً‏ لك،‏ يا مالك أعد من معك إلى بالدهم،‏ ثم ال ‏َق المسلمين على متون الخيل،‏فإن انتصرت لحق بك النساء واألوالد والمال،‏ وإن هزمت فقد احتفظت بأهلك ومالك.‏قال مالك:‏ رجل كبير خَ‏ رّفَ‏ ، وهللا ال أستمع إليه.‏قال دريد:‏ أين قبيلتا كعب وكالب.‏قالوا له:‏ لم تلحقا بنا ورغبتا عن الحرب.‏قال دريد:‏ لقد أحسنتا صنعاً،‏ فلم تسلم قيادهما لغرٍّ‏ جاهل ليس له في الحروب دراية.‏وددت يا بني جشم أن تفعلوا فعلتهما.‏فلما خاف مالك بن عوف انفضاض الناس عنه والعمل بما قاله دريد أمسك بسيفه وقال:‏وهللا لتطيعنني يا معشر هوازن أو ألتكئنَّ‏ على هذا السيف حتى يخرج من ظهري.‏–قال دريد:‏ هذا يوم لم أشهده –لم أحارب فيهوما فاتني،‏ فأنا موجود غير محارب.‏142


–قال مالك:‏ إذا رأيتم القوم –واحد.‏المسلمينفاكسروا أغماد سيوفكم وشدّوا عليهم شدة رجلوأرسل عيونه يرصدون النبي صلى هللا عليه وسلمخوفاً.‏وجيشه فعادوا وقد تفرقت أوصالهمقالوا:‏ إنا رأينا رجاالً‏ بيضاً‏ على خيل بيض،‏ فوهللا ما تماسكنا أن خفنا –المالئكة على هذه الهيئة فلم يحفل مالك بما قالوا.‏ولعلهم رأوا–ولما بلغ رسول هللا صلى هللا عليه وسلم خب ‏ُرهم،‏ أجمع المسير إليهم،‏ واستعار منصفوان بن أمية مئة درع وسالح،‏ ثم سار إلى المشركين بعشرة آالف هم جيشه،‏ وألفينممن أسلموا بعد الفتح،‏ فكان العدد اثني عشر ألفاً.‏قال أحد المسلمين:‏ لن نغلب اليوم من قلةٍ،‏ وهذا يدل على ضعف اإليمان،‏ فالنصر منعند هللا،‏ وليس بسبب الكثرة:‏ فكم من فئة مؤمنة قليلة العدد انتصرت على جيش أكبرمنها بكثير.‏فلما قال الناس مثل ما قال:‏ أراد هللا تعالى أن يعلمهم كيف يتكلون عليه،‏ ال علىأنفسهم،‏ فخسروا المعركة في أولها ليعودوا إلى هللا ويتوكلوا عليه فينصرهم،‏ وذلك قولهتعالى:‏ وَ‏ يَوْ‏ مَ‏ حُنَيْ‏ ‏ٍن إ ‏ْذ أَعْجَبَتْكُ‏ ‏ْم كَثْرَتُكُ‏ ‏ْم فَلَ‏ ‏ْم تُغْن عَنْكُ‏ ‏ْم شَيْئًا وَ‏ ضَاقَ‏ ‏ْت عَلَيْكُ‏ ‏ُم األْ‏ ‏َرْ‏ ‏ُض ب مَارَحُبَتْ‏ ثُ‏ ‏َّم وَ‏ لَّيْتُ‏ ‏ْم مُدْب ر ي ‏َن ثُمَّ‏ أَنْزَ‏ ‏َل هللاَّ‏ ُ سَك ينَتَ‏ ‏ُه عَلَى رَ‏ سُول ه وَ‏ عَلَى الْمُؤْ‏ م ن ي ‏َن وَ‏ أَنْزَ‏ ‏َلجُنُودًا لَ‏ ‏ْم تَرَوْ‏ هَا وَ‏ عَذَّ‏ ‏َب الَّذ ي ‏َن كَفَرُوا وَ‏ ذَل ‏َك جَزَا ‏ُء الْكَاف ر ي ‏َن.)26(143)25(وانحدر المسلمون في وادي حنين في عماية الصبح،‏ وكانت هوازن قد سبقتهم إلىالوادي فكمنت في شعابه ومضايقه،‏ فلما صار المسلمون بينهم،‏ شدوا عليهم شدة رجلواحد،‏ وفوجئ المسلمون فهربوا،‏ ال يلوي أحد على أحد،‏ أما رسول هللا صلى هللا عليهوسلم النبي الشجاع الذي ال يعرف الخو ‏ُف إليه سبيالً‏ فقد انحاز إلى يمينه،‏ ثم قال:‏‏))أيها الناس!‏ هلموا إليَّ‏ أنا رسول هللا((‏ ‏)قالها ثالثاً(‏ فما سمعه سوى نفر من المسلمين،‏منهم أبو بكر وعمر وعلي والعباس وأبو سفيان.‏وكان العباس آخذا بلجام بغلة النبي صلى هللا عليه وسلم ‏)دُلْدُل(،‏ وكان جسيماً‏ شديدالصوت فقال له النبي صلى هللا عليه وسلم:‏ ‏))يا عباس ناد األنصار أصحاب السَّمُرة((‏‏)أي أصحاب بيعة الرضوان،‏ وكانت عند هذه الشجرة(،‏ فنادى بأعلى صوته:‏ أينأصحاب السمرة؟ قالوا:‏ لبيك لبيك،‏ فوهللا إن سرعة إجابتهم حين سمعوا صوته عطفة


َالبقر على أوالدها،‏ وسرعان ما اجتمع حوله مئة رجل فاستقبل بهم القوم وقاتلهم،‏ فلمارأى شدة القتال قال:‏أنا النبيّ،‏ ال كذبْ‏أنا ابن عبد المطّل ‏ْب-–وقال النبي صلى هللا عليه وسلم لبغلته دلدل:‏ ‏))البَدي دلدل((،‏ فوضعت بطنها علىاألرض،‏ فتناول الرسول الكريم صلى هللا عليه وسلم حصيات صغاراً‏ فرمى بهن فيوجوه الكفار ثم قال : ‏))انهزموا وربّ‏ الكعبة((،‏ ما أعظم الثقة باهلل،‏ والركون إليه.‏––قال العباس:‏ فوصل التراب إلى عيني كل كافر إنها معجزة ربانية وَ‏ مَا رَمَيْ‏ ‏َت إ ‏ْذرَمَيْتَ‏ وَ‏ لَك ‏َّن هللاَّ‏ رَمَى ، ولم يلبث الكفار أن تهاووا أسارى ضعافاً،‏ والمسلمون يقيّدونهمويغنمون أموالهم وذراريهم ونسائهم.‏رياض الصالحينكتاب المنثورات والملح144


هجرة المصطفى وصاحبهحدثت عائشة رضي هللا عنها،‏ زوج النبي صلى هللا عليه وسلم قالت:‏ لم أعقل أبويّ‏ إالوهما مسلمان،‏ ولم يمرَّ‏ علينا يوم إال يأتينا فيه رسول هللا صلى هللا عليه وسلم طرفيالنهار،‏ بكرة وعشية،‏ فلما ازداد أذى المشركين استأذن أبو بكر رسول هللا صلى هللاعليه وسلم أن يهاجر إلى الحبشة،‏ فأذن له،‏ فخرج،‏ فلقيه في سفره ابن الدَّغ نّة،‏ وهو سيدقبيلة القارة،‏ فقال:‏ أين تريد يا أبا بكر؟ قال أبو بكر:‏ أخرجني قومي،‏ فأريد أن أسيح فياألرض،‏ وأعبد ربي.‏قال ابن الدغنة:‏ مثلك ال يخرج يا أبا بكر،‏ إنك تكسب المعدوم،‏ وتصل الرحم،‏ وتحملالكل،‏ وتقري الضيف،‏ وتعين على نوائب الحق،‏ وهذه صفات رجل عظيم،‏ يجب علىقومه أن يكرموه لها ويعظموه،‏ قال أبو بكر:‏ ولكن قومي لم يفعلوا ذلك إنما أساءواوأهانوا.‏قال ابن الدغنة:‏ فأنا لك جارٌ،‏ ارجع واعبد ربّك ببلدك.‏فرجع الصدِّيق،‏ وابن الدغنة له جارٌ،‏ وعلمت قريش بذلك فلم تتعرض للصدِّيق،‏ وقالتالبن الدغنة:‏ مُرْ‏ ه أن يعبد ربّه في داره،‏ فليصلِّ‏ فيها،‏ وليقرأ ما شاء،‏ وال يؤذينا بذلك،‏وال يستعلٍن به،‏ فإنا نخشى أن يفتن نساءنا وأبناءنا.‏وهكذا يفعل أعداء المسلمين،‏ يحسبون اإلسالم صالة وقراءة للقرآن،‏ ويرفضون أن يبلّغالداعية دين ربّه فإن فعل ساموه سوء العذاب،‏ سجناً،‏ وتعذيباً‏ وإرجافاً.‏ولبث أبو بكر زمناً‏ يعبد ربه في داره وال يستعلن بصالته،‏ وال يقرأ في غير داره،‏ ثمبدا له أن هذا األمر قتلٌ‏ ووأد لدينه،‏ فابتنى مسجداً‏ بفناء داره،‏ يصلي فيه ويقرأ القرآن،‏فيجذب بذلك نساء المشركين وأبناءهم وهم يعجبون منه،‏ وينظرون إليه،‏ وكان الصدِّيقرجالً‏ بكّاء،‏ ال يملك عينيه إذا قرأ القرآن،‏ فأفزع ذلك وجهاء قريش وأشرافها،‏ وعدّواذلك خرقاً‏ لالتفاق،‏ فأرسوا إلى ابن الدغنّة أن ال صبر لهم على ذلك،‏ فإما أن يعود أبوبكر إلى بيته يقرأ فيه ويصلّي فال يراه أحد،‏ وإال ضربوا بجوار ابن الدغنة عرضالحائط،‏ فخاف هذا أن تضيع هيبته فجاء إلى الصديق يعرض عليه ذلك،‏ أو يعيد إليهجواره وذمّته،‏ فما كان من أبي بكر إال أن ردّ‏ جواره شاكراً‏ وقال:‏ أرضى جوار ربيوجوار رسوله صلى هللا عليه وسلم.‏145


