ارتقاء الحياة
40524903
40524903
You also want an ePaper? Increase the reach of your titles
YUMPU automatically turns print PDFs into web optimized ePapers that Google loves.
<strong>ارتقاء</strong> <strong>الحياة</strong><br />
وجدت موهبتُه تلك مَثَلَها الأعلى في التنويعات اللحنية الرائعة للموسيقار ديابللي. وكانت<br />
تنويعات بيتهوفن صارمة التكوين تمامًا مثل تنويعات مقطوعة جولدبرج الرائعة<br />
للموسيقار باخ الذي سبقهم. وقد حافظ على الخطة التناغمية الأساسية للحن كله؛<br />
مما أكسبه ككل ٍّ توحدًا وانسجامًا يمكن إدراكه فورًا وتقديره. وبعد بيتهوفن، هبط<br />
لدى الكثريين مستوى هذه الدقة والصرامة، وغلب على امللحنني املوسيقيني تركيزهم على<br />
الحالات املزاجية والانطباعات، إلا أن موسيقاهم تفتقر إلى الحس الرياضي املتسم بالجلال<br />
والفخامة، وتفتقر إلى الشعور بأن كل فارق دقيق خفي في النغمات تم استخراجه، وكل<br />
بُعد سري جُعل واقعًا، وكل قدرة ممكنة تحققت.<br />
هذه القدرة على صنع جملة موسيقية أساسية وعزف تنويعات لحنية يمكن إدراكها<br />
وتذوقها، مع الحرص دائمًا على إبقاء اللبنات البنائية للتركيبة املوسيقية، لها صدى<br />
يتوافق في علم الأحياء. فهناك جملة أو فكرة أساسية، وهي التفاعلات الحركية بني<br />
امليوسني والأكتني مثلاً ، يتم تنويعها حسب التصور اللانهائي للانتقاء الطبيعي، وصولاً<br />
إلى نظام مذهل من حيث التركيب والوظيفة. ويُعتبرَ العالم الداخلي لأي خلية معقدة<br />
دليلاً على هذه القدرة غري العادية على التنويع الدقيق.<br />
التفاعلات بني البروتينات الحركية وشعريات الهيكل الخلوي مسئولة عن عالم<br />
الحركة بكامله في الخلايا املعقدة؛ داخليٍّا وخارجيٍّا. هناك الكثري من الخلايا التي تنزلق<br />
زاحفة على سطح صلب دون جهد ملحوظ، ولا أطراف ضاربة، ولا التواءات وتمعجات<br />
جسمية. وهناك خلايا أخرى تكو ِّن بروزات تُسم َّى الأقدام الكاذبة؛ وهذه تمتد ساحبة<br />
الخلية إلى الأمام، أو تبتلع فرائسها في ثنياتها البروتوبلازمية. وهناك خلايا أخرى لديها<br />
أهداب أو أسواط تعمل حركاتها الانثنائية املتموجة والإيقاعية على تحريك الخلايا هنا<br />
وهناك. وداخل الخلايا يدور السيتوبلازم محر ِّكًا محتويات الخلية في حركة دائرية موجية<br />
مستمرة. وفي عالم الخلية الدقيق جدٍّا، تسرع الأجسام الكبرية نسبيٍّا مثل امليتوكوندريا<br />
جيئةً وذهابًا، وتؤدي الكروموسومات رقصتها املهيبة ثم تنسحب إلى ركنيها املنفصلني.<br />
وسرعان ما تنقسم الخلية بعدها إلى اثنتني؛ بحدوث اختناق في منتصف الخلية وكأنه<br />
بفعل مشد خصر شديد الضيق. وكل هذه الحركات تعتمد على عدة أدوات جزيئية يكون<br />
فيها الأكتني وامليوسني العنصرين النموذجيني. وتعتمد هذه الأمور كلها على تنويعات<br />
صارمة لجملة «موسيقية» واحدة.<br />
وإذا استطعت أن تنكمش وتُصغ ِّر حجمَك إلى حجم جزيء من ثلاثي فوسفات<br />
الأدينوسني على سبيل املثال، فستجد الخلية كأنها مشهد ملدينة شاسعة من مدن املستقبل.<br />
200