ارتقاء الحياة
40524903
40524903
Create successful ePaper yourself
Turn your PDF publications into a flip-book with our unique Google optimized e-Paper software.
<strong>ارتقاء</strong> <strong>الحياة</strong><br />
ففيما وراء نقطة معينة يصري املاضي، كما نقرؤه بواسطة الجينات، مشو َّهً ا. لكن تُوجَد<br />
طرق فعالة يُمْكِنها تجاوُزُ الجينات والحفريات حتى أعمق أعماق املاضي، وهذا الكتاب<br />
يُعَد ُّ في جزء منه احتفاءً ببراعة هذه الطرق.<br />
دعني أعطيك مثالاً ، وهو من الأمثلة املفض َّ لة لدي َّ ، لم تُتَح لي فرصة الحديث عنه<br />
في الكتاب على النحو امللائم. يدور املثال حول أحد البروتينات (أو الإنزيمات أو العوامل<br />
املحفزة واسمه سترات سينثاز) املحورية في <strong>الحياة</strong>، وهو موجود لدى جميع الكائنات<br />
الحية، من البكترييا إلى الإنسان. جَرَتْ مقارنة هذا الإنزيم في نوعني مختلفني من البكترييا؛<br />
أحدهما يعيش في الفوهات الحرمائية شديدة الحرارة، والثاني في القطب الجنوبي املتجمد.<br />
التتابعات الجينية التي تحمل شفرة هذين الإنزيمني مختلفة؛ إذ إنها تباعدت بعضها عن<br />
بعض إلى درجة صارت معها متمايزة تمامًا. ونحن نعلم أنها تباعدَتْ من خلال سلف<br />
مشترك؛ لأننا نرى طيفًا من املراحل الوسيطة في البكترييا التي تعيش في الظروف املعتدلة.<br />
لكن من منظور التتابعات الجينية وحدها، لا يمكن قول ما هو أكثر من ذلك. لقد تباعد<br />
النوعان بالتأكيد لأن ظروفهما املعيشية مختلفة، لكن هذه معرفة نظرية مجردة، معرفة<br />
جامدة ذات بعدين فقط.<br />
لكن الآن بوسعنا النظر إلى البنية الجزيئية لهذين الإنزيمني، التي تخترقها الأشعة<br />
السينية املكثفة ويفك طلاسمها التقدم الرائع في علم البلوريات. البنيتان متناظرتان،<br />
تشبه إحداهما الأخرى لدرجة أن كل ثنية وشق، وكل ركن ونتوء في إحداهما موجود على<br />
نحو دقيق في الأخرى، في الأبعاد الثلاثة جميعها. قد تعجز العني غري املدربة عن التفريق<br />
بني الاثنتني. بعبارة أخرى، بالرغم من استبدال عدد كبري من الوحدات البنائية مع مرور<br />
الوقت، فإن الشكل والبنية الإجماليني للجزيء — ومن ثم وظيفته — ظلا َّ محفوظَنيْ على<br />
مَر ِّ عملية التطور، كما لو أن هذا الإنزيم كاتدرائية مبنية بالحجر القديم، ويُعاد بناؤها<br />
من الداخل بالطوب، لكن دون فقدان التصميم املعماري الكلي. وهنا يأتي كشف مهم؛ أي<br />
الوحدات البنائية تُبد َّل وملاذا؟ في بكترييا الفوهات الحرمائية يكون الإنزيم على أقسى صور<br />
الصلابة املمكنة. تترابط الوحدات البنائية عن كثب بعضها مع بعض، من خلال الروابط<br />
الداخلية التي تعمل عمل الأسمنت، وبهذا تحافظ على بنية الإنزيم بالرغم من كَم ِّ الطاقة<br />
املهول الآتي من الفوهات ذات الحرارة القائظة. إنه كالكاتدرائية املبنية بحيث تتحمل<br />
الزلازل املتواصلة. في الجليد، الصورة معكوسة. هنا تتسم الوحدات البنائية باملرونة، وهو<br />
ما يسمح بالحركة مع أنها في درجة التجمد، وكأن الكاتدرائية أُعِ يدَ بناؤها على روملان بلي<br />
22