وفي هذه األثناء أمر رسول هللا صلى هللا عليه وسلم أصحابه بالهجرة إلى المدينةالمنورة،‏ وتجهّز الصديق يريد الهجرة إليها،‏ فقال له رسول هللا صلى هللا عليه وسلم:‏‏))على رٍ‏ سْل ك يا أبا بكر،‏ فإني أرجو أن يؤذن لي بالهجرة كذلك((،‏ فرح الصدِّيقبصحبة رسول هللا صلى هللا عليه وسلم في هجرته،‏ وجهّز راحلتين كانتا له،‏ واعتنىبهما انتظاراً‏ ليوم الهجرة الموعود،‏ ومرّت أربعة شهور.‏قالت عائشة:‏ فبينما نحن جلوس في البيت في حرّ‏ الظهيرة قال قائل للصدّيق:‏ هذارسول هللا صلى هللا عليه وسلم متقنعاً‏ في ساعة لم يكن يأتينا فيها،‏ فقال الصدّيق:‏ مرحباً‏بأبي هو وأمي،‏ وهللا ما جاء به في هذه الساعة إال أمر عظيم،‏ فدخل رسول هللا صلىهللا عليه وسلم مستأذناً‏ فقال:‏ ‏))يا أبا بكر أخرج مَنْ‏ عندك فلي معك حديث((،‏ قالالصديق:‏ إنما هم أهلك يا رسول هللا،‏ فقل ما بدا لك.‏ قال صلى هللا عليه وسلم:‏ ‏))قد أُذ نلي في الخروج((.‏قال الصدِّيق:‏ الصحبة يا رسول هللا؟ قال صلى هللا عليه وسلم:‏ ‏))نعم يا أبا بكر((.‏قالالصدِّيق : هاتان الراحلتان جهزتهما لهذا األمر،‏ خذ إحداهما بأبي أنت وأمي.‏––قال الرسول صلى هللا عليه وسلم:‏ ‏))آخذ بالثمن((،‏ قال الصدِّيق:‏ لك هذا إن شئت.‏قالت عائشة:‏ فجهزناهما أفضل الجهاز،‏ ووضعنا لهما طعام السفر في جراب،‏ فقطعتأسماء بنت أبي بكر قطعة من نطاقها،‏ فربطت به على فم ذلك الجراب،‏ فبذلك سُميتذاتَ‏ النطاقين.‏ولحق الرسول الكريم وصاحبه بغار في جبل ثور ثالث ليال،‏ يبيت عندهما عبد هللا بنأبي بكر وهو غالم حذق فهم فيدلج من عندهما بسَحر،‏ فيصبح في مكة ال يراهأحد فكأنه بات فيها ال يعلم شيئاً‏ عن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم وال عن أبيه،‏ فاليسمع أمراً‏ من مشركي مكة فيه كيد لهما إال وعاه حتى يأتيهما بخبره حين يختلطالظالم،‏ ويرعى عامر بن فهيرة على آثاره فيطمسها،‏ ويسقيهما اللبن.‏واستأجر الرسول صلى هللا عليه وسلم والصدِّيق رضي هللا عنه رجالً‏ من بني الدَّيْل،‏ماهراً‏ في معرفة الطرق،‏ فتركا راحلتيهما عنده قبل أن يذهبا إلى غار ثور،‏ وعلىالرغم من أنه كان كافراً‏ إال أنه كان شريفاً‏ يحفظ العهد والذمّة،‏ فأتاهما بعد ثالث ليالبراحلتيهما فسار بهما ناحية الساحل،‏ وابن فهيرة يطمس على آثارهما بغنمه.‏146


وكان سراقة قد سمع أن أهل مكة قد جعلوا في مقتل الرجلين أو أسرهما ماالً‏ كثيراً،‏فهو يتمنّى لو رآهما،‏ فكان المال من نصيبه،‏ فبينا هو جالس في نفر من قبيلته جُعشمجاء رجل يقول:‏ إني قد رأيت قبل قليل أشخاصاً‏ لم أتبيّنهم بالساحل أظنهم محمداً‏وأصحابه.‏قال سراقة:‏ فعرفت أنهم هم،‏ ولم أكن أحب أن يشركني أحد بالجائزة،‏ فقلت مخذّالً:‏ إنهمبعض من يبحث عن ضالة،‏ فال تشغل بالك فيهم،‏ ثم لبثت ساعة في المجلس تعميةً،‏ ثمقمت فدخلت بيتي وأمرت جاريتي أن تدخل بفرسي وراء التل كي ال يراني أحدأركبها،‏ وأخذتُ‏ رمحي،‏ ولحقت بها من خلف الدار،‏ ثم ركبت فرسي وأسرعت وراءهمحتى دنوتُ‏ منهم،‏ فتعثّرت بي فرسي،‏ فخررت عنها،‏ فأهويت يدي إلى كنانتيفاستخرجت منها األزالم،‏ فاستقسمت بها أأضرُّهم أم ال،‏ فخرجت تقول ال تفعل،‏فعصيتُها،‏ وكنا في الجاهلية نصدَّقها،‏ فإذا خالفت ما نريد تبعنا أهواءنا،‏ وركبت فرسيوتبعتُهم،‏ فسمعت رسول هللا صلى هللا عليه وسلم يقرأ القرآن وال يلتفت،‏ وأبو بكر يكثرااللتفات،‏ فساخت يدا فرسي في األرض حتى بلغتا الركبتين،‏ فخررت عنها،‏ ثمزجرتها،‏ فنهضَتْ‏ فلم تكد تخرج يديها،‏ فلما استوت قائمة إذا أل ثَر يديها مثلُ‏ الدخان النار فيه،‏ فاستقسمت باألزالم،‏ فخرج الذي أكره،‏ فناديتهم باألمان،‏ فوقفوا،‏ وركبتفرسي حتى جئتهم،‏ فتيقنت حين نظرت إلى الرسول صلى هللا عليه وسلم أن هللا مانعهوأنّه سيظهر على قومه،‏ فقلت:‏ إن قومك قد جعلوا فيك الديّة،‏ وقصصت على رسولهللا صلى هللا عليه وسلم خبر القوم،‏ وعرضت عليهم الزاد والمتاع،‏ فلم يقبالها إال أ ‏ّنالرسول صلى هللا عليه وسلم قال:‏ ‏))اخف عنا وخذّل((.‏فسألته أن يكتب لي كتابَ‏ أمن فدفع الرسول الكريم إلى عامر بن فهيرة فكتب له رقعةمن جلد،‏ ثم مضى رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ووصل إلى أهل المدينة من المسلمينواليهود خبر هجر الرسول صلى هللا عليه وسلم إليهم،‏ فكانوا يخرجون كل غداة إلىالحرّة ينتظرونه حتى يردهم حرّ‏ الظهيرة.‏فلما آوَ‏ وْ‏ ا إلى بيوتهم أوفى رجل من يهود على تل من تاللهم ألمر ينظر إليه فبصربركب رسول هللا صلى هللا عليه وسلم فنادى بأعلى صوته:‏ يا معشر العرب هذا حظكمالذي تنتظرونه،‏ فهب المسلمون يستقبلونه حتى وصل إلى مشارف المدينة،‏ فعدل إلىمنازل عمرو بن عوف وذلك يوم االثنين من شهر ربيع األول،‏ فقام الصدِّيق يردُّ‏ تحيةالمستقبلين،‏ وجلس رسول هللا صلى هللا عليه وسلم صامتاً،‏ وأقبل من األنصار من اليعرفون النبي صلى هللا عليه وسلم يحيون الصديق،‏ حتى أصابت الشمس رسول هللا147


صلى هللا عليه وسلموسلم.‏فأظله الصديق فعرف الناس إذ ذاك رسول هللا صلى هللا عليهوبقي هناك بضع عشرة يوماً،‏ وأسس المسجد الذي بُني على التقوى الذي ذكره هللاتعالى في قرآنه الكريم:‏ لَمَسْج دٌ‏ أُسِّ‏ ‏َس عَلَى التَّقْوَ‏ ى م ‏ْن أَوَّ‏ ل يَوْ‏ ‏ٍم أَحَ‏ ‏ُّق أَ‏ ‏ْن تَقُو ‏َم ف يه ف يهر جَالٌ‏ يُح بُّو ‏َن أَ‏ ‏ْن يَتَطَهَّرُوا وَ‏ هللاَّ‏ ُ يُح ‏ُّب الْمُطَّهِّر ي ‏َن.ثم ركب رسول هللا ناقته وسار معه الناس حتى بركت عند مسجد الرسول صلى هللاعليه وسلم،‏ وكانت األرض لغالمين من األنصار اشتراهما منهما،‏ وبدأ والمسلمون بناءمسجده عليه الصالة والسالم،‏ فكان يقول وهم يحملون اللِّبَن:‏هذا الح مال ال ح مال خيبرْ‏– وأطهر ربِّنا هذا أب ‏ُّر–ويقول:‏اللهم إن األجرُ‏ أجرُ‏ اآلخرةفارحم األنصار والمهاجرةوبدأ بناء الدولة اإلسالمية.‏البخاري،‏ المجلد الثاني،‏ الجزء الرابع،‏ ص‎254‎باب هجرة النبي صلى هللا عليه وسلم148


