07.01.2024 Views

ماكو فضاء حر للابداع -3-2023

مجلة الكترونية تهتم بتاريخ الفن العراقي، تتابع نشأته في القرن الماضي وما حصل من تبدلات في الاسلوب والرؤيا، مع اهتمام بنشر ما يتوفر من وثائق وصور ذات علاقة بهذا التاريخ.

مجلة الكترونية تهتم بتاريخ الفن العراقي، تتابع نشأته في القرن الماضي وما حصل من تبدلات في الاسلوب والرؤيا، مع اهتمام بنشر ما يتوفر من وثائق وصور ذات علاقة بهذا التاريخ.

SHOW MORE
SHOW LESS

Create successful ePaper yourself

Turn your PDF publications into a flip-book with our unique Google optimized e-Paper software.

وصف ‏»بغداديات«‏ جواد سليم<br />

سهيل سامي نادر<br />

-1-<br />

بعض األعمال الفنية تواصل احلياة يف وضع<br />

خاص،‏ فنحن نتلقاها مرتني،‏ مرة يف بنائها<br />

الفريد الذي ال يتكرر،‏ ومرة عبر الزمن،‏ عند<br />

االنعطافات والتغيرات والتجارب،‏ وقد أضاف<br />

إليها الناس تفسيرات جديدة،‏ أو صاغ فنانون<br />

أعمالهم على نهجها.‏ وتزداد هذه احلالة فرادة<br />

حني تخفي هذه األعمال وراءها مشكلة ثقافية<br />

وفنية أصيلة،‏ أو تأخذ هي على عاتقها مشروع<br />

حل هذه املشكلة.‏<br />

من األمثلة على أعمال كهذه ‏»بغداديات«‏ جواد<br />

سليم.‏<br />

يجب أن أضع أوصافاُ‏ أكثر حتديداً‏ للوضع<br />

الفريد واخلاص الذي مييز البغداديات:‏ فاسم<br />

املدينة الذي يسمها يعلم عن موضوعها،‏<br />

فالبغداديات مكرسة لبغداد،‏ موضوعاً‏ وثقافة<br />

وجماليات.‏ لكنها صورة عنها،‏ ذكرى منها،‏<br />

مجتزآت من عاملها بحثت عنها عاطفة حانية<br />

محتفظة بها.‏ وإذا كانت تبدو يف تفاصيلها<br />

العامة مكان عيشنا املعروف،‏ إال أنها،‏ وعلى<br />

الرغم من ذلك،‏ مدينة أخرى،‏ مدينة كل شيء<br />

فيها متماثل وميتلك األهمية نفسها،‏ مدينة<br />

مخبأة يف قلب رجل محب.‏<br />

ثمة فرق واسع بني املدينة الواقعية التي<br />

نحياها ومدينة البغداديات،‏ فرق ال يتحدد يف<br />

أن الثانية خيالية،‏ فهي ليست كذلك،‏ بل ألن<br />

األولى تتغير،‏ وقد تغيرت يف قياسات فراغية<br />

غطت على قياسات األذرع والتجاور التي<br />

ميزت املدينة القدمية.‏ إن االستذكار،‏ وأعمال<br />

اخلواطر،‏ والبحث عن الصور،‏ تصبح شبه<br />

حتمية،‏ يف مثل هذه احلالة.‏ وجواد سليم الذي<br />

استشعر <strong>حر</strong>كة التغير،‏ وال أظنه أراد مقاومتها<br />

بأمثلة استذكارية،‏ بحث من بني الثلمات<br />

وتهشيمات الزمن عن املدينة التي عرفها،‏<br />

ممسكها من اللحظة التي عاشت فيها يف غفلة<br />

نزيهة على ما ملكت من جمال واعتياد وحياة.‏<br />

إن بغدادياته حتى لو لم تكن استذكاراً‏ فهي<br />

تذكارات،‏ طفولة نود العودة إليها من دون أن<br />

نعود حقاً.‏<br />

بينما تت<strong>حر</strong>ك املدينة الواقعية يف اجتاهات<br />

عدة،‏ متسارعة،‏ خشنة،‏ يسيح الزمن يف<br />

شوارعها ويقشر جلدها،‏ ويطبق عليها من<br />

