07.01.2024 Views

ماكو فضاء حر للابداع -4-2023

مجلة الكترونية تهتم بتاريخ الفن العراقي، تتابع نشأته في القرن الماضي وما حصل من تبدلات في الاسلوب والرؤيا، مع اهتمام بنشر ما يتوفر من وثائق وصور ذات علاقة بهذا التاريخ.

مجلة الكترونية تهتم بتاريخ الفن العراقي، تتابع نشأته في القرن الماضي وما حصل من تبدلات في الاسلوب والرؤيا، مع اهتمام بنشر ما يتوفر من وثائق وصور ذات علاقة بهذا التاريخ.

SHOW MORE
SHOW LESS

Create successful ePaper yourself

Turn your PDF publications into a flip-book with our unique Google optimized e-Paper software.

كل فنان حقيقي يعيش عالقة وطيدة مع إرثه<br />

احلضاري،‏ والداغستاني الذي كان مبدعاً‏<br />

حقيقياً،‏ وكان يعشق تاريخه وحضارته ‏)سأقول<br />

لك شيئاً‏ مهماً‏ ورمبا تراه غريباً،‏ حني زرت<br />

أسبانيا ودخلت املساجد والعمارات العربية<br />

كنت أحس بأنني أحتدث مع الفرسان العرب<br />

القدامى الذين افتتحوا األندلس،‏ كنت أشعر<br />

أن أرواحهم معي،‏ كنت أراهم يف كل جسر،‏ كل<br />

شجرة،‏ كل نافذة،‏ وباب،‏ وكنت أبكي،‏ أبكي(‏<br />

)34(. وهذا الولع باحلضارة العربية اإلسالمية<br />

يف اخلارج قد دفع بهذا الفنان الكبير إلى<br />

تصوير معطيات تلك احلضارة فقدم مئات<br />

الصور النادرة عنها،‏ كانت صوراً‏ مشحونة<br />

بقدرة هذه املعطيات على مقاومة الزمن،‏ وكان<br />

معنياً‏ بالتفاصيل فهو يصور القباب واألهلة<br />

واملنائر واملقرنصات والزخرفة اإلسالمية حتى<br />

لتبدو بعض أعماله ناطقة باحلياة ‏)إن وراء<br />

كل باب،‏ ويف داخل كل مسجد،‏ تشمخ أرواح<br />

أسالفنا العظام،‏ إن روحهم هي التي دفعتني<br />

كي أصور ما تركوا لنا وللبشرية جمعاء(‏ )35(.<br />

ويف لندن متكن مراد الداغستاني من الدخول<br />

الى بيت عربي إسالمي قدمي وصوره من خالل<br />

لقطات عظيمة ولم يأبه ألوامر املنع بالتصوير<br />

ألنه لم يكن يفهم كيف مينع العربي من تصوير<br />

تراث أجداده!‏<br />

إن عدسة الداغستاني قد قدمت لنا لقطات<br />

عن معطيات احلضارة العربية اإلسالمية<br />

يف اخلارج على املستوى املادي،‏ وكانت هذه<br />

اللقطات تدلل من خالل لغة إنسانية مشتركة،‏<br />

أن إجنازات العرب املسلمني كانت كبيرة<br />

ومتطورة وقد نقلت حياة الشعوب األخرى<br />

إلى األمام،‏ وبقدر ما كانت هذه األعمال<br />

الفنية للداغستاني عفوية وبسيطة فإنها كانت<br />

غنية بالدالالت التاريخية والرموز احلضارية،‏<br />

وكانت تؤشر حب هذا الفنان إلرثه احلضاري<br />

وتواصله العميق مع روح األجداد العظام.‏<br />

12- احليوان يف عالم مراد الداغستاني:‏<br />

إذا كان مراد الداغستاني قد أنسن الطبيعة-‏<br />

أضفى عليها مالمح إنسانية-‏ فإنه يف تعامله<br />

مع كائناتها قد اعتمد هذه النظرة.‏ ومن<br />

هنا جند أن صوره عن احليوان ذات مالمح<br />

إنسانية،‏ فصورة احلمامتني ال توحي بلحظة<br />

حب وغزل بني الكائنني فقط بل تشير إلى<br />

بعد إنساني حتى ليحس املشاهد أنه يرقب<br />

رجالً‏ وامرأة يف حالة حب،‏ وصورة صغار البقر<br />

جتعلنا نشعر بألفة مع الكائنني حتى ليمتد<br />

جسر نفسي بيننا،‏ بينما كان تصويره للطيور<br />

وحيدة تقبع حتت قدمي الكراسي،‏ أو تتخذ<br />

من سياج اجلسر مكان راحة،‏ يحمل إشارات<br />

واضحة إلى أن هذه اخمللوقات البائسة،‏ منفية<br />

غريبة تشترك مع اإلنسان يف هم الوقوف<br />

وحيداً،‏ منفياً‏ أمام غربة العالم واألشياء،‏<br />

فتصوير احليوان هنا ليس ديكوراً‏ بقدر ما هو<br />

داللة على التقاء مع اإلنسان يف مشاعر احلب<br />