إسالم عبد هللا بن سالم أحد أحبار اليهودلما وصل رسول هللا صلى هللا عليه وسلم إلى المدينة كان عبد هللا بن سالم يقطفبعض ثمار نخيله،‏ فلما سمع بقدومه انطلق إلى دار أبي أيوب األنصاري رضي هللافسلم عليه وأعلن إسالمه،‏ وقال:‏ يا رسول هللا أشهد أن ال إله إال هللا،‏ وأنك عبد هللاورسوله،‏ وأنك جئت بحق وقد علمَتْ‏ يهود أني سيدهم وابن سيدهم،‏ وأعلمهم،‏ وابنأعلمهم،‏ فادعهم فاسألهم عني قبل أن يعلموا أني أسلمت،‏ فإنهم إن يعلموا أني أسلمتقالوا فيّ‏ ما ليس فيّ‏ ونعتوني بأقبح النعوت.‏فأرسل النبي صلى هللا عليه وسلم إلى اليهود فأقبلوا فدخلوا عليه،‏ فقال لهم رسول هللاصلى هللا عليه وسلم:‏ ‏))يا معشر اليهود،‏ ويلكم اتقوا هللا،‏ فوالذي ال إله إال هو إنكملتعلمون أني رسول هللا حقاً،‏ إني جئتكم بحق،‏ فأسلموا((.‏قالوا:‏ ما نعلم أنك رسول هللا.‏كررها عليهم ثالث مرات،‏ فكان ردّهم هو هو،‏ ال يعلمون أنه رسول هللا.‏قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم:‏ ‏))فما مكانة عبد هللا بن سالم فيكم؟((.‏قالوا:‏ سيدنا وابن سيدنا،‏ وأعلمنا وابن أعلمنا.‏قال:‏ ‏))أفرأيتم إن أسلم ما أنتم قائلون؟((.‏قالوا:‏ حاشا هلل،‏ ما كان ليسلم.‏قال:‏ ‏))أفرأيتم إن إسلم؟((.‏قالوا:‏ حاشا هلل ما كان له أن يسلم.‏قال للمرة الثالثة:‏ ‏))أفرأيتم إن أسلم؟((.‏قالوا للمرة الثالثة:‏ حاشا هلل،‏ ما كان له أن يسلم.‏قال النبي صلى هللا عليه وسلم:‏ ‏))يا ابن سالم،‏ اخرج عليهم((.‏فخرج عبد هللا بن سالم فقال:‏ يا معشر يهود اتقوا هللا،‏ فوهللا الذي ال إله إال هو إنكملتعلمون أنه رسول هللا وأنه جاء بحق.‏149


قالوا له مصرين على كذبهم،‏ كذبت،‏ أنت أجهلنا وابن أجهلنا،‏ كذّاب.‏فعلم رسول هللا صلى هللا عليه وسلم أنهم مفترون،‏ كاذبون،‏ وأن اإليمان لن يخالطبشاشته القلوبَ‏ المظلمة التي يحملونها في صدور قاسية.‏فقال لهم:‏ ‏))اخرجوا((‏ فخرجوا ملعونين مطرودين من رحمة هللا.‏البخاري مجلدجزء4 ص‎162‎2150


شيخ مخرّ‏ فما أجمل هذين البيتين وأصدق قائلهما:‏مرض الحبيب فزرتهجاء الحبيب يعودنيفمرضت من حزني عليهفشفيت من نظري إليهوكثير من الصحابة رضوان هللا عليهم يمرضون،‏ فيعودهم رسول هللا صلى هللا عليه وسلم،‏ويدعو لهم،‏ فيشفيهم هللا تعالى ببركة دعائه صلى هللا عليه وسلم،‏ ولكنّ‏ بعض الناس إذيمرضون تضيق أخالقُهم،‏ وتسفُه أحالمهم،‏ فيتفوهون بما ال يجوز،‏ ويتكلمون بما يضرّهم.‏––فمثال األول سعد بن عبادة،‏ جاءه الرسول صلى هللا عليه وسلم يعوده وكان مغمىً‏ عليه،‏ فدعاله النبي صلى هللا عليه وسلم،‏ ووضع يده الشريفة على رأسه فعاد كأن المرض زال عنه،‏وسرّ‏ سعد لرؤيته النبي صلى هللا عليه وسلم ولدعائه له بالشفاء.‏ومثال الثاني رجلٌ‏ يدخل عليه النبي صلى هللا عليه وسلم يعوده،‏ فلما جلس إليه دعا له فقال:‏‏))ال بأس طهورٌ‏ إن شاء هللا((،‏ دعاء رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ‏ُيهدى لهذا الشيخالعجوز،‏ فتفتَّح له أبواب السماء لتصعد إلى المولى تعالى،‏ فتنزل بالقبول والشفاء،‏ فما أعظمأن يدعو الرسول الكريم صلى هللا عليه وسلم،‏ فيلبي دعاءهُ‏ هللا الكريم.‏وشاء سوء حظ هذا الشيخ أن يأبى دعاء النبي صلى هللا عليه وسلم له بالشفاء:‏ تقول طهور؟‏)والمقصود بهذه الكلمة أن هللا تعالى يطهره إن صبر على المرض وألمه من الذنوب واآلثام(‏قالها مستنكراً،‏ ثم أردف قائالً:‏ بل هي حمّى تفور أو تثور،‏ على شيخ كبير،‏ تُزيره القبور!!‏فقال له النبي صلى هللا عليه وسلم:‏ ‏))نعم((.‏إنه يستحق ذلك،‏ رفض الدعاء بالشفاء لقلّة صبره،‏ وادعى أن هذه الحمى لن تتركه،‏ بل إنهاتزداد وتزداد حتى تقطع أنفاسه وتورده الموت.‏فكان جواب النبي صلى هللا عليه وسلم:‏ ‏))نعم((،‏ دعاء له بما تفوه به،‏ كانت السماء مفتوحةاألبواب فارتدت الدعوة األولى،‏ وارتفعت الدعوة الثانية فجاءت كلمة المليك في السماءموافقة دعوة النبي صلى هللا عليه وسلم فمات الشيخ،‏ مات داعياً‏ على نفسه بتأمين الرسولعليها وأمر هللا بها.‏فليدعُ‏ اإلنسان بما ينفعه وإخوانه وال يضرُّ‏ نفسه وال يضرُّ‏ إخوانه.‏البخاري مجلدجزء4 ص‎181‎2151


النصراني المرتدروى أنس بن مالك رضي هللا عنه قال:‏ أسلم رجلٌ‏ نصرانيٌ،‏ وقرأ سورتي البقرة وآلعمران،‏ وحفظهما،‏ وكان كاتباً،‏ فاستعمله النبي صلى هللا عليه وسلم في رسائله،‏ ولك ‏َّنسوء حظه جعله يرتد نصرانياً‏ ليسيء إلى اإلسالم ونبيه،‏ فكان يدّعي أنّه كتب ما يريدمن آيات،‏ وترك ما يريد من آيات،‏ ومحمّد رسول هللا صلى هللا عليه وسلم الذي وصفههللا تعالى بحرصه على حفظ آيات هللا:‏ الَ‏ تُحَ‏ رِّ‏ ‏ْك ب ه ل سَانَ‏ ‏َك ل تَعْجَ‏ ‏َل ب ه إ نَّ‏ ‏َعلَيْنَاجَمْعَهُ‏ وَ‏ قُرْ‏ آَنَ‏ ‏ُه فَإ ذَا قَرَأْنَاهُ‏ فَاتَّب ‏ْع قُرْ‏ آَنَ‏ ‏ُه ثُمَّ‏ إ ‏َّن عَلَيْنَا بَيَانَ‏ ‏ُه يقرأحسب ما يزعم هذا الخبيث من اآليات ما بدّله وحرّفه هذا المرتد..!‏–)16( )15()18(–)11(وأمات هللا تعالى هذا النصراني المرتد،‏ فإلى جهنم مآله،‏ أما في الدنيا فحين دفنوهوعادوا إلى دورهم أصبحوا،‏ فإذا به فوق األرض،‏ لفظته فلم تقبله،‏ وكيف تقبل كذاباً‏أفاكاً؟فماذا قال أهله وأصحابه؟قالوا:‏ هذا فعل محمد وأصحابه،‏ غاظهم حين ترك دينهم،‏ وهرب منهم،‏ فنبشوا عنصاحبنا وألقوه على ظهر األرض.‏فحفر له أهله حفرة عميقة ودفنوه فيها،‏ فلما أصبحوا رأوه فوق األرض،‏ فقد لفظتهكرهاً‏ له،‏ وغضباً‏ منه،‏ فقالوا للمرة الثانية:‏ هذا فعل محمد وأصحابه،‏ نبشوا عن صاحبنالما ترك دينهم وهرب منهم،‏ فهم ينتقمون منه،‏ فحفر له أهله وأصحابه حفرة أعمق منالثانية،‏ أعمق ما استطاعوا ودفنوه فيها،‏ فلما أصبحوا رأوا جثته فوق األرض .. للمرةالثالثة ترفضه األرض،‏ فعلموا أن ما يرونه ليس فعل بشر،‏ إنما هو أمرٌ‏ من رباألرض ورب البشر،‏ فتركوه ولم يدفنوه،‏ فتفسخ وزكمت رائحته األنوف،‏ كما زكم كذبهوإفكه نفوس المؤمنين.‏كالم سيدي الرسولحقٌ‏ ألرباب العقول1عدلٌ‏ جميع ما أتىصد ‏ٌقجميع ما يقول1الديوان الثاني للمؤلف ‏"وميض قلب"‏ ص‎24‎152