أعلى وأسفل،‏ محوالً‏ صورتها باستمرار،‏ ينسلت<br />

الزمن من مدينة ‏»البغداديات«‏ مثل خيط رفيع<br />

من دخان.‏ إنها مكان ال جتوسه آلهة التاريخ<br />

بل ربات اجلمال اللواتي فضلن أن يصبحن<br />

ربات بيوت سعيدات:‏ مشاهد ساذجة وهازلة<br />

بعض الشيء،‏ حلظات صغيرة استعيدت من<br />

دون أحزان ثقيلة وال أسف مزعج،‏ ليس من<br />

اهتمامها أن تثير أسئلة شائكة أو تكترث<br />

بصراع،‏ حزينة حزن الصور العائلية القدمية،‏<br />

وزمن أي مشهد منها يوازي يف أهميته وال<br />

أهميته تواريخ إنتاجها كصنيع فني،‏ فاالثنان<br />

صنعا مشغل منزلي واحد منح األهمية للذوق<br />

والصنعة واألسلوب واإلحساس.‏<br />

لكن مدينة البغداديات املثالية هذه،‏ تتكشف<br />

عن إنشاءات واعية يف التجربة الثقافية<br />

واجلمالية،‏ منسوجة بهواجس وامتثاالت<br />

محلية،‏ ومبزاوجة فنية تراثية ومعاصرة،‏<br />

باقتباسات،‏ وخبرات عاطفية ونفسية،‏<br />

واختزاالت أسلوبية.‏ وعلى الرغم من متثيلها<br />

ألشياء راحلة،‏ فهي حتيا مجدداً‏ بيننا عند<br />

الفواصل التي تتحول عندها مفردات احلياة<br />

الواقعية املتناثرة إلى إشارات وآثار ورموز<br />

سواء على املستوى النفسي أو يف نطاق التعبير<br />

الفني اخلالق.‏<br />

-2-<br />

تشكل البغداديات يف مجموعها متحفاً‏<br />

أثنوغرافياً‏ صغيراً‏ عن بغداد،‏ الواقع فيه<br />

محول بقوة مشروع ثقايف وجمالي.‏ إنها تأخذ<br />

تلقائياً‏ ترتيباً‏ من صفوف متوازية عزلت<br />

حسب مواضيعها،‏ كل صف منها ينتقي من<br />

العالم البغدادي أشياءه:‏ فهنا صف للتحف من<br />

مشربيات وأوان ودالل،‏ وهنا صف للحكايات<br />

واألسرار،‏ وصف آخر للمشاهد املدينية،‏ وآخر<br />

للحياة البيتية.‏<br />

إن أي عمل مفرد من هذه املصفوفات يصلح<br />

ألن يكون نقطة بداية ملشاهدة اعتيادية<br />

ولتفحص واع،‏ ألنه يأخذنا إلى قرينه ويصطف<br />

معه بانسجام،‏ فجميع األعمال تقترن ببعضها<br />

البعض يف احملتوى الثقايف واألسلوب الصنعي<br />

واجلماليات الفنية والتضمينات الرمزية.‏<br />

ضمن هذا السياق تبدو البغداديات مشروحة<br />

شرحاً‏ جيداً.‏ فكل رسم يشير إلى رسم<br />

آخر،‏ وحتى لو حتولنا من صف إلى آخر من<br />

املوضوعات فلن نشعر بفارق كبير،‏ بل جند<br />

الدالالت نفسها اتخذت أدواراً‏ جديدة.‏ إن<br />

االنتقال من مصفوفة إلى أخرى يوازي جتربة<br />

التنقل داخل بيت كبير،‏ فما نراه يف غرفة<br />

الضيوف ليس هو ما نراه يف ركن آخر،‏ لكن أياً‏<br />

ما نراه نشعر أنه يعود إلى البيت ذاته:‏ أثاثه،‏<br />

طريقة توزيعه،‏ زواياه،‏ أسراره.‏<br />

تعد البغداديات يف أبسط تعبير لها عالم<br />

شخصيات ومشاهد.‏ لكن حتى يف املواد<br />

اجلامدة سواء صورت وحدها أو أدخلها الفنان<br />

يف الغرف على الرفوف وبني األشخاص،‏<br />

30

Hooray! Your file is uploaded and ready to be published.

Saved successfully!

Ooh no, something went wrong!