ماكو فضاء حر للابداع -2-2022
ماكو فضاء حر للابداع -2-2022
ماكو فضاء حر للابداع -2-2022
Create successful ePaper yourself
Turn your PDF publications into a flip-book with our unique Google optimized e-Paper software.
أخرق بعض الشيء، أشبه بالالفائدة، أقرب<br />
إلى آلة ناقصة، لكني أعود ألقول عنه إنه<br />
ال أدري ما هو. هو ذا وجه. حضور بغياب<br />
الداللة.<br />
أعرف من يؤشر إلى )مداعبة(. هذه اإلشارة<br />
قد تتعدى هذا الصندوق املركوم يف معرض<br />
جمعية الفنانني إلى صاحبه طالب مكي، وهذا<br />
صحيح بعض الشيء إذا عرفنا املداعب يف<br />
جلسة أصدقاء عادية. األصح أن هناك أنواعاً<br />
من الدعابات: فثمة من )يلكز( ألنه محب<br />
للنكتة، وثمة من )يضرب( ألنه يريد منك أن<br />
تفيق، وطالب مكي يعرف الطريقتني دون أن<br />
يصبح مداعباً. إنه باأل<strong>حر</strong>ى أفضل من )يجرد(<br />
اللكزة والضربة معاً، وهو يكمل بهما شرطه<br />
االستثنائي الذي بواسطته يجرد اخلرس<br />
والصمم، حيث األصوات التي ال يسمعها<br />
واألحاديث التي ال يتكلمها.<br />
يف منطقة التجريد نسأل عن احلياة، وتلك<br />
حالة تود أن تكتشف ما هو شفاف ورائق<br />
وملموس، لكن إزاء ذلك، كم مرة حدث أن<br />
ارتفعنا من أرض احلياة إلى سماء التجريد؟<br />
من منا لم يعش هاتني احلالتني؟<br />
أال نسمع أولئك الرجال، الشباب، الكهول،<br />
الشيوخ، يقولون بعد أن جمدت حدقات عيونهم<br />
على املجهول: لقد عشنا! وهناك حيث عاشوا،<br />
كان احلب والفشل يف احلب، التمرد والطغيان<br />
واالستسالم، وها هم )اآلن( قد أصبحوا أسفاً<br />
أو ذكرى أو أملا أو حكمة أو شفقة. أليس غريباً<br />
بعد هذا أن يتحدث الناس عن التجريد كما<br />
لو أنه غلطة أو عبط أو تصعيد أو حالة أو<br />
رمز أو تشبه أجنبي على األخص، حيال ذلك<br />
التجريد األخرس واألصم؟!<br />
حسناً، لدينا ها هنا حياة ذلك الصندوق<br />
املجرد مرتني، مرة بنفسه ومرة بصانعه، فهذا<br />
الفنان يعرف شرطه االستثنائي كحياة كاملة<br />
ال يحذف منها قطرة. إنها حياة من حيث هي<br />
كذلك، أما جتريده )أعماله، صندوقه العجيب(<br />
فهو جتربة بحدودها، جتربة عمل وحل<br />
مشكالت قائمة. إمنا نعود لنعرف أيضاً أن<br />
حياته، شرطه اخلاص )االستثنائي به وباملقابل<br />
لنا( هو جتريد آخر، بل هو التجريد األصلي،<br />
السليم، الصرف، املباشر. إنه ال يسمع مثلنا<br />
فكان البد له أن يسمع على طريقة من ال<br />
يسمع. وهو ال يتكلم مثلنا فبدأ يبلع الكالم<br />
ويحاكيه إذ كان يبلع. تلك جتربة حياة سواء<br />
كانت خارج التجريد أو داخله.<br />
لنعرف أوالً ما نفعله: نولي ظهرنا لل<br />
»الصندوق« ونقف قبالة الفنان. بضعة تواريخ<br />
قليلة، بضعة أعمال منسية نتذكرها، بضع<br />
أالعيب ونكات و<strong>حر</strong>كات. أتذكر كل هذا<br />
وأسميه بصندوقه احلقيقي الذي كان دائماً<br />
غريباً وحبيباً. طالب مكي الصندوق – وهو<br />
ما كان ليضعه يف مكان إال وتقفز منه فكرة<br />
تضع حتت أقدامها لوالب مرنة وتتدرع مبكائد<br />
وشراك غير مرئية. لقد حصل مرة أن عرف<br />
)مداعبة( تنطوي على احلسرة واإلذالل<br />
والتفكير الصامت: كان يف الشارع ورأى<br />
أضعاف ما نراه، فغطى على سمعنا وسمعه<br />
على طريقته، رأى املرأة املشتهاة باخلوف،<br />
التافهة، الصغيرة، املضللة، اإلصطالحية،<br />
كانت على مبعدة منه، وكانت تبتعد أكثر بوقفته<br />