المتنبئ الكذابروى عبد هللا بن عباس رضي هللا عنهما قال:‏قدم مسيلمة الكذاب على عهد رسول هللا صلى هللا عليه وسلم،‏ فجعل يقول ألصحابه:‏ إنجعل لي محمد األمر من بعده،‏ وسلمني قياد دينه تبعته،‏ وإال فال،‏ قال هذا وكان معه منقبيلته خلق كثير يقولون ما قاله.‏فلما وصل مسيلمة المدينة أقبل إليه رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ومعه ثابت بن قيسبن شماس،‏ وفي يد رسول هللا صلى هللا عليه وسلم قطعة من جريد ‏)والجريد ورقالنخل وغصنه(،‏ حتى وقف على مسيلمة في قومه،‏ فصوّ‏ ب إليه نظره وقال:‏ ‏))يامسيلمة((.‏قال:‏ نعم.‏–قال:‏ ‏))لو سألتني هذه القطعة ما أعطيتكها،‏ ولئن كتب هللا لك الشقاء لتشقينَّ‏ ، وال عاصملك من أمر هللا،‏ ولئن أدبرت عن دينه،‏ وسلكت غير سبيل المؤمنين فلن تعجزه وهللاغالب على أمره،‏ ولقد أراني هللا عز وجل متقلبك وعاقبة أمرك،‏ فالحذر الحذر،‏ ولنينجي حذر من قدر((.‏قال أبو هريرة رضي هللا عنه:‏ قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم:‏ ‏))بينما أنا نائمرأيت في يدي سوارين من ذهب والذهب حرام على ذكور المسلمين فنفختُهما،‏فطارا،‏ فأوّ‏ لتهما كذابين يخرجان بعدي،‏ فكان أحدهما العنسي واآلخر مسيلمة الكذابصاحب اليمامة((.‏–وقاد ابن الوليد سيف هللا المسلول جيش المسلمين في قتال مسيلمة الكذاب فقُت ل فيحديقة الموت وأراح هللا المسلمين منه.‏البخاري مجلدجزء4 ص‎182‎2153


نهاية طاغيةأمية بن خلف أحد طغاة الكفار في مكة،‏ وقف يحارب الدعوة بعنف وشراسة،‏ ويعذبالمؤمنين بها،‏ وما فعله بمؤذن الرسول الكريم بالل بن رباح من منعه عن الطعام،‏ ورميهعلى الرمال الحارقة في الهجير إلى أن اشتراه الصدَّيق دليل على عداوته لإلسالم ونبيهوأتباعه.‏أمية هذا كان صاحباً‏ لسيّد األوس سعد بن معاذ رضي هللا عنه في الجاهلية،‏ ينزل عليه إذامر بالمدينة ذاهباً‏ إلى الشام وقافالً‏ منها.‏فلما انتقلت الدعوة الشريفة إلى المدينة دخل سعد فيها مؤمناً‏ بها،‏ مدافعاً‏يمنع التواصل بين الرجلين.‏عنها،‏ ولكن هذا لم––انطلق سعد بن معاذ بعدما أسلم قبل معركة بدر إلى مكة معتمراً،‏ فنزل على أمية بنخلف فبات عنده،‏ وحين أصبح الصباح خاف أمية على سعد أن يصيبه مكروه إذا اعتمرفطاف بالكعبة فرآه الناس،‏ فقال له:‏ انتظر يا سعد حتى إذا انتصف النهار،‏ وغفل الناس،‏انطلقتَ‏ فطفتَ‏ دون أن يلحظك أحد،‏ قال سعد:‏ كما ترى يا أمية.‏وحين اشتدت الحرارة والذ الناس ببيوتهم،‏ انطلق سعد يطوف بالكعبة معتمراً،‏ وحدث ما كانأمية يتخوف منه.‏ فهذا أبو جهل الذي يسكن قريباً‏ ‏)وبيته اآلن أماكن لقضاء الحاجة،‏ بنتهاإدارة الحرم المكي وهو يستحق ذلك!!(‏ لعله كان عائداً‏ إلى بيته فرأى سعداً‏ فقال:‏ من هذاالذي يطوف بالكعبة؟فقال سعد:‏ أنا سعد بن معاذ.‏وهنا اكفهر وجه أبي جهل غضباً‏ فقال:‏ تطوف بالكعبة آمناً‏ وقد آويتم محمداً‏ وأصحابه.‏قال سعد:‏ نعم آويناهم حين ضيقتم عليهم وشددتم عليهم الخناق،‏ فاشتد خصامهما وعلتأصواتهما.‏فقال أمية وقد احتد من ضيفه ونسي الصحبة وفضل سعد عليه:‏ الالحكم،‏ فإنه سيد أهل الوادي.‏ترفع صوتك على أبيقال سعد متناسياً‏ خذالن أمية له وموجهاً‏ كالمه ألبي جهل:‏ وهللا لئن منعتني أن أطوف بالبيتألقطعن طريق تجارتك إلى الشام.‏فبدأ أمية يصرخ في وجه سعد ويمسكه ويقول مكرراً‏ دون أن يرعى حسن الضيافة:‏ ال ترفعصوتك على أبي الحكم،‏ ال ترفع صوتك عليه.‏154


–عند ذلك احتد سعد هذه المرة على أمية،‏ ال على أبي جهل وقال:‏ دعنا منك –سمعت رسول هللا صلى هللا عليه وسلم يقول:‏ ‏))إنه قاتلك((.‏فإني يا أميةقال أمية:‏ أتخاطبني أنا؟ أأنا الذي يزعم محمد أنه يقتلني؟قال سعد:‏ نعم أنت يا أمية،‏ أنت الذي يقتلك رسول هللا صلى هللا عليه وسلم.‏قال أمية متلوياً‏ وكأنه لديغ:‏ ما يكذب محمد إذا حدَّث،‏ وانكمش في نفسه.‏ثم انطلق سعد إلى مدينة اإلسالم،‏ فما يطيب المقام إال هناك في أكناف رسول هللا صلى هللاعليه وسلم،‏ وسيعتمر مع رسول هللا صلى هللا عليه وسلم إن شاء هللا وتحت رايته.‏ورجع أمية حزيناً‏ كاسف البال يقول المرأته:‏ أما تعلمين ماقال أخي اليثربي؟قالت:‏ وما قال؟قال:‏ زعم أنه سمع محمداً‏ يقول:‏ إنه قاتلي،‏ فوهللا ما يكذب محمد.‏فلما خرج المشركون إلى بدر للقتال استصرخ أبو جهل أمية،‏ فكره هذا أن يكون معهم،‏ فقالله أبو جهل:‏ يا أبا صفوان إنك حين يراك الناس قد تخلفت،‏ وأنت سيد أهل الوادي تخلفوامعك،‏ فلم يزل أبو جهل يشجعه حتى قال:‏ أما إذا غلبتني فوهللا ألشترين أجود بعيري بمكة،‏ ثمقال المرأته:‏ يا أم صفوان،‏ جهزيني.‏فقالت له:‏ يا أبا صفوان أنسيت ما قاله لك أخوك اليثربي؟قال:‏ ال،‏ ما أريد أن أجوز معهم إال قريباً‏ يوماً‏ أو يومين ثم أعود.‏لكن هللا تعالىأراد له الموت في بدر حتى قتله هللا فيها.‏والمعروف أن النبي صلى هللا عليه وسلم توعد أُبيَّ‏ بن خلف أخا أمية،‏ فالتبس ذلك على سعد،‏فحقق هللا تعالى ما قال كرامةً‏ لسعد في أميّة إذ قُتل أميةُ‏ في بدر ، وقتل رسول هللا صلى هللاعليه وسلم أبيّ‏ بن خلف بيده الشريفة يوم أحد فكانت معجزة له حققها هللا تعالى لنبيه الكريمصلى هللا عليه وسلم.‏4 ص 185البخاري مجلد 2الجزءالكامل في التاريخ البن األثير الجزء الثاني ص‎82‎155


روى أبو الدرداء رضي هللا عنه قال:‏اتركوا لي صاحبيكنت جالساً‏ عند النبي صلى هللا عليه وسلم إذ أقبل أبو بكر يشتد،‏ آخذاً‏ بطرف ثوبه حتى أبدىعن ركبته،‏ فنظر إليه النبي صلى هللا عليه وسلم وهو قادم إليه فقال:‏ إن صاحبكم أبا بكر قادمإليكم من خصومة،‏ فلما وصل الصدّيق سلّم على رسول هللا صلى هللا عليه وسلم وعلينا،‏ فلمااستوى جالساً‏ التفت إلى رسول هللا صلى هللا عليه وسلم وقال:‏ يا رسول هللا إنه كان بينيوبين ابن الخطاب شيء من مالسنة،‏ ولعلّي تسرعت معه،‏ ثم ندمت،‏ فسألته أن يغفر ليتسرعي معه،‏ فأبى أن يغفر لي،‏ فأقبلت إليك.‏ما أعظم هذا الصديق الكريم،‏ إن اإلنسان ليجتهد في أمر،‏ فإذا ما بدا له خطؤه عاد عنه إلىالصواب،‏ وهذا يدل على معدنه األصيل ونفسه الطيبة،‏ فما بالك بالصدِّيق أبي بكر رضي هللاعنه وأرضاه الذي تربى في مدرسة المصطفى وكان أحد المربين األفاضل في هذه المدرسةالعظيمة.‏قال صلى هللا عليه وسلم مهدئاً‏ روعه:‏ ‏))يغفر هللا لك يا أبا بكر((،‏ ثالث مرات..‏ رسول هللاصلى هللا عليه وسلم يستغفر للصدِّيق!‏ وثالث مرات..‏ إذاً‏ فال تثريب عليه أغفر ابن الخطابله أم لم يغفر.‏ثم إن عمر بن الخطاب حين هدأت ثائرته،‏ قال:‏ ويحي!‏ يستميحني الصدَّيق ويرجو أن أقيلعثرته فأعرض عنه؟!!‏ وهللا ألذهبن إليه فأستغفره أنا.‏ سبحان هللا..‏ ما أعظم األخوة في هللا!‏وما أجمل التحابب فيه،‏ إنّه نبع الصفاء،‏ يا لألخوّ‏ ة في هللا..‏ اللهم إني أحبّ‏ من يحبونكوأبغض من يبغضونك،‏ وانطلق الفاروق إلى دار أبي بكر فسأل عنه فلم يجده،‏ فقال:‏ هو عندرسول هللا صلى هللا عليه وسلم،‏ فذهب إليه،‏ فسلّم وجلس،‏ ولم ينبس ببنت شفة.‏لم يكن يرضى رسول هللا صلى هللا عليه وسلم من أحد أن يُغضب الصديق،‏ فلما رأى عمرقادماً،‏ وعمر قد أغضب الصدِّيق،‏ تغيّر وجه رسول هللا صلى هللا عليه وسلم حتى أشفق أبوبكر على عمر من غضب رسول هللا صلى هللا عليه وسلم فجثا على ركبتيه أمام رسول هللاصلى هللا عليه وسلم فقال:‏ يا رسول هللا،‏ وهللا أنا كنت أظلم،‏ وهللا أنا كنت أظلم ‏)مرتين قالها(‏راجياً‏ عفو رسول هللا عن عمر.‏فقال النبي صلى هللا عليه وسلم:‏ ‏))إن هللا بعثني إليكم،‏ فقلتم:‏ كذبت،‏ وقال أبو بكر:‏ صدق،‏وواساني بنفسه وماله،‏ فهل أنتم تاركو لي صاحبي،‏ فهل أنتم تاركو لي صاحبي؟((.‏البخاري مجلدجزء4 ص‎152‎2156


157


َالعُمَرانقالت عائشة أم المؤمنين رضي هللا عنها:‏ شَخَ‏ ص بصر النبي صلى هللا عليه وسلم،‏ ثمقال:‏ الرفيق األعلى ‏)ثالثاً(‏ ثم مات عليه الصالة والسالم.‏أما الصدِّيق فكان بالسّنح في العلية وكان بيتُه هناك في أعالي المدينة،‏ فقام عمر يقول:‏وهللا ما مات رسول هللا صلى هللا عليه وسلم،‏ وليبعثنه هللا،‏ فليقطعن أيدي المنافقينوأرجلهم.‏وجاء الصدّيق إلى بيت عائشة وفيه جثمان رسول هللا صلى هللا عليه وسلم مسّجى،‏فسأله الناس:‏ أرسول هللا حي أم ميت؟!‏ فلم يجب،‏ يريد أن يتأكد بنفسه،‏ فلما دخل كشفعن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم،‏ وقبّل وجهه الشريف،‏ فلما علم أنه مات حقاً‏ قال:‏بأبي أنت وأمي يا رسول هللا،‏ ط بتَ‏ حيّاً‏ وميتاَ،‏ وهللا الذي نفسي بيده ال يذيقك هللاالموتتين أبداً.‏ثم خرج،‏ فقال لعمر:‏ أيها الحالف،‏ على رسلك،‏ فسكت عمر ثم جلس،‏ فتكلم أبو بكر،‏فقال بعد أن حمد هللا وأثنى عليه:‏من كان يعبد محمداً‏ فإن محمداً‏ قد مات،‏ومن كان يعبد هللا فإن هللا حيّ‏ال يموت.‏مَيِّتُو ‏َن وَ‏ إ نَّهُ‏ ‏ْم مَيِّ‏ ‏ٌت إ نَّكَ‏ قال:‏ وقال:‏ وَ‏ مَا مُحَمَّ‏ ‏ٌد إ ‏َّال رَسُو ‏ٌل قَ‏ ‏ْد خَلَ‏ ‏ْت م ‏ْن قَبْل ه الرُّسُ‏ ‏ُل أَفَإ ‏ْن مَا ‏َت أَ‏ ‏ْو قُت ‏َل انْقَلَبْتُ‏ ‏ْم عَلَىأَعْقَاب كُمْ‏ وَ‏ مَ‏ ‏ْن يَنْقَل ‏ْب عَلَى عَق بَيْه فَلَ‏ ‏ْن يَضُ‏ ‏َّر هللاَّ‏ شَيْئًا وَ‏ سَيَجْ‏ ز ي هللاَّ‏ ُ الشَّاك ر ي ‏َن.وهنا علم الناس أن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم التحق بالرفيق األعلى فبدأواينشجون.‏وبكت السيدة فاطمة أباها سيّد اآلباء فقالت:‏إنا فقدناك فقد األرض وابلهاوغابمذْ‏ غبت– عنا الوحي والكتب–فليت قبلك كان الموت صادفنالما نعيت وحالت دونك الكثبقالت السيدة عائشة:‏فما كان من خطبتهما من خطبة إال نفع هللا بها.‏158


لقد خوف عمر الناس،‏ وإن فيهم لنفاقاً،‏ فردّهم هللا بذلك.‏ثم لقد بصر أبو بكر الناس الهدى،‏ وعرّفهم الحق الذي عليهم.‏-1-2ثم بويع الصديق خليفة في سقيفة بني ساعدة بيعة الخاصة،‏ وفي اليوم التالي في مسجدرسول هللا صلى هللا عليه وسلم بيعة العامة.‏4 ص 154البخاري مجلد 2جزء159


إني أحبك أيها الفاروق160–-1روى سعد بن أبي وقاص رضي هللا عنه قال:‏استأذن عمر بن الخطاب رضي هللا عنه على رسول هللا صلى هللا عليه وسلم،‏وعنده نسوة من قريش يكلمنه،‏ عالية أصوا ‏ُتهن على صوته،‏ فلما استأذن عمر بنالخطاب قمن فبادرن بالحجاب وقفن خلف الحجاب فأذن له رسول هللا صلىهللا عليه وسلم،‏ فدخل عمر ورسول هللا صلى هللا عليه وسلم يضحك.‏فقال عمر:‏ أضحك هللا سنّك يا رسول هللا يدعو لهفقال النبي صلى هللا عليه وسلم:‏ ‏))عجبت من هؤالء الالتي كن عندي،‏ فلما سمعنصوتك بادرن بالحجاب((.‏فقال عمر:‏ أنت أحق أن يهبن يا رسول هللا.‏ثم قال:‏ يا عدوات أنفسهن؛ أتهبنني وال تهبن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم؟فقلن:‏ نعم،‏ أنت أفظ وأغلظ من رسول هللا صلى هللا عليه وسلم.‏قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم:‏ ‏))إيهاً‏ يا ابن الخطاب،‏ والذي نفسي بيده مالقيك الشيطان سالكاً‏ فجاً‏ إال سلك فجاً‏ غير فجك((.‏روى عبد هللا بن عباس رضي هللا عنهما يقول:‏لما قتل عمر بن الخطاب،‏ وضع على سريره فالتفّ‏ حوله الناس يدعون ويصلونعليه قبل أن يرفع فيدفن،‏ وأنا فيهم،‏ فلم يرُعني إال رجل أخذ منكبي،‏ فنظرت فإذاعلي فترحم على عمر فقال:‏ما خلفت أحداً‏ أحبّ‏ إليّ‏ أن ألقى هللا بمثل عمله منك،‏ وايم هللا أني ألظن أن يجعلكهللا مع صاحبيك،‏ وحسبت أني كثيراً‏ كنت أسمع النبي صلى هللا عليه وسلم يقول:‏‏))ذهبت أنا وأبو بكر وعمر((‏‏))ودخلت أنا وأبو بكر وعمر((‏‏))وخرجت أنا وأبو بكر وعمر((.‏روى أبو هريرة رضي هللا عنه قال:‏بينما نحن جلوس عند رسول هللا صلى هللا عليه وسلم إذ قال:‏‏))بينما أنا نائم رأيتني في الجنة،‏ فإذا امرأة تتوضأ إلى جانب قصر فقلت:‏ لمن هذاالقصر؟ فقالوا:‏ لعمر،‏ فذكرت غيرَتَه،‏ فوليّتُ‏ مدبراً((،‏ فبكى عمر وقال:‏ أعليكأغار يا رسول هللا؟!‏وروى حمزة عن أبيه أن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم قال:‏‏))بينما أنا نائم شربت اللبن حتى أنظر إلى الريّ‏ في أظفاري،‏ ثم ناولت عمر((.‏–.-–-2-3-4


قالوا:‏ فما أوَّ‏ لته يا رسول هللا؟قال:‏ ‏))العلم((.‏البخاري مجلدجزء4 ص‎155-151‎2161


