ماكو فضاء حر للابداع -2-2022
ماكو فضاء حر للابداع -2-2022
ماكو فضاء حر للابداع -2-2022
Create successful ePaper yourself
Turn your PDF publications into a flip-book with our unique Google optimized e-Paper software.
نزيهة سليم – بغداد يف القلب<br />
)اسطنبول 1927-بغداد 2008(<br />
مي مظفر<br />
حتى وهي وحيدة ظلت ترسم حارسة ميراث جواد<br />
عرفتُ الفنانة نزيهة سليم يف عمر مبكر يوم<br />
عُيّنت مدرّسة للرسم يف مدرسة راهبات<br />
التقدمة، قادمة للتو من فرنسا. أمضينا معها<br />
سنة دراسية واحدة ركّزت فيها على تعليمنا فن<br />
التخطيط ورسم الزخارف بأشكالها الهندسية<br />
املتعددة. ثم شاءت الصدف أن أقترب منها أكثر<br />
بحكم وجودي داخل الوسط الفني التشكيلي<br />
منذ مطلع السبعينيات من القرن املاضي لتصبح<br />
األستاذة نزيهة واحدة من الصديقات املقربات،<br />
والسيما وأنها كانت زميلة زوجي رافع الناصري<br />
يف معهد الفنون اجلميلة. وطاملا ترددنا إلى<br />
دارها البغدادية يف الوزيرية والغنية بذاكرة<br />
جذور احلركة الفنية احلديثة. وهي دار أخيها<br />
الفنان الكبير جواد سليم الذي عاشت فيه<br />
الفنانة ووالدتها حتى نهاية حياتها، فقد كانت<br />
آخر من غادر احلياة من هذه األسرة البغدادية<br />
األصيلة.<br />
نشأت نزيهة سليم يف أحياء بغداد العريقة يف<br />
احليدرخانة، وسط أجواء ثقافية وفنية. فالوالد<br />
محمد سليم اخلالدي املوصلي رسّ ام فنان،<br />
وأبناؤه جميعهم فنانون: رشاد وسعاد وجواد<br />
ونزار ونزيهة التي كانت اخلامسة يف تسلسل<br />
األخوة والبنت الوحيدة املدللة بني من عاش من<br />
األخوة السبعة، اثنان منهم توفيا يف سن مبكرة<br />
جدا، وثالثهم رشاد تويف يف ريعان شبابه. وقد<br />
حدثني الفنان سعاد سليم يف مقابلة أجريتها<br />
معه يف بغداد يف 1992 عن تلك الدار والنشأة<br />
واألجواء:<br />
« إحنا فكينا )فتحنا( عيونا شفنا زخارف<br />
وشفنا شناشيل، والبيئة مؤثرة جدا. منطقتنا<br />
كانت باحليدرخانة، مقابل جامع احليدرخانة.<br />
بيت كبير فيه أشياء شعبية، حتى بير كان فيها،<br />
حوض وسطي، وحديقة كنا نسميها بقجة.<br />
والدي عنده مجلس كل يوم خميس من األسبوع<br />
يجتمعون فيه شخصيات ويسوّون مسرحيات<br />
ويلقون شعر وحفالت جالغي بغداد. كما<br />
يتناقشون يف أمور السياسة وغيرها. كان والدي<br />
يرسم وأخواني كلهم رشاد وجواد ونزار ونزيهة.<br />
ووالدتي تطرز وتسوّي شغالت حلوة. وملا جينا<br />
إلى بغداد )التحق احلاج محمد سليم بزمالئه<br />
الضباط العرب بعد قيام احلكومة الوطنية يف<br />
مطلع العشرينيات من القرن العشرين( جاب<br />
أبويه وياه الياغلي بويه )أي:جلب معه األلوان<br />
الزيتية( وبدأ يرسم هنا واحنا منه تعلمنا.« كما<br />
أن الوالد كان يتذوق املقام العراقي ويقرأه،<br />
ويحسن جتويد القرآن الكرمي.<br />
تعلم احلاج محمد سليم فن التخطيط والرسم<br />
يف إسطنبول خالل مرحلة التدريب العسكري<br />
ضمن دروس كانت تلقى عليهم يف الطوبوغرافيا،<br />
وتأثر به األخوة جميعا مبا فيهم نزيهة التي<br />
كان يوليها رعاية خاصة لعلها شكلت االنتباهة<br />
األولى لها وتركزت حولها جتربتها يف فن الرسم.<br />
ومثل هذا االهتمام والتشجيع يعد ظاهرة مبكرة<br />
لتعامل األب مع ابنته بالتساوي مع أبنائه رشاد<br />
وسعاد وجواد ونزار. كان الوالد يعلمهم تكبير<br />
الصور باملربعات، وجر خط مستقيم بسحب<br />
القلم من اليسار إلى اليمني على ان يقطعوا<br />
انفاسهم حتى ينتهوا من ذلك، وتدريبهم على<br />
التظليل وقياس األحجام.<br />
نزيهة إذًا تأسست منذ البدء يف محترف فني<br />
مهني، وألقت دعماً وتشجيعاً من العائلة غير<br />
مسبوق المرأة يف ذلك الوقت. كان من الطبيعي<br />
أن تكمل طريقها فيما بعد يف معهد الفنون<br />
اجلميلة يف بغداد، املختبر الفني األول حيث<br />
تخرجت يف 1947 وحصلت لتفوقها على بعثة<br />
إلى فرنسا لتكمل دراستها يف معهد الفنون<br />
اجلميلة يف باريس )البوزار( وانتهت منها<br />
بتفوق أيضا يف 1951. كانت نزيهة سليم أول<br />
فنانة حتصل على بعثة حكومية لدراسة الفنون<br />
التشكيلية مع زميلتها الفنانة نزيهة رشيد التي<br />
أوفدت للدراسة يف أمريكا. قبل ذلك كانت<br />
البعثات املخصصة لإلناث تقتصر على مجال<br />
التربية الفنية، والفنانة مديحة عمر أول من<br />
حصل على هذه البعثة إلى إنكلترا )1930-<br />
1933( بترشيح من العالمة ساطع احلصري. يف<br />
باريس تخصّ صت نزيهة سليم برسم اجلداريات<br />
على يد الفنان الفرنسي املعروف »فرناند<br />
ليجيه«، وكان بإمكانها البقاء هناك لكنها آثرت<br />
العودة إلى العراق. ثم أُوفدت الحقا بزمالة ملدة<br />
عام واحد إلى أملانيا الشرقية للتخصص برسوم<br />
األطفال ورسوم املسرح كما على املزججات<br />
والتطعيم باألنامل )2(.<br />
يف منتصف القرن العشرين بلغت احلركة<br />
الفنية يف العراق ذروة غليانها وجهود فنانيها<br />
رواد التحديث للتوصل إلى حتقيق شخصية<br />
فنية ذات طابع عراقي وظهور فكرة اجلماعات<br />
الفنية. وقد كانت جماعة بغداد للفن احلديث<br />
التي أسسها جواد سليم أكثر اجلماعات إثارة<br />
للجدل منذ البيان األول الذي طرحه يف أول<br />
معرض للجماعة يف 1951 وما تاله من إضافات<br />
6