والوحشة،‏ حاالت االندماج واالفتراق,‏ إال أن<br />

هذا ال يعني أن الفنان الداغستاني لم يصور<br />

احليوان يف لقطات جمالية مستقلة بحد ذاتها<br />

ومعبرة عن تواصل الكائنات احلية مع الطبيعة<br />

فلقطاته الكثيرة عن البط النهري قد جاءت<br />

أشبه بلوحات مفعمة بالضوء واللون والظالل<br />

الغنية،‏ فمرة جند نزق البط البري ومرحه<br />

اجلميل،‏ وأخرى جند استرخاءه على صفحات<br />

املاء الشبيه بالسلسبيل،‏ وثالثة نراه برفقة<br />

الريح واملطر،‏ ال بل جند قطيعاً‏ من األغنام<br />

يرعى يف البرية بالقرب من خيم األعراب يف<br />

حالة أمان نفسي.‏ وتركيز الفنان الداغستاني<br />

على احليوان يف صوره يندرج كسمة إبداعية<br />

تؤشر حقيقة بسيطة تتلخص يف شمولية عالم<br />

هذا املبدع الذي تؤكد أعماله أنها نشيد حب<br />

لكل ما على األرض من أشياء نظيفة وجميلة<br />

وإنسانية.‏<br />

13- العمل اإلنساني:‏<br />

ال أعتقد أن هنالك من مَجّ‏ د عمل اإلنسان<br />

املتعب على مستوى الفوتوغراف مثلما مجّ‏ ده<br />

مراد الداغستاني،‏ فقد التقط عشرات الصور<br />

للعمل،‏ وعمل اإلنسان البسيط الذي ميتهن<br />

<strong>حر</strong>فاً‏ شعبية ، وكأنه بذلك يريد أن يؤكد أن<br />

قيمة املرء تتحدد من خالل العمل الذي يطور<br />

عقل وروح اإلنسان ومينحه احلرية،‏ وهكذا<br />

جاءت مناذجه متفردة،‏ استثنائية،‏ بقدر ما<br />

هي واقعية واعتيادية.‏ فصوّر لنا النجار وهو<br />

منهمك يف عمله،‏ متوحد فيه،‏ وصور لنا<br />

احلائك وهو يواصل انتزاع لقمة العيش من<br />

براثن آلة بدائية بسيطة،‏ وعامل الكور-‏ محل<br />

لصنع اجلص-‏ وهو يرقب الدخان املتصاعد<br />

مثل بطل منفي ملقى يف عراء هذا العالم<br />

الواسع،‏ كما قدم لنا لقطات عديدة عن<br />

العمال الذين يتواجدون يف أسواق الفواكه<br />

واخلضراوات القدمية يف املوصل،‏ وباعة<br />

األغنام من األعراب وهم يعيشون طقوسهم<br />

يف محل بيع األغنام املطوقة بالغبار وبرد<br />

الطبيعة،‏ كما كانت أعماله عن احلمالني<br />

وقادة العربات الشعبية-‏ الطنابر-‏ شهادة<br />

على قوة نفوس هؤالء البشر الذين يرون إن<br />

احلياة معركة قاسية،‏ وامتازت أعماله عن<br />

رعاة اجلواميس بتصوير حياتهم الشديدة<br />

وألفتهم مع الكائنات التي يرعونها إضافة<br />

إلى عالقتهم احلميمة مع النهر،‏ بينما كانت<br />

صور عمال الصناعات الفخارية تتغنى بنبل<br />

روحهم ورشاقتهم يف العمل.‏ واحلق إن مراد<br />

الداغستاني قد امتلك فضيلة تقدمي مناذج<br />

إنسانية يف هذا اجملال،‏ مناذج امتهنت أعماالً‏<br />

انقرض بعضها بفعل املدنية وصار بعضها<br />

اآلخر إلى طريق االنقراض،‏ فكان هذا الفنان<br />

املبدع قد أرّخ لها وسجنها ضمن عدسته<br />

<strong>حر</strong>صاً‏ على هذا اإلرث الشعبي من االنقراض<br />

واالندثار،‏ وكان معبراً‏ عن تعاطفه اإلنساني<br />

العميق معها،‏ عن تضامنه احلميم املنطلق<br />

من رؤية أخالقية وفلسفية يف نفس الوقت.‏<br />

إن تعاطف الداغستاني الفني مع العمال<br />

واحلرفيني البسطاء يلتقي مع موقفه الواقعي<br />

منهم،‏ فقد كانت له عالقاته الواسعة معهم،‏<br />

وكانت هذه العالقات دافئة،‏ حقيقية،‏ تسعى<br />

جاهدة الستبطان مشاعرهم وتصوراتهم عن<br />

العمل واحلياة.‏<br />

الهوامش:‏<br />

من - 1 35 كلمات الفنان الداغستاني التي<br />

استطعت أن أسجلها عبر أكثر من عشرين لقاء<br />

امتدت ألشهر عديدة.‏<br />

103

Hooray! Your file is uploaded and ready to be published.

Saved successfully!

Ooh no, something went wrong!