عملية فدائية‏"مقتل كعب بن األشرف"‏روى جابر بن عبد هللا رضي هللا عنهما قال:‏في السنة الثالثة للهجرة كان كعب بن األشرف قد أساء إلى المسلمين،‏ وك ‏ُثر في نسائهمتشبيبُه،‏ وذهب إلى مكة يحرض المشركين على الثأر لقتالهم في بدر وبكى عليهم،‏وحرّض على رسول هللا صلى هللا عليه وسلم،‏ ثم عاد إلى المدينة وكانت أمه من بنيالنضير واليهود ينسبون إلى أمهاتهم،‏ أما أبوه فكان من بني نبهان من طيّء.‏قال النبي صلى هللا عليه وسلم:‏ ‏))من لكعب بن األشرف هذا الذي اتخذ المسلمينغرضاً‏ يرمى،‏ ولم يرعَ‏ حرمة الجوار فاستعدى علينا كفار قريش؟ أين الفدائيون الذينيقتنصونه من حصنه فيكون عبرة لمن يعتبر؟ إن من آذى هللا ورسوله دمه مهدور((.‏قال محمد بن مسلمة:‏ أتحب أن أقتله يا رسول هللا؟قال:‏نعم يا محمد بن مسلمة،‏ ولك األجر من هللا تعالى.‏قال محمد بن مسلمة:‏ سمعاً‏ وطاعةً‏ يا رسول هللا،‏ ولكن ائذن لي يا رسول هللا أن أنالمنك أمامه حتى يطمئن لي وإلخواني.‏قال الرسول الكريم صلى هللا عليه وسلم:‏ ‏))قولوا ما بدا لكم فأنتم في حل من ذلك،‏ إنمصلحة الدعوة،‏ والوصول إلى الهدف،‏ والتخلّصَ‏ منه وإراحة المسلمين من شره تبيحذلك على أن تكون قلوبكم عامرة بحب هللا ودينه ورسوله((.‏قال ابن مسلمة:‏ وهللا ال يتجاوز ذلك ألسنتنا فاهلل ورسوله أحب إلينا من أنفسنا وأهلينا.‏قال الرسول صلى هللا عليه وسلم:‏ ‏))سيروا على بركة هللا((.‏وانطلق محمد بن مسلمة في ثالثة من المسلمين األشداء فيهم أبو نائلة أخو كعب منالرضاعة،‏ ولكن أخوَّ‏ ةَ‏ اإلسالم أقوى من كل أخوة،‏ فالعقيدة أساس كل محبة وأساس كلأخوة،‏ والتاريخ اإلسالمي فيه صور كثيرة تدل على أن االختالف في العقيدة يقطع كلصلة إال صلة األرحام،‏ وتبقى العقيدة لب العالقة بين الناس،‏ فهذا عمر يقتل خاله هشامبن العاص،‏ وأبو عبيدة يقتل أباه الذي حرص على قتله،‏ ومصعب بن عمير يعلن علىمألٍ‏ من المسلمين أن أخوّ‏ ة اإلسالم أقوى من أخوة النسب.‏162


–انطلق محمد بن مسلمة وإخوانه إلى كعب في حصنه فقالوا له:‏إن هذا الرجل يعني رسول هللا صلى هللا عليه وسلم -: قد أجهدنا في الصدقات،‏وعنّانا،‏ فضاقت علينا السبل حتى ضاعت العيال وجهدت البهائم،‏ وإنا قد جئناك نستلفكطعاماً،‏ نرهنك ونوثق لك.‏قال كعب:‏ وهللا لتملّنه وتكرهنّه.‏قال مسلمة:‏ إنا قد تبعناه،‏ فال نحب أن ندعه حتى نعلم إلى أي شيء يصير شأنه،‏ وال بدّ‏التخاذ قرار العودة عنه إلى سبب قوي يعذرنا الناس فيه.‏قال كعب:‏ أقبل رهانكم أن يكون نساءكم.‏قالوا:‏ كيف نرهنك نساءنا وأنت أجمل العرب،‏ ال،‏ غير هذا فاطلب.‏قال كعب:‏ فارهنوني أبناءكم إذاً.‏قالوا:‏ كيف نرهنك أبناءنا،‏ فيُسبُّ‏ أحدهم فيقال:‏ رهن بقليل من الطعام،‏ هذا عار علينا،‏ال نقبل به،‏ ولكننا نرهنك دروعنا وسيوفنا،‏ وأرادوا أنهم إذا جاءوا بأسلحتهم ال ينكرعليهم حملها وال يخاف منهم،‏ وانطلق هؤالء إلى النبي صلى هللا عليه وسلم فأخبروهبما كان،فدعا لهم وشيعهم إلى بقيع الغرقد.‏ووصلوا إليه ليالً‏ ودَعوه لينزل من حصنه،‏ فوثب إليهم مرّحباً،‏ فقالت له امرأته:‏ أينتخرج من هذه الساعة؟ قال:‏ إنما هو محمد بن سلمة وأخي أبو نائلة.‏قالت:‏ أفي مثل هذه الليلة وأنا وأنت عروسان وأنا أخاف عليك؟قال:‏ إن الكريم لو دُعي إلى طعنة بليل ألجاب.‏وكان مسلمة قال ألصحابه شأشمّه أوالً،‏ فإذا شممته ثانية فاضربوه بالسيف،‏ وحينوصل إليهم قال له محمد بن سلمة:‏ما هذا العطر الطيب يا كعب؟!‏ وشم رأسه مبدياً‏ إعجابه،‏ فقال له:‏ هذا أطيب عطر،‏ ثمقال متباهياً‏ فخوراً؛ وتزوجت أعطر نساء العرب وأكملهن.‏قال محمد بن سلمة:‏ هنيئاً‏ لك يا كعب.‏163


ثم ساروا يتحدثون ساعة ثم مال عليه محمد وقال:‏ هات رأسك أشمّ‏ العطر ثانية،‏ فلمااستمكن منه قال:‏ دونكم فاقتلوه،‏ فكانت نهايته،‏ وصرخ صرخة سمعها مَن في الحصنولم يجرؤ أحد على استجالء الخبر،‏ وانطلقنا إلى رسول هللا صلى هللا عليه وسلم نزفإليه الخبر.‏وخاف اليهود حينسمعوا بمقتله على أنفسهم.‏وقال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم:‏ ‏))من ظفرتم به من رجال يهود فاقتلوه((،‏ فوثبأحد المسلمين واسمه محيصة بن مسعود على ابن سنينة اليهودي فقتله وهو تاجر كانيبايعهم،‏ فقال له أخوه حويصة:‏ كيف تقتله وهو من نستفيد من ماله وتجارته؟ وأغلظ لهفي الكالم وكان مشركاً،‏ فقال محيصة:‏ لقد أمرني بقتله من لو أمرني بقتلك ما ترددت.‏فقال حويصة:‏ إن ديناً‏ أصحابه بهذا اإلخالص لدين عجب،‏ ثم أسلم.‏البخاري الجزء الخامس كتاب المغازي ص‎25‎164


روى البراء بن عازب رضي هللا عنه قال:‏عملية فدائية أخرى‏"مقتل أبي رافع اليهودي"‏كان الحيّان من األنصار،‏ يتباريان في نصرة الدين،‏ فلما سمع الخزرج أن محمد بنمسلمة وإخوانه من األوس قتلوا كعب بن األشرف قالوا:‏ وهللا ال يسبقونا،‏ واستأّذنوارسول هللا صلى هللا عليه وسلم في قتل أبي رافع اليهودي فأذن لهم،‏ ودفعوا له فتياناً‏لهذه المهمة فأمّر عليهم عبد هللا بن عتيك.‏وكان أبو رافع صديقاً‏ لكعب بن األشرف،‏ له مثله جوالت في إيذاء المسلمينوالتحريض عليهم،‏ وينال من رسول هللا صلى هللا عليه وسلم،‏ وكان في حصن لهبأرض الحجاز،‏ فلما دنا الفدائيون منه وقد غربت الشمس،‏ وراح الناس بسرحهم،‏ قالعبد هللا ألصحابه:‏ اجلسوا مكانكم،‏ فإني متلطف للبوّ‏ اب لعلي أن أدخل،‏ فأقبل حتى دنامن الباب،‏ وتقنّع حتى ال يراه فيعرف أنّه غريب،‏ وجلس قريباً‏ من الباب كأنه يقضيحاجته،‏ فلما دخل الناس،‏ هتف به البوّ‏ اب متعجالً؛ يا عبد هللا إن كنت تريد أن تدخل،‏فادخل سريعاً،‏ فإني أريد أن أغلق الباب،‏ فدلف مسرعاً‏ وكمن في زاوية ال يراه فيهاأحد.‏فلما استكمل الناس دخولهم،‏ أغلق البوّ‏ اب الباب وقفله،‏ وعلق المفاتيح على وتد فيالجدار وانطلق إلى داره،‏ فقام عبد هللا بن عتيك ففتح الباب متحسباً‏ لما قد يجري،‏ فلعلهإن انكشف أمره استطاع الهرب.‏وكان أبو رافع وجيهاً‏ سرياً،‏ يسهر عنده قومه في مضافة عالية في داره،‏ فانتظر عبدهللا حتى انفض السامرون،‏ فصعد إليه كلما فتح باباً‏ أغلقه عليه من الداخل،‏ فقد يحسّ‏ بهأبو رافع فينادي مستصرخاً‏ يطلب النجدة،‏ فيرى منجدوه األبواب مغلقة فال يصلون إليهإال وهو قتيل،‏ هكذا فكّر عبد هللا،‏ وكان تفكيره سليماً.‏قال عبد هللا:‏ فانتهيت إليه فإذا هو في بيت مظلم بين عياله،‏ ال أدري أين هو،‏ فقلت:‏ أبارافع،‏ فرد قائالً:‏ من هذا؟!‏ فأهويت نحو الصوت فأضربه ضربة بالسيف دون أنأصيبه،‏ فصرخ مستغيثاً،‏ فخرجت من البيت لحظات،‏ ثم عدت إليه فقلت وكأني أحدسكان الحصن:‏ ما هذا الصوت يا أبا رافع؟ فقال:‏ ثكلتك أمك،‏ إن رجالً‏ في البيت–165