املنتظرة، كانت املكروهة واحملبوبة، كانت<br />
املبصوقة واملزدردة، وكانت عراقاً حائراً، فكان<br />
أن صبّ امرأة بقرنني، امرأة عن حق وحقيق،<br />
تلبس عباءة، وبعينيها تشتعل وتنطفئ رغبات<br />
ناغلة وقلق مميت ودهشة ال فائدة منها.<br />
هذه املرأة ال ترمز إمنا هي )حتيط( بالرمز.<br />
واحلق إنها تتحدث بالنيابة عن وضع خاص،<br />
فهذان القرنان ليسا مسخرة أو شتيمة أو تاجاً<br />
للعهر، إمنا هما تاج العالم احلالي. هذا العالم<br />
الرعونة رعونته، والتسويف تسويفه، والقلق<br />
قلقه، والعهر عهره، إنه عالم بقرنني مضحك<br />
ألنه مخيف، ومخيف ألنه مضحك، ثم إنه يثير<br />
)الكالم(، الكالم الوحيد الذي يقال بثقة: لقد<br />
صنع منها العالم كل هذا، لقد جعلها كائناً<br />
مسخاً غريباً!<br />
لكن امرأة الشارع هذه املطعونة بالنظر أليست<br />
هي األخت الواقعية المرأة البيت املفجوعة<br />
مبلكياتها الصغيرة البائسة؟ إن طالب مكي<br />
يستعير من أستاذه جواد سليم الفاجع<br />
العراقي: األم، االبن، اخلوف. فتلك أم تستحيل<br />
إلى غطاء حماية، وال بأس أن ال يظهر اإلبن،<br />
إلن األبناء يضيعون دوماً أو يقتلون أو أنهم<br />
جثث )بالقوة(. لتجمع إذن ابنها وتغطيه وتغطي<br />
نفسها. األم ملزومة باخلوف. ما احلنان؟<br />
االنحناءة واالحتضان؟ الفاجع العراقي يتغطى<br />
ويغطي. اخلارج قاس مستدمي. خارج يظل<br />
خارجاً وال يعرفه غير عراقي باطني!<br />
ثم هناك – يف عمل آخر – تلك املرأة اجلثة،<br />
املغطاة، املعبأة بالهم واملوت، إنها وحيدة<br />
بإفراط حتى لنخالها قد يئست منا جميعاً.<br />
أال نلتفت اآلن بعد كل هذه )اإليضاحات!(<br />
إلى الصندوق اليتيم؟ ألم أقل إنه وجه؟ هي<br />
ذي حيلة وليست جتريداً، باأل<strong>حر</strong>ى تكيف مع<br />
النفس واحلقيقة الفنية. وكان إن فعلها مرة<br />
قبل سنوات حني صبّ وجهاً مستطيالً بأنف<br />
خطي )ليس أنفاً(، وحتت، حيث الذقن، غرز<br />
مجموعة من الدبابيس الكبيرة، وهناك أيضاً<br />
حفر وخطوط، وأخيراً أقدام للوقوف.<br />
إن شيئاً ما كان يأسر يف كل هذه البساطة<br />
املعقدة، فهناك ما بني الذقن واألنف مرارة<br />
ال تضارعها مرارة، وكان هناك كالم خاص ال<br />
يسمع إال بأذن خاصة، كان نطقاً ملجوماً، أو<br />
كان سكوتاً يستفيد من نظراتنا.<br />
وباملقابل، إذ نحن على حقيقتنا، ألسنا )نفعل(<br />
باللغة إذا ما اردنا وطلبنا وأخبرنا وشكلنا<br />
عالقاتنا، وكذلك ألسنا نسمع ما يطلب منا،<br />
وقد نغري اآلخرين ونقودهم إلى سماع حججنا<br />
الكاملة؟. هكذا، يف كل هذه احلركات سنبدو<br />
متفاعلني مع اخلارج ، سنبدو مستديرين.<br />
تلك هي حقيقة وجوهنا أيضا. أما عند طالب<br />
مكي فالوجه ال يكذب على نفسه وال يدعي<br />
أكثر مما ميلك: سطح مستو، مغلق، متشنج،<br />
مكهرب!<br />
إننا نلقاه اآلن مرة أخرى بأربع أرجل حديدية،<br />
وقد أغلق على كنوز الصناديق األسطورية.<br />
ثمة منافذ هي عيون تغرينا أن ننفذ منها<br />
نحن ألى الداخل، وهناك أخرى جتترح شكالً<br />
يف السطوح اخلرساء. لكن ذلك األسى الذي<br />
يستقر حتت األنف املستقيم البارز، وذلك<br />
احلك املجنون والتفريغ األبيض الذي هو تعبير<br />
وتعويض وظيفي للدبابيس الكبيرة القدمية،<br />
ما زاال أشبه بصرخة نود أن تنفذ فينا: هو<br />
ذا التجريد األصلي أخيراً، ومن املؤسف إننا<br />
لم نعد نسمع من طالب مكي الكثير من هذه<br />
الصرخات!<br />
213