––ضربني قبل قليل بالسيف،‏ فحدد عبد هللا المكان جيداً‏ وضربه ضربة صائبة جرحته ولمتقتله،‏ ثم وضع ذباب السيف في بطنه حتى خرج من ظهره،‏ فهدأت حركته.‏قال عبد هللا:‏ وعلمت أني قتلته،‏ فجعلت أفتح األبواب باباً‏ باباً‏ حتى انتهيت إلى درجة لمأرها،‏ فوضعت رجلي وأنا أظن أني قد انتهيت إلى األرض،‏ فوقعت،‏ فانكسرت ساقي،‏فعصبتها بعمامتي،‏ ثم انطلقت حتى جلست على الباب،‏ فقلت:‏ ال أخرج الليلة حتى أعلمأقتلته أم ال سبحان هللا!‏ ما أعظم هذا الفدائي!‏ يتحمَّل ألم رجله ويصبر عليه ليتأكد منإتمام مهمته!!‏ هكذا يكون الرجال فلما صاح الديك وانكشفت الدنيا قام الناعي علىالسور فقال:‏ أنعي أبا رافع تاجر أهل الحجاز،‏ فانطلقت إلى أصحابي،‏ فقلت:‏ النجاءالنجاء،‏ فقد قتل هللا أبا رافع،‏ وانتهينا إلى رسول هللا صلى هللا عليه وسلم فحدثته بماجرى فقال:‏ ‏))ابسط رجلك((،‏ فبسطتها فمسح عليها،‏ فكأنني لم أشتكها قط.‏البخاري جزءكتاب المغازي ص265166


روى أبو هريرة رضي هللا عنه قال:‏هو من أهل النارشهدنا مع رسول هللا صلى هللا عليه وسلم غزوة خيبر،‏ فكان رجل ممّن يدعي اإلسالمقاتل قتاالً‏ قلَّ‏ نظيره،‏ ويفتك باليهود فتكاً‏ يريح النفس،‏ فكنت أتعجب لقوته وشجاعتهوصبره،‏ فذكرت للرسول صلى هللا عليه وسلم تنكيله بالمشركين فقال:‏ ‏))هو من أهلالنار((،‏ فتعجبت لقول رسول هللا صلى هللا عليه وسلم،‏ فقلت:‏ يا رسول هللا انظر ماذايفعل وكيف يقاتل؟فقال رسول هللا صلى هللا عليه وسلممن أهل النار فلينظر إلى هذا((.‏مؤكداً‏ ما قاله آنفاً:‏ ‏))من أحب أن ينظر إلى رجلوتعجب رجل من المسلمين لقول رسول هللا صلى هللا عليه وسلمالذي يحارب بشدة،‏ فقال:‏ ألتبعن هذا الرجل وألريَنّ‏ نهايته.‏ولفعل ذلك الرجلكثرت الجراح بذلك الرجل فوقع على األرض ال يستطيع حراكاً،‏ فجعل ذبابة سيفه بينثدييه واتكأ عليه فخرج السيف من بين كتفيه،‏ فانتحر.‏فأقبل ذلك الرجل الذي اتبعه إلى النبي مسرعاً،‏ فقال:‏ أشهد أنكرسول هللا.‏فقال النبي صلى هللا عليه وسلم:‏ ‏))حق ما تقوله يا رجل،‏ ولكن ما الذي دعاك إلى قولهااآلن؟((.‏قال:‏ يا رسول هللا،‏ ذكرت آنفاً‏ مشيراً‏ إلى رجل كان شديد القتال:‏ ‏))من أحب أن ينظرإلى رجل من أهل النار فلينظر إلى هذا((‏ فتعجبت،‏ ثم تبعتُه ليطمئن قلبي يا رسول هللا،‏وكان ما قلتَه يا رسول هللا،‏ وحدِّثه بما رأى.‏قال النبي صلى هللا عليه وسلم:‏ ‏))قم يا بالل،‏ وقل بأعلى صوتك:‏ ال يدخل الجنة إالمؤمن،‏ وإن هللا ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر((.‏البخاري جزء1 ص‎212‎167


هرقل الرومكاتب رسول هللا صلى هللا عليه وسلمالملوك واألمراء يدعوهم إلى اإلسالم:‏-1-2-3فبعث إلى كسرى:‏ عبد هللا بن حذافة فمزق الكتاب،‏ فقال رسول هللا صلى هللا عليهوسلم:‏ ‏))مزق هللا ملكه((،‏ فسلط هللا عليه ابنه شيرويه فقتله.‏وبعث إلى النجاشي كتابه فسلمه إليه جعفر بن ابي طالب وكان جعفر إذ ذاك فيالحبشة وكان حامل الكتاب:‏ عمرو بن أمية الضمري،‏ فأسلم النجاشي رضي هللاعنه.‏وبعث إلى المنذر بن ساوى والي البحرين:‏ العالء بن الحضرمي يدعوه إلىاإلسالم،‏ أو الجزية فأسلم المنذر والعرب كلهم وكانت البحرين تابعة للفرسوصالح اليهود والنصارى والمجوس ودفعوا الجزية.‏وبعث إلى هوذة بن علي:‏ سليطَ‏ بن عمرو يدعوه إلى اإلسالم وكان هوذة نصرانياً،‏فأرسل إلى النبي صلى هللا عليه وسلم وفداً‏ فيهم مجّاعة بن مرارة والرجّال بنعنفوة يقول له:‏ إن جعل له من األمر من بعده أسلم وسار إليه ونصره،‏ وإال قصدحربه فقال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم:‏ ‏))ال وال كرامة،‏ اللهم اكفنيه،‏ فمات بعدقليل((.‏وبعث إلى الحارث بن أبي شمر الغساني:‏ شجاع بن وهب،‏ فلما قرأ كتابه عليهمقال:‏ من ينزع مني ملكي؟!‏ أنا سائر إليه،‏ فلما بلغ قوله رسول هللا صلى هللا عليهوسلم قال:‏ ‏))بادَ‏ ملكه((.‏وبعث إلى المقوقس بمصر:‏ حاطب بن أبي بلتعة،‏ فقبَّل كتاب النبي صلى هللا عليهوسلم وأهدى إليه جوار ‏َي منهن مارية أم إبراهيم ابن رسول هللا صلى هللا عليهوسلم.‏––-4-5-6وكانت رسائله عام ثمان للهجرة.‏أما رسالته إلى هرقل ملك الروم فقد حملها دحية الكلبي فلما وصلته قبَّلها وجعلها علىصدره،‏ وكتب إلى رئيس أساقفته في القسطنطينية يخبره شأنه:‏ فكتب إليه هذا:‏ إنه النبيالذي كنا ننتظره ال شك فيه فاتّبعه وصدِّقهُ،‏ فجمع هرقل بطارقة الروم في صومعة لهفي حمص،‏ وغلَّق أبوابها ثم طلع عليهم من ع ليّةٍ‏ خائفاً‏ على نفسه منهم،‏ وقال لهم:‏ قدأتاني كتاب هذا الرجل ‏"محمد"‏ يدعوني إلى دينه،‏ وإنه وهللا النبي الذي نجده في كتابنا،‏فهلم فلنتبعه ونصدقه،‏ فتسلم لنا دنيانا وآخرتنا ونفوز بهما معاً.‏168


فنخروا نخرة رجل واحد استقباحاً‏ لما قاله،‏ ثم ابتدروا األبواب ليخرجوا فيثورواويؤلبوا العامّة والجيش عليه فقال:‏ ردّوهم عليّ‏ فردّوهم،‏ فقال لهم:‏ إنما قلت لكم ما قلتألنظر كيف صالبتكم في دينكم؟ وقد رأيت منكم ما سرني،‏ فسجدوا تعظيماً‏ له.‏ثم إن هرقل قال لدحية:‏ إني ألعلم أن صاحبك نبيّ‏ مرسل،‏ ولكني أخاف الروم علىنفسي،‏ ولوال ذلك التبعته،‏ فاذهب إلى األسقف األعظم في القسطنطينية واذكر له أمرصاحبك،‏ وانظر ما يقول لك،‏ فجاء دحية وأخبره بما جاء به من رسول هللا صلى هللاعليه وسلم فقال له:‏ وهللا إن صاحبك نبي مرسل،‏ نعرفه بصفته ونجده في كتابنا،‏ ثم أخذعصاه وتوجه إلى البطارقة والقساوسة فقال:‏ يا معشر الروم،‏ قد جاءنا كتاب من أحمد،‏يدعونا إلى هللا،‏ وأنا أشهد أن ال إله إال هللا وأن محمداً‏ رسول هللا،‏ فوثبوا عليه فقتلوهرحمه هللا.‏فرجع دحية إلى هرقل وأخبره بالخبر قال:‏ قد قلت إننا نخافهم على أنفسنا.‏ولو أن هرقل ترك الملك وآمن،‏ وفعل كما فعل غيره مما قصَ‏ ‏ْص ‏ُت عن ملك من ملوكبني إسرائيل لكان من سعداء اآلخرة،‏ ولكنه آثر الدنيا العاجلة على اآلخرة اآلجلة. 1قال قيصر مخاطباً‏ مأله من البطاركة وقادة الجندوالوجهاء:‏هلموا نعطيه الجزية فأبوا،‏ فقال:‏ نعطيه أرض سوريا الشام،‏ ونصالحه،‏ فأبوا واستدعىهرقل أبا سفيان،‏ وكان تاجراً‏ إلى الشام في الهدنة ‏)صلح الحديبية(‏ فحضر عنده ومعهجماعة من قريش أجلسهم هرقل خلفه،‏ وقال:‏ إني سائله،‏ فإن كذب فكذّبوه،‏ فقال أبوسفيان:‏ لوال أن يؤثر عني الكذب لكذبت.‏فسأله عن النبي صلى هللا عليهقال هرقل:‏ كيف نسبه فيكم؟وسلمفقال أبو سفيان:‏ صغّرت من شأنه فلم يأبه لقولي.‏قال أبو سفيان:‏ هو أفضلنا نسباً.‏قال هرقل:‏ هل كان من أهل بيته من يقول مثل قوله؟قال أبو سفيان:‏ ال.‏قال هرقل:‏ فهل له فيكم ملك سلبتموه إياه؟1691قصص رواها النبي صلى هللا عليه وسلم للمؤلف ‏)قصة الملك الزاهد ص‎142‎‏(.‏


قال أبوسفيان:‏ ال.‏قال هرقل:‏ فمن اتبعه منكم؟قال أبو سفيان:‏ الضعفاء والمساكين،‏ واألحداث من الغلمان والنساء.‏قال هرقل:‏ فهل يحبه من يتبعه ويلزمه أو يقليه ويفارقه؟قال أبو سفيان:‏ ما تبعه رجل ففارقه،‏ فأخالقه تسع الجميع.‏قال هرقل:‏ فكيف الحرب بينكم وبينه؟قال أبوسفيان:‏ الحرب سجال يوم له ويوم لنا.‏قال هرقل:‏ هل يغدر؟قال أبو سفيان:‏ ال،‏ ونحن منه هدنة ‏)صلح الحديبية(‏ ال نأمن غدره،‏ وكان أبو سفيان فيهذا يريد النيل من النبي صلى هللا عليه وسلم،‏ فلم يأبه هرقل لقوله.‏قال هرقل:‏ سألتك عن نسبه،‏ فزعمت أنه من أكرم الناس نسباً،‏ وكذلك األنبياء.‏وسألتك:‏ هل قال أحد من أهل بيته مثل قوله فهو يتشبه به قلت:‏ ال.‏وسألتك:‏ هل سلبتموه ملكه،‏ فجاء بهذا لتردوا عليه ملكه فقلتَ‏: ال.‏وسألتك:‏ عن أتباعه فزعمت أنهم من الضعفاء والمساكين وكذلك أتباع الرسل.‏وسألتك:‏ عمن يتبعه أيحبه أم يفارقه؟ فزعمت أنهم يحبونه،‏ وكذلك حالوة اإليمان التدخل قلباً‏ فتخرج منه.‏وسألتك:‏ هل يغدر؟ فزعمت أنه ال.‏ولئن صدقتني ليغلبن على ما تحت قدمي هاتين ولوددت أني عنده فأغسل قدميه.‏ انطلقلشأنك..‏فخرج أبو سفيان وهو متعجب مندهش لما سمعه من هرقل،‏ وقال وهو يضرب إحدىيديه باألخرى:‏ يا أيها الناس،‏ لقد عظم أمر محمد حتى باتت الملوك تهابه!‏170


إن هيبة رسول هللا صلى هللا عليه وسلمالغارقين في أوحال الدنيا ال يدركون ذلك.‏من هيبة هللا تعالى،‏ ولكن الغافلين عن هذاقال أبو سفيان مثل هذا في فتح مكة للعباس:‏ لقد بلغ ملك ابن أخيك شأواً‏ عظيماً،‏ فردّ‏عليه العباس رضي هللا عنه:‏ إنها النبوة يا أبا سفيان،‏ أما آن لك أن تعي هذا؟!‏وللدعاة هيبة رسول هللا صلى هللا عليه وسلم.‏فهذا سلطان العلماء العز بن عبد السالم رحمه هللا يرى من مجلسه العرض العسكريالذي سار فيه السلطان أيوب ملك مصر ورآه في ركبه منتفخاً،‏ منتفجاً،‏ فاستحضر العزّ‏هيبة هللا في نفسه وسأله العون على سلّ‏ هذه السخيمة من نفس أيوب فناداه وهو جالس:‏يا أيوب!‏ لم يناده بلقب الملك والسلطنة.‏فما كان من السلطان إال أن أوقف العرض ونزل عن مركبته وسعى إلى العزّ‏ بن عبدالسالم،‏ يقول له:‏ ما الذي تريده يا شيخنا الجليل؟قال العزّ:‏ ما تقول هلل تعالى وقد والك على عباده إذا وقفتفي مكان كذا؟بين يديه وسألك عن الخمارةقال السلطان أيوب:‏ إنها بنيت على عهد والدي.‏قال العزّ:‏ أأنت من الذين قالوا:‏ ؟ّ!‏ مُقْتَدُو ‏َن آَثَار ه ‏ْم عَلَى وَ‏ إ نَّا أُمَّ‏ ‏ٍة عَلَى آَبَاءَنَا وَ‏ جَدْنَا إ نَّاقال السلطان أيوب:‏ ال يا موالنا وأمَ‏‏َرلتوه بهدمها،‏ واستأذن الشيخ وعاد إلى موكبه.‏قيل لسلطان العلماء العزّ‏ بن عبد السالم:‏ لقد كان مستعظماً‏ في نفسه وهو في موكبه،‏أما خفت على نفسك من بطشه؟قال العزّ‏ رحمه اله:‏ استحضرت هيبة هللا في نفسي فوجدته كالفأر بين يدي الهر.‏صلى هللا على رسوله الكريم،‏ وجزاه خير ما جزى نبياً‏ عن أمته،‏ ورحم هللا علماءاألمة العاملين الوقافين على حدود هللا،‏ الذين ال يخافون في هللا لومة الئم.‏الكامل في التاريخ الجزء الثاني ص143171


الفهرساإلهداء .................................................................................................................................................1كعب بن مالك.........................................................................................................................................‏‎3‎أم سُلَيْ‏ ‏ٍم رضي هللا عنها12...........................................................................................................................توكل على هللا.......................................................................................................................................‏‎14‎كن نبيهاً‏ ذكياً........................................................................................................................................‏‎16‎روعة الجندية.......................................................................................................................................‏‎18‎ال تغرنكالمظاهر .................................................................................................................................21أنت أخي في هللا....................................................................................................................................‏‎23‎الصاحب الناصح...................................................................................................................................‏‎26‎أويس القرني........................................................................................................................................‏‎25‎رأس المنافقين ابن سلولبركةسمك34.........................................................................................................................حديث اإلفك.........................................................................................................................................‏‎42‎كيف تصنع ب"ال إله إال هللا"‏ يوم القيامة؟.....................................................................................................‏‎56‎النبي صلى هللا عليه وسلم .................................................................................................................58ثم لتسألن يومئذ عن النعيم........................................................................................................................‏‎62‎بالمؤمنين رؤوف رحيم...........................................................................................................................‏‎63‎العنبر .........................................................................................................................................61وليمة جابر بن عبد هللا ............................................................................................................................65أَق طُ‏ أم سُلَيْم..........................................................................................................................................‏‎12‎ويؤثرون على أنفسهم.............................................................................................................................‏‎16‎التواضع يرفع صاحبهالحلم وسعة82............................................................................................................................الصدر ................................................................................................................................83االنتقام للنفس منقصة،‏ وهلل كمال وإيمان.......................................................................................................‏‎86‎أخالق عالية.........................................................................................................................................‏‎52‎أعرابيابنفي صالة ..................................................................................................................................53السابقون السابقون..................................................................................................................................‏‎55‎ليس للشيطان في بيتنا نصيب....................................................................................................................‏‎55‎الحنظلية ..................................................................................................................................... 121ثمر يانع ودعوةشكوىمستجابة ...................................................................................................................... 124الجمل .................................................................................................................................... 121172


فضل المسير إلىالجهاد طريقبئرالمسجد......................................................................................................................‏ 125الجنة ............................................................................................................................. 111معونة ........................................................................................................................................ 114صدق هللا فصدقه هللا............................................................................................................................‏ 116المالئكةالمجتمعسعدغزوةتحفهم...................................................................................................................................‏ 118المتكافل ................................................................................................................................ 122وسعيد.......................................................................................................................................‏ 122أهل األنوارإياكالرجيع .................................................................................................................................... 124121 ......................................................................................................................................واللعن.......................................................................................................................................‏ 128صور مردودةطاعونمن عالئمزيارةالقائد132 ...................................................................................................................................عمواس.................................................................................................................................‏ 133الساعة................................................................................................................................‏ 135إليك يحن الجذع يا رسول هللا.................................................................................................................‏ 135ليلية........................................................................................................................................‏ 141البطل.......................................................................................................................................‏ 142هجرة المصطفىوصاحبه.....................................................................................................................‏ 145إسالم عبد هللا بن سالم أحد أحبار اليهود145 ...................................................................................................شيخٌ‏ مخرّ‏ ‏ٌف......................................................................................................................................‏ 151النصرانيالمتنبئالمرتد................................................................................................................................‏ 152الكذاب...................................................................................................................................‏ 153نهاية طاغية......................................................................................................................................‏ 154اتركوا لي صاحبي..............................................................................................................................‏ 156العُمَران ........................................................................................................................................... 158إني أحبك أيهاعملية فدائية ‏"مقتل كعب بنالفاروق ......................................................................................................................... 162عملية فدائية أخرى ‏"مقتل أبو رافعهو من أهلهرقلاألشرف"......................................................................................................‏ 162اليهودي"..............................................................................................‏ 165النار ................................................................................................................................ 161الروم ...................................................................................................................................... 168الفهرس ........................................................................................................................................... 112173

Hooray! Your file is uploaded and ready to be published.

Saved successfully!

Ooh no, something went